عظة على القيامة والتوبة
للانبا شنودة رئيس المتوحدين
يا لعمق هذه الأعجوبة التي لا يمكن قياسها! فالعظام المتناثرة والتي أحرقتها النيران، الأجساد التي أكلتها الوحوش أو الطيور الجارحة، وتلك التي أنتنت في جوف الأرض، كلها سوف تسمع صوت ابن الله وتجتمع مع غيرها، كلٌّ منها مع ما يخصه، فيغطيها اللحم والمفاصل، ويُبسط الجلد عليها، وتدخل فيها الأرواح، وهكذا تحيا وتقوم في حضرة الذي يأمرها كما قال حزقيال النبي: «... هكذا قال السيد الرب لهذه العظام: هانذا أُدخل فيكم روحًا فتحيون، وأضع عليكم عصبًا وأكسيكم لحمًا ... فتحيون وتعلمون أني أنا الرب ... فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيشٌ عظيمٌ جدًا جدًا. ثم قال لي: يا ابن آدم، هذه العظام هي كل بيت إسرائيل، ها هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا ... هانذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي ... وأجعل روحي فيكم فتحيون وأجعلكم في أرضكم» (حز37: 1-14).
ها هو أمر الله الذي سوف يجعل الأموات يقومون في الحال. ولاحظوا أيضًا تجاسركم أيها المقيمون في خطاياكم! يا لعمى القلب الذي يسيطر علينا! كل عظمة يابسة سوف تعرف العظام الأخرى وتقترب منها دون أن تختلط بعضها ببعض، ثم تكسوها المفاصل ويغطيها اللحم وينبسط عليها الجلد ويدخل فيها روح فتحيا. ونحن حتى الآن لا نطيع فيبتعد كل منا عن أعماله الشريرة التي يتمرغ فيها، مثلنا مثل عظام يابسة مرفوضة في القبور. سوف تكتسي العظام اليابسة، ومع ذلك فإن المشاعر والأفكار الصالحة والإيمان قد يبست عند كل الهراطقة، سقطت على الأرض مثل أوراق. يدخل الروح في جميع الأموات فيحيون (انظر 1كو15)، أما روح الله القدوس فيبتعد عن الوثنيين والهراطقة، إذ قد خنقهم روح شرير في عدم إيمانهم وتجديفهم على الله وعلى مسيحه، وكل أعمالهم المكروهة الأخرى. هكذا يقوم الجميع من أول بار، وهو هابيل الذي قتله قايين، حتى الذين يموتون إلى انقضاء الدهر.
إنكم أنتم الذين تعبدون الأباطيل في عماكم أكثر من اليهودي الميت في شر أبيه الشيطان، ذلك الذي لم يكفه أن يكون عثرةً، بل إنكم حتى الآن تجدّفون على الرب يسوع كما شتموه هم أيضًا في ذلك الزمان بكلامهم وخيانتهم، كلامهم المملوء حقدًا حينما كان معلّقًا على الصليب لأجل خطاياهم. ألم يقل الرب يسوع بغضب لهؤلاء ولكل الذين لا يؤمنون به في كل زمان: «أنتم من أبٍ هو إبليس» (يو8: 44)؟ لأن هذا جاء منتفخًا في مدحه لذاته قائلاً إنه سيكون مساويًا لله وشبيهًا بالعلي، وما كان يدري أنه هابطٌ إلى الجحيم كما هو مكتوب. الذين يجدفون على الله ومسيحه جاءوا وهم مرتفعو القلوب يغشاهم عنفهم وعدم تقواهم، يتعالون على المسيحيين حاسبين أنفسهم مساوين لهم في الصلاح بينما هم كفرة لا يعرفون أن الرب يسوع سوف يتتبعهم كراعٍ، فهو يتبع الذئاب ويُبعدها عن حظيرته حتى يذلّها ويطردها من وسط شعبه.
قال الشيطان: "سوف أتساوى مع الله"، ومنه تعلّم غير المسيحيين أن يقولوا للمسيحيين: "ابتعدوا عنا لأننا أطهار"، بينما هم نجسون. إن قطيع الغنم المبارك ينصت إلى صوت الراعي الصالح يسوع وهم يتبعونه في كل عمل صالح كما قال: «خرافي تسمع صوتي». ولكن الأشرار ينصتون إلى أفكار العدو الغريب ويتبعونه في كل غش. لقد تواضع الرب يسوع وأخذ شكل العبد مع أنه سيد الخليقة، فكما هو مكتوب إنه تواضع وأطاع حتى الموت. هكذا أيضًا تبع المسيحيون تعاليمه!
يبدو الإنسان حسنًا في عيون الذين ينظرون إليه ما دام حيًا في الجسد، ولكنه يكون قبيحًا للغاية في عيون الذين يرونه ميتًا ومُلقى في القبور. هكذا الإنسان أيضًا يكون حسنًا أمام الله إذا رآه يحيا في البر، ولكنه يكون قبيحًا للغاية أمامه إذا رآه ثابتًا في خطاياه. الخطاة الذين هلكوا وسقطوا على الأرض الواحد تلو الآخر بسبب الشرور ويُقضَى عليهم جميعًا، هم مثل أجساد ميتة تلاشت أعضاؤها وسقط منها الواحد بعد الآخر، مثل أعضاء الذين ماتوا في الخطية وهم في فم الشرير، ومثل أعضاء الأجساد الميتة في أفواه الحيوانات المتوحشة.
مَنْ هو الإنسان الذي يرضى أن يموت قبل نهاية الأيام التي حدّدها الله لحياته؟ إنه ذاك الذي يدوم في شروره ولا يريد أن يتحرر منها برضاه الكامل، فهو يحب الموت وهو في كل شر، وسيُجازَى حسب أعماله. الذين يعيشون في يُسر لا يرغبون أن يعيشوا ضعفاء في الشيخوخة، هكذا أيضًا المؤمنون، فإنهم لا يرغبون في الحياة إلاّ في الحق وفي كل برّ إلى اليوم الذي يقفون فيه أمام الله الذي يجازي كل واحد حسب أعماله بالعدل والحق، لأن سيدنا يسوع المسيح مات لأجلنا لكي نقوم من بين الأموات ليس فقط بالجسد في اليوم الأخير؛ بل أيضًا لكي نقوم الآن من موت الخطية.
هب أن واحدًا من القديسين القدماء حضر الآن وقال لبعض الأموات الذين مكثوا زمانًا طويلاً في مكان دفنهم وانحلّت أجسادهم: "قوموا" فنهضوا أحياء، لكن بعضهم مجّد صنيعه واستنكره البعض الآخر، تُرى ماذا يفعل؟ أخال أنه يمنح الذين يستحقون أن يكونوا في حياة سعيدة، وأما النجسون فيكسوهم بالخزي ويسلّمهم إلى الموت مرةً أخرى. هكذا الذين ماتوا في الخطية، فإنهم بعد أن عاشوا طويلاً في الشر وأضاعوا حياتهم في كل نجاسة، قد يحدث أن يقوموا من موت الخطية بأمر الذي مات لأجلنا وقام. ولكن البعض يدوم في التوبة ممجّدًا الله من أجل خلاصه ومن أجل البركة، ويُمسي البعض الآخر جاحدًا لا يعرف مَنْ هو الذي أحسن إليه وما هو الشرف الذي يمنحه الرب يسوع للذين أكرموه في آلامهم الحقيقية فيمنحهم الحياة الأبدية ولا يموتون في الخطية فيما بعد، بل يعيشون أيضًا في البرّ ويقومون جسديًا لكي يحيوا إلى الأبد. وكم يكون الازدراء الذي سوف يُعاقَب به الآخرون الذين يسلّمهم مرةً أخرى لنجاستهم، فيُسلَّمون إلى الجحيم بسبب خطاياهم في يوم القيامة.
مَنْ من الذين يخافون الله يرى أمواتًا في قبورهم ولا يحزن؟ بل مَنْ من الأنبياء والرسل يرى الأشرار وقد ماتوا في شرورهم ولا يحزن عليهم؟ مَنْ من الذين أخطأوا يسرُّه الذهاب إلى الجحيم بعد القيامة من الأموات؟ مَنْ من الذين قاموا من موت الخطية وتابوا عن كل شرورهم يُسرُّ بالعودة مرةً أخرى إلى شروره؟ ومَنْ من الذين يستحقون رحمة الله العلي لا يرغب في الدخول إلى الحياة عند القيامة من الأموات؟ مَنْ من الذين يخافون الرب الذي أقامهم من بين الأموات لا يريد أن يستمر في كل عمل صالح؟ مَنْ لا يقول: "نجسٌ هذا الكلب الذي يعود إلى قيئه مرةً أخرى"؟ من ذا الذي لا يقول: "مكرهةٌ عند الله أن الإنسان بعد أن يعتمد باسم الثالوث الأقدس يعود مرةً أخرى إلى خطئه وعدم إيمانه"؟
الويل للذين لا يؤمنون بالله ومسيحه ولم يتوبوا بعد! الويل للسحرة! الويل للذين يأخذون جسد الرب ودمه دون أن يكونوا قد تحرروا من أعمالهم الشريرة! الويل للذين يستهزئون بأسرار الله أو بأعمال البرّ التي يمارسها المسيحيون! الويل لكل مَنْ ينال المعمودية المقدسة التي لربنا وهو ذو قلبين! الويل لمن يقبِّل يده وهو يقول: السلام لكِ أيتها الشمس، كن منتصرًا أيها القمر! مبارِكًا بذلك المخلوقات وممجّدًا إياها أكثر من الخالق، في حين أنه يجب أن يعطي المجد لله القادر على كل شيء الذي صنعها لكي تُنير الأرض! الويل للذين يُشعلون المصابيح في أي عيد إكرامًا للأباطيل ويبخرون باسم الأشباح! لو كان هؤلاء الناس يستحقون أن ينالوا معرفة خالقهم لكانوا يُنصتون لخادمه إذ يقول: «لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين، لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شياطين» (1كو10: 21).
أقول للذين يقولون إننا مسيحيون وللذين يُغضبون الرب: "ألم يكفكم الزمان الذي قضيتموه في جهلكم"؟ البيت المبني على الرمال لا يثبت إذا هبّت عليه الرياح الشديدة، ومَنْ كانت كلمة الله ليست ثابتة فيه يعثر إذا أصابه حزن أو اضطهاد وقد لا ينجو من نكران إيمانه. وقول الكذب بدلاً من الحق برياء وبمحاباة ألا يكون ذلك إنكارًا للإيمان؟ أي شيء أفضل من الاعتراف بالرب يسوع؟ فإنه حتى لو فقأوا عينيك أفلا تقوم في القيامة ولك عينان؟ يكفي أن يعترف بك الرب أمام ملائكته. فماذا تخشى إذن؟ هل تخشى أن تعترف بأمور تشهد الكتب المقدسة نفسها لها؟ فحتى لو ضربوا عنقك، فإنك سوف تقوم من بين الأموات ورأسك موجودة على كتفيك. ولو قطعوا كل عضو فيك، فستقوم دون أن ينقصك أصبع واحد في يدك أو قدمك. نعم، إنك ستقوم من بين الأموات جسدًا روحانيًا!
إذا كنتَ تذكر الألم والحزن الذي سبّبه لك الأشرار، فتفكر فيما قاله الرسول: «إني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستَعلَن فينا» (رو8: 18). يكفيك أن ترى هناك جميع الذين احتُقروا أو قُتلوا من أجل الرب يسوع، ولا سيما الرسل والأنبياء الأبرياء. وذلك مثل يوحنا المعمدان الذي قطع هيرودس رأسه بعد أن ألقاه في السجن بسبب حبّه لامرأة شريرة وابنتها، وميخا الذي ضربه الأنبياء الكذبة بأمر ملك شرير، وإرميا وإسطفانوس الذي رجموه وقتلوه ...!
يتبع