كان في أحد الأيام عيدٌ تذكاري في الدير لآبائنا القديسين. فجاء إلى الدير بعض الزائرين وطلبوا من أبي أنبا شنودة القليل من عصير العنب فأعطاهم، ثم طلبوا أشياء أخرى فأعطاهم بسرور، ثم كرروا طلباتهم بدون اكتفاء فأعطاهم أيضًا. فتعجب الذين كانوا جالسين معه من سخائه وسألوه: "لو أنهم ظلوا يطلبون فستظل تعطيهم"؟ فقال لهم: "نعم، ولكنهم سيذهبون بعد أن يأكلوا ويشربوا من الأشياء التي هنا فقط، لأنهم ليس لهم رجاء في حياة أخرى
كان إنسان وثني اسمه "جيسيوس"، وقد اعتاد أن يجدف على المسيح ويقول عنه كلامًا نجسًا بحماقة وشر أثيم. ولما علم أبونا البار بذلك لعنه قائلاً: "إن لسانه سيكون مربوطًا بإصبع قدمه الكبير في جهنم". وهذا هو ما حدث بالفعل، فبعد موته شهد أبي لنا قائلاً: "لقد رأيته في جهنم ورأيتُ لسانه مربوطًا بإصبع قدمه الكبير وهو يُعذَّب بلا رحمة بسبب كفره
قيل إن أنبا شنودة كان ممتلئًا بالمحبة نحو الجميع حتى التفّ حوله الكثير من العلمانيين ليسمعوا عظاته رغم أنه كان كثير الاختلاء بالله في مغارته. وتتضح محبته وبذله وقلبه الأبوي من القصة الآتية:
حدث مرةً أن قبيلة "بليميس"
جاءت نحو الشمال وسلبت بعض المدن وأسرت الناس والدواب، ثم رحلوا جنوبًا بكل غنائمهم وعسكروا في ولاية "بسوي". ثم أراد أبي أنبا شنودة أن يذهب إليهم لأجل الذين أسروهم، ولما عبر النهر نحو الشرق قابله بعض منهم ورفعوا عليه حرابهم لكي يقتلوه، وللحال يبست أيديهم وتخشبت وثبتت منبسطة بطولها بدون أي قابلية للثني، فظلوا يصرخون بانزعاج شديد. وقد حدث نفس الشيء لبقية هؤلاء الناس حتى وصل أبي إلى كرسي ملكهم. ولما تحقق ملكهم من أنهم لن يتغلبوا على القوة التي كانت مع أبي،
قام وسجد أمامه قائلاً: "أتوسل إليك أن تستعيد صحة أيادي هؤلاء الناس". فلما رشم أبي علامة الصليب عليهم استعادت أياديهم صحتها في الحال! ثم وعده الملك بهدايا، ولكنه لم يأخذها بل قال له: "أعطوني البشر وخذوا الغنائم لأنفسكم". فأعطاه الملك إياهم بلا ثمن، فعبر بهم إلى الضفة الغربية من النيل وجاء بهم وهو فرحٌ إلى الدير الأبيض حيث استضافهم ثلاثة شهور كاملة. وكانوا رجالاً ونساءً وأطفالاً، فقسّم رهبانه إلى جماعات واضعًا على كل جماعة عملاً، فاهتم سبعة رهبان أطباء بالجرحى وسهروا على رعايتهم، واهتم غيرهم بالشيوخ والأطفال ... وهكذا.
وفي تلك الفترة التي قضوها في الدير مات منهم 94 شخصًا ودُفنوا في الدير، بينما وُلد لهم 52 طفلاً. وقد استهلكوا في تلك المدة 85 ألف أردب قمح من مخازن الدير عدا العدس والزيت والبقول والأغنام والتوابل. ثم أمدّهم أبي بنفقات سفرهم والضروريات وصرفهم بسلام إلى بيوتهم وهم يمجدون الله ويعترفون بفضل القديس النبي أنبا شنودة
. وهكذا كان هؤلاء الرهبان يعملون بنظام وغيرة تحت رعاية رئيسهم المتفاني في خدمة الجميع والساهر على نهضة الرهبنة. وهكذا تُظهر لنا هذه القصة بأن أنبا شنودة كان ملجأً لمواطنيه وقت الشدّة
حدث مرةً عندما اجتمع الإخوة للصلاة في الكنيسة في المساء، أن جاء خلفهم شخصٌ كان يلبس رداءً ملكيًا ومظهره جميلٌ جدًا، وبمجرد أن رآه أبونا القديس اقترب منه وكلّمه بكل احترام وأمسك بيده واقتاده إلى المكان الذي كان الإخوة يتلون فيه القراءات المحفوظة. وقد قاد هذا الزائر التلاوة بحلاوة ووقار عظيمين فابتهج جميع الذين سمعوه بحديثه وطريقة نطقه ومعرفته المميَّزة. ولما انتهى من التلاوة دخل إلى الهيكل واختفى. ثم تذمر بعض الإخوة قائلين: "ألم يجد أبونا واحدًا منا لكي يقود التلاوة بدلاً من هذا العلماني الذي اقتاده لكي يفعل ذلك"؟ فلما علم أبونا بتذمرهم كشف لهم السر قائلاً: "صدقوني يا إخوتي، فإن هذا الرجل هو داود النبي القديس ابن يسى، وإنه هو الذي أراد أن يقود التلاوة في كنيستكم، فها هو الرب قد أنعم علينا بذلك". فاندفع الإخوة في الحال إلى الهيكل وهم يظنون أنهم سيجدونه وينالون بركته، ولكنهم لم يجدوا أحدًا. فتعجبوا جميعًا من الطريقة التي مجّد بها الله أبانا القديس البار أنبا شنودة
أخطأ أحد الإخوة في أمر ما، فطرده أبونا أنبا شنودة من الدير حسب قوانين الدير. فظل هذا الأخ يهيم في البرية في بؤس شديد، ولكنه لما تذكر مراحم الله أعطى نفسه للتوبة قائلاً: "أيها الرب إلهي، الرؤوف والمحب للبشر الذي لا يشاء أن أحد أعمال يديه يهلك، إن كنتَ اليوم تحرك قلب أبي لكي يغفر لي ما فعلتُ ويقبلني مرةً أخرى،
فإن رجائي هو أن آتي إليك مرضيًا إياك في كل شيء"! وبمجرد أن نطق بهذا الكلام ظهر ملاك الرب واقفًا بجواره وسأله: "لماذا أنت مكتئبٌ هكذا"؟ فأجاب: "إنني يا أخي مكتئبٌ لأن أبي القديس أنبا شنودة طردني من وسط الإخوة ولا أعلم ماذا أفعل إذا يئستُ من خلاصي ومن رجائي في التوبة"!
فقال له الملاك: "إذا قبلك أبوك مرةً أخرى فهل ستُراعي العهد الذي قطعته مع الله وتأخذ على عاتقك بالكامل ما وعدتَ به"؟ فانطرح الأخ في الحال تحت قدمي الملاك وقال: "بالتأكيد يا سيدي، إذا تراءف عليَّ فإن رجائي هو أن أراعي هذه الأمور وأتممها". وكما علمنا من هذا الأخ، فإن الملاك كان مرتديًا زي راهب.
فقال له الملاك: "قم اذهب إليه وهو سيقبلك". فقال له الأخ: "لن يسمح لي البواب بالدخول". فقال له الملاك: "إنك لن تجد أحدًا على الباب، فاذهب سريعًا وستجد أباك جالسًا عند المدخل أمام باب الكنيسة وقل له: ’إن الذي كفّ الآن عن الحديث معك عن يمين المذبح يقول: أرجعني مرة أخرى‘". فتشجع الأخ وذهب إلى الدير ووجد كما قال له الملاك، وكان الأب شنودة مرتديًا جلباباً مغسولاً لأنه كان وقت تقديم الذبيحة. ولما أخبره الأخ بما سمعه من الملاك قال للأخ المسئول عن مساكن الإخوة: "أدخل الأخ لكي يمكث مع الإخوة كما كان". فتعجب الإخوة الذين لم يعرفوا عن سر ما حدث
حدث في إحدى السنين أن فيضان النيل لم يأتِ كالمعتاد، وعلم أبونا شنودة من الله السبب الخفي في ذلك، كما أنه كشف ذلك للإخوة بدموع غزيرة وقال لنا: "صلّوا لأجل ذلك، وأنا أيضًا سأذهب إلى البرية وأقضي هذا الأسبوع مصلّيًا للرب، واحترسوا ألاّ يأتي إليَّ أي أحد قط". وفي اليوم الرابع جاء دوق تلك المنطقة واستدعاني أنا ويصا الحقير تلميذ أبينا وقال لي: "أريد أن أقابل الشيخ القديس وأقدم له احتراماتي". فقلتُ له: "إنه غير موجود هنا بل ذهب إلى البرية الداخلية". فقال أيضًا: "اذهب واستدعه لي". فقال له الإخوة: "إنه قال لنا ألاّ نسمح لأحد قط أن يذهب إليه طوال هذا الأسبوع". ولكن الدوق أقسم أنه سيمكث في الدير حتى نستدعي أبانا له لكي يأخذ بركته. ولما شعرنا أننا في ضيق بسببه ذهبنا إلى حيث يمكث أبونا، ولما قرعنا بابه أجابنا بصعوبة بعد وقت طويل، ثم خرج وكان غاضبًا منا وقال: "ألم أقل لكم لا تدَعوا أحدًا يأتي إليَّ طوال هذا الأسبوع"؟ فقلنا له: "اغفر لنا يا أبانا، فقد جاء الدوق إلى الدير ومعه حرّاسه من الجنود، وهو الذي أجبرنا أن نأتي إليك".
ثم قال لنا أبونا: "أنتم تعلمون أنني قلتُ لكم إن الله أمر ألاّ يكون فيضان في هذه السنة، وقد صلّيتُ فوعدني الله الصالح الرحوم أنه في هذه السنة أيضًا سيجعل المياه تغطي وجه الأرض". ولما طلبنا منه جاء معنا إلى الدوق الذي بعد أن أخذ بركته قال له: "أتريد يا أبي أن أذهب إلى الجنوب وأشنّ حربًا على البرابرة"؟ فقال له أبي: "أريد بالتأكيد". فقال له الدوق: "فلتحل بركتك عليَّ يا أبي القديس، وأعطني إحدى مناطقك الجلدية لتكون بركةً لي". فأعطاه إياها.
ولما ذهب الدوق إلى الحرب نسيَ أن يربط المنطقة حول جسمه، فهزمه البربر وقتلوا العديد من جنوده في موقعتين. وأخيرًا رجع إلى نفسه وربط المنطقة حوله وحارب البربر للمرة الثالثة وقتلهم جميعًا! ثم رأى في رؤيا أنبا شنودة وفي يده سيف وهو يساعد في قتل البربر. ثم ذهب إلى الدير ليقدِّم الشكر لله وللقديس البار أنبا شنودة
يتبع