ثم إنه مشى، وأنا أتبعه، حتى دخلنا إلى المنزلِ، وفعل مثلَ المرةِ الأولى، وأقمتُ عنده ثلاثةَ أيامٍ، وذلك الرغيف لم يذهب منه شيءٌ، وقضيتُ بعضَ حوائجي في هذه المدةِ، وأردتُ الانصرافَ، فقال لي: «ألم أقل لك إنك ستقيم عندي عشرةَ أيامٍ»؟
وأخذ آلتَه، وأراد الخروجَ إلى كرمِهِ، فقلتُ له: «أنا أمضي معك اليومَ إلى كرمِك لأبصرَه، وأنظرَ عملَك». فقال لي: «قم وامشِ»، وأخذ بيدي، وخرج أمامي، وأنا أتبعه حتى خرجنا من بابِ المدينةِ. وإذا بثلاثةِ رجالٍ، لابسين لِباسه، ومعهم أداةً مثلَ أداتِه، وقالوا له: «قد أبطأتَ علينا، انهض»، فنهضَ وهو يقول لي: «يا مقارة، امشِ خلفَنا». فمشيتُ وأنا أريد أن أكلِّمهم، وهو وإياهم لا يلتفتون إليَّ، وهم مجدين في المسيرِ، وأنا لا أعلمُ أين يريدون إلى وقتِ صلاة الثالثةِ من النهارِ؛ وإذا نحن قد أشرفنا على عينٍ جاريةٍ ونهرِ ماءٍ لا يعرفُ أحدٌ آخِرَه، وحوله شجرٌ من النخيلِ والعنب والزيتون والتين والرمان؛ فصلوا، وأخذوا الأداةَ التي معهم، وجعلوا يكرمون في تلك الأشجار، ولا يأكلون من ثمارِها، وأنا كنتُ متفكراً.
فدنوتُ إلى الرجلِ الذي كنتُ نازلاً عندَه، وقلتُ له: «هؤلاء القوم شركاؤك في هذه الروضةِ، لم يكلموني»، فقال لي: «هم يعرفونك، لكنهم يقولون إنك لا تريدُ أن تكونَ معهم مقيماً». فقلتُ: «إنهم يعملون أعمالاً لا أعرفها، وأنا مشغولٌ بما أنت عارفٌ، فإني أكتبُ كتبَ البيعةِ، وأريد بذلك عمارتها، فأجدد ما قدم منها».
وأقمتُ ذلك النهارَ كلَّه معهم، وعند صلاة التاسعةِ أكلتُ من ثمرةِ ذلك الشجرِ، وكنتُ أُكثرُ من الأكلِ منه ولا أملُّ، وهي لا تُشبعني، فقلتُ لذلك الرجلِ: «إن ثمرات هذا الشجرِ لا تُشبع الجائعَ». فقال كلاماً، وهو تعليمٌ روحاني: «إنّ اهتمامَك هو بطعامِ العالمِ، وتركتَ الاهتمامَ بالعملِ الصالحِ، والطعام الروحاني»؛ وللوقتِ علمتُ أن القومَ صالحون، فدنوتُ إليهم أريدُ أن أتباركَ منهم، وطلبتُهم فلم أجدهم.