وقال: «إنني في وقتٍ ما، استحسنتُ مصحفاً (أي إنجيلاً) عند أحدِ النساخِ، الذي كان ماهراً (في النسخِ)، وبعد أن فرغ من نسخهِ، أرسل إليَّ يقول لي: ها قد فرغتُ من نسخهِ، متى تشاء أن أُرسله لتأخذَه؟ فلما سمع أحدُ الإخوةِ ذلك، مضى باسمي إلى الناسخِ، ودفع له دنانير عن نسخهِ وأخذه، ولم أكن أنا عارفاً بذلك، فأرسلتُ أخاً من إخوتي ومعه دنانير، وكتبتُ إلى الناسخِ ليسلِّمَه المصحفَ، فلما تحقق الناسخُ أنه قد لَعب به وخدعه، ذاك الذي سبق فأخذه، انزعج لذلك، وقال: ها أنا ماضٍ إليه لأوبخَه أولاً، لأنه غرَّر بي، وأخذ ما ليس له. فلما سمعتُ بذلك، أرسلتُ إليه أقولُ له: أنت تعلم يا أخي أننا نقتني المصاحفَ كي نتعلمَ منها المسكنةَ، والمحبةَ، والوداعةَ، فإذا كانت فاتحةُ اقتناءِ المصاحف بحردٍ وخصومةٍ، فلستُ أريد اقتناءَه، ولن أحاربَ أحداً، ولن أخاصمه بسبب ذلك، لأن الخصومةَ والمنازعةَ لا تليقُ بعبيد اللهِ، وها أنا قد طرحتُ عني أمرَ هذا المصحفِ، فلا تُقلق الأخَ بسببه بالكليةِ. ولما تذكرتُ حالَ الشيخِ الذي كان الأخُ جارهُ يسرق ما يجده له، وأنه علم ذلك ولم يوبِّخه، بل صار يعمل أزيدَ من رسمِه الأول قائلاً: ربما يكون الأخُ محتاجاً، تعجبتُ من تحنن القديسين، وتذكرتُ الشيخَ الذي سُرقت آنيته، ولما وجدها في قلايةِ الأخ، احتشم الشيخُ، واختفى إلى أن خبأها الأخ وسترها. ولما ضُبط الأخُ من الوالي، مضى الشيخُ ولاطفَ الوالي، حتى أخرجه من الحبسِ».
وقيل عن هذا الشيخِ أيضاً، إنه مضى وقتاً ما إلى السوقِ ليبتاعَ له ثوباً، فدفع ثمنَه ديناراً واحداً، وأخذه ووضعه تحته، إلى أن يتمم عددَ الدراهم الباقية من ثمنِه، ثم بعد السدادِ يلبسه، فعبر به من أراد أخذ الثوبَ، وأحسَّ الشيخُ بذلك، فتحنن على آخذِه، وتنحى في جلستهِ قليلاً عن الثوبِ الذي تحته، حتى أخذ الثوبَ ومضى، وما وبَّخه الشيخُ على ذلك.
وقال الطوباوي: «كم كانت تضحيته بالأوعيةِ التي تضيع أو الثوب؟ ولكن مروءته كانت عظيمةً، لأنه أظهر بما فعله، أنها في حالِ كونها له، كانت كأنها ليست له، وكذلك لما أُخذت منه، بقي غيرَ مغمومٍ عليها، ولم ينزعج لضياعها، لذلك أقول: ليس امتلاكنا الشيءَ مؤذياً، ولكن ميلنا وانصبابنا إلى امتلاكه، هو المؤذي، فمثل هذا، لو كان له كلُّ العالمِ، لكان حالُه كحالِ من لم يمتلكه، لأنه أظهر بتصرفِه، أنه معتوقٌ من كلِّ الأشياءِ».