وقال كذلك: الإنسانُ الذي قد عرفَ ضعفهَ وعجزهَ، فقد حصل إلى حدِ الاتضاع. مرشد أنعام الله إلى الإنسانِ، هو الشكر المتحرك في القلبِ على الدوام، ومرشد التجارب إلى النفسِ هو التذمر. إنَّ اللهَ عز وجل يحتمل كلَّ ضعفٍ من الإنسانِ، ولا يحتمل إنساناً يتذمَّر دائماً، إن أدَّبه. فمٌ يشكر دائماً، إنما يقبلُ البركةَ من اللهِ تعالى؛ وقلبٌ يلازمُ الحمدَ والشكرَ، تحلُ فيه النعمةُ.
الاتضاع يتقدمُ النعمةَ، والعظمةُ تتقدم الأدبَ. إن المتعظمَ بالمعرفةِ بضميرهِ، يسقط بالتجديفِ، والمبتهجَ بفضيلةِ العمل، يسقطُ في الزنى، والمترفعَ بالحكمةِ يسقط في فخاخِ الجهلِ المظلمة. إن الإنسانَ البعيدَ عن ذِكرِ اللهِ، لا همَّ له إلا في قولِ السوءِ على قريبهِ. الذي يُكرمُ كلَّ إنسانٍ، من أجلِ اللهِ تعالى، يجدُ معونةً من كلِّ إنسانٍ بإشارةِ الله الخفيةِ. المعتذرُ عن المظلومِ، يجدُ الله تعالى مناضلاً عنه. من عاضدَ قريبهَ يعاضده الله سبحانه بذراعِه، ومن سبَّ أخاه برذيلةٍ، كان له الله ساباً ومبكِّتاً. التاجر إذا أكملَ وأتم ما يخصه، فإنه يجتهد في أن يمضي إلى منزلِه، والراهب بمقدارِ ما يعوزه من زمانِ العملِ، على ذلك الحدِّ يحزن أن يفارقَ نفسَه. وإذا أحسَّ في نفسِه، أنه حصل على الوقتِ وأخذ العربونَ، فإنه يشتاق إلى العالمِ الجديدِ. إن التاجرَ ما دام في البحرِ، فالخوفُ منبثٌ في أعضائه، لئلا تتعالى عليه الأمواجُ فيغرقَ ويخيبَ أملُه من عملهِ، والراهبُ ما دام في بحرِ هذا العالمِ، فالخوفُ يستولي على سيرته لئلا تثب عليه أذيةٌ وراموز (أي اضطراب)، فتُهلك عملَه منذ الشبابِ حتى الشيخوخةِ. التاجرُ عينُه نحو البحرِ، والراهبُ يرمُقُ ساعةَ الموتِ. إنَّ السابحَ يغوصُ غائراً في البحرِ، إلى أن يجدَ اللؤلؤَ، والراهبَ الحكيمَ يسيرُ في الدنيا عارياً، إلى أن يصادفَ فيها الدرةَ الحقانيةَ، التي هي يسوع المسيح، وإذا ما وافاه، فلن يقتني معها شيئاً من الموجوداتِ.