وجاء كذلك عن بكرٍ كانت بأورشليمَ حبيسةً في قلايةٍ ست سنين لابسةً مسوحاً، هذه تنسَّكت نسكاً زائداً ولم تأكل شيئاً لذيذاً البتة، فمنعها الآباءُ من ذلك لكنها لم تُصغِ إلى مشورةِ أحدٍ، فتعرت من معونةِ الله لعجرفتِها لمَّا أعجبتها نفسها، فتباعد عنها حافظُ عفتِها، وسقطت سقطةً يُستعاذ منها، فقد فتحت بابَ حبسِها وأدخلت إليها إنساناً كان يخدمها وكلفته بمفاسدتها وقد لحقتها هذه المصيبةُ لما جعلت قصدَ نسكِها للمراءاة، ولظنِها أنها صارت أفضلَ من كثيرين، فلما تملكتها الأبهةُ، وقعت في يدِ إبليسِ.
كما أن إنساناً اسمه إبراهيم، كان راهباً قبطياً، هذا عاش في البريةِ عيشةً يعسُر تحريرُها، فلما تَسفَّه أصاب عقلَه مرضُ الكبرياءِ، فجاء إلى البيعةِ مخاصماً القسوس قائلاً: «لقد سامني المسيحُ قسيساً في هذه الليلةِ، فاقبلوني أكهن». فأخرجه الآباءُ من الكنيسةِ وساقوه إلى سيرةٍ أغلظَ من غيرها، فشفوه من ألمِ الكبرياءِ وعرَّفوه ضعفَه، وحققوا له أنَّ شيطانَ العجرفةِ قد تلاهى به. ولقد رأينا أيضاً متوحداً ساكناً مغارة، لعبت به المنامات فعاين هوائيات وطارد خيالات، فضاع عقلُه وفسد قلبُه وسقط من السيرةِ الفاضلةِ، ومات مجنوناً.
وأخٌ آخر جلس في بريةٍ ملآنةً من الشياطين مدةً من الزمانِ، وكان يظن أنهم ملائكةٌ، وكان والده يزوره من حينٍ إلى حينٍ، وفي بعضِ الأيامِ أخذ منه فأساً ليحتطبَ به ويعيده إليه، وحدث في عودته إليه أن سبقَ أحدُ الشياطين وقال له: «إن شيطاناً يشبه أباك آتٍ ومعه فأسٌ في زمبيلِهِ يريد أن يضربَك به»، فلما جاء أبوه حسبَ عادتهِ، أخذ الابنُ الفأسَ وضربه فقتله، وللوقت صرعه الروحُ النجسُ وخنقه.