كذلك راهبٌ آخر اسمه نومينوس، هذا أظهر من ضبطِ الهوى مقداراً زائداً، ومكث سنين كثيرةً حابساً نفسَه في قلايةٍ، فهذا تلاهت به الشياطينُ فيما بعد وهزأت به بإعلاناتٍ ومناماتٍ أظهروها له، فتهوَّد واختتن بعد أتعابٍ وفضائل جزيلةٍ فاق بها جميعَ الإخوةِ، لأن الشيطانَ لما رام خديعته أراه مراراً مناماتٍ صادقةً ليحسِّن قبول نفاقِه، ويجعله حَسِنَ الانصياعِ لقبولِ الضلالةِ التي كان عتيداً أن يمليها عليه أخيراً، فأراه في بعضِ الليالي شعبَ المسيحيين مع الرسلِ والشهداءِ مظلمين مكمَّدين معبَّسين مغمومين من كلِّ خزي، ثم أراه شعبَ اليهودِ مع موسى والأنبياءِ متلألئ ضياءً، باشاً مستبشراً، وعرض عليه المُخادعُ قائلاً: «إن شئتَ نوال فرح وضياء هذا الشعب فتهوَّد واختتن». فيلوح من جميع ما قيل، أن السالف ذكرهم تلاهت بهم الشياطين لخلوِهم من نعمةِ الإفرازِ.
من كتابِ الدَّرج: المصدِّق المنامات يشبه من يريدُ أن يلحقَ ظلَّه ليُمسكَه، فإنَّ شياطينَ العجرفةِ ينذروننا في الحلمِ بما يكون مكراً منهم، فإذا تمت المنامات نتخشع نحن كأننا قد تقرَّبنا من نعمةِ النبوةِ، فيتعجرف فكرُنا جملةً، طائعين الشيطان. إن الشيطانَ هو روحٌ علاّمٌ بما في طقسِ الهواء، فإذا عرف أنه قد مات فلانٌ يسرع ويخبر به ويخدع الخفيفي العقول، وقد يتشكَّل دفعاتٍ بشكلِ ملاكِ نورٍ أو شهيدٍ من الشهداءِ، ويرينا ذلك في الحلمِ وإذا انتبهنا يملأنا فرحاً وأبهةً.
قال أحدُ الشيوخِ: حتى ولو ظهر لك ملاكٌ حقيقيٌ فلا تقبله بل حقَّر ذاتَك قائلاً: «أنا عايشٌ بالخطايا فلا أستحقُ أن أنظرَ ملاكاً».
جلس أحدُ الرهبانِ ناسكاً في قلايتهِ، فأراد الشياطين أن يخدعوه بصورةِ ملائكةٍ، وإنهم أنهضوه للذهابِ إلى اجتماع الكنيسةِ وأروه أنواراً، فجاء إلى شيخٍ وقال له: «يا أبانا، إن الملائكةَ تأتيني بصورةٍ وتقيمُني لأذهبَ إلى اجتماعِ الكنيسةِ». قال له الشيخُ: «لا تقبل منهم ذلك يا ولدي، إنهم شياطين، فإذا أتوك قل لهم: أنا متى أردتُ قمتُ، ومنكم لا أسمع». وفي الليلةِ التالية جاء الشياطيُن فنبَّهوه كعادتهم، فأجابهم بما قاله له الشيخُ، فقالوا له: «هذا الشيخُ السوء الكذاب إنما يخدعك، فقد أتاه أخٌ يستعير منه شيئاً كان عنده، لكنه كذب وقال: ليس عندي، وصرفه دون أن يعطيه شيئاً». فجاء الأخُ في الغداةِ إلى الشيخِ وأخبره بما كان، فقال له الشيخُ: «أمّا ما طلبه الأخ مني وكان عندي ولم أعطه فذلك لأني عرفتُ أنه شيءٌ يسبب له خسارةَ نفسِه، فرأيتُ أن أتجاوزَ وصيةً واحدةً ولا أتجاوز عشر وصايا كي لا ينتهي أمرُنا إلى الحزنِ، فأما أنت فلا تسمع من الشياطين الذين يريدون أن يخدعوك». وبعد أن دعَّمه الشيخُ بالتعليم صرفه إلى قلايته.