قال شيخٌ: «الذي يأكلُ كثيراً ويقومُ عن المائدةِ وهو جائعٌ، أفضل من الذي يأكلُ قليلاً ويبطئ أمام المائدةِ حتى يشبعَ».
وقال آخر: «إذا رأيتَ شاباً يصعدُ إلى السماءِ بهواه، فَشِدْ رِجلَه واطرحه فإن هذا أنفع له».
كان أحدُ الرهبان المجاهدين إذا قالت له الشياطين في فكرِه: «ها قد ارتفعتَ وصرتَ كبيراً»، كان يتذكَّر ذنوبَه قائلاً: «ماذا أصنعُ من أجل خطاياي الكثيرة». وإذا قالوا له: «لقد فعلتَ ذنوباً كثيرةً وما بقي لك خلاصٌ»، يقول: «وأين رحمة الله الكثيرة». فانهزمت عنه الشياطين قائلين: «لقد قهرتنا، إن رفعناك اتضعتَ، وإن وضعناك ارتفعتَ».
أخبر أبٌ أنه أبصرَ أربع مراتب مرتفعةً في السماءِ، الأولى: مريضٌ شاكرٌ لله. والثانية: صحيحٌ يضيفُ الغرباء وينيح الضعفاء. والثالثة: منفردٌ في البريةِ مجتهدٌ. والرابعة: تلميذٌ ملازمٌ لطاعةِ أبيه من أجلِ الله. ووجد أن مرتبةَ التلميذ أسمى من المراتب الثلاث الأخرى، وزعم أنه سأل الذي أراه ذلك قائلاً: «كيف صار هذا هكذا وهو أصغرهم، فأصبح أكبرهم مرتبةً»؟ فقال: «إن كلَّ واحدٍ منهم يعمل الخيرَ بهواه، وأما هذا فقد قطع هواه لله، وأطاع معلمه، والطاعة لأجلِ اللهِ أفضل الفضائل».
قال شيخٌ لتلميذهِ: «ويحٌ لي يا ابني، فإنني ربما إذا مضيْتُ بالليلِ إلى موضعٍ يُبعدني من اللهِ، وسمعتُ صوتَ الكلابِ، أخرج لساعتي فزعاً منها، فالخطأ الذي لا يردُّني عنه خوفُ اللهِ، ردَّني عنه خوفُ الكلابِ».
وقال أيضاً: «لو أننا نحبُّ اللهَ مثلما نحبُّ أصدقاءَنا، لكنا مغبوطين، لأنني رأيتُ مَن أحزن صديقَه، فلم يجد هدوءاً حتى تجدَّدت المودةُ بينهم بالمراسلة وبالاعتذار وبالاستغفار وبالهدايا، أما الله فنغضبه بذنوبنا ولا نكترث لذلك».
قال شيخٌ: ذهبنا مع إخوةٍ إلى ديرٍ خارج الإسكندرية على بعد خمسة عشر ميلاً، فلقينا أنبا تودري، وقد كان رجلاً كثيرَ التعبِ في الرهبنةِ، ومعه موهبة الصبر، فحدثنا عن أخٍ كان ساكناً في القلالي الكائنة خارج الإسكندرية، وكان قد اقتنى له موهبة البكاء، وفي يومٍ من الأيامِ أوجعه قلبُه وجاءه بكاءٌ كثير، فلما رأى كثرةَ البكاءِ، قال لنفسِه: «هذه علامةٌ دالةٌ على أن يومَ موتي قد دنا»، فكان كلما تفكَّر في ذلك، كان البكاء يزداد ويكثر كلَّ يوم. فلما انتفعنا من حديثِ الشيخِ سألناه عن الدموع: «لأي سببٍ يا أبانا تأتي الدموع من نفسِها مرةً ولا تأتي من نفسِها مرةً أخرى»؟ فقال لنا الشيخُ: «الدموعُ مثل المطر، والراهبُ مثل الفلاح، فينبغي له إذا أبصر المطرَ قد جاء، أن يحرصَ ألا يفوته شيءٌ منه، بل يصرفه كلَّه إلى أرضهِ، حقاً أقول لكم يا بَنيَّ إنه ربما يكون يومٌ واحدٌ ممطر أخيَر من السنةِ كلِّها. فمن أجل ذلك، إذا رأينا المطرَ قد جاءنا، فلنحرص أن نحفظَ أنفسَنا ونتفرغ إلى التضرع إلى الله دائماً، إذ لا ندري هل نجد يوماً آخرَ مثلَ اليوم الذي جاءنا فيه البكاءُ أم لا». فسألناه نحن أيضاً وقلنا: «أخبرنا يا أبانا كيف ينبغي للإنسان أن يحفظَ ذلك البكاء إذا جاء»؟ فقال لنا الشيخ: «من قبل كلِّ شيءٍ، لا يتوجه ذلك الإنساُن الذي يأتيه البكاء في ذلك اليوم، أو تلك الساعة، أو تلك السنة، إلى إنسانٍ، ويتحفَّظ ألا يملأ بطنَه وألا يستكبر في قلبهِ، ويُفضَّل أن يبكي وأن يتفرَّغ للصلاةِ والقراءة، فإذا جاء النوحُ فهو يعلِّمه الأمورَ التي تضره، والأمورَ التي تأتي به». ثم إن الشيخ حدثنا وقال: «إني أعرفُ أخاً كان جالساً في قلايته يعمل في الضفيرةِ، وكانت الدموعُ تأتيه بغزارةٍ، فكان إذا رجع إلى العمل في الضفيرة، يجمع عقلَه ويأتيه البكاء، حتى في القراءةِ كذلك، فإنه إذا أخذ المصحفَ جاءه البكاءُ، وإذا تركه ذهب البكاء عنه، حينئذ قال لنفسه: حسناً قال الآباءُ، إنَّ النوحَ هو معلمٌ، يعلِّم الإنسانَ كلَّ شيءٍ ينفع نفسَه».