كيف يدخلُ الخشوعُ في نفسِ إنسانٍ مقتنٍ للفضة، وقد حاد عن مصدر دعوتهِ إلى الحياة الدهرية، خالقه ورازقه، وصار بذلك متعبداً وساجداً لمنحوتات غير متحركة، أعني الدنانير. كيف يقتني الخشوعَ مَن هذه صفته؟ يا إخوتي ويا أحبائي، كيف يكون لنا نحن الرهبان ذهبٌ وفضة وملابس، ولا نكف كذلك عن الجمع، مع أن البائسَ، لا بل المسيح، جائعٌ وعطشان وعريان، ولا نفكر فيه؟ ماذا يكون جوابُنا أمام السيد المسيح، وقد هجرنا العالم، وها نحن نعاودُ الطوافَ فيه؟ إن طقسَنا ملائكيٌ لكننا جعلناه علمانياً. لا يكون هذا منا يا إخوتي. إيانا أن نعمله بل لنهرب من العالم، لأنه إن كان بالكاد نخلص في البريةِ، فكيف يكون حالُنا بين العلمانيين؟ فلن يكون لنا خلاصٌ، لا سيما والربُّ يقول: من لا يهجر العالم وكل ما فيه وينكر نفسَه ويأخذ الصليبَ ويتبعني فلن يستحقني. وأيضاً يقول: اخرجوا من بينهم وافترقوا عنهم وأنا أقبلكم وأجعلكم لي بنين وبنات. أرأيتم عِظم المنفعةِ من الهربِ من العالم؟ لأنه نافعٌ لنا جداً وموافقٌ، لأن مجالسَ العلمانيين ليس فيها شيءٌ سوى البيع والشراء وما يتعلق بالنساء والأولاد والزرع والدواب، فهذه المخالطة تفصل الراهبَ عن الله، فمشاركتهم في الأكلِ والشربِ تجلبُ الكثيرَ من الضررِ. ولسنا نعني بهذا أن العلمانيين أنجاسٌ، معاذ الله، لكنهم يسلكون في الخلاصِ طريقاً آخر غير طريقِنا. فهروبُنا هو هروبٌ من مخالطتهم. فلنطلب سبَّهم فينا أكثر من مديحهم لنا، لأن سبَّهم لن يفقدنا شيئاً أما مديحُهم فهو سببُ عقوبتنا. فما منفعتي إذا أنا أرضيْتُ الناسَ وأغضبتُ ربي وإلهي، لأنه يقول: لو كنتُ أرضي الناس فلستُ بعد عبداً للمسيح. إذن فلنبتهل أمامَ ربنا قائلين: يا يسوع إلهنا نجنا وأنقذنا من مخالطتهم».
من كلام مار إسحق قال: «ابتعد عن العالم، وحينئذ تحس بنتانتهِ، لأنك إن لم تبتعد عنه، فلن تحسَّ برائحتهِ الكريهة». فسُئل مرةً: «ما هو العالم؟ وكيف نعرفه؟ وما هو مقدار مَعزَّتهِ لمحبيه»؟ فأجاب وقال: «إن العالم هو تلك الزانية التي بشهوةِ حسنِها تجذبُ الناظرين إليها إلى حبِّها. والمقتَنص بعشقهِ والمتشبث به لا يقدر أن يتخلَّص منه حتى تفنى حياته، فإذا ما عرَّاه من كلِّ شيءٍ وأخرجه من منزلهِ يوم موتهِ، حينئذ يعرف الإنسانُ في ذلك اليوم أنه خداعٌ وسرابٌ مضل، حتى إذا ما جدَّ الإنسانُ في الخروج من هذا العالم المظلم، فإنه لن يستطيعَ الخلاصَ من حبائِلهِ ما دام هو منغمساً فيه».