سُئل أيضاً هكذا: «قُدسك قال لي هو ذا خطاياك قد غُفرت، وأنبا إشعياء قال: ما دام الإنسانُ يجدُ في قلبهِ لذةَ الخطيةِ، فلم يحظَ بعد بغفرانِها، وإني إلى الآن أحسُّ بلذتها، لذلك أظن أنها لم تُغفر بعد، فأحزن وفكري يحدثني قائلاً لي: إن الله خذلك لأن قتالَ الزنى قد ثقل عليَّ طول هذا الأسبوع»؟
الجواب: «لقد قلتُ لك إن خطاياك القديمة قد غُفرت، أتراني قلتُ لك إن قتالات العدو قد بَطُلت؟ فالراهبُ قائمٌ في صفِّ الجهاد ولو لم يكن لك خطايا. فالشيطان يجلبُ لك لذَّةَ الخطيةِ بالفكرِ، أمَّا ما قاله لك أنبا إشعياء فهو عن فاعليها المتلذِّذين بعملِها، لأن ذِكر حلاوة العسل شيء، وتذوُّق حلاوة العسل شيءٌ آخر. حتى إن الذي يتذكر لذَّة الخطية ولا يفعل ما يتعلق باللَّذةِ، بل يجاهد في سبيل إبعادها عنه فذلك هو الذي غُفرت له خطاياه القديمة. ومن خيالات الشيطان أنه يقول لغير المتمكنين: إن خطاياكم لم تُغفر، وذلك ليقطعَ رجاءَهم، فَتَحَفّظ من ذلك. أما عن قتال الزنى، فيحتاج الإنسانُ إزاءَه إلى جهادٍ واتضاعٍ، فبلا تعب واتضاع لن يخلُصَ أحدٌ. أما من جهةِ الخذلان فالله لا يخذلنا، فما لم نتخلَّ نحن عن محبتِه أو نحيد عنه، فهو لا يتخلى عنا، إذ أن مشيئته هي أن نلجأ إليه ونخلص».
وبصدد الابتعاد عن العالم قال البار إشعياء: إني في بعضِ الأوقات كنتُ جالساً بقرب القديس مقاريوس الكبير حين تقدم إليه رهبانٌ من الإسكندرية ليمتحنوه، قائلين: «قل لنا كيف نخلص»؟ فأخذتُ أنا دفتراً وجلستُ بمعزلٍ عنهم لأكتبَ ما يتحاورون به. أما الشيخُ فإنه تنهَّد وقال: «كلُّ واحدٍ منا يعرف كيف يخلص، ولكننا لا نريد الخلاصَ». فأجابوه: «كثيراً ما أردنا الخلاصَ، إلا أن الأفكارَ الخبيثةَ لا تفارقنا، فماذا نعملُ»؟ فأجابهم الشيخُ: «إن كنتم رهباناً، فلماذا تطوفون مثل العلمانيين، إن الذي قد هجر العالمَ ولبس الزي الرهباني، وهو وسط العالم، فهو لنفسِه يُخادع. فمن كانت هذه حالُهُ، فقد صار تعبُه باطلاً. لأنهم ماذا يربحون من العلمانيين سوى نياحِ الجسد، وحيث نياحُ الجسد لا يوجد خوفُ الله، لا سيما إن كان راهباً ممن يُدعَوْن متوحدين، لأنه ما دُعي متوحداً إلا لكي ينفرد ليلَه ونهارَه لمناجاةِ الله. فالراهبُ المتصرِّف بين العلمانيين هذه هي تصرفاته: قبل كلِّ شيءٍ تكون فاتحةُ أمرهِ أنه يضبطُ لسانَه ويصوم، ويذلِّل نفسَه إلى أن يُعرف ويخرج خبرُه، ويقال عنه الراهب الفلاني هو عبدُ اللهِ. وسرعان ما يسوق إبليس إليه من يُحضر له حوائجَه من خمرٍ وزيتٍ وثيابٍ ودراهم وكلِّ الأصناف، ويدعونه: القديسَ القديس. فبدلاً من أن يهرب من السُبح الباطل الناتج من قولِهم له القديس، يتعجرف الراهبُ المسكين، ويبدأ في مجالستِهم، فيأكل ويشرب معهم، ويستريح براحتهم، ثم يقوم في الصلاةِ ويعلِّي صوتَه حتى يقول العلمانيون إن الراهب يصلي ساهراً. وكلما زادوه مديحاً، زاد هو كبرياءً وعجرفة. فإن كلَّمه أحدٌ بكلمةٍ حسنة جاوبه حسناً. ثم يُكثر نظره إلى العلمانيين ليلاً ونهاراً، ويرشقه إبليس بسهامِ النساء، ونِشاب الصبيان، ويلقيه في اهتماماتٍ عالمية، ويَقلق وينزعج كما قال الربُّ: إن كلَّ من نظر إلى امرأةٍ نظرةَ شهوةٍ فقد أكمل زناه بها في قلبهِ. وإن كان ينظرُ إلى هذا القولِ على اعتبار أنه خرافة، فليسمع الربَّ قائلاً له: إن السماءَ والأرض تزولان، وكلامي لا يزول. وبعد ذلك يبدأ في حشد حاجته لسنتِهِ، بل يجمعها مضاعفةً، ويبدأ كذلك في جمعِ الذهبِ والفضة، ويلقيه الشيطان في هوَّةِ حبِّ المال، فإن أحضر له إنسانٌ ذهباً أو فضةً أو ملبوساتٍ أو غير ذلك مما يرضاه، فللوقت يقبله بفرحٍ ويُعدُّ المائدةَ الحسنة ويبدأ يأكل . أما البائسُ، لا بل المسيح، يتلوى جوعاً، ولا يفهمه أحدٌ. لهؤلاء قال سيدنا المسيح: إن دخولَ الجملِ في ثقبِ إبرةٍ، أيسرُ من دخول غني إلى ملكوتِ الله.
قولوا لي يا آبائي، هل الملائكةُ في السماءِ تجمعُ ذهباً وفضةً وتسجد لله. فنحن يا إخوتي عندما لبسنا هذا الزي، أتُرى لنجمعَ مقتنياتٍ وحطاماً، أم لنصير ملائكةً؟ فإذا كنا يا إخوتي قد هجرنا العالمَ ورفضناه، فلماذا نتراخى أيضاً ويردُّنا إبليس عن طريق المسكنةِ، أما فهمتم أن الخمرَ ونظرَ النساءِ والذهبَ والفضةَ والنياحَ الجسدي وقربَّنا من العلمانيين، هذه كلُّها تبعدنا من الله،
يتبع