ولما وصلوا إلى رومية، أخذ يجولُ في المدينةِ سائلاً عن حبيسيها وصالحيها ليعرف سيرتهم وكيف حالهم في العبادةِ. فدلُّوه على راهبةٍ حبيسةٍ لها ذِكرٌ فاضلٌ وصلاحٌ طاهرٌ، فأحبَّ أن يعرف سيرتها في رهبانيتها، فذهب إليها. وكانت تلك الحبيسةُ كثيراً ما تُمسك نفسَها عن التكلم مع الناسِ، وكانت لها خادمةٌ عجوز. فقال الشيخُ: «كلِّمي الحبيسةَ أن تكلِّمَني واعلميها بأني حباً في المسيح جئتُ إليها». فقالت له العجوز: «إن الحبيسةَ ليس لها عادةٌ أن تكلم إنساناً، وأبت أن تخبرها. فمكث القديسُ ثلاثةَ أيامٍ وهو لا يفارقُ العجوزَ، فلم يأكل ولم يشرب. فلما شعرت به الحبيسةُ وأبصرت صبرَه رَحَمته، فأشرفت عليه وقالت: «ما الذي يبقيك ها هنا يا أبي وماذا تطلبُ»؟ قال لها: «أحيةٌ أنت أم ميتة». قالت: «أنا حيةٌ بالله وميتةٌ عن العالمِ». فقال لها: «أقائمةٌ أنت أم جالسة»؟ قالت له: «لا يا أبي، بل أنا سائرةٌ». قال لها: «إلى أين تسيرين»؟ قالت: «إلى السيد المسيح». فقال لها القديسُ: «أريدُ أن أتأكدَ صحةَ كلامِك. فإن فعلتِ ما أقولُه لك علمتُ أنك صادقةٌ، اخرجي من حبسِك وانزعي ثيابك وأنا أيضاً أنزع ثيابي ونمشي عراةً الواحد منا خلف الآخر وسط سوق المدينة». فقالت له: «يا أبي، إنَّ لي حتى اليوم خمساً وعشرين سنة وأنا في هذا الحبس، فكيف تطلب مني الآن أن أخرجَ منه وأفعلَ هذه الجهالة»؟ قال لها القديسُ: «ألست تزعمين بأنك قد مُتِّ عن العالم، فالميتُ من أي شيءٍ يرتبك؟ وإن الميتَ عن العالم لا يبالي بهزءِ الناس ولا بمديحهم. من مات عن الدنيا لا يبالي بما يصيبُ جسَده من أجلِ الرب، فحياؤك هذا يدلُّ على أنك لم تموتي بعد عن العالم كما قلتِ، وإنما أنت مخدوعةٌ ولم تنتصري بعد». فقالت له: «إني لم أصِلْ بعد إلى هذه المنزلة التي أخبرتني عنها». فقال لها القديس: «إياك بعد هذا اليوم أن تعتقدي بأنك غلبت الجسدَ ومتِّ عن العالمِ». فقالت له: «لو أننا أتينا هذا الفعلَ أما كانوا يتشككون فينا ويقولون: لولا أن هذين فاسدان لما فعلا ذلك»؟ قال لها القديسُ: «كلَّ ما تصنعينه في سبيلِ الله، لا تبالي بقولِ الناس إزاءه. إن الراهبَ إذا كان يغتمُّ من الشتيمةِ والهوان فقد دلَّ على أنه علمانيٌ لم يترهب بعد». فقالت له: «اغفر لي يا أبي فإني لم أصِل بعد إلى هذه الدرجةِ». فقال لها القديس: «اتضعي في فكرك وإياك والعظمة»، ثم انصرف.