وعلينا أن ننتبه ونلاحظ: أن هذا كله حدث وتم قبل أن يُعطى أي وصية للإنسان، وقبل أن يتعرَّف على الخليقة من حوله أو حتى يتعامل معها من الأساس، لذلك حياة الإنسان الطبيعية هي في الجو الإلهي الخاص، أي في حضرة الله ومعيته والتطلُّع والنظر لنور وجهه، وخارج هذه الحضرة الإلهية، وبعيداً عن هذه الرؤية والمُشاهدة، يظل الإنسان في قلق واضطراب عظيم جداً وعدم راحة أو سلام، مثل طفل تائه فقد حضن أمه ولم يعد يراها أمام عينيه، لأنه خرج خارج مكانه الطبيعي وابتعد عن موضع أمانه وراحته، أي أنه خرج من الحضن الدافئ المُريح، خرج من موضعه الشخصي ووضعه الطبيعي، خرج من بيته الذي هو منزله الخاص، لأن من المستحيل أن يرتاح المثيل إلا على مثيله، والإنسان في الأصل هو صورة الله ومثاله قبل أي شيء وحتى قبل الوصية المعطاة لهُ لتحفظ حياته على وضعه الأول، وبعد السقوط ضاع المثال وتشوهت الصورة وتغير الوضع واختلف تمام الاختلاف، إذ قد تغرَّب تائهاً بعيداً عن مكانه الطبيعي وجوه الخاص، وصار في جو آخر غريب عنه كُلياً، أي أنه هبط من مستوى المجد الرفيع وغاب عنه نور الحياة الحقيقي ودخل في حالة الظلمة وعدم الراحة، لأن الله – في الأساس – له لم يخلق ظلمة ولا شرّ أو فساد أو حتى سمح للإنسان أن يُخطئ أو يخرج من حضرته، بل الإنسان هو الذي اختار – مخدوعاً – ما هو ضد الوصية المُعطاة له لتحفظه من الفساد، ولكن بالرغم من هذا التدني المُريع، ظلت هناك ملامح من تلك الصورة مدفونة عميقاً في الإنسان مع وجود أنين اشتياق دائم مُلح إلحاحاً للعودة لبيته ومكانه الطبيعي، لأن الملامح الإلهية المزروعة فيه لم تضيع نهائياً، لذلك يظل الإنسان على مدى حياته كلها، يفتش تلقائياً بلهفة عن الراحة المفقودة التي في الله مقرّ سكناه ومصدر حياته ووجوده، لذلك يظل هناك حنين قوي ذات سلطان على النفس، مع وجود شوق وطوق عظيم للغاية إلى الحضرة الإلهية، وهذا يُعَبَّر عنه بالعطش الحقيقي إلى الله الحي.