ذهب المسيح إلى كفر ناحوم، بعد أن طرده أهل جدرة التي شفى فيها المجنون، وأهلك خنازيرهم.
وكان في كفر ناحوم رجل اسمه يايرس، وهو رئيس المجمع هناك. كانت له ابنة توشك على الموت، لم تنجح معها معالجات الأطباء، ولا خدمة الأقرباء ولا تضرعات الأحباء. ولم يبق رجاءً إلا في الالتجاء إلى الناصري الشهير.
لا بد أن يايرس قرر الذهاب إلى المسيح ليطلب مجيئه إلى بيته، لكنه استصعب مفارقة وحيدته في حالتها هذه.
كما أنه لم يكن ينتظر أن يأتي المسيح إلى بيته لو أرسل له آخر، ولا يمكن أن يأخذ ابنته إلى المسيح وهي في هذه الدرجة من الخطر.
فأسرع يايرس بنفسه إلى الشاطئ، ووقع عند قدمي المسيح وسجد له.
وكم كانت دهشة الحاضرين عند رؤيتهم رئيسهم متذلّلاً بهذا المقدار أمام النجار الناصري الفقير، الذي هو رفيق للعشارين والخطاة.
غير أن ما عرفه يايرس وأهل كفر ناحوم عن فضائل المسيح وفضله، يفسّر شيئاً من هذا الاحترام غير المنتظر.
لقد ذللت المصيبة الشديدة يايرس، وساقته إلى المسيح، فانفتح له باب الفرج، وتحولت مصيبته إلى بركة أعظم.
صبر المسيح على يايرس إلى أن "طلب إليه كثيراً" ووصف حالة ابنته، وأظهر كامل الإيمان بالمسيح،
لأنه قال: "ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى. تعال وضَعْ يدك عليها فتحيا".
يستحيل أن يتغاضى المسيح عن طلب كهذا مقرون بإيمان، لأن الإيمان هو الدلو الوحيد الذي يسحب به الإنسان ماء الحياة من آبار الخلاص. وهو العين الوحيدة التي بها يرى الإنسان طريق السماء ليسير فيه،
وهو اليد الوحيدة التي بها يتناول الإنسان خبز الحياة ليحيا به "أَمَّا الْبَارُّ فَبِالْإِيمَانِ يَحْيَا" (رومية 1:17).
وهنا يواجهنا سؤال: لماذا لم يأمر المسيح بالشفاء عن بُعد كما فعل مرتين قبلاً؟ ألا يكون في ذلك معجزة أبهج، وموجباً أقوى لإيمان الجمهور وأهل المدينة به؟
ربما كان ذلك لأن المسيح علم ما لم يعرفه يايرس أو غيره من الحاضرين،
وذلك أن الابنة قد ماتت فعلاً بعد خروج أبيها من البيت. وبما أن رئيس المجمع عدو للمسيح،
ففي ذهاب المسيح معه يظهر له محبة تكون لنا مثالاً في محبة العدو.
وبما أن يايرس أتمّ الشروط الأربعة اللازمة لنوال بركات المخلّص، فقد نال طلبه، وذهب المسيح معه إلى بيته.
وهذه الشروط هي:
(أ) الإتيان إلى المسيح.
و(ب) الإتضاع أمامه.
و(ج) الحرارة في الطلب منه.
و(د) الإيمان الحي به.
وفيما كان المسيح منطلقاً زحمته الجموع.
وإذْ لا يمكن للمُحاط بازدحام كهذا أن يسرع في السير،
فلا ريب أن يايرس استاء من هذا البطء، لأن الدقائق كانت عنده كالساعات، لا بل كالأيام.
وزاده استياءً وقوف المسيح في الطريق. ووقوف الجمهور معه بسبب امرأة مسكينة، كانت مريضة بنزف دم.
غير أن هذا التأخير عاد على يايرس بالبركة في تقوية إيمانه وإحياء رجائه.
فقد اقتربت من المسيح امرأة مريضة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة، هدَّ قُواها، وضيَّع مالها على الأدوية بغير فائدة،
وقصد المسيح بهذه المعجزة شفاءً جسدياً وروحياً، كما قصد تقوية إيمان تلاميذه ويايرس. وقد قال الكتاب: "لِأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلَاصِ" (رومية 10:10).
ثم تابع المسيح مسيرته نحو بيت يايرس. وإذا برسولٍ من بيت يايرس يقول له: "ابنتك ماتت. لماذا تتعِب المعلم بعد؟".
تُرى هل أسف يايرس على تذلله للمسيح، أو هل ندم على خروجه من بيته وغيابه ساعة احتضار وحيدته؟
أوَلا يتوقع شماتة زملائه الفريسيين الذين يكرهون هذا الناصري الذي لا يخضع لهم؟
ولكن المسيح استدرك هذا التأثير السييء، وطيّب خاطره بقوله:
"لا تخف. آمن فقط، فهي تُشفَى".
فلما وصل المسيح والأب والجمع إلى البيت، أمر أن يبقى تلاميذه مع الجمهور خارجاً، ما عدا بطرس ويعقوب ويوحنا، الذين ابتدأ يميّزهم فوق رفقائهم،
فأدخلهم معه ليكونوا شهوداً للمعجزة العظيمة، وترك التسعة خارجاً إيناساً للجمْع الذي لم يسمح له بالدخول، وعند دخوله الدار تكدر من الضجيج والبكاء والنوح، ووبّخ القائمين بها،
وسعى ليزيل أوهامهم في أمر الموت الجسدي، بإرجاعه روحاً إلى جسدها بعد الموت.
وشبَّه الموت بالنوم بالنظر إلى القيامة الآتية،
فقال للمجتمعين: "لماذا تضجون وتبكون؟ تنحّوا. لا تبكوا. فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة".
فاستهزأ الجميع به ولا سيما النائحون المأجورون، وضحكوا عليه لعدم معرفته الفرق بين النائم والمائت. فأخرجهم من الغرفة -
ولم يشهد هذه المعركة التي فيها يقهر المسيح الموت - إلا الوالد والوالدة والرسل الثلاثة. قيل عنه في الأنبياء إنه "يَبْلَعُ الْمَوْتَ إِلَى الْأَبَدِ، وَيَمْسَحُ السَّيِّدُ الرَّبُّ الدُّمُوعَ عَنْ كُلِّ الْوُجُوهِ" (إش 25:8). "مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (هوشع 13:14) ووصف الرسول عمله أنه "أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ" (2 تيموثاوس 1:10).
نرى الذي قال عن حياته: "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً" يدخل مع هؤلاء الخمسة غرفة الموت، وبهذا السلطان يمسك يد الجثة، ويكلم الروح التي فارقت الجسد، ويُرجِعها إليه بقوله: "يا صبية قومي". وللوقت قامت الصبية ومشت. ثم أمر أبويها أن يقدّما لها طعاماً. فأحدثت هذه المعجزة دهشة عظيمة.