لا يكلّ عن الأسهار ولا عن تلاوة المزامير... يعطف على الصغار ولا يهاب مقاومة عظماء الدنيا وما يأتون من مظالم".
أثناسيوس، بكلمة، مصارع. لم يخش الضربات وكان مستعداً أن يتقبّلها. دافع عن الإيمان القويم في وجه الأباطرة كما في وجه اللاهوتيين السياسيين. كان واثقاً من ربّه وغلبته، ثابتاً في إيمانه وعزمه. لم يردّه عن قول الحق ضيق ولا أسكتته عن الشهادة قوّة. تمثّل الأرثوذكسية قولاً وعملاً. قريباً من الشعب كان لا أرستقراطياً. أسقفاً للمقاومة، بتعبير عصري. حريصاً على إتمام رعايته وتقدّم سامعيه في سبل الحياة الإنجيلية. لا يتسّم لاهوته بالتأملية الفلسفية بل بالصلابة العقدية. لاهوته تأكيد للحق الإلهي لا تفكّر نظري فيه. لاهوته حي. حتى البلاغة عنده مظهر من مظاهر الالتزام بعمل الله الخلاصي. كان أثناسيوس كلّياً في قولته وتصميمه. اتهموه بالتصلّب وقلّة المداراة. والحق إنه كان صلباً لا متصلّباً. أحدياً في توجّهه على نحو حادواضح، لا يراوغ ولا يناور ولا يداور. الشعب المؤمن والرهبان أدركوا أنه يقول الحق. لم يؤخذوا بفتنته. أخذوا بشهوة الحق لديه. أقنعهملا بمنطقه، بل لأنهم وثقوا به. هذا كان سر بلاغته النفّاذة. صنع أثناسيوس الكثير. ترك على الفكر اللاهوتي عبر العصور بصمات لاتمّحى. ولعلّ أبرز ما تركه أنه حال دون تحوّل المسيحية عن خطّها الخلاصي التأليهي إلى فلسفة. كما حرّر الكنيسة من ربقة القوى السياسية، لاسيما وقد اعتاد الأباطرة الرومان، إلى زمانه، الاستبداد بشؤون العبادة كما بشؤون العباد. كذلك ربط اللاهوت بالتأله وبالنسك، وقدّم في شأنه أنطونيوس المغبوط نموذجاً للإنسان الجديد، فكان أثناسيوس مفصلاّ بين الكنيسة كما آلت إليه بكلا لتحديات التي نزلت بها، والكنيسة كما استودعها سيّدها حقّه ونفسه لمئات السنين، بعدما انفتح بابها للدنيا على مصراعيه، حتىإلى يومنا هذا.
