عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 29 - 08 - 2016, 08:40 AM
الصورة الرمزية walaa farouk
walaa farouk walaa farouk غير متواجد حالياً
..::| الإدارة العامة |::..
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
الدولة: مصر
المشاركات: 376,433

يصعب على الإنسان أن يحب مضايقيه لكن في المسيح يسهل ذلك لأنه:

1. وارث للبركة، لا يخرج إلاَّ ما هو للبركة:

"غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة،

بل بالعكس مُبارِكين،

عالمين إنكم لهذا دُعيتم لكي ترثوا بركة" [9].

هذه هي دعوتنا أن نرث البركة، لهذا لا يليق بنا أن نُخْرِج من داخلنا إلاَّ ما هو للبركة، فلا نقاوم الشر بالشر بل نغلبه بالخير (رو ١٢: ٢١).
فلم يعد غريبًا عنا أن ننفذ وصية الرب "باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم" (مت ٥: ٤٤).

2. لكي يتدرب هنا على تذوق السلام:

"لأنه من أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحة،

فليَكْفُفْ لسانه عن الشر،

وشفتيه عن أن يتكلما بالمكر.

ليُعْرِض عن الشر،

وليصنع الخير،

ليطلب السلام، ويجِدّ في أثره" [10-11].

هذا دافع آخر وهو أننا راحلون إلى أبديّة السلام. فنتدرب هنا على الأرض، كمن هم في مدرسة، على حياة السلام التي نحياها مع ملك السلام. فإذ نحب الحياة (الأبديّة) وأن نرى أيامًا صالحة ليس فيها شر، عربون للحياة الأخرى يليق بنا الآتي:

أ. نكْفُف لساننا عن الشر، أي نُعرِض عنه، كالعبد الذي يخاف سيده.

ب. نصنع الخير، كالأجير الذي ينتظر مكافأة.

ج. وأخيرًا نطلب السلام ونجدّ في أثره، ليس خوفًا ولا من أجل الأجرة، لكن كأبناء لملك السلام لا نحيا ولا نريد إلاَّ أن نتذوق السلام!

يقول القديس دوروثيؤس:

[لقد عبَّر النبي داود عن هذا التسلسل في قوله التالي: "حد عن الشر واصنع الخير. اطلب السلامة واسعَ وراءها" (مز ٣٤: ١٤) .

"حد عن الشر"، أي تجنب الشر كله بصفة عامة. اهرب من كل عمل يدفعك نحو الخطية. لكن النبي لم يقف عند هذا الحد، بل أضاف قائلًا: "واصنع الخير"، لأنه أحيانًا لا يصنع إنسان شرًا ولكنه لا يصنع أيضًا خيرًا...
وإذ قال داود هذا أكمل: "اطلب السلامة واسعَ وراءها". إنه لم يقل فقط "اطلب" بل "اسعَ وراءها" أي مجاهدًا لنوالها.

فكر في هذه الكلمات بتدقيق، ولاحظ الدقة التي أظهرها القديس. فعندما يوهَب للإنسان أن يَحِدْ عن الشر،
وبعون الله يجاهد لكي يصنع الخير، يمكنه أن يكون فريسة وموضوع هجوم العدو. لذلك عليه أن يتعب ويجاهد ويحزن، مرة كعبد بدافع الخوف حتى لا يرتد إلى الشر مرة أخرى، ومرة كأجير طالبًا المكافأة عن صنع الخير...
ولكن عندما يتقبل معونة الله ويحصل على عادة معينة في صنع الخير، عندئذ يجد راحة (في صنع الخير) ويتذوق السلامة. عندئذ يختبر ماذا تعني تلك المعركة المحزنة، وما هو معنى فرح السلامة وسعادتها، عندئذ "يطلب السلامة" ويجاهد مثابرًا في داخله]

يقول القديس أغسطينوس: [إنه سيكون لنا السلامة الكاملة عندما تلتصق طبيعتنا دون أن تنفصل عن خالقها، فلا يكون لنا في أنفسنا ما يضاد أنفسنا]

إذن بترك الشر وصنع الخير تصير لنا السلامة، وهذا هو تدريبنا على الأرض.

3. لكي يرضي الرب:

"لأن عيني الرب على الأبرار، وأذنيه إلى طلبتهم،

ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر" [12].

وهنا لا يقصد الرسول أن الله لا ينظر إلى الأشرار أو يختفي حديثهم عن أذنيه، لكنه يقصد بالنظر والسمع الاستجابة لهم. غاية المؤمن أن يكون موضوع رضا الرب وسروره. فليس بالكثير عليه أن يقابل الشر بالخير، ويحب مضايقيه مادام هذا يرضي الرب.

4. لأنه لا يقدر أحد أن يؤذيه:

يدرك المؤمن هذه الحقيقة، أنه لا يقدر أحد من البشر ولا تستطيع الأحوال مهما قست والضيقات مهما اشتدت أن تؤذي نفسه، ما لم يؤذِ الإنسان نفسه بنفسه، بتركه صنع الخير.
لهذا لا يضطرب من أحدٍ، بل يحب حتى الذي يريد قتله، متأكدًا أنه لا يقدر أن يحرمه من صنع الخير، وبالتالي كلما اشتدت الآلام حوله تزايدت أكاليله.

"فمن يؤذيكم إن كنتم متمثلين بالخير.

ولكن إن تألمتم من أجل البرّ فطوباكم" [13].

كتب القديس يوحنا الذهبي الفم كتابًا عنوانه

"لا يستطيع أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذِ هذا الإنسان نفسه"

كشف فيه أنه لا يقدر شيطان أو ظلم أو مرض أو موت أو فقر أن يؤذي أحدًا ما لم يؤذ الإنسان نفسه بصنع الشر، بل بالعكس نجد الآلام طَوَّبَت أيوب، والفقر أفاد لعازر، والرياح والأمطار أكدت ثبوت البيت المبني على الصخر (مت ٧: ٢٤).

إن الحاسد لا يؤذي من يحسده بل يؤذي نفسه، والظالم يقتل نفسه ولا يهلك من يظلمه. وهكذا فإن الألم لا يجلب ضررًا، بل تطويبًا لمن يحتمله من أجل البر.

5. تعطي فرصة للكرازة:

"وأما خوفهم فلا تخافوه ولا تضطربوا.

بل قدسوا الرب الإله في قلوبكم،

مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم

بوداعة وخوف" [14-15].

اقتبس الرسول هذا القول عن إشعياء النبي (8: 12-13).

يطالب الرسول المؤمن ألا يخاف ممن يضايقونه ولا يضطرب منهم. والدافع لهذا هو تقديس الرب الإله في القلب.
لأن من يقدس الرب الإله في قلبه لا يخاف البشر بل الله. ومن يخاف الله دون البشر يكون بهذا مُقَدِّسًا الرب في قلبه...
وهذا خير كرازة وشهادة عملية للرب، وإجابة حقة لمن يسأله عن سبب الرجاء الذي فيه، محتملًا المضايقة بوداعة ومخافة الرب.

هكذا يَشْتَّمونَ رائحة المسيح الذكية في سيرة المؤمن الصالحة عندما يُفترى عليه ظلمًا، فيحتمل بضميرٍ صالح بغير رغبة في الانتقام، ولكن حبًا في خلاص الكل.

"ولكم ضمير صالح

لكي يكون الذين يَشْتُمُون سيرتكم الصالحة في المسيح يُخْزَوْن

في ما يفترون عليكم كفاعلي شر" [16].

لقد شهد فستوس وأغريباس عن بولس قائلين: "إن هذا الإنسان ليس يفعل شيئًا يستحق الموت أو القيود" (أع ٢٦: ٣١).

وبقدر ما ازدادت الاضطهادات على المسيحيين كانوا يجتذبون المضطهِدين أنفسهم خلال احتمالهم الاضطهاد بفرح وشكر.

يقول الشهيد بوستينوس: [ها أنت تستطيع أن ترى بوضوح أنه حينما تُقْطَع رؤوسنا ونُصْلَب ونُلْقَى إلى الوحوش ونُقَيَّد بسلاسل ونُلقى في النار وكل أنواع التعذيب أننا لا نترك إيماننا، بل بقدر ما نُعاقَب بهذه الضيقات ينضم مسيحيون أكثر إلى إيماننا وديانتنا باسم يسوع المسيح.]

6. إقتداء بالرب يسوع:

"لأن تألمكم إن شاءت مشيئة الله وأنتم صانعون خيرًا

أفضل منه وأنتم صانعون شرًا.

فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا،

البار من أجل الآثمة لكي يُقَرِّبنا إلى الله،

مماتًا في الجسد، ولكن محيي في الروح" [17-18].

يتدرب المسيحي على حياة الاحتمال والحب للمضايقين على يدي مُدرِّبه الرب يسوع المتألم. فمنه وبه ينال قوة داخلية لقبول الألم بشكر. بحسب المنطق البشري حينما يتألم الإنسان من أجل ذنب اقترفه يجد ما يعزيه أنه مستوجب لهذا الألم.

أما فكر ربنا يسوع فهو منطق الحب الإلهي أنه يليق بنا بالحري أن نفرح عندما نتألم ظلمًا. إذ يكون مبعثها الحب وهذه

"تُنْشِيءْ أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا" (٢ كو ٤: ١٧).

تألم الرب بالجسد مرة واحدة. احتمل أجرة خطايانا في جسده. هذه هي آلام الحب التي دفعته أن يقبل برضا موت الجسد وهو محيي في الروح، لأنه لم يخطئ قط، فلم تذق روحه الموت.

مات الرب بالجسد بانفصال نفسه عن جسده، لكن لاهوته لم يفارق ناسوته ولا فارق نفسه قط.

"الذي فيه أيضًا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن،

إذ عصت قديمًا حين كانت أناة لله تنتظر مرة في أيام نوح،

إذ كان الفلك يُبنى، الذي فيه خلص قليلون، أي ثماني أنفس بالماء" [19-20].

إذ مات الرب بالجسد انفصلت نفسه عن جسده، أما لاهوته فلم ينفصل قط لا عن جسده ولا عن نفسه. فانطلقت النفس إلى الجحيم (السجن) تكرِز وتبشر للذين ماتوا على رجاء، لأن عدو الخير ليس له سلطان عليها.

وكما يقول القديس أمبروسيوس بأنه من الواضح أن السيد المسيح لم يسقط تحت قوات الظلمة بل بالحري هو كسر سلطانها، كارزًا حتى بين الأموات الذين في الجحيم لكي يحررهم.
رد مع اقتباس