وقفة في صدر الإسلام بين اليهود وبين النصارى
إذا افترضنا وجود حسن نّيّة عند محمد على أنه أراد أن يخبر اليهود الذين عاصرهم والنصارى وسائر الناس بما جرى خلال زمن "عيسى" وافترضنا أن يهود عصره لم يكن لهم علم بما جرى، فما بال القارئ-ة بالنصارى؟ عِلمًا أن تسمية "النصارى" خلال ذلك الزمان طغت على مسيحيّي شبه جزيرة العرب، لأنّ الهرطقات انتشرت هناك على نطاق واسع ومنها هرطقة النصارى إذ أنكرت أن عيسى هو المسيح- المسيّا. فلماذا تهجّم محمد على عقيدة النصارى، في أزيد من سورة، وهو على يقين بأنهم آمنوا بصلب عيسى وبموته وبقيامته؟ والجواب، حسب تأمّلي في القرآن وفي اقتباسات محمد من الكتب المذكورة أعلى، هو أنّ محمّدًا كان حاقدًا على جميع خصومه ومعارضيه فخطّط مسبقًا لإفراغ شبه الجزيرة منهم، ولا سيّما أهل الكتاب، باختلاق ذرائع ضدَّهم. لماذا؟ لأن محمّدًا تيقّن بأنّهم عرفوا أنه اقتبس من كتبهم وتيقنّ أنّ شأنه عندهم شأن مسلمة بن حبيب المسمّى "مسيلمة الكذّاب" فكان كل تشكيك في دعوته خطًّا أحمر بين خطوطه فكيف تكون الحال مع تكذيب دعوته واعتباره من الكَذَبة؟ لا شكّ في أن محمّدًا قد اطّلع على الإنجيل الرّسمي ممّا كان يُملى عليه، في شبه الجزيرة وخارجها، سواء من النصارى ومن الأقباط ومن الآراميّين وتحديدًا السريان، فعَلِم بتنبّؤ المسيح عن أنبياء كذبة يأتون من بعده فيُضِلُّونَ كَثِيرِين (متّى 24: 11) وهذا ما زاده حِقدًا على أهل الكتاب وكراهية. وما عاد خافيًا تنوّع مجتمع شبه الجزيرة قبل الإسلام، إذ كان خليطًا من أقوام عدّة على اختلاف طوائفهم الدينية.
أمّا البراهين على إيمان النصارى بصلب عيسى فكثيرة؛ منها أنّهم زيّنوا بالصليب كنائسهم والهياكل (محلّات التقديس والقربان) تنويهًا بموت السيد المسيح عليه مصلوبا، ومنها أنّهم ذكروا الصّليب حَرفيًّا في شعرهم، بألسنة شعراء مشهورين؛ منهم التالي:
عَدِيّ بن زيد- على وزن بحر الوافر:
سعى الأعداء لا يألون شرًّا – عليك وربِّ مكّةَ والصليبِ
الأعشى قيس- على وزن المتقارب:
وما أَيبُليٌّ على هيكلٍ – بناهُ وصَلَّب فيه وصارا
والأيبلي- لعلّ الكلمة مقلوبة عن الأبيل: الراهب. أمّا "صار" فقد بنى الأعشى هذا الفعل من الصور النصرانيّة لملائكة وأنبياء، ممّا لدى النصارى، ومنها ما كان موضوعًا في الكعبة.
النابغة الذبياني- على وزن البسيط:
ظَلّتْ أقاطيعُ أنعامٍ مُؤبَّلة – لدى صَليبٍ على الزّوراء منصوبِ
وارتجزَ الأخطل؛ وهو نصراني، من أبرز شعراء العصر الأمويّ إلى جانب جرير والفرزدق:
لمّا رأونا والصليبَ طالِعا – خلَّوا لنا رازانَ والمزارعا