إننا نعيش في حقبة من التاريخ باتت فيها المنجزات الإنسانية أموراً مطلقة لا بل مؤلّهة، زماننا هو زمان صنمية جديدة أو وثنية جديدة، حيث إن الإنسان الذي هو دون المقاييس المدينة القائمة، يعتبر مخلوقاً دون (أو ذا قيمة متدينة). وأعتقد أن هذا مشكلة ليس فقط لمجتمعاتنا المدنية، بل هو مشكلة لكنائسنا الحاضرة. والعديد من المشاكل التي تواجهها كنائسنا ترتبط بعقليّة تجعل الحاضرة المرهونة في قمّة الاهتمامات والقيم. وينسى المسيحيون عادة أن الحضارة يمكنها أن تكون الوسيلة إلى فهم مسيحي، إلا أن هذه الحضارة لا يمكنها في أيّ حال، أن تكون البديل عن رسالة الإنجيل. ومن واجبنا كمسيحيين أن نواجه السؤال المتعلّق بالحضارة، بروح من المسؤولية، وأن ندرك حدوده كلها. ومن واجباتنا المهمة أيضاً أن نقرّ أن تقديراً مفرطاً للمنجزات الحضارية من شأنه أن يجعل الإنسان أسيراً وعبداً لمنجزاته وتطلّعاته. وإذ نجعل الحضارة في مركز كلّ نشاط إنساني، وهدفاً وأرضية للوجود الإنساني، إنما نعمل على تغريب الإنسان عن نفسه. وفي هذه الحالة نحن نفصل الإنسان عن إنسانيته العامة، ونفصله عن الله وعن إخوته، وعن طبيعته أيضاً.
بكل هذه الكلمات لستُ اشاء أن ألعن الحضارة وأن أبسلها، كما ولستُ أنوي أن أُعيد الإنسان إلى حالة من التشاؤم الحضاري. ما أريده أنه يجب علينا كمسيحيين، أن ندرك ماهية الحضارة في نور الإنجيل المسيحي. وهذا يعني أن موقفنا منها يتمحور حول الكنيسة ecclesio centric. في الحقيقة أننا في شركة الكنيسة يمكننا أن نناشد الجميع كي يتبنّوا القيمة الحقيقية وحدود الحضارة أو المدنية.