ويربط تيليك الأولى بالتكنولوجيا، أما الثانية، فباللغة. على كل حال فإن الإنسان الأولى أُعطي أن يكون مسؤولاً وذا واجب خلّاق. لقد أُعطي الإنسان المهمة كي يعمل كمخلوق حرّ، وأن يحتل موقفاً مسؤولاً تجاه العالم المخلوق.
اللغة، كقوة تواصلية، فضلاً عن إمكانية حراسة الإنسان للفردوس وحفظه، وأيضاً الحفاظ على العام المخلوق الذي أعطاه الله للإنسان هي براهين أنه كان هناك مسؤولية إلهية وعمل إلهي. الإنسان خلق على صورة الله ومثاله وذلك كي يحقق في العالم خدمة خلاقة، خدمة فريدة تتوخى الحفاظ على الخليقة وسلامتها. لقد دعا الله الإنسان إلى العمل في العالم المخلوق على صعد ثلاثة: كمعلم وككاهن وكنبي. وفي هذا السياق فإن مهمة الحضارة هي ذات بعد روحي ومواهبي. هذه كانت الدعوة الأولى والمهمة الأولى المنوطة بالإنسان. والوحدة الاساسية التي لهذه العطية التي أغدقها الله على الإنسان، والقبول الطوعي الحر والمسؤولية للاضطلاع بحراسة الفردوس وحفظه هي أهمية أساسية مميزة تساعدنا على فهم معنى الحضارة. والمسألة، على صعيد الخواء الحضاري، هو التالي: لا يستطيع المرء أن يقدّر العنصر الإنساني فوق الحدود اللائقة به، والشيء نفسه يقال في المنجزات الإنسانية. ولكن في الوقت نفسه لا يستطيع الإنسان أن يخفض من قيمة الدعوة الخلاقة والقدرة التي منحها الله له.
إن جوهر الحضارة ومصيرها مرتبطان بالدعوة الإلهية للإنسان، وهذا الارتباط مطلق واصيل. وهذا يعني أن محتوى وصياغة الحضارة مرتبطة بمقولة أن الله هو الذي جعل الطبيعة الإنسانية مشاركة في كل شيء. والناس في حالتهم الأولى، كانوا يشاركون في الكمالات الإلهية، وكان عندهم دعوة ديناميكية من أجل التقدم والمشاركة في الحياة الإلهية، فضلاً عن التكرّس والمسؤولية في الإبداع وتقديس العالم. ويبدو لي على هذا الأساس، أنه في هذا النطاق يكمن جدوى الحضارة. الحضارة ليست مبررة على نحو غير مشروط، الحضارة ليست مبررة حصراً على خلفيّة إنسانية، على مستوى نظري، بالتحديد، إنما هي مبررة لأن البشر تلقوا الإبداع، كهبة من الله. بكلام آخر فإن الحضارة في شكلها الصرف وغير الملوّث، مرتبطة بالأصالة الإنسانية.