ومثل هذا يقال في حفظها – المتصل بهذا التعليم – للفكرة الأخروية (Eschatologie) بصورة نشأتها الأولى. فإذا وضعنا هذا إلى جانب إلحاح كنيستنا في تعليمها عن تأليه الإنسان في المسيح، نجد أنها تلوّن عبادتها وكل ما يتعلق بالإفصاح عن تقواها من الشعائر والطقوس بلون تقشفي صوفي. بيد أن هذه النزعة في الأرثوذكسية، التي هي حقيقة لا ريب فيها، لا تبرز بأي حال اعتبارها، في نظر اللاهوتيين الأجانب، إنها مساوية لتلك النزعة الزهدية المغالية، التي تدفع إلى عدم الاكتراث بأمور هذا العالم وبالعلم والحضارة بنوع أخص، ولا تبرز أيضاً زعمهم الخاطئ القائل بأن هذه الميزة في الأرثوذكسية كانت السبب الرئيسي في خلوها من نشاط اجتماعي على شيء من النمو.
كل هذه المزاعم تكشف عن عجز في تفسير الحقيقة تفسيراً صحيحاً، ينطوي على جهل لتاريخ كنيستنا. فإن إلحاح كنيستنا في توجيه الأبصار نحو العالم الآخر والحياة الخالدة، وطابعها العالي على العالم، يتفق والمسيحية الأولى منذ نشأتها. وللدلالة على ذلك، نكتفي بذكر بعض فقرات من العهد الجديد والأدب المسيحي القديم. قال الرب: “لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض… بل اكنزوا لكم كنزاً في السماء… حيث يكون كنزك فهناك قلبك” (متى 19:6- 21). وقال الرسول بولس: “فإن سيرتنا نحن هي في السموات” (فيليبي 20:3). وفي الرسالة إلى العبرانيين: “لأنه ليس لنا هنا مدينة باقية، لكننا نطلب الآتية” (عبرانيين14:13). وقد ورد في الرسالة إلى ذيوغنيتوس هذه الأقوال النموذجية: “إن المسيحيين يقطنون في أوطان لهم، ولكن كنزلاء، فهم يشاركون الجميع، كمواطنين، ويتحملون كل شيء كغرباء. وكل وطن غريب هو لهم، وكل وطن لهم هو غريب عنهم” (الرسالة إلى ذيوغنيتوس 5:5).