• حصيلة التاريخ
أتت هذه الحالة حصيلة مسيرة تاريخيّة طويلة. فمن وجدانيّة القدّيس أغسطينوس subjectivité التي قَوْلَبَت الثّقافة الغربيّة بجملتها (أدب السِّيَر الذاتيّة، مثلاً)، انتقلنا إلى تحليل عقلانيّ للكون وللمبادئ الدّينيّة (مثل تطبيق مناهج أرسطو في اللاهوت ابتداءً من القرن الثاني عشر). من هنا، نشأت العلوم التي ادّعت كشف أسرار الطبيعة، مبعدةً الله تدريجيًّا. شيئًا فشيئًا، بدت فرضيّة “العلّة الفائقة” للوجود رأيًا زائدًا لا ضرورة له، فحاولوا التخلّص منها. ومن المذهب الإنسانيّ المعجَب بالآداب القديمة، في القرن السادس عشر، وصلنا إلى عقلانيّة القرن السابع عشر rationalisme (مع ديكارت) – وما هي في الحقيقة سوى عاقبة علمانيّة للاّهوت السخولاستيكيّ ، ومنه إلى فلسفات المذاهب الطّبيعيّة (naturalisme)، وعهد التنوير (Les Lumières)، حيث زعم العقل أنّه تحرّر من الدّين، ومن الله ذاته، باسم العِلم. ومن هذا التّنوير وُلِدَت الثورة الفرنسيّة، وأفكار التحرير الوطنيّ، وشرعة حقوق الإنسان ذات القدسيّة المطلقة، وهي حقوق الفرد، التي تسمح اليوم بالتدّخّل العشوائيّ في حياة البلدان والناس. ثمّ الاقتصاد الرّأسماليّ، وما نَعهَدُ فيه من جنوح الإنسان إلى استغلال الإنسان. أمّا القرن التاسع عشر، عصر الثورة الصّناعيّة، فأوجَدَ بدوره فلسفات تدّعي أنّ “الله مات”، حاولَ الناس بها الانعتاق من الدّين انعتاقًا أكبر، ليبرّروا سيطرة الإنسان على الطبيعة. وما إن أُعلِنَ “موت الله” نظريًّا، لم يبقَ إلاّ تلقّي التَّبعات القصوى لذلك. وهذا ما يصفه دوستويفسكي في شخصيّات شباب مُنادين بالعَدَميَّة هيّأوا للثورة الرّوسيّة.