عواقب الثورة الخلُقيّة: مجتمع الشهوة والعزلة
وتَبِعَتْ هذه الأحداث ثورةٌ أُخرى، هي ثورةُ المَعلوماتيّة ووسائل التواصل المباشَر، حتّى أمكَنَنا اليوم أن نطّلع اطّلاعًا مباشَرًا على كلّ شيء تقريبًا. كلٌّ منّا له أن يصل إلى كمّيّة معلومات لا يمكن لأحد التّحكّم بها، ولا حتّى ترتيب محتوياتها كما يجب. فبهذه الطّريقة، انتصر وَهْمٌ آخر، وَهْمٌ قائمٌ على المعرفة المباشَرة السّهلة، وعلى شبكات الترابُط interconnexion، وعلى عالم ظاهريّ (virtuel)، كلّما غاصِ فيه المرء غَرَّقَه في عزلة كُبرى. ولا داعي هنا لأَسوقَ لَكُم مثَلاً واضحًا عن شُبّان يُقيمون صداقات في أربع أقطار الأرض، ولا يعرفون أن يكلّموا المقرَّبين منهم.
وحتّى لو استطعنا أن نستعلم عن كلّ ما يجري في العالم، فنادرون يعرفون أن يجدوا التفسير السّديد لهذه المعلومات، سيّما أنّ أخصّائيّي الإعلام يتلاعبون بها ليَجنوا أرباحًا طائلة. وما يزيدُ الوضعَ تناقضًا وتعقيدًا، هو أنّ هذه الوسائل الجديدة تُضاعف إمكانيّة حرّيّة التعبير لدى الأقلّيّات، ما كان مستحيلاً في العهد الإعلاميّ السالف، حيث تَحكَّمَتْ الدُّوَل والشَّركات الكبرى بالإعلام. مثالاً على ذلك، أنّ المعلومات الوحيدة الصّادقة حول ما جرى في “كوسوفو” خلال الحرب أعطاها للعالم كلّه راهب واحد من دير ديتشاني. أمّا الآن، فالنّاس كلّهم في تواصل مع الناس. والحقّ إنّ مُستخدِمي هذه الوسائل يُستعبَدون لها أكثر فأكثر، ويَبتلعون في جمود تامّ المذاهب والأفكار التي تُقدَّم لهم جاهزة بشكل صوَر يسهل هضمها.
والمصيبة أنّ عالم الإعلام لديه من قوّة الجاذبيّة ما يصعب معه السيطرة على الوقت وتقدير المنفعة الفعليّة المجتناة منه. هذا يتطلّب نضوجًا كبيرًا قد نكتسبه على مدى بضع أجيال، عندما سيشعر الناس بالتُّخمة من المعلومات والصُّوَر، ويجدون الأجسام المضادّة لها anticorps، فلا يأخذون منها إلاّ المفيد. ولكنّنا ما زلنا بعيدين عن هذا النّضوج، ما عدا استثناءات نادرة.