ولأن الإعلان تاريخ للعهد، فالإعلان المدوَّن -الكتاب المقدَّس- هو قبل كلّ شيء تاريخ. فالشريعة والأنبياء والمزامير والنبوءات أمور محبوكة في النسيج التاريخي الحيّ. إن الإعلان الإلهي ليس مجموعة أقوال إلهية وحسب بل هو في الأساس بيان عن الأعمال الإلهية وممرّ لله إلى التاريخ. وهذا الإعلان بلغ أوْجَه عندما تجسَّد كلمة الله وتأنَّس. لكنَّ كتاب الإعلان مصنَّف عن المصير الإنساني أيضاً، لأنه يقص حوادث خلق الإنسان وسقوطه وخلاصه. وبما أن الكتاب يقصّ تاريخ الخلاص فالإنسان ينتمي عضوياً إلى هذه القصة، فيظهره لنا الكتاب في طاعته وثورته العنيدة وفي سقوطه ونهوضه. ويتلخَّص المصير الإنساني كلّه في مصير إسرائيل القديم والجديد الذي هو شعب الله المختار. إن لحدث الاختيار أهميَّة بالغة، لأن شعباً قد اختير وفٌرز عن الأمم الأخرى وصار واحة مقدسة وسط الفوضى الإنسانية. فالله أقام عهده مع شعب واحد وأعطاه شريعته المقدسة. ومن هذا الشعب برز كهنوت حقيقي وإنْ كان كهنوتاً مؤقتاً، ومنه ظهر أنبياء حقيقيون نطقوا بكلمات ملهمَة من روح الله. فكان هذا الشعب مركزاً مقدَّساً وإن كان مركزاً خفيّاً للعالم كلّه، وواحة حبْتنا بها رحمة الله في عالم ساقط وخاطئ وضال وغير مخلَّص. كل هذه الأمور لا تشكِّل حرف الرسالة الكتابية، بل قلبها، فهي لم تكن عملاً بشرياً، بل أتت من الله. لكنها كانت “من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا”. إن الميزات التي أُعطيت لإسرائيل القديم خضعت لهدف أسمى وهو الخلاص الكوني “لأن الخلاص يجيء من اليهود” (يوحنا 4: 22). كونيٌّ هدف الخلاص، لكنه يتمّ عن طريق الفرز والاختيار، عندما يُوجِد الله في وسط السقوط والدمار الإنسانيين واحة مقدَّسة. فالكنيسة أيضاً هي واحة مفروزة لكنها غير منفصلة عن العالم، لأنها ليست ملجأ وحمى فقط، بل حصن أماميّ وطليعة جيش الله.