ويجب أن نتذكر أن الكتيِّب الرئيسي، ولعله الكتيِّب الأوحد، في الكنيسة القديمة عن الإيمان والعقيدة كان تحديداً الكتاب المقدس. ولذلك اعتبر المفسِّرون المشاهير للكتاب المقدس “آباء” بالمعنى البارز . كان “الآباء” معلِّمين بالدرجة الأولى (didascali، doctores)، بل كانوا معلِّمين بمقدار ما كانوا شهوداً (testes). لكن يجب أن نميِّز بين هاتين الوظيفتين، رغم أن كل وظيفة منسوجة مع الأخرى. “فالتعليم” كان مهمة رسولية: “علِّموا جميع الأمم”. وفي هذا الالتزام يتأصل “سلطانهم”: فهو في الواقع سلطان حمل الشهادة. هنا يجب أن نشير إلى نقطتين مهمتين:
أولاً: إلى أن عبارة “آباء الكنيسة” توكيداً واضحاً فيه شيء من الحصرية، لأنهم لم يتصرفوا كأفراد فقط، بل كرجال كنسيين (viri ecclesiastice على حد تعبير أوريجنس المفضّل)، بالنيابة عن الكنيسة وباسمها. فهم الناطقون باسم الكنيسة ومفسِّرو إيمانها وحافظوا تقليدها وشهود حقيقتها وإيمانها ومعلِّمون بارزون (magistri probabiles على حد تعبير القديس فكنديوس) وعلى هذا الأساس يقوم سلطانهم . وهو يرجعنا إلى مفهوم “عرض” الإيمان. أشار G.L.Prestig بحق إلى “أن دساتير الكنيسة الإيمانية انبثقت من تعليمها. وأن تأثير الهراطقة هو الذي جعل الدساتير القديمة موثوقة أكثر مما كانت سبباً في خلق دساتير جديدة. وهكذا كان الدستور النيقاوي الشهير -والذي أصبح أهم دساتير الإيمان- نسخة جديدة عن اعتراف إيمان كان يستعمل في فلسطين. وهناك حدث أكثر أهمية يجب أن نتذكره دائماً وهو أن العمل العقلي الأصيل والفكر التفسيري الحي لم تقدمه المجامع التي أصدرت دساتير الإيمان، بل المعلِّمون اللاهوتيون الذين قدَّموا وفسرَّروا الصيغ الإيمانية التي تبنتها المجامع. فتعليم نيقية، الذي صار موضوع احترام وثقة، يمثِّل أفكار المفكِّرين العمالقة الذين جاهدوا طوال مئة سنة قبل هذا المجمع وطوال خمسين سنة بعده” .