منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   العهد القديم (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   تفسير سفر حبقوق (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=963469)

Mary Naeem 07 - 06 - 2023 01:52 PM

تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168614574000591.jpg




تفسير سفر حبقوق





مقدمة

في سفر حبقوق

1. أصل الكلمة "حبقوق" غير معروف، يرى البعض أنها تعني "المحتضن" أو "المعانق" بينما يربطها Friedrich وDelitxschبالكلمة الأشوريّة "حمبقوق" وهو نبات حديقة(1).
2. واضح من مزموره الوارد في الأصحاح الثالث ومن توجيهاته لرئيس المغنين (حب 3: 19)، أنه كان من سبط لاوي كأحد المغنّيين في الهيكل، أي في فرقة التسبيح، إن لم يكن صاحب دور قيادي بالفرقة .
تاريخ السفر وواضعه:

لا يحمل السفر أي تاريخ، لكن من الواضح أنه كتب في أيّام الملك يهوياقيم بيهوذا (609 - 598)، وإن كان من الصعب تحديد الزمن بدقّة.
ما ورد بالأصحاح الأول (ع 5-6) يخص ما قبل انتصارات الكلدانيّين الأمر الذي جعل بعض النقّاد يرون أن السفر قد سُجل قبل انتصارهم على نينوى عاصمة أشور وسقوطها تحت يدهم، فقد قام الكلدانيّون بثورات ضدّ أشور تجلّت بسقوط نينوى عام 612 ق.م. الأمر الذي رفع من دورهم في العالم في ذلك الحين، وصار لهم مركزًا قياديًا، تزايد بالأكثر بغلبتهم على نخو ملك مصر في موقعة كركليش عام 605 ق.م. (2 أي 35: 20، إر 46: 2). ويعتقد غالبيّة النقّاد أن النبوّة ترجع إلى زمن هذه المعركة.
واضح أن هذا السفر كتب في عصر الكلدانيّين، أولًا لأن الهيكل كان لا يزال قائمًا (حب 2: 20) والخدمة الموسيقيّة تُمارس فيه (حب 3: 19)، ثانيًا لأنه يعلن أن الكلدانيّين يصبحون قوّة مرهبة بين الشعوب أثناء ذلك الجيل (حب 1: 5-6)، وأنهم قد بدءوا فعلًا في قتل الأمم (حب 1: 6، 17).
يرى البعض أن حبقوق النبي كان بعد ناحوم بفترة قصيرة، وأنه كان معاصرًا لإرميا، وإن كانت مدة خدمة الأخير النبويّة أكثر طولًا وفيّاضة .
الكلدانيّون :

كان الكلدانيّون يسكنون كلديا Chaldea جنوب بابل، وهو الجنس الغالب في بابل منذ 721-539 ق.م، شغلوا المناصب الرئيسية القيادية، كما مارسوا العمل الكهنوتي في العاصمة حتى أصبح اسم "كلداني" يُرادف "كاهن بعل مردوخ" كما ذكر المؤرخ هيرودت Herodotus. كان الشعب يعتقدون فيهم كأصحاب حكمة وفهم، كسحرة ومنجمين يعرفون الغيب (دا 1: 4، 2: 2، 4).
سماته:

1. في دراستنا لسفر يونان رأينا الوحي الإلهي قد أفرد السفر لإبراز اهتمام الله بمدينة نينوى عاصمة أشور الوثنيّة، معلنًا محبته لكل البشريّة واشتياقه لخلاص العالم كله، وفي دراستنا لسفر عوبديا لاحظنا كيف تركزت النبوّة ضدّ أدوم بكونه يمثل الإنسان الدموي المحب للقتال والشخص الترابي محب الأرضيّات (أدوم تعني دموي أو أرضي)، أما سفر حبقوق فيكشف عن الكلدانيّين الذين يسبون شعب الله ويذّلونه لأجل تأديبه. دخل حبقوق في حوار مفتوح وصريح مع الله، يسأله عن سرّ سماحه لإذلال هذه الأمّة الشرّيرة الوثنيّة لشعبه وعدم دفاعه عنه. إنه سؤال الأجيال كلها: لماذا يسمح الله لأولاده بالضيقات بواسطة الأشرار؟ إذ كان النبي يسأل بقلب منفتح فالله يُجيب في صراحة ووضوح.
2. يكشف لنا هذا السفر عن مفهوم "كلمة الله" إنها ليست حديثًا منفردًا من الله نحو الإنسان، لكنّها حوار حب مشترك بين الله والإنسان، كلمة الله هي مونولوج حيّ غير منقطع، فيه يتكلّم الله والإنسان يسمع، والإنسان يتكلّم والله بالحب ينصت... كلمة الله هي علاقة الحب الحقيقي بين الله والإنسان...
3. هذا السفر بأصحاحاته الثلاثة يكشف عن سمات النبي أو خادم الرب، وهي:
أ. القلب المفتوح أمام الله، يتعامل معه على مستوى الحوار لا على مستوى الرسميات والشكليات، وإنّما على مستوى الابن الذي يلتقي مع أبيه في دالة البنوة التي تسمو فوق الرسميات...
ب. القلب المفتوح من نحو المخدومين، فإن كان حبقوق قد تألم بسبب الظلم الذي ساد بين شعب الله، لكن حين سقط الشعب تحت التأديب بواسطة الكلدانيّين لم يحتمل
النبي أن يرى شعبه يئن ويتوجع، وانطلق يتشفع في شعبه، أو بالحري في شعب الله.
ج. القلب المملوء فرحًا وتسبيحًا (ص 3)، لو أن حبقوق ركّز كل نظره على الفساد الذي دبّ في الشعب وعلى تأديبات الله لهم لسقط في اليأس خلال المنظور المؤلم، لكنّه وسط الأوجاع كان يرى يد الله الخفيّة تعمل للخلاص، فقدّم تسبحة حمد لله تنعش نفسه بالفرح، فلا تسمح لليأس أو القنوط أن يتسلّل إلى قلبه. الخادم محتاج إلى النظرة المملوءة رجاءً وسط آلام الخدمة وأتعابها.
أظنها سمات ثلاث هامّة في حياة الخادم الحقيقي، متكاملة ومتلازمة: الحديث مع الله بقلب مفتوح، وخدمة الناس بحب داخلي منفتح مهما كانت تصرّفاتهم، والفرح الروحي الداخلي المشبع للنفس.
4. هذا السفر يمس حياة كل مؤمن، ففي الأصحاح الأول إذ يئن النبي بسبب الظلم الذي يسود وسط الشعب إنّما يُشير إلى الفساد الداخلي للنفس، والأصحاح الثاني إذ يئن بسبب متاعب الأمّة الكلدانيّة الغريبة يُشير إلى الحروب الروحيّة الخارجيّة، والأصحاح الثالث حيث مزمور الفرح والتسبيح... كان السفر ينطلق بالمؤمن إلى ما فوق المتاعب الداخليّة والحروب الروحيّة الخارجيّة لتحيا بروح الفرح والتسبيح لله. حقًا إنه يئن ويتوجّع بسبب الضيق الداخلي أو الخارجي لكنّه مع الضيق توجد تعزيات الروح القدس المبهجة للنفس.
5. عرض لنا هذا السفر مشكلة الشرّ وانتهت بنصرة العدل. فالأشرار يعبرون أما الأبرار فيحيون إن كانوا مؤمنين (حب 2: 4). وقد استخدم الرسول بولس "قلب سفر حبقوق" هذا في تعليمه عن الإيمان (رو 1: 17، غلا 3: 11، عب 10: 38).
6. خلال هذا السفر نتلمس شخصية حبقوق النبي كشخص عميق في تفكيره، له خبرته الأدبية المعتبرة، كما يقدّمه لنا "كمصارع مع الله" كقول القديس جيروم.
وحدة السفر:

هاجم بعض النقّاد وحدة السفر متطلّعين إلى السفر كأجزاء منفصلة، كل جزء كتب في وقت يختلف عن الجزء الآخر، أو عصر مختلف، وقد لخص رأي هؤلاء النقّاد والرد عليهم:
1. لما كان ما جاء في (حب 1: 5-6) ينطبق على تاريخ سابق لقيام الكلدانيّين، بينما ما ورد في (حب 1: 13-16، 2: 8 (أ)، 10، 17) يتحدّث عن انتصاراتهم كأحداث ماضية لذا فإن Wellhausen, Gieseberecht رأيا أن (حب 1: 5-11) يمثل نبوّة مستقلّة أقدّم من بقيّة الأصحاح الأول والأصحاح الثاني.
ويعتقد أن Kuenen, Stade أن ما جاء في (حب 2: 9-10) لا ينطبق على الكلدانيّين وأن كاتب هذا الجزء جاء في عصر متأخر.
ويردRaven بأنه يُفترض أن كاتب السفر كله واحد، الحامل السفر اسمه ما لِم يوجد دليل قوي على عكس ذلك. وهنا لا نجد مثل ذلك الدليل. فليس المطلوب هو البرهان على أصالة كل جزء من السفر، إنّما على المعترض أن يُقدّم براهينه.
هذا ومن ناحيّة أخرى فإننا لا نعرف بطريقة إيجابيّة زمن حبقوق النبي بدقّة، وليس لدينا تفاصيل عن الأحداث التاريخية لأيّامه، لهذا فإن مجرد افتراض بأن بعض أجزاء السفر لا تعكس الظروف المحيطة بالنبي افتراض هزيل.
2. تطلّع بعض النقّاد إلى أن ما ورد في الأصحاح الثالث أنه مقتبس من تجميع ليتورجي، وليس من عمل حبقوق النبي، ودليلهم على ذلك أن ما ورد لا يُناسب الظروف المحيطة به. ويرد Raven على ذلك بأن الأصحاح حمل عنوانًا "صلاة حبقوق" فما ورد ليس إلا صلاة ولا يلتزم أن تعكس الأحداث المعاصرة كبقيّة السفر.
ومع هذا ففي حديثنا عن سمات السفر رأينا السفر يمثل وحدة واحدة متكاملة في الفكر الروحي الإيماني.
أقسامه:

1. سؤال حول تأديب الله شعبه
[ص 1].
2. سؤال حول معاقبة الكلدانيّين
[ص 2].
3. مزمور حمد لله
[ص 3].


Mary Naeem 07 - 06 - 2023 02:28 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
سؤال حول تأديب الله شعبه

في صراحة وبدالة يسأل حبقوق النبي الله عن الظلم الذي ساد وسط شعبه، فقد أحاط الأشرار بالبار وأساءوا إليه بظلمهم حتى جمدت الشريعة وصدرت الأحكام جائرة. والعجيب أن الأشرار يعيشون في راحة وبصحة بينما الأبرار في ضيقة وحرمان... وكأن الذي قد ترك الأرض (حز 8: 12). وجاءت الإجابة لحبقوق النبي واضحة وصريحة أن الله وإن تمهّل إنّما ليعطي الأشرار فرصة، لكنّه يُرسل لهم أداة تأديب قاسية إن لم يرجعوا عن شرّهم، هذه الأداة قد تكون أمّة وثنيّة تسبيهم وتذلّهم كالكلدانيّين:


1. تساؤل حبقوق النبي:

في جسارة يصرخ النبي إلى الله، قائلًا أنه يدعوه وهو لا يسمع، يصرخ إليه مرّة ومرّات من أجل الظلم الذي ساد الشعب وهو لا يُخلّص المظلومين، فتحوّل شعب الله إلى بؤرة ظلم وجور واغتصاب وخصام، ليس من يريد أن يسمع للشريعة ولا من يقبل حكم عدل، إنّما حوّط الأشرار بالصدّيق ليكتموا أنفاسه ويخرجوا الحكم حسب هواهم.
"حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع؟!
أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص؟!
لِمَ تريني إثمًا وتبصر جورًا، وقدّامي اغتصاب وظلم،
ويحدّث خصام وترفع المخاصمة نفسها؟!
لذلك جمدت الشريعة، لا يخرج الحكم البتّة،
لأن الشرّير يُحيط بالصدّيق، فلذلك يخرج الحكم معوجًا" [2-4].
في عتاب ودّي يقول: "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع؟!"، إذ لم يكف النبي عن دعوة الرب والصراخ إليه إن لم يكن باللسان فبالقلب والدموع بسبب مرارة ما بلغ إليه الشعب بسبب ظلم الأشرار، قارعًا أبواب مراحم الله بلسانه وقلبه ودموعه، مازجًا دموعه بدموع المظلومين وتنهّداته بتنهّداتهم!
في كل جيل يقف أولاد الله مندهشين بسبب ما يبدو على الأشرار الظالمين من نجاح، فيقولون مع داود النبي "قد رأيت الشرّير عاتيًا وارقًا مثل شجرة شارقة ناضرة، عبر فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد" (مز 37: 35-36). لقد بلغت مرارة نفس إرميا بسبب ما رآه في شعبه من فساد وظلم أنه قال: "يا ليت ليّ في البريّة مبيت مسافرين فأترك شعبي وانطلق من عندهم" (إر 9: 2)، وإن كان إرميا في حبه لشعبه لم يتركهم بالرغم ممّا عاناه من ضيق على جميع المستويات.
نعود لكلمات حبقوق النبي لنجد فيها كشفًا عن شخصه، فهو رجل الله الذي لا يطيق الظلم، فيتحدّث مع إلهه في حوار مفتوح بلا كلفة ولا رسميّات أو مجاملات أو شكليّات، إنّما يتحدّث من واقع أنّات قلبه التي لا تنقطع ودموعه التي لا تجف. هذه هي صورة إنسان الله -كاهنًا أو من الشعب- لا تنقطع صلواته ليلًا ونهارًا بالشفتين، كما بالقلب والعمل... يصرخ لكي ينزع الله الفساد والظلم عن البشريّة الساقطة، فيُقيم كل نفس مقدّسة له. لذا يسأل ويطلب ويصرخ بلا انقطاع وفي غير يأس، واثقًا أن الله قادر أن يعمل! هذا وقد عرف النبي سرّ شرّهم أنه يكمن في الانحراف عن الوصيّة الإلهيّة أو الشريعة، إذ يقول "جمدت الشريعة، لا يخرج الحكم البتّة، لأن الشرّير يُحيط بالصدّيق فيخرج الحكم معوجًا" [4]. فالشريعة التي تلهب القلب نارًا وتهبه حياة تصير جامدة بلا فاعليّة إن أحاط الأشرار بالصدّيق وأفسدوا فكره من جهة الوصيّة.
إن كان رجال الله في كل العصور صرخوا إلى الرب من أجل ما يرونه في الأشرار الظالمين كعابثين في الأرض، بينما يعيش الأبرار في ضيق ومرارة، لكنهم إذ قدّموا أفكارهم وقلوبهم منفتحة أمام الرب ازدادوا في عيني الله كرامة، أما من ينظر هذا الحال ويستسلّم لأفكار الشك من جهة رعاية الله وتدبيره للعالم فتُصاب نفسه بمرض.
وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن الكتاب المقدس يُقدّم المزمور السابع والثلاثين كعلاج مناسب لمن أُصيبت نفسه بهذا المرض. في اختصار يؤكّد هذا المزمور أن الأشرار يعيشون كالعشب على هامش السطح، يظهرون ناجحين في شتاء هذا العالم، لكن الصيف قادم فيجفّون ويحترقون إذ لا جذور لهم في أعماق التربة.
2. التأديب بالكلدانيّين:

جاءت إجابة الرب على تساؤل النبي هكذا: "انظروا بين الأمم وابصروا وتحيّروا حيرة، لأني عامل عملًا في أيّامكم لا تصدّقون به إن أُخبر به: فهأنذا مقيم الكلدانيّين..." [5-6].
حقًا إن الله يصمت زمانًا لا تجاهلًا لما يحدُّث ولا لعدم اهتمام من جانبه، إنّما ليعطي فرصة لرجوع دون تأديب من جانبه، فإن لم يرجع الإنسان عن شرّه يقوم الرب نفسه بالتأديب، مستخدمًا كل وسيله للبنيان.
أ. إن الله عامل عملًا في أيّامهم لا يصدّقون به إن أُخبر به... فهو يطيل أناته، لكنّه متى أدّب يُقدّم درسًا نافعًا حتى وإن كان قاسيًا. وكما جاء في سفر التثنية: "ويقول جميع الأمم: لماذا فعل الرب هكذا بهذه الأرض؟ لماذا حموّ هذا الغضب العظيم؟ فيقولون: لأنهم تركوا عهد الرب إله آبائهم" (تث 29: 24-25).
\وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يكن الله يقصد أن يعاقب بقدر ما كان يقصد إصلاحهم مستقبلًا... الله صالح ومحب، ليس فقط عندما يهب عطايا بل وعندما يؤدّبنا أيضًا، فإنه حتى تأديباته وعقوباته هي من قبيل جوده، ومظهر عظيم من مظاهر عونه لنا]. كما يقول إن كان الله قد طرد آدم من الفردوس، إنّما لكي بطرده يردّه إليه... وهكذا إن كان الله سمح للشعب بالأسر إنّما ليبعث فيهم الشوق إلى الحريّة الداخليّة والحنين لا إلى الرجوع إلى أورشليم الأرضيّة فحسب وإنّما العليا أيضًا.
ب. يقول: "هأنذا مقيم الكلدانيّين"، فهو سيّد التاريخ وموجَّههُ، يستخدم حتى الأشرار لتحقيق خطّته الإلهيّة الخيّرة للبشريّة. إن الكلدانيّون بحبهم للاغتصاب سبوا الشعب، لكن بسماح إلهي لأجل توبة الشعب، وكأن الله أقام الكلدانيّين خصيصًا لهذا العمل.
ج. يُشير الكلدانيّين إلى عدوّ الخير الذي نسلم له أنفسنا بأنفسنا عبيدًا بسبب خطايانا ويحمينا الرب منه مرّة ومرّات حتى لا نسقط تحت مذلّته، لكنّنا إذ نصر على الخضوع له يتركنا الرب تحت يديه لتأديبنا. بهذا الروح يطلب القدّيس بولس الرسول من أهل كورنثوس أن يتركوا الشاب الذي سقط مع امرأة أبيه مسلّمًا للشيطان أن يُسلّم للتأديب، قائلًا: "باسم ربّنا يسوع المسيح إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوّة ربّنا يسوع المسيح أن يُسلّم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 4).

وقد جاءت سمات أمّة الكلدانيّين هنا مطابقة لسمات عدوّ الخير وعمله ضدّنا:
أولًا: "أمّة مرّة" [6]

عدوّ الخير ليس كائنًا فردًا لكنّه أمة، أي مملكة يتزعّمها إبليس كملك له رؤساء وسلاطين وقوات (أف 6: 12)، له ملائكته وجنوده (مت 25: 41)، وهي مملكة مرّة تقدّم من عنديّاتها ما لها أي المرارة، تُسرّ وتفرح بمصائب الآخرين وهلاكهم، غايتها الهدم لا البنيان.
ثانيًا: قاحمة:

كان الكلدانيّين موضوع مرارة كل الأمم المحيطة بهم، لا يعرفون الملاطفة ولا عهود السلام بل الهجوم والمقاتلة. بهذا كانوا أمّة قاحمة تنقض على الآخرين لتأسرهم وتذلّهم. هكذا إبليس بكل ملائكته يقتحمون أبواب الإنسان لاستعباده وإذلاله، ليعمل لحسابهم. إنهم يتربّصون له ليقتحموا بسرعة اللحظات التي فيها تنفتح أبواب الحواس أو العواطف، فيهجموا إلى الداخل ليعلنوا مملكتهم فيها. لهذا يصرخ المرتل: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيّ" حتى لا يقتحم العدوّ حياته.
ثالثًا: سالكة في رحاب الأرض:

كانت أمّة الكلدانيّين تجول في كل موضع لتستولي على شعوب وممالك بلا عائق، تجول كما في الأرض كلها لتلتهم الجميع، لكنّها لا تقدر أن ترتفع إلى فوق لتذل من هم قد ارتفعوا عن الأرض. هكذا يرى عدوّ الخير أن الأرض كلها قد انفتحت قدّامه، يسلك في رحابها، حتى دُعي برئيس هذا العالم أو أركانه.
حدود عدوّ الخير هي "رحاب الأرض"،
فهو كما يقول القديس جيروم: [كالحية يزحف على الأرض برأسه وذيله وبقيّة جسمه، ملاصق للأرض تمامًا. إنه يلتهم التراب، فمن كان منّا أرضًا أو ترابيًا صار مأكلًا له، أما من ارتفع بقلبه إلى السماء ليمارس الحياة العلويّة دون أن تسحبه محبّة الأرضيّات فلا يقدر العدوّ أن يقتنصه!
رابعًا: تملك مساكن ليست لها:

كان الكلدانيّين يعتدون على أموال الغير ونفوسهم، حاسبين أن كل شيء هو لهم وحدهم، من حقّهم أن يغتصبوا ويملكوا بلا عائق، ماداموا أصحاب القوّة والسلطان. هكذا يسطو عدوّ الخير على البشريّة التي ليست من عمل يديه ولا هي ملكه، بل هي ملك ذاك الذي "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3). طبيعة عدوّ الخير السطو على ما لله ليقيم مسكنه ومملكته في القلب الذي أوجده له ليكون هيكلًا مقدسًا له.
لقد عبّر إرميا النبي عن هذه السمة الشيطانيّة بالمثل القائل: "حجلة تحتضن ما لم تبض، مُحصّل الغنى بغير حق، في نصف أيّامه يتركه، وفي آخرته يكون أحمق" (إر 17: 11).
ويفسر العلامة أوريجانوس هذا المثل قائلًا: [إن الحجلة وقد عرفت كطائر ماكر تدور حول قدميّ الصيّاد لينشغل بها حتى تطمئن أن صغارها قد هربوا، وعندئذ تطير فلا يأخذ الصيّاد الصغار ولا أمهم، بهذا تشبه الشيطان الذي يشغل ذهن الإنسان بالأرضيّات فلا ينال الأرضيّات ولا السماويات. هذا الحجلة غالبًا ما تحتضن بيضًا ليس لها، وعندما يفرخ البيض يبقى الصغار معها حتى تأتي الأم الأصليّة فتُعطي صوتًا يفهمه الصغار فيتركون الحجلة المخادعة ويرجعون إلى أمهم. إنها صورة حيّة لما حدث، إذ احتضن إبليس البشريّة كصغار له وأغواها بخداعاته، لكن في نصف أيّامه جاء السيّد المسيح يُعطي صوت محبّته معلنًا إيّاه عمليًا على الصليب، مجتذبًا البشريّة المخدوعة لترجع إلى خالقها الحقيقي، فخسر إبليس ما اقتناه بدون حق، أما في آخر الدهور فيكون أحمقًا إذ يهلك تمامًا في نيران جهنم.
إذ كان إبليس كالكلدانيّين ملكوا مساكن ليست لهم أو كالحجلة التي احتضنت ما لم تبض فإنه يخسر كل شيء حتى نفسه خلال الصليب الذي ردّ المؤمنين إلى خالقهم ومخلّصهم والذي أدان إبليس وكل جنوده وقد رفعه من الوسط مسمّرًا إيّاه بالصليب، إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 15).
خامسًا: هائلة ومخوفة:

عدوّ الخير مرهب ومخيف للإنسان المجرّد، أما المختفي في المسيح يسوع الذي "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2)، فلا يستطيع أن يرهبه بل يرتعب هو منه. لنختفِ في ذاك الذي يقدر وحده "أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته" (مت 12: 19). إن كان العدوّ قويًا فقد ربطه السيّد بالصليب وسحب منه غنائمه التي هي البشريّة، وصار الرب بنفسه قائد المعركة الروحيّة.
يقول الأب ثيوفان الناسك: [اعلم أن أعداءنا وكل مكائدهم في قبضة ربّنا يسوع المسيح، قائدنا الإلهي، الذي تُحارب أنت من أجل مجده وعظمته. وإذ يقودك في المعركة بذاته، فهو بالتأكيد لا يسمح باستخدام العنف ضدّك، ولا يشاء أن تكون مغلوبًا من العدو، ما لم تمل أنت إلى جانبهم بإرادتك].
سادسًا: من قبل نفسها يخرج حكمها وجلالها:

أمّة الكلدانيّين مستبدّة برأيها، لا تخضع لقانون سوى هواها، وعدوّ الخير في تعامله معنا لا يحكمه سوى هواه، فالنقاش معه غير مُجدٍِ. لهذا ينصحنا آباء الكنيسة ألاَّ نعطي أذنًا لكلماته ولا ندخل معه في حوار، لأنه حواره مملوء خداعًا وغير بنّاء.
سابعًا: خيلها أسرع من النمور:

في هذا الأصحاح يُقدّم لنا الوحي الإلهي صورة حيّة واقعيّة لبشاعة العدوّ الحقيقي، إبليس، الذي يبذل كل طاقاته ليستعبدنا:
فمن جهة سرعة حرّكته في الافتراس أسرع من النمور،
وفي دهائه يعمل في الظلمة أعنف من ذئاب المساء،
دائرة عمله بلا حدود، منتشر في كل موضع ينصب شباكه،
إمكانيّاته جبّارة، قادر أن يأتي من بعيد لينقض على فريسته من حيث لا نتوقع،
قدرته على الاغتصاب والهرب كالنسر الذي يخطف الفريسة ويطير بها،
دستوره هو شريعة الظلم بلا رحمة ولا تفاهم،
في طبيعته حيواني مفترس وجهه إلى قدام كالوحوش،
مسبيّوه كالرمل بلا عدد،
يذل الملك ويهزأ بالرؤساء، قتلاه أقوياء،
يُحطّم الحصون ويكوّمها كتراب يستخدمه لحساب مملكته،
أثيم بطبيعته.
والآن نتحدّث عن هذه السمات في شيء من التفصيل، فمن جهة سرعة حرّكته في الافتراس كما قلنا أسرع من النمور.
فهو سريع الحرّكة، مملوء مكرًا ودهاءً، يقتنص كل فرصة لاصطياد النفس، مترقّبًا أقل إهمال أو تراخي لسحب النفس إلى شبكته. والمؤمنون بدورهم يقظون ينتهزون كل فرصة للنمو والتمتّع بالإكليل... الحياة الروحيّة في حقيقتها انتهاز فرص، العدوّ ينتهز الفرصة والمؤمن ينتهز الفرصة. إنه صراع روحي مستمرّ لبلوغ كل منهما غايته.
يمكننا تلمّس ذلك من كلمات القدّيس أغناطيوس الأنطاكي الذي أسرع بالكتابة إلى أهل رومية ليوقف خطّتهم التي وضعوها لإنقاذه من الاستشهاد، إذ حسب ذلك محبّة لكن في غير أوانها... حسب استشهاده فرصة قد لا تتكرّر فلماذا يحرمونه منها؟!
إنه يقول: [أطلب إليكم ألاَّ تظهروا ليّ عطفًا في غير أوانه، بل اسمحوا ليّ أن أكون طعامًا للوحوش الضارية، التي بواسطتها يوهب ليّ البلوغ إلى الله. إنني خبز الله، اتركوني أطحن بأنياب الوحوش لتصير قبرًا ليّ، ولا تترك شيئًا من جسدي، حتى إذا ما متّ لا أتعب أحدًا... توسّلوا إلى المسيح من أجلي حتى أعد بهذه الطريقة لأكون ذبيحة لله... ليتني أتمتّع بالوحوش الضارية التي أُعدّت ليّ، فإنني أُصلي أن يكون لها شغفًا أكثر لتنقض عليّ، وإنني سأُحرّضها لتفترسني سريعًا].
ثامنًا: أحّد من ذئاب المساء:

إن كان إبليس يتحرّك في النهار كالنمر في خفّة شديدة مع دهاء، ففي المساء لا يتوقّف إنّما يخرج كذئاب المساء ليخطف. إنه لا يعرف الراحة نهارًا ولا ليلًا، لذا يليق بنا المثابرة بلا توقّف... حتى في لحظات النوم تقول نفوسنا: "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش 5: 2).
يرى الأب ثيوفان الناسك أن المؤمن ليس فقط يُثابر متحفظًا من ضربات الشيطان، إنّما بقوّة الروح يُثير الحرب ضدّه ليغتصب منه كل موقع سبق فاحتله داخل القلب، إذ يقول: [إن أردت يا أخي أن تنال انتصارًا سريعًا وميسورًا على أعدائك، عليك أن تشن حربًا بلا توقّف، وبشجاعة ضدّ كل أوجاعك... لذا يجب أن تكون محاربتنا الروحيّة مستمرّة بلا توقّف، ومدعّمة باليقظة وشجاعة النفس، وهذه يمكن الوصول إليها بسهولة إن طلبتها كهبة من الله. فاستمر إذن في المعركة بلا تردّد].
إنه كذئاب المساء يعمل في الظلمة ليخفي حيله ومكائده (أف 6: 11).
وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [يُحاربنا هذا العدوّ لا بطريق مكشوف وواضح وإنّما بالمكايد... فلا يقترح علينا الخطايا بألوانها الحقيقيّة... وإنّما يُقدّمها بثوب آخر ليجعل حديثه مقبولًا ومتنكر].
تاسعًا: فرسانها ينتشرون، يأتون من بعيد:

ينصب عدوّ الخير فخاخه في كل موضع، باذلًا كل طاقاته لاصطياد النفوس حتى وإن كان الإنسان في موضع مقدّس. لقد تجرّأ فحارب السيّد المسيح على جناح الهيكل، وقد سمح له الرب بذلك ليُحذرنا، مؤكدًا لنا أن العدوّ يُحارب في كل موضع، في البيت كما في العمل، في الكنيسة كما في الشارع، في المخدع حيث الصلاة الخاصة وأثناء العبادة الجماعيّة. أينما وجدنا يتسلّل نحونا لعلّه يجد موضعًا في قلوبنا.
أما كونه يأتي من بعيد، فإنّما يعني أنه يُحاربنا من حيث لا نتوقع. لذا يليق بنا أن تكون لنا بصيرة روحيّة متّقدة، تدرك أسرار الحرب الروحيّة وتعرف حيل إبليس وخداعاته.
عاشرًا: فرسانها يطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل:

يقول العلامة أوريجانوس: [إن النسر يستطيع أن يرى فريسته وهو على بعد شاهق، فبسرعة خاطفة ينقض عليها ويطير، ولا يقدر أحد أن يسحبها من مخالبه. هكذا فرسان إبليس أو شياطينه تراقب النفس لتعرف متى تنقض عليها بسرعة فائقة وخلال المفاجأة المذهلة ينحدر الإنسان إلى الخطيّة في فترة قصيرة ليجد نفسه قد خسر الكثير. إن كان البناء يحتاج إلى زمن طويل فالهدم يتم في لحظات بسيطة، وإن كانت الفضائل المقدسة تتطلب جهاد طويل في الرب فإن هدمها يتحقّق في لحظات إهمال بسيطة].
وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [بإن ضربة سيف خاطفة لا تستغرق إلا لحظات تجرح الإنسان ليُعالج منها ربّما لسنوات وقد تقضي على حياته. فالعدوّ يضرب بسيفه في لحظات إهمالنا... لكن هذه اللحظات تفسد جهاد سنوات طويلة!].
حادي عشر: يأتون كلهم للظلم [9]:

شريعة إبليس أو دستوره الذي يعمل به هو "شريعة الظلم"، لا يطلب إلاَّ حرماننا من الخير الأعظم، وسحبنا عن الحياة السماويّة حتى لا نرتبط بالشريعة الإلهيّة أو الحق.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن الشياطين: [إنها لا تُصارع لتنال شيئًا، إنّما لكي تُفسدنا نحن... فالشيطان يبذل كل طاقته لكي يطردنا من السماء].
ثاني عشر: منظر وجوههم إلى الأمام:

ربّما يقصد بهذا أنهم ليسوا كالبشر لهم الوجه المرتفع الذي يطلب السماء، وإنّما لهم سمة الوحوش الضارية التي تمتد بوجوهها لتفترس بلا حنو ولا شفقة!
ثالث عشر: يجمعون سبيًا كالرمل:

يصطاد إبليس النفوس بلا عدد، ويسبيها كالرمل، فقد لقب بـ"رئيس هذا العالم" و"رئيس سلطان الهواء الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أف 2: 2).
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لماذا يدعو (الرسول) الشيطان برئيس العالم؟ لأنه قد التفت البشريّة كلها تقريبًا حوله، وصاروا عبيدًا له بإرادتهم ومحض اختيارهم].
رابع عشر: تسخر من الملوك، والرؤساء ضحكة لهم [10]:

في كل مرة يسقط الشعب تحت السبيّ يُذل الملك ويصير العظماء موضوع سخرية وهزء أمام المنتصرين، فعندما سبي نبوخذ نصر أورشليم ومدن يهوذا أمر بقتل أولاد الملك صدقيا قدام عينيه، وفقأ عيني الملك وحمله إلى بابل للسخرية به. هكذا إذ يسقط مؤمن تحت يديّ عدوّ الخير بسبب استهتاره أو تراخيه يسخر به.
إن كنّا في المسيح يسوع ملك الملوك صرنا ملوكًا روحيين (رؤ 1: 6، 5: 10)، فإن إبليس يبذل كل طاقاته ليأسرنا مستهينًا بنا.
في دراستنا لسفر هوشع رأينا أن الملك يشير للإرادة الإنسانيّة التي تملك على الإنسان لتُدير كل أموره، والرؤساء يشيرون إلى طاقات الإنسان ومواهبه... فإنه إذ يأسر العدوّ إنسانًا يسخر من إرادته البشريّة، إذ يفقده إيّاها ليعيش بقيّة حياته كعبد ذليل يفعل إرادة سيّده الجديد (الشيطان)، ويبدّد مواهبه وطاقاته (الرؤساء) ليجعل منهم هزءًا وسخرية! عدوّ الخير يفقد الإنسان كل شيء: إرادته ومواهبه وطاقاته حتى جسده أيضًا، وأخيرًا يحمل معه إلى حيث الهلاك الدائم.
خامس عشر: تضحك على كل حصن:

لم يكن للحصون أن تقف أمام أمّة الكلدانيّين، وهكذا أيضًا لا يستطيع أحد أن يتحصّن لا بخبراته الطويلة ولا بقدراته ومواهبه ولا بمعرفته الفكريّة العقلانيّة ولا بكرامته أو نوعيّة عمله... إذ يضحك إبليس على هذه الحصون، إنّما يبقى حصن واحد إن تمنعنا لا يقدر على الاقتراب إليه، ألاَّ وهو السيّد المسيح صخر الدهور.
يقول القديس جيروم: [إن السيّد المسيح هو الصخرة (1 كو10: 4) الملساء التي لا تقدر الحيّة أن تزحف عليها، فمن يتحصّن فيّه يحتمي من العدو، الحيّة القديمة].
سادس عشر: تكوّم التراب وتأخذه:

إمعانًا في الإذلال يهدم العدوّ الحصن الشامخ ويحوله إلى تراب ثم يعود العدوّ ويستخدم التراب لحساب مملكته أي لصالحه. أقول إنها صورة مرّة لعمل إبليس في حياة المأسورين بواسطته، يحول حياتهم إلى تراب، إذ يسحب قلوبهم إلى الأرض، ويفسد طبيعتهم... وعندئذ يستخدم هذا التراب كأوان خزفيّة تحمل سماته لاصطياد الآخرين.
إن كان العدوّ قد سقط من السماء، فهو لا يكف عن أن يبذل كل طاقاته لا ليحرم ضحيّته من الحياة السماويّة وينحدر به إلى محبّة الأرضيّات، وإنّما يستخدمه أيضًا لإسقاط الآخرين وحرمانهم من السموات التي في داخلهم.
سابع عشر: تتعدّى روحها فتعبر، هذه قوّة إلهها [11]:

تتعدّى روحها أو تتغيّر إلى ما هو أردأ أو أشر، فتعبر من شر إلى شر، ومن إثم إلى إثم... متطلّعين إلى إثمهم واغتصابهم كقوّة إلههم الذي يهبهم النصرة على الشعوب. لقد حسبوا أن آلهتهم أقوى من إله إسرائيل، فازدادوا تمسكًا بوثنيّتهم واعتزازًا بها.
3. حبقوق يرق لشعبه:

حبقوق النبي الذي امتلأ غيرة على مجد الله فصار يصرخ ويئن متسائلًا: لماذا يسكت الله على الأشرار المحيطين بالصدّيق يفسدون فكره وحياته، إذا به يرى بروح النبوّة سقوط الشعب اليهودي المتّسم بالظلم في ذلك الحين يسقط تحت عبوديّة الكلدانيّين المرّة فلم يحتمل. وبقدر ما اتّسم النبي بانفتاح قلبه نحو الله يحدّثه بصراحة ودالة في غير رسميّات أو شكليّات اتسم أيضًا بالحب لشعبه فلم يحتمل أن يراه متألمًا بواسطة أمّة شرّيرة وقاسية، حتى وإن كان هذا بسماح إلهي للتأديب، إنه لا يحتمل أنّات إخوته ومرارتهم، وكأنه يقول مع إرميا النبي: "من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة" (إر 8: 21).
حقًا، الله هو الذي يسمح بتأديب أولاده على خطاياهم، لكنّه وهو يؤدّب لا يقبل أن يشمت أحد فيهم، بل يُطالبنا أن نئن مع أنّاتهم ونصرخ لأوجاعهم وننسحق مع انسحاقهم. لقد أدّب الله يهوذا بالسبيّ البابلي وإذ وقف بنو أدوم شامتين وبّخهم قائلًا: "يجب أن لا تنظر إلى يوم أخيك يوم مصيبته، ولا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم، ولا تفغر فمك يوم الضيق" (عو 12).
إذ يرق حبقوق لشعبه الساقط تحت نير الكلدانيّين يُعاتب الله قائلًا: "ألست أنت منذ الأزل يا رب إلهي قدوسي؟!" [12]. وكأنه يقول: كيف تحتمل يا رب أن ترى الكلدانيّين الأمّة الشرّيرة تنهب شعبك وتظلمهم وأنت صامت، مع أنك القدوس الذي لا يطيق الشر؟! أنت إلهي الملتزم بسلامي وطمأنينتي لا من جهة نفسي فحسب وإنّما من جهة الشعب كله أيضًا. إن كنت إلهي المهتم بيّ أفلا تهتم أنت بشعبك؟!
ما أجمل مشاعر النبي ففي لحظات العتاب المرّة ينادي الرب "إلهي، قدوسي"، وكأنه في ضيقة نفسه يجد الرب ملاصقًا له، يهتم به ويحتضنه منسوبًا إليه، فهو إلهه هو وقدوسه هو!
لنعاتب الرب بكل مرارة، لكن في عتابنا نرى التصاقه بنا ونسبه إلينا، فنلتصق بالأكثر به ونرتمي في أحضانه مؤمنين بعمله معنا وفينا.
حينما ينفتح قلبنا بالحب نحو الآخرين ونشفع فيهم أو نطلب عنهم يصير الرب منسوبًا لنا، إذ يُلاصق المحبّين ويفخر بأولاده المُتسعة قلوبهم!
يُكمل النبي عتابه، قائلًا:
"لا نموت، يا رب للحكم جعلتها، ويا صخر للتأديب أسستها" [12].
يقول النبي: "لا نموت"، فقد أدرك أن الرب إلهه وقدوسه الأزلي في محبته لشعبه يسكب سماته عليهم، إذ هو أزلي فوق حدود الزمان يهب أولاده "الخلود"، لن يموتوا... وإن كانوا في شرّهم يستحقون الموت، لكن في الرب الحيّ يحيون. يقول السيّد الرب: "إنيّ أنا حيّ فأنتم ستحيون" (يو 14: 19). لقد أسلمهم للكلدانيّين للتأديب، لكن كما يقول المرتل: "تأديبًا أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني" (مز 118: 18).
الله وهب الكلدانيّين السلطة أن يؤدّبوا الشعب، وأن "يغتنموا غنيمة وينهبوا نهبًا" (إش 10: 6)، لكن ليس سلطة بلا حدود بل بالقدر الذي يرى الله فيه خلاص شعبه، لذا يقول النبي: "يا رب للحكم جعلتها، ويا صخر للتأديب أسستها"، فحدود السلطان هو أن يكون عملهم واغتصابهم للتأديب والحكم وليس للهلاك. لهذا عندما سأل الشيطان الرب أن يسمح له بمضايقة أيوب، أجابه الرب: "ها هو في يديك ولكن احفظ نفسه" (أي 2: 7). يقول الرب للبحر: "إلى هنا تأتي ولا تتعدّى، وهنا تخم كبرياء لججك" (أي 38: 11)، فهو يسمح له يتدفّق ولكن إلى حدود وضعها له.
وبالنسبة لنا إن كان الله يسمح للشيطان بمهاجمتنا لكن في حدود، بهجومه نغلب إن كنا يقظين وشاكرين، فتتحوّل الحرب إلى غلبة ونصرة، وإن تراخينا وأهملنا فلا يكون الشيطان غلة أذيّتنا بل نحن السبب،
وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [قد يقول قائل: ألم يؤذ آدم إذ أفسد كيانه وأفقده الفردوس؟ لا، وإنّما السبب في هذا هو إهمال من أصابه الضرر، وعدم ضبطه لنفسه وجهاده. فالشيطان الذي استخدم مكائد قويّة مختلفة لم يقدر أن يخضع أيوب، فكيف استطاع بوسيلة أقل أن يُسيطر على آدم؟!].
في الوقت الذي يعلن فيه النبي طمأنينته أن الله إلهه القدوس الأزلي لن يسمح للشعب بالموت، إنّما يستخدم الكلدانيّين للتأديب، يعود فيعاتب:
"عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا نستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرّير من هو أبر منه؟!" [13].
يعلم النبي حبقوق ما قاله داود المرتل: "لأنك أنت لست إلهًا يُسر بالشر، لا يُساكنك الشرّير" (مز 5: 4)، ويدرك ما أدركه إرميا أن الله يبغض الرجس (إر 44: 4)، لكنّه كان في حيرة كيف يصمت أمام ما يفعله الكلدانيّون الأشرار بشعبه ويتطلّع إلى الظلم فقد ابتلع الشرّير من هو أبرّ منه. وهنا لا يقول ابتلع "البار" لأن الشعب كان شريرًا، ولكن إن قورن بالكلدانيّين فهم أبر منهم.
لعلّ كلمة "تنظر" أو "تتطلّع" هنا لا تعني مجرد الرؤية، فالله عالم بكل شيء، وليس شيء مخفيًا عنه، لا يحتاج أن ينظر ليرى، وإنّما يقصد بذلك أنه يرضى على تصرّفاتهم وينجح طرقهم. فنظرة الله إلينا إنّما تعني اهتمامه بنا وإنجاحه طريقنا.
بدأ النبي يبرز سمات هؤلاء الكلدانيّين الأشرار الذين أنجح الرب طريقهم إلى حين:
"وتجعل الناس كسمك البحر كدبّابات لا سلطان لها،
تطلّع الكل بشصها، وتصطادهم بشبكتها، وتجمعهم في مصيدتها.
فلذلك تفرح وتبتهج.
لذلك تذبح لشبكتها، وتبخر لمصيدتها،
لأنه بها سمن نصيبها، وطعامها مسمّن (من الصفوة - الترجمة السبعينيّة)
أفلأجل هذا تفرغ شبكتها ولا تعفو عن قتل الأمم دائمًا" [14-17].
لقد تطلّعوا إلى الشعوب الأخرى كسمك في البحر بلا مالك من حقّهم أن يصطادوا ما يشاءون ليأكلوا ويشبعوا، وكدبّابات لا سلطان لها بلا ثمن يفعلون بها ما يريدون. إنهم يفرحون ويبتهجون حينما يأتي الشص بسمكة أو تجمع شباكهم الكثير ويسقط الناس في مصيدتهم... يفرحون بالصيد البشري مقدّمين ذبائح وثنيّة وبخورًا لآلهتهم الواهبة لهم هذا الصيد الثمين. كأن النبي يقول للرب: أتقبل أن يكون شعبك سمكًا بلا ثمن في شباك وثنيّة، يلتهمه الأشرار مقدّمين ذبائح شكر للأصنام وبخورًا أمام الأوثان؟! إن شعبك - بالرغم مما بلغ إليه من انحراف - لكنّه ثمين في عينيك، فكيف تتركه صيدًا لهؤلاء الكلدانيّين؟!
تفرح أمّة الكلدانيّون بصيد هذا الشعب أكثر من اصطيادها أي شعب آخر، إذ يقول النبي: "لأن بهما (بالشص والشبكة) سمن نصيبها وطعامها مسمن"، أو كما يقول في الترجمة السبعينيّة "طعامها من الصفوة Choicest"، فهي لا تفرح إلا بالصيد المختار. هكذا يصوّب إبليس سهامه بالأكثر على أفضل المؤمنين ليسحبهم من إيمانهم
وكما يقول القديس جيروم: [لا يهتم الشيطان بغير المؤمنين إذ هم في الخارج... إنّما يريد أن يفسد كنيسة المسيح ]
والعجيب أن العدوّ إبليس كالكلدانيّين كلما سمن نصيبه ازدادت شراهته والتهب قلبه بالأكثر لاصطياد آخرين، إذ قيل: "أفلأجل هذا تفرغ شبكتها ولا تعفو عن قتل الأمم دائمًا.


Mary Naeem 08 - 06 - 2023 04:28 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168614574000591.jpg



معَاقبَة الكلدانيّين





إذ سأل النبي الرب عن موقفه تجاه الكلدانيّين الذين استخدمهم الرب كعصا غضبه لتأديب شعبه فإذا بهم يُحسبون أنهم غالبون الأمم بقوتهم واقتدارهم كحق لهم... قدّم له الرب إجابة مطمئنّة:





1. ترقب النبي إجابة الرب:

"على مرصدي أقف، وعلى حصن أنتصب، وأُراقب لأرى ماذا يقول ليّ، وماذا أُجيب على شكواي؟!" [1].
كثيرًا ما تدور في أفكارنا تساؤلات يليق بنا لا أن نعرضها على الرب فحسب، وإنّما نقف كما على مرصد نترقب إجابة الرب علينا، نقف كما على حصن مطمئنّين بإيمان وثقة أكيدة أن الله محب البشر لا يخفي أسراره عنّا، ولا يعمل إلا ما هو لبنيانا. هكذا وقف النبي بعد تقديم تساؤله على المرصد ينتظر سماع صوت الرب داخله، وعلى الحصن يحتمي فيه حتى لا يتحوّل التساؤل إلى زعزعة إيمان. هذا المرصد وهذا الحصن ما هما إلا شخص ربّنا يسوع، به نتفهم الأسرار الإلهيّة الفائقة كما من خلال مرصد فائق، وفيه نتحصّن بكونه الصخرة الحقيقيّة التي عليها تأسّست الكنيسة وفيها نحتمي. إنه المرصد الذي بدونه لا نعرف الآب إذ يقول: "لا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27). وهو الصخرة التي تحتمي فيها الكنيسة كحمامة وديعة يُناديها: "يا حمامتي في محاجئ الصخرة في ستر المعاقل أريني وجهك أسمعيني صوتك" (نش 2: 14).

ويرى القديس جيرومأن حبقوق إذ يقف كما على مرصد ليُراقب وينتصب، وكما في برج يتحصّن، إنّما يقوم بهذا الدور كجندي روحي يُصارع ضدّ إبليس بلا استسلام، يتأمّل أعمال الله وأسراره خاصة بالصليب فيمتلئ قوّة للحرب الروحيّة ضدّ الشر.
2. اهتمام الرب بالسؤال:

ما دامت النفس تطلب وتقف لترصد كلمات الرب واستجاباته، محتمية فيه كحصن لها، منتصبة للجهاد الروحي خلال المعرفة الإلهيّة، فإنه بدوره لا يبخل عليها إذ يقول النبي: "فأجابني الرب وقال: أكتب الرؤيا وأُنقشها على الألواح لكي يركض قارئها لأن الرؤيا إلى ميعاد، وفي النهاية تتكلّم ولا تكذب، وإن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتيانًا ولا تتأخر" [2-3].
كأن الرب يطالبه لا أن يأتي إليه بقلم وورقة ليكتب ما يراه ويسمعه، إنّما الحاجة إلى ألواح يٌنقش عليها كلمة الله بخط واضح تجتذب ناظرها فيأتي راكضًا إليها... هذا ووضوح الخط يُمكَّن حتى الذين يجرون أن يقرءوها. في إشعياء قيل: "تعال الآن أكتب هذا عندهم على لوح وأرسمه في سفر ليكون لزمن آت للأبد" (إش 30: 8). هذا وأن الرؤيا قد لا تتحقّق فورًا إنّما في الميعاد المحدّد في ملء الزمان، لذا يليق بالنبي أن ينتظر واثقًا أنها حادثة لا محالة حتى وإن بدت متأخرة.
ما هذه الرؤيا التي يتحدّث عنها هنا إلا تلك الخاصة بسرّ الصليب الذي يتحقّق في ملء الزمان حين يتجسّد كلمة الله، هذا الذي سجّل المحبّة الإلهيّة بدمه المبذول لا بحبر وورق وإنّما رسمه على لوحي الصليب أو عارضتيه الطوليّة والعرضيّة، مجتذبًا الكل إليه.
لنركض بالروح القدس إلى الصليب لنقرأ ما قد نقشه الابن الوحيد الجنس معلنًا لنا الأسرار الإلهيّة الفائقة! هنا لا نجد الكلدانيّين الأشرار يهلكون وإنّما إبليس ذاته وكل شيّاطينه قد انهاروا تمامًا وتحطّم كل سلطان اختلسوه.
3. معاقبة الكلدانيّين:

إذ يرفع الرب نبيه حبقوق إلى الرؤيا الخاصة بالصليب محطّم مملكة إبليس يعود فيكشف أعمال إبليس في حياة الكلدانيّين الأشرار هذه التي يُحطّمها الصليب. وكأنه يكشف لنا الغرس الشرّير الذي لم يغرسه الآب بل هو من زرع عدوّ الخير، هذا الذي قال عنه السيّد إنه يجب أن يُقلع (مت 15: 13) هذه الغروس الشرّيرة التي يُحطّمها هي:
أولًا: الكبرياء والفراغ الداخلي:

"هوذا منتفخة غير مستقيمة نفسه فيه، والبار بالإيمان يحيا، وحقًا إن الخمر غادرة. الرجل المتكبر لا يهدأ" [4-5].
إن كان الله قد سمح بتأديب شعبه بواسطة الكلدانيّين الوثنيين، فقد تعجّرف الكلدانيّون وظنّوا أنهم بقدرتهم واقتدارهم غلبوا انتصروا. لذلك يُحقّق الله غايته بهم أي تأديبه أولاده ليعود فيُعاقبهم على كبرياء قلبهم. وكما قيل بإشعياء النبي عن أشور أنه قضيب غضب الله وعصاهم في يدهم هي سخطه (إش 10: 5)، يُحقّق بهم غايته... فيكون متى أكمل السيّد عمله بجبل صهيون وبأورشليم أني أُعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه، لأنه قال: بقدرة يديّ صنعت وبحكمتيّ لأني فهيم، ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحَططت الملوك كبطل، فأصابت يديّ ثروة الشعوب، كعش وكما يُجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض، ولم يكن مُرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفصف. هل يفتخر الفأس على القاطع بها، أو يتكبّر المنشار على مردّده؟! كأن القضيب يُحرّك رافعه، كأن العصا تُرفع من ليس هو عودًا" (إش 10: 12-15).
هذا هو عمل إبليس في حياة الإنسان... الكبرياء، فيظن الإنسان أنه بقدرته وحكمته يُحقّق غايته، ولا يدرك أن كل طاقة وإمكانيّة هي من الله حتى وإن شوّه الإنسان طبيعتها وحرّفها عن غايتها.
بالكبرياء سقط إبليس من رتبته الملائكيّة وانحدر إلى أعماق الهاوية (إش 14: 12، عو 4)، لذا فهو لا يكف عن ضرب البشريّة بذات الداء ليحدرها معه من الحياة الإيمانيّة، ويفقدها التمتّع بالملكوت الإلهي ويهبط بها إلى ما هو دون المستوى الحيواني.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يرتفع بفكره مُتشامخًا فوق البشر يوجد منحطًا دون الخليقة غير العاقلة].
إن كان الشرّير بالكبرياء الشيطاني يهلك، فإن "البار بالإيمان يحيا".
يرى الدارسون أن هذه العبارة "البار بالإيمان يحيا" هي قلب نبوّة حبقوق وعصبها، وكما قيل "هذه الكلمات الشهيرة تُلخّص الرؤيا كله". اقتبسها الرسول بولس ليؤكّد أنه لا يمكن التبرير بأعمال الناموس إنّما بالإيمان بالمسيح يسوع، مختفين في برّه.
يقول القديس أغسطينوس: [فيّه نقوم، وفيه ننطلق إلى الآب لنصير كاملين بطريقة غير منظورة ومتبرّرين ]. فالبرّ ليس مجموعة يستلزم الإيمان السليم غير المنحرف،
وكما يقول القديس أغسطينوس: [حيث لا يوجد إيمان سليم لا يكون برّ، لأن البار بالإيمان يحيا].
نعود للكبرياء الذي يزرعه عدوّ الخير فينا ليحرمنا من الحياة الإيمانيّة الحقّة وينزعنا عن البرّ الذي في المسيح يسوع، لنجد أن هذا الكبرياء الفارغ يُعطي للنفس نوعًا من الجوع أو العطش الداخلي، خلاله يطلب الإنسان أن يشبع لا من برّ الله، وإنّما من كل ما هو أرضي خلال الظلم والاغتصاب... وقدر ما ينال يزداد فراغه الداخلي، ليبقى بلا شبع كل أيّام حياته.
بهذا الروح كان الكلدانيّون يُهاجمون الأمم ويصطادون البشريّة ويذلّوهم بلا شبع حقيقي: "الذي وسّع نفسه كالهاوية، وهو كالموت فلا يشبع بل يجمع إلى نفسه كل الأمم ويضم إلى نفسه كل الشرور، فهلا ينطق هؤلاء كلهم بهجو عليه ولغز شماتة به ويقولون للمكثّر ما ليس له: إلى متى؟! وللمثقّل نفسه رهونًا: ألاَّ يقوم بغتة مقارضوك ويستيقظ مُزعزوك فتكون غنيمة لهم؟! لأنك سلبت أممًا كثيرة، فبقيّة الشعوب كلها تسلبك لدماء الناس وظلم الأرض والمدينة وجميع الساكنين فيها" [5-9].
إن أخذنا بالتفسير الحرفي نقول أن الكلدانيّين قد وسعوا نفوسهم كالقبر، يبتلعون الشعوب كالموتى ولا يشبعون. في تحرّك مستمرّ لاغتصاب الأمم والشعوب بالظلم بلا توقّف. لكن هذا العمل له نهاية، فتنقلب الموازين وتتحرّر الأمم المسبيّة، لتقف موقف الشماتة بالكلدانيّين وتسخر بهم قائلة:
"ويل للمكثّر ما ليس له، إلى متى؟"... يصبّون الويلات على الكلدانيّين الذين حسبوا أنهم نالوا الكثير، ولكنه في الحقيقة ليس ملكًا لهم، إنهم يردون ما حسبوه غنيمة!
"المثقل نفسه رهونًا (طينًا كثيفًا)"... ما جمعوه ليس بثروة وإنّما بطين كثيف، ليس ذهبًا وفضة لكنهم جمعوا ترابًا يثقّل نفوسهم بمحبّة العالم الأرضي.
"ألاَّ يقوم بغتة مقارضوك ويستيقظ مُزعزوك؟"، في لحظة لا يتوقّعها الكلدانيّون، بينما هم مطمئنّون للغاية يقوم من كانوا كمن في حالة نوم ليصير الكلدانيّون غنيمة لهم بعد أن سبقوا فاغتنموهم. كما سلبوا الأمم، الأمم تسلبهم، وكما سفكوا الدماء تُسفك دماءهم، وكما عبثوا بالأرض والمدن يُعبث بهم.
لا يقف الأمر عند شبع الكلدانيّين وإنّما يفقدون ما ظنوه مكسبًا لهم، ويخسرون مالهم وكرامتهم... فيُقال لهم: "كما فعلت يُفعل بك، عملك يُرتد على رأسك" (عو 15).
إن كان الإنسان يظن أن الخطيّة بشهواتها وملذّاتها تشبع النفس، ففي الحقيقة تدخل بها إلى حالة فراغ داخلي وجوع وعطش... فيركض الإنسان إليها ليشرب منها كما من مياه البحر المالحة التي تزيده عطشًا، بل وتفقده حتى حياته.
ثانيًا: الربح القبيح:

"ويل للمُكسب بيته كسبًا شريرًا، ليجعل عشه في العلوّ، لينجو من كف الشر. تآمرت الخزي لبيتك، إبادة شعوب كثيرة وأنت مخطئ لنفسك، لأن الحجر يصرخ من الحائط، فيُجيبه الجائز من الخشب" [9-11].
هذا هو الويل الثاني، الأول سبب خطيّة الكبرياء غير المشبعة للنفس بل مهلكة لها، أما الثاني فبسبب حب الربح القبيح. يظن الشرّير أنه يملأ بيته خيرات ولم يدرك أنه يجمع كسبًا شريرًا يجلب لعنة على كل بيته. يقول الحكيم: المولع بالكسب (الطامع) يكدر بيته" (أم 15: 8). إنه يجمع الربح القبيح حاسبًا أنه يطير به إلى حيث لا يقدر أحد أن يقترب منه ليبني عشه في العلو، وإذا به يبني بيته بالخزي، فيخطئ إلى حق نفسه. الحجارة التي اقتناها بمال الظلم لبناء البيت تصرخ شاهدة على شرّه، والعوارض الخشبيّة التي بها يتماسك البناء لا تصمت، البيت الذي يبنيه من مال الظلم يتحوّل إلى آلة محزنة تنشد مرثاة على صاحبها.
لقد ظن آخاب الملك وزوجته إيزابل أنهما قتلا نابوت اليزرعيلي وورثا كرمه وليس من يسألهما ولا من يُراقب تصرّفاتهما، فإذا بهما يقتنيان هلاكهما، إذ كان كلام الرب لآخاب خلال إيليا النبي: "في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أنت أيضًا" (1 مل 21: 19).
ثالثًا: العنف:

"ويل للباني مدينة بالدماء، وللمؤسّس قرية بالإثم.
أليس من قبل رب الجنود أن الشعوب يتعبون للنار، والأمم للباطل يعيون؟!
لأن الأرض تمتلئ من معرفة مجد الرب كما تغطى المياه البحر" [12-14].
هذا هو الويل الثالث الذي ينصب على الإنسان الذي في محبّته للكسب الشرّير أو الربح القبيح يتحوّل إلى وحش مفترس، فيبني مدينته بسفك الدماء ويؤسس قريته بقانون الإثم.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن الإنسان صار أشر من الحيوانات المفترسة، فإنها لا تأكل بعضها البعض مادامت من نفس النوع، أما الإنسان فيفترس الأخ أخاه في البشريّة، ويظن أنه غير قادر على بناء مدينة يستريح فيها إلا على حساب دم أخيه!].
على أي الأحوال تمتلئ الأرض من معرفة مجد الرب عندما يرى العالم أن الظالمين سافكي الدماء تعبوا لا ليقيموا مدنًا أو يؤسسوا قرى وإنّما ليصيروا وقودًا للنار، باطلًا يتعبون حتى يصيبهم المرض من الإرهاق، وبلا نفع!
إن كانت أجسادنا بسفكها للدماء أو إثمها صارت أرضًا، فإنها إذ تتقبل تقدّيس الروح تمتلئ من معرفة مجد الرب، فتحمل روح مخلصها الوديع، وإن كانت حياتنا قد صارت بحرًا مالحًا فإن مياه الروح القدس العذبة تحوّل طبيعتها.
أخيرًا إن كان الظلم يصل إلى أقصى بشاعة حينما يصير الإنسان سافكًا للدم، فإن القديس جيروم يرى أن الهراطقة هم أشر سافكي الدم، لا يقتلون الجسد بل النفوس بالانحراف عن الإيمان الحيّ، أي عن الحق، إذ يقول: [الهرطوقي الكاذب يقتل نفوس كثيرة بخداعه إيّاها... إنه مخادع ومتعطش للدماء].
رابعًا السكر:

"ويل لمن يسقي صاحبه سافحًا حموك ومسكرًا أيضًا للنظر إلى عوراتهم،
قد شبعت خزيًا عوضًا عن المجد،
فاشرب أنت أيضًا وأكشف غُرْلتك،
تدور إليك كأس يمين الرب،
وقياء الخزي على مجدك" [15-16].
الويل الرابع لخطيّة السكر، فإن من يسكر إذ يجد نفسه قد فقد كرامته الحقيقيّة واتّزانه الداخلي يُقدّم لصاحبه، سافحًا الزجاجة له لكي يُغريه بمنظرها، حتى كما فقد هو نقاوته يُريد النظر إلى عورة أخيه أي أسراره الداخليّة لإفساده في أعماقه.
من هو هذا الذي يُقدّم السكر إلاَّ عدوّ الخير الذي يجتذب الإنسان بإغراءاته كمن هو صاحبه ليفقده مسيحه الحقيقي ويجعله كمن هو في فضيحة. هذا التصرّف لا يزيد العدوّ مجدًا بل خزيًا، فإن ظن أنه بذلك يُقيم مملكته ويوسع نطاقها إنّما يملأ كأس غضب الله عليه ليشرب مما قدّمه لنا من مرارة مضاعفًا "في الكأس التي مزجت فيها يمزج لها ضعفًا" (رؤ 18: 3، 6).
"قياء الخزي على مجدك" [16]، هكذا يتطلّع الذين حوله إليه فلا يجدون فيه مجدًا حقيقيًا ولا غنى صادقًا، فيتقيّأون على مجده الباطل! هكذا مَن يعطي الآخرين من مسكر الخطيّة إنّما يُهيئ لنفسه من يتقيأ عليه ويخزيه!
ما نقوله عن مسكر الخطيّة الذي يجتذبنا إليه إبليس، نقوله أيضًا عن حياة الترف والتدليل، الحياة التي تحمل في داخلها موتًا للنفس وخزيًا عوض المجد الظاهر.
وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [الإنسان الذي يعيش في الملذّات ميت وهو حيّ إذ لا يعيش إلا لبطنه... من يقضي زمانه في الولائم والسكر ألاَّ يكون ميتًا ويُدفن في الظلمة؟‍!].
خامسًا الوثنيّة:

"ماذا نفع التمثال المنحوت حتى نحته صانعه أو المسبوك ومعلم الكذب، حتى إن الصانع صنعته يتكل عليها فيصنع أوثانًا بكمًا.
ويل للقائل للعود أستيقظ، وللحجر الأصم انتبه.
أهو يعلم، ها هو مطلي بالذهب والفضة، ولا روح البتّة في داخله،
أما الرب ففي هيكل قدسه،
فاسكتي قدامه يا كل الأرض" [18-20].
هذا هو الويل الأخير الذي وُجه ضدّ الكلدانيّين الذين افتخروا بآلهتهم التي هي من صنع أيديهم. حقًا إنها تكشف عن حذاقة في الصناعة ومهارة في العمل، أنفقوا الكثير لإقامتها إذ هي مطليّة بالذهب والفضة لكنّها في الداخل حجارة بلا روح ولا حياة‍‍‍!
ماذا تنفعهم هذه الأصنام يوم عقوبتهم؟! لقد طلبوا من العدوّ أي من البعل الخشبي أن يستيقظ ليُخلّصهم، ومن الإلهة الحجرية عشتاروت زوجة الإله بعل أن تنتبه لما حلّ بهم وترق لحالهم، لكنهما لا يقدران على الخلاص. إنهما إلهان جميلان في المنظر لكنهما عاجزان تمامًا، أما الله الحقيقي ففي هيكل قدسه لا تقدر الأرض أن تقف أمامه.
عجيب هو الإنسان الذي يترك إلهه القائم في قلبه كما في هيكل سماوي، ويسعى إلى أفكاره الذاتيّة وكأنها الآلهة الوثنيّة الجميلة في منظرها وبراقة لكن بلا حياة، وعاجزة عن تقديم الخلاص.
مسكين هو الإنسان الذي يرفض واهب الخلاص الذي يجعل من قلبه سماء ويتعبّد للأفكار والفلسفات البشريّة المخادعة فتجعل منه أرضًا... إنه لا يقدر أن يُقاوم الرب إذ يسمع الصوت: "اسكتي قدّامه يا كل الأرض" [20].
ليتنا لا نكون أرضًا تسكت وتبكم أمام الله، وإنّما نكون سماءً روحيّة تحمل كلمة الله وأصوات سماويّة مفرحة وتسبحة ملائكيّة لا تتوقّف.


Mary Naeem 08 - 06 - 2023 04:52 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168614574000591.jpg



مزمور حمد لله



إن كان حبقوق قد دخل إلى الألم الداخلي والضيق الخارجي، لكن وسط الآلام يتمتّع بتعزيات الروح القدس الذي يكشف للمؤمن الأسرار الإلهيّة وسط المرارة فتتحوّل حياة الإنسان كلها إلى تسبحة حمد ومجد لله. هكذا يختم النبي السفر بمزمور حمد أو تسبحة مجد الله تُقدّم لنا:




1. أعمال الله عبر السنين:

"صلاة لحبقوق النبي على الشجويّة (الأوتار):
يا رب قد سمعت خبرك فجزعت،
يا رب عملك في وسط السنين أحيّه، في وسط السنين عّرِف، في الغضب أذكر رحمة" [1-2].
إذ وقف النبي على المرصد يترقب كلمة الله وإذ انتصب على البرج الإلهي متحصنًا تهلّلت نفسه في داخله بالرغم من كل الظروف القاسية المحيطة به. وفيما كان النبي يئن من أجل شعب الله إذا بالله يكشف له خطّته الخلاصية عبر العصور التي تجلت على الصليب فتهلّل ممسكًا بقيثارة الروح ليضرب على أوتارها مزمور تسبحة، قائلًا:
"يا رب قد سمعت خبرك (كلامك) فجزعت". وكأن يقول يا رب إذ سمعت كلامك امتلأت نفسي رهبة وخشية، كشفت ليّ أسرارك وأدركت أعمالك فصرت في دهشة!
لم تقف رؤيته عند حدود أعمال الله في عصره وإنّما امتدت ليراها عبر العصور، مدركًا أن الله في محبته وإن كان يغضب فيؤدّب لكنّه حتى في غضبه لا يحتمل أنات شعبه إنّما يعود فيرحم. "يا رب عملك في وسط السنين أحيّه، في وسط السنين عّرِف، في الغضب أذكر الرحمة". حقًا إن الرب يغضب على شر الإنسان، لكنه في وسط غضبه تئن مراحمه، الأمر الذي عبرّ عنه هوشع النبي في صورة رائعة، قائلًا على لسان الرب: "قد انقلب عليّ قلبي، اضطرمت مراحمي جميعًا، لا أجري حموّ غضبي، لا أعود أخرب أفرايم، لأنيّ الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط" (هو 11: 8-9).
إن كان الله إله محتجب أو متحجب كما قال إشعياء النبي (إش 45: 15)، لكنه يعلن ذاته لشعبه عبر الأجيال خلال مراحمه التي يظهرها حتى في لحظات الغضب الإلهي والتأديب... ولعلّ ما يُقدّمه الله عبر السنين من إعلانات، إنّما يُظْهِر عمليًا في تغيير البشريّة التي فسدت وأقامها من سقوطها.
وكما يقول القديس جيروم: [الله يصنع عجائب كل يوم، إنه يعمل... أنتم أعمال الله العجيبة، فبالأمس كنت مغتصبًا ما للغير واليوم تُقدّم للآخرين ما هو لك". هذا التغيير هو غاية كلمة الله المعلنة خلال الناموس الموسوي، التي تجلّت بكمالها خلال تجسد الكلمة الإلهي وإعلانه الخلاص على الصليب. لهذا يعود النبي إلى أعمال الله مع شعبه في البريّة بتقدّم الناموس على جبل موسى لينطلق بهم إلى أعماله خلال المسيّا المخلص.
2. أعمال الله على جبل سيناء:

انسحب قلب النبي حبقوق إلى عمل الله حين ارتفع موسى على الجبل ليتسلّم الشريعة فامتلأ الجبل بهاءً ومجدًا، وأشرق الله بنوره على شعبه لينطلق قلبه ولسانه، نفسه وجسده بالفرح والتسبيح، قائلًا:


"الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه.
جلاله غطّى السموات، والأرض امتلأت من تسبيحه" [3].
يُشير هنا إلى ظهور الله في مجده بطريقة ملموسة عندما استلم موسى الشريعة وكما قيل "نزل الرب على جبل سيناء" (خر 19: 20)، "وكان منظر مجد الرب كنار آكله على رأس الجبل" (خر 24: 17)، "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأت من جبل فاران" (تث 33: 2).
إذ جاءنا خلال الشريعة غطى بهاؤه السموات، وامتلأت الأرض من تسبيحه. ما هذه السموات والأرض إلاَّ النفس البشريّة والجسد اللذان يتقدّسان بكلمة الله فتلألأ النفس بمجد الرب ويمتلئ الجسد فرحًا وتهليلًا. بالكلمة الإلهي تمتلئ النفس بالنور الإلهي والمعرفة السماويّة، أما الجسد فيتحوّل بكل أعضائه إلى قيثارة في يدي الروح القدس يعزف عليها تسبحة فريدة سماويّة. بمعنى آخر يتجلّى الله في حياة الإنسان بكليتها، في نفسه كما في الجسد.
يقول القديس جيروم: [غنّوا حمدًا حقيقيًا، رنّموا بكل جزء من كيانكم. لترنّم يدك بالعطاء، وقدمك بالإسراع نحو عمل الخير... لتعطِ كل أوتارك صوتًا، فإن توقّف وتر واحد تفقد القيثارة كيانها. ماذا ينفعك إن كنت عفيفًا ولكنك طمّاع؟! ماذا تستفيد إن كنت طاهرًا وسخيًا في العطاء ولكنك في نفس الوقت حاسد؟! ما هو نفعك إن كان لك ستّة أوتار صالحة والسابع منكسر؟! فإن وترًا واحدًا منكسرًا يفقد القيثارة إمكانيتها في تقديم صوت متكامل].
جاء في الترجمة السبعينيّة: "الله يأتي من الجنوب، والقدوس من الجبل المظلّل"،
ويعلّق القديس جيروم على هذه العبارة: "الله يأتي من الجنوب. هنا يُشير إلى المخلص، حيث ولد الله في الجنوب، لأن بيت لحم جنوب أورشليم" .
ويرى القديس ديديموس الضرير أن الجنوب يُشير إلى الرياح الحارة التي تهب على النفس فتلهبها بالروح، أو بالحب فلا يكون باردًا، أما الشمال فيُشير إلى الرياح الشماليّة الباردة التي تُشير إلى عمل الشيطان الذي يُفسد حرارة الروح، لذا في سفر النشيد طلبت العروس أن يُنزع عنها ريح الشمال الذي هو عمل إبليس، وتأتيها ريح الجنوب التي تُشير للمخلّص عريسها نفسه.


يُكمّل النبي تسبحته، قائلًا: "وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع، وهناك استَتار قدرته" [4].

كأنه يقول: كنت أظن أن الأمور تسير بلا تدبير، الشرّير يلتهم البار، وأمّة الكلدانيّين تبتلع بقيّة الشعوب، ليس من يُحاسبها ولا من يصدها، لكنني وقد أدركت أسرار معرفتك وجدتك النور الأزلي المُدرِك للأسرار الخفيّة، ليس شيء مخفيًا عن عينيك. تمد يدك للعمل وإذا بشعاع يصدر عنهما يفضح السالكين في الظلمة، عندئذ يدرك الكل قدرتك التي كانت مستترة إلى حين.
جاءت العبارة "له من يده قرنان" أي نور قرون الشمس كما جاء في ترجمة اليسوعيّين، هذان القرنان اللذان في يده هما لوحا الشريعة اللذان تسلّمهما موسى النبي، وكما قيل: "عن يمينه نار شريعة لهم" (تث 23: 2).


"قدّامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت (طردت) الحمى" [5].
بظهوره يطرد وباء الشرّ والظلمة، وعند رجليه أي بسلطان يأمر الحمى فتطيعه.
"وقف وقاس الأرض. نظر فرجفت الأمم، ودكت الجبال الدهريّة، وخسفت آكام القدم، مسالك الأزل له" [6].
يقف ليقيس الأرض، فهي خليقته التي يهتم بها، من أجلها يقف ليعمل ولا يستريح حتى يُعلن أحكامه فترتجف الأمم الشرّيرة وتُدك الجبال المتشامخة والآكام القديمة. إنه السرمدي الذي يُدبّر كل الأمور لتعمل في الوقت الحسن. وكأنه يقول: كنت أظن العالم أشبه ببحر مملوء سمكًا تصطاده الأمّة الشرّيرة بلا ضابط، لكنني أدركت أن كل شيء غير مخفِ عنك.
إن كانت الأرض كما قلنا قبلًا تُشير إلى الجسد، فإن الله وقف ليقيسه علامة اهتمامه به وتقديسه إيّاه، حيث يرجف الأمم الوثنيّة القاطنة هناك أي يُنزع عن الجسد كل شر وضعف روحي، ويدك الجبال المتشامخة أي الخطايا التي تبدو عنيفة للغاية ليس من يقدر أن يُحرّكها. أمام الله تتزعزع آكام الجسد التي تثقل النفس.
هنا يصف النبي الله كمن هو في حالة وقوف: "وقف وقاس الأرض".
وكما يقول القديس جيروم: [إن الله لا يتغيّر وليس له أوضاع جسدية لكنّه يُقال عنه أنه واقف حينما يتعامل مع الأبرار، ويُقال عنه أن يظهر ماشيًا عندما سقط آدم (تك 3: 9)، ويظهر جالسًا بكونه الديّان والملك (إش 6: 1)، ونائمًا كما في السفينة عندما يكون الإنسان بين زوابع التجربة، ويظهر قائمًا كما قيل "الله قائم في مجمع الآلهة". إذن يتحدث هنا عن الأرض وقد تمتّعت ببهجة خلاصه وتقدّست به لذا ظهر واقفًا يُقيسها!


رأيت خيام كوشان تحت بليّة، رجفت شقق أرض مديان" [7].
اسم خيام كوشان لم يُذكر في العهد القديم إلاَّ في هذه العبارة، يحتمل أن يكون اسمًا قديمًا لمديان قد هُج . هكذا إذا كانت رؤية الله لحبقوق تتجلّى، والرب في عينيه قادم من جبل سيناء، فإن كل شيء مقاوم له ينهار قدامه.
لعلّ خيام كوشان ظهرت كمن تحت بليّة وستائر مديان مُرتجفة عندما أسلم الله أرض كنعان لشعبه، فارتجفت كل الأمم المحيطة.
يظن البعض أن خيام كوشان صارت تحت بليّة عندما أسلم الرب كوشان بيد القاضي عثنيئيل بن قناز بعد أن عبده إسرائيل ثماني سنين (قض 3: 8-11)، فتجلت قوة الله في قاضيه المرسل لخلاص شعبه وأذل من استعبد شعبه. أما ارتجاف ستائر مديان، فحدث عندما رأى صاحب جدعون حلمًا "وإذا رغيف خبز شعير يتدحرج في محلة المديانيّين وجاء إلى الخيمة وضربها فسقطت وقلّبها إلى فوق فسقطت الخيمة" (قض 7: 3)، وكان ذلك إشارة إلى سيف جدعون بن يوآش الذي قتل المديانيّين.
في اختصار يُسبح حبقوق الرب من أجل أعماله إذ يهب أولاده الغلبة والنصرة، بل والسلطان فترتجف أمامهم الشياطين وتصير تحت بليّة!


"هل على الأنهار حمى غضبك؟! هل على الأنهار غضبك، أو على البحر سخطك، حتى أنك ركبت خيلك، مركباتك مركبات الخلاص؟!" [8].
إن كانت المياه الكثيرة تُشير إلى الشعوب (رؤ 17: 15)، فإن شعب الله يُشبه بالأنهار حيث المياه العذبة والأمم الوثنيّة بالبحار المالحة. الله إذ يؤدّب شعبه، يحمي غضبه على الأنهار بسبب الظلم الذي وُجد في وسطه، وإذ يُعاقب الأمم بسخطه بسبب ما ارتكبته من شرور ضدّ شعبه يحمي غضبه على البحار.
لقد حمى غضبه على الأنهار والبحار عندما اعترضا طريق شعبه في عبورهم من أرض مصر إلى أرض الموعد، فشق بحر سوف ونهر الأردن، مجتازًا بشعبه كما بمركبات خلاص، وكأنه بقائد الموكب الخلاصي الذي يعبر به من عبودية إبليس إلى ملكوته السماوي، أما المؤمنون فهم الفرس التي تحمل الله قائدها في داخلها.

في هذا يقول القديس جيروم: ُقال هذا عن الله، إن كنا نحن فرس الله التي يركبها ].
ويقول الأب ثيوفان الناسك: [إنه يُحارب عنك بنفسه، ويدفع أعدائك ليديك متى شاء، كيفما شاء، كما هو مكتوب: "لأن الرب إلهك سائر في وسط محلّتك لكي ينقذك ويدفع أعداءك أمامك" (تث 23: 4) ].


"عريّت قوسك تعرية، سباعيّات سهام كلماتك، سلاه" [9].
ما هو القوس الذي تعرى ليضرب كالسهام السباعيّة، إلاَّ التجسد الإلهي خلاله تمتّعنا بكلمة الله كسهم يُحطّم الشرّ الذي تملك في داخلنا؟! ليحل كلمة الله فينا كسهم حقيقي يجرح قلوبنا بالحب فنقول



"إني مريضة حبًا" (نش 2: 5)، ينزع عنها كل فساد خبيث أقامه العدوّ الشرّير فيها.
كلمات الرب "سباعيّات"، تدخل إلى القلب فتجعله كاملًا، إذ يُشير رقم 7 إلى الكمال.
"شقّقت الأرض أنهارًا" [9].
إذ نقبل الكلمة المتجسد فينا كسهم إلهي يجرح قلوبنا بالحب وينزع عنها فسادها، فإنه بدوره إذ يراها قد صارت أرضًا لا سماء تحب الزمنيّات لا الأبديّات يُشقّقها خلال شركة الصليب والألم، ويُحوّل الأرض إلى أنهار مياه حيّة، وكما قال المخلص "من آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ (يو 7: 38).
لا نخف لأننا أرض قفراء، فإن الرب بصليبه يُفجر فينا ينابيع روحه القدوس كأنهار ماء حيّ، تروي أرضنا وتُفيض بالشهادة له في كل موضع!
يرى القديس جيرومأن السيّد المسيح هو النهر الأصلي الذي يُصب في أرضنا أنهارًا هي ثمرة عمله فينا، هذه الأنهار تشهد للنهر الحقيقي مُسبّحه له لا بالكلام فحسب وإنّما أيضًا بالعمل، وكما يقول المرتل: "الأنهار لتُصفق بالأيادي" (مز 98: 8). "ليت الأنهار التي ترتوي من المصدر يسوع تُصفق بالأيادي، فإن عمل القدّيسين هو التسبيح لله. المسيح لا يُسبح بالكلام بل بالعمل، إنه يطلب الفعل لا الصوت ".


"أبصرت ففزعت الجبال، سيل المياه طما، أعطت اللُجّة صوتها، رفعت يديها إلى العلاء" [10].
إن كان كلمة الله الحيّ يُشقق بصليبه أرضنا فيجعلها أنهار مياه تُسبح وترتّل له بالعمل الروحي الحق، ففي سكناه داخلنا تراه جبال خطايانا الثقيلة فتفزع هاربة من أمام وجهه. ما كنا نحسبه جبالًا راسخة لا يقدر أحد أن يُحرّكها تصير بالصليب سهلًا. وكما قيل في زكريا "من أنت أيها الجبل العظيم؟! أمام زربابل تصير سهلًا، فيخرج حجر الزاويّة بين الهاتفين كرامة كرامة له" (زك 4: 7). وقد رأينا في دراستنا لسفر زكرياكيف يزول الجبل الشرّير ليظهر السيّد المسيح حجر الزاويّة صاحب الكرامة، المقطوع بغير يدين إذ هو ليس من زرع بشر، يصير جبلًا يملأ الأرض كلها (دا 2: 35). بهذا تتدفق نعمة الله كمياه بلا حدود لتُعطي صوت تسبيح داخلي، وترتفع يدي النفس الداخليّتين نحو العلا لتُمارسا العمل السماوي.


"الشمس والقمر وقف في بروجهما، لنور سهامك الطائرة، للمعان برق مجدك بغضب خطرت في الأرض، بسخط دست الأمم.
"خرجت لخلاص شعبك لخلاص مسيحك" [11-13].
إذ يُسبح النبي الله على أعماله عبر السنين يعود بذاكرته إلى أيّام يشوع حين صلّى لكي تقف الشمس والقمر في بروجهما في السماء حتى تكمل نصرة إسرائيل على أعدائه (يش 10: 12-13)، فلا يأتي ليل سريع فيه يهرب العدوّ قبل إتمام الهزيمة. في النور غلب يشوع العدوّ، وهكذا إذ يشرق الرب في القلب بكونه شمس البرّ وتتحوّل أرض المعركة إلى قمر بكونها الكنيسة المقدسة المقاومة لإبليس، يُبدد النور ظلمة العدو، ويبقى الرب مشرقًا حتى تتحقّق النصرة تمامًا.
ولعله يقصد أيضًا أن عمله الله الخلاصي تخضع له كل الطبيعة، حتى الشمس والقمر تعمل معًا حسب تدبيره لتحقيق مملكته النورانيّة وإبادة مملكة الظلمة.
ويمكننا القول بأن "الشمس والقمر وقفا في بروجها" يوم الصليب، حين اختفيا أمام بهاء مجد شمس البرّ في خجل مما تفعله البشريّة به. وقفا محتجبين، فيدهشان أيضًا كيف يُحطّم السيّد المسيح إبليس وكل جنوده ليحرّر الإنسان منهم كما من أمم وثنيّة، قائلين: "بسخط دست الأمم، خرجت لخلاص شعبك، لخلاص مسيحك".
3. بهجة الخلاص:

"خرجت لخلاص شعبك لخلاص مسيحك.
سحقت رأس بيت الشرّير معرّيًا الأساس حتى العنق. سلاه.
ثقبت بسهامه رأس قبائله" [13-14].
يختم النبي تسبحته بالكشف عن خلاص الله للإنسان، بتحطيم سلطان إبليس علينا وببعث روح الفرح فينا. فبالصليب سحق رأس بيت إبليس الشرّير الذي تعرّى حتى الأساس وظهرت خداعاته الخفيّة، كاشفًا إيّاه من الأساس حتى العنق. فإن كان العدوّ قد صوّب سهامه ضدّنا إنّما لكي ترتد عليه وتحطّمه تمامًا فلا يكون له سلطان علينا ولا موضع فينا.
كثيرًا ما حدثنا الآباء عن تحطيم سلطان إبليس لكي يبعثوا فينا الرجاء للعمل الروحي بلا خوف ولا تذبذب، فمن كلماتهم:
* على الصليب أخزى المسيح الشيطان وكل جيشه. تأكد أن المسيح صُلب بجسده على الصليب فإذا به يصلب الشيطان هناك... كان الصليب علامة نصرة ولواء غلبة. كانت غايته عند الارتفاع على الصليب أن يرفعنا عن الأرض، وكما أظن صليب المخلص هو السلّم الذي رآه يعقوب.
القديس جيروم
* إننا نتعلّم فن الحرب لنستطيع الصراع لا ضدّ الناس بل ضد الأرواح. بلى، فإنه إذ يكون لنا فكر (حق) لا نُصارع قط، فإننا نُصارع لأننا اخترنا هذا مع أنّنا نلنا سلطانًا من ذاك الذي يسكن فينا، الذي قال "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيّات والعقارب وكل قوّة العدو" (لو 10: 19). أعطى لكم كل السلطان أن تصارعوا أو لا تصارعوا إن أردتم. فنحن نصارع لأننا متراخون، أما الرسول بولس فلم يُصارع بل يقول: "من سيفصلنا عن محبّة المسيح؟! أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عريّ أم خطر أم سيف؟!" (رو 8: 35). اسمع أيضًا كلماته: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا" (رو 16: 20). لقد حمل سلطانًا عندما قال: "أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها" (أع 16: 18). هذه ليست لغة من يصارع، لأن من يصارع لم يغلب بعد، ومن يغلب فلا يصارع بعد.
* إن أردنا نحن يجعله الله مدوسًا تحت أقدامنا، ولكن أي ازدراء وبؤس أن نراه يدوس على رؤوسنا ذاك الذي أُعطى لنا أن نطأه تحت أقدامنا؟! كيف يحدث هذا؟! إنه بسببنا نحن. فإن أردنا يكون عظيمًا، وإن أردنا يكون قليل الحيلة. إن كنّا حذرين ووقفنا بجانب ملكنا ينسحب، ويكون في حربه ضدّنا لا يزيد عن طفل صغير.
القديس يوحنا الذهبي الفم
هذا هو سرّ بهجة نفس النبي، إذ رأى عمل الله الخلاصي بتحطيم سلطان إبليس لحساب مملكة النور. حقًا لقد ارتعدت أحشاؤه إذ رأى الكلدانيّين يفسدون كل ثمر، لكن وراء هذا التأديب يوجد خير أعظم، حين يحوّل الله التأديب إلى بهجة خلاص.
يقول النبي: "سمعت فارتعدت أحشائي، من الصوت رجفت شفتاي، دخل النخر عظامي، وارتعدت في مكاني لأستريح في يوم الضيق عند صعود الشعب الذي يزحمنا" [16]. لقد رأى الكلدانيّين كشعب يزحمهم أو كعدوّ يود أن يقضي عليهم، فارتعدت أحشاؤه ورجفت شفتاه ودخل النخر في عظامه... لقد أفسد العدوّ كل ثمر روحي فلم يزهر التين ولا أثمرت الكروم. وجفت أشجار الزيتون. هذه هي صورة الإنسان الساقط تحت إبليس فلا ينعم بوحدة الروح (التين) ، ولا عمل الصليب (الكروم التي تُعصر)، ولا بالسلام الداخلي (الزيتون)، أي يفقد حياته الداخليّة بحرمانه من عمل الروح القدس وارتباطه بصليب ربّنا يسوع. ولا يقف الأمر عند فساد الأعماق الداخليّة وإنّما حتى الجسد يفقد قدسيّته فيصير كحيوانات ميّتة، إذ يقول "والحقول لا تصنع طعامًا، ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المزاود" [17]. لا يجد الجسد طعامًا روحيًا فيجوع ويمرض بل ويموت روحيًا ويصير الإنسان كحظيرة بلا غنم ومزود بلا بقر! هذا ما يبغيه العدو، فقدان لقدسية النفس والجسد أيضًا.
لكن الله لا يترك الإنسان هكذا بل يرد له خلاصه، واهبًا إيّاه بهجة الخلاص، مقدّما ذاته قوّة له، ومشددًا قدّميه لتنطلقا نحو السماء مسرعة كالأيائل، فيتمشّى الإنسان على المرتفعات المقدّسة ولا ينزل إلى وحل العالم وترابه، إذ يقول:




"فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي،
الرب السيّد قوتي،
ويجعل قدّمي كالأيائل
ويمشيني على مرتفعاتي،
لرئيس المغنّين على آلاتي ذوات الأوتار" [18-19].
هكذا بدأ السفر بالألم والضيق مع المرارة بسبب المتاعب الداخليّة والخارجيّة، لكن إذ دخل النبي في حوار مفتوح مع الله ووقف كما على مرصد يترقّب، وعلى حصن منتصبًا ليرى أعمال الله انتهى السفر بالبهجة والفرح، مدركًا أن الله نفسه هو قوّة أولاده، يُشدّد أرجلهم ويرفعهم إلى العلو لينطلق بهم بروحه القدوس فوق كل الأحداث.

Mary Naeem 13 - 06 - 2023 01:46 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg





دعوة صموئيل



في وسط الظلام الخارجي الدامس، "قبل أن ينطفئ سراج الله... في الهيكل" [3] دعا الله صموئيل، ليقيمه سراجًا وسط شعبه، يعلن إرادته الإلهية ويشهد للحق.



1. دعوة صموئيل:

أ. يبدو أن الله دعا صموئيل قُبيل الفجر، وسط الظلام الخارجي الحالك، إذ قيل: "وقبل أن ينطفئ سراج الله وصموئيل مضطجع في هيكل الرب الذي فيه تابوت العهد" [3]. جاء في (خر 27: 21، لا 24: 2-3) أن السراج (المنارة) يُشعل من المساء حتى الصباح، وكأن دعوة الرب جاءت قبل الصباح في نهاية الليل.
بجانب الظلام الملموس وُجد ظلام آخر، إذ قيل: "وكانت كلمة الرب عزيزة في تلك الأيام؛ لم تكن رؤيا كثيرة" [1]. عبر المرتل عن هذا الظلام بقوله: "لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد؟‍... آياتنا لا نرى، لا نبي بعد، ولا بيننا من يعرف حتى متى" (مز 74: 1، 9) كما عبّر عنه عاموس النبي: "هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز، ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب" (عا 8: 11).
وسط هذا الظلام الحالك، والمجاعة الروحية، أعد الله صبيًا صغيرًا يخدم الهيكل (خيمة الاجتماع) بأمانة، خلاله ينير الله وسط شعبه. هكذا في كل جيل يقيم الله بقية أمينة تشهد له وتخدمه بالروح والحق. فعندما سقط الشعب في العبودية أرسل لهم موسى، وعندما ثار أريوس ضد لاهوت المسيح أرسل الله أثناسيوس الرسولي وهكذا يبقى الله ساهرًا على كنيسته حتى إن ظن الظلام أنه قد ساد. بمعنى أخر. بقوله: "قبل أن ينطفئ سراج الله" [3] عني أنه وسط الظلام كان صاحب البيت نفسه - يهوه - ساهرًا، قائمًا على بيته، مهتمًا برعاية شعبه.
ب. إذ قدم لنا الكتاب المقدس الظروف التي خلالها دعا الله صموئيل، يقول: "كان عالي مضجعًا في مكانه وعيناه ابتدأتا تضعفان، لم يقدر أن يبصر... وصموئيل مضطجع في هيكل الرب الذي فيه تابوت الله" [2، 3]. لم يكن صموئيل مضطجعًا في ذات الخيمة، القدس أو قدس الأقداس، وإنما في أحد الأبنية الملحقة به وكان عالي مضطجعًا في حجرة أخرى في ذات المبنى، ومع هذا قيل عن صموئيل إنه كان مضطجعًا في هيكل الرب الذي فيه تابوت الله بينما قيل عن عالي إنه مضطجع في مكانه؛ لماذا؟ من حيث الجسد كان كلاهما مضطجعين في مبنى واحد، لكن في عيني الله حُسِب صموئيل أنه في هيكل الرب أمام تابوت الله حتى في لحظات نومه، إذ يقول مع العروس: "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش 20: 5). بجسده ينام خارج الخيمة أما قلبه فكان ملاصقًا لها، في داخلها. أما عالي رئيس الكهنة فكان نائمًا في مكانه، أي حيث يوجد جسده تبقى نفسه حبيسة المكان!
كان صموئيل نائمًا لكن بصيرته تعاين القدسات، أما عالِ فلم يقدر أن يبصر! لقد دبت فيه شيخوخة العجز الداخلي وأصيبت بصيرته بالعمى خلال تهاونه بالمقدسات الإلهية بسب ابنيه!
ج. قيل "ولم يعرف صموئيل الرب بعد ولا أُعلن له كلام الرب بعد" [7]. شتان بين عدم معرفة صموئيل وعدم معرفة ابني عالي، صموئيل لم يكن بعد قد تعرف عليه خلال صوته والرؤى لكنه تعرف عليه خلال الإيمان والخبرة اليومية، أما ابنا عالي فلم يعرفاه إذ لم يتمتعا بالطاعة والمحبة وخبرة الشركة معه.
في ملء الزمان لم نسمع الصوت فحسب -كما حدث مع صموئيل النبي- وإنما جاء الكلمة الإلهي ذاته متجسدًا، وحلَّ بيننا لنعاينه ونتعرف ونثبت فيه، فيحملنا إلى حضن أبيه ويكشف لنا أسراره الإلهية. هذه هي المعرفة التي لأجلها تهلل يسوع رب المجد عندما قدمها للمؤمنين خلال البساطة (لو 10: 21).

وقد دعا القديس أكليمندس الإسكندري المسيحيَّ الحق "غنوسيًا" أي صاحبَ معرفة روحية، غايته أن يتعرف على الله (الحق) ويراه، أي يعبر إلى كمال المعرفة خلال الإيمان، وذلك بخبرة الحياة النقية والتأمل الدائم. هذه المعرفة هي هبة إلهية نتقبلها خلال الابن، بقبولنا إياه وتشبهنا به، أي خلال نقاوة القلب نُعاين الله وندرك ما يبدو للآخرين غير مُدْرَك .
د. نادى الرب صموئيل، وكان الصبي في حوالي الثانية عشرة من عمره كما يقول القديس يوسيفوس: [سمع الصوت لأن أوتار قلبه تحمل حساسية لتسمع صوت الله وإن كان قد ظنه صوت عالي الكاهن].
إذ سمع الصوت ظن عالي يُناديه لذلك "ركض إلى عالي وقال: هأنذا لأنك دعوتني" [4]. بلا شك كان صموئيل يرى بعينيه عثرات ابني عالي وفسادهما، لكنه في روح الحب والاتضاع إذ سمع الصوت "ركض"، أي جرى مسرعًا لئلا يكون عالي في حاجة إلى خدمة أو مساعدة. لقد تدرب على خدمة الغير بفرح بلا تردد دون النظر إلى استحقاقاتهم. والعجيب أن الأمر تكرر ثلاث مرات، وفي كل مرة يسرع إلى الكاهن الشيخ دون تذمر مع أن الوقت كان قبل الفجر. عاش صموئيل الصبي يخدم الكاهن الشيخ ويطلب إرشاده مطيعًا له.


يفتتح القديس يوحنا كليماكوس مقاله عن "الطاعة" بكونها مع الشعور بالغربة يمثلان جناحين ذهبيين يصعدان الإنسان كحمامة إلى السماء (مز 54: 6)، على أن تكون الطاعة "حبًا في المسيح" .
* الطاعة التي هي بنت الاتضاع ليست أن يصنع الإنسان ما يشاء... ولكن هي أن يقطع الإنسان جميع هوى نفسه، ويعمل هوى الذي ائتمنه على نفسه، يعني الأب الروحاني، دفعة واحدة.
مار فيلوكسينوس
* طريق الطاعة هو أقصر المسالك وإن يكن أكثرها صعوبة.
القديس يوحنا الدرجي
ه. نادى الرب صموئيل باسمه شخصيًا، ومع هذا لم يكن ممكنًا لهذًا المبارك أن يتعرف عليه ويلتقي به دون إرشاد عالي الكاهن الذي اتسم بالتهاون في حق الله مع أولاده. هكذا يليق بنا ألا نستهين بالكاهن كمرشد وأب، إذ يقودنا للقاء الشخصي مع الله أبينا يسوع مخلصًنا بواسطة روح الله القدوس.
* الله لم يعلم صموئيل النبي بالحديث المباشر ولا بالحوار الإلهي، بل سمح له بالذهاب مرة أخرى إلى الشيخ (عالي الكاهن). لقد شاء أن يتدرب - ذاك الذي استحق سماع صوت الله - على يدي (عالي) الذب أغضب الله... حتى يختبر ذاك الذي دُعي إلى وظيفة إلهية حياة الاتضاع، ويكون قدوة للشباب في هذا الأمر.
القديس موسى
* يقول سفر الأمثال: "الذين ليس لهم تدبير يسقطون كالأوراق، أما الأمان ففي كثرة المشورة" (أم 14: 11) (راجع الترجمة السبعينية)... انظروا ماذا يعلمنا الكتاب المقدس. إنه يؤكد لنا أنه يلزمنا ألا نقيم أنفسنا كمركز قيادة، فنحسب أنفسنا ثاقبي الفكر، ونعتقد أننا قادرون على توجيه أنفسنا. نحتاج إلى عون وإرشاد بجانب نعمة الله. ليس من بائس ولا مَن يصطاد بسهولة في غير حذر مثل ذاك الذي لا يقوده أحد في طريق الله...
كيف يمكننا أن نتعرف على إرادة الله أو نطلبها كاملة إن وثقنا فقط في أنفسنا وتشبثنا بإرادتنا الذاتية؟
لذلك اعتاد الأب بومين Poemen أن يقول: [الإرادة (الذاتية) هي حائط نحاسي بين الله والإنسان]...
إن أراد إنسان الأمان لنفسه عليه أن يُعرى كل أفكاره الخفية ويسمع من مرشد مختبر: "افعل هذا، وتجنب ذلك. هذا حق وذاك لا. هذه فضيلة وتلك إرادة ذاتية". أو مرة أخرى يسمع: "إنه ليس وقتًا مناسبًا لعمل هذا" وفي وقت أخر: "الآن وقت لائق لعمل هذا". بهذا لا يجد الشيطان فرصته لأذيته وضربه، إذ يكون على الدوام في حالة ضبط وحذر وفي أمان.
الأب دوروثيؤس من غزة
* من يعتمد على رأيه الذاتي ولو كان قديسًا فهو مخدوع، وخطر خداعه أخطر من خطر المبتدئ الذي سلم تدبيره بيد غيره.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* من يسمع من آبائه فمن الرب يسمع... ومن لا يسمع منهم فلا يسمع من الرب.
القديس أنبا أنطونيوس
و. "فجاء الرب ووقف ودعا كالمرات الأُوَل: صموئيل صموئيل" [10]. هكذا يصور لقاء الله مع صموئيل كأنما قد ترك الرب عرشه الشاروبيمي ونزع الحجاب ليقف في المسكن المقدس يدعو الصبي. يا له من تنازل إلهي عجيب، ومحبة فائقة له نحو الإنسان! الله يقف ليدعو صبيًا إلى عمل فائق!
ز. جاءت إجابة صموئيل: "فإن عبدك سامع" تعلن أن جوهر النبوة هو الاستماع والطاعة للصوت الإلهي. هكذا تدرب صموئيل النبي منذ طفولته على الطاعة، مدركًا أنها أفضل من ذبائح كثيرة، الأمر الذي لم يختبره شاول الملك (1 صم 15: 22).
2. حديث صموئيل مع عالي:

تحدث الرب مع صموئيل عن أمور مستقبلة كأنه تتحقق في الحاضر [11]، معلنًا له أنه يحقق ما سبق أن تكلم به عن بيت عالي من أمور مخفية قائلًا له: "أقسمت لبيت عالي أنه لا يكفر عن شر بيت عالي بذبيحة أو بتقدمة إلى الأبد" [14]. لم يذكر له تفاصيل العقوبة، إذ لا حاجة لتكرارها، إنما كانت كلمات الرب واضحة وصريحة وحازمة، ربما ليعطي لعالي وابنيه فرصة للتوبة... خاصة أن هذا الحديث تم قبل تحقيق الأحداث بحوالي عشر سنوات...
لقد خاف صموئيل أن يخبر عالي بالرؤيا [15]، ليس خوفًا من أن يغضب عليه، وإنما خشية جرح مشاعره وهو شيخ وقور وأب محبوب لديه جدًا، لم يرد أن يكدره. لكن إذ طلب منه عالي تحدث في صراحة ولم يخفِ عنه شيئًا.
كانت إجابة عالي تكشف عن تقواه بالرغم من ضعف شخصيته أمام ابنيه، إذ قال: "هو الرب، ما يحسن في عينيه يعمل" .
3. الله يسند صموئيل:

إذ دعا الله صموئيل لعمل نبوي قيادي أعطاه إمكانيات العمل ألا وهي:
أ. المعية مع الله: "وكبر صموئيل وكان الرب معه" [19]... الله نفسه هو سر قوة أولاده، يُرافقهم ليهبهم نفسه ويقدم إمكانياته الإلهية بين أيديهم فلا يعوزهم شيء. هذه هي عطيته لمحبوبيه، معيته لهم، كما حدث مع إبراهيم (تك 21: 22) ويعقوب (تك 28: 15) ويوسف (تك 39: 2) وموسى (خر 3: 12) ويشوع (يش 1: 5) وجدعون (قض 6: 16) وداود (1 صم 16: 18).
سر قوة معلمنا بولس الرسول في خدمته هو إدراكه تمتعه بنعمة الله التي هي في جوهرها تجلى الله نفسه في حياته، لذا قال: "لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1 كو 15: 10).
* الله هو الكرَّام، ولو تم على أيدي الأنبياء أو الرسل فهو الكراّم. فماذا نكون نحن؟ ربما عمال لدى الكرَّام، نعمل بقوته وبنعمته الممنوحة لنا من لدنه.
القديس أغسطينوس
* "هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام للمسيح ووكلاء سرائر الله" (1 كو 4: 1). فالوكيل يقوم بإدارة أمور موكله حسنًا دون أن ينسب لنفسه ما لموكله... أتريد أن ترى مثالًا لوكلاء أمناء؟ اسمع ما يقوله بطرس: "لماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي" (أع 3: 12).
وعند كرنيليوس أيضًا قال: "قم أنا أيضًا إنسان"... وبولس الرسول لم يَقِلْ عنه أمانة في قوله: "أنا تعبت أكثر من جميعهم؛ ولكن لا أنا بل نعمة الله التي تعمل معي" (1 كو 15: 10).
القديس يوحنا الذهبي الفم
ب. أعطاه نعمة في عيني شعبه إذ "لم يدع شيئًا من جميع كلامه يسقط إلى الأرض؛ وعرف جميع إسرائيل من دان إلى بئر سبع أنه قد أؤتمن صموئيل نبيًا للرب" [19-20]. تعبير "من دان إلى بئر سبع" يعني أنه من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، أي في كل أرجاء البلاد (قض 20: 1).
ج. بدأ الله يتراءى في شيلوه معلنًا ذاته لصموئيل بكلمته ليقطع فترة الظلمة حيث كانت كلمة الرب عزيزة [1].




Mary Naeem 13 - 06 - 2023 01:50 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg


فقدان تابوت العهد



إذ خرج إسرائيل لمحاربة الفلسطينيين، دون تقديس لحياتهم أو استشارة الرب، انهزموا. عوض التوبة والرجوع إلى الله حملوا تابوت العهد إلى المعركة مع الكاهنين حفني وفينحاس. أُخذ تابوت العهد منهم ومات حفني وفينحاس وسقط من إسرائيل ثلاثون ألفًا وانكسرت رقبة عالي الكاهن ومات!




1. أخذ تابوت العهد:

في (قض 13: 1) قيل إن الرب دفع إسرائيل ليد الفلسطينيين أربعين سنة، ربما الحوادث المذكورة هنا كانت خلال هذه الفترة. لقد نزل الفلسطينيون إلى أفيق والإسرائيليون إلى حجر المعونة بالقرب منهم في مواجهتهم.
"أفيق"كلمة عبرية ربما تعني "قوة" أو "حصن"، وجُدت خمس مدن تحمل ذات الاسم، من بينها هذه المدينة وهي كنعانية سبق أن استولى عليها يشوع (يش 12: 18). اجتمع فيها الفلسطينيون مرتين لمحاربة إسرائيل، مرة في زمن عالي الكاهن [1] والأخرى في زمن شاول الملك (1 صم 29: 4). موقعها حاليًا رأس العين على ما يظن. أعيد بناء المدينة في القرن الأول ق.م. بواسطة هيرودس ودعاها أنتيباتريس على اسم والده؛ قضى فيها بولس ليلة خلال رحلته من أورشليم إلى قيصرية (أع 23: 31).

حجر المعونة: أخذت هذا الاسم بعد الحوادث المذكورة بحوالي 20 عامًا (1 صم 7: 12). تدعى بالعبرية Ebenezer (eben-ha ezer)، إذ وضع صموئيل حجرًا تذكاريًا بين المصفاة والسن، في جنوب شرقي أفيق.
دارت المعركة بين الطرفين فانهزم إسرائيل جزئيًا في الحقل حيث قُتل منهم أربعة آلاف رجل (1 صم 3: 2)، فرجع الشعب إلى المحلة. هنا نسمع عن الشعب وليس عن رجال حرب أو عن جيش، فقد كان الشعب يحارب بغير استعداد وفي غير نظام، بجانب فظاعة فساده الخلقي.
تساءل الشيوخ إسرائيل: "لماذا كسرنا اليوم الرب أمام الفلسطينيين؟" (1 صم 3: 3). كان يلزم أن تكون الإجابة: بسبب الفساد والانحراف عن الله، فيرجعوا إليه بالتوبة ويحلّ في وسطهم كسرّ غلبتهم. لكن ما حدث هو تغطية على الفساد بحمل التابوت في وسطهم ليخلصهم من أعدائهم. وبالفعل جاءوا به من شيلوه مع الكاهنين الفاسدين حفني وفينحاس، وقد عبّر المرتل عن ذلك بقوله:
"فجربوا وعصوا الله العليّ، وشهاداته لم يحفظوا...
انحرفوا كقوس مخطئة.
أغاظوه بمرتفعاتهم وأغاروه بتماثيلهم.
سمع الله فغضب ورذل إسرائيل جدًا.
ورفض مسكن شيلو الخيمة التي نصبها بين الناس.
وسلم للسبي عزَّه وجلاله ليد العدو.
ودفع إلى السيف شعبه وغضب على ميراثه.
مختاروه أكلتهم النار وعذاراه لم يُحمدن.
كهنته سقطوا بالسيف وأرامله لم يبكين" (مز 78: 56-64)

لماذا سمح الله بذلك؟

أ. إحضارهم للتابوت لم يكن يحمل رجوعًا قلبيًا إلى الله بالتوبة وإنما اتكلوا على شكليات العبادة الظاهرة. هذا ما تكرر عبر الأجيال، ففي أيام إرميا النبي ظن القادة والشعب أن الله لن يسلم مدينة أورشليم -بكونها مدينة الرب - ولا هيكله بالرغم من إنذارات الرب لهم الكثيرة والمتكررة بواسطة الأنبياء، وعوض التوبة صاروا ينشدون: "هيكل الرب هيكل الرب هيكل الرب هو" (إر 7: 5). اتكلوا على "كلام الكذب الذي لا ينفع" (إر 7: 8) فسُبيت أورشليم وهدم الهيكل. هذا أيضًا ما أعلنه حزقيال النبي إذ قال: "وخرج مجد الرب من على عتبة البيت... وصعد مجد الرب من على وسط المدينة" (خر 10: 18؛ 11: 22).
يقول القديس أغسطينوسمعلقًا على المزمور السابق:
["رفض مسكن شيلوم الخيمة التي نصبها بين الناس" (مز 78: 60) لقد أوضح بكياسة لماذا رفض خيمته عندما قال: "التي نصبها بين الناس". فإنهم إذ صاروا غير مستحقين أن يسكن هو بينهم فلماذا لا يرفض الخيمة التي بحق أقامها ليس لأجله بل لأجلهم. هؤلاء الذين يُحكم الآن عليهم أنهم غير أهل لسكناه في وسطهم.
"وسلم للسبي عزهم (فضيلتهم) وجمالهم ليد العدو" (مز 78: 61). التابوت ذاته الذي حسبوه أنه لا يُقهر... دعاه "فضلتهم" أو "جمالهم" (هذا سلمه للسبي). أخيرًا، إذ عاشوا في الشر وافتخروا بهيكل الرب - فيما بعد - ارعبهم بنبي قائلًا لهم: "انظروا ما صنعت بشيلو حيث كانت خيمتي" (راجع إر 7: 12).
"ودفع إلى السيف شعبه وغضب على ميراثه" (مز 78: 62).
"شبابهم أكلتهم النار"، أي أكلهم الغضب (الإلهي).
"وعذارهم لم ينحن" (مز 78: 63)، إذ لم يكن ذلك ملائمًا بسبب الخوف من العدو.

"كهنتهم سقطوا بالسيف وأراملهم لم يبكين" (مز 78: 64). لأن ابني عالي سقطا، وصارت زوجة أحدهما أرملة وقد ماتت في الحال وهي تلد [19]؛ هذه لم تقدر أن تبكي بسبب الارتباك ولم تميز الجنازة ].
ب. جاء حفني وفينحاس إلى المعركة ومعهما التابوت؛ لقد كانا فاسدين ومفسدين للشعب، وقد ظنا أن الله يلتزم أن يُحارب عن الشعب ليس من أجلهما، إنما من أجل التابوت بكونه يمثل الحضرة الإلهية.
حقًا لقد أعلن الله أنه قادر أن يحمي التابوت وأن يدافع عن مجده لكنه بعد تأديب الشعب مع الكهنة بسبب فسادهم.
إذ تحدث المرتل عن تسليم الرب للتابوت والخيمة في أيدي الأعداء وتأديب شعبه وكهنته، أضاف "فاستيقظ الرب كنائم كجبار معيط من الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء؛ جعلهم عارًا أبديًا" (مز 78: 65-66)

يعلق القديس أغسطينوس قائلًا: ["فضرب أعداءه في مواضع مخيفة" بمعنى أن الذين تهللوا بأنهم قادرون على أخذ التابوت قد ضُربوا في مواضع من وراء (البواسير)... هم أحبوا الأمور التي من خلف لذلك بعدل تألمت هذه المواضع فيهم ].
ج. عند دخول تابوت عهد الرب إلى المحلة هتف جميع إسرائيل هتافًا عظيمًا حتى ارتجت الأرض. أمام هذا الهتاف خاف الفلسطينيون، قائلين: "قد جاء الله إلى المحلة" [7].
لقد هتفوا بألسنتهم وحناجرهم حتى ارتجت الأرض، أما قلوبهم فكانت ساكنة لا تتحرك نحو الله بالتوبة، ولا ارتجت أجسادهم التي تدنست. لهذا حتى وإن خاف الفلسطينيون لكنهم عوض التراجع ازدادوا حماسًا وتشددوا ليستعبدوا إسرائيل، وصارت لهم الغلبة ولكن إلى حين.
هتف الشعب بألسنتهم، ولم يدركوا أن الغلبة لا بهتاف اللسان إنما بنقاوة القلب والطاعة لله، كما جاء في سفر التثنية: "وإن سمعت سمعًا لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم يجعلك الرب إلهك مستعليًا على جميع قبائل الأرض... يجعل الرب أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك. في طريق واحدة يخرجون عليك وفي سبع طرق يهربوم أمامك" (تث 28: 1، 7)؛ "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك... يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك. في طريق واحدة تخرج عليهم وفي سبع طرق تهرب أمامهم وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض" (تث 28: 15، 25). لهذا يقول المرتل: "إن راعيت إثمًا في قلبي لا يستمع لي الرب" (مز 66: 18).
يعلق القديس أغسطينوس على كلمات المرتل قائلًا: [ارجع إلى نفسك، كن ديانًا لنفسك في الداخل. تطلع إلى مخدعك الخفي، في أعماق قلبك، حيث هناك تكون أنت وذاك الذي تراه (الله) وحدكما، هناك فليكن الإثم مكروهًا لديك، فتكون أنت موضع سرور الله].
2. موت عالي الكاهن:


إذ حدثت الضربة العظيمة (انكسار الشعب، قتل 30,000 شخص، موت الكاهنين، أخذ تابوت العهد) ركض رجل بنياميني إلى شيلوه ليبلغ الخبر، وكانت على بعد حوالي 20 ميلًا من حجر المعونة. جاء أمام رئيس الكهنة وقد مزق ثيابه ووضع ترابًا على رأسه ليجد عالي يراقب الطريق "لأن قلبه كان مضطربًا لأجل تابوت الله" [13]. واضح أن عالي لم يكن موافقًا على حمل التابوت إلى الميدان، لكنه خضع لإرادة الشعب.
إذ جاء الرجل يخبر بما حدث صرخت المدينة كلها، فاستدعى عالي الكاهن -المتقدم في السن والفاقد البصر- الرجل ليسمع منه الخبر الذي سمع الأخبار المؤلمة والخاصة بانكسار الشعب وموت الكثيرين وأيضًا موت ابنيه أما خبر أخذ التابوت فلم يحتمله، إذ سقط عن كرسي إلى الوراء إلى جانب الباب فانكسرت رقبته ومات.
لقد قضى لإسرائيل أربعين عامًا [18]، لكن تهاون ابنيه في مقدسات الله أفقده كل ثمر، وأنهى حياته بصورة مؤسفة.
3. ميلاد ايخابود بن فينحاس:

لقد دعت امرأة فينحاس طفلها "ايخابود" (= أبن المجد) ، قائلة: "زال المجد من إسرائيل لأن تابوت الله قد أُخذ" [22]. لقد أخطأت الفهم، فإن الواقع أن التابوت قد أًخذ لأنه قد زال المجد من إسرائيل. فقد إسرائيل مجده بانحرافه عن الله وزيغانه عنه، لذلك أسلم الله التابوت للأعداء لتأديب الطرفين معًا.
لقد كانت نكبتها في أخذ التابوت أشد وقعًا إلى نفسها من موت حميها ورجلها. لقد أدركت أن خسارتها بموت حميها وموت رجلها وخسارة ابنها بموت أبيه قبل أن يولد أمر لا يُذكر أمام خسارة الشعب بفقدان التابوت، علامة ترك الله شعبه.
_____





Mary Naeem 13 - 06 - 2023 02:06 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
سقوط داجون أمام التابوت



سمح الله للفلسطينيين أن يأخذوا تابوت العهد لأجل تأديب إسرائيل، ليدركوا أنهم بالانحلال فقدوا حلول الله في وسطهم. وفي نفس الوقت أعلن الله مجده وقدرته إذ سقط داجون معبود الفلسطينيين وتحطم أمام التابوت وحلت بهم الأمراض لذا فكروا في إعادته.




1. سقوط داجون أمام تابوت العهد:

يبقى الله أمينًا بالرغم من عدم أمانتنا (2 تي 2: 13)، فإن كان بسبب انحلال شعبه سلم تابوت عهده للوثنيين لكنه أظهر قوته ومجد بسقوط داجون معبودهم. كان يلزم لأهل أشدود أن يدركوا أنه لا شركة بين الله وداجون في بيت واحد، وأن يقبلوا الواحد دون الآخر. لكنهم تجاهلوا الأمر فجاءوا في الصباح التالي ليجدوه أيضًا ساقطًا ورأسه ويداه مقطوعة على عتبة البيت. لقد أكد لهم أن معبودهم بلا رأس، عاجزًا عن القيادة والتدبير؛ وأيضًا بلا يدين عاجز عن العمل لحسابهم.

إن كنا قد أقمنا في القلب أو الفكر معبودًا كداجون، مثل محبة المال أو شهوة الجسد أو حب انتقام أو محبة مجد الباطل... فإن دخول رب المجد يسوع وقبوله في أعماقنا يحطم داجون، ينزل به إلى الأرض ويقطع رأسه ويديه على العتبة كي نطأها تحت أقدامنا.
يقول القديس أغسطينوس: [ليدخل تابوت العهد قلوبكم، وليسقط داجون إن أردتم. لتضعوا الآن ولتتعلموا أن تشتاقوا إلى الله. كونوا مستعدين أن تتعلموا كيف ترون الله].
لقد وجدوا رأس داجون ويديه مقطوعة على العتبة [4]، علامة الانحدار والاحتقار، إذ صارت هذه الأعضاء موضع الدوس بالأقدام. هكذا كل فكر مقاوم لله وكل عمل مضاد لإرادته قد يتشامخ إلى حين لكن نهايته المذلة والمهانة من الجميع.
داجون: يُقال إن اسمه مشتق من الكلمة العبرية "داج" وتعني سمكة. إله فلسطيني له رأس إنسان ويدا إنسان أما بدنه فعلى شكل سمكة. يعتبر إله الخصوبة مثلCeres ذلك لأن البحر يفيض بسمك كثير. هذا الإله لم يكن في الأصل يمثل العبادة القومية للفلسطينيين بل هو إله سامي تبناه الفلسطينيون بعد الغزو السامي على كنعان. عبادة الإله داجون (داجان) في منطقة ما بين النهرين ترجع إلى الأسرة الثالثة لأور في القرن 25 ق.م. عُرفت عبادته بين الأموريين والأشوريين. هدم يوناثان معبد داجون بأشدود وذلك في عهد المكابيين (1 مك 10: 84).
جاء الفلسطينيون بتابوت العهد إلى بيت داجون بكونه في ذلك الوقت من أعظم آلهتهم؛ جاء هذا التصرف كعلامة على غلبتهم لا على إسرائيل فحسب وإنما على إلههم، حاسبين أن داجون انتصر على إله إسرائيل الذي أنقذهم من مصر، لكن هذا الافتخار لم يدم طويلًا.
في كبرياء وعجرفة وضع الفلسطينيون تابوت العهد -وهم يدركون أنه يمثل الحضرة الإلهية- في بيت داجون، فتحدث معهم الله باللغة التي يفهمونها ألا وهي لغة المرض وحلول الكوارث، إذ ضرب أهل أشدود بالبواسير وبضربه الفيران.
2. ضرب أهل أشدود بالبواسير:


"فثقلت يد الرب على الأشدوديين وأخرجهم وضربهم بالبواسير في أشدود وتخومها" [6]. وكأن تابوت العهد الذي هو سبب النصرة وبركة للمؤمنين إن عاشوا في حياة قدسية بالرب، يصير هو نفسه سبب شقاء لغير المؤمنين، وكما يقول القديس الرسولبولس: "فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله" (1 كو 1: 18). "لأن رائحة المسيح الذكية في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15-16).
"البواسير" هنا ربما تعني طاعونًا يُصيب الغدد اللمفاوية والفخذ.
جاء في الترجمة السبعينية أن البلاد ضُربت أيضًا بالفيران على غير العادة وأكلت محصولاتهم.
إذ شعر أهل أشدود أن يد الرب قست عليهم وعلى إلههم داجون أرسلوا إلى أقطاب الفلسطينيين يطلبون مشورتهم بخصوص "تابوت إله إسرائيل". غالبًا ما تشاور أقطاب المدن الخمس الرئيسية: أشدود وغزة وأشقلون وجت وعقرون وقرروا نقل التابوت إلى مدينة جت. جاء قرارهم في الغالب لظنهم أنه متى انتقل التابوت من بيت الصنم يرفع الله غضبه عنهم. لم يدركوا أنه لا يمكن أن يبقى التابوت في وسطهم مادام داجون أو غيره محتلًا قلوبهم الداخلية. ربما أيضًا ظنوا أن ما حدث في بيت داجون كان عرضًا، لذا أرادوا نقل التابوت للتأكد من دور التابوت وقدرته.
"أشدود" ربما تعني "قوة"، اسمها الحالي أشدود تبعد حوالي 19 ميلًا جنوب غرب ليدا، في منتصف الطريق بين غزة ويافا. كانت في القديم تُستخدم كمدينة تابعة لميناء. هي إحدى مدن فلسطين الخمس العظمى، ومركزًا لعبادة الإلهة داجون. هدم عزيا ملك يهوذا أسوارها (2 أي 26: 6). حاصرها ترتان -القائد الأشوري أثناء حكم سرجون- وأخذها (إش 20: 1). هددها عاموس (عا 1: 8) وصفنيا (صف 2: 4) وزكريا (زك 9: 6).

قاوم أهلها إعادة بناء أسوار أورشليم في أيام نحميا (نح 4: 7). كما أخذ بعض اليهود الراجعين من السبي زوجات من أهلها فلقوا قصاصًا صارمًا من نحميا (نح 13: 23-24). استولى عليها المكابيون مرتين في القرن الثاني ق.م؛ في المرة الثانية خربوا هيكل داجون (1 مك 5: 68؛ 10: 84). في أشدود نادى فيلبس الرسول بالإنجيل (أع 8: 4).
3. ضرب أهل جت بالبواسير:

"جت" كلمة عبرية تعني "معصرة" ، وهي إحدى مدن فلسطين الخمس العظمى: أشدود، جت، عقرون، غزة، أشقلون (1 صم 6: 17). أغلب الدارسين يرون أن موقعها الحالي "عراك المنشية" تبعد حوالي 7 أميال غرب بيت جبرين. كانت إحدى مدن العناقيين (يش 11: 22)، نشأ فيها العمالقة (2 صم 21: 22، 1 أي 20: 21)، أشهرهم جليات الجبار الذي قتله داود النبي (1 صم 17). كانت أحد حصون الفلسطنيين، أخذها داود منهم (2 صم 15: 18، 1 أي 18: 1) ثم تناقلت بين أيدي الفلسطنيين (1 مل 2: 39) ويهوذا (2 أي 11: 8) وآرام (2 مل 12: 17) ثم يهوذا (2 مل 13: 25) فلسطينيين إلخ...
إذ نُقل تابوت العهد إلى جت كانت الضربة أشد حتى يدرك الفلسطينيون أن ما يحدث ليس اعتباطًا إنما هو تأديب إلهي، إذ قيل: "إن يد الرب كانت على المدينة باضطراب عظيم جدًا، وضرب أهل المدينة من الصغيرة إلى الكبيرة ونفرت لهم البواسير" [9].

4. ضرب أهل عقرون بالبواسير:

المدينة الشمالية من مدن الفلسطينيين الخمس العظمى، تسمى الآن "عاقر". وهي قرية صغيرة تقوم على تل، تبعد حوالي 12 ميلًا من يافا. كانت في البداية من نصيب يهوذا، على تخومه الشمالية ثم أُعطيت لدان، وقد استرجعها الفلسطينيون بعد مدة. عبد أهلها بعل زبوب (2 مل 1: 2). هددها عاموس (عا 1: 8) وصفنيا (صف 2: 4) وإرميا (إر 25: 20) وزكريا (زك 9: 5). أعطاها الإسكندر ليوناثان كمكافأة له لنصرته على أبولونيوس (1 مك 10: 89).
إذ نقل إليها تابوت العهد على غير رغبة شعبها كانت يد الله ثقيلة جدًا هناك، فصرخوا "فصعد صراخ المدينة إلى السماء" [12]. لقد طلبوا عودة التابوت إلى مكانه.
5. قرار جماعي بإعادة التابوت:

يعتبر هذا القرار شهادة لقداسة الله وقدرته. وكأن الله استخدم حتى شرهم لاستنارتهم؛ منذ البداية كانوا يعلمون أنه إله قوي خلص شعبه من مصر بعجائب (1 صم 4: 7-8) لكنهم تشددوا لمقاومته، أما الآن فقد أيقنوا أنهم لن يستطيعوا مقاومته. لقد حقق الله ما قيل في إشعياء النبي: "أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات" (إش 42: 8).




Mary Naeem 15 - 06 - 2023 02:31 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg





عودة تابوت العهد





لقد طالت مدة إقامة تابوت العهد في وسط الوثنيين إلى سبعة أشهر، ليتأكد الكل أن ما حل بالوثن (الإله داجون) وما حل بالناس (مرض البواسير) وأيضًا بالأرض (جرذان أو فئران كبيرة تأكل محاصيل الأرض) لم يكن محض صدفة إنما علامة غضب الله على الوثنيين. وأيضًا لكي يقدم المؤمنون توبة صادقة مشتاقين بالحق للتمتع بالحضرة الإلهية المعلنة بوجود التابوت في وسطهم:
1. عمل قربان إثم:

"وكان تابوت الله في بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر" [1]. لا نعرف ما هي مشاعر إسرائيل نحو الأحداث في ذلك الوقت. لقد دُهشوا أن التابوت أُخذ منهم كما في خزي وضعف والكاهنين قتُلا وكثيرين سقطوا وفقد الشعب كرامته... لقد مرت الأيام والأسابيع وأيضًا الشهور ولم يسمعوا شيئًا عن التابوت، لكن الله كان يعمل مؤكدًا قدرته على الخلاص، وشعر الوثنيون بالرهبة أمام الله، فاستعدوا الكهنة والعرافين قائلين: "ماذا نعمل بتابوت الرب؟ أخبرونا بماذا نرسله إلى مكانه؟" [2].
لقد استخدم الله حتى كهنة الوثنيين والعرافين للشهادة له، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [شهد أعداء الله أنفسهم له؛ نعم قدم معلموهم أصواتهم عنه ].

العرافون هم الذين يدعون بأنهم قادرون على معرفة الأمور المستقبلية بواسطة علامات طبيعية كطيران الطيور أو أمعاء حيوان مذبوح أو النظر إلى الكبد أو السهام أو ماء في كأس أو استدعاء أرواح الأموات أو قراءة الكف أو تتبع حركة النجوم إلخ... هذه عادات شائعة في الشعوب القديمة خاصة الشرقية، ولا تزال قائمة في بلاد شرقية كثيرة. خلال العرافة يأخذ البعض قرارتهم مثل اختيار شريك الحياة أو القيام بحرب في وقت محدد، وقد نهى عنها الكتاب المقدس (لا 20: 27؛ 18: 9-14، إر 14: 14؛ حز 13: 8-9).
طلب الكهنة والعرافون ألاَّ يرسلوا التابوت فارغًا بل يردوا له قربان إثم اعترافًا منهم أنهم أخطئوا وأن ما حل بهم هو تأديب وثمرة لإثمهم في حق الله، وكنوع من التعويض الأدبي والمادي لما أصاب شعبه. طلبوا أن تشترك كل مدينة من المدن الخمس العظمى في هذا القربان ليكون الاعتراف جماعيًا والقربان عن الشعب كله.
كانت العادة لدى الوثنيين تقديم تمثال الجزء المصاب بمرض للآلهة عند البرء من المرض، ولذا طلب الكهنة والعرافون تقديم خمسة بواسير من ذهب وخمسة فئران من ذهب، غير أن الشعب زادوا هذا العدد وصنعوا فئران الذهب بعدد جميع المدن من المدينة المحصنة إلى قرية الصحراء لأن الضربة كانت عامة [18].
لقد أدرك الوثنيون حقيقتين:

أ. أن الله لا يُرشى بذهب أو فضة إنما ما يقدمونه من قربان إثم هو اعتراف وشهادة لمجده، إذ قالوا: "أعطوا إله إسرائيل مجدًا لعله يخفف عنكم وعن ألهتكم وعن أرضكم" [5].
ب. أن مقاومته لن تُجدي، فقد أغلظ فرعون قلبه فهلك [6]. كأن ما حدث منذ حوالي 350 عامًا في مصر انتشرت معرفته في كل البلدان في منطقة الشرق الأوسط.
2. رد التابوت على عجلة جديدة:

لقد عمل الفلسطينيون عجلة جديدة تجرها بقرتان مرضعتان لم يعلهما نير [7]، تحمل تابوت العهد وقربان الإثم. بالفعل استقامت البقرتان في الطريق، وكانتا تسيران في سكة واحدة وتجران، لم تميلا يمينًا ولا يسارًا، وأقطاب الفلسطينيين يسيرون وراء تابوت الرب.

ما أروعه منظرًا يشهد لحب الله لشعبه! فمهما طالت إقامة التابوت في أرض الأعداء، لكن الله يشتاق أن يسكن وسط شعبه ويحل فيهم، لقد ساق البقرتين رغم ميلهما الطبيعي لصغيريهما، واستقامتا في الطريق نحو شعب الله. ما أعظم رحمة الله بنا، فإنه يُريد أن يتناسى أخطاءنا ويسكن فينا ويستريح في أحشائنا.
العجلة الجديدة والبقرتان اللتان لم يعلهما نير تكشف عن إدراك الوثنين أيضًا أن الله لا يقبل التعرج بين الفريقين، يُريد أن يكون القلب الحامل له بالكامل له لا يمزج بين حب الله وحب الخطية أو بين ملكوت الله ومملكة إبليس. وكما يقول القديس بولس: "وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟!" (2 كو 6: 14).
يقول العلامة أوريجانوس: [لا يقوم ملكوت الله مع مملكة الشر. لذلك إن كانت إرادتنا أن نكون تحت مُلك الله ليته لا تملك أية خطية في جسدنا المائت (رو 6: 12)، ولا نطيع وصاياها، عندما تحث نفوسنا أن تمارس أعمال الجسد (غلا 5: 19) والأمور الغريبة عن الله].
لقد طلب الوثنيون عمل عجلة جديدة وإحضار بقرتين مرضعتين لم يعلهما نير... وقد رأينا في الشريعة البقرة الحمراء تقديم بقرة لم يعلها نير (عد 19: 2)، وعندما دخل السيد المسيح أورشليم ركب جحشًا لم يجلس عليه أحد من الناس (مر 11: 2).
طلب الكهنة والعرافون ترك العجلة بلا قيادة لينظروا إن كانت تسير نحو تخم التابوت، أي تخم أرض إسرائيل التي كان التابوت فيها، متجهة إلى بيتشمس. وهي مدينة للكهنة (يش 21: 16) على تخم يهوذا، على بعد حوالي 12 ميلًا جنوب شرقي عقرون، حاليًا تدعى عين الشمس.
3. حجر شهادة في حقل يهوشع:


إن كانت العجلة تمثل كنيسة العهد الجديد التي تضم شعبًا من فريقين: من أصل يهودي ومن الأمم، وقد صار الكل بروح الله "جديدًا" في الرب كمن لم يعلُهما نير، فإن العجلة انجذبت إلى حقل يهوشع البيتشمسي [18]، لماذا؟
يُجيب القديس يوستين مقدمًا مقارنة بين دخول الشعب أرض كنعان تحت قيادة يشوع الذي كان قبلًا يهوشع وبين دخول العجلة الجديدة بالتابوت إلى حقل يهوشع قائلًا: [البقرتان اللتان لم يقدهما إنسان لم تذهبا إلى الموضع الذي أُخذ منه التابوت بل إلى حقل رجل معين يدعى "يهوشع"... اسمه مأخوذ عن "يسوع (يشوع)"... لتظهرا لكم أنهما كانتا مقادتين بقوة الاسم، كما حدث قبلًا مع الشعب الذي تبقى من الخارجين من مصر. لقد قادهم إلى الأرض ذاك الذي حمل اسم يسوع (يشوع) والذي كان يُدعى قبلًا يهوشع ].
بقى حجر الشهادة الذي وُضع عليه تابوت العهد في حقل يهوشع شاهدًا لعمل الله مع شعبه ، تتطلع إليه الأجيال لتذكر رعاية الله واهتمامه بأولاده.
4. ضرب أهل بيتشمس:

أ. كنا نتوقع من الشعب أن يسقطوا على وجوههم عند معاينتهم للتابوت، ويقدموا توبة للرب، ويستدعى الكهنة واللاويين لحمله والاحتفال به، لكنهم في تجاهل للشريعة التفوا حول التابوت. ضُرِب من الشعب خمسون ألف رجل وسبعون رجلًا. لقد كرّمه الفلسطينيون بالرغم من جهلهم أكثر من الشعب المُعْطَى له وصايا صريحة بشأنه. نحن أيضًا كم مرة ندوس مقادس الله ونتقدم إلى الأسرار الإلهية في تهاون ونستمع إلى كلمته بغير خشوع؟!
ب. يميز الكتاب بين الخمسين ألفًا والسبعين المضروبين بسبب رؤية التابوت، ربما لأن الخمسين ألفًا من كل بني إسرائيل سمعوا من كل موضع وجاءوا يحتفلون برجوعه بينما السبعون هم وحدهم من بيتشمس. يرى البعض أن النسخ العبرية القديمة لم تذكر سوى رقم 70.
لم يرجع التابوت إلى شيلوه، غالبًا لأنها كانت قد دُمرت بواسطة الفلسطينيين، هذا واضح من الحفريات ومن (إر 7: 12).
أُصعد التابوت من بيتشمس إلى قرية يعاريم (مدينة الغابات أو مدينة المدن)، على تخم يهوذا وبنيامين، كانت تابعة ليهوذا (قض 18: 2). يُرجح أنها قرية العنب التي تسمى أيضًا اباغوش تبعد حوالي 9 أميال غرب أورشليم. بقى بها تابوت العهد حتى نقله داود النبي إلى بيدركيدون وبيت عوبيد أدوم الجتي (1 أي 13: 5-13، 2 أي 1: 4).


Mary Naeem 17 - 06 - 2023 11:55 AM

رد: تفسير سفر حبقوق
 


شاول الملك

بدء عصر الملوك

طلب الشعب من صموئيل إقامة ملك لهم كسائر الأمم، ومع ما حمله هذا الطلب من رفض لمُلك الله ولصموئيل لكن أعطاهم الله سؤل قلبهم، وأقيم شاول ملكًا، الذي نجح إلى حين.
لقد أرادوا التشبه بالأمم، غير أن النظام الملكي هنا له مفهوم فريد. ففي مصر كان يُنظر إلى فرعون كإله يعود إلى دائرة أفقه عند موته. وفي أشور أو بابل ينظر إلى صاحب السلطة على أنه كائن قابل للموت لكنه كمحبوب الآلهة لا يمكن أن يخطئ وهو يمثل رأس الدولة وفي نفس الوقت الرأس الديني؛ كلمته تعتبر قانونًا لا يُراجع فيها. أما بالنسبة لإسرائيل فالملك إنسان يلتزم أن يحكم حسب نعمة الله، يمسحه الكاهن وليس له حق العمل الكهنوتي. الشريعة الإلهية فوق الكل، عليه أن يخضع لها ويحترمها. لهذا عندما قدم شاول ذبيحة، وعندما أخذ داود امرأة أوريا، وعندما استولى آخاب على كرم نابوت اليزرعيلي صدرت أحكام ضدهم وعوقبوا. ليس عجيبًا أن يُعاقب الملوك المخطئون، فقد عرف داود الملك حق ناثان النبي في اتهامه ليعترف أمامه أنه أخطأ في حق الله.

عاش صموئيل النبي حتى مسح داود ملكًا، لكنه تنيح قبل تجليسه. تمتع داود بالوعد أن يرث نسله المُلك أبديًا، وقد وضع داود النبي الأساسات التي بنى عليها الملوك الصالحون المملكة.
طلب ملكك

انشغل الشعب بمظاهر العظمة والأبُهة التي لملوك الأمم المحيطين بهم، وحسبوا ذلك مجدًا وكرامة حُرموا هم منهما، لذا استغلوا شيخوخة صموئيل النبي وعدم سلوك ابنيه في طريق أبيهما ليطلبوا من صموئيل إقامة ملك يقضي لهم كسائر الأمم [5].













1. طلب ملك:

ربما يتساءل البعض: لو لم يطلب الشعب ملكًا، هل كان الله قد أعد لهم إقامة مملكة؟
أ. لا نجد للنظام الملكي موضعًا حقيقيًا في الشريعة الموسوية إلا ما جاء في (تث 17: 14-20). ربما كان هذا نبوة عن إقامة نظام ملكي في أرض الموعد، وربما كانت نصائح تقدم للشعب إن اختار له ملكًا وقواعد يلتزم بها الملك ليعيش كما يليق كعضو في الجماعة المقدسة.
ب. كان الخطأ لا في طلب إقامة ملك إنما في تعجل الأحداث وفي إساءة فهم النظام الملكي. فمن جهة الزمن كان الله يدبر لهم إقامة ملك قلبه مثل قلب الله، فقد سمح بمجيء راعوث من بين الأمم، تلك التي من نسلها يخرج داود النبي والملك. لو انتظروا قليلًا لنالوا أفضل مما طلبوا، ولَمَا أُقيم شاول الجميل الصورة الذي سبب لهم شقاءً عظيمًا.
أما من جهة فهم النظام الملكي، فقد أرادوا ملكًا يقود الجيش عوض صموئيل النبي رجل الصلاة، وقد حطمهم الملك الذي نالوه حسب قلبهم عوض بنيانهم ونصرتهم. لقد أرادوا أيضًا ملكًا يحكمهم هو ونسله من بعده بينما في ظل نظام القضاة كان يمكنهم اختيار قائد للحرب دون الارتباط بالنظام الملكي وتسليم القيادة في أيدي نسله بالوراثة.

لقد شاخ صموئيل النبي والقاضي، وأقام ابنيه يوئيل وأبيا قاضيين في بئر سبع، اللذين لم يسلكا في طريق أبيهما إذ مالا وراء المكسب المادي والرشوة وعوَّجا القضاء [1]. كان يليق بصموئيل النبي أن يقيم قضاة مستقيمين عوض ابنيه.
لماذا لم يوبخ الله صموئيل على انحراف ابنيه كما فعل مع عالي؟ ربما لأن عالي كان رئيس كهنة وقد ارتكب ابناه الكاهنان خطايا بشعة ورجاسات تستوجب لا العزل بل القتل حسب الشريعة.
وكان الابنان يعملان مع أبيهما وتحت مسئوليته كرئيس كهنة. أما بالنسبة لابني صموئيل، فيحتمل أن يكون انحرافهما - قبول الرشوة - جاء مؤخرًا بعدما تسلما العمل بفترة، فابتدأ الاثنان بالاستقامة لكن محبة المال أغوتهما، هذا وكان الاثنان يعملان في بئر سبع وليس مع أبيهما في الرامة، وربما جاء اختيارهما بناء على رغبة الشعب لأنهما لا يرثان المركز (القاضي) بالخلافة.
يتساءل البعض لماذا دُعيَ البكر هنا "يوئيل" بينما في (1 أي 6: 28) قيل (البكر "وشني")؟ كلمة وشني في العبرية تعني "والثاني"، ولذا يرى الدارسون أن كلمة "يوئيل" حذفت سهوًا في النساخة وأن كلمة وشني قُصد بها (والابن الثاني) وليست اسمًا للبكر.
اعتراض شيوخ إسرائيل على انحراف ابني صموئيل يكشف عن وجود ضمير حيّ فيهم، على خلاف فترة حكم عالي الكاهن إذ لا نجد أحدًا يعترض على تصرفات ابنيه البشعة. هذا وتنصيب الابنين للقضاء في بئر سبع في الجنوب بينما كان صموئيل يقضي في الشمال يكشف أن حكم صموئيل شمل البلاد كلها من الرامة إلى بئر سبع، وأن استقرارًا داخليًا قد حل بالبلاد، وأنهم كانوا مستريحين من حكم الفلسطينيين.
يليق بكل قائد أن يحذر من محبة المال والرشوة فقد أفسد المال قلبي القاضيين وسبب متاعب لهما ولأبيهما كما للشعب.
2. صموئيل النبي يحسب ذلك إهانة له:

لقد حسب صموئيل النبي ذلك الطلب رفضًا لعمله القضائي، وحسب الرب ذلك رفضًا له هو شخصيًا كملك على شعبه، إذ قال لصموئيل نبيه: "إسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك؛ لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم" [7].

ما أعظم حكمة صموئيل، فإنه كرجل صلاة لم يثر عليهم ولا وبخهم بل طلب أولًا مشورة الله وإرشاده، وقد وهبه الله راحة أن الشعب لم يرفض صموئيل بل رفض الرب نفسه. والعجيب أن الله يطلب من صموئيل: "اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك". إنه يقدس الحرية الإنسانية، ويستجيب للطلبات الجماعية وإن كان يكشف لهم الحق منذرًا إياهم بسبب سوء رغبتهم. إنه لا يلزمهم ولا يقهرهم على نظام معين بل يطلب منهم أن يتفهموا الحق بكامل حريتهم.
3. الله يقبل طلبتهم مع تحذيرهم:

استجاب الله لطلبتهم، هذا لا يعني رضاه عن ذلك، إنما كما يقول المزمور: "يعطيك سؤل قلبك" (مز 37: 4). فإن كان سؤل قلبنا سماويًا ننعم بالسماويات كبركة لنا، وإن كان سؤل قلبنا لغير صالحنا أو بنياننا يسمح بتحقيقه لأجل التأديب. وكما يقول المرتل: "فأعطاهم سؤلهم وأرسل هزالًا في أنفسهم" (مز 106: 15).
إن كان الرب قد استجاب طلبتهم، إلا أنه أوضح لهم حقيقتين:
الحقيقة الأولى أن كل رفض لرجاله هو رفض له، إذ يقول: "لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا" [7]. يقول رب المجد لتلاميذه: "الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني" (لو 19: 16، مت 8: 4).
* لكوني كنت جاهلًا بهذه الأمور، فقد هزأت بأبنائك وخدامك القديسين، ولكن لم أربح من وراء هذا سوى ازدرائك بي.
القديس أغسطينوس

* يليق بكم أن تطيعوا أسقفكم بدون رياء تكريمًا لله الذي يُريد منا ذلك. فمن لا يفعل هذا فهو في الواقع لا يخدع الأسقف المنظور بل يسخر من الله غير المنظور. فهذا العمل لا يخص إنسانًا بل الله العالِم بكل الأسرار.
القديس أغناطيوس الثيؤفورس
الحقيقة الثانية أن اختيارهم للنظام الملكي لم يكن لصالحهم، موضحًا لهم ما سيصيبهم من ظلم الملوك واستغلالهم لكل إمكانياتهم.
4. صموئيل يحذر الشعب:

تحدث صموئيل النبي مع الشعب في صراحة ووضوح بجميع كلام الرب، ليكشف لهم عن مساوئ طلبتهم لإقامة ملك، والتي تتلخص في الآتي:
أ. تسخير بنيهم للخدمة العسكرية لا لصالح الشعب إنما بالأكثر لصالحه الشخصي كعبيد له.
ب. يستغل بناتهم كعطارات وطباخات وخبازات لتَرَفِه هو وعائلته ورجاله.
ج. يغتصب أجود حقولهم لحساب خصيانه (كبار موظفيه) وعبيده.
د. استغلال طاقاتهم في زراعة أرضه الخاصة والعمل لحسابه.
ه. إذ يحل بهم الظالم لا يجدون من يصرخون إليه، فإن الله نفسه لا يسمع لهم لأنهم اختاروا ملكهم حسب هواهم الشخصي.

لم يسمع الشعب لنصيحته بل أصروا على إقامة ملك [19]، عندئذ فض صموئيل الاجتماع ليذهب كل واحد إلى مدينته [22]، وقد تأكد الجميع أن صموئيل يدبر لهم الأمر.




Mary Naeem 17 - 06 - 2023 12:19 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 

لقاء شاول مع صموئيل



إذ أصر الشعب على الطلبة أقام لهم شاول بن قيس البنياميني؛ كان شابًا حسنًا لم يكن في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب [12]. يقول الرب لنبيَّه صموئيل: "امسحه رئيسًا لشعبي إسرائيل، فيُخلص شعبي من يد الفلسطينيين لأني نظرت إلى شعبي، لأن صراخهم قد جاء إليّ" [16].




1. شاول وأتن أبيه الضالة:

إذ سأل الشعب صموئيل النبي أن يقيم لهم ملكًا أُختير "شاول الذي يعني "سؤال" ملكًا. لقد أعطاهم ملكًا حسب سؤل قلبهم، إنسانًا حسن الصورة طويل القامة، أما قلبه فلم يكن مستقيمًا.
وكما يقول القديس أغسطينوس: [قيل إن "شاول" تعني "سؤلًا". من المعروف جيدًا أن الشعب سأل عن ملكٍ لهم، فتسلموه ملكًا لا حسب إرادة الله بل حسب إرادتهم الذاتية].
لم يتجاهل الكتاب المقدس الجوانب الطيبة التي اتسم بها شاول بل على العكس أبرزها، لكن لم يحتمل شاول الغنى والكرامة إذ كشفا انعوجاج قلبه الداخلي واهتمامه بحب الكرامة الزمنية والمظاهر الخارجية لذا انتهت حياته برفض الله له وحرمان نسله من تولي الملك.
بدأ هذا الأصحاح بإبراز نسب شاول الذي يقدمه الله للشعب لاختياره ملكًا حسب هوى قلبهم . كشف الكتاب أنه من سبط بنيامين، من نسل الستمائة الذين نجوا من الحرب وأقاموا في الصخرة رمون (قض 20: 47). وهو سبط صغير العدد جدًا بسبب حرب الأسباط الأخرى ضده (قض 20)، لكنه كان سبطًا مقتدرًا له كرامته. أما شاول نفسه فكان شابًا حسن الصورة "ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب" [2].

يروي لنا هذا الأصحاح الأحداث التي انتهت بمسح شاول ملكًا، أحداث قد يراها البعض عارضة، أو محض صدفة، تبدو أحداثًا تافهة بلا قيمة، لكن الوحي الإلهي يكشف لنا كيف أن الله ضابط الكل، يُحّوَّل الأحداث جميعها - مهما بدت تافهة - لتحقيق خطة إلهية من جهتنا، وليس شيء ما يتم مصادفة. هنا نجد أتن قيس تضل فيخرج شاول يبحث عنها لا ليجد الأتن وإنما لكي يُدعى للمُلك، خروج الغلام معه، الذي يشير عليه أن يلتقيا بالرائي، أيضًا وجود نصف شاقل فضة لدى الغلام، لقاء شاول والغلام مع الفتيات الخارجات ليستقين، لقاؤهما مع الرائي... هذه جميعها بدت في الظاهر كأنها أمور تمت بلا تدبير مسبق، لكن الواقع أن الله كان وراء كل هذه الأمور يستخدمها لتحقيق خطته. ليتنا نؤمن أن كل ما يمر بحياتنا -مهما بدا تافهًا - يسير بتدبير الله العارف حتى بعدد شعور رؤوسنا (مت 10-30) والمعتني بالعصافير.
لقد ضاعت أتن قيس وخرج شاول والغلام يبحثان عنها
وكما يقول القديس باسيليوس: [إن الله يستخدم كل فرصة لكي يدعونا للعمل ضاعت الأتن لكي يوجد ملك لإسرائيل ].
"الأتن" من الجانب الرمزي تشير إلى "الجهل"، فإن شاول دُعي للمُلك حين ضاعت الأتن، وهكذا لكي نملك مع السيد المسيح يلزم انتزاع الجهل من نفوسنا والتمتع بنور المعرفة. لتخرج الأتن من بيتنا الداخلي وليحل نور المعرفة في أعماقنا فنملك مع مسيحنا النور الحقيقي. عندئذ نقول مع الملك داود: "بنورك يا رب نعاين النور".
يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [إن الغنوسي أو صاحب المعرفة الروحية بحق لا يضطرب من شيء ما... لا يخشى الموت، إذ له الضمير الصالح واستعداد لمعاينة القوات (السماوية)].
مع أن الأتن أمر زهيد لكن شاول بذل جهدًا في البحث عليها إذ عبر في جبل أفرايم ثم في أرض شليشه ثم أرض شعليم فأرض بنيامين وأخيرًا أرض صوف... وإذ مرت ثلاثة أيام في البحث عنها دون جدوى خشى شاول أن يقلق أبوه عليه، فقال للغلام: "تعال نرجع لئلا يترك أبي الأتن ويهتم بنا" [5]. هذه جوانب طيبة في شاول: بحثه الجاد عن الأتن، اهتمامه بمشاعر أقرب الناس إليه، ثم تشاوره مع الغير (الغلام)... هذه سمات تجعل الإنسان جديرًا باستلام دور قيادي وإن كان كبرياء قلبه قد أفسد هذا كله فيما بعد.

"شليشه" تعني "ثلاثي" ، وهي مقاطعة في جبل أفرايم، جنوب غربي شكيم.
"أرض شعليم" تعني "أرض الثعالب" ، مقاطعة في أفرايم.
بحسب التقليد اليهودي الغلام المرافق لشاول هو دواغ الأدومي الذي صار فيما بعد مشيرًا له، بسببه قُتل كهنة نوب ونساؤهم وأولادهم حتى ماشيتهم أهلكها (1 صم 22: 7-23).
2. الغلام يشير عليه باللقاء مع الرائي:

إذ أراد شاول العودة حتى لا ينشغل أبوه بأمره هو والغلام، سأله الغلام أن يستشير رجل الله ليخبرهما عن طريقهما التي يسلكان فيها [6].
اعتاد اليهود أن يدعو النبي "رجل الله" (يش 14: 6، 1 مل 12: 22؛ أي 11: 2)، لأنه يعمل على التقدم بالشعب إلى الله خلال الصلاة والوصية الإلهية والإرشاد والنبوة؛ كما يدعى "إنسان الروح" (هو 9: 7)، بكونه مهتمًا بالروحيات، يعمل بقيادة روح الله؛ وأيضًا يدعى "الرائي" إذ ينظر إلى بعض أمور المستقبل كما ببصيرة روحية مفتوحة.
ادعى بعض النقاد أن هذا السفر يحوي مصدرين مختلفين في الفكر، كما رأينا في المقدمة، قائلين إننا نرى في الحوار بين شاول وغلامه أن الأول يجهل اسم الرائي وموضوعه بينما يسكن قريبًا منه، وكأن صموئيل رٍاء مجهول حتى ممن هم قاطنون بالقرب منه، بينما نجد في ذات السفر صموئيل كنبي عظيم وقاضٍ يحكم الشعب كله ويوجهه... كيف يكون ذلك؟

أ. يُجاب على هذا بأن شاول عاش في قريته لا يُبالي بالأمور السياسية والدينية الجارية في عصره، فلم تكن الشخصيات البارزة معروفة لديه كما يحدث مع كثيرين من سكان القرى، خاصة مع عدم وجود وسائل إعلام قوية كالعصر الحديث. أذكر أنه في عام 1953 بعد قيام الثورة المصرية كتب أحد المدرسين المنقولين إلى الصعيد إلى عائلته في القاهرة يقول: هنا يوجد أناس لازالوا يظنون أن الملك فؤاد هو حاكم مصر؛ وكأنهم على غير علم بموته وجلوس الملك فاروق ثم عزله وقيام الثورة في يوليو 1952. ربما حمل الحديث نوعًا من المبالغة لكنه يوضح كيف لا ينشغل بعض سكان القرى بالرئاسات الدينية أو المدنية العليا.
يقدم لنا واضع تفسير صموئيل الأول (مركز المطبوعات المسيحية) مثلًا واقعًيا حدث في إسكتلنده، حيث دُعي رئيس كنيسة إسكتلنده ليلقي خطابًا في حفل عام، وكان زعيمًا بارزًا في جيله، كتبت عنه الصحف عدة شهور ونشرت له صورًا مرارًا كثيرة. فلما قدمه رئيس المؤتمر إلى رئيس مجلس المدينة وهو عضو في تلك الكنيسة، سأل: "من هو هذا الرجل؟"... على ذات القياس، في كل عصر نجد الكثيرين ممن لا يهتمون حتى بمعرفة اسم الرئيس الديني.
هذا ونلاحظ أن الغلام الذي يخدم شاول كانت لديه معلومات أكثر عن الرائي وكرامته وموضع سكناه، إذ قال: "هوذا رجل الله في هذه المدينة، والرجل مكرم، كل ما يقوله يصير" [6].
هذا ولا ننسى أيضًا أن صموئيل مثل عالي الكاهن اختلف الاثنان عن بقية القضاة السابقين لهما وربما البعض كانوا معاصرين لهما، إذ التزما بالعمل القيادي الروحي والتوجيه في المسائل الزمنية دون قيادة الجيوش بنفسيهما، إذ لم يكونا رجلي حرب، الأمر الذي لم يكسبهما شهرة بين الشباب، لأن الشباب غالبًا ما تستهويه أخبار الحروب والانتصارات والأعمال البطولية.
تساءل شاول: "ماذا نقدم للرجل، لأن الخبز قد نفذ من أوعيتنا وليس من هدية نقدمها لرجل الله، ماذا معنا؟" [7].

إن كان شاول قد جهل اسم الرائي وموضع سكناه لكنه تربى منذ الطفولة ألاَّ يدخل بيت الله بيد فارغة، ولا يلتقي برجل الله بيد فارغة. وكانت العادة السائدة أن يقدم الإنسان من طعامه أو محصولاته كما من أمواله.
هذه العادة عاشتها الكنيسة الأولى، فقيل عن والد القديس تكلا هيمانوت الأثيوبي، وهو كاهن، أنه لم يكن يدخل الكنيسة بيد فارغة. الكاهن الروحي محب للعطاء أكثر من الأخذ... أينما وجد يشتاق أن يُعطي. أقول إن كل نفس تلتقي بالله المحبة يحمل طبيعة العطاء في أعماقه، يفرح ويشبع داخليًا مع كل عطاء للغير.
كان مع الغلام ربع شاقل فضة، وهو مبلغ زهيد للغاية، لم يخجل هو وشاول من تقديمه، فإن العبرة لا في الكمية بل في طبيعة العطاء ذاتها أو اتساع القلب بالحب.
كانت الرامة - مدينة صموئيل- قائمة على أكمتين (رامتايم 1: 1)، لذا قيل "وفيما هما صاعدان في مطلع المدينة" أي متجهان نحو باب المدينة، التقيا بفتيات خارجات لاستقاء الماء، قلن لهما: "هوذا هو أمامكما، أسرعا الآن، لأنه جاء اليوم إلى المدينة لأنه اليوم ذبيحة للشعب على المرتفعة" [12].
إن كانت الرامة القائمة على أكمتين تمثل كنيسة المسيح القائمة على العهدين، القديم والجديد، فإنه يليق بكل قلب أن يترك ما هو عند السفح ويصعد بروح الله خلال كلمة الله -العهدين- ليعيش في الرامة كرٍاء ينعم بالبصيرة المفتوحة المطَّلِعة على أسرار الله وأمجاده السماوية، ما هؤلاء الفتيات الخارجات لاستقاء الماء إلا رجال العهدين القديم والجديد الذين خلال النبوات والكرازة الإنجيلية يشيرون إلى المسيح السائر أمامنا يرعانا، يفتح طريق الحق ويعبر بنا إلى الجلجثة لننعم بأسرار ذبيحته المخلِّصة.
ماذا قالت الفتيات لهما؟

"عند دخولكما المدينة للوقت تجدانه قبل صعوده إلى المرتفعة ليأكل، لأن الشعب لا يأكل حتى يأتي لأنه يبارك الذبيحة، بعد ذلك يأكل المدعوون" [13].
إذ ننعم بالصعود إلى كنيسة المسيح، ماذا نرى؟ نرى مسيحنا الذي تقدم ليأكل، مقدمًا جسده المبذول ذبيحة حب مشبعة لشعبه. يبارك الذبيحة بيديه الطاهرتين ليُعطي مدعويه ليأكلوا ويشبعوا ويثبتوا فيه.
لما دخل الرجلان إلى وسط المدينة "إذ بصموئيل خارج للقائهما ليصعد إلى المرتفعة" [14]. هكذا إذ ننعم بالعضوية الكنسية، ندخل إلى كنيسته فيحملنا إلى جبل الجلجثة (المرتفعة) لنتمتع بسر الذبيحة واهبة المصالحة والمشبعة لاحتياجات النفس.
3. صموئيل يكشف لشاول رسالته:

لقد كشف الله لصموئيل النبي بخصوص مسح شاول ملكًا أو رئيسًا لشعبه، وذلك قبل اللقاء معه بيوم [15]. ويلاحظ أن كلمة "رئيس" جاءت هنا في العبرية nagid تعني "رئيسًا" أو "أميرًا" غير أن الحديث عنه هنا كملك، كما أنه المسحة ذاتها تعني نواله الملوكية.
استضاف صموئيل النبي شاول، وكشف له كل شيء، إذ قال له: "وأما الأتن الضالة لك منذ ثلاثة أيام فلا تضع قلبك عليها، لأنها قد وُجدت، ولمن كل شهيِّ إسرائيل؟ أليس لك ولكل بيت أبيك؟!" [20].
في اتضاع أجاب شاول: "أمَا أنا بنياميني من أصغر أسباط إسرائيل، وعشيرتي أصغر كل عشائر أسباط بنيامين؟! فلماذا تكلمني بمثل هذا الكلام؟!" [21].
هنا يليق بنا أن نقف قليلًا لندرك عطايا الله للإنسان المرتفع إلى مدينة الرامة، أي إلى الكنيسة، والملتقى مع صموئيل رمز السيد المسيح.


أ. طلب صموئيل النبي من شاول ألا ينشغل بالأتن الضالة، فإنها أمر تافه للغاية أمام ما سيناله من عطايا، مقابل هذا أعلن له أنها قد وجدت، وأنه ينال كل شهي إسرائيل. ألم يسألنا السيد المسيح ألا نهتم بشيء إلا بملكوت الله وهذه كلها تزاد لنا.؟ فإن الله في محبته يهبنا في هذا العالم مئة ضعف (مت 19: 29) بجانب تمتعنا بملكوت الله.
لنترك عنا الارتباك بالأتن الضالة، فيردها الرب إلينا ويعطينا مركبات وخيل، أما ما هو أعظم فإنه يهبنا ملكوته السماوي، كما بقيادة مركبته السماوية، لنترك الأتن الوضيعة الأرضية فنتقبل مركبة الله السماوية!
ب. أخذه صموئيل هو وغلامه إلى المنسك، أي إلى الغرفة بالمرتفعة عند المذبح المعدة للولائم الخاصة بالذبائح، وجعلهما على رأس المدعوين وهم نحو ثلاثين رجلًا [22]، ثم أوصى الطباخ أن يقدم له الساق وما عليها [24]. على أي الأحوال من يترك الانشغال بالزمنيات يرتفع كما إلى الوليمة السماوية وينعم بالطعام السماوي وينال كرامة مضاعفة وشبعًا.
ج. تمتع شاول بحديث سري مع صموئيل عند طلوع الفجر على السطح [25-26]. هكذا إذ ننعم بالطعام السماوي ندخل إلى علاقة سرية مع مسيحنا، نلتقي به مبكرًا، حيث نوجد كما على السطح، مرتفعين نحو السماء لننظر أسراره الإلهية وننصت إلى كلماته الخاصة، محدثًا إيانا عن إقامتنا ملوكًا روحيين (رؤ 1: 6؛ 5: 10).

Mary Naeem 21 - 06 - 2023 05:21 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg



مسح شاول ملكًا





مُسح شاول ملكًا، وقدمت له كل إمكانيات ليعيش في مخافة الرب قائدًا قويًا يتمم الإرادة الإلهية، دون أن يلتزم بالعمل حسب إرادة الله قسرًا.


1. مسحه ملكًا:

"فأخذ صموئيل قنينة الدهن وصبَّ على رأسه، وقبّله وقال: أليس الآن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا؟!" [1].
تضايق صموئيل النبي عندما طلب الشعب إقامة ملك لهم كسائر الأمم، لكن إذ قبل الرب طلبتهم خضع، بل وبعدها صب الدهن على رأسه قائلًا: "أليس الآن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا؟!". لقد قبّله برضى في اتضاع معلمًا إيانا روح الخضوع، وكما يقول القديس بطرس الرسول "فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب. إن كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمُرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير" (1 بط 2: 13-14).
مسحه بقنينة الدهن، التي يمسح بها الكهنة والأنبياء والملوك، فيحسبون مسحاء الرب، بكونهم رمزًا للسيد المسيح، فهو وحده تجتمع فيه الثلاث وظائف معًا لأنه في العهد القديم كان الكهنة من سبط لاوي وحده والملوك من سبط يهوذا (داود ونسله)، فلا يتمتع أحد بالوظيفتين معًا.

ما أجمل عبارة صموئيل النبي للملك الممسوح حديثًا: "لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا". فإنه ما ناله شاول هو عطية إلهية نالها كنعمة مجانية وليس على استحقاق أو برّ ذاتي. أقامه وكيلًا على شعبه الذي دعاه ميراثه. حقًا إن الأرض كلها للرب، لكن شعبه
هو ميراثه ونصيبه الذي يعتز به وينشغل به كما ينشغل الإنسان بميراثه الخاص.
2. صموئيل يُنبئه بما يتم معه:

إذ مُسح شاول بالدهن المقدس ملكًا أنبأه بما سيحدث معه:
1. يذهب إلى قبر راحيل في تخم بنيامين حيث يلتقي برجلين يخبرانه بأن الأتن قد وجدت وأن أباه مهتم بأمره هو والغلام [2]. كان له أن يفخر بهذا السبط، وإن كان قد صار أصغر الأسباط بسبب المذبحة التي وردت في (قض 20: 46). كان يليق به أن يدرك أن بنيامين الذي كان ابن حزن أمه راحيل قد صار ابنًا لليمين بالنسبة لأبيه يعقوب. وهو في هذا يشير إلى السيد المسيح الذي هو ابن حزن أمه -جماعة اليهود- التي رفضته، وقد جلس عن يمين الآب. بمعنى آخر يليق بشاول عند ذهابه إلى قبر راحيل أن يتشبه ببنيامين الذي تمتع بالجلوس عن يمين أبيه حتى وإن أحزن قلوب الكثيرين. لكن للأسف اهتم شاول أن يرضي الناس -أمه- لا الله، فصار من أبناء اليسار لا اليمين.
قبر راحيل، يبعد حوالي ميل شمال بيت لحم (تك 35: 16-20) وأربعة أميال من تخم بنيامين الجنوبي. أما صلصح المذكورة هنا [2] فهي غالبًا ما بين قبر راحيل وتخم بنيامين الجنوبي.

أعطاه النبي علامة أنه يجيد رجلين عند القبر يخبرانه بأن الأتن قد وُجدت وأن أباه يفتش عن ابنه، لماذا؟ تأكيد مقابلة رجلين ينزع عن شاول الفكر أن ما يحدث هو محض صدفه، إذ يليق به في بداية مسحه ملكًا أن يدرك يد الله الخفية العاملة حتى في الأمور البسيطة.
ب. يلتقي بثلاثة رجال في بلوطة تابور [3] صاعدين إلى الله إلى بيت إيل يحملون 3 جداء و3 أرغفة وزق خمر، يسلمون عليه دون أن يعرفوا أمر مسحه ملكًا ويقدمون له رغيفي خبز. ماذا يعني هذا؟ إنهم لا يقدمون له من الجداء لأنه ليس كاهنًا، بل يصعدون بالذبائح إلى بيت إيل إلى بيت الله خلال الكهنة، ولا يقدمون خمرًا لأنها تمثل نوعًا من الترف، إنما يقدمون له رغيفين أي الاحتياجات الضرورية له ولمن معه (هو والغلام). كأنه يليق به كملك ألا يتدخل في الأمور الكهنوتية، ولا يطلب الكماليات إنما يعيش بروح الكفاف ليأكل خبزًا هو ورجاله متفرغًا للعمل لحساب شعب الله.
ج. يذهب إلى جبعة الله، إلى أنصاب الفلسطينيين، حيث يلتقي هناك بزمرة الأنبياء، ويحل عليه روح الرب فيتنبأ معهم [5-6]. يعتبر صموئيل هو مؤسس مدرسة الأنبياء، التي منها نشأ نظام المجمع اليهودي Synagogue System ليمدهم بالتعليم الحاخامي وبقيادات للمجمع (راجع أع 3: 24؛ قارن 1 صم 10: 5 مع 19: 20) . يلتقي بالأنبياء نازلين من المرتفعة وأمامهم رباب ودف وناي وعود وهم يتنبأون، أي يسبحون الرب بفرح وتهليل [5].
يمكننا القول بأن شاول - كأول ملك لإسرائيل - تعلم بعد مسحه مباشرة المبادئ الأساسية التالية لينجح في حكمه:
أ. أن يموت عن الأمور الزهيدة (زيارته قبر راحيل) وعدم انشغاله بالأتن الضائعة.
ب. أن يصعد مع الرجال الثلاثة بقلبه إلى بيت الرب ينعم بالذبيحة (3 جداء) والطعام الروحي (الخبز) وحياة الفرح (زق الخمر).

ج. ألا يتعدى حدوده، فلا يمارس العمل الكهنوتي بتقديم ذبائح.
د. أن يكتفي بالضروريات له ولرجاله (أخذ رغيفين) ولا يطلب الكماليات (لم يأخذ خمرًا).
ه. أن يلتقي بزمرة الأنبياء يشاركهم فرحهم وعبادتهم ويقبل مشورتهم، فلا يمارس عملًا دون طلب صلواتهم عنه.
بعد أن قدم صموئيل هذه العلامات الثلاث التي حوت دستور الحياة الناجحة لملوك إسرائيل، قال له: "فيحل عليك روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل أخر" [6]. هذه هي عطية الله العظمى، يهبنا روحه القدوس - واهب العطايا - يسكن فينا فنعبده (نتنبأ) وتتجدد طبيعتنا. من الذي يغير شاول من رجل فلاح وراعي غنم بسيط إلى ملك مقتدر يهتم بألوف شعب الله عوض الأتن والحقل إلا روح الله القدوس؟ هكذا بعمل الروح القدس تتجدد طبيعتنا في مياه المعمودية، ونتمتع بالتقديس المستمر حتى نحمل صورة مسيحنا ملك الملوك.
* الروح القدس هو قوة التقديس.
* دُعي روح القداسة لأنه يقدم القداسة للكل.
* كل صلاح بشري... يوهب خلال الروح القدس.
* من يقتني الطهارة فعلًا على مستوى بشري ويذهب ليغتسل في معمودية الله... يقدر الروح القدس أن يجعل منه مسكنًا له، وتكون قوته العلوية كثوب له.
العلامة أوريجانوس

* هذه هي نعمة الاستنارة (المعمودية) أن شخصياتنا لا تبقى كما كانت عليه قبل نوالنا الحميم.
* إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نصير أبناء، وكأبناء نصير كاملين، وككاملين نضحى غير مائتين، كم قيل: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم" (مز 82 (81): 6).
القديس أكليمندس الإسكندري
3. أشاول أيضًا من الأنبياء؟‍!

إذ مُسح شاول تغير قلبه: "وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر" [9]. وإن كان قد فسد هذا القلب فيما بعد إذ اعتمد على الحكمة البشرية لا على العمل الإلهي.
تحققت كل كلمات صموئيل النبي، وإذ جاء شاول إلى جبعة حيث أنصاب الفلسطينيين -أي آثار أو أعمدة لهم [5]- التقى بزمرة الأنبياء وحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم [10]. لم يتوقع أهل جبعة العارفون شاول منذ ولادته حق المعرفة بأنه غير متديّن، الآن -دون سابق تعّلم في مدرسة الأنبياء- أن يجتمع بالأنبياء ويسبح معهم كواحد منهم، بروح لم يعتادوها فيه. لذلك قيل: "أشاول أيضًا بين الأنبياء؟!‍"، وصارت مثلًا يكني عن عمل الله الفائق في حياة المؤمنين.
إذ انتهى شاول من التنبوء جاء إلى المرتفعة [13] في جبعة ليسجد لله.
إذ نتقبل عمل روح الله القدوس فينا -الذي يُجدد على الدوام حياتنا- يلهب قلبنا للعبادة ويفتح ألسنتنا للتسبيح
لذا يقول العلامة أوريجانوس: [لا نستطيع أن نقيم صلاة ما لم يُلقِ الآب عليه ضوءًا، ويعلمها الابن، ويعمل الروح القدس في داخلنا].

4. لقاؤه مع عمه:

التقى شاول بعمه -ربما كان نَيْر (1 صم 14: 5)- في المرتفعة أو ربما في المنزل بعد عودة شاول. سأله عمه عن حديث صموئيل معه فأخبره بأن صموئيل أعلمه بوجود الأتن الضائعة، وأخفى عنه ما قاله بخصوص المملكة، ربما لأنه حسب ذلك حديثًا سريًا لا يجوز إعلانه قبل اختيار الشعب له وتجليسه ملكًا أمام الجميع.
5. إعلان ملكه في المصفاة:


"استدعى صموئيل الشعب إلى الرب" [17]، أي استدعى الذكور من سن عشرين فما فوق ليتمثلوا في حضرة الرب في المصفاة، حيث عاد فوبخهم على طلبهم ملك، لكنه غالبًا ما ألقى قرعة فأخذ سبط بنيامين، ثم ألقيت القرعة على العشائر، وأخيرًا على الأشخاص فأُخذ شاول بن قيس الذي كان مُختبئًا بين أمتعة القادمين من السفر.
لا نعرف لماذا اختبأ شاول، هل لشعوره بعدم الاستحقاق أم هربًا من المسئولية؟ أم لأنه خاف بسبب رفض الشعب لله وطلبهم ملكًا؟
أعلن الرب عن موضعه، وإذ جاءوا به إلى الشعب وجدوا فيه سؤل قلبهم -جماله وطول قامته- لذا هتفوا فرحين دون أن يقدموا الشكر لله.

احتقره بنو بليعال، وحسبوه عاجزًا عن أن يخلصهم، لذا لم يقدموا له هدية. ربما لأن سبطه أصغر الأسباط ولأن عشيرته هي الدنيا بين عشائر بنيامين... على أي الأحوال التزم شاول الصمت في حكمةٍ "فكان كأصم" [27]، بهذا حفظ الشعب من قيام ثورة داخلية بسببه بين الأسباط. لقد اعتبر صمته غلبة داخلية لحقها بعد شهر من الزمان نصرة خارجية حيث غلب ناحاش ورجال جيشه العمونيين.
الصمت المقترن بالحكمة يمثل نصرة داخلية للنفس، لذا كثيرًا ما أوصى به الآباء.
* إن كنت تحب الحق، أحبب الصمت. هذا يجعلك تنير في الرب مثل الشمس ويخلصك من خداع الجهل.
* الصمت يوحّدك مع الله نفسه.
مار إسحق السرياني



Mary Naeem 22 - 06 - 2023 02:11 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg



مسح شاول ملكًا





مُسح شاول ملكًا، وقدمت له كل إمكانيات ليعيش في مخافة الرب قائدًا قويًا يتمم الإرادة الإلهية، دون أن يلتزم بالعمل حسب إرادة الله قسرًا.


1. مسحه ملكًا:

"فأخذ صموئيل قنينة الدهن وصبَّ على رأسه، وقبّله وقال: أليس الآن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا؟!" [1].
تضايق صموئيل النبي عندما طلب الشعب إقامة ملك لهم كسائر الأمم، لكن إذ قبل الرب طلبتهم خضع، بل وبعدها صب الدهن على رأسه قائلًا: "أليس الآن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا؟!". لقد قبّله برضى في اتضاع معلمًا إيانا روح الخضوع، وكما يقول القديس بطرس الرسول "فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب. إن كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمُرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير" (1 بط 2: 13-14).
مسحه بقنينة الدهن، التي يمسح بها الكهنة والأنبياء والملوك، فيحسبون مسحاء الرب، بكونهم رمزًا للسيد المسيح، فهو وحده تجتمع فيه الثلاث وظائف معًا لأنه في العهد القديم كان الكهنة من سبط لاوي وحده والملوك من سبط يهوذا (داود ونسله)، فلا يتمتع أحد بالوظيفتين معًا.
ما أجمل عبارة صموئيل النبي للملك الممسوح حديثًا: "لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا". فإنه ما ناله شاول هو عطية إلهية نالها كنعمة مجانية وليس على استحقاق أو برّ ذاتي. أقامه وكيلًا على شعبه الذي دعاه ميراثه. حقًا إن الأرض كلها للرب، لكن شعبه
هو ميراثه ونصيبه الذي يعتز به وينشغل به كما ينشغل الإنسان بميراثه الخاص.
2. صموئيل يُنبئه بما يتم معه:

إذ مُسح شاول بالدهن المقدس ملكًا أنبأه بما سيحدث معه:
1. يذهب إلى قبر راحيل في تخم بنيامين حيث يلتقي برجلين يخبرانه بأن الأتن قد وجدت وأن أباه مهتم بأمره هو والغلام [2]. كان له أن يفخر بهذا السبط، وإن كان قد صار أصغر الأسباط بسبب المذبحة التي وردت في (قض 20: 46). كان يليق به أن يدرك أن بنيامين الذي كان ابن حزن أمه راحيل قد صار ابنًا لليمين بالنسبة لأبيه يعقوب. وهو في هذا يشير إلى السيد المسيح الذي هو ابن حزن أمه -جماعة اليهود- التي رفضته، وقد جلس عن يمين الآب. بمعنى آخر يليق بشاول عند ذهابه إلى قبر راحيل أن يتشبه ببنيامين الذي تمتع بالجلوس عن يمين أبيه حتى وإن أحزن قلوب الكثيرين. لكن للأسف اهتم شاول أن يرضي الناس -أمه- لا الله، فصار من أبناء اليسار لا اليمين.
قبر راحيل، يبعد حوالي ميل شمال بيت لحم (تك 35: 16-20) وأربعة أميال من تخم بنيامين الجنوبي. أما صلصح المذكورة هنا [2] فهي غالبًا ما بين قبر راحيل وتخم بنيامين الجنوبي.
أعطاه النبي علامة أنه يجيد رجلين عند القبر يخبرانه بأن الأتن قد وُجدت وأن أباه يفتش عن ابنه، لماذا؟ تأكيد مقابلة رجلين ينزع عن شاول الفكر أن ما يحدث هو محض صدفه، إذ يليق به في بداية مسحه ملكًا أن يدرك يد الله الخفية العاملة حتى في الأمور البسيطة.
ب. يلتقي بثلاثة رجال في بلوطة تابور [3] صاعدين إلى الله إلى بيت إيل يحملون 3 جداء و3 أرغفة وزق خمر، يسلمون عليه دون أن يعرفوا أمر مسحه ملكًا ويقدمون له رغيفي خبز. ماذا يعني هذا؟ إنهم لا يقدمون له من الجداء لأنه ليس كاهنًا، بل يصعدون بالذبائح إلى بيت إيل إلى بيت الله خلال الكهنة، ولا يقدمون خمرًا لأنها تمثل نوعًا من الترف، إنما يقدمون له رغيفين أي الاحتياجات الضرورية له ولمن معه (هو والغلام). كأنه يليق به كملك ألا يتدخل في الأمور الكهنوتية، ولا يطلب الكماليات إنما يعيش بروح الكفاف ليأكل خبزًا هو ورجاله متفرغًا للعمل لحساب شعب الله.
ج. يذهب إلى جبعة الله، إلى أنصاب الفلسطينيين، حيث يلتقي هناك بزمرة الأنبياء، ويحل عليه روح الرب فيتنبأ معهم [5-6]. يعتبر صموئيل هو مؤسس مدرسة الأنبياء، التي منها نشأ نظام المجمع اليهودي Synagogue System ليمدهم بالتعليم الحاخامي وبقيادات للمجمع (راجع أع 3: 24؛ قارن 1 صم 10: 5 مع 19: 20) . يلتقي بالأنبياء نازلين من المرتفعة وأمامهم رباب ودف وناي وعود وهم يتنبأون، أي يسبحون الرب بفرح وتهليل [5].
يمكننا القول بأن شاول - كأول ملك لإسرائيل - تعلم بعد مسحه مباشرة المبادئ الأساسية التالية لينجح في حكمه:
أ. أن يموت عن الأمور الزهيدة (زيارته قبر راحيل) وعدم انشغاله بالأتن الضائعة.
ب. أن يصعد مع الرجال الثلاثة بقلبه إلى بيت الرب ينعم بالذبيحة (3 جداء) والطعام الروحي (الخبز) وحياة الفرح (زق الخمر).
ج. ألا يتعدى حدوده، فلا يمارس العمل الكهنوتي بتقديم ذبائح.
د. أن يكتفي بالضروريات له ولرجاله (أخذ رغيفين) ولا يطلب الكماليات (لم يأخذ خمرًا).
ه. أن يلتقي بزمرة الأنبياء يشاركهم فرحهم وعبادتهم ويقبل مشورتهم، فلا يمارس عملًا دون طلب صلواتهم عنه.
بعد أن قدم صموئيل هذه العلامات الثلاث التي حوت دستور الحياة الناجحة لملوك إسرائيل، قال له: "فيحل عليك روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل أخر" [6]. هذه هي عطية الله العظمى، يهبنا روحه القدوس - واهب العطايا - يسكن فينا فنعبده (نتنبأ) وتتجدد طبيعتنا. من الذي يغير شاول من رجل فلاح وراعي غنم بسيط إلى ملك مقتدر يهتم بألوف شعب الله عوض الأتن والحقل إلا روح الله القدوس؟ هكذا بعمل الروح القدس تتجدد طبيعتنا في مياه المعمودية، ونتمتع بالتقديس المستمر حتى نحمل صورة مسيحنا ملك الملوك.
* الروح القدس هو قوة التقديس.
* دُعي روح القداسة لأنه يقدم القداسة للكل.
* كل صلاح بشري... يوهب خلال الروح القدس.
* من يقتني الطهارة فعلًا على مستوى بشري ويذهب ليغتسل في معمودية الله... يقدر الروح القدس أن يجعل منه مسكنًا له، وتكون قوته العلوية كثوب له.
العلامة أوريجانوس
* هذه هي نعمة الاستنارة (المعمودية) أن شخصياتنا لا تبقى كما كانت عليه قبل نوالنا الحميم.
* إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نصير أبناء، وكأبناء نصير كاملين، وككاملين نضحى غير مائتين، كم قيل: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم" (مز 82 (81): 6).
القديس أكليمندس الإسكندري
3. أشاول أيضًا من الأنبياء؟‍!

إذ مُسح شاول تغير قلبه: "وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر" [9]. وإن كان قد فسد هذا القلب فيما بعد إذ اعتمد على الحكمة البشرية لا على العمل الإلهي.
تحققت كل كلمات صموئيل النبي، وإذ جاء شاول إلى جبعة حيث أنصاب الفلسطينيين -أي آثار أو أعمدة لهم [5]- التقى بزمرة الأنبياء وحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم [10]. لم يتوقع أهل جبعة العارفون شاول منذ ولادته حق المعرفة بأنه غير متديّن، الآن -دون سابق تعّلم في مدرسة الأنبياء- أن يجتمع بالأنبياء ويسبح معهم كواحد منهم، بروح لم يعتادوها فيه. لذلك قيل: "أشاول أيضًا بين الأنبياء؟!‍"، وصارت مثلًا يكني عن عمل الله الفائق في حياة المؤمنين.
إذ انتهى شاول من التنبوء جاء إلى المرتفعة [13] في جبعة ليسجد لله.
إذ نتقبل عمل روح الله القدوس فينا -الذي يُجدد على الدوام حياتنا- يلهب قلبنا للعبادة ويفتح ألسنتنا للتسبيح
لذا يقول العلامة أوريجانوس: [لا نستطيع أن نقيم صلاة ما لم يُلقِ الآب عليه ضوءًا، ويعلمها الابن، ويعمل الروح القدس في داخلنا].
4. لقاؤه مع عمه:

التقى شاول بعمه -ربما كان نَيْر (1 صم 14: 5)- في المرتفعة أو ربما في المنزل بعد عودة شاول. سأله عمه عن حديث صموئيل معه فأخبره بأن صموئيل أعلمه بوجود الأتن الضائعة، وأخفى عنه ما قاله بخصوص المملكة، ربما لأنه حسب ذلك حديثًا سريًا لا يجوز إعلانه قبل اختيار الشعب له وتجليسه ملكًا أمام الجميع.
5. إعلان ملكه في المصفاة:


"استدعى صموئيل الشعب إلى الرب" [17]، أي استدعى الذكور من سن عشرين فما فوق ليتمثلوا في حضرة الرب في المصفاة، حيث عاد فوبخهم على طلبهم ملك، لكنه غالبًا ما ألقى قرعة فأخذ سبط بنيامين، ثم ألقيت القرعة على العشائر، وأخيرًا على الأشخاص فأُخذ شاول بن قيس الذي كان مُختبئًا بين أمتعة القادمين من السفر.
لا نعرف لماذا اختبأ شاول، هل لشعوره بعدم الاستحقاق أم هربًا من المسئولية؟ أم لأنه خاف بسبب رفض الشعب لله وطلبهم ملكًا؟
أعلن الرب عن موضعه، وإذ جاءوا به إلى الشعب وجدوا فيه سؤل قلبهم -جماله وطول قامته- لذا هتفوا فرحين دون أن يقدموا الشكر لله.

احتقره بنو بليعال، وحسبوه عاجزًا عن أن يخلصهم، لذا لم يقدموا له هدية. ربما لأن سبطه أصغر الأسباط ولأن عشيرته هي الدنيا بين عشائر بنيامين... على أي الأحوال التزم شاول الصمت في حكمةٍ "فكان كأصم" [27]، بهذا حفظ الشعب من قيام ثورة داخلية بسببه بين الأسباط. لقد اعتبر صمته غلبة داخلية لحقها بعد شهر من الزمان نصرة خارجية حيث غلب ناحاش ورجال جيشه العمونيين.
الصمت المقترن بالحكمة يمثل نصرة داخلية للنفس، لذا كثيرًا ما أوصى به الآباء.
* إن كنت تحب الحق، أحبب الصمت. هذا يجعلك تنير في الرب مثل الشمس ويخلصك من خداع الجهل.
* الصمت يوحّدك مع الله نفسه.
مار إسحق السرياني

Mary Naeem 22 - 06 - 2023 02:11 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg




محاربة العمونيين



إذا أراد ناحاش العموني أن يذل أهل يابيش جلعاد، التجأ شيوخهم إلى جبعة شاول الذي حل عليه روح الله، وجمع الشعب معًا وغلب العمونيين... إنها بداية طيبة في بدء عهده فاستحق تجديد ملكه في الجلجال دينيًا وامتلأ الكل فرحًا.




1. تهديد ناحاش العموني:

دُعي ملك العمونيين "ناحاش" أي "حنش" أو حية، ربما بسبب تأليههم للحية.
جاء في الترجمة السبعينية: "بعد شهر"، أي بعد اختيار شاول ملكًا بفترة وجيزة صعد ناحاش ليستعبد يابيش جلعاد. يُقال إن الإسرائيليين طلبوا ملكًا (1 صم 9) عندما شعروا بأن ناحاش يدبر صعوده هذا.
لقد ظهر الضعف الشديد الذي عاش فيه إسرائيل من احتقار ناحاش لهم بصورة مخزية. فمن جهة إذ قبل أهل يابيش أن يُستعبدوا له على أن يقطع لهم عهدًا لحمايتهم كعبيد له طلب منهم "تقوير كل عين يُمنى" لهم ليكون ذلك عارًا على جميع إسرائيل. ولما طلب شيوخهم مهلة سبعة أيام لاستشارة جميع تخوم إسرائيل لعله يوجد من بينهم من يخلصهم منه - في استهانة بكل إسرائيل - أعطاهم المهلة للاستغاثة، مدركًا أنه لا يوجد في كل الأسباط من يقدر أن يُخلص أو يسند... هكذا حل بهم الضعف حتى استهان بهم العدو وسخر منهم.

إن كان ناحاش يرمز للحية القديمة التي حملت عداوة ضد الإنسان منذ البداية، فإن بني إسرائيل يمثلون الطبيعة البشرية التي فسدت تمامًا ولم يكن لها قوة لمقاومة العدو. عمل ناحاش هو الاستعباد ليقيم مملكة الظلمة قانونها العنف والظلم، وقد طلب تقوير كل عين يمنى وترك العين اليسرى.
وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن العين اليمنى تشير إلى البصيرة الروحية والمشورة السماوية أما العين اليسرى فتشير إلى التطلع إلى الزمنيات الفانيات. وكأن عمل عدو الخير أن يُحطم كل بصيرة روحيه ترفع القلب إلى السماويات، ويربط حياتنا بالزمنيات والأرضيات. لهذا السبب في الأيقونات القبطية يُرسم القديسون بعينين متسعتين مفتوحتين، لأن أولاد الله لهم بصيرة في الأمور السماوية كما في الزمنية، هم حكماء في تدبير حياتهم الروحية وأمورهم الزمنية. كما يُصّور السيد المسيح على الصليب مفتوح العينين، فإنه وإن مات بالجسد لكنه بلاهوته يتطلع إلى السمائيين والأرضيين، يرعى السماء والأرض ويهتم بهما. أما بالنسبة للأشرار - مثل يهوذا الخائن - فيصور بجنبه كي تظهر عين واحدة، لأنه متطلع إلى الفضة لا إلى خلاصه الأبدي، يتطلع إلى الزمنيات دون السماويات].
يقول الكتاب عن ناحاش العموني إنه "نزل على يابيش جلعاد" [1]. وكأنه يابيش قد انحط فنزل إلى تراب هذا العالم، لذا "نزل" ناحاش إليه.
وكما يقول القديس جيروم: [إن المؤمن متى كان كطائر مرتفع يحلق في الأعالي لا تقدر الحية الزاحفة على التراب أن تبتلعه، لكن متى نزل الطائر إلى التراب يسهل إلى الحية أن تبتلعه. هكذا وجدت الحية - ناحاش - أهل يابيش في وحل هذا العالم لذا زحفت إليهم مستهينة بهم، مدركة أنه ليس من يستطيع أن يخلصهم من أحشائها.
إن كانت كلمة "جلعاد" تعني "كومة شهادة" أو "خشن"، فإن "يابيش" تعني "جافًا". عدو الخير أو الحية القديمة يستطيع أن يعيّر النفس الجافة المملؤة خشونة، أما المملوءة محبًا ولطفًا في الرب فليس له موضع فيها، ولا يقدر أن يقاومها.

يابيش جلعاد: مدينة على جبل جلعاد شرقي الأردن، يظن أنها تل أبو خرز في شمال وادي اليابس (وادي يبيش)، تبعد 9 أميال جنوب شرقي بيت شان، دمرها الإسرائيليون لعدم اشتراكهم معهم في المصفاة (قض 21: 8).
2. غيرة شاول:

جاء الرسل إلى جبعة شاول يتحدثون بتهديدات ناحاش، فرفع كل الشعب أصواتهم وبكوا. "وإذ بشاول آت وراء البقر من الحقل، فقال شاول: ما بال الشعب يبكون؟" [5].
سبق أن مُسح شاول بالدهن المقدس فصار "مسيح الرب"، ملك إسرائيل، لكنه لم يمارس العمل الملوكي ربما خشية حدوث انقسام وسط الشعب بسبب رفض بني بليعال له، أو لشعوره بالعجز وعدم الخبرة في ممارسة هذا المنصب منتظرًا الفرصة التي يعدها الرب له.
إن كان شاول بنيامينيًا، فإن البنيامينيين يحملون قرابة خاصة مع أهل يابيش، لأنه بعد مذبحة بنيامين أخذ البنيامينيون 400 عذراء منهم كنساء لهم (قض 21: 1-4)، لذا لا نعجب إن تعاطف البنيامينيون معهم. هذا وقد حل عليه روح الله ليمارس بغيرة وشجاعة وإيمان عمله كملك [6-7]، إذ أخذ فدان بقر وقطّعه ووزَّع القطع على كل تخوم إسرائيل ليثير فيهم الرغبة في الحرب ضد العدو. لبى الشعب الدعوة فقد أعطاه الرب مهابة في أعينهم، وخرجوا كرجل واحد وكان عددهم 300,000 رجل من إسرائيل و30,000 من يهوذا... هذا العدد لم يتدرب على الحرب، اجتمعوا في بازق، بين شكيم وبيت شأن على بعد سبعة أميال من الأردن.

قام شاول بتوزيع الشعب وتنظيمه ليكون منه ثلاث فرق هاجمت العدو عند السحر من ثلاث جهات مختلفة في وقت غير متوقع. قام العدو من النوم فزعًا ينازعهم النعاس والدهشة لما حدث فحلت بهم الهزيمة كاملة، إذ أن بني إسرائيل "ضربوا العمونيين حتى حمى النهار (الظهيرة)، والذين بقوا تشتتوا لم يبق منهم اثنان معًا" [11].
بحكمة قال أهل يابيش لناحاش: "غدًا نخرج إليكم..." ليظن أنه خاب أملهم في وجود نجدة لهم، وفجأة هاجموه مع نهاية الليل وبداية الفجر... إنها صورة حيَّة لجهاد المؤمنين، الذين يشعرون في أعماقهم وبصدق أنهم عاجزون عن محاربة عدو الخير لأن طبيعتهم قد فسدت وعدو الخير سيطر على أعماقهم بالرعب. إنهم في حاجة إلى مسيح الرب الحقيقي - كلمة الله المتجسد - الذي يجمع شمل المؤمنين بروحه القدوس ويقودهم بنفسه في المعركة الروحية الخفية مع نهاية الليل وبدء النهار، حيث يشرق على قلوبهم واهبًا إياهم الغلبة على الظلمة. بمعنى آخر بالاتضاع الحق -الذي من خلاله ندرك عجزنا الكامل مع ثقة كاملة في المسيح واهب الغلبة- ندخل إلى المعركة التي طرفها الله والشيطان.
3. رفض قتل بني بليعال:

طلب الشعب من صموئيل النبي -الذي مسح شاول ملكًا- أن يُقتل بنو بليعال الذي احتقروا شاول بكونهم عصاة، لأن شاول حقق لإسرائيل نصرة عظيمة لم تكن متوقعة. وجاءت الإجابة من شاول: "لا يُقتل أحد في هذا اليوم، لأنه في هذا اليوم صنع الرب خلاصًا في إسرائيل" [13]. هكذا ظهر شاول كملك أبيَّ النفس يرفض قتل الناس في يوم الخلاص، حاسبًا فرح الشعب أعظم من أي انتقام شخصي.
إن كان هذا يليق بالملك فكم بالأكثر يلزم على الكاهن أن يكون طويل الأناة حتى بالنسبة لمضايقيه.

* ينبغي أن يكون سلوك الكاهن نحو من هم في عهدته كسلوك الأب نحو أطفاله الصغار، فلا يضطرب بسبب شتائمهم أو ضرباتهم أو نحيبهم، بل وإن ضحكوا عليه وسخروا منه لا يعطي ذلك اهتمامًا.
* إن كان الأسقف... ذا طبع ثائر، فإن هذا يُسبب كوارث عظيمة له ولإخوته.
* لا يوجد شيء يفيد الغير ويجتذب القلوب إلى الله أكثر من وداعة من يكون مهانًا، مستهزئًا به، مثلوبًا، مُعَّيرًا، وهو يحتمل كل هذا بوجه باش وهدوء عظيم كأنه لا يشعر بشيء.
القديس يوحنا الذهبي الفم
4. تجديد المُلك لشاول:

مُسح شاول ملكًا في المصفاة [25] ووُجد بنو بليعال المحتقرون له، أما وقد غلب فتم تجديد مبايعته بالإجماع في الجلجال أمام الرب حيث قدمت ذبائح سلامة، وعمّ الفرح الجميع.

Mary Naeem 25 - 06 - 2023 05:21 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg



حديث صموئيل الوداعي



قدم صموئيل النبي حديثًا وداعيًا وصريحًا، أشهدهم فيه أمام الله ومسيحه على أمانته من نحوهم وعدم استغلاله لهم، كما ذكرهم ببركات الرب وأعماله معهم، ووبخهم على طلبهم ملكًا، فاتحًا أمامهم باب الرجاء في الرب المحب لشعبه... وقد أراد بهذا كله تقديم درس للملك الجديد.




1. صموئيل النبي يعلن أمانته:

أوضح صموئيل النبي أمانته في العمل الرعوي بإعلانه أنه كان يستجيب لطلبات شعب الله، يسمع لصوتهم حتى أقام عليهم ملكًا كطلبهم، ولم يكن ذلك مقابل شيء، إنما من أجل حبه لهم. في ثقة يقول: "هأنذا فاشهدوا عليّ قدام الرب وقدام مسيحه: ثور من أخذت؟! وحمار من أخذت؟! ومن ظلمت؟! ومن سحقت؟! ومن يد من أخذت فدية لأغضي عيني عنه فأراد لكم؟! [3].
إنه يُشهد الرب الذي يفحص القلوب ويعرف الأفكار الخفية أن ما صنعه مع شعب الله لم يكن مظهرًا خارجيًا بل نابعًا من أعماق حب وأمانة داخلية.
ويُشهد أيضًا مسيحه، أي شاول الملك، فإن كان صموئيل قد حزن لطلب الشعب إقامة ملك لكن هوذا الملك نفسه يشهد لصموئيل عن أمانته في الرعاية، أنه لم يُنقص الشعب أو يعوزه شيئًا، ولا سلب الشعب شيئًا.
ما فعله صموئيل النبي هنا ليس دفاعًا عن نفسه لأنه لم يتهمه أحد بشيء إنما قصد به تثقيف الملك الجديد.
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يتهمه أحد، فإنه لم ينطق بهذا لكي يبرر نفسه وإنما لأنه قام بمسح ملك فأراد أن يعلمه أن يكون وديعًا ولطيفًا تحت ستار دفاعه عن نفسه... لقد نطق بهذا ليكون (الملك) في حال أفضل ].
لقد شهد الكل كيف سلك بلا لوم إذ قالوا: "لم تظلمنا ولا سحقتنا ولا أخذت من يد أحد شيئًا" [4]. هكذا يليق بالقائد الروحي أن يكون بلا عيب!

* يليق بالكاهن أن يتلألأ، فيضئ بسيرته الحسنة على جميع الناس ليقتدوا بمثاله. أما إذا استحال هذا النور إلى ظلام، فماذا يحل بالعالم؟! أما يصير خرابًا؟!
* نحن محتاجون إلى سلوك حسن لا إلى لغة منمقة، إلى الفضيلة لا إلى الخطابة الفذة، إلى الأعمال لا إلى الكلام.
القديس يوحنا الذهبي الفم
لقد أشهدهم على إخلاصه، كا أشهد الملك نفسه مسيح الرب، وذلك في حضرة الله الذي أقام موسى وهرون والذي أصعد آباءهم من أرض مصر [6]. يقول يشوع بن سيراخ: "قبل أن ينام صموئيل نومه الطويل دافع عن براءته أمام الله والشعب" (1 صم 46: 19).
2. معاملات الله معهم:

بعد أن شهد الشعب ببراءته بدأ هو يُحاكمهم مظهرًا معاملات الله معهم كيف اهتم بهم عبر الأجيال مرسلًا لهم مخلصًا متى لجأوا إليه بالصلاة. ففي مصر إذ استعبدهم المصريون صرخوا إلى الله فأرسل إليهم خلاصًا على أيدي موسى وهرون، وعندما أذلهم سيسرا رئيس جيش حاصور وأيضًا الفلسطينيون والموآبيون أرسل لهم قضاة وقام الرب نفسه بإنقاذهم من أيدي أعدائهم الذين حولهم ليسكنوا آمنين . كأن الله لم يعوزهم شيئًا إذ اهتم برعايتهم وسلامهم، أما الآن فإذ رأوا ناحاش آتيًا لم يصرخوا إلى الرب ليرسل لهم خلاصًا وإنما طلبوا ملكًا عليهم متجاهلين أن الرب نفسه ملكهم .
3. طلبهم ملكًا:

كثيرًا ما يكرر صموئيل النبي الحديث عن إقامة ملك بكونه خطأ موجهًا ضد الله نفسه الذي يملك عليهم ويقودهم دون أن يعوزهم شيئًا.
لقد أراد أن يوضح لهم أنه وإن كان الملك قد أُقيم يلزمهم ألا يتكئوا على الذراع البشري بل على ملكهم الحقيقي الذي في يده التاريخ والطبيعة. أكد ذلك بمثل عملي سريع إذ قال لهم: "أما هو حصاد الحنطة اليوم؟! فإني أدعو الرب فيعطي رعودًا ومطرًا، فتعلمون وترون أنه عظيم شرّكم الذي عملتموه في عيني الرب بطلبكم لأنفسكم ملكًا؟ [17]. وإذ صار رعد ومطر "خاف جميع الشعب الرب وصموئيل" [18]. هكذا كان الشعب محتاجًا إلى درس سريع وعملي ليدرك أن الله هو ملك الطبيعة وضابطها قادر أن يوجه التاريخ ويضبطه.
أبرز صموئيل النبي لطف الله نحو شعبه الذي رفض مُلكه، فإنه قبِل طلبتهم كما أعطاهم حق الاختيار، إذ قيل: "فالآن هوذا الملك الذي اخترتموه الذي طلبتموه، وهوذا قد جعل الرب عليكم ملكًا" [13].
4. يفتح باب الرجاء أمامهم:

كشف لهم في حزم عن الخطأ الذي ارتكبوه بطلب ملك لأنفسهم، لكنه كأب يفتح باب الرجاء في مراحم الله العظيمة قائلًا: "لا تخافوا، إن كنتم قد فعلتم كل هذا الشر، ولكن لا تحيدوا عن الرب... لأنه لا يترك الرب شعبه من أجل اسمه العظيم، لأنه قد شاء الرب أن يجعلكم له شعبًا" [20-22].

الله -في صلاحه- يحّول حتى أخطاءنا لمجد اسمه القدوس ولبنياننا إن رجعنا إليه بالتوبة، كما فعل مع أخطاء إخوة يوسف، إذ حولها لمجد الله ولتكريم يوسف ولشبع يعقوب وبنيه، ولإقامة أمة لهم في مصر.
الله غيور على شعبه لا من أجل برهم الذاتي، وإنما من أجل حبه، ومن أجل اسمه القدوس، هذا ما يكرره الرب، ويؤكد لنا:
"خلصهم من أجل اسمه ليُعرف جبروته" (مز 106: 8).
"من أجل اسمي أبطئ غضبي... من أجل نفسي من أجل نفسي أفعل، لأنه كيف يُدنس اسمي؟! وكرامتي لا أعطيها لآخر" (إش 48: 9، 11).
"صنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم الذين هم في وسطهم" (خر 29: 9).
إن كان - من جانب الله - يرسل لهم خلاصًا في كل جيل، فمن جانب صموئيل يحمل كل حب لهم، لذا يقول: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1 صم 11: 23). هكذا لا يكف عن الصلاة ولا يتوقف عن تعليمهم الحق وإرشادهم.
من جهة صلاة القائد، خاصة الكاهن، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الكاهن، لأنه أؤتمن على العالم وصار أبًا لجميع الناس، يتقدم إلى الله متوسلًا في الصلوات الخاصة والعامة من أجل رفع الحروب في كل مكان وإخماد الاضطرابات ملتمسًا السلام والهدوء لكل نفس والشفاء للمرضى ...].
أما من جهة التعليم فيقول: [من لا يعرف كيف يقدم التعليم الصحيح فهو بعيد كل البعد عن كرسي المعلم، لأن بقية الصفات يمكن أن توجد بين من يرعاهم... أما ما يميزه عنهم، فهو قدرته على التعليم بالكلمة].


Mary Naeem 25 - 06 - 2023 05:41 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg



شاول يغتصب العمل الكهنوتي



استخدم شاول الحكمة البشرية في حماقة [13] باغتصابه العمل الكهنوتي وإصعاد محرقة للرب، لأن الشعب قد تفرق عنه وصموئيل قد تأخر بينما اجتمع الفلسطينيون لمحاربته. صدر الأمر الإلهي على فم صموئيل النبي: "أما الآن فمملكتك لا تقوم" [14].




1. ارتعاد الشعب:

يفتتح هذا الأصحاح في الأصل العبري بالعبارة: "كان شاول ابن سنة حين ملك، وملك سنتين على إسرائيل" [13]. واضح أنه لم يكن ابن سنة حين ملك ولا ملك سنتين فقط، لذا يظن البعض أن الناسخ فقد كلمة "أربعين" قبل كلمة "سنة"، أي "كان شاول ابن أربعين سنة حين ملك"، وأن كلمة "ثلاثين" فُقدت بعد كلمة سنتين، أي ملك "سنتين وثلاثين"، فإذا أُضيف إلى الـ32 سنة وكسور سبعة سنين وكسور (الفترة ما بين موت شاول ومسح دود ملكًا على كل إسرائيل (2 صم 4: 5؛ 5: 5) يمكن القول بأن مملكة شاول بقيت لمدة أربعين سنة (أع 13: 21).
في (1 صم 9: 2) نرى شاول شابًا حين ملك، وهنا نرى ابنه يوناثان جنديًا محاربًا [2-3]، فلا بُد أن تكون هناك فترة تزيد عن العشرين سنة ما بين ما ورد هنا وما ورد في الأصحاح السابق. خلال هذه المدة نظم شاول جيشًا صغيرًا، يضم 3 آلاف محارب، ألفين معه في مخماس [تعني "مختِف"(103)، قرية مخماس الحالية، تبعد خمسة أميال شمال أورشليم]. وألفًا مع يوناثان ابنه البكر في جبعة بنيامين [هي تل الفول حاليًا تبعد أربعة أميال شمال أورشليم، شرقي الطريق من أورشليم إلى نابلس، مسكن شاول الأصلي].

ضرب يوناثان نصب الفلسطينيين الذي في جبع [لا تزال تحمل ذات الأسم، يفصلها عن مخماس وادٍ عمقه 800 قدم، جانباه منحدران]. ضرب شاول بالبوق ليجمع إسرائيل للحرب، فاجتمعوا في الجلجال. أما الفلسطينيون فحسبوا هذا مهانة لهم أن يضرب يوناثان نصبهم فاجتمع 30,000 مركبة و6000 فارس وشعب بلا عدد كرمل البحر صعدوا ثم نزلوا في مخماس شرقي بيت آون (بيت الصنم أو الشر، كانت بين بيت إيل ومخماس)، ربما جاءوا ليسدوا طريق الجلجال فلا يصعد شاول لنجدة يوناثان.
لم يفكر شاول أو يوناثان أو الشعب في الالتجاء إلى الله لخلاصهم، لذا حل بهم الخوف والرعدة، اختبأ الشعب في المغاير والغياض والصخور والصروح والآبار، وعبر البعض الأردن إلى أرض جاد وجلعاد، حتى لم يبق مع شاول سوى ستمائة شخص [15].
لقد فقد الشعب رجاءهم وامتلاؤا خوفًا لا بسبب قلة عددهم وإنما بسبب فقدان إيمانهم:
* عندما يظلم الذهن يختفي الإيمان، ويُسيطر الخوف علينا، وينقطع رجاؤنا.
* الإنسان الجسداني يخاف (الموت) كما يخاف الوحش من الذبح.
مار إسحق السرياني
2. شاول يقدم محرقة:

رأى شاول الشعب قد تشتت، وهجر كثيرون الموقع، وقد أوشكت الهزيمة أن تحل بالشعب، وصموئيل لم يحضر بعد، فقال: "قدموا إليّ المحرقة وذبائح السلامة"، فأصعد المحرقة. لقد ظن أن المحرقة أشبه بأحجية أو حجاب يؤدي إلى النصرة، ولا يدري أنها رمز للذبيحة الحقيقية، وأنه لا يجوز تقديمها ألا بحسب الشريعة لتحقيق المصالحة مع الله. في غباوة تجاسر وكسر الوصية الإلهية، متعللًا بالظروف المحيطة غير متكلٍ على الرب.


Mary Naeem 26 - 06 - 2023 07:50 AM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg



نصرة يوناثان



لم يحتمل يوناثان فقدان شعبه كرامته، وإذ آمن أنه "ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو بالقليل" [6] عبر مع حامل سلاحه وحدهما الوادي الضيق العميق ووهبه الله نعمة لتحقيق النصرة. بسبب تسرع أبيه شاول سقط يوناثان تحت اللعنة لأنه ذاق عسلًا وسط النهار بينما أقسم أبوه ألا يأكل أحد حتى المساء...





1. عبور يوناثان إلى الفلسطينيين:

وقف الجيشان قبالة بعضهما البعض؛ الفلسطينيون عند سن الصخرة التي في الشمال "بوصيص" (أي مضيئ) مقابل مخماس؛ وشاول ورجاله في الجنوب عند سن الصخرة "سنة" (أي شجرة السنط) عند جبع بينهما ممر ضيق لكنه شديد الانحدار لا يستطيع إلا الماعز الجبلي، أو من يحبو على يديه أو رجليه. كل جيش يترقب الآخر، بينما كان الفلسطينيون يخربون أرض بنيامين.
غار يوناثان بن شاول على شعبه، وكان على خلاف أبيه إنسانًا مستقيمًا محبًا للحق مهما كلفه الثمن، أمينًا في علاقته بالغير، مملوءًا إيمانًا. في إيمانه تحرك للعمل دون أن يخبر أباه حتى لا يمنعه، إذ كان شاول مرتبكًا والشعب في رعب وقد هرب الكثيرون ولم يبق مع الملك سوى الستمائة رجل لا يعرفون ماذا يفعلون.
كان شاول في طرف جبعة [2] أي خارج المدينة، ربما في البرية بالقرب من جبعة إلى جهة جبع، وكان أخيا -ربما هو نفسه أخيمالك وقد حمل الاسم الأخير توقيرًا لاسم الله، لأن أخيا تعني أخا لله بينما أخيمالك تعني أخا للملك -في شيلوه يلبس الأفود، أي الملابس الكهنوتية (خر 28: 6)، وذلك في مسكنه، لأن خدمة الخيمة توقفت بعد أخذ الفلسطينيين التابوت (1 صم 4).
لم يحتمل يوناثان هذا الموقف المخزي، فقد آمن بالله القادر أن يحقق وعوده لشعبه واهبًا النصرة بالقليل كما بالكثير، وكان الغلام حامل السلاح يشاركه ذات الإيمان، فكان سندًا له يشاركه تحركاته. هنا تبرز أهمية الأصدقاء المملوئين إيمانًا، يشاركوننا جهادنا الروحي، يرافقوننا الطريق في رجاء ويسندوننا لا أن يثبطوا هممنا، وعلى العكس خطورة الأصدقاء الأشرار إذ يحدرون الإنسان نحو الهلاك ويفقدونه رجاءه.
* يوجد علو الفرح متى تمتعنا بالله وكنا في أمان ووحدة الأخوة.
القديس أغسطينوس
قال يوناثان لحامل سلاحه: "تعال نعبر إلى صف هؤلاء الغلف لعل الله يعمل معنا، لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو القليل" [6]. لقد أدرك يوناثان ضعفه لكنه سلم هذا الضعف في يدي الله ليتمم مقاصده، واثقًا في الله الذي يعمل بقوة في حياة المؤمنين. يقول الرسول بولس: "بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا برًا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، أطفئوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقوموا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء" (عب 11: 33-34).
* سلاح القلب هو الإيمان بالمسيح.
* بإيمان الذهن يصير (الإنسان) كمن استقر فعلًا في الملكوت.
مار إسحق السرياني
وضع يوناثان علامة، إن قال الفلسطينيون: "اصعدوا إلينا"، يصعد مع غلامه لأن الرب قد دفعهم لأيدي الشعب. وبالفعل إذ رآهما الفلسطينيون سخروا منهم قائلين: "هوذا العبرانيون خارجون من الثقوب التي اختبئوا فيها"، وقال رجال الصف لهما: "اصعدوا لنعلمكم شيئًا". في سخرية تطلعوا إليهما حاسبين أن العبرانيين قد خرجوا كبنات آوي من الثقوب، وفي استهزاء قالوا ليوناثان وغلامه أن يصعدا ليعلموهما شيئًا، أي ليقتلاهما. تحدثوا معهما في صيغة مزاح واستخفاف، لكن يوناثان حسبها علامة من السماء. ربما تأكد من هزيمة العدو مدركًا بعد كبريائهم السقوط الحتمي.
لم يكن ممكنا الصعود والإنسان منتصبًا، فتسلق يوناثان الصخور على يديه ورجليه محتملًا هذه الصورة المخزية وما تحمله أيضًا من مخاطر، وتبعه غلامه أيضًا. هنا أرعب الرب العدو وحسبوا أن وراءهما جيشًا عظيمًا فهربوا. قتلا نحو عشرين رجلًا في منطقة تبلغ مساحتها نصف فدان، بينما سقط الكثيرون من الانحدار الشديد حيث كان المكان ضيقًا، وكأن العدو ضرب نفسه بنفسه. حدث ارتعاد في المحلة في الحقل [15]؛ هذا حديث مجازي يكني عن شدة خوفهم، وربما حدث زلزال فعلًا حطمهم.
هكذا صعد يوناثان يحبو على يديه ورجليه متكئًا على الله بالإيمان، فبدد أمامه الجيوش القوية المتشامخة.
2. نزول شاول إلى الحرب:

كان شاول ورجاله في طرف جبعة [2] فنظروا جيش العدو هاربين ومرتبكين. تعجب شاول لما يحدث، وإذ سأل أن يبحثوا عمن هم غائب عنهم أدرك يوناثان وحامل سلاحه غائبان. طلب من الكاهن أخيا أن يسأل الرب خلال الأفود (حسب الترجمة السبعينية)، لكن ضجيج العدو كان يتزايد فلم يحتمل شاول الانتظار، بل قال للكاهن "كف يدك" [19].
هذا التصرف يكشف عن قلب شاول، فإن كانت له أعمال كثيرة صالحة لكنه كان قليل الصبر يعتمد على أفكاره الخاصة... يسأل الرب، وقبل بلوغ الإجابة يسرع بالقرار، كان غير مستقيم القلب. لقد أراد أن يسرع فيلحق بالعدو ويحقق نصرة كاملة، لكن في تسرعه أخذ قرارًا أسقط ابنه في التعدّي إذ حلّف للشعب قائلًا: "ملعون الرجل الذي يأكل خبزًا إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي" [24].
أخطأ شاول في هذا التصرف إذ حسب النصرة هي ثمرة العمل المستمر غير مبالٍ بالجانب الإيماني، على خلاف ابنه يوناثان الذي لم يتوقف عن العمل بل ألقى بنفسه في الخطر لكن خلال الإيمان بالله واهب النصرة. أما الخطأ الثاني فإنه لم يعطِ اعتبارًا لاحتياجات رجاله، فإنهم لا يقدرون على الجهاد وهم خائرون بسبب الجوع. أما عدم استقامة قلبه فتظهر من قوله "أنتقم من أعدائي"، فحسبهم أعداءه هو... وكبرياء قلب متشامخ!
3. يوناثان يكسر قسم أبيه:

كاد حلف شاول أن يؤدي إلى قتل ابنه يوناثان المؤمن الذي أنقذ الشعب، كما سبَّب إعياءً للشعب مع أن الله أعد لهم في البرية عسلًا للأكل.
لقد مدّ يوناثان النشابة (السهم) وغمسه في قطر العسل ليذوق في عجلة، فاستنارت عيناه وتجددت قوته بعد الجوع والإرهاق. وإذ أخبره واحد من الشعب بقسم أبيه، قال: "قد كدَّر أبي الأرض. انظروا كيف استنارت عيناي لأني ذقت قليلًا من العسل، فكم بالحري لو أكل اليوم الشعب من غنيمة أعدائهم التي وجدوا. أما كانت الآن ضربة أعظم على الفلسطينيين؟!" [29-30].
بالقرارات السريعة النابعة عن قلب غير مستقيم يفقد الإنسان الكثير، إذ يحرم نفسه من عطايا الله له، ويفقد فرصًا يقدمها له الرب.
4. الشعب يأكل على الدم:

من ثمار قرار شاول المتسرع أن خارت قوى الشعب، لذا "ثاروا على الغنيمة فأخذوا غنمًا وبقرًا وعجولًا وذبحوا على الأرض وأكلوا على الدم" [32]. حسب شاول هذا غدرًا إذ نكثوا العهد مع الله، وطلب أن يدحرجوا حجرًا كبيرًا، ليذبحوا عليه الحيوانات فتكون الذبائح مرتفعة عن الأرض فيخرج الدم كله قبلما يأكلون منه؛ وبالفعل أطاعه الشعب.
5. الشعب يفدي يوناثان:

بنى شاول مذبحًا للرب، وتقدم غالبًا خلال الكاهن أخيا إلى الله يسأله إن كانوا ينحدرون وراء الفلسطينيين، لكن الله لم يجبه، فأدرك شاول وجود خطية وسط الشعب. في عجلة أقسم شاول: "لأنه حيّ هو الرب مخلص إسرائيل ولو كانت في يوناثان ابني فإنه يموت موتًا" [39]. وقعت القرعة على يوناثان، الذي أعترف بما فعله دون أن يخاف الموت. لم يستطع الشعب أن يقبل موت يوناثان الذي بإيمانه وشجاعته عرض نفسه للموت ليخلصهم من العدو. أمام إصرار الشعب تراجع شاول.
6. نصرات مستمرة:

إذ غلب شاول قيل "أخذ شاول الملك على إسرائيل" [47]، وكأنه بالغلبة صار بالحقيقة ملكًا واتحد كل الشعب معه. قام بحروب كثيرة "وحيثما توجه غلب" [48]، فصار ملكًا مهوبًا، أنقذ شعبه من عماليق وغيرهم...
يقول الكتاب: "وكانت حرب شديدة على الفلسطينيين كل أيام شاول، وإذ رأى شاول رجلًا جبارًا أو ذا بأس ضمه إلى نفسه" [52].
كان شاول غير مستقيم القلب ومتسرعًا في قراراته، لكنه اتسم بالغيرة والشجاعة؛ لم يتوقف عن الجهاد، يضم كل جبار إلى جيشه!
هذه صورة حيَّة للقيادة الروحية التي لا تتوقف عن الجهاد، تضم كل نفس للعمل لحساب ملكوت الله. القائد الناجح هو ذاك الذي يوجه الطاقات للعمل، فلا يمركز الخدمة فيه وإنما يعرف كيف يشجع كل نفس ويسند كل يد للجهاد الروحي.

Mary Naeem 26 - 06 - 2023 07:50 AM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168624522794741.jpg



رفض شاول



أمر الله صموئيل أن يخبر شاول ليحارب عماليق، لأن الرب وهبه الانتصار عليهم، على أن يحرم كل إنسان وحيوان... لكن شاول لم يقتل أجاج الملك بل جاء به حيًا، ولم يحرم الغنم والبقر الجيد، بل حرم ما هو ضعيف فقط، مقدمًا أعذارًا بشرية لعصيانه. جاء الأمر الإلهي برفض شاول وانتزاع المملكة منه، وناح صموئيل على شاول.


1. أمر إلهي بمحاربة عماليق:

مضت سنوات طويلة بين ما حدث في الأصحاح السابق وما يتم الآن في هذا الأصحاح، فبعد أن كان قوام جيش شاول ستمائة رجل صار الآن له جيش عظيم تحت قيادة ابنير بن نير عمه، قوامه 200.000 رجل من إسرائيل و10.000 نسمة من يهوذا، وقد تمتع بنصرات متوالية على موآب وبني عمون في الشرق، وآدوم في الجنوب، وملوك صوبة في الشمال إلخ...

خلال هذه الفترة يبدو أن تصرفات شاول كان يشوبها الانحراف عن وصية الله وعصيانًا، وأن صموئيل النبي كرجل الله وماسح له كان ينذره، والآن يقدم الله فرصة أخيرة لشاول، واهبًا إياه النصرة على عماليق على أن يحرم كل إنسان وحيوان.
"قال صموئيل لشاول: إياي أرسل الرب لمسحك ملكًا على شعبه إسرائيل، والآن فاسمع صوت كلام الرب" [1]. كأن صموئيل النبي يؤكد له أنه هو الذي مسحه بأمر إلهي، لذا وجب أن يقبل نصيحته ويطيع صوت كلام الرب ولا يعيش في العصيان... كان هذا في الواقع إنذار له.
لقد طلب منه أن يُحارب عماليق ويحرم كل ماله، لأن النصرة التي ينالها ليست من ذاته بل هي هبة من الله الذي سبق فأعلنها منذ حوالي 400 عام: "للرب الحرب مع عماليق من دور إلى دور" (خر 17: 8-16). إنه لن ينسى وعوده، إنما يُحققها في الوقت المناسب. منح الله شاول هذه النصرة، طالبًا منه تحريم كل ما لعماليق... قد يبدو أن في التحريم نوعًا من القسوة على الإنسان وتبديدًا للممتلكات والموارد، لكن عماليق كان قد فسد تمامًا، إذ كانوا جماعة لصوص متوحشين، يرتكبون الجرائم ويمارسون الرجاسات.
كثيرًا ما يُثار التساؤل: لماذا سمح الله بقتل الوثنين في العهد القديم وإبادة الحيوانات أحيانًا؟ بلا شك هذا الأمر يتعب فكر الكثيرين، لكنهم إن أدركوا مفهوم المجد الأبدي والميراث الذي أعده الله لمؤمنيه مع فهم مدى بشاعة الخطية لكان الأولى بهم أن يحزنوا على تصرفات البشرية واندفاعها نحو الرجسات التي تدفعهم إلى هلاك أبدي. سيموت كل البشر وسينحل العالم كله، عندئذ ندرك أن موت الجسد وإبادة الممتلكات والموارد أمور وقتية ليست بذات قيمة بجوار خلود الإنسان وتمتعه بشركة الأمجاد السماوية.
نفذ شاول طلبة صموئيل النبي، وجمع الشعب وعدّه في طلايم. ربما قُصد بها طالم المذكورة في (يش 15: 24)، في جنوب يهوذا،. "طلايم" تعني "حملانًا صغارًا".
2. غلبة شاول وعصيانه:

دخل شاول امتحانًا رهيبًا كفرصة نهائية لتحديد موقفه، لعله يرجع عن انحراف قلبه ويطيع الرب بلا تحفظ.
طلب شاول من القينيين -وهم شعب مسالم محب من المديانيين- أن يبتعدوا عن العمالقة. لقد صنع القينيون معروفًا مع إسرائيل (خر 18؛ عد 10: 29-32)، رافقوهم إلى أريحا (قض 1: 16)، ثم سكنوا أرض العمالقة جنوب يهوذا. من القينين يثيرون حمو موسى (قض 1: 16)، وياعيل التي قتلت سيسرا (قض 4: 17)، والركابيون (1 أي 2: 55؛ إر 35: 6-10).
لما كانت كلمة "قينيين" تعني "حدادين" لذا يرى البعض أنهم جماعة من الحدادين الرُّحل في منطقة المعادن بوادي العربة ومهروا في الحدادة.
إذ رحل القينيون ضرب شاول عماليق من حويلة إلى شور التي في مقابل مصر، أي من الجهة الشرقية منها [7].

"حويلة" اسم سامي يعني "رملية"، يجب التمييز بين حويلة التي يحتضنها نهر قيشون المتفرع من عدن، وهي منطقة غنية بالذهب والمقل، - صمغ عطري طبي- والأحجار الكريمة (تك 2: 11-12)، وتعتبر شرق أرض العمالقة، وبين حويلة التي في الشمال شيبا في العربية (تك 10: 29؛ 25: 18) .
"شور" تعني "سور" أو "حصن"، جنوب فلسطين، أو على الأخص جنوب بئر لحي رئي (تك 16: 7؛ 25: 18)، سار فيها بنو إسرائيل ثلاثة أيام حال عبورهم البحر الأحمر (خر 15: 22)، تُسمى أحيانًا برية إيثام (عد 33: 8)، تُقابل مصر في الشرق، دعيت "شور" لأنها تمثل سورًا حصينًا للطرق الخارجة من شمال شرق مصر، يحمي مصر من الهجمات القادمة من الشرق .
انتصر شاول على عماليق لكنه عاد مهزومًا من الأنا ego ، فلم يسمع لصوت الرب. لقد قتل كل من وقع في يديه من الشعب لكنه أبقى أجاج [غالبًا لقب ملوك عماليق كما يقُال "فرعون" عن ملوك مصر]، وقتل الغنم الضعيف واستبقى الجيد منها. لعله أبقى أجاج ليشبع غرور نفسه أو لأنه أشفق عليه بكونه ملكًا مع أنه كان ملكًا على جماعة من اللصوص، أثكل سيفه النساء [33]. وأبقى خيار الغنم بحجة تقديم ذبائح للرب مع أن الدافع هو النفع الشخصي.
3. صموئيل ينتهر شاول:

لقد كشف الرب لصموئيل كيف رفض شاول: "ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا، لأنه رجع من ورائي ولم يقُم كلامي" [10].
لقد رفض الرب شاول لأن شاول رفضه، ورجع من وراءه ليسلك حسب هواه. لم يقبل الله كقائد له يكون الأول في حياته...
تضايق صموئيل لأن شاول لم يستفد من الفرصة الإلهية المقدمة له، إذ قرر أن ينتهره "صرخ إلى الرب الليل كله" [11]. ما أنقى قلب صموئيل الذي يقضي الليل في الصلاة حتى لا ينتهر شاول من ذاته لقد ناح أيضًا على شاول [35]، واستمر في البكاء فقال له الرب: "حتى متى تنوح على شاول وأنا قد رفضته عن أن يملك على إسرائيل؟!" (1 صم 16: 1).
برز صموئيل كقائد روحي حيّ، نراه حازمًا لكن في حنو.
في حزمه لم يحتمل استمرار شاول في كسر الوصية، إذ "اغتاظ" [11]، وتكلم بكل صراحة مع شاول الملك. وفي حنوه كان يصرخ الليل كله مصليًا ونائحًا على الملك الساقط.

ما أحوج الكنيسة إلى الحزم مع الحب في حياة الراعي.
* ليست هي فضيلة (التراخي مع الخطاة) بل ضعفًا، ولا هي محبة أو وداعة بل إهمالًا، لا بل هي قساوة على تلك النفوس التي يُغفل عنها فتهلك دون أن تُنبه إلى خرابها.
القديس أغسطينوس
* يجب أن تكون هناك معايير حقيقية لكلماتنا وتعاليمنا حتى لا تأخذ مظهر الّلين الزائد أو الخشونة المغالي فيها.
القديس أمبروسيوس
* مَن يرعى الغنم ينبغي ألا يكون أسدًا ولا نعجة.
القديس يوحنا الدرجي
أما بالنسبة للحب واللطف والصلاة المستمر من أجل المخدومين فقيل:
* ليس شيء أحب إليّ أكثر منكم، لا ولا حتى النور...!
عزيز عليّ جدًا خلاصكم، أكثر من النور نفسه!
* لو أمكننا لفتحنا قلوبنا وأريناكم إيَّاها، لتنظروا مدى اتساعها لحملكم فيها: نساءً وأطفالًا ورجالًا، لأن هذا هو قوة الحب، يجعل النفس أكثر اتساعًا من السماء.
القديس يوحنا الذهبي الفم
هكذا كان صموئيل النبي قائدًا حقيقيًا يعمل بروح الرب، وعلى العكس كان شاول لا يصلح للقيادة إذ اهتم بذاته؛ ذهب إلى الكرمل ونصب تذكارًا في الجلجال لانتصاره على عماليق [12]، وعندما جاءه صموئيل النبي مبكرًا أراد أن يهنئ نفسه بطريق غير مباشر، إذ قال لصموئيل: "مبارك أنت للرب؛ قد أقمت كلام الرب" [13]. لقد غطى على عصيانه بكلمات معسولة لم ينخدع بها صموئيل النبي، الذي كشف الرب له عن عصيان الملك.

في الجلجال نادى الشعب بشاول ملكًا أمام الرب (1 صم 11: 14)، وفي نفس المدينة لامه صموئيل على عصيانه وأنذره (1 صم 12: 14)، وفيها أيضًا جاء التوبيخ الأخير وإعلان انتزاع المُلك عنه وعن نسله.
لقد سأله صموئيل: "وما هو صوت الغنم هذا في أذني وصوت البقر الذي أنا سامع" [14].
قدم شاول عذرًا لعصيانه: "لأن الشعب قد عفا عن خيار الغنم والبقر لأجل الذبح للرب إلهك، وأما الباقي فقد حرمناه" [15]. عوض اعترافه بالخطأ ألقى باللوم على الشعب بأنه هو الذي عفا عن خيار الغنم والبقر [12]. ما أسهل أن يلقى الإنسان باللوم على الغير كما فعل هرون عندما صنع العجل الذهبي (خر 32: 21-24) وبيلاطس عندما برر محاكمته للسيد المسيح، مع أن هرون كان قلبه قد انحرف، وبيلاطس خاف على مركزه، وشاول أحب الغنيمة.
ينسب شاول العصيان للشعب مكررًا ذلك وإن كان قد قدم له عذرًا، وينسب لنفسه الطاعة. بينما يقول "أخذ الشعب من الغنيمة" [21] يقول: "أما الباقي فقد حرمناه" [15]، حاسبًا نفسه ضمن الذين أطاعوا الوصية (حرمناه)، وفي أكثر وضوح يقول: "إني قد سمعت لصوت الرب وذهبت في الطريق التي أرسلني فيها الرب وأتيت بأجاج ملك عماليق وحرمت عماليق، فأخذ الشعب من الغنيمة" [20-21].
تأمل أسلوبه في الحديث مع صموئيل النبي، إذ برر العفو عن خيار الغنم والبقر: "لأجل الذبح للرب إلهك" [15]. لم يقل "الرب إلهنا" بل "الرب إلهك". وكأنه يقول إن ما أتينا به ليس لأنفسنا بل لإلهك أنت!
قدم شاول عذرًا لعصيان الشعب: "لأجل الذبح للرب إلهك في الجلجال" [31]. وجاءت إجابة صموئيل: "هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب؟! هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش، لأن التمرد كخطية العرافة، والعناد كالوثن والترافيم" [22- 23].

الله يُريد الطاعة والرحمة لا الذبائح والمحرقات، إذ جاء في المزمور: "بذبيحة وتقدمة لم تُسر. أذنيّ فتحتَ. محرَقةً وذبيحةَ خطية لم تطلب" (مز 40: 6).
ويعلق القديس إيريناوس: [هكذا يعلمهم (داود) أن الله يطلب الطاعة التي ترد لهم أمانًا، لا الذبائح والمحرقات التي تقدمهم إلى البر ].
يمكننا القول إن سبب هلاك شاول هو فقدانه روح التمييز فاندفع إلى الظلمة مقدمًا مبررات كثيرة لتصرفاته الخاطئة.
لهذا يركز الأب موسى في مناظرته مع القديس يوحنا كاسيانعلى التمييز كطريق للملكوت. من كلماته: [لا يستطيع أحد أن يشك في أنه متى كان "الحكم على الأمور" في القلب خاطئًا، أي كان القلب مملوءًا جهلًا، تكون أفكارنا وأعمالنا - التي هي ثمرة التمييز والتأمل - في ظلام الخطية العظمى... الرجل الذي كان في نظر الله مستحقًا أن يكون ملكًا على شعبه سقط من مُلكه بسبب نقصه في "عين التمييز" (مت 6: 22-23) فصار جسده كله مظلمًا... لقد ظن أن تقدماته مقبولة لدى الله أكثر من طاعته لأوامر صموئيل، حاسبًا أنه بهذا يستعطف العظمة الإلهية].
4. رجوع صموئيل مع شاول:

قال شاول "أخطأت" [24] وفي نفس الوقت يلقي باللوم على الشعب: "لأني خفت من الشعب، وسمعت لصوتهم". لم تكن توبته صادقة، إذ لم يخف غضب الرب إنما لكي يستميل صموئيل النبي كي يرجع معه ويكرمه أمام شيوخ الشعب، إذ يقول: "قد أخطأت. والآن فأكرمني أمام شيوخ شعبي وأمام إسرائيل وارجع معي" [30]. في كبرياء ينسب الشعب إليه: "شعبي"، لا إلى الله.
5. اعتزال صموئيل شاول:


طلب صموئيل تقديم أجاج ملك عماليق، وإذ عُرف صموئيل بلطفه ورقته، "ذهب إليه أجاج فرحًا، وقال أجاج: "حقًا قد زالت مرارة الموت" [22]. قال صموئيل:
"كما أثكل سيفك النساء كذلك تُثكل أمك بين النساء" [23].
أجاج يمثل الخطية العنيفة التي قتلاها أقوياء، لذا كان قتله يشير إلى نزع كل خطية وفساد؛ كل تهاون معه يحمل رمزًا للتهاون مع الخطية نفسها. هذا ما أوضحته الدسقولية إذ طالبت الكاهن بأمرين:
أ. عدم تجاهل الخطية أو التراخي مع الخاطئ، كما فعل شاول مع أجاج، وعالي مع ابنيه (1 صم 2).
ب. عدم التدخل فيما لا يخصنا خاصة في الأمور الكهنوتية والمقدسات كما فعل عزة مع تابوت الرب (2 صم 6).
خُتم السفر بالقول: "والرب ندم لأنه ملّك شاول على إسرائيل" [35]. هكذا ينسب الله "الندم" ليس لأن الله قد غيّر رأيه، وإنما يحدثنا باللغة التي نفهمها... حين عصى شاول سقط تحت العدل الإلهي فصار مرفوضًا، لذا حُرم من العطية التي سبق أن وهبه الله إيّاها.
يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [غالبًا ما ينسب الكتاب المقدس لله عبارات تبدو مناسبة لنا (كي نفهمها) ].
التغيير يحدث من جانبنا، لا من جانب الله غير المتغيّر، فالله في حبه يريد أن الكل يخلصون، فإن أصرّ الإنسان على الشر وعدم التوبة يفقد وعد الله الذي يريد له خلاصه. هكذا يشتاق الله أن يهب شاول نجاحًا، لكن شاول في إصرار رفض حب الله وانتزع نفسه من دائرة الرحمة الإلهية بإصراره على العصيان ففقد الوعد الإلهي، وظهر كأن الله قد ندم على الوعد، إذ لا يحققه مع شاول قسرًا.


Mary Naeem 27 - 06 - 2023 10:41 AM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168786198660811.jpg



داود الملك





مسح داود ملكًا


تحتل سيرة داود الملك والنبي جزءًا كبيرًا من الكتاب المقدس أكثر من سيرة أي نبي أو ملك آخر، امتازت حياته بالنمو المستمر، أمانة في صباه، وفي بيت شاول، وفي مملكة، وحين سقط عرف كيف يقوم بالتوبة.
1. مسح داود وسط إخوته:

إذ عكف صموئيل ينوح على شاول، حزينًا على ما حل به من روح عصيان يجني هو والشعب ثمرتها، قال له الرب: "حتى متى تنوح على شاول وأنا قد رفضته عن أن يملك على إسرائيل؟! املأ قرنك دهنًا، وتعال أرسلك إلى يسى البيتلحمي، لأني قد رأيت لي في بنيه ملكًا" [1].
بلا شك كثيرًا ما صلى صموئيل النبي لأجل توبة شاول ورجوعه إلى الله، فقد عُرف صموئيل باتساع قلبه وعكفه على الصلاة، وانتفع كثيرون بصلاته، أما شاول فلم ينتفع لأنه لم يرد أن يتوب ويرجع عن طريقة.
لذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا إذن لا نطمع في الآخرين، فإن صلوات القديسين لها قوة عظيمة حقًا ولكن بشرط توبتنا وإصلاحنا. فإنه حتى موسى الذي أنقذ أخاه والستمائة ألف رجل من الغضب الذي سيحل بهم من قبل الله لم تكن له قوة على خلاص أخته (خر 32، عد 12) ].
بأمر إلهي توقف صموئيل عن النوح ليمتلئ قلبه بالتعزيات الإلهية، إذ حوّل الله شر شاول إلى خير، فطلب منه أن يملأ قرنه دهنًا ليمسح ابن يسى البتلحمي ملكًا.
حين يظلم العالم في أعين الناس، في الهزيع الأخير من الليل، يتجلى الله وسط تلاميذه واهبًا لهم ما لم يكن في حسبانهم. هكذا بينما فقد بنو إسرائيل رجاءهم وانكب صموئيل على البكاء والنوح إذ يقول الرب له: "قد رأيت لي في بنيه (بني يسى) ملكًا" [1]. رأى الله ما لم يره الناس، رأى في أبناء يسى ابنًا مباركًا يكرسه لنفسه ويقيمه ملكًا على شعبه، قادرًا على العمل وسط الظلمة التي سادت في ذلك الحين. هكذا ليتنا ندرك أن لله أشخاصًا يختارهم بنفسه للعمل لحساب ملكوته، يعضدهم بنفسه.
خاف صموئيل إذ يعرف حماقة شاول وبطشه، لكن الرب دبّر له الأمر، أن يأخذ معه عجلة من البقر ليقدم ذبيحة للرب وفي نفس الوقت يمسح داود ملكًا... يبرز العمل الأول أمام الجميع ويتمم الآخر سرًا. بهذا لا يكذب صموئيل عندما يُسأل عن سبب مجيئه إلى بيت لحم، إنما يخفي جزءًا من الحقيقة.

لماذا قُدمت الذبيحة في بيت لحم علانية بينما مُسح داود سرًا وسط إخوته [13]؟
أ. حتى لا يبطش شاول الملك بصموئيل النبي كما قلنا.
ب. لأنه لم يكن الوقت قد حان لإعلان مُلك داود، إذ لم يستلم العرش إلا بعد موت شاول، إنما أُعطيت المسحة كنعمة إلهية تعده وتسنده للعمل حتى يتولى الملك.
ج. لأن الذبيحة تشير إلى الصليب (ذبيحة السيد المسيح) بينما الملك وإن كان قد بدأ بالصليب - إذ ملك الرب على خشبه - لكن تم ذلك بقيامته وصعوده إلى السموات ليملك ويهبنا أن نملك معه بروحه القدوس. لقد تم الصلب علانية على جبل الجلجثة حتى لا يوجد عذر لإنسان لا يؤمن بخلاص الرب المجاني، أما القيامة والصعود فأمران يمثلان مجدًا يوهب للأخصاء الذين قبلوا الصليب في حياتهم.
لنقبل أن نذبح مع المسيح كل يوم علانية لكي يملك فينا في القلب خفية. لنتألم معه علانية فنتمجد معه سرًا.
جاء صموئيل النبي إلى "بيت لحم" التي تعني "بيت الخبز"، تبعد حوالي ستة أميال جنوب أورشليم، في أرض يهوذا. في هذه المدينة ارتعب الشيوخ إذ رأوا صموئيل قادمًا ظانين أنهم أخطأوا في شيء ما، بينما كان صموئيل في أعماقه متهللًا من أجل سيامة ملك هو للرب. في هذه المدينة وُلد السيد المسيح - ملك الملوك - من نسل داود، أرعب هيرودس ورجاله بينما تهللت السماء وفرحت مع المؤمنين من أجل مجيئه لخلاص العالم. ما يرعب البعض يكون سر تهليل للغير.
لماذا اختير داود النبي الأصغر بين إخوته؟
أ. يقول الرب لصموئيل النبي عندما أراد مسح الابن الأكب آلياب: (غالبًا هو اليهو الذي صار رئيسًا على سبط يهوذا): "لا تنظر إلى منظره وطول قامته، لأني قد رفضته؛ لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب" [7].
وكما يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [لم يمسح من كان وسيمًا في هيئته بل من كان جميلًا في النفس].
اختاره الله من أجل نقاوته الداخلية وجمال نفسه لا من أجل هيئته الخارجية. لقد سبق أن أعطاهم الرب ملكًا طويل القامة وحسن الصورة حسب طلبهم، أما الآن فيهبهم ملكًا حسب فكره.
هكذا عبّر يسى أولاده السبعة أمام صموئيل (بينهم أبيناداب وَشَمَّةَ الذي دعى شمعي في (2 صم 13: 3))، ولم يختر الرب أحدًا منهم، وأخيرًا استدعى أصغر الأبناء الذي كان يرعى الغنم [11]، ليُمسح راعيًا على غنم الله الناطقة.

ب. اتسم داود بالأمانة في القليل لذلك أقامه الله على الكثير (مت 25: 21). لقد كان الأصغر بين أبناء يسى حتى أهمله والده [11]، واحتقره إخوته [28]، لكن الله رأى فيه القلب الأمين الذي تأهل لاستلام قيادة شعبه، نذكر على سبيل المثال أنه تعلم من رعاية الغنم أن يحب كل خروف من غنم أبيه، فيُهاجم الوحوش المفترسة (الأسد والدب) [34] لينقذ الغنم في شجاعة. خلال رعاية الغنم تعليم الموسيقى والعزف على القيثارة فاستخدم الله هذه الوزنة للدخول به إلى الملك شاول. كذلك تمتع خلال الرعاية بالطبيعة ليسبح الله بمزامير روحية. تعلم الضرب بالمقلاع ليعينه على قتل جليات الجبار.
ج. كان داود الثامن والأخير بين إخوته، أما كونه الثامن فيرمز إلى الحياة السماوية (لأن رقم 7 يشير إلى الزمن = سبعة أيام الأسبوع، ورقم 8 إلى ما هو فوق حدود الزمن)، وكأنه يرمز للسيد المسيح الملك السماوي والذي صار الأخير، إذ أخلى ذاته من أجلنا (في 2: 7) واحتل آخر الصفوف لكي يضم الجميع فيه ويرتفع بهم بروحه القدوس إلى حضن الآب السماوي.
د. كلمة "داود" ربما مشتقة من d التي تعني "حبًا" أو "محبوبًا". وكأن الله يقيم من المحبوبين لديه المتجاوبين مع حبه ملوكًا يرثون الملكوت معه أبديًا. وبدون الحب لن ينعم المؤمنون بالحياة الأبدية.
ه. يرى القديس أغسطينوس في اختيار داود الأصغر دون أخيه (إخوته) الأكبر عملًا رمزيًا لاختيار الأمم كأعضاء في كنيسة العهد الجديد فيملكون في الرب دون اليهود الذين سبقوهم في المعرفة لكنهم رفضوا الإيمان. وكأن الأمم هم داود الأصغر الذي تقبَّل نعمة الملوكية من قبل الله دون إخوته الأكبر منه، وكما يقول السيد المسيح نفسه: "هكذا يكون الآخِرون أولين والأولون آخِرين" (مت 20). بنفس الطريقة فُضل هابيل عن أخيه الأكبر وإسحق عن إسماعيل ويعقوب عن عيسو المولود معه وهم توآمان. وأيضًا فارص عن زارح (تك 38: 29).
اختيار داود الأصغر بين إخوته ملكًا يرمز إلى شخص السيد المسيح الذي احتل آخر صفوف البشر، صار عبدًا من أجلنا، لكي بالصليب يملك في قلوبنا. إنه آدم الثاني الذي ملك عوض آدم الأول (رو 5) ليكون رأسًا للبشرية، قادرًا أن يقيمها ويجددها.

2. داود يُطيب نفس شاول:

بينما نسمع عن داود: "وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا" [13]، إذ بنا نقرأ عن شاول: "وذهب روح الرب من عند شاول وبَغَتَهُ روح رديء من قبل الرب" [14].
حلّ روح الرب على داود كما رفّ قبلًا على وجه المياه (تك 1: 2) ليخلق من الأرض الخربة الخاوية عالمًا جميلًا مملوءًا حياة. هكذا تمتع داود بروح الرب الذي وهبه نعمة الملوكية -القيادة الحكيمة لشعب الله- فلا يعمل بذاته بل بما للرب. وفي العهد الجديد أرسل الابن الوحيد روحه القدوس الذي يهبنا البنوة للآب ويجدد طبيعتنا مقدسًا إياها لنصير على شكل الابن ونتشبه به.
* يمكن للشخص أن يشترك في الطبيعة الإلهية فقط خلال الروح.
القديس كيرلس الكبير
* مرة أخرى يُدْعَى الروح "روح القداسة والتجديد"... إذ يكتب بولس الرسول: "تعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات؛ يسوع المسيح ربنا" (رو 1: 4). وأيضًا يقول: "تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1 كو 6: 11). إذ كتب إلى تيطس قال: "ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في برّ عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا، حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية" (تي 3: 4-7)...
إنه ذاك الذي لا يتقدس بواسطة آخر ولا هو شريك في التقديس، بل هو نفسه واهب الشركة، وفيه تتقدس كل الخليقة...
دعى الروح وأحب الحياة: "الذي أقام المسيح من الأموات سيُحي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11)...
البابا أثناسيوس الرسولي

يقدم القديس باسيلوس الكبير شاول مثلًا للإنسان الرافض قبول روح الله فيه، إذ يقول الكتاب: "وذهب روح الرب من عند شاول وبَغَتَهُ روح رديء من قبل الرب" [14].
يقول القديس باسيلوس: [الروح أيضًا حاضرً دومًا في مستحقيه، يعمل حسب الحاجة إما بالنبوات أو بالأشفية أو بأية معجزات أخرى... ولا يبقى (الروح) في الذين - بسبب عدم ثبات عزمهم - يرفضون النعمة التي نالوها، مثلهم مثل شاول ومثل السبعين شيخًا من بني إسرائيل عدا الدود وميداد (عد 11: 25-26)].
يقول القديس جيروم في العظة التاسعة على المزامير: [انسحب الله فأقلق الروحُ الشريّر شاول].
لا نعجب من القول: "وبغته روح رديء من قبل الرب" [14]. فإن هذا لا يعني أن الروح الرديء مصدره الرب، أو أن ما حل بشاول كان من عند الرب، إذ يقول يعقوب الرسول: "الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحدًا" (يع 1: 13). إنما شاول رفض روح الرب فهيأ نفسه مسكنًا مزينًا للروح الرديء دون مقاومة، فتركه الرب لذاته... أعطاه سؤل قلبه الداخلي. بذات المعنى يقول الرسول بولس: "لذلك أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم...
لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان... وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق" (رو 1: 24-28). حينما يصر الناس على رفض الله والاستسلام للشر يتركهم الله أي يسلمهم لشهوة قلبهم. هذا التسليم بسماح لأجل تأديبهم.
أشار عبيد شاول على سيدهم أن يأتوا برجل يضرب على عود لكي تطيب نفسه، وبالفعل جاءوا بداود بن يسى البيتلحمي يحسن ضرب العود "وهو جبار بأسى ورجل حرب وفصيح ورجل جميل والرب معه" [18].
ما هذا العود (أو هذه القيثارة) التي تطرد الروح الشرير لتهب الإنسان راحة [23] إلا كلمة الله في العهدين الجديد والقديم، إذ تحوي أوتار الشريعة والنبوات والتسابيح والأناجيل والكتابات الرسولية إلخ... كأوتار متباينة لكنها تعمل معًا في انسجام لتهب المؤمن راحة وسلامًا.
يقول العلامة أوريجانوس: [الكتاب المقدس هو آلة الله الواحدة الكاملة والمنسجمة معًا، تعطي خلال الأصوات المتباينة صوت الخلاص الواحد للراغبين في التَّعلُيم، هذه القيثارة التي تبطل عمل كل روح شرير وتقاومه، كما حدث مع داود الموسيقار في تهدئة الروح الشرير الذي كان يتعب شاول ].

ظهر داود كجبار بأس وذلك من رعايته للغنم إذ حارب وحوشًا بلا سلاح؛ وكرجل حرب مع أنه لم يمارس هذه الحياة لكن سماته وقدراته تؤهله لذلك، وكان فصيحًا في كلماته عذبًا في مزاميره، جميلًا في طلعته؛ أما أعظم ما فيه هو أن "الرب معه" هذا هو سر قوته.





Mary Naeem 27 - 06 - 2023 12:38 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/16878694452261.jpg



داود وجليات

اشتاق الشعب إلى ملك طويل القامة قوي البنية جميل المظهر كسائر ملوك الأمم، والآن يقف هذا الملك مع رجاله في خوف ورعدة أمام جُليات الجبار، ليتمجد الله بداود القصير القامة الذي لا يعرف كيف يستخدم العدة الحربية بل مقلاع الكلاب... لقد غلب لا بسيف ورمح وإنما باسم رب الجنود.




ربط الأصحاحين 16، 17 معًا:

توجد بعض الصعوبات -في ذهن بعض النقاد- في ربط الأحداث الواردة في الأصحاحين 16، 17 معًا، إذ يتساءل البعض: كيف تعرّف شاول على داود كموسيقار وجبار بأس ورجل حرب (1 صم 16: 18)، ثم يعود لا يعرفه عندما تقدم لمبارزة جليات؟ كيف كان حاملًا سلاح لشاول (1 صم 16: 21)، ليعود فلا يقدر أن يلبس الثياب العسكرية [38- 39]؟ كيف كان أبنير رئيس جيش شاول يجهل داود [55-58]؟
يُرَد على ذلك:

أ. بأن داود قد أستدعى كصبي موسيقار، فكان يضرب الموسيقى ليستريح شاول، وعندما شُفي الملك رجع الصبي إلى بيت أبيه يرعى الغنم لسنوات حتى صار شابًا. لهذا لا نعجب إن كان شاول يسأل عنه كمن لا يعرفه، خاصة أنه صار في موقف حَرِج أمام جليات وقد وعد أن يصاهره من يُبارِز هذه الجبار.

ب. نسيان شاول أمر طبيعي بالنسبة لمرضه العقلي.
ج. جهل أبنير لشخصه داود أمر طبيعي، فبكونه رئيس جيش لم يعطِ اعتبارًا لصبي موسيقار تردد منذ سنوات على قصر شاول لعمل خاص بالملك.
د. دعوة داود رجل بأس ورجل حرب وهو صبي ربما لأنه قتل الأسد والدب، وقد ظهرت علامات القوة عليه في صبوته.
ه. قَبِله شاول كحارس له إلى حين في فترة ضربه للموسيقى، ربما تدرب على استخدام السيف لكنه لم يتدرب على ارتداء الحلة العسكرية لذا وجد صعوبة بل استحالة في استخدامها عند مبارزته لجليات.
1. جليات يُرعب شاول:

وقف الفلسطينيون على جبل للحرب عند سوكوه وعزيقة في أفس دميم بينما وقف شاول ورجاله على جبل آخر للحرب يفصل بينهم وادي البطم [1-3]. وكان جليات يخرج كمبارز يُعيّر شاول ورجاله طالبًا واحدًا منهم يبارزه.
"سوكوه" أو "سوكو" أو "شوكوه"، كلمة عبرية تعني "سياج شوك". اسم مكانين يدعيان حالًا "خربة الشويكة". الأول على بعد حوالي 9 أميال من بيت جبرين وحوالي 14 ميلًا جنوب غرب أورشليم، ورد اسمه مع عزيقة وأفس دميم شمال وادي البطم أو وادي السنط حاليًا. هذا المكان ينحني مع وادي الشور إلى الغرب ليصير اسمه وادي السنط. أما الموضع الآخر الذي يحمل ذات الاسم فيقع على بعد حوالي 10 أميال جنوب غرب حبرون، وهي مدينة في يهوذا أيضًا.

"عزيقة" اسم عبري معناه "الأرض المعزوقة أو المحروثة"، بالقرب من سوكوه، طرد يشوع إليها الملوك الذين هاجموا جبعون (يش 10: 10-11) حيث أهلك الرب جيوشهم بحجارة (برد) عظيمة من السماء. استمرت حتى بعد السبي (نح 11: 30)، تدعى حاليًا تل زكريا.
"أفس دميم" أو "فس دميم" (1 أي 11: 13)، كلمة عبرية معناها: "حد (تخم) من الدم"، ربما أخذت هذا الاسم بسبب الصراع بين الفلسطينيين وبني إسرائيل في هذا الموقع. تدعى حاليًا "بيت فصد (نزيف)". يرى البعض أن موضعها غالبًا الخرب التي تسمى دموم على بعد أربعة أميال شمال شرقي سوكوه.
وقف الفريقان على جبال (أشبه بتلال) بينها وادٍ فيه مزروعات وأشجار السنط، حيث كان جليات البالغ طوله 6 أذرع (الذرع العبري نحو قدم ونصف) وشبر، أي حوالي 9 قدمًا يلبس على رأسه خوذه من نحاس، وكان يرتدي درعًا حرشفيًا أي قميصًا عليه قطعًا نحاسية كحراشيف السمك، وزنه حوالي 33 رطلًا؛ وجرموقا (درعين لحماية الساقين) من النحاس. وكان معه مزراق نحاس (رمح قصير) بين كتفيه... اعتاد أن يقف مطالبًا من يبارزه قائلًا: "اختاروا لأنفسكم رجلًا ولينزل إليّ. فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيدًا، وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيدًا وتخدموننا". كما كان يهزأ بهم قائلًا: "أنا عيرت صفوف إسرائيل هذا اليوم؛ أعطوني رجلًا فنتحارب معًا"... وكان ذلك مصدر رعب شديد وخوف بالنسبة لشاول ورجاله.
يرى البعض أن جليات اتخذ هذا الموقف لحل مشكلة قائمة بين الجيشين هي وجود ساقية في الوادي بينهما، فإنه إذ نزل جيش إليها ليعبر إلى الجيش الآخر يصير في مكان أدنى ويمكن للجيش المرتفع على الجبل أن يكسره بسهولة، لذا كان الجيشان يخافان النزول، هذا ما جعل جليات يطلب المبارزة الشخصية معه عوض نزول أحد الجيشين للعبور نحو الآخر.

بقى الحال هكذا لمدة أربعين يومًا يمارس جليات هذا التصرف صباحًا ومساءً حتى جاء داود بن يسى يفتقد إخوته الثلاثة الكبار اليآب وأبيناداب وشمَّه الذين تبعوا شاول ليحاربوا معه.
2. داود يفتقد إخوته:

قدم لنا قيصريوس أسقف Arles تفسيرًا رمزيًا لقصة داود وجليات عن القديس أغسطينوس، جاء فيه:
[عندما أرسل (يسى) ابنه داود لينظر إخوته، يبدو أنه كان رمزًا لله الآب. أرسل يسى داود يبحث عن إخوته، وأرسل الله ابنه الوحيد الذي قيل عنه: "أخبر باسمك إخوتي" (مز 22 (21): 23). بالحقيقة جاء المسيح يبحث عن إخوته، إذ قال: "لم أُرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة" (مت 15: 24).
"فقال يسى لداود ابنه: خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك وهذه العشر الخبزات واركض إلى المحلة إلى اخوتك" [17]. الإيفة يا إخوة هي ثلاث كيلات؛ في هذه الكيلات الثلاث نفهم سر الثالوث. لقد عرف إبراهيم هذا السر جيدًا عندما تأهل لإدراك سر الثالوث في الثلاثة أشخاص تحت شجرة البطمة بممرا فأمر أن يُعجن ثلاث كيلات دقيق (تك 18: 6). إنها ثلاث كيلات، لذلك أعطى يسى ذات الكمية لابنه. وفي العشر قطع من الجبن ندرك الوصايا العشر للعهد القديم. هكذا جاء داود ومعه الثلاث كيلات والعشر قطع من الجبن ليفتقد إخوته الذين كانوا في المعركة، إذ كان المسيح قادمًا بوصايا الناموس العشر وسر الثالوث ليحرر الجنس البشري من الشيطان].

3. داود يقتل جليات:

جاء داود يفتقد إخوته من أبيه وأمه بالفريك والخبز والجبن، لكنه إذ رأى إخوته - شعب الله - في مأزق يعيرهم رجل أغلف بدأ يتساءل: "ماذا يُفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل؟! لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعير صفوف الله الحيّ؟!" [26]. وإذ سمع أخوه الأكبر اليآب حمى غضبه عليه قائلًا له: "لماذا نزلت؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية؟ أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، لأنك إنما نزلت لكي ترى الحرب" [28]. وجاءت إجابة داود بسيطة ومملوءة حكمة: "ماذا عملتُ الآن؟ أما هو الكلام؟!". لم يدخل معه في جدال، لأنه رجل إيمان لا يحب كثرة الجدال بل العمل. إنه وقت للعمل!
يقول القديس أغسطينوس: [الآن، إذ جاء داود انتهره أحد إخوته قائلًا: "لماذا نزلت؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة؟" [28]. وبخ هذا الأخ حاسدًا داود رمز ربنا، متمثلًا بالشعب اليهودي الذي افترى على المسيح الرب. مع أنه جاء لخلاص الجنس البشري، إذ أهانوه باتهامات كثيرة: "لماذا تركت الغنم ونزلت إلى المعركة؟". ألا تحسب هذا ما نطق به الشيطان بشفتيه، حاسدًا خلاص البشر؟ أليس كمن يقول للمسيح: "لماذا تركت التسعة وتسعين خروفًا وأتيت تطلب الخروف الواحد المفقود لترده إلى حظيرة الغنم بعدما حررته بعصا الصليب من يد جليات الروحي، أي من قوة الشيطان؟ لماذا تركت هذه الغنيمات القليلة؟ لقد نطق بالصدق لكن بروح شرير متعجرف. لقد أراد يسوع أن يترك التسعة والتسعين خروفًا لكي ينشد الواحد ويرده إلى حظيرته، أي إلى صحبة الملائكة.
عندما مُسح داود بواسطة الطوباوي صموئيل قبل مجيئه إلى هنا قتل أسدًا ودبًا بغير أسلحة، كما أخبر الملك شاول بنفسه. الأسد والدب يشير كلاهما إلى الشيطان، إذ تجاسر على الهجوم ضد بعض من غنم داود فخنقتهما بقوته. ما نقرأه إنما هو رمز أيها الأعزاء المحبوبون؛ ما رُمز به بداود تحقق في ربنا يسوع المسيح، الذي خنق الأسد والدب عندما نزل إلى الجحيم ليحرر كل القديسين من مخالبهما. أنصتوا إلى توسّل النبي إلى شخص ربنا: "أَنْقِذ من السيف نفسي، وأنا وحيد في فك الكلب. خَلَّصْني من فم الأسد" (راجع مز 21 (22): 20، 21).

إذ يحمل الدب قوته في مخالبه والأسد في فمه، هكذا يُرمز للشيطان بهذين الوحشين. لذا قيل عن شخص المسيح إنه ينزع كنيسته الوحيدة من اليد، أي من قوة الشيطان وفمه.
إذ جاء داود وجد الشعب اليهودي حالاًّ في وادي البطم Terebinth لمحاربة الفلسطينيين، لأن المسيح -داود الحقيقي- كان يجب أن يأتي كي يرفع الجنس البشري من وادي الخطية والدموع. لقد وقفوا في الوادي في مواجهة أمام الفلسطينيين. كانوا في وادٍ، لأن ثقل خطاياهم أنزلهم إلى تحت. على أي الأحوال، كنوا واقفين غير متجاسرين على محاربة الأعداء. لماذا لم يجسروا على ذلك، لأن داود رمز المسيح لم يكن قد جاء بعد. هذا حق أيها الأعزاء الأحباء. من يقدر أن يحارب الشيطان قبل أن يحرر ربنا المسيح الجنس البشري من سلطانه؟ الآن كلمة "داود" تعني "كقوي في اليد". من هو أقوى يا إخوة من ذاك الذي غلب العالم كله متسلحًا بالصليب وليس بسيف.؟!
وقف أبناء إسرائيل 40 يومًا ضد الأعداء؛ هذه الأربعين يومًا تشير إلى الحياة الحاضرة التي فيها لا يكف المسيحيون عن الحرب ضد جليات وجيشه، أي ضد الشيطان وملائكته [رقم 4 تشير إلى الفصول الأربعة للعام، 10 إلى كمال الزمن].
من المستحيل لنا أن نغلب إن كان المسيح - داود الحقيق - لم ينزل بعصاه التي هي سر الصليب. حقًا لقد كان الشيطان حرًا قبل مجيء المسيح أيها الأعزاء المحبوبون، لكن بمجيئه تحقق ما ورد في الإنجيل أنه لا يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولًا (مت 12: 29). لهذا الهدف جاء المسيح وربط الشيطان.

ربما يقول أحد: إن كان قد رُبط فلماذا لا يزال للشيطان سلطان؟
بالحقيقة أيها الإخوة الأعزاء له سلطان عظيم لكن على اتباعه الفاترين المهملين، الذين لا يخافون الله بالحق. إنه مربوط ككلب في سلاسل، لا يقدر أن يعض أحدًا إلا النفس التي ترتبط به بإرادتها، باعتمادها على الأنا وهو أمر خطير. الآن ترون يا إخوة أي غباء أن يُعضَّ إنسان من ذاك الذي هو في مركز كلب مربوط بسلاسل. لا ترافق (الشيطان) بملذات العالم وأهوائه فلا يجسر أن يعضك. يستطيع أن ينبح ويقلقك لكنه يعجز تمامًا عن أن يعضك ما لم تُرِد أنت ذلك. إنه لا يؤذيك قسرًا إنما بإغرائك، إنه لا يسلبنا رضانا إنما يطلب ذلك.
جاء داود ووجد الشعب يحارب ضد الفلسطينيين. لم يوجد من يجسر أن يدخل إلى المعركة بمفرده. ذهب رمز المسيح (داود) إلى المعركة يحمل عصا في يده ضد جليات. بهذا أشار بالتأكيد إلى ما قد تحقق في ربنا يسوع المسيح - داود الحقيقي - إذ جاء وحمل صليبه ليحارب جليات الروحي، أي الشيطان.
لاحظوا يا إخوة أين ضرب داود الطوباوي جليات: في جبهته [49] حيث لم توجد عليها علامة الصليب. كما أن العصا رمزت إلى الصليب هكذا الحجر الذي ضُرب به جليات يرمز إلى ربنا يسوع، لأنه هو الحجر الحيّ الذي كُتب عنه: "الحجر الذي رفضه البناؤون هذا صار رأسًا للزاوية" (مز 117: 22).
وقف داود على جليات وقتله إياه بدون سيف إنما استخدم سيف جليات نفسه هذا يشير إلى أنه عند مجيء المسيح يُهزم الشيطان بذات سيفه. حقًا إن الشيطان بمكره وظلمه الذي أجراه ضد المسيح فقد سلطانه على كل المؤمنين بالمسيح.

وضع داود أدوات جليات في خيمته، ونحن كُنا أداة في يد الشيطان، لذلك يقول الرسول: "لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدموا أعضائكم عبيدًا للبر للقداسة" (رو 6: 19). وأيضًا: "ولا تقدموا أعضائكم آلات إثم للخطية" (رو 6: 13). حقًا لقد وضع المسيح أدوات عدوه في خيمته عندما استحققنا نحن الذين كنا مسكنًا للشيطان أن نصير هيكلًا للمسيح، وهو يسكن فينا. يؤكد الرسول أن المسيح يسكن في داخلنا بقوله: "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف 3: 16-17). يكرر بولس الرسول نفسه أننا نسكن في المسيح بقوله: "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غلا 3: 27). ويقول ربنا يسوع لتلاميذه في الإنجيل: "إني أنا في أبي وأنتم فيَّ وأنا فيكم" (يو 14: 2).
حقيقة إصابة جليات في جبهته دون أي عضو آخر يرمز إلى أمر يحدث لنا.
عندما يُرشم طالب العماد على جبهته يكون ذلك بمثابة ضربة لجليات الروحي، هزيمة للشيطان. يحمل على جبهته مسحة الروح، وكأنه قد وُسم بالعبارة "قدس للرب"، خلالها يتمتع بنعم السيد المسيح التي تقدس الفكر (الجبهة) كمدخل لحياة الإنسان الداخلية.
خلال نعم المسيح يُطرد الشيطان من قلوبنا، لذا نحاول قدر المستطاع بمعونته ألا نقبل الشيطان في داخلنا مرة أخرى بإرادتنا، بأعمالنا الشريرة وأفكارنا الماكرة الفاسقة. لأنه في هذه الحالة (إن قبلناه) يتحقق فينا المكتوب... "إذ خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده فارغًا مكنوسًا مزينًا. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح آخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك، فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله. هكذا يكون أيضًا لهذا الجيل الشرير" (مت 12: 43-45).
الآن، مادمنا بنعمة المعمودية قد تخلصنا من كل الشرور بدون استحقاق سابق من جانبنا، فلنجاهد بمعونة الرب كي نمتلئ بالبركات الروحية. كلما أراد الشيطان أن يجرنا يجدنا دومًا مملُوئين من الروح القدس ومرتبطين بأعمال صالحة، بهذا يتحقق فينا القول: "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 10: 22).
لقد وقف البطلان وجهًا لوجه، أحدهما رجل حرب، جبار، قوي، يعتمد على قدرته البشرية وخبرته السابقة ومعداته الحربية؛ والآخر فتى لم يسبق له الدخول في حرب مع الأعداء، لا يملك سوى عصا ومقلاع وخمسة حجارة مُلس أخذها من الوادي لكن كان لديه إيمان جبار يستطيع به أن يهزم كل عدو. قام الصراع بينهما ليتحطم الأول ويُقتل بينما يغلب الآخر ويتمجد.

سر هزيمة جليات أنه لم يدرك أن به نقطة ضعف لم يكن ممكنًا له أن يتلافاها، وهي أن جبهته مكشوفة، وكأن كل إمكانيته بشرية مهما أُحكم تدبيرها تجد فيها ثغرةً تُؤدي إلى فشلها.
لم يدرك جليات أنه وإن كان السيف والرمح لا يقدران أن يحطماه، لكن مقلاع الكلاب يستطيع أن يهز كل كيانه!
لم يعرف جليات أن لكبريائه نهائية، فقد وقف 40 يومًا يُعيِّر رب الجنود، لكن الله أعد فتى صغيرًا ينهي كبرياء الجبار ويُذله... هذا ما يتكرر عبر الأجيال، كل متشامخ ظن أنه قادر أن يُحطم الكنيسة ويمحوها من الوجود تحطم هو وزال وتبقى الكنيسة حية قوية!
أما سر قوة داود فهو اختفائه في رب الجنود، فلا يكون طرفًا في المعركة بل مجرد أداة في يد الله. المعركة هي بين الله والشيطان، لذا فالنصرة تصدر عن الله نفسه، إذ يقول: "أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيّرتهم... وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب. لأن الحرب للرب، وهو يدفعكم لنا" [45-47].
الآن نتساءل: ما هو سر نصرة داود في حربه ضد جليات؟
أ. لعل سر نصرته الخارجية على جليات هو نصرته في الداخل. عندما سأله والده أن يفتقد سلامة إخوته ويأخذ منهم عربونًا [19] أي يحضر من عندهم شيئًا يحمله على الطمأنية من جهتهم يقول الكتاب: "فبكر داود صباحًا... وذهب كما أمره يسى" [20]. طاعة الإنسان لوالديه وآبائه الروحيين في الرب هي غلبة داخلية على الإرادة الذاتية، تتبعها غلبات ونصرات خارجية. كثيرون انهزموا من الخارج لا لشيء إلا بسبب هزيمتهم الداخلية. لقد أطاع داود بلا تردد وبفرح أسرع بتنفيذ في الصباح دون تأخير.
غلب أيضًا داخليًا عندما ثار عليه أخوه اليآب إذ أجابه في هدوء وبحكمة.
ب. أدرك داود أن كل نصرة هي لحساب الرب نفسه وكنيسته، وكل هزيمة تُهين الرب وكنيسته. فإنه وإن كان قد سأل: "ماذا يفعل للرجل الذي يقتل الفلسطيني؟" فقد أكمل السؤال بقوله: "ويزيل العار عن إسرائيل؛ لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يُعيّر صفوف الله الحي؟". هكذا تطلع إلى المعركة بكونها صراع بين الله نفسه وعدو الخير الشيطان.

لعله على سبيل حب الاستطلاع سأل عن الأجرة لكنه بلا شك لم يكن ممكنًا أن توجد أجرة تسحب قلب إنسان أمام رجل عملاق كجليات متدرب على القتال، وقد ضعف أمامه الملك وكل رجال الحرب وارتعب قدامه إخوة داود الأكبر منه... لقد غار داود غيرة رب الجنود، وأدرك أن "الله" نفسه يهب الغلبة ليتمجد في وسط شعبه. بهذا الفكر نزل داود إلى أرض المعركة مختفيًا في الله.
ج. يرى القديس أمبروسيوس أن سر نصرة داود أنه لم يثر هو الحرب إنما كان جليات الذي بدأها، أما هو فدُفع إليها لغيرته الروحية... لم يحمل سلاح شاول بل مقلاعه الخاص به وعصاه... دخل الحرب بعد استشارة الرب. يقول: [داود لم يثر حربًا ما لم يُدفع إليها... قوته اعتمدت على ذراعيه لا على أسلحة الغير... لم يدخل قط في حرب دون طلب مشورة الل ].
ليتنا في جهادنا الروحي نلتزم بهذه الأمور الثلاثة، لا ندفع أنفسنا في الحرب بأنفسنا إنما في اتضاع نهرب من كل عثرة، فإذا دخلنا إلى حرب عندئذ نحمل خبرتنا الشخصية مع ربنا ونعتمد على نعمته العاملة فينا لا على صلوات الغير دون جهاد من جانبنا، وأخيرًا لا ننطلق إلى الحرب دون طلب مشورة الرب وعونه.
د. يرى القديس أمبروسيوس أن داود غلب لأنه قدم نفسه عن الشعب، إنه طلب ما هو للغير باذلًا نفسه لحسابهم، إذ يقول: [داود أيضًا اتبع خطوات (موسى) الذي أُختير من بين الجميع ليحاكم الشعب. كم كان وديعًا ولطيفًا ومتضعًا في الروح، وكم كان مجاهدًا ومستعدًا لإظهار الحب. قبل مجيئه إلى العرش قدم نفسه عن الكل. كملك أظهر نفسه معادلًا للجميع في القتال، مشاركًا إياهم متاعبهم. كان شجاعًا في المعركة، لطيفًا في حكمه، صبورًا في احتمال الإهانة، مستعدًا بالأكثر أن يحتمل الغير عن أن يرد عليهم أخطاءهم. كان عزيزًا على الجميع، وبالرغم من كونه شابًا اختير بغير إرادته ليحكم عليهم... وعندما كبر في السن سأله شعبه ألا يدخل المعركة إذ فضل الجميع أن يتعرضوا للخطر من أجله عن أن يتعرض هو للخطر من أجلهم. لقد ربط الشعب به بكامل حريتهم إذ قام بواجبه نحوهم؛ أولًا عندما حدث انشقاق بين الشعب فضل أن يعيش في حبرون كما في منفى (2 صم 2: 3) عن أن يملك في أورشليم. ثانيًا عندما أظهر حبه للشجاعة حتى بالنسبة لعدوه... أُعجب بأبنير كبطل شجاع مع أنه كان قائدًا لمن هم ضده ومثيرًا للحرب، لم يستخف به عندما طلب السلام بل كرّمه وصنع له وليمة (2 صم 3: 20)، وعندما مات عن خيانة بكاه وانتحبه].

4. شاول يتعرف على داود:

لم يعرفه شاول مع أنه كان يضرب له بالعود في صباه (1 صم 16: 22-23)،
فقد نسيه، خاصة أن شاول مصاب بمرض نفسي يفقده الذاكرة
ويجعله متغير المزاج. هذا وربما تغير شكل داود عندما بلغ سن الرشد.
يظن البعض أن شاول تظاهر بعدم معرفته لأنه حسده وأراد مراقبته.


Mary Naeem 30 - 06 - 2023 01:29 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/16878694452261.jpg




شاول يخاف داود




شاول الذي أحب داود جدًا وجعله حامل سلاحه (1 صم 16: 21) دبّ الحسد في قلبه، إذ رآه ينجح في كل عمل تمتد إليه يداه [5]، وصار يتمجد أكثر منه [7]، "لأن الرب كان معه وقد فارق شاول" [12]... الآن باطلًا يستخدم كل وسيلة للخلاص منه.





1. عهد بين يوناثان وداود:

لقد وعد شاول أن يعطي ابنته لمن يقتل جليات ويخلصه من هذا العار، وإذ حقق له داود طلبته لم يفِ بالوعد إذ أعطى ابنته الكبرى ميرب لعدريئيل المحولي، وعوض تكريمه بدأ يحسده ويطلب الخلاص منه بطريقة أو أخرى. لقد حرمه من المكافأة التي وعده بها لكن الله لم ينس داود بل أعطاه بفيض أكثر مما وعد شاول، إذ وهبه:
أ. حب يوناثان بن شاول وتعلقه العجيب به [1-4].
ب. نال نجاحًا في كل عمل تمتد إليه يداه فأُعجب به جميع الشعب ورجال شاول [5].
ج. غنت النساء له وأعطينه كرامة أكثر من شاول [6-7].
د. سقط شاول تحت سيطرة روح رديء فاحتاج إلى موسيقى داود واهبة الراحة [10-12].
ه. حرمه شاول من الزواج بابنته ميرب فأحبته ميكال وصارت له زوجة تحميه من أبيها [20-30].
بمعنى آخر يُقاوم العالم أولاد الله ويحسبون أنه في سلطانهم حرمانهم من ثمرة برهم وجهادهم وأنهم قادرون على إذلالهم، لكن الله لا يترك عصا الشرار تستقر على نصيب الصديقين لكيلا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم (مز 125: 3)، يقوم هو بنفسه بتقديم المكافأة أضعافًا مضاعفة.
يقول القديس أغسطينوس: [في الوقت الحاضر، حقًا يتألم الصديقون إلى حدٍ ما، وأحيانًا يطغى الأشرار على الصديقين، في الوقت الحاضر تقع عصا الأشرار إلى زمان على نصيب الصديقين، لكنها لا تُترك هكذا على الدوام. سيأتي الوقت الذي فيه يأتي المسيح في مجده ويجمع كل الأمم قدامه (مت 25: 32- 33). سترى عبيدًا كثيرًا بين القطيع وسادة كثيرين بين الجداء، وأيضًا سادة كثيرين بين القطيع وعبيدًا كثيرين بين الجداء. ليس كل العبيد صالحين... ولا كل السادة أشرار ].

نعود إلى أول هبة قدمها الله لداود عوض نكص شاول بوعده. ألا وهي صداقة ابنه يوناثان له بصورة عجيبة لم نسمع بها يماثلها في التاريخ ولا حتى في الروايات والقصص. كان يوناثان شجاعًا ومقدامًا رجل حرب وذا كرامة لدى الشعب (1 صم 14: 1-15)، وكان ولي العهد، ومع ذلك أحب داود الذي نال كرامة وسط الشعب ورجال البلاط الملكي أكثر من والده، وقد حذره والده منه أنه سيسحب منه كرسي المملكة، لكن حبه وشهامته وصداقته كانت في عينيه أعظم من كرسي المملكة. صداقته لداود في الرب كانت في عينيه أثمن من طاعته لأبيه خارج الرب! لقد قيل: "إن نفس يوناثان تعلقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه" [1]. عبّر عن هذا الحب الداخلي، الذي ربما يُحرم منه الإنسان حتى خلال علاقاته الأسرية، بتقديم جبته مع ثيابه وسيفه وقوسه ومنطقته. أعطاه جبته -لباس الشرفاء- التي يرتديها خلال حياته اليومية كما سلمه أدوات الحرب الخاصة به، علامة التصاقه به تحت كل الظروف، في السلم كما في الحرب.
يقدم لنا تاريخ الكنيسة صورًا حيَّة لصداقات في الرب خلالها ارتبط بعض القديسين معًا خلال جهادهم الروحي وتمتعهم بشركة الحب معًا في الثالوث القدوس.
* الصداقة لا يمكن أن تكون قوية ما لم تأتلف بصديقك وتلتصق به تلك المحبة التي يسكبها الروح القدس المعطي لنا.
القديس أغسطينوس
* كما أن الذين يجالسون باعة المسك والأطياب العبقة يكتسبون الروائح الذكية، هكذا ينبغي علينا أن نلازم الحكماء والمعلمين وأرباب الفضيلة لنقتدي بمثالهم في الصالحات.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الملتصق برجال الله يستغنى بأسرار الله، والملتصق بالجاهل والمتكبر يبتعد عن الله، وأيضًا يبغضه أحباؤه.
ليس شيء يبث في نفوسنا الطهارة مثل خلطة هؤلاء الأطهار أنقياء القلوب؛ فمثل هذا الصديق يُيقظ النفس إلى الحياة...
صداقة القديسين النشطين تملأك من أسرار الله.
القديس يوحنا سابا
* إذا ضعفت عن أن تكون غنيًا بالله فالتصق بمن يكون غنيًا به لتسعد بسعادته وتتعلم كيف تمشي حسب أوامر الإنجيل.
القديس باخوميوس

2. تمجيد داود أكثر من شاول:

بعد قتل جليات وكثير من الفلسطينيين استقبلت النساء شاول وداود، بعضهم يغنين لهما والأخريات يضربن بالدف (آلة موسيقية عبارة عن قطعة من الجلد الرقيق المشدود على إطار خشبي حوله أجراس صغيرة) والمثلثات ويرددن القرار: "ضرب شاول ألوف وداود ربوات" [7].
لقد حسبن قتل جليات وحده يمثل قتل ربوات (عشرات الألوف). عوض الفرح بنجاح داود بدأ شاول يحقد على داود مترقبًا إياه.
3. شاول يحاول قتل داود:

إذ غضب شاول جدًا [8] ملأ الحسد قلبه، فأراد الخلاص من داود الذي خلصه من أعدائه. أراد قتل داود فصار مثلًا سيئًا للغضب والحسد. جاء في الدسقولية [لا تسرع في الغضب ولا تكن حاقدًا ولا سريع الانفعال ولا هائجًا ولا متحديًا لئلا يكون لك مصير قايين (تك 6) وشاول (1 صم 18) ويوآب (2 صم 3: 20)].
بالحسد فقد شاول سلامه الداخلي، وبه حاول قتل داود بكل وسيلة حتى بعدما سقط شاول في يدي داود ولم يؤذه داود، وبسبب الحسد حاول قتل ابنه يوناثان لأنه دافع عنه (1 صم 20: 22) كما قتل الكهنة (1 صم 22) وضرب نوب مدينة الكهنة بحد السيف (1 صم 22: 19).
ماذا فعل الحسد بشاول وداود؟

حسد شاول داود فاقتحمه روح رديء وجنّ في وسط البيت، أي فقد سلامه بل وعقله، بينما كان داود مملوءًا سلامًا يفيض به حتى على شاول نفسه عندما يضرب بمزاميره على الموسيقى ليهدئ من روعه.
كان شاول يمسك بالرمح كصولجان مُلك، خلال الحسد صوّبه ضد داود مرتين لقتله وكان الرب مع داود ينقذه [2]. لم يكن لدى داود سلطان ولا سلاح ولا حاول مقاومة شاول، ومع ذلك كان شاول يخافه. شعر أنه يصغر جدًا أمام داود، ويهتز كرسيه ليحتله هذا الشاب التقي. هكذا يضر الحسد الحاسد لا المحسود؛ يفقده ما في داخله وما بالخارج من نعم وبركات وإمكانيات.
* أخبرني أيها الحاسد: لماذا تحسد أخاك؟ هل لحصوله على بركات أرضية؟ فمن أين حصل عليها؟ أليست من الله؟! فمن الواضح إذن أنك بحسدك تجعل الله موضوع العداوة فتخطئ في حقه لأنه واهب العطية. أنظر أي شر ترتكبه، وكيف تجمع لنفسك إكليلًا من الخطايا؟! وأية حفرة للانتقام تحفرها لنفسك؟!
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الزاني يحصل على لذة زمنية أثناء ارتكابه الخطية، ثم يعود فيرفضها... أما الحاسد فيعذب نفسه ولو لم يحدث له ضرر ممن يحسده، فلهذا خطية الحسد أشر الخطايا وأشنعها...
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لطالما فرق الحسد بين الزوجات ورجالهن، فقد نسوا القول الكريم الذي نطق به أبونا آدم: "هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي" (تك 2: 23). ولا غرو فقد دمر الحسد والخصام مدنًا عامرة وأفنى أممًا قوية.
القديس أكليمندس

خلال الحسد لم يحتمل شاول أن يرى داود وإذ خشي غضبَ الشعب أبعده عن بلاطه الملكي وأقامه رئيس ألف في الجيش، ربما حاسبًا أنه يُمكن أن يموت خلال الحرب عوض قتله بيديه مما يثير غضب الشعب ورجال البلاط أنفسهم الذين أحبوه. نجح داود كرئيس ألف جدًا فازداد كرامة في أعين الجميع عدا شاول الذي فزع منه.
ما أجمل العبارة: "وكان جميع إسرائيل ويهوذا يحبون داود لأنه كان يخرج ويدخل أمامهم" [16]. فالشعب يشتاق أن يرى قائده غير قابع في برج من العاج تحوطه هالة من الأمجاد الزمنية والكرامات الباطلة ويحف حوله المداهنون والمتملقون وإنما أن يخرج ويدخل أمامهم. يشاركهم الحياة بأتعابها وآلامها وتجاربها، يخاطر بحياته من أجلهم.
ما قيل هنا عن داود كان يحمل ظلًا لما تحقق في شخص السيد المسيح (ابن داود)، فقد أحبه جميع إسرائيل ويهوذا، أي أحبه رجال العهدين القديم (إسرائيل) والجديد (يهوذا)، تطلع الكل إليه كمشتهى الأمم ومخلص العالم الذي يصالح البشرية مع السماء. أما القول "لأنه كان يخرج ويدخل أمامهم" فتعني أنه خرج إلى العالم ليحل بيننا، صار ابن الإنسان ليحملنا فيه يجدد طبيعتنا ويشفي أمراضنا ويشبع كل احتياجاتنا وينزع عنا الشيطان وكل أعماله. أما قيل له: إن الجميع يطلبونك، قال لهم: "لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز أيضًا لأني لهذا خرجت، فكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين" (مر 1: 37-39). كما قال: "لأني خرجت من قبل الله وأتيت" (يو 8: 42)، "خرجت من عند الأب وقد أتيت إلى العالم وأيضًا أترك العالم وأذهب إلى الآب" (يو 16: 28)، "هم قبلوا وعلموا يقينًا أنى خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني" (يو 17: 8).
إنه الزارع الذي خرج ليزرع (مت 13: 3) فينا حياته فنحمله في أعماقنا بروحه القدوس سر تجديدنا وتقديسنا حتى نرتفع معه إلى سمواته ونرث المجد الأبدي، وهناك ننعم بحضن الآب أبديًا.

لقد خرج أيضًا خارج أورشليم ليصلب على جبل الجلجثة، حتى متى أرتفع يجذب إليه الجميع (يو 12: 32).
كما خرج إلينا هكذا عاد فدخل بطبيعتنا إلى سمواته إذ قام وصعد إلى السموات ليقيمنا معه ويجلسنا معه في السمويات (أف 2: 6).
في اختصار هذا هو طريق ملكوته، خرج ودخل ليملك فينا ونملك نحن معه؛ لنخرج إذًا إليه خارج المحلة (عب 13: 3) ونحمل عاره فيدخل بنا إليه وننعم بمجده، ونملك إلى الأبد.
4. داود يصاهر شاول:

حسب وعد شاول كان من حق داود أن يتزوج ابنته الكبرى ميرب. فطلب شاول منه أن يحارب حروب الرب، أي الحروب التي أمر بها الرب، ظانًا أنه بهذا يضع له شركًا فيقتله الأعداء عوض أن يقتله بنفسه [17-18].
في أتضاع قال داود لشاول: "من أنا وما هي حياتي وعشيرة أبي في إسرائيل حتى أكون صهر الملك؟!" لقد أراد أن يطفئ من قلب شاول نيران الحسد، مع أنه يمكن لداود الذي مسحه صموئيل ملكًا سرًا بين إخوته أن يفتخر على شاول بقتله جليات وإنقاذ شعب الله من العدو.
اتضع داود أمام شاول، ونكث شاول بوعده فلم يعطه ميرب زوجة له بل أعطاها لعدريئيل المحولي، (معناه "الله عوني")، سُمي المحولي نسبة إلى آبل محولة (معناه "مرج الرقص") في وادي الأردن (1 مل 4: 12)، يري البعض أن موضعها "عين حلوة" التي تبعد حوالي 9 أميال جنوب بيسان.

أحبت ميكال ابنة شاول داود [20] لكن ليست كمحبة يوناثان له. نراها بعد أن تزوجت بداود أعطاها شاول لفلطي أو فلطيئيل (1 صم 25: 44)، وبعدما ملك داود استرجعها (2 صم 3: 12-16). لم تحتمل أن تري رجلها داود الملك يرقص أمام تابوت العهد أما هو فلم يخجل بل وبخها على هذه المشاعر التي لا تحمل غيرة نحو الرب (2 صم 6: 16-23).
بمكر طلب شاول من عبيده أن يفاتحوا داود في أمر زواجه بميكال ابنته، وإذ شعر داود بعجزه عن تقديم مهر لائق بها كابنة ملك جاءته الإجابة إن الملك لا يُسر بمهر بل بالغلبة على الأعداء طالبًا مائة غلفة محددًا زمنًا معينًا، هادفًا بهذا قتله لكن داود ورجاله قتلوا مائتي رجل قبل الميعاد المحدد وتزوج ميكال التي كانت تحبه. أما شاول فعاد يخاف داود الذي تزايد في النجاح، وصار شاول عدوًا له.





Mary Naeem 03 - 07 - 2023 01:14 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/16878694452261.jpg





ميكال تنقذ داود



الآن بدأ شاول ينهار، إذ كلم ابنه يوناثان وجميع عبيده أن يقتلوه [1]، وإذ تشفع فيه يوناثان وأقنعه أن يعدل عن قتله أقسم بالرب ألا يُقتل. لكن نصرة داود على الأعداء أثارت شاول من جديد ليضربه بالرمح، وإذ فشل أرسل يتعقبه في بيته فأنقذته ميكال ابنة شاول، وأخيرًا التجأ داود إلى صموئيل في الرامة ليذهبا معًا إلى نايوت وهناك يأتي شاول ورجاله فيتنبأون.
يمكننا القول إن الله استخدم كل وسيلة ليوقف جنون أنانية شاول فلم يرتدع، إذ حدثه على لسان ابنه الوارث لملكه يوناثان، وعلى لسان ابنته زوجة داود وأخيرًا خلال الأنبياء.




1. يوناثان يشفع في داود:

كان داود ناجحًا في كل عمل تمتد إليه يداه، لأن الرب كان معه، لذا أحبه جميع الشعب ورجال البلاط ويوناثان بن شاول وأخته ميكال زوجة داود، أما شاول فكان يمتلئ حسدًا وبغضة وقد صمم على قتله بطريقة أو أخرى.
كان كبرياء قلب شاول يشحنه بالبغضة بينما كان داود ينمو في الاتضاع، حتى صار اسم "شاول" عبر الأجيال يمثل التشامخ والعجرفة واسم "داود" يمثل الاتضاع.
* دُعى بولس أولًا شاول، لقد كان متكبرًا ثم اتضع. كان اسمه "شاول"، وهو اسم مشتق من "شاؤل" الملك المتعجرف الذي اضطهد داود في أيام حكمه (1 صم 18: 29). صار بعد ذلك "بولس" (1 كو 1: 1)، صار آخر الكل في الكنيسة بعد كان متعجرفًا يضطهد الأبرياء.

* ماذا يعني اسم "بولس"؟ يعني "الصغير". عندما كان اسمه "شاول" كان متكبرًا متعجرفًا، وإذ صار "بولس" صار متضعًا صغيرًا (1 كو 15: 9؛ أف 3: 8).
القديس أغسطينيوس
ربما يتساءل البعض: كيف انحط شاول إلى هذه الدرجة، مستخدمًا كل وسيلة لقتل داود، مع أنه سبق أن نال النبوة؟
حقًا لقد وُهب شاول "النبوة" كعطية إلهية، لكي يمارس حياة التسبيح والعبادة بكونه مسيح الرب، لكنه لم يحمل الاتضاع والحب في قلبه ولذا فقد كل صلاح، وقاوم داود بل وعصى الله نفسه وكسر وصيته.
لا نعجب إذ كان شاول الذي نال "النبوة" في وقت ما (1 صم 10: 11) فقد كل صلاح بسبب كبرياء قلبه الذي أفقده كل حب. لذا نجد الآباء يركزون على التمتع بالحب كثمرة عمل الروح القدس فينا لنحيا بالرب ولا نفقد خلاصنا... أما بقية المواهب فلا تقدر أن تسندنا بدون الحب، حتى المعمودية أيضًا لا تنفع بدون الحب.
* نوال المعمودية ممكن حتى بالنسبة للإنسان الشرير، ونوال النبوة ممكن للشرير. كان للملك شاول نبوة، ومع ذلك كان يضطهد القديس داود...
يمكن حتى للشرير أن يتناول جسد الرب ودمه، وقد قيل: "الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه" (1 كو 11: 29).
يمكن أن يكون للشرير اسم المسيح، إذ يمكن أن يُدعى مسيحيًا، مثل هذا يقال عنه: "نجسوا اسم إلههم" (راجع حز 36: 20)...
أما أن يكون لك الحب وتكون شريرًا فهذا مستحيل! الحب هو العطية الخاصة...
القديس أغسطينوس

ظن شاول كملك صاحب سلطان أنه قادر على الخلاص من داود، لكن الله أوجد لداود منقذًا، إذ فتح قلب يوناثان بن داود بالحب الشديد لداود، هذا أفشى سر المملكة وتجاهل بنوته الجسدية لشاول فأخبر داود بأن أباه يريد قتله وأنه يلزم الحذر ليلًا لئلا يدبر شاول مؤامرة لقتله، وأن ينتظر حتى يعرف ما في قلب أبيه، وهل يمكن أن يصالحهما معًا.
إننا نعجب حين نرى رباط الصداقة الحقيقية يقوم بين بطلين متناظرين على تاج المملكة. فيوناثان وُلد ليملك، أما داود فدُعي ليملك. كان كلاهما بطلين عظيمين ورئيسين في الجيش، ومع ذلك فكانت نظرة كل منهما للآخر نظرة إعجاب وتقدير، مع حب صادق حتى الموت. دافع يوناثان عن داود حتى وبخه والده وأراد قتله. وهو الذي ساعده على الهروب (1 صم 20). ما أجمل القول: "فقام يوناثان بن شاول وذهب إلى داود إلى الغاب، وشدّد يده بالله. وقال: "لا تخف، لأن يد شاول أبي لا تجدك وأنت تملك على إسرائيل، وأنا أكون لك ثانيًا، وشاول أبي أيضًا يعلم ذلك. فقطعا كلاهما عهدًا أمام الرب" (1 صم 23: 16-18).
في البداية كلم شاول ابنه وجميع عبيده أن يقتلوا داود [1]، وإذ حذر يوناثان داود دعا أباه ليتمشى معه في البرية بقصد الدخول معه في حديث سري ليصالحه مع داود، مذكرًا إياه بالحاجة إلى رجل صالح وناجح وشجاع لبنيان المملكة، فسمع له شاول وحلف له، ولكن هذا إلى حين.
كان يمكن ليوناثان من البداية أن يطلب من داود أن يهرب من وجه أبيه، لكن يوناثان حسب هروبه خسارة عظيمة على المملكة وأيضًا بالنسبة له فقد أحبه كنفسه.
رجع داود إلى منصبه بعدما سمع شاول لصوت ابنه الصادق والأمين.
عادت الحرب بين إسرائيل وأعدائهم؛ حاربهم داود وضربهم ضربة عظيمة فهربوا من أمامه [8]، وكانت مكافأته أن قلب شاول امتلأ حسدًا إذ دخله روح رديء هو روح الحسد.
2. شاول يبعث رسلًا لقتل داود:

أراد شاول أن يقتل داود بالرمح فهرب من أمامه ونجا.
أرسل شاول رسلًا إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه في الصباح (1 صم 9: 11).

هنا أنشد داود النبي المزمور التاسع والخمسين (58 في الترجمة السبعينية)، إذ يقول:
"أنقِذني من أعدائي يا إلهي، من مقاوميّ احمني؛
نجني من فاعلي الإثم ومن رجال الدماء خلصني.
لأنهم يكمنون لنفسي.
الأقوياء يجتمعون عليّ...
استيقظ إلى لقائي وانظر.
يعودون عند المساء يهرّون مثل الكلب ويدورون في المدينة...".
يرى القديس أغسطينوس في شرحه للمزمورأن عمل شاول يرمز إلى ما فعله رؤساء اليهود؛ فكما أرسل شاول رسلًا في الصباح إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه، هكذا دفع الرؤساء رشوة للجند المراقبين لقبر السيد ليشيعوا في الصباح أن تلاميذه جاءوا ليلًا وسرقوه، وقد أرادوا بذلك أن يقتلوا السيد أي يحطموا الإيمان به، لكنهم فشلوا.
في المزمور 59 (58) يشبِّه داود النبي رسلَ شاول المرسلين لمراقبته وقتله بكلب واحد صار يدور في المدينة لا ليُقتل بل ليُحمي. هكذا يفعل الله مع خائفيه إذ يحول الشر إلى خير. لقد طلب شاول قتل داود لكن الأخير نجا خلال تدبير ميكال ابنة شاول؛ إذ استخدمها الله وسيلة لتأكيد رعايته له وحفظه إياه. هكذا أيضًا عندما رشا اليهود الجندَ ليقتلوا خبر قيامة المسيح، تحول هذا لتأكيد القيامة، لأنه لم يعقل أحد أن التلاميذ الهاربين من الخوف يقدرون أن يسرقوا جسد السيد ليلًا وسط الحراسة المشددة وختم القبر. ما نادى به الجند صار تأكيدًا بأن الجسد ليس في القبر مما أكد قيامته.

3. ميكال تنقذ داود:

لعل ميكال سمعت من بيت أبيها عن أمر الرُسل، وإذ كانت تحب رجلها دبرت أمر هروبه، إذ أنزلته من الكوة. ربما كان بيتها في حائط السور، لذا نزل داود إلى خارج المدينة ليبدأ حلقة جديدة من حياته حملت خبرات ثمينة. دخل إلى الآلام، يعيش وسط المظلومين والمطرودين ليس له موضع يستقر فيه، وكأن الله قد هيأه بهذه الآلام لممارسة الحياة الملوكية لا كسلطة وعجرفة إنما كخدمة ورعاية خاصة للمطرودين والمظلومين. لقد دخل إلى تجربة الطرد لكي يعين المطرودين والمجرمين. كان داود في هذا رمزًا للسيد المسيح الذي أنزلته محبته من السماء كما من بيته، وجال في البرية هذا العالم ليس أين يضع رأسه؛ عاش طريدًا، مجربًا يقدر أن يعين المجرَّبين.
استخدمت ميكال الخداع والكذب لإنقاذ داود، فمن جهة أخذت الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب [13]. جاءت كلمة "ترافيم" كمفرد، هنا تعني تمثالًا كبيرًا في حجم إنسان، غالبًا كانت ميكال قد خبأته في بيتها لا لتتعبد له وإنما كفأل لكي تحبل وتنجب ولدًا. ولم يكن داود يعلم عنه شيئًا. ومن جهة أخرى كذبت ميكال فقالت عن داود إنه مريض، وعندما عاتبها والدها منتهرًا إياها: "لماذا خدعتِني فأطلقتِ عدوي حتى نجا؟!" كذبت إذ قالت: "هو قال لي: أطلقيني، لماذا أقتلك؟" [17].
4. الأنبياء يبطلون خطة شاول:


إذ هرب داود ذهب إلى الرامة حيث أقام مع صموئيل النبي في نايوت [تعني مسكنًا]، هو غالبًا مبنى لسكن الملتحقين بمدرسة الأنبياء، وربما اسم الحيّ الذي فيه السكن. على أي الأحوال ترك صموئيل مسكنه الخاص وأقام مع داود ربما ليحميه من شاول لا بسيف أو رمح وإنما بعمل الله وسلطانه الروحي، بكونه رئيس مدرسة الأنبياء ومؤسسها، وبكونه ماسح الملكين شاول وداود.
لعل داود جاء إلى هذا الموضع لأنه سبق أن التحق به إلى حين، فجاء إلى معلمه واضعًا في حسبانه أن شاول يهاب الموضع ورئيسه. لكن شاول الذي امتلأ قلبه حقدًا لم يراجع نفسه ولا ذهب بنفسه ليطلب مشورة صموئيل النبي إنما بعث بإرسالية لأخذ داود كي يقتله. عندما بلغت الإرسالية الموضع نسيت هدفها لأنها ثأثرت بالجو الروحي التعبدي وحل روح الرب عليهم وصاروا يتنبأون أي اشتركوا مع الأنبياء في التسبيح والعبادة. ظن شاول أن هذه الجماعة قد انخدعت أو خافت سلطان صموئيل فأرسل جماعة ثانية وتكرر ذات الأمر معها، وللمرة الثالثة جاءت إرسالية من قبله وصارت تتنبأ... وفي هذا كله لم يرجع شاول إلى نفسه ولا اتعظ.
قرر شاول أن يذهب بنفسه، فجاء إلى الرامة إلى البئر العظيمة التي عند سيخو؛ وإذ أراد الله أن يتمجد حل عليه هو أيضًا روح الله، فذهب إلى نايوت في الرامة وصار يتنبأ. ومن شدة تأثره بالمسبحين بموسيقى رائعة خلع رداءه وجبته وعُدته وبقى بلباسه الأبيض منطرحًا النهار والليل يسبح ويرنم. دهش كل من رآه فقالوا: "شاول أيضًا من الأنبياء؟!" [24].
لقد أراد الله أن يؤكد أنه إله المستحيلات، قادر أن يحوّل قلب شاول المملوء حقدًا إلى قلب ملتهب بالشوق نحو العبادة خاصة التسبيح، خالعًا كل ثياب المجد والكرامة، لكنه لا يلزمه بذلك بل تركه لإرادته الحرة، لذلك سرعان ما ارتد شاول إلى شره.
ظن بعض الدارسين أن صموئيل وداود سخرا من شاول حينما نظراه منطرحًا عريانًا النهار كله وكل الليل، إنما الواقع كان عكس ذلك فقد مجّد هذان النبيان الله على عمله في شاول ولو إلى حين، وقد ترك هذا النظر أثرًا طيبًا في قلب داود لذا مدحه مع ابنه يوناثان قائلًا: "شاول ويوناثان المحبوبان الحلوان.." (2 صم 1: 23). هذا ما تبقى في قلب داود من جهة شاول؛ فقد نسى حسده وحقده ومقاومته له ومؤامراته لقتله، ليراه الإنسان المحبوب الحلو الذي يسبح الله بين الأنبياء.


Mary Naeem 03 - 07 - 2023 02:46 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168839109166151.jpg




يوناثان ينقذ داود



تصرفات شاول تكشف عن اهتزاز نفسيته جدًا، فقد أدرك أن كرسيه بدأ يتزعزع وابنه الوارث الشرعي يسند داود -مغتصب الملك- وابنته ميكال تخلصه، والأنبياء يقفون بجواره... والآن يلتقي داود بيوناثان الذي يمثل كبير حجاب قصر شاول يعاتبه على تصرفات أبيه. بأمانة كاملة كشف يوناثان عما في قلب أبيه وطلب من داود الهروب بعد أن تعانقا باكين متعاهدين أمام الرب.


1. داود يعاتب يوناثان:

أدرك داود أن شاول يصر على قتله فقد بعث ثلاث إرساليات، وأخيرًا جاء بنفسه إلى الرامة لا لهدف آخر غير الخلاص منه، لكن الرب أنقذه. هرب داود من نايوت في الرامة وجاء إلى صديقه الحميم يوناثان للتشاور معه في أمر أبيه. وقد جاءت أحداث هذا الأصحاح تكشف لنا عن شخصية يوناثان الفريدة في الإخلاص والحب. لقد أدرك أن داود يستلم عرش أبيه لا محالة [14-17]، فأظهر قبوله إرادة الله بفرح دون أي امتعاض من جهة داود بل صار يحبه كنفسه [17]. كان يسنده للخلاص من يد أبيه، باذلًا كل الجهاد لحساب صديقه الذي يرث أبيه. تكشف الأحداث بالأكثر عن شخصية شاول المتهورة إذ دفعه الحقد على داود أن يحاول قتل يوناثان لأنه يسنده.

جاء داود إلى يوناثان ليجد فيه الصدر الرحب فيعاتبه على تصرفات أبيه ويطلب مشورته ومساندته. حقًا لقد أراد الجالس على العرش أن يقتل داود لكن الله فتح قلب أقرب مَن لشاول - يوناثان - ليحب داود ويخطط له من خلال البلاط الملكي... هكذا كلما حاول الشر أن يغلق الأبواب ويحكمها يُفتح لنا بابًا من حيث لا ندري.
في صراحة قال داود: "ماذا عملتُ؟ وما هو إثمي؟ وما هي خطيتي أمام أبيكِ حتى يطلب نفسي؟!" [1]. هكذا استطاع داود أن يتكلم بصراحة مبررًا نفسه، طالبًا من يوناثان أن يقتله بنفسه إن كان قد وجد فيه ظلمًا أو خيانة، إذ يفضل أن يموت بيد صديقه يوناثان عن عدل عن أن يموت بيد شاول أو أحد عبيده عن ظلم [8-10].
اتسم داود بالأمانة مع الكل ومع هذا تعرض لمتاعب كثيرة ومطاردات عبّر عنها في المزمور السابع: "خلصني من كل الذين يطردونني ونجني؛ لئلا يفترس كأسد نفسي هاشمًا إياها ولا منقذ".
يا رب إلهي إن كنت قد فعلت هذا، إذ وُجد ظلم في يدي، إن كافأت مسالمي شرًا وسلبت مضايقي بلا سبب، فليطارد عدو نفسي وليدركها وليدس إلى الأرض حياتي وليحط إلى التراب مجدي. سلاه" (مز 7: 1-5).
يتكلم داود النبي بصيغة الجمع "خلصني من كل..." ثم يكمل بصيغة المفرد "لئلا يفترس كأسد..."، ذلك لأنه وإن كثر المضايقون والمطاردون له، لكن واحدًا هو الذي يحركهم هو إبليس كما يقول القديس باسيليوس.
يرى بعض الآباء في كلمات داود النبي مع يوناثان وأيضًا ما ورد في المزمور السابع حيث يبرر داود نفسه قائلًا: "ماذا عملت؟ وما هو إثمي؟"، "إن وُجد ظلم في يدي" يرمز للسيد المسيح الذي وحده بلا خطية وقد ثار العدو - إبليس - كأسد ليفترسه على الصليب، لكن تحطم العدو وقام المسيح ليقيم مؤمنيه معه.
* "يا رب إلهي إن كنت قد أخطأت في هذا (فعلت هذا)" (مز 7: 3). "لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء" (يو 14: 30).
"إن وُجد ظلم في يدّي": "الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر" (1 بط 2: 22).
"إن كافأت مسالمي شرًا": قالوا "اصلب اصلب رجل كهذا" (راجع يو 19: 6).
"فليطارد عدو نفسي وليدركها": "آخر عدو يبطل هو الموت" (1 كو 15: 26).
"ليدس إلى الأرض حياتي": لا يمكن للحياة أن تُدرس إلى الأرض؟ "وليحطّ إلى التراب مجدي"... يتوسل المرتل من أجل أعدائه لكي يتمجد الله في أرضهم، عندما يكفون عن العداوة فيتمجد الله فيهم.
القديس جيروم

على أي الأحوال إذ تسلك النفس في طريق الكمال خلال تمتعها بالحياة الجديدة في المسيح الكامل وحده تتعرض للحروب من كل جانب، يثيرها عدو الخير ضدها، لكنها تنال الغلبة والنصرة.

وكما يقول القديس أغسطينوس: [تنهزم كل حرب وكل عداوة بالنسبة لمن صار كاملًا، فلا يكون له عدو سوى إبليس الحاسد... يقول الرسول: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1 بط 5: 8). لذلك بعدما تحدث المرتل بصيغة الجمع "خلصني من كل الذين يضطهدوني" يتكلم بصيغة المفرد: "لئلا يفترس كأسد نفسي". لم يقل "لئلا يفترسوا"، إذ عرف أي عدو وخصم عنيف ضد النفس الكاملة].
تحدث داود بصراحة معلنًا شدة تخوفه من شاول، إذ يقول: "ولكني حي هو الرب وحية هي نفسك إنه كخطوة بيني وبين الموت"، أي أن الموت قد صار قريبًا جدًا منه يحل في أية ساعة. وكانت إجابة يوناثان: "مهما تقل نفسك أفعله لك" [4]، بمعنى أنه سيقدم له كل ما يريده داود، ما يشير به عليه يفعله. هكذا يفعل الحب، لأن "المحبة لا تطلب ما لنفسها بل ما هو الآخرين".
قدم داود مشورة ليوناثان للكشف عما في قلب أبيه، قدمها بروح الوداعة والاتضاع في غير استغلال لحب يوناثان له، إذ يقول له "إرسِلني" [5]، فإنه في غياب شاول يأتمر داود بأمر يوناثان ويخضع له. وقبل مفارقته سجد له ثلاث مرات [41] علامة الاحترام اللائق به كابن ملك وعلامة الشكر والامتنان.
أما المشورة فباختصار أنه يتغيب لمدة ثلاثة أيام عن حضور الوليمة مع الملك في أول الشهر بحجة أن أخاه اليآب سأله أن يحضر إلى بيت لحم يشترك في الذبيحة السنوية التي لعشيرته، وأن يوناثان أعطاه إذنًا بالذهاب، ليرى ماذا تكون إجابة شاول؛ فإن استحسن الأمر يكون ذلك إشارة إلى ارتياح قلب الملك من نحوه، أما إذا اغتاظ فيكون قد أعد له الشر.
2. يوناثان يتمم خطة داود:

كانت العادة أن يقسم الإنسان في صيغة صلاة أحيانًا؛ هكذا فعل يوناثان إذ قال: "يا رب إله إسرائيل متى اختبرتُ أبي مثل الآن غدًا أو بعد غد فإن كان خير لداود ولم أُرسِل حينئذ فأُخْبِرَه فهكذا يفعل الرب ليوناثان وهكذا يزيد..." [12-15].
هكذا أقسم في صيغة صلاة ليعطي للقسم قدسيته، مؤكدًا أنه إن كان أبوه ينطق بخير سيبعث إليه رسولًا يطمئنه ليعود إلى عمله في البلاط، أما إذ نطق بشر فإنه يقوم بنفسه بإخباره ولا يأتمن رسولًا على ذلك حتى لا تتعرض حياة داود لخطر، طالبًا له أن يكون الرب في رفقته أثناء هروبه حتى يتسلم الحكم، وعندئذ يطلب من داود أن يصنع به وبنسله معروفًا، لأنه كانت عادة الملوك حين يتسلمون الحكم يقتلون الملك السابق وكل نسله حتى يطمئن أنه لا توجد فرصة لثورة ضده تحت قيادة شخص من نسل ملوكي (1 مل 15: 29؛ 16: 11)، بالفعل حفظ داود العهد ونفذ الوصية (2 صم 21: 7).
3. يوناثان يكتشف قلب أبيه:

اكتشف يوناثان ما في قلب أبيه في اليوم الثاني من الوليمة؛ ففي اليوم الأول ظن الملك أن داود لم يحضر لأمر عارض، لأنه غير طاهر. أما في اليوم الثاني إذ سأل عنه قال له يوناثان بأنه ذهب إلى بيت لحم كطلب أخيه ليشترك مع بيت أبيه في الذبيحة السنوية، عندئذ حمي غضب شاول على يوناثان وقال له:

"يا ابن المتعوِّجة المتمردة، أما علمتُ أنك قد اخترت ابن يسى لخزيك وخزي عورة أمك.
لأنه مادام ابن يسَّى حيًا على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك.
والآن أُرْسِل وأتِ به إليّ لأنه ابن الموت هو" [30-31].
ولما حاول يوناثان الدفاع عنه صوب شاول الرمح نحوه ليطعنه، عندئذ علم يوناثان أن أباه قد عزم على قتل داود.
لقد سب شاول ابنه بأبشع شتيمة قائلًا: "يا ابن المتعوجة المتمردة، وهو لا يعني إهانة امرأته بل إهانة يوناثان نفسه".
* ماذا عَنَى بهذا؟
أنت ابن الزانيات اللواتي هن مجنونات على الرجال، يجرين وراء العابرين.
إنك بائس خلع القلب مخنث، ليس فيك شيء من الرجولة، تعيش في خزي من نفسك ومن أمك التي عرّتك.
ماذا إذن؟ هل حزن عند سماعه هذه الأمور، وأخفى وجهه، وترك محبوبه؟ لا، بل على العكس، حَسِبَ محبته زينة.
لقد كان الواحد - يوناثان - ملكًا ابن ملك، والآخر كان طريدًا شريدًا أقصد به داود؛ ومع ذلك لم يخجل الأول من صداقته.
القديس يوحنا الذهبي الفم
لم يجد شاول ما يرد به على يوناثان في دفاعه عن داود إنما عوض الرد صوب الرمح لقتله. هذا هو روح الشر الذي يضطهد الحق ومن ينطق به مستخدمًا العنف والسلطة الزمنية. فعندما عجز اليهود عن الكلام مع السيد المسيح "الحق" ذاته، رفعوا حجارة ليقتلوه (يو 8: 59)، وأيضًا إذ لم يقدروا على مقاومة الحكم والروح الذي كان يتكلم به إسطفانوس رجموه (أع 6: 9-15).
لقد عكر الغضب عيني شاول فلم يجد ما يجاوب به ابنه إلا تصويب الرمح لقتله مع السب والشتيمة بأقذر الألفاظ.

* إن وجدتم في منازلكم عقارب وأفاعي، ألا تجتهدون في طردها حتى تعيشوا في أمان منها في منازلكم؟! ومع ذلك فها أنتم غضبى، وهوذا الغضب يتأصل في قلوبكم، وينمي فيها حقدًا وخشبًا كثيرًا وعقارب وأفاعي، ومع هذا فلا تنقون قلوبكم التي هي مسكن الله!!
القديس أغسطينوس
* الغضب هو حركة جنون، من يقتنيه لنفسه يحيره ويجعل النفس مثل الوحوش.
القديس أوغريس
* إذا أكمل الإنسان جميع الحسنات وفي قلبه حقد على أخيه فهو غريب عن الله.
القديس باخوميوس
4. يوناثان ينقذ داود:

انطلق يوناثان إلى الحقل ومعه سلاحه وأيضًا غلام صغير حتى لا يشك أحد في أمره بل يحسبونه ذاهبًا للتمرن على رمي السهام كعادته. طلب من الغلام أن يلتقط السهام التي يرميها [36]. بينما كان الغلام راكضًا رمى السهم حتى جاوزه، وناداه: "أليس السهم دونك فصاعدًا... اعجل. أسرع. لا تقف". كان ذلك إشارة إلى داود المختبئ في الحقل بأن الخطر يلاحقه وأن يسرع بالهروب. أعطي يوناثان السلاح للغلام ليدخل به إلى المدينة، وقام داود من جنوب حجر الافتراق وسقط على وجهه إلى الأرض وسجد ثلاث مرات علامة تقديره وشكره ليوناثان الذي يهتم بحياته. كان الوداع حارًا، إذ بكى كل منهما صاحبه ليفترقا بلا تلاقٍ على هذه الأرض. زاد داود في بكائه، فقال له يوناثان: "اذهب بسلام لأننا كلينا قد حلفنا باسم الرب قائلين: الرب يكون بيني وبينك، وبين نسلي ونسلك إلى الأبد"، ثم افترقا حسب الجسد أما قلباهما فازدادا التحامًا وحبًا.
ما أعذب الحب وما أثمنه فإنه ليس ما يحطمه ولا حتى الموت! هو رصيدنا الأبدي، إذ يقول الرسول بولس: "المحبة لا تسقط أبدًا؛ وأما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيبطل" (1 كو 13: 8).


Mary Naeem 07 - 07 - 2023 04:29 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 


داود الطريد

صورة مؤلمة لداود إذ صار طريدًا، ترك كل شيء فجأة وخرج وحده ولم يكن معه سيف ولا خبز، ولا وضع خطة أمامه، ولم يستشر الرب في شيء فصار يتخبط، دخل نوب مدينة الكهنة وبسببه قُتل الكهنة وهلكت المدينة، انطلق إلى جت فحسبوه جاسوسًا طائشًا واضطر إلى التظاهر بالجنون لينقذ حياته. إنها لحظات ضعف عاشها رجل الإيمان الجبار داود.






1. داود في نوب:

عجبًا إن الذي ارتعب أمامه الوثنيون، وغنت له النساء "ضرب شاول ألوفه وداود ربواته" (1 صم 18: 7)، والذي حاز حب وإعجاب الملك وابنه وابنته والقواد وجميع الشعب... يهرب أمام الملك المرفوض. لقد جاءت ساعة التجربة المُرّة التي لا بُد لكل مؤمن أن يجتازها، حين يشعر أنه وحيد ليس من يسنده ولا من يشاركه مشاعره.
جاء داود النبي إلى نوب، شمال أورشليم (إش 10: 32) بالقرب منها، حُسبت كمدينة للكهنة مع أنها لم تدرج مع مدن الكهنة في (يش 21)، إنما حسبت كذلك لأن الخيمة انتقلت إليها بعد خراب شيلوه. هناك التقى بأخيمالك الكاهن، ربما هو أخيَّا بن أخيطوب (1 صم 14: 3) أو أخوة وخلفه في الكهنوت. كان رجلًا صالحًا وهو ابن حفيد عالي الكاهن الذي صدر الحكم الإلهي بخراب بيته (1 صم 3: 13-14).
عندما ذكر السيد المسيح هذه الحادثه في (مر 2: 26) قال إنها حدثت في إيام أبيأثار رئيس الكهنة، وهو ابن أخيمالك (1 صم 22: 2)، مارس الرئاسة الكهنوتية مع أبيه.

إذ رأى أخيمالك داود وحده، لأن أتباعه وقفوا خارجًا في البداية ثم تقدموا؛ وربما حسب أخيمالك داود وحده لأنه كان يتوقع موكبًا من الأشراف يرافقونه بحكم مركزه في البلاط الملكي، وحسب من معه أنهم لا يُحسبون. هذا المنظر أربك أخيمالك ربما لأنه سمع أن شاول يريد قتل داود، وأن داود جاء هاربًا من وجه الملك فيحل على أخيمالك غضب الملك إن استضافه.
لقد خارت قوى داود فاستخدم الخداع والمواربة ونوعًا من الكذب ليبرر موقفه أمام أخيمالك إذ قال له: "إن الملك أمرني بشيءٍ، وقال لي: "لا يعلم أحد شيئًا من الأمر الذي أرسلتك فيه وأمرتك به، وأما الغلمان فقد عينت لهم الموضع الفلاني والفلاني" [2]. كان داود رجلًا حسب قلب الله، لكنه في ضعفه كان يخطئ؛ وقد أدى ضعفه هذا وكذبه إلى عواقب وخيمة؟ [18-19].
طلب داود من خبز الوجوه، الخبز المقدس (لا 24: 5-9)، الذي كان الكهنة يضعونه جديدًا كل سبت ويأكلون القديم، ولا يحل تقديمه لغير الكهنة. ومع ذلك فقد قبل أخيمالك أن يقدمه لداود ورجاله إن كانوا طاهرين حتى من العلاقات الزوجية، ذلك لأنهم جاعوا ولم يكن يوجد خبز آخر.
استخدم السيد المسيح الحادثة ليوضع لليهود كيف أنه يحل للتلاميذ أن يقطفوا السنابل ويفركوها بأيديهم ويأكلوا منها يوم السبت (مر 2: 25؛ مت 12: 3-4؛ لو 6: 3-5).
يقول القديس كيرلس الكبير: [مع أن داود سلك مسلكًا مغايرًا للناموس ولكن له في نفوسنا كل إكبار وإجلال، فهو قديس ونبي... يجب أن نلاحظ أن خبز التقدمة الوارد ذكره في رواية داود يشير إلى الخبز النازل من السماء الذي تراه على موائد الكنائس المقدسة وأن جميع أمتعة المائدة التي نستعملها في خدمة المائدة السرية لهي رمز للكنوز الإلهية الفائقة ].
لم يفعل داود النبي ذلك عن تهاون بالوصية أو تراخ، لكن لم يكن أمامه طريق آخر، لذا لم يُحسب أكله هو ومن معه من هذا الخبز كسرًا للوصية. وقد حمل تصرفه هذا رمزًا إذ تمتعت الأمم لا بخبز التقدمة وإنما بجسد السيد المسيح، الخبز النازل من السماء، كمصدر شبع حقيقي للنفس.
سأل داود عن وجود أي سلاح لدى الكاهن في الخيمة، فأعطاه سيف جليات الذي قتله داود في وادي البطم (السنط) ملفوفًا ربما في ثوب جليات وكان موضعًا خلف أفود الكهنة ليكون في مأمن. قال داود للكاهن: "لا يوجد مثله أعطني" [9]. كان يكفيه أن ينظر إلى السيف فتهدأ نفسه ويطمئن. كان يلزمه أن يذكر كيف وقف أمام جليات الجبار بكل سلاحه كشاب لا يملك سوى عصا ومقلاع وخمسة أحجار ملسى من الوادي، وباسم الرب غلب وانتصر.

كان في نوب أحد عبيد شاول، ربما ذات الغلام الذي كان يرافقه حين ذهب يبحث عن أتن أبيه الضالة (1 صم 9: 3)، يدعى دواغ الأدومي، رئيس رعاة شاول، رجل دخيل، كان محصورًا أمام الرب [7] إما لوفاء نذر أو للتطهير. وقد أدرك داود أن في وجود دواغ خطرًا، لذا أسرع بترك المكان في ذات اليوم. لكن دواغ أبلغ شاول بما حدث وأثاره لقتل لا اخيمالك وحده بل وجميع الكهنة مع نسائهم وأولادهم مع ماشيتهم.
يرى القديس أغسطينوسأن "دواغ" تعني "تحركًا" وآدوم تعني "ترابًا" أو "أرضًا"... وكأنه يمثل من يحمل "تحركًا أرضيًا" لا سماويًا، أي سلوكًا أرضيًا يفسد خدمة الرب.
2. داود في جت:

هرب داود إلى جت مدينة جليات الجبار الذي قتله، وها هو قادم يحمل سيف بطلهم، فثاروا ليقتلوه. لقد وجد أرامل وأيتامًا ترملن وتيتموا بسبب داود ولم يكن ممكنًا أن يستضيفوا داود كطريد شاول، إنما حسبوه جاسوسًا خبيثًا ومتهورًا. قُدم لأخيش (أحد ألقاب الملوك الفلسطينيين) فلم يجد وسيلة للخلاص إلا بالتظاهر بالجنون، فقد تمتع المجانين ببعض الامتيازات، منها عدم معاقبتهم على تصرفاتهم، كما حسب البعض أن بهم روحًا يخافونه ويرهبونه.
يا له من منظر يمثل منتهى البؤس! إذ نرى داود الجبار، رجل الله التقي، المتكل على الله، يخور في إيمانه ليتظاهر بالجنون. فيخربش أي يكتب كتابة غير واضحة على الباب، وبحسب الترجمة السبعينية كان يطبل على الباب، وكان يريقه يسيل على لحيته [13]، وهذه كانت تعتبر بعض علامات الجنون في الشرق، لا سيما ما للحية من إكرام. لقد استخدم رجل الإيمان وسيلة بشرية لخلاصه!!
حسب داود نفسه في جت كحمامة بكماء بين الغراء، ضاقت نفسه جدًا، لم يجد ما يتكلم به لينقذه، ولا قوة للخلاص، لا حول له ولا قوة... لقد اضطر إلى استخدام الوسيلة البشرية المُرّة، غير أن قلبه ارتفع نحو الله كما أعلن في مزموره السادس والخمسين. جاء في مقدمة المزمور [عنوان لداود عندما أخذه الفلسطينيون (Allophyli معناها "الغرباء") في جت (معناها "معصرة")].
يعلق القديس أغسطينوس على هذه المقدمة، قائلًا بإن ما حدث كان رمزًا لما تحقق مع شخص ربنا يسوع المسيح بن داود الذي أخذه غير المؤمنين - الغرباء - ليجتاز معصرة الصليب.

[كيف أُخذ هنا إلى جت؟
أُخذ جسده، الذي هو الكنيسة، إلى المعصرة.
ماذا في المعصرة...؟
إثمار! العنب الذي يُترك على الكرمة بلا عصر يبدو سليمًا لكنه لا يفيض (عصيرًا)، متى أُلقى، في المعصرة وديس وعصر يبدو كأن ضررًا أصابه، لكن هذا الضرر لا يؤذي (إذ يقدم عصيرًا)...
ليت القديسين الذين يعانون من العصير بواسطة غرباء يدركون هذا المزمور...
وينطقون بكلماته.
"ارحمني يا الله لأن الإنسان يطأني" (مز 56: 1). لا تخف لأن الإنسان يطأك، فسيكون لك خمر. فيك عنب لكي تُداس (فتنتج عصيرًا).
"اليوم كله محاربًا يضايقي" (مز 56: 1)، كل شخص غريب عن القديسين يضايقك..
"اليوم كله" أي في كل الأزمنة... لا يقل أحد في نفسه: وُجدت مضايقات في أيام آبائنا، أما في أيامنا فلا توجد. إن ظننت أنك لا تعاني من مضايقات، فأنت لم تبدأ بعد أن تكون مسيحًا. هنا يظهر صوت الرسول: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون" (2 تي 3: 12). إن كنت لا تعاني اضطهاد من أجل المسيح احذر لئلا تكون لم تبدأ أن تعيش بالتقوى في المسيح. متى بدأت بالتقوى في المسيح تدخل المعصرة؛ استعد للعصر. لا تكن جافًا لئلا تعجز عن أن تفيض بشيء خلال العصير].

إذ أنقذ الله داود من أبيمالك -بعدما تظاهر بالجنون- انطلق مسبحًا ذاك الذي أنقذه قائلًا:
"أبارك الرب في كل حين...
بالرب تفتخر نفسي، يسمع الودعاء فيفرحون...
طلبت إلى الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذني...
ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم،
ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب...
قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح.
كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب.
يحفظ جميع عظامه. واحد منها لا ينكسر...
الرب فادي نفوس عبيده وكل من اتكل عليه لا يُعاقب" (مز 34).
يعلق القديس أغسطينوس على تصرفات داود النبي أمام ملك جت كما جاء في الترجمة السبعينية "وأخذ يطبل على أبواب المدينة" [13] قائلًا: ["وأخذ يطبل"، لأن الطبلة لا تُعمل إلا بشد الجلد على خشب؛ داود طبل ليعني أن المسيح ينبغي أن يصلب. لكنه "أخذ يطبل على أبواب المدينة". ما هي "أبواب المدينة" إلا قلوبنا التي أُغلقت أمام المسيح، هذا الذي بطبله صليبه يفتح قلوب الساقطين تحت الموت؟].

Mary Naeem 07 - 07 - 2023 05:17 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 

في مغارة عدلام

إذ ترك داود النبي جت ذهب إلى مغارة عدلام، وجد كل رجل متضايق أو من كان عليه دين وكل رجل مرّ النفس بسبب انحدار حكم شاول وفساده في داود ملجأ، إذ جاءوا إليه ليكون رئيسًا عليهم؛ هؤلاء الذين كانوا في نظر شاول خطرين وشاردين التصقوا بداود ليصيروا فيما بعد أناسًا جبابرة يعلمون لحساب المملكة الجديدة.
التصاق هؤلاء الرجال بداود أثار حقد شاول لكي يقتل جميع كهنة مدينة نوب -ماعدا أبيأثار الذي أفلت من يده- ذلك لأن أخيمالك قدام لداود خبزًا وسيفًا دون علمه بما كان بين شاول وداود.



1. داود في مغارة عدلام:

كان من الصعب على داود الذي خلص شعبه من الأعداء أن يبقى خارج وطنه كمن هو خارج عن القانون، خاصة أن الله سمح أن يثور أهل جت عليه ليقتلوه، لذا بدأ يتجه نحو يهوذا لكن في شيء من التخوف. لقد جاء إلى مغارة بالقرب من مدينة عدلام الكنعانية القديمة، واختبأ فيها حتى أتاه والده وإخوته كما اجتمع إليه كثير من المتضايقين ليجدوا فيه رجاءً.
"عدلام"كلمة عبرية تعني "ملجأ"، سكنها الكنعانيون في أيام يعقوب (تك 38: 1-2). وهي إحدى المدن التي كانت من نصيب سبط يهوذا، يُشار إليها بين بلدتي يرموت وسوكوه (يش 15: 35). يرى البعض أنها عين الماء الحديثة، كانت تدعى "عيد الماء"، تقع على بعد حوالي 12 ميلًا جنوب غربي بيت لحم، في وادي إيله. لا تزال هناك نحو 15 مغارة هائلة تسمى مغاير عيد الماء، من بينها مغارة وادي قريطون بجوار بيت لحم، وهي المغارة التي سكنها داود ورجاله، إذ يبلغ حوالي 160 مترًا.
يرى البعض أن موقف داود في المغارة وبعد ذلك في وعر حارث [5] يرمز لموقف رب المجد حين جاء إلى مغارة هذا العالم متجسدًا:
أ. كان شاول الملك المرفوض يسيطر على الشعب، رمزًا لرئيس العالم - الشيطان - وقد ملك على قلوب الكثيرين (يو 14: 30).
ب. كان مُلك داود مخفيًا بالرغم من مسحه بالدهن المقدس، ومملكة رب المجد يسوع أيضًا مخفية في القلوب لا يدركها إلا من آمن به وخضع له.
ج. التف حول الملك المتضايقون والذين عليهم دين وكل مرّ النفس، هكذا اجتمع حول السيد المسيح المتألمون والخطاة المذنبون والعشارين والزناة ليجدوا فيه وفاءً لدينهم وتجديدًا لطبيعتهم وعذوبة في العشرة معه.
د. كان رجاء من هم حول أن يروه ملكًا، ونحن ننتظر مجيء الرب ليملك إلى الأبد.
ه. إذ جاءه أبياثار بن أخيمالك يروي عليه قصته الأليمة احتضنه، هكذا ينتظر رب المجد كل نفس هاربة تلجأ إليه ليحفظها آمنة [23].
ز. جاء داود إلى المغارة يختفي فيها، وجاء السيد المسيح كلمة الله مخفيًا بناسوته.
إذ هرب داود من شاول إلى مغارة عدلام وضع مذهبة (مز 57)، جاء فيها:
"ارحمني يا الله ارحمني لأنه بك احتمت نفسي،
وبظل جناحيك احتمى إلى أن تعبر المصائب.
أصرخ إلى الله العلّي، الله المحامي عني.
يُرسل من السماء ويخلصني.
عيّر الذي يتهمني (يطأ عليّ). سلاه.." (مز 57).
لقد هرب داود من وجه شاول إلى مغارة ليختبئ فيها، وكان ذلك رمزًا لما صنعه السيد المسيح كما يقول القديس أغسطينوس: [ماذا يعني الاختباء في مغارة؟ اختباء في أرض. لأن من يهرب إلى مغارة، يتغطى بأرض كي لا يُرى. أما يسوع فقد حمل أرضًا، تقبل جسدًا مأخوذًا من الأرض، فيه أخفى نفسه بكونه الله."لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8)... لقد فعل ذلك ليهرب (يسوع) من وجه شاول في مغارة. يمكن أن تفهم المغارة كمكان سفلي في الأرض. بالتأكيد كما هو واضح وأكيد للكل، أن جسده وُضع في قبر منحوت في صخرة. هذا القبر هو المغارة التي فيها هرب من وجه شاول. فقد اضطهده اليهود حتى عندما وضع (جسده) في مغارة... حتى عندما مات وهو معلق على الصليب طعنوه بحرية (يو 19: 34). لكن عندما كُفن وتم تجنيزه وضع في مغارة فلم يعودوا قادرين على عمل شيء للجسد. وإذ قام الرب من المغارة بلا ضرر ولا فساد من ذلك الموضع الذي هرب إليه من وجه شاول، خافيًا نفسه من الأشرار الذين رُمز إليهم بشاول، أعلن نفسه لأعضائه... إذ لمسه أعضائه -الرسل- بعد قيامته وآمنوا (لو 24: 39)؛ إذ أدركوا أن اضطهاد شاول لم ينفع (المضطهدين)].
يقول القديس جيروم: [ترمز المغارة للعالم لأن نوره ضئيل جدًا إن قورن بنور العالم المقبل، ومع هذا فبمجيء الرب إلى العالم أناره بكونه هو النور]؛ [كما دخل داود المغارة هاربًا من شاول، هكذا جاء الرب إلى العالم واحتمل اضطهاد ].
ليتنا نحن أيضًا إذ تمررت نفوسنا خلال حكم شاول، أي سقوطنا تحت سلطان عدو الخير إبليس، نلجأ إلى ابن داود المختبئ في المغارة. نلجأ إليه فقد جاء إلى عالمنا لينيره بمجد لاهوته الخفي، واهبًا إيانا الاستنارة الداخلية عوض الظلمة، مقدمًا لنا الحياة الجديدة عوض الموت الذي ملك علينا.
لنلجأ إلى مسيحنا فقد دخل مغارة طبيعتنا كي لا نرتعب منه، بل نجده قريبًا منا، حالًا في وسطنا بل في داخلنا ليجدد طبيعتنا فيه ويقدسها ويمجدها ببهاء مجده.
لندخل إلى ابن داود في المغارة لنجد حوله النفوس المضطهده والمُرّة النفس، هذا هو طريق الملكوت والمجد أن نشارك المتألمين آلامهم، نقبل سكني المغارة المظلمة لتدخل بنا إلى بهاء الملكوت الداخلي. لا خلاصي خارج الباب والضيق والطريق الكرب مادام مسيحنا يجتاز خلالهما.
أخيرًا حوّل داود هذه الطاقات التي كانت تبدو شاردة ومقاومة لكي تصير لبنيان مملكته الجديدة بعدما تحطمت مملكة شاول. لنتقدم إلى ابن داود بطاقاتنا التي نظنها أحيانًا محطمة لنا - من عواطف ومشاعر وأحاسيس ومواهب وقدرات - لكي يتسلمها في المغارة ويقدسها بروحه القدوس فتصير طاقات بنّاءة لحساب ملكوته الجديد.
أما عدد الرجال الذين تجمعوا حول داود ليكون رئيسًا عليهم فكان نحو أربعمائة، هذا الرقم أيضًا يحمل معنى رمزيًا. فإن رقم 100 يشير إلى كمال عدد المؤمنين أما رقم 4 فتشير إلى العالم بجهاته الأربع وإلى الجسد المأخوذ من التراب أي من الأرض (4 جهات الأرض). وكأننا إذ نلتقي بمسيحنا المتجسد، في المغارة، يتحول العالم كما كالجسد إلى بركة لنا، فلا نرى في العالم شيئًا غير صالح ولا أيضًا في الجسد، فإنه خليقة الله الصالحة.
يقول القديس أكليمندس الإسكندري: ["الله يحب كل ما خلقه"، الله لا يبغض شيئًا، ولا يحمل عداوة ضد شيء ما].
2. ذهابه إلى أرض يهوذا:

"فقال جاد النبي لداود لا تُقِم في الحصن؛ اذهب وادخل أرض يهوذا، فذهب داود وجاء إلى وعر حارث" [5].
لم نسمع عن جاد النبي إلا في هذا الموضع وحتى آخر حياة داود حين أحصى الشعب (2 صم 24: 11-15). ساعد في ترتيب الخدمة الموسيقية في بيت الرب (2 أي 29: 25)، وكان أحد المؤرخين الذين كتبوا حوادث مُلك داود (1 أي 29: 29).
يبدو أن جاد هذا كان أحد تلاميذ صموئيل النبي في مدرسة الأنبياء، وأن صموئيل نصح داود أن يكون جاد النبي أو الرائي مرافقًا له؛ وها هو ينصح داود ألا يقيم في الحصن الذي في موآب بل يذهب إلى أرض يهوذا حيث يواجه المتاعب من أجل شعب الله. وقد كان ذلك لخيره ولبنيان الشعب، حيث خلص أهل قعلية من الفلسطينيين (1 صم 23: 1-2) كما دافع عن مدن يهوذا (1 صم 27: 8-11) فاشتهر ونال ثقة يهوذا؛ وعندما قُتل شاول كان حاضرًا ليخلفه.
كانت الدعوة أن يترك الحصن ويذهب إلى وعر حارث (كلمة وعر تضاد سهل، لكنها استخدمت هنا عن الغابة ربما لأن السير فيها صعب)، وهي غابة تقع في جنوب غربي بيت لحم. إنها دعوة لترك الحصون الآمنة البشرية وقبول طريق الصليب الوعر، إذ هو طريق المُِلك والمجد.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الألم هو معلمنا. إننا لا نجلب الألم على أنفسنا، إنما نحتمله بشجاعة متى تعرضنا له، لأنه دائمًا مصدر خيرات كثيرة].
[لا تشته حياة خالية من كل ضيقة، فإن هذا ليس فيه خيرك].
3. شاول يقتل الكهنة:

إذ رجع داود ورجاله إلى اليهودية بدأت الأخبار تنتشر وأحبهم الكثيرون الأمر الذي أثار غيرة شاول من جديد، حتى ضاقت نفسه جدًا في داخله، شعر كأن لا عمل لداود إلا تحطيم مملكته ولا همّ لمن حوله إلا خيانته من أجل المكافأة حتى ابنه وارث عرشه يقف ضده.
إذ كان شاول مقيمًا تحت شجرة في مدينة جبعة في الرامة (غالبًا لا تعني مدينة الرامة إنما تعني الأكمة، أي على مرتفع) وقف أمامه عبيده وقد أمسك بالرمح كصولجان في يده، وصار يوبخهم قائلًا: "اسمعوا يا بنيامينيون. هل يعطيكم جميعكم ابن يسى حقولًا وكرومًا؟! وهل يجعلكم رؤساء ألوف ورؤساء مئات؟! [7].
كشف هذه الكلمات عن انغلاق قلب شاول، فمع كونه ملكًا على إسرائيل كله لكنه اختار جميع رجال البلاط وأصحاب المراكز العليا من سبطه وحده، لذا دعاهم: "اسمعوا يا بنيامينيون". هذه صورة مؤلمة تكشف عن قيادة مملوءة أنانية تهتم بما لنفسها وليس بما للجميع. ما أبعد الفارق بين شاول وموسى النبي، فإن الأخير اختار يشوع بن نون تلميذًا له يتسلم القيادة من بعده وليس أحدًا من أولاده.
ما أجمل كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم إذ يحمل قلبه أبوة للجميع بلا تحيز: [جماعتكم هي إكليلي؛ كل واحد منكم- في عيني - يساوي المدينة كلها].
لعل شاول بسبب عدم إيمانه كان متخوفًا من إقامة عبيد غير بنيامينيين لئلا يغتصب الملك منه أو من أولاده من بعده. بلا شك إن هذا التحيز أثار متاعب كثيرة في نفسية شيوخ الأسباط الأخرى.
بسبب الحسد لم يحتمل شاول أن يذكر اسم داود لذا سما "ابن يسى". إذ كان شاول طماعًا ومحبًا للمجد الباطل بدأ يثير عبيده بأن ابن داود يحرمهم مما تمتعوا به من حقول وكروم ومراكز قيادية... وهو في هذا يتمثل بعدو الخير الذي يحرض البشرية على الشر خلال الإغراءات المادية والكرامات الزمنية.
تسلطات الظنون على شاول فحسب كل عبيده يقاومونه، إذ يتهمهم قائلًا: "حتى فتنتم كلكم عليّ وليس من يخبرني بعهد ابني مع ابن يسى؟! وليس من يحزن عليّ أو يخبرني بأن ابني قد أقام عبدي عليّ كمينا كهذا اليوم؟!" [8].
حين يفقد الإنسان علاقته مع الله مصدر السلام يرى الجميع حوله أعداءً، يهرب إلى سبعة طرق وليس من عدو خلفه... أفكاره الداخلية هي التي تطارده وتشتت طاقاته. أما من ينعم بسلام مع الله فيحمل سلامًا في قلبه وسلامًا مع الناس ولا يخاف حتى مقاوميه.
أراد دواغ الأدومي أن يبرر نفسه وزملاءه، إذ كان الكل خائفين لئلا يفتك بهم شاول ألقى بالمسئولية على رئيس الكهنة قائلًا: "قد رأيت ابن يسى آتيًا إلى نوب إلى أخيمالك بن أخيطوب، فسأل له من الرب وأعطاه زادًا وسيف جليات الفلسطيني أعطاه إياه" [9-10].
كان دواغ صادقًا فيما قاله لكنه بتر الحقيقة وشوهها، إذ لم يعرض الحوار الذي دار بين أخيمالك وداود ليبرر نية أخيمالك؛ على العكس ببتر الحقيقة صور أخيمالك كخائن لشاول يتعمد مساندة عدوه داود. كان يليق به أن يظهر أن أخيمالك حسب داود يقوم بعمل هام بأمر الملك كما سمع من داود، وأنه قصد خدمة الملك نفسه.
استدعى شاول أخيمالك وجميع بيت أبيه الكهنة لكي ينكل بالجميع؛ هكذا فعل هامان إذ ازدُرى في عينيه أن يمد يده إلى مردخاي وحده بل طلب أن يقتل كل الشعب انتقامًا منه (إس 3: 6).
تحدث شاول مع أخيمالك بأسلوب مهين قائلًا: "اسمع يا ابن أخيطوب..."، مع أن الكاهن أظهر كل احترام وتوقير للملك، إذ أجابه: "هأنذا يا سيدي".
فنّد أخيمالك الاتهام هكذا:
أ. لم ينكر أنه أعطاه خبزًا وسيفًا وسأل له من الله، لكنه فعل هذا من أجل أمانة داود له، وقرابته له كصهر الملك، ومركزه وكرامته في البلاط، إذ قال: "مَنْ مِنْ جميع عبيدك مثل داود أمين وصهير الملك وصاحب سرك ومكرم في بيتك؟!". سؤال فيه دفاع عن نفسه ويتضمن أيضًا توبيخًا لشاول الذي اتسم بعدم الاستقرار يصاحب ويخاصم بلا تعقل.
ب. إنه لم يكن على علم بما حدث بينه وبين داود لا في الأمور الصغيرة ولا الكبيرة.
لم يكن لدى شاول ما يُجب به عليه، لكن كعادته يأخذ قراره المتسرع كإجابة ظالمة دون استشارة أحد. أصدر الحكم "موتًا تموت يا أخيمالك أنت وكل بيت أبيك". دخل كخصم وحكم بنفسه، وطلب من السعاة أن ينقذوا فلم يقبلوا أن يمدوا أيديهم إلى كهنة الرب، ليكونوا شهودًا على الظلم والعنف وإهانة خدام الرب. أما دواغ الأدومي الذي قدم الاتهام فقام بتنفيذ الأمر وقتل في ذلك اليوم خمسة وثمانين كاهنًا، ثم ذهب إلى مدينتهم -نوب- ليقتل الرجال والنساء والأطفال والرضعان حتى الحيوانات بحد السيف. صورة بشعة لوثت تاريخ شاول واقشعرت لها كل الأسباط.
لم يخرب شاول مدينة للأعداء بل إحدى مدن شعبه... هذا ما تفعله الخطية في حياة الإنسان، إذ يحطم حياته الداخلية وتفسد طاقاته ومواهبه، يصير عدوًا ومقاومًا حتى لنفسه.
على أي الأحوال تحققت كلمات الرب بخصوص بيت عالي الكاهن (1 صم 2: 31) إذ قُتل أخيمالك والكهنة الذين من نسل عالي.
4. نجاة أبيأثار الكاهن:

يبدو أن أبيأثار بن أخيمالك لم يذهب مع أبيه وأقربائه إلى شاول إذ بقى لحراسة الخيمة، وإذ سمع بما حل هرب إلى داود قبل مجيء دواغ الأدومي [20]. أخبر أبيأثار داود بما حدث، وكانت إجابة داود النبي: "أنا سببت لجميع أنفس بيت أبيك؛ أقم معي؛ لا تخف؛ لأن الذي يطلب نفسي يطلب نفسك ولكنك عندي محظوظ" [23].
أحد سمات داود التقوية اعترافه بخطئه وإلقاء اللوم على نفسه لا على الآخرين؛ فكان يمكنه القول بأنه لم يكن يعرف أن دواغ الأدومي هناك عندما ذهب إلى أخيمالك، وأنه لم يكن يتوقع أن شاول يقوم بقتل كهنة الرب... كما كان يمكنه أن يهاجم دواغ وشاول على عنفهما... لكن داود المتضع قال: "أنا سببت لجميع أنفس أبيك". ما أعذب أن يعترف الإنسان في أعماق قلبه كما بلسانه: "أخطأت". ليس شيء أفضل من أن يلقي باللوم على نفسه، ولا أشر من أن نلقي باللوم على الغير.
دان داود نفسه، وحاول علاج الخطأ باحتضان أبيأثار وحمايته، فصار معه نبيًا (جاد) وكاهنًا.
اهتم الآباء -بفِكر إنجيلي- أن يتدرب المؤمنون على إدانتهم لأنفسهم لا للغير.
* إن لم يكن لدى الإنسان الجرأة لكي يلوم نفسه فإنه لن يتردد في أن يلوم الله نفسه.
الأب دوروثيؤس من غزة


Mary Naeem 11 - 07 - 2023 07:26 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168874715281511.jpg



شاول يطارد داود



هاجم الأعداء قعيلة فتطلع الشعب إلى داود ورجاله القلائل (نحو ستمائة رجل) كملجأ لهم بينما تجاهلوا الملك الرسمي بكل جيشه إذ فقدوا الثقة فيه وخاب أملهم من جهته. لقد أدرك الكثيرين أن داود الطريد يعمل من أجل بناء الجماعة المقدسة بينما شاول الملك لا همّ له إلا مقاومة داود ومطاردته بلا سبب. فإن الأشرار لا يطيقون أولاد الله.
وكما يقول العلامة ترتليان: [إن العالم لا يطيق الكنيسة فيضطهدها بينما تحب الكنيسة العالم وتخدمه].




1. داود ينقذ قعيلة:

سمع داود عن مهاجمة الأعداء لمدينة "قعيلة"، وهي مدينة في سهل يهوذا بالقرب من تخم الفلسطينيين (يش 15: 44) فوق وادي البطم (السنط)، تبعد حوالي ثلاثة أميال من مغارة عدلام، وثمانية أميال ونصف شمال غرب حبرون، تدعى حاليًا خربة كيلا.
كلمة "قعيلة" عبرية معناها "قلعة" أو "محاط بسور".
لم يتحرك شاول ربما لعجزه عن حراسة مملكته من الأعداء، إذ ضاعت كل طاقاته الفكرية والنفسية والعسكرية في التخطيط لقتل داود بسبب الغضب الذي يعكر العينين، إذ يرى الإنسان أصدقاءه والمعينين له أعداء يلزم مقاومتهم والخلاص منهم، بينما يتغاضى عن العدو الحقيقي المحطم لحياته.

كان قلب داود ملتهبًا بالحب نحو إخوته، لذا سأل الرب - ربما عن طريق جاد النبي وأبأثار الكاهن- إن كان يذهب ليخلص قعيلة من الأعداء، فجاءته الإجابة بالإيجاب. وإذ خاف الرجال الذين معه بسب قلة عددهم ونقص السلاح عاد يسأل الرب ثانية ليتحقق الأمر، فجاءت الإجابة كالمرة الأولى. تحرك داود ورجاله ليخلصوا قعيلة ويغلبوا الأعداء ويتمتعوا بغنيمة عظيمة.
الآن أدرك داود ورجاله لماذا طلب الرب منهم مغادرة الحصن والذهاب إلى أرض يهوذا، إذ استخدمهم الرب لخلاص أولاده مهيئًا بذلك الطريق لكي يملك داود.
فقد شاول كل تمييز وحكمة، فقد كان يليق به أن يستغل فرصة غلبة داود على العدو ليطلب مصالحته فيكون سندًا له ضد الأعداء؛ لكنه على العكس ظن أن الله قد رفض داود، إذ قال: "قد نبذه الله إلى يدي لأنه قد أغلق عليه بالدخول إلى مدينة لها أبواب وعوارض" [7]. حسب دخوله إلى قعيلة، المدينة المحصنة (يش 11: 13) فرصة إلهية يقدمها الله له ليسلمه عدوه داود. قوله "نبذه الله" في العبرية تعني "جعله أجنبيًا"، أي صار غريبًا مرفوضًا من الله.
إنه لأمر خطير أن يفقد الإنسان روح الحكمة، فيرى الأمور بمنظار مقلوب، مضاد للحقيقة، فماذا يكون الحال إن فقد القائد الروحي هذه الروح، ليدفع بنفسه كما بقطيع المسيح إلى الهلاك عوض الأمام.
لهذا يشترط القديس يوحنا الذهبي الفم في الكاهن: [أن يكون حكيمًا ومحنكًا في أمور شتى، وأن يكون خبيرًا بشئون العالم بأقل من القوم المتصرفين فيه. وفي نفس الوقت متحررًا من العالم أكثر من الرهبان سكان البراري].
ظن شاول أن داود لن يفلت من يده فقد أغلق الرب عليه، إما أن تسقط المدينة عند المحاصرة أو يسلمه أهلها، ولم يدرك أن الله الذي أعطاه الغلبة على جليات بحجر أملس صغير قادر أيضًا أن يخلصه. لقد دعا شاول جميع الشعب، أي رجال الحرب؛ بينما التجأ داود إلى الرب؛ إذ طلب من أبيأثار أن يقدم الأفود التي تستخدم عند دخول الكاهن إلى القدس أمام الرب (خر 28: 29) وعند سؤال الرب في أمر ما (خر 28: 30). بعد سؤال الرب عرف داود أنه يمكن لشاول أن ينزل قعيلة وأن أهلها يمكنهم أن يسلموه له.

عجيبة هي عناية الله بنا ورعايته الفائقة، لقد أعطى النصرة لداود ضد الأعداء ليخلص مدينة قعيلة. لكنه طلب منه الهروب منها حتى لا يقتله شاول وهو أضعف من الأعداء؛ لماذا؟
أ. لكي يدرك داود أن نصرته هي من الرب، به يغلب العدو القوي لكنه بذاته يعجز عن الغلبة على شاول الضعيف... وكأن الله أراد لداود أن يعيش في اتضاعه على الدوام.
ب. لكي لا يدخل في حرب مع شاول وجيشه فيكون مقاومًا لشعبه، ويحسب هذا عارًا عليه. الله في رعايته طلب منه الذهاب إلى قعيلة ليحارب، وبذات الرعاية طلب منه أن يهرب ليعيش مع رجاله في البرية كتائهين، إذ قيل: "وخرجوا من قعيلة، وذهبوا حيثما ذهبوا".
الله في عنايته أحيانًا يهبنا الغلبة والنصرة، وبذات العناية يفتح لنا بابًا للهروب في مرة أخرى.
2. داود في برية زيف:

غادر الراعي الأمين من وجه الأجير الذي يهتم بنفعه الخاص ولو على حساب غنم رعيته. وكان الزيفيون أيضًا مستعدين لتسليم داود، وإذ أرشدوا عن موضعه في برية معون وكان شاول ورجاله يطاردونه سمح الله بهجوم الوثنيين على المملكة حتى يرجع شاول عن مطاردة داود.
ربما نعطي عذرًا لأهل قعيلة لأنها مدينة صغيرة ولم يكن ممكنًا لها أن تقف أمام جيش شاول، أما أهل زيف فخافوا داود وأبلغوا عن موضعه حيث التجأ إلى حصون طبيعية هناك. كان يمكنهم أن يطلبوا من داود أن يفارقهم عن أن يغدروا به.
"زيف" مدينة في المنطقة الجبلية ليهوذا (يش 15: 55) بالقرب من برية وغابة، حصّنها رحبعام (2 أي 11: 8). تدعى الآن "تل زيف"، وهي هضبة ترتفع 2882 قدمًا فوق سطح البحر، وتبعد أربعة أميال جنوب شرقي حبرون.

إذ جاء الزيفيون إلى شاول يقولون له: "أليس داود مختبئًا عندنا؟!" نطق بالمزمور 54:
"اللهم باسمك خلصني، وبقوتك احكم لي.
اسمع يا الله صلاتي، أصغَ إلى كلام فمي،
لأن الغرباء قد قاموا عليّ، وعتاه طلبوا نفسي،
لم يجعلوا الله أمامهم. سلاه..." (مز 54).
يرى القديس أغسطينوسبأن "زيفًا" معناها "مزخرف" أو "مزدهر". وكأن الذين خانوا داود كانوا كالعشب الذي يزهو وينمو لكن سرعان ما يذبل. لقد ظن الزيفيون أنهم ازدهروا بخيانتهم داود لكن خطتهم فشلت وهلكوا بينما خرج داود من الضيقات غالبًا ومنتصرًا.
* لم تكن خيانتهم لصالحهم، ولا هي أضرت داود.
* كان داود في البداية مختبئًا وأما أعداؤه فكانوا مزدهرين.
لاحظ داود المختبئ في قول الرسول عن أعضاء المسيح: "قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كو 3: 3). كانوا مختبئين (مستترين في المسيح) فمتى يزدهرون؟ يقول: "متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 4). عندما يزدهر هؤلاء (المستترون في المسيح) يذبل أولئك الزيفيون.
لاحظ بأية زهرة قورن مجد (الزيفيين): "كل جسد عشب وكل جماله كزهر (الحقل)" (إش 40: 6). ما هي نهايتهم؟ "يبس العشب، ذبل الزهر". ما هي نهاية داود؟ لاحظ ما قيل بعد ذلك: "وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد" (راجع إش 40: 8).

أتريدون أن تكونوا زيفيين؟ إنهم يزهرون في العالم ويذبلون في الدينونة، وإذ يذبلون يلقون في نار أبدية؛ أتختارون هذا...؟!
لقد كان (ربك) مختبئًا هنا، وكل الصالحين مختبئين هنا، لأن صلاحهم داخلي ومخفي في القلب حيث يوجد الإيمان والحب والرجاء حيث يكون كنزهم... كل هذه الأمور الصالحة مخفية، ومكافأتها مخفية.
القديس أغسطينوس
3. عهد مع يوناثان:

تم اللقاء الأخير بين داود النبي يوناثان في وسط المحنة [15-18]. وقد ظل الأخير صادقًا في حبه وإخلاصه لصديقه داود، إذ خاطر بحياته ليلتقي به في وقت بلغت
كراهية شاول لداود أشدها.
لم يكن ممكنًا ليوناثان أن يقدم شيئًا لصديقه، فقد جاء خفية بمفرده، إنما قدم له حبه الذي لا يقدر بثمن. وأعلن له أن سلاحه الوحيد هو معية الله ومواعيده، طالبًا أن يكون هو الثاني بعده، مقدمًا داود أمامه بفرح وسرور، إذ قيل: "شدَّد يده بالله، وقال له: لا تخف لأن يد شاول أبي لا تجدك وأنت تملك على إسرائيل وأنا أكون لك ثانيًا. وشاول أبي أيضًا يعلم ذلك".
جددا العهد معًا أمام الرب ليفترقا إلى غير لقاء في هذا العالم.

لقد مات يوناثان قبل أن يتبوأ داود العرش، إذ كان صعبًا لا على يوناثان بل على داود نفسه أن ينتزع المُلك من صديق مخلص يضحي بحياته لأجله.
لسنا نعرف ماذا كان يحدث لو أن شاول مات وحده ليبقى داود ويوناثان الحبيبان اللذان ما كانا يتصارعان على استلام العرش... لكن الله سمح فأراح داود من الدخول في هذا المأزق.
4. شاول يطارد داود:

لا نعرف لماذا غدر الزيفيون بداود فأبلغوا عنه لدى شاول لتسليمه إياه، هل خوفًا من شاول؟ كان يمكن أن يطلبوا من داود أن يترك منطقتهم كي لا يحرجوا مع الملك؛ أم تراهم فعلوا هذا كراهية وبغضة نحو داود؟!
لقد أخبروا شاول أن داود مختبئ في حصون الغاب في تل حخيلة، حاليًا تدعى "بكين"، وهي رأس مرتفع يشرف على البرية، خلالها يرى الإنسان شواهق عين جدي والبحر الميت وجبال موآب .
"حخيلة" معناها "مظلم" أو "كئيب".
سُر شاول بتصرفهم هذا، وحسبه تصرفًا من قبل الله الذي ينصفه من ظلم داود إذ قال لهم: "مباركون أنتم من الرب لأنكم قد أشفقتم عليّ" [21]. هكذا فسدت بصيرته فحسب نفسه مظلومًا وداود ظالمًا ومفتريًا، وأنه هو عبد الرب وداود الإنسان المنبوذ من الرب، لذا فهم مباركون إذ أشفقوا على المظلوم عبد الرب!
طلب منهم أن يتعقبوا آثار رجليه على الرمال، مشبهًا داود بالوحش البري، الذي يتعقبه الصيادون بواسطة أثر أرجله.

أنطلق الزيفيون وراءهم شاول ورجاله للتفتيش عن داود، فانطلق داود إلى برية معون (حاليًا تدعى معين تبعد حوالي ثمانية أميال جنوبي حبرون (يش 15: 55)، كانت مسكن نابال (1 صم 25: 2). كلمة "معون" معناها "سكن").
ذهب شاول إلى جانب الجبل وداود على الجانب الآخر، بينهما صخور كثيرة وعرة لا يمكن عبورها. كانا ينظران الواحد الآخر لكن لا يمكن وصول شاول إليه إلا من خلال دوران طويل. أرسل شاول فريقًا من جانب وفريقًا آخر من جانب آخر حتى لا يفلت داود من أيديهم، فيُحاط من كل ناحية. لكن الله أوجد لداود منفذًا، إذ جاء رسول إلى شاول يقول: "أسرع وانزل لأن الفلسطينيين قد اقتحموا الأرض" [27]. يقُال إنهم اقتحموا أرضه الخاصة، لولا ذلك لما تحرك.
دُعي الموضع "صخرة الزلقات"، إذ فيه زلق شاول أي تغير فلم يمسك داود.
صعد داود من هناك وأقام في حصون عين جدي، وهي حصون طبيعية كالصخور والمغاير، كانت قبلًا تدعى "حصون ثامار" (تك 14: 7، 2 أي 20: 2)، على الشاطئ الغربي للبحر الميت، تبعد 35 ميلًا من القدس، وعلى بعد ميل من شاطئ البحر الميت. ارتفاعها 400 قدم عن سطح البحر. لا تزال تسمى عين جدي، وهو نبع فياض تنحدر مياهه من علو شاهق على جبل صخري، أسفله أرض خصبة.









Mary Naeem 14 - 07 - 2023 01:01 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168933950816811.jpg




رقة داود تجاه شاول



بينما كان شاول ينهار أمام نفسه وأمام الآخرين بلا سبب كان داود يتمجد، ولعل قوته قد تجلت في أعظم صورها عندما وقع شاول بين يديه وهو يطارده، وحسب رجال داود أن الوقت قد حان لكي يموت شاول ويملك داود على الشعب [4]، أما هو فوجدها فرصة فريدة لتحقيق وصية الله مكتفيًا بقطع طرف جبة شاول، "وقد ضربه قلبه على هذا العمل أيضًا" [5]. وقف داود في اتضاع مع حزم يوبخ شاول على مطاردته له، وأحس شاول أن داود لا بُد وأن يستلم المملكة.




1. داود في كهف عين جدي:

هرب داود إلى حصون عين جدي. تبعد عين جدي عن البحر الميت حوالي 200 مترًا، الوصل إليها لا يخلو من خطر جسيم، وهي مأوى للجداء (المعزي) السورية، ومنها اشتق الاسم "عين جدي".
عندما انتهى شاول من حملة الفلسطينيين على أرضه الخاصة استأنف نشاطه بمطاردته المريرة لداود فقد انطلق إلى برية عين جدي ومعه ثلاثة آلاف رجل منتخبين. انطلق إلى صخور الوعول، وهي صخور وعرة لا يقدر أحد الوصول إليها إلا الوعول (التيوس أو الشياه الجبلية)، فقد أصر أن يتحمل ورجاله كل مشقة للخلاص من داود. جاء إلى "صير الغنم" وهي حظيرة غنم أو مغزى يقيمها الرعاة عند باب كهف تأويها الغنم ليلًا وفي أيام المطر والبرد.

دخل شاول كهفًا كبيرًا ليغطي رجليه، وهو تعبير مهذب للقول "يتبرز"، حيث كان داود ورجاله جلوسًا في مغابن الكهف [3]. إذ كان الكهف مظلمًا لم ير شيئًا فيه، أما داود ورجاله فكانوا في داخله وقد اعتادوا الظلام فرأوا شاول عند دخوله وعرفوه. كان رجال داود يشيرون عليه أن ينتقم من شاول وهو في الكهف بمفرده ليأخذ المملكة بالقوة، وأن هذه الفرصة هي من قبل الله. قالوا له: "هوذا اليوم الذي قال لك عنه الرب هأنذا أدفع عدوك ليدك فتفعل به ما يحسن في عينيك" [7]. رفض داود هذه المشورة فإن الله لم يطلب منه أن يتعامل معه كعدو، إنما قال صموئيل لشاول: "قد انتخب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه" (1 صم 14: 13)، "يمزق الرب مملكة إسرائيل عنك اليوم ويعطيها لصاحبك الذي هو خير منك" (1 صم 15: 28). واضح أن الله لم يدعُ داود ليفعل بشاول ما يريد كعدو له، بل اختاره ملكًا عوضًا عنه من أجل نقاوة قلبه وأنه أفضل من شاول، يعامله كصاحبه.
يبدو أن داود ورجاله انتظروا حتى يأخذ شاول ركنًا في المغارة ليستريح وينام، عندئذ مدّ داود يده ليقطع طرف جبة شاول. لكنه لم يحتمل هذا التصرف إذ خشى أن يكون بهذا قد أساء إلى مسيح الرب، فصارت ضربات قلبه تتزايد.
يقول القديس أغسطينوس: [كان خائفًا لئلا يُتهم بأنه اقتحم سرًا عظيمًا في شاول لأنه تحرّش بثوبه، لذلك كُتب: "إن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول" أما الرجال الذين معه إذ نصحوه أن يحطم شاول فخلصهم بقوله لهم: "حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي على مسيح الرب". هكذا أظهر تقديرًا عظيمًا لظل الأمور المقبلة؛ هذا التقدير ليس من أجل ما حدث معه وإنما من أجل ما ترمز إليه].
أنقذ داود شاول من أيدي رجاله الذين طلبوا قتله ليملك رئيسهم داود، وإذ صمت الكل انتظر داود حتى يخرج شاول من الكهف ليخرج من بعده وفي اتضاع نادى وراءه قائلًا: "يا سيدي الملك!". ولما التفت إليه "خرّ داود على وجهه إلى الأرض وسجد". يا للعجب! كان شاول شريرًا ترك كل أعمال المملكة ليكرس طاقاته لقتل داود، أما داود فينقذ حياته، ويكرمه ويسجد له وهو غير مستحق للإكرام.
داود النبي في اتضاع يسجد أمام ملك مرفوض حتى الأرض ليكسر كبرياءه بينما يخجل الكثيرون من السجود أمام قديسين علامة توقير، أما سجود العبادة فلا يليق تقديمه إلا لله وحده.

ارتفع داود في عيني الله والناس باتضاعه، إذ يقول لشاول: "وراء من خرج ملك إسرائيل؟! وراء من أنت مطارد؟! وراء كلب ميت! وراء برغوث واحد!" [14].
يقول الأب دوروثيؤس: [الاتضاع هو الذي يخلصنا من حيل العدو كلها... لا يوجد ما هو أقوى من الاتضاع]، [حقًا يا إخوة طوبى لمن كان له اتضاع حقيقي].
مع اتضاع داود الشديد وانسحاقه حتى أمام ملك مرفوض وهو يعلم أنه يستلم الحكم منه نراه أيضًا الإنسان الحازم الصريح والشجاع. فقط أظهر نفسه لشاول لا في داخل المغارة حين كان شاول في قبضة يده في ضعف شديد، وإنما بعد خروجه من المغارة ليؤكد له أنه لا يخشى غدره ولا رمحه. في صراحة كشف له كذب مشيريه الذين يحرضونه ضده مدعين أن يطلب قتله. كما أعلن له أنه لا يخافه ولا يمد يده إليه إذ ترك الله الديان يقضي له.
في قوة وصراحة يقول:
"لماذا تسمع كلام الناس القائلين هوذا داود يطلب أذيتك؟!
هوذا قد رأت عيناك اليوم هذا كيف دفعك الرب اليوم ليدي في الكهف، وقيل لي أن أقتلك، ولكنني أشفقت عليك، وقلت لا أمد يدي إلى سيدي لأنه مسيح الرب...
اعلم وانظر أنه ليس في يدي شر ولا جرم ولم أخطئ إليك وأنت تصيد نفسي لتأخذها.
يقضي الرب بيني وبينك وينتقم لي الرب منك ولكن يدي لا تكون عليك.
كما يقول مثل القدماء: من الأشرار يخرج شر.
"ولكن يدي لا تكون عليك" [9-31].
لقد أعطيت له الفرصة لينتقم لكنه لم يقتل إذ لم يرد أن يمد يده على مسيح الرب، ولأن قلبه ليس شريرًا ليخرج شرًا، إنما ترك الأمر بين يدي الله الذي يسمح للأشرار أن يمدوا يدهم بالشر عليه انتقامًا لداود.
إننا نُحيّي شخص داود النبي الذي قابل مطاردة شاول له المستمرة بالسماحة الحقة، حتى قال القديس يوحنا الذهبي الفمعنه: [نعم، لقد ارتفع فوق الناموس القديم إلى الوصايا الرسولية ]. وكأنه مارس الوصية الإنجيلية الخاصة بالمحبة الأعداء وهو تحت الناموس.
ويقول القديس أمبروسيوس: [أي عمل تقوي هذا إذ رغب داود أن يستبقى حياة الملك عدوه مع أنه كان قادرًا أن يؤذه! كم كان هذا نافعًا له، إذ ساعده عندما تولى العرش! فقد تعلم الكل أن يكون أمينًا لملكهم وألا يغتصب أحد الملك بل يهاب الملك ويكرمه].

2. شاول يتصاغر في عيني نفسه:

لم يحتمل شاول المملوء حسدًا وبغضة، قاتل الكهنة بلا سبب، أن يسمع صوت داود المملوء اتضاعًا، وأن يواجه سماحته العجيبة، لذا تصاغر شاول جدًا في عيني نفسه، إذ نراه:
أ. يدعو داود ابنه، قائلًا: "أهذا صوتك يا ابني داود" [16]. لقد دعاه داود "سيدي الملك"، "انظر يا أبي" [8-11]. أمام هذا الاتضاع المملوء وداعة ولطفًا دعاه شاول "ابني داود"، مع أنه كان في أغلب الأوقات لا يقدر أن ينطق اسمه بل يدعوه "ابن يسى" (1 صم 22: 7، 8، 13...)
لأول مرة يدعوه ابنًا له، إذ شعر أنه غير مستحق أن يدعوه داود "أبًا" له.
ب. شاول الجبار القادم ومعه 3000 رجل حرب يرفع صوته ويبكي! شعر بالضعف الشديد والحقارة فتفجرت دموعه وعلت صرخاته؛ لقد ضاقت به الدنيا جدًا وشعر بأنه وضع نفسه في فخ وشرك وليس من ينقذه!
ج. شعر شاول بشره، هذا الذي سبق أن تحدث مع أهل زيف كمن هو مظلوم أمام داود (1 صم 23: 21). وإذ قارن نفسه بداود قال: "أنت أبر مني، لأنك جازيتني خيرًا لأن الرب قد دفعني بيدك ولم تقتلني" [18].
د. أدرك شاول بأن المُلك لا بُد أن يخرج من يديه ليتسلمه داود الذي ينجح في طريقه. "والآن فإني علمت أنك تكون ملكًا وتثبت بيدك مملكة إسرائيل، فاحلف لي الآن بالرب أنك لا تقطع نسلي من بعدي ولا تبيد اسمي من بيت أبي" [20-21]. لقد تأكد أن ما سمعه من صموئيل النبي سيتحقق (1 صم 15: 28).


Mary Naeem 14 - 07 - 2023 01:26 PM

رد: تفسير سفر حبقوق
 
https://upload.chjoy.com/uploads/168933950816811.jpg




داود وأبيجايل



في الأصحاح السابق سقط شاول العنيف بين يدي داود الوديع المتضع فأبت نفسه أن تصنع به سوءًا، والآن إذ رفض نابال في حماقة أن يقدم عطية لغلمان داود الذين حرسوا غنمه، سابًا إياهم، صمم داود أن ينتقم منه (ضعف بشري!)، فأرسل الله له امرأة حكيمة ترده عن الانتقام لنفسه، وقد استجاب النبي لمشورتها (وداعة!).





1. موت صموئيل النبي:

بعد فترة جهاد طويلة -إذ دُعي صموئيل وهو في الثانية عشرة من عمره، وبقى يخدم الرب وشعبه بكل أمانة حتى بلغ التسعين من عمره- مات فاجتمع جميع إسرائيل وندبوه كما ندبوا موسى النبي (تث 34: 8) ودفنوه في الرامة على مرتفعات بنيامين، غالبًا في فناء بيته أو البستان الملحق به، إذ لم يكن ممكنًا دفنه داخل مبنى البيت لأن ذلك يُحسب نجاسة (1 صم 19: 16).
تُرى هل التقى داود بشاول ويوناثان؛ لأنه غالبًا ما يُنادَى بعفو شامل في مثل هذه المناسبات، وقد جاء داود ليشترك في توديع معلمه وأبيه الروحي وصديقه الحق والسند الوداع الأخير. غالبًا لم يقدر أن يقترب من شاول إلا في حدود مراسيم وواجبات الجنازة.
2. حماقة نابال:


إذ انتهت مراسيم الجنازة نزل داود إلى برية فاران [1]، وهي برية متسعة تكاد تكون مقفرة من السكان، جنوب اليهودية، يحدها شرقًا أرض أدوم وجنوبًا برية سيناء وغربًا برية شور.
جاء في الترجمة السبعينية أنه ذهب إلى "معون"، وهي تبعد نحو ميل واحد عن الكرمل وثمانية أميال جنوب حبرون.
وجود داود ورجاله في المنطقة كان باعثًا للسلام والطمأنينة خاصة بالنسبة للرعاة إذ كانوا يتعرضون لهجمات العمالقة والفلسطينيين، بجانب هجمات الحيوانات المفترسة. كان داود ورجاله أشبه بسور يحمي المراعي هناك خاصة مراعي نابال الذي كان غنيًا جدًا، له ثلاثة آلاف من الغنم وألف من الماعز. وقد عبر رعاته عن دينهم لداود ورجاله بحمايتهم لهم، إذ قال أحدهم: "الرجال محسنون إلينا جدًا فلم نؤذ ولا فُقد منا شيء. كل أيام ترددنا معهم ونحن في الحقل، كانوا سورًا لنا ليلًا ونهارًا كل الأيام التي كنا معهم نرعى الغنم" [15-16].
أما اسمه "نابال" فعبري معناه "جاهل" (مز 14: 1). وكما قالت زوجته أبيجايل عنه لداود كي تصرف عنه غضبه: "لأن كاسمه هذا هو، نابال اسمه والحماقة عنده" (1 صم 25).
مسكينة هذه الزوجة التي اقترنت برجل اتسم بالحماقة والجهالة. اضطرت أن تعترف بحماقته في مرارة نفس، لتنقذه وتنقذ حياتها وأيضًا تخلص داود من غضبه ورغبته للانتقام لنفسه. ليتنا نحن أيضًا إذ قبلنا الجهالة قرينًا لنا نعترف بذلك أمام ابن داود مخلص نفوسنا "الحكمة" ذاته ليحل في قلوبنا نازعًا ظلمة الجهل من أعماقنا.
يحذرنا سليمان الحكيم في سفر الأمثال من الجهل قائلًا:
"الابن الحكيم يسر أباه والابن الجاهل حُزن أمه...
الحكماء يذخرون معرفة، أما فم الغبي فهلاك قريب...
فعل الرذيلة عند الجاهل ضحك" (أم 23: 10-11).
للأسف كان هذا الرجل الأحمق من نسل كالب الذي سكن حبرون وما جاورها (يش 15: 13)، أي جاء من أصل شريف، لكن الأصل لا يشفع فيه، إذ قيل عنه: "وأما الرجل فكان قاسيًا ورديء الأعمال" [3].
سمع داود أن نابال يجز غنمه [4] وكان هذا الوقت يُحسب وقت فرح وأكل وشرب وعطاء بسخاء، لذا أرسل إليه داود يقول له: "حييت وأنت سالم وبيتك سالم وكل مالك سالم، والآن قد سمعت أن عندك جزّازين. حين كان رعاتك معنا لم نؤذهم ولم يُفقد لهم شيء كل الأيام التي كانوا فيها في الكرمل. اسأل غلمانك فيخبرونك - فليجد الغلمان نعمة في عينيك لأننا قد جئنا في يوم طيب. فأعطِ ما وجدته يدك لعبيدك ولابنك داود".
لقد خدموا نابال إذ حفظوا ماله من الوحوش اللصوص دون مقابل، ولم يرد داود أن يأخذ شيئًا بغير رضاه. لذا أرسل في هذه المناسبة يطلب ما تجود به يده، وقد طلب بأدب ووداعة كابن يتحدث مع أبيه. وقد طلب من رسله ألا يزيدوا شيئًا عن كلامه [9] حتى لا يخطئ واحد منهم بكلمة فظَّة فتنسب لداود.
قابل نابال هذا اللطف بغلاظة قلب وإساءة إذ تجاهل السبب الذي لأجله يعيش داود طريدًا، معللًا ذلك بأقسى الألفاظ، حاسبًا إياه إنسانًا متمردًا على سيده الملك، فلا يستحق خيرًا لأنه خارج عن القانون [10-11].
كشف أسلوب إجابته عن طمعه، إذ يقول: "أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجازيّ وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم" [11].
إذ سمع داود من غلمانه ما قال نابال أدرك كيف تحدث باستخفاف محتقرًا إياه، كما شعر أنه طماع ظلم غلمان داود الذين قاموا بحراسته بأمانة وشجاعة. ثار داود وغضب، فطلب من رجاله أن يتقلد كل واحد سيفه وتقلد هو أيضًا سيفه وخرج معه حوالي 400 رجل وترك مائتين مع الأمتعة.
داود الذي اتسم بضبط النفس والتواضع، الآن في لحظات ضعفه كاد أن يقترف جريمة لو تمت لأحزنت قلبه كل بقية أيام حياته، ولصارت عثرة لشعبه عندما يتولى الحكم.
3. حكمة أبيجايل:


إن كانت حماقة نابال كادت تؤدي إلى هلاكه، فإن حكمة أبيجايل هدأت قلب داود كي لا ينتقم لنفسه، وأزالت الهلاك المدبر لها ولرجلها بواسطة رجال داود، وأهلتها لتصير زوجة داود الملك والنبي.
قيل عنها: "وكانت المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة" [3]. كانت جيدة الفهم، أي مملوءة حكمة، وقد طبعت هذه الحكمة انعكاسًا على ملامح وجهها فكانت جميلة الصورة.
حقًا توجد نساء جميلات الصورة لكنهن بغير الحكمة يفقدن قيمة هذا الجمال، بل يتحول الجمال إلى تحطيم لشخصياتهن وحياتهن.
ما أحوجنا أن تكون الحكمة طبيعتنا في كياننا الداخلي مقترنة بجمالنا في الخارج، أي نحمل قدسية الإنسان الداخلي وقدسية الجسد أيضًا بأحاسيسه ومشاعره ومواهبه وكل طاقاته. هذه الحكمة (أو المعرفة أو الفهم) هي هبة إلهية.
* الروح القدس الذي فيه كل أنواع المواهب، يهب البعض كلمة حكمة .
* خلال قيادة الروح يأتي الإنسان إلى معرفة طبيعة كل الأشياء.
* أرسل نورك (مز 43: 3)؛ هذا النور المرسل من الآب إلى ذهن المدعوين للخلاص هو الفهم خلال الروح، الذي يقود الذين استناروا بالله.
العلامة أوريجانوس
* ليست معرفة بدون إيمان ولا إيمان بدون معرفة... الابن هو المعلم الحقيقي.
القديس أكليمندس الإسكندري
"أبيجايل" كلمة عبرية مشتقة من كلمتين تعنيات "أب" (أو "مصدر")، "الفرح"... وكأن الحكمة هي مصدر الفرح الحقيقي لا للإنسان الحكم وحده وإنما أيضًا لعائلته ولمن حوله. يقول سليمان الحكيم: "الابن الحكيم يسر أباه والابن الجاهل حزن أمه" (أم 10: 1).
"الحكمة خير من القوة والحكيم أفضل من الجبار" (حك 6: 1).
يحدثنا الكتاب المقدس عن الحكمة ليس فقط كعطية إلهية وإنما بالأحرى هي أقنوم إلهي يتعامل معنا ونحن معه في علاقات شخصية متبادلة:
أ. الحكمة كخالق: "أي شيء أثمن من الحكمة صانعة الجميع؟!" (حك 8: 5).
ب. الحكمة تنادي وتحب: "ألعل الحكمة لا تنادي والفهم ألا يعطي صوته. عند رؤوس الشواهق عند الطريق بين المسالك تقف... أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إليّ يجدونني... كنت عنده صانعًا وكنت كل يوم لذته فرحة دائمًا قدامه" (أم 8: 1، 2، 17، 30).

"الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة، ذبحت ذبحها، مزجت خمرها، أيضًا رتبت مائدتها... قالت له: "هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها" (أم 9: 1-5).
نتحد بها وهي تجعلنا أصدقاء الله: "لقد أحببتها والتمستها منذ صباي وابتغيت أن أتخذها لي عروسًا، وصرت لجمالها عاشقًا... عزمت أن أتخذها قرينة لحياتي..." (حك 8: 2، 9).
"وفي كل جيل تحل في النفوس القديسة فتنشئ أحباء الله وأنبياء، لأن الله لا يحب أحدًا إلا من يُساكن الحكمة" (حك 7: 27-28).
لقد عرف الغلمان أن أبيجايل اتسمت بالحكمة على خلاف رجلها نابال الأحمق، لذا جاء أحدهم إليها يخبرها بما حدث قائلًا:
"هوذا داود أرسل رسلًا من البرية ليباركوا سيدنا فثار عليهم.
والرجال محسنون إلينا جدًا فلم نؤذَ ولا فُقد منا شيء كل أيام ترددنا معهم ونحن في الحقل.
كانوا سورًا لنا ليلًا ونهارًا...
والآن اعلمي وانظري ماذا تعملين لأن الشر قد أُعد على سيدنا وعلى أهل بيته وهو ابن لئيم لا يمكن الكلام معه" [17-24].
هذا الحديث الصريح الذي فيه يتحدث الغلام بأدب واحتشام لكن في صراحة يصف رجلها كابن لئيم يكشف عن جانبين في حياة أبيجايل وهي ثقة الكل فيها وفي حسن تدبيرها من جهة وتقديرها لكل إنسان، لذا لم يخف الغلام من دعوة رجلها كابن لئيم، إذ يعرف أنها تجيد الاستماع وتسمع بحكمة لكل كلمة في غير غطرسة أو عجرفة، الأمر الذي ينقص الكثيرين في تعاملاتهم ليس فقط مع مرءوسيهم وإنما حتى مع أولادهم.
يكشف الحديث أيضًا عن دور داود ورجاله في المنطقة إذ حسبهم الغلمان سورًا لهم. فإن حماية ثلاثة آلاف من الغنم من الماعز في منطقة واسعة من البرية يهاجمها عنفاء كالعمالقة والجشوريين والجرزيين (1 صم 27: 8) ليس بالأمر السهل.
لقد أدرك داود النبي أن الله سوره وملجأ له، لذا لا يكف عن أن يكون هو سورًا للآخرين، يرد حب الله بحبه لخليقته المحبوبة لديه أي بني البشر.
الله سور لنا، يحمينا من ضربات العدو ويستر على ضعفاتنا، هكذا يليق بنا أن نكون سورًا للآخرين، نسند ضعفاء النفوس (2 كو 11: 29؛ رو 15: 1؛ 1 تس 5: 14)، نستر أيضًا ضعفاتهم بالحب ولا ندينهم.
يقول الأب دوروثيؤس: [في كلمة - كما سبق أن قلت - يليق بكل أحد أن يعين الغير قدر استطاعته لأنه كلما اتحد الإنسان مع قريبه يتحد بالأكثر مع الله].

إذ سمعت أبيجايل كلام الغلام لم تحتد عليه لأنه تدخل فيما لا يعنيه ولأنه دعا رجلها كابن لئيم، ولا ناقشت الأمر، إذ كان الوقت مقصرًا والحاجة ماسة للعمل السريع بحكمة. لقد أخذت من الخيرات مائتي رغيف خبز وزقي خمر وخمسة خرفان مهيأة وخمس كيلات من الفريك ومائة عنقود من الزبيب. ومائتي قرص من التين ووضعتها على الحمير وطلبت من غلمانها أن يعبروا قدامها، ولم تخبر نابال رجلها بما فعلت.
كان داود في ثورته يتحدث مع رجاله، وقد أقسم: "هكذا يصنع الله لأعداء داود وهكذا يزيد إن أبقيت من كل ماله إلى ضوء الصباح بائلًا بحائط" (2 صم 25: 22)، أما هي فبحكمتها قدمت أمامها هدية مادية من الخيرات (أم 17: 8؛ 18: 6)، وقدمت تواضعًا، إذ نزلت عن الحمار، وسقطت أمامه على وجهها، وسجدت إلى الأرض عند رجليه، كما قدمت جوابًا لينًا يصرف الغضب (أم 15: 1)، إذ قالت له:
"عليّ أنا يا سيدي هذا الذنب ودع أمتك تتكلم في أذنيك واسمع كلام أمتك.
لا يضعن سيدي قلبه على اللئيم هذا نابال لأن كاسمه هذا هو...
وأنا أمتك لم أرَ غلمان سيدي الذين أرسلتهم...
والآن يا سيدي حيّ هو الرب وحية هي نفسك إن الرب قد منعك عن إتيان الدماء وانتقام يدك لنفسك...
وأصفح عن ذنب أمتك لأن الرب يصنع لسيدي بيتًا أمينًا، لأن سيدي يحارب حروب الرب ولم يوجد فيك شر كل أيامك.
وقد قام رجل ليطاردك ويطلب نفسك، ولكن نفس سيدي لتكن محزومة في حزمة الحياة مع الرب إلهك وأما نفس أعدائك فليرم بها كما من وسط كفة المقلاع.
ويكون عندما يصنع الرب لسيدي حسب كل ما تكلم به من الخير من أجلك ويقيمك رئيسًا على إسرائيل، أنه لا تكون لك هذه مصدمة ومعثرة قلب لسيدي، أنك قد سفكت دمًا عفوًا أو أن سيدي قد أنتقم لنفسه.
وإذا أحسن الرب إلى سيدي فاذكر أمتك" [24-31].
ما أحكم هذه السيدة وما أعذب كلامها، فقد كشفت عن روحها الداخلية التي اتسمت بالتواضع إذ بدأت تعترف بخطئها أو ذنبها الذي لم ترتكبه بإرادتها إنما بكونها شريكة حياة رجل أحمق يخطئ فيسيء إلى البيت كله. اعتذرت في رقة أنها لم تر غلمان داود لتعطيهم من خيرات الله لها. كما اتسمت بالإيمان فحسبت شاول مرفوضًا إذ دعته "رجلًا" وليس "ملكًا" بينما نظرت إلى داود كرئيس وملك في طريقه لاستلام العرش. اتسمت أيضًا بالحكمة ففي لطف ذكّرت داود بالآتي:
أ. أنه لا يليق به مقاومة رجل لئيم كنابال... فإن داود أسمى وأعظم من أن يمد يده إلى مثل نابال.
ب. أن الله هو الذي أرسلها كي لا ينتقم لنفسه، فهو رجل عام ذو نفس كبيرة يعمل لحساب الجماعة لا لحساب نفسه.
ج. أن شاول قام وحاربه لكن الله حفظ نفسه كما في حزمة (صرة)، أما أعداؤه فيلقون كحجارة من وسط المقلاع... فلماذا الآن يدافع عن نفسه؟
د. أنه مهتم أن يحارب حروب الرب، فلا يليق به أن يهتم بهذه الصغائر.
ه. أنه سيستلم المُلك على كل الشعب، فليعمل كملك يهتم بشعبه ولا يعثرهم بالانتقام لنفسه.
و. أنه يملك، لذا تطلب ألا ينساها عندما ينال هذه الكرامة... وكأنها تقول له إن عيون الكل إليك كملك تنتظر منك إحسانًا فلا تنشغل بغير هذا.
يمكننا القول إن الله سمح لأبيجايل أن تتدخل كي لا يخطئ داود لسببين:
أ. أن داود نقي القلب احتمل شاول في اضطهاده له مرات كثيرة، لهذا إذ يضعف داود يسرع الرب فيحدثه بطريق أو آخر. لم تأتِ أبيجايل إليه مصادفة، إن صح التعبير، وإنما مجيئها بتدبير إلهي؛ نظر الرب إلى قلبه وطول أناته فلم يرد له السقوط.
ب. اتسم داود بالاتضاع فلم يستكف من قبول مشورة من الآخرين ما دامت بفكر روحي سليم. هنا تبرز حكمة داود الملتحمة بحكمة أبيجايل، إذ قبل المشورة ومدحها وقام بتنفيذها، بالرغم من قسمه الذي حلف به أمام رجاله.
وكما يقول الأب يوسف: [لقد فضل (داود) أن يكون كاسرًا لكلمته عن أن يحفظ وعده المرتبط بالقسوة].
4. داود يمتدح أبيجايل:

شعر داود النبي أن ما قامت به أبيجايل هو رسالة إلهية مملوءة حكمة، فقال لها: "مبارك الرب إله إسرائيل الذي أرسلك هذا اليوم لاستقبالي... لقد سمعت لصوتك ورفعت وجهك" [32-35].
لا أعرف هل أمتدح أبيجايل التي ردّت رجلًا عظيمًا كداود عن ارتكاب جريمة أم أمدح داود الذي قبل المشورة وامتدحها؟! إن كان قد تتلمذ على يدي صموئيل النبي التقي فقد قيل إن أبيجايل أيضًا تتلمذت على يديه، فحمل الاثنان روح الحكمة الممتزجة بالتواضع والورع.
ليتنا نتمثل بداود إذ لم يعتمد على رأيه الذاتي بل قبل مشورة الغير:
* يستحيل على إنسان يتمسك بحكمة الخاص وفكره الذاتي أن ينكر نفسه...
* الذي لا يتشبث بإرادته الذاتية ينال دائمًا ما يريده. فمن الخارج لا يسلك طريقه الذاتي لكن ما يحدث - أيا كان الأمر - أنه ينال شبعًا كافيًا ويكتشف أمام نفسه أن ما حدث يحقق إرادته.
* إنني أعرف أنه لا يحدث سقوط لراهب سوى من اعتدً بآرائه.
ليس شيء يدعو إلى الأسى - ولا ما هو أكثر خطورة - من أن يكون الإنسان مرشدًا لنفسه.
الأب دوروثيؤس
* استعد المحاربون للانتقام من نابال، لكن أبيجايل صدتهم بتوسلاتها, من هنا ندرك أنه يلزمنا ليس فقط أن نخضع لتوسلاتهم (الصالحة) في الوقت المناسب، بل ونسر بها. هكذا كان داود إذ سُرّ بمن توسطت لديه وباركها، لأنه مُنع من الرغبة في الانتقام لنفسه.
القديس أمبروسيوس
هكذا كانت أبيجايل حكيمة في توبيخها وكان لداود الأذن الصاغية وكما يقول سليمان الحكيم: "قرط من ذهب وحليّ من إبريز الموبخ الحكيم لأذن سامعه" (أم 25: 12)، وكما يقول داود نفسه: "ليضربني الصديق فرحمة، وليوبخني فزيت للرأس" (مز 141: 5).
5. داود يتزوج أبيجايل:

انتهت القصة بموت نابال بعد حوالي عشرة أيام بسكتة قليية، ربما بسبب الضيق الداخلي والكآبة ثم تزوج داود أبيجايل.
عادت أبيجايل لتجد نابال رجلها قد أقام وليمة كوليمة الملوك [36]، يسرف بلا حساب من أجل الترف بينما رفض تقديم القليل لمن يستحقون. ظن أن الوليمة تسعده، لكنه إذ سكر جدًا زاد حماقة، ولم يسعد بشيء.
إذ عرف داود بموت نابال أدرك أن يد الله قد امتدت لتعمل وتضرب من أساء إليه دون أن يخطئ هو إليه. طلب أبيجايل زوجة، فقبلت في الحال بغير حوار وفي اتضاع، إذ قامت وسجدت على وجهها إلى الأرض أمام رسل داود. وقالت: "هوذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدي". قبلته وهو وسط الضيق لترافقه أيام مجده.
جاء زواج داود بأبيجايل بعد موت صموئيل النبي وأيضًا رجلها الأحمق نابال، يمثل اتحاد السيد المسيح بكنيسته أبيجايل الحقيقية، صارت فيه مصدر الفرح الداخلي. فإنه ما كان يمكن لأبيجايل أن تتحد بعريسها السماوي إلا بعد موت صموئيل النبي، أي بعد إكمال الناموس ونبوات العهد القديم لتحيا لا تحت الناموس بل في حرية النعمة. اتحدت بعريسها الجديد بعد أن مات رجلها القديم الأحمق أي العبادة الوثنية، إذ جاءت الكنيسة من بين الأمم الوثنية.
لِنَمُت عن حرفية الناموس، ولنرفض نابال من حياتنا، فنقبل ابن داود عريسًا حقيقيًا يفيض بنعمته فينا فنمتلئ فرحًا بروحه القدوس لنفيض به بلا توقف، إذ يقول: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب يجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38).



الساعة الآن 05:12 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025