منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   العظات المكتوبة (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=66)
-   -   رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=93454)

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:03 PM

رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ



رحلة الالام : 1 - ربى يسوع .... كاراس المُحرَّقيّ

ابتهال

ربي يسوع



إنَّ حياتك على الأرض هى رحلة مع الآلام،

بدايتها كانت فى بيت لحم حيث آلام الفقر والغربة، ونهايتها على الجلجثة حيث آلام الصلب والفداء،

فأين سطور الفرح في كتاب حياتك؟


لقد أبادها الألم!

ألم يحكْ الإنسان من ظلمة الليل رداءً كثيفاً مُبطّناً بأنفاس الموت، لكي يستر به أضلع يسوع يوم ميلاده، وها السماء يوم صلبه تنسج ثوباً من أشعة الشمس المُظلمة، وتُلقيه على جسد خالقها!

لقد وُلِدت شُجيرة صغيرة لم تُقلّمْ أغصانها بعد، فما أن أتت الثمرة حتى سقطت ميتة فى أرض الأحياء، ألست أنت بكر مريم الذي طوّقته بذراعيها، كما تُطوّق الصدفة درّتها الثمينة،


فلماذا لا تساوى الجوهرة فى نظر صالبيك سوى ثلاثين من الفضة؟!

وفى شبابك لم يأسرك المال أو تستعبدك السلطة، بل قلت للشاب الغنيّ " لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ " (لو58:9)، فالفقر لم يكن حليف طفولتك فقط، بل صديقاً رافقك على الأرض كل أيام حياتك، فعشت الحياة بعد أن حررتها من آلام الغنى، فكانت بسيطة لا يشوبها الطمع، أو يُرهقها الجشع، أو تُمزّقها الأنانية، ولهذا تمتّعت بالحياة كأنّك تملكها كلها، فكنت تُصلّي فى البساتين وعلى الجبال، وتجلس تحت أغصان الكروم، تتأمل ذاتك الكرمة الحقيقية التى ستدخل المعصرة لتخرج ترياقاً يشفي البشرية من آلامها! فعلّمتنا أنَّ الحياة تتحول إلى سجن كبير إذا غلّف المال جدران بيوتنا!
أمَّا فى جثسيماني فقد خرجت الخطايا من شقوق الضمائر، تُجرجر فى خزي قُبح معاصيها، تفح كالأفاعي لَعَلَّها تقضي على الحمل الوديع، قبل أن ينقض هو عليها ويمحوها، الأمر الذى جعل عروقه تتفجر حزناً " وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ! " (لو44:22)، فصار الألم كزلزال حَبَلتْ به الأرض فتمخّضت متوجّعه، تريد أن تلد الخراب والشقاء، ولكنها على غير عاداتها لم تلد سوى الخلاص!

إنَّ الحُب هو الذى جعلك تتألم من أجلنا، ولولا حُبِّك لجرَّدت نفسك من الأقمطة فى المزود وعدت إلى عرش مجدك، ولولا الكآبة التي في أعماقنا جميعا لَمَا كان ممكناً أن تُقيم لحظة على أرض الألم، تبكي وتنوح على خطايا لم تفعلها، وكل إنسان إذا أحب غيره بإخلاص تحوّل الألم من أجله إلى طاقة عطاء وبذل،


فالحُب هو المُحرقة التى تُقدّس الألم، ولذلك فإنَّ العرق والدم المتساقط عليك، كان يكتب على جسدك المُمزق بالسياط، أسمى كلمات الصفح والغفران التى هى رمز المحبّة الصادقة.

فيا ملك الحُب، أيها القلب السماويّ، هنا وهناك، بين الميلاد والكفن... أرى أولادك كطيور السماء يُسبّحون، وكزنابق الحقل يبتسمون ويُرددون صدى أُنشودتك، إلاَّ أنَّ العالم يصلبهم كل يوم!! لكننا لن نُطالبك بآية مثل الفريسيين لكي نؤمن بك، فالحُب الذي أنزلك من السماء وأصعدك على الصليب هو آية الآيات!

أعترف يارب بأنَّ جميع الأنهار لن تقدر أن تذهب بذكراك الخالدة من قلبي، لأنَّك قد أحببتنا وكان قلبك معصرة، أمَّا أنا والجميع ففى استطاعتنا أن نتقدم إليك بكؤوس حُبنا فنشرب وترتوي نفوسنا، ولهذا ففي كل عام أنتظر أُسبوع آلامك ليزور الربيع وادي قلبي، أنتظر رائحة ورودك لتتهلل روحى، ومهما تقلّبت الفصول فلم تعد لها سلطان أن تمحو جمالك من عالمي، أو تقلع أزهارك من بستان قلبي!

سوف أجعل من قلبي بيتاً لجمالك، وصدري قبراً لآلامك، سوف أُحِِبّك محبة الزهور للربيع، وأرتفع على صليبك، لكى لا أرى الجماجم المطروحة بين الصخور، والأفاعي السامة المنسابة بين الجحور..


فاعطنى يارب كلمات من ذهب ذات أحرف من نور، واجعل من كلامى ناراً تُلهب قلوب سامعيها، كواكب مضيئة تبحث عن ظلمة النفس لتنيرها، أمَّا رنين صوتى فليكن كالماء العذب فى أرض جافة، وحتى إن وصلت كلماتي إليكم وصول الكسيح الذي يدب على العصا، فلن أخجل لأنَّي أُريد أن أتكلم بما يجول بفكرى عن آلام سيدي.

فيا من عُلقت على الصليب أُذكر ضعفنانا وأنعم علينا ببركات صليبك المقدس، وبارك هذه التأملات المتواضعة التى أردت أن أعّبر بها عن رحلة آلامك المقدسة حُبّاً بنا ورغبة فى خلاصنا، آمين.


كاراس المُحرَّقيّ

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:03 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
رحلة الالام : 2 - عـبــد يغــدر بـمـولاه .... بقلم الراهب كاراس المُحرَّقيّ


عـبــد يغــدر بـمـولاه

يهـوذا


العبد هو يهوذا الإسخريوطيّ، الذى اختاره المسيح ليكون له تلميذاً، وقد غمره بمواهبه وإحساناته، وأعطاه سلطاناً كسائر التلاميذ.. فصنع المعجزات مثلهم وأخرج الشياطين، وفى نفس الوقت كان كارزاً بين اليهود، ومُعلّماً للخطاة، مع أنَّه كان فى الداخل بعيداً عن تعليم المسيح!

عهد إليه المسيح بمهمة ألا وهى: أمانة الصندوق، فصار مُدبّراً للمال، وليّاً على الفقراء والمساكين، وإذ كان طمّاعاً نهب ما كان يوضع بالصندوق، ولهذا السبب انتقد مريم عندما سكبت الطيب على قدمي يسوع فى بيت سمعان الأبرص (يو12: 6)، معتبراً نفسه من المحسنين، المدبّرين، فكان يتظاهر بأنّه يهتم بالفقراء، وهو يسعى لإهلاك أب الفقراء والمساكين.

لا نُنكر أنّه كان موضع ثقة التلاميذ، والدليل أنَّ ليلة التسليم عندما أعلن المسيح عن مُسلّمه، لم يخطر على بال أحد منهم أنّه يقصد يهوذا (مت21:26)، فكيف إذن سقط هذا النجم العظيم؟! كيف الذي وعظ الناس بالمسيح يسلم المسيح؟! والذي وهب النظر للعميان هو نفسه يُصاب بعمى القلوب؟! وكيف الذي أخرج الشياطين يدخله الشيطان؟! لماذا تحوّل الحمل إلى ذئب وبدأ يعض راعى الخراف؟!

محبة المال أصل الشرور

لابد أنَّ خطية كان يهوذا يخفيها فى قلبه، وهى التى دفعته إلى ارتكاب هذا الفعل الأثيم، لقد كانت محبة المال تملأ قلبه وهى التى جعلت الثلاثين من الفضة أفضل عنده من المسيح، ألم يقل بولس الرسول: " مَحَبَّةَ الْمَالِ اصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ الَّذِي اذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا انْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ " (1تى10:6).

إنَّ حُبّه الفضة جعله يبيع خالق الفضة، باع المجد الذى ليس له ثمن، وهو لا يدرى أن هؤلاء الأشرار لم يعطوه إلاَّ ثمن حبل المشنقة!! لأن المسيح لا يُقدّر بمال، وهكذا نسى يهوذا أننا " لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ وَوَاضِحٌ انَّنَا لاَ نَقْدِرُ انْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ " (1تى7:6)، وأنَّ " التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ " (1تى6:6).
ولم يخطر على باله أنَّ المال ليس سوى ينبوع من الينابيع الجافة الكثيرة، التي اخترعها العالم لنفسه اللهو وللمسرات.. وهو أشبه بالسراب الخادع، الذى يراه السائر فى الصحراء ماءً، وبعد أن يركض نحوه فسرعان ما يتأكد أن ما رآه إنَّما هو وهم وخيال!

قال أحد الأثرياء:


" بالأمس كنت غنياً بسعادتي واليوم فقيراً بمالي، ما كنت أحسب أنَّ المال يطمس عين نفسى ويقودها إلى كهوف الجهل، ولم أدرِِ أنَّ ما يحسبه الناس مجداً كان لي جحيماً، أهذا هو المال؟! أهذا هو الإله الذى صرت كاهنه؟! من يبيعنى فكراً جميلاً بقنطار من الذهب؟! من يأخذ قبضة من الجواهر بدقيقة محبة؟! من يُعطيني عيناً ترى الجمال ويأخذ خزائنى؟! ثم قام من مكانه ولمَّا وصل إلى قصره نظر إليه وأشار بيده نحوه كأنّه يرثيه وكل ما فيه وقال بصوت عالٍٍ: أيها الشعب السالك فى الظلمة، الراكض وراء التعاسة، المتكلّم بالحماقة، متى تأكل الشوك وترمى الثمار والزهور إلى الهاوية؟! متى تسكن الوعر والخرائب تاركاً بستان الحياة؟! لماذا ترتدي الثياب البالية وثوب البر قد حِيك من أجلك؟! لقد انطفأ سراج الحكمة فاسقه زيتاً، وخرّب اللصوص كرم السعادة فاحرسه، أوشكت خزائن راحتك على الإفلاس فانتبه!! ".

إنَّ حياتنا أيها الأحبّاء ليست فى امتلاء خزائنا بالأموال، ولكنّها فى امتلاء قلوبنا بالسلام الروحانيّ، سلام الله الذي يفوق كل عقل، والمال لم يكن فى يوم وسيلة للحصول على هذا السلام، لأنّه لا يمس إلاَّ الحواس الخارجية فقط، وأمَّا الحواس الداخلية فلا يستطيع أن يصل إليها، ماذا جنى عخان بن كرمى من حُبّه للمال؟ لم يجنِ سوى السرقة، وماذا فعلت به السرقة؟ قادته إلى المـوت رجماً بالحجـارة (يش25:7)، وأيضاً جيحزي تلميذ إليشع النبيّ، لم ينل من الاختلاس سوى مرض البرص (2مل27:5).

تتحوّل الحياة إلى سجن إذا غلّف المال جدران بيوتنا، عندئذ يكون المال هو السلسلة التي تربطنا فتحرمنا الخروج من منازلنا، خوفاً من أن يأتى لصوص ويسرقوا أموالنا! حياتنا على الأرض رغم قصرها إلاَّ أنّها نقطة البداية للحياة الأبدية، والمال ليس هو النبع الذى منه ينطلق النهر بين الجبال والصخور وعلى السهول.. حتى يصب فى بحر الأبدية، إنَّما القداسة هى النبع الذي منه تنطلق المياه ولا تكف عن الجريان حتى تصب فى بحر الأبدية.

شهوات أُخرى


كان حُب المال هو الباعث الأقوى لخيانة يهوذا، لكنّه لم يكن الحافز الوحيد، وإلاَّ ما اكتفى أن يأخذ من اليهود ثلاثين من الفضة ثمن تسليمه ليسوع، بل لانتهز الفرصة ليأخذ مبلغا أكبر، ولكان أفضل له أن يبقى أميناً للصندوق يختلس منه ما شاء، لكنَّ الحقيقة إنَّ شهوات أُخرى كانت تتأجج نيرانها فى قلبه، فلابد أنَّه ظن أنَّ المسيح قد جاء ليُقيم مملكة أرضية كسائر الممالك، فطمع كما طمع يعقوب ويوحنا ابنا زبدي فى منصب رفيع (مت21:20)، فلمَّا خاب أمل يهوذا عرض عنه ونفر منه، وتحوّل من تلميذ له إلى عدو ضده.

هذا وقد علل القديس يوحنا الحبيب مسلك يهوذا البشع بعبارة بليغة قالها وهى " دخله الشيطان " (يو13: 7)، ويؤكد هذا ما قاله يسوع: " أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ! قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ لأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ " (يو70:6،71).

لقد نظر يهوذا إلى ممالك الأرض الواسعة، ومدن داود وسليمان الرائعة، واشتهى أن يشهر سيفه مع سيوف التلاميذ لينتصر المسيح، ويكون له مكان على عرش فى إحدى الولايات، فما أروع المملكة فى الصباح وهى ترتدى ثوبها الفضيّ، وما أبهاها فى المساء وهى تتزين بزيها الذهبيّ، أمَّا خاتم المُلك فما أجمله بين أصابع الأمراء، وتاج العرش ما ألمعه على جباه الولاه.

ولكن يهوذا لم يخطر على باله أن وراء ما ينظر ملكوت أسمى يحكمه من غدر به! وهل يمكن لمن يحوط الأرض بجناحيه أن ينشد ملجأ فى عش مهجور؟! أم هل يرتفع الحي ويتشرّف بواسطة لابسي الأكفان؟!
إن مملكة المسيح ليست من هذه الأرض، وعرشه لم يُبنَ على جماجم الموتى، أمَّا رأسه فلم ترغب سوى تاج الأشواك، وعلى كل الذين يرغبون مملكة أُخرى غير مملكة الروح، أن ينحدروا إلى مقابر أمواتهم حيث يعقد ذوو الرؤوس المتوّجة منذ القديم مجالسهم فى قبورهم، ليعطوا مجداً لعظام جدودهم وآبائهم!

فلا عجب إن تخيل يهوذا نفسه أميراً، يُعامل الرومان بقسوة مثلما عاملوا اليهود، خاصة وأن يسوع قد تكلم عن مملكته، فاعتقد أنه اختاره قائداً ولذلك تبعه برضى، ثم اكتشف أنه لم يأتِِِ ليؤسس مملكة أرضية، أو أن يُحررهم من ذل الرومان واستعبادهم، لأنَّ مملكته لم تكن سوى مملكة القلب، ولهذا يُخيل إلي أنَّ روح يهوذا كانت تتمرر وقلبه يتحجّر، عندما كان يسوع يتكلم عن المحبة والرحمة وفضائل الروح! لأنَّ ملك اليهود الذي تمنّاه تحول فى نظره إلى عازف على القيثارة لكي يسكّن حِدة أفكار البشر!

لا نُنكر أنَّه أحبّه ولكن مثل غيره من النفعيين، ولأنَّ من طبيعة النفعيّ أن يتنقل من شخص إلى آخر حسبما تقتضى المصلحة، كان ولابد ليهوذا أن يبتعد عن المسيح، ولكنه نسى أن الأنانيّ يعيش على حساب نفسه قبل أن يعيش على حساب الآخرين!! فلمَّا رأى أن يسوع لم يحرك يداً لتحريرهم من ذلك النير، ملأ اليأس قلبه وتبددت جميع آماله، فقال فى نفسه: إنَّ من يقتل آمالي ويُبدد أحلامي لابد أن يُقتل!

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:04 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
الإ علان الرهيب

ورغم قصد يهوذا الشرير لم يهمله المسيح، بل نبّهه مرات، فعندما جلس الرب على المائدة ليأكل الفصح مع التلاميذ، طرح خبر موته هناك على المائدة، فقال بنبرات المحبة المتناهية والحزن الشديد " الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ وَاحِداًمِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي "، فدخل الألم قلوب التلاميذ وأرعبهم وبدأوا ينظرون بعضهم لبعض ويستفسرون الواحد تِِلو الآخر " هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ ؟ ".

تُرى من يسقط من عدد التلاميذ ويفسد حسن التلمذة؟ من ذا الذي يترك صحبة الشمس المضيئة ويسير فى الطريق المملوءة غيوماً وظلاماً؟ من هو الخروف الذي حّول نفسه وصار ذئباً، وبدأ يعض راعى الخراف الصالح الأمين؟ كل هذا ويهوذا صامت ولا يريد أن يكشف عن نفسه، بل يلف نفسه بعباءة ثقيلة من الخِداع والرياء!

ويعود الرب ويُحدد ما يعنيه بأكثر توضيح " الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي "، ثم يعلن الويل على ذلك الإنسان الذي سوف يرتكب هذه الجريمة الشنعاء، فقد كان خيراً له لو لم يولد (مت25:20،26).

وتزداد حيرة التلاميذ! وينظر بطرس إلى التلميذ الذى كان يسوع يُحِبّه، إلى يوحنا الحبيب الذى كان يتكئ على صدر المسيح وقت العشاء، ويُشير له أن يتقدم إليه ليسأل عمن يتكلم، فيتقدم التلميذ البسيط المملوء حُبّاً، ويقع على صدر ابن الله ليسأله: " يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ؟ " فيُمزّق الرب آخر جزء من القناع الذى كان يخفي وجه الخائن ويقول: " هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ " (يو26:13).

كان من الممكن أن يعدل يهوذا عن شره، بعد سماع تلك الكلمات ويستشفع سيده فيغفر له، ولكنَّه بكل وقاحة ومكر يسأل: " هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ " متجاهلاً ما درسه، ومتناسيّاً أنَّه أمام العين التي لا تنام، أمَّا المسيح فلم يوبّخه ولم يقل له: ماذا تقول يا عبد الفضة يا عميل الشيطان؟ ألم تعلم إنّي أراك وأنت تتقدم إلى رؤساء الكهنة وتساومهم على تسليمي؟ ألم أسمعك وأنا غائب وأنت تقول لهم ماذا تعطوني وأنا أسلمه إليكم.. وإنَّما أجابه ببساطة ووداعة قلب: " أَنْتَ قُلْتَ " (مت25:26)، وفى تلك اللحظة تغلّبت على يهوذا إرادته الشريرة، وانتهى يوم خلاصه، وابتعدت عنه ملائكة السلامة فى حزن شديد، وقد دخله الشيطان بانتصار عظيم.

أخيراً قال له يسوع: " مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ " (يو27:13)، وبهذا القول أراده أن يعرف أنّه عالم بكل نواياه السيئة، لكنَّ الأحد عشر لم يفهموا هذا القول " لأَنَّ قَوْماً إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ " (يو13: 29).

فخرج يهوذا وعلى وجهه تتراقص أشباح الموت متهللة، وتنبعث من عينيه نظرات موجعة تتكلم عن مستقبل مر، ومن صدره تخرج ظلمة حالكة، وأفعمت رائحة أنفاسه الهواء بالخيانة، ومنذ تلك اللحظة أصبحت غرفة حياته خالية إلاَّ من التراب، صفحة خالية من القيم، ترسم عليها الرياح خطوطاً تمحوها الرياح وتتلاعب بها العواصف!

خرج اللص وكان وقت خروجه ليلاً، ليلاً فى الخارج وليلاً فى داخله، وأصـبح هذا المخلوق التعـس بجملته أداة طيّعة تحت يد شيطان الظلمة، مهيأ لارتكاب أبشع جريمة عرفتها البشرية، خرج ليعود، ولكن هذه المرّة معه جمع من المجرمين يحملون السلاح لكي يقبضوا على يسوع.

إنَّ كل الإنجيليين يصفون حادثة الصلب بساعة الظلمة، إلاَّ واحداً وهو القديس يوحنَّا الحبيب، فهو يرى ساعة الصلب، هى أسمى درجات الإشراق فى الظلمة الحالكة، أما الساعة المظلمة فى نظره فهى خيانة يهوذا لسيده، ولهذا قال: " فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ وَكَانَ لَيْلاً " (يو27:13ـ30)، فالقديس يوحنَّا لم يذكر الظلمة عند الصلب، وذلك لأنَّ آلام المسيح هى الجانب الجوهرى للنور.



Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:04 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
القبض على يسوع


لم يكد رب المجد يفرغ من صلاته فى بستان جثسيمانى، حتى ظهرت مصابيح، تتلألأ بأنوارها من خلال الأشجار التى قد خيّم عليها الحزن، وها جماعة من سافكى الدماء المدججين بالسلاح من سيوف وعصى تقترب فى اتجاه وادى قدرون، وكأنَّهم خرجوا ليقبضوا على لص أو زعيم متمردين (مت26: 47)!

وهكذا تراكضوا مسرعين وقـد اشرأبت أعناقهم بتشوق، لكى يحظوا بنظرة من الذي فى نظرهم قد كفر! وشارك الأرواح الشريرة على بث السموم والعلل الجَهَنَميّة فى فضاء قريتهم! ألم يتهموه مرَّة قائلين: " هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ " (مت24:12).

وكان يتقدم الجمع رجل بوجه عابس، وعلى ملامحه شجاعة مصطنعة، يتسلل بين الأشجار والحيرة تتلاعب بعواطفه، مثلما تتلاعب العواصف بأوراق الخريف! إنّه يهوذا ابن الهلاك، ذلك الشقيّ الذي يتغطى برداء التلميذ كما يتغطى الأفعوان السام بجلده الأملس اللامع، المرائيّ الذي يخفى نفسه فى زى الرسول كما يختفى الخنجر الملوث بالدماء فى جرابه الذهبيّ، لقد كُملت الخطية فيه، وأصبح الآن يبغض يسوع بمرارة كما تبغض الظلمة النور!

سألهم رب المجد: " مَنْ تَطْلُبُونَ ؟ " فقالوا: " يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ "، فلمَّا قال لهم: " أَنَا هُوَ" سمعوا صوتاً صارخاً كما لو كان خلرحاً من أحشاء الليل! وضجة هائلة منبثقة من قلب النهار! ولهذا " رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ " (يو4:18-6)، وكأن وميضاً من البـرق قد صعقهم! أو وجّهت الشمس أشعتها برعب على الظلام فبددته! أو كأن بحر النيران اشتعل ليحرقهم! أو نسمة من القدير طوّحت بهم! فوقف يسوع ولم تتغير ملامحه، بل ظل مرفوع الرأس كالبرج أمام الزوبعة، وسالت على شفتيه ابتسامة محزنة وهو يشفق على الجمع الثائر، الذي كان أشبه بآلة قوية عمياء، فى يد مبصر ضعيف يلطمهم ويسحق الضعفاء منهم!

لمّا سمع الرجال هذا الكلام اقشعرّت أبدانهم، وارتجفت أيديهم كالأغصان اليابسة أمام الريح، وصارت ثيابهم مبللة بعرق الخوف كأنَّها خارجة من نهر الاوحال، كأنَّ عذوبة صوته قد انتزعت الحركة من أجسادهم، وأيقظت الميول السماوية الساكنة فى أعماق قلوبهم، ولكنهم عادوا فانتبهوا كأنَّ صدى صوت قيصر قد دوى على مسامعهم، وذكّرهم بالمهمة البشعة التى بعثهم من أجلها.

لقد أسقطهم الرب على وجوههم، لَعَلَّهم يحسّون بتأثير أُلوهيته غير المُدركة، وكأنَّما أراد أن يترك للعالم دليلاً عملياً، أنَّه قد صار ذبيحة ليس تحت ضغط أو إكراه بل بمحض إرادته، فياله من جبروت عظيم، فبعبارة واحدة خرجت من شفتيه ترنّحت عصابة الجناة وصارت طريحة الأرض عند قدميه، لأنَّ ليس للرمل الضعيف قوة أن يقف أمام الريح العاتية!!

أمثال هؤلاء الرجال يُخيّل إلىّ أنَّ أُمهاتهم قد حبلت بهم فى خريف السنة، وولدتهم فى العواصف الشريرة، وفى الرياح الهوجاء يعيشون يوماً ثم يهلكون إلى الأبد! لأنَّهم لم يتكلموا بغير الشر عن البار، وكانت ألسنتهم كالسهام المسمومة!



إننى أشفق عليهم وعلى كل الجمع الثائر ضد يسوع، ولكنَّ الشفقة لو أحاط بها أسف جميع الملائكة، فهى لا تحمل لهم نوراً، ونحن نعرف الأقزام الذين يتحاملون على من تلمس رؤوسهم العروش، ونعرف ما يقوله القش الحقير عن أرز لبنان الشامخ العظيم!

وبعد أن قام الجميع بسماح من الرب، ووقفوا أمامه مرّة ثانية كرر نفس السؤال: " مَنْ تَطْلُبُونَ ؟ " وفى هذه المرّة كان سؤال سُخريّة، فلمَّا قالوا يسوع الناصريّ، أجاب يسوع: " قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ " (يو7:18،8)، وقد دل هذا على إخلاصه الكريم ومحبته العظيمة لتلاميذه، فبينما يسوع يمضي إلى الصليب، لم ينسَ أن يحمى تلاميذه من العاصفة التى كانت تقترب منهم، وهذا ليتم قوله: " الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَداً " (يو9:18).

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:04 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
قُبلة الموت

الآن يستعد النمر قبيل الوثوب على فريسته، فها أعداؤه يتربَّصون به لكي يصطادوه صيد الغزلان، ولا تزال جُعبة الصياد ممتلئة بالسهام، والحيَّة تهجم بعنف على نسل المرأة تريد أن تلدغه لدغة الموت، فتحت ستار الصداقة المزيفة يقترب يهوذا من سيده ويُرحّب به بعبارة كلها رياء، ويتجرأ ويُلوّث وجه ابن الإنسان، وبماذا لوّثه؟ بقُبلة غاشة كلها مكر وخداع.

لقد عانقه!! فما أن مد يده حتى ظهرت عظام أصابعه من تحت الجلد، كقضبان عارية ترتعش أمام العاصفة، وعيناه كالحفر المظلمة الممتلئة بالدماء، وخديه كالخرق المتجعدة، وشفتاه كورقتي خريف صفراء قد سقطتا من شجرة الحياة، لقد صار وجهه كصحيفة رماديّة ملتويّة، كُتب عليها بقلم معوج وبلغة شيطانية غريبة " خائن " !! وإن كان قد عانق المسيح، إلاَّ أنَّ هوة عميقة كانت تفصل بينهما، امتصت تحذيراته وحجبت الحقيقة عنه فلم يبصر ولم يسمع!!

ويصيح الخائن بمكر " سَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!! " فكانت هذه الكلمات كطعنة خنجر فى قلب البار، لكنّه يتقبلها ولم يرفض قُبلته الخبيثة، لأنَّه يعرف أنَّها قطرة سم مُزج فى كأس آلامه، فكان يهوذا يحمل سلاماً من الخارج، أمَّا الداخل فسيفاً مسموماً بسم الخيانة، من الظاهر كان كحمامة وديعة لكنَّ الخفي كان حيّة مملوءة مكراً ودهاءً!

أمَّا الرب ففى حزن وإشفاق وبأُسلوب رقيق يشابه رنين الأوتار الفضية يُجيبه: " يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ ؟ "،

لماذا ترتدي ثياب الحملان وأنت من الداخل تحمل قلب الذئب؟ لماذا تجعل من رمز السلام علامة التسليم؟ لماذا تخفى الغش وتُظهر الصداقة؟ لماذا تدعوني سيّدك وسيّدك هو الشيطان؟ أنا لست سيدك ولا معلمك لأنى لم أُعلّمك الخيانة ولا السرقة، وليس أحد يعلّم هذا إلاَّ الشيطان، لكنَّ كلماته لم تُرجع هذا الشرير إلى صوابه، بل كانت تُغذي الشيطان القابض على نفسه! وهكذا نرى يسوع لم يترك وسيلة إلاَّ وطرقها، وها هو يقرع قرعة أخيرة على باب قلبه لَعَلّه يفتح، فإن لم تفلح تكون علامة برفض الخائن إلى الأبد، عندئذ يناديه الرب باسمه: " يَا يَهُوذَا " وكأنَّه لا يزال يريد أن يتأكد من صحة الأمر فيقول: " أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ ؟ " (لو48:22).

وقد كان هذا الوداع الأخير للمرتد التعس، ذلك الشقي البائس، الذي انتصرت عليه الجحيم وتخلّت عنه السماء، الذي أنكر كل الخيرات التى أخذها من معلمه وسيده، وعوض الخيرات كافأه شراً!! ولهذا يقول مار يعقوب السروجيّ مُحدّثاً يهوذا بلسان المسيح:

" لماذا ترفض جميع خيراتي أيها التلميذ وعوض الصالحات الكثيرة تكافئ بالشر؟! مِنْ أجل مَنْ تُسلّمني بغضب عظيم؟! من حسدك وأفرزك مَنْ بين تلاميذي؟! ومَنْ نصب لك فخاً وقعت فى حبائله؟! مَنْ أظهر لك أنَّ حنّان رئيس الكهنة يُحبُّك أكثر من مُعلّمك؟! أو قيافا بأي حسن سباك من عندي؟ إن أبغضتني فمن هو حبيبك، أو مُحب لك أعظم منى؟! ".


Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:04 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 

نهاية الخائن


ويعود يهوذا إلى بيته بعد أن قضى النهار أنفاسه، وغابت الشمس تاركة قُبلة صفراء على الأشجار، فشعر بأنَّ الأفاعي تتدلى من سقف بيته، وتخرج الحيات من شقوق جدرانه لتلف بذيلها الطويل السام عنقه، لقد سكنت الحركة فى كل زوايا البيت، ولم يبقَ سوى دبيب الحشرات وبرد الهجر القاسى وليل أسود مخيف!

وهكذا عشعشت رغبة الانتحار فى رأسه، وفى لحظة هى أسود لحظات حياته نفث ثعبان الموت الجَهَنَّميّ سمومه فى قلبه وعقله، فماذا حدث؟ لمَّا شعر الخائن أنَّ الله قد تركه والسماء تخلّت عنه، أراد أن يتخلّص من أُجرة الخطية الملعونة، فذهب إلى رؤساء الكهنة والشيوخ الذين كانوا أداة سقوطه البشع، ويعترف لهم بجسارة قائلاً: " قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً " (مت4:27).

لقد أتم العمل البشع وها هو يعترف بجريمته، فهو مستعد أن يعترف بخطيته ويندم عليها بمرارة، ويود لو استطاع أن يوقف تنفيذ العمل الشرير ألا وهو: صلب إنسان برئ، فيعود مسرعاً إلى الرجال الذين أعانوه على ارتكاب جريمته ويعيد لهم الرشوة اللعينة (مت3:27)، مفضّلاً احتمال العار عن أن يبقى ثمن الدماء عالقاً بيده، ويعترف جهاراً بالإثم الذى ارتكبه... ومع ذلك يهلك يهوذا لأنَّ الخطية قد استقرت على كتفه كشبح مُخيف، وظن أنَّه يستطيع أن يتخلّص من حمله الثقيل، عندما يُعيد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة، ولكن عبثاً يحاول أن يُصفّي حسابه مع الخطية بهذه الطريقة!

ويتكلّم مع رؤساء الكهنة والشيوخ.. لكنّهم لا يملكون علاجاً للخطية، ولو أنّه بكل تواضع وشجاعة حوّل وجهه إلى يسوع، مثلما فعل اللص اليمين فيما بعد، لكان قد نال غفراناً لكل خطاياه، لكنَّ الشيطان جرّه كما يجر النسر فريسته التى انقض عليها ولم يسترح، حتى انتصر عليه تماماً، فقد ملأ قلبه باليأس وجعله يلقي بنفسه فى أحضان الموت إذ " مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ " (مت27: 5)، وينقطع الحبل الذي شنق التعس نفسه به، والشجرة التى اختارها لتكون مقصلة يختم عليها حياته تنفضه عنها فى فزع، فيسقط المسكين إلى الأرض، وينشق من الوسط وتنسكب أحشاؤه كلها (أع8:1).

وبينما كانت هذه الحوادث تدور، كان رؤساء الكهنة والشيوخ يتشاورون، ماذا يفعلون بالثلاثين من الفضة التى طرحها يهوذا فى يأسه، فاتفقوا أن يقتنوا بأُجرة الإثم حقل الفخاريّ، ليكون مقبرة للغرباء الذين يموتون فى أورشليم، وقد أُطلق عليه حقل الدم (مت8:27).

لقد قبضت أصابع الموت على شفتيه، واحترق بنار لا نور فيها! إزداد شوقاً لأرض غير معروفة، وأثقلت كاهله رغبة المُلك وهى لا تتعدى البيت والموقد، وماذا جنى من الحياة؟ لم يجنِ سوى حبل المشنقة!

سئم يهوذا الحرية المقصوصة الجناح على الأرض، وأحب سجناً العذاب في الجحيم، رفض أن يكون قطرة ماء في نهر الحياة، وأحب أن يجري كجدول الدموع إلى البحر المر! عاش فى العاصفة وها هو يخرج ليعيش فى العاصفة، ولكن هذه المرة خرج ليرمى نفسه من صخرة الخيانة الصلدة، التى كل من يصعد إليها لا بد أن يسقط ميتاً! لقد أنهى حياته الصغيرة التي تحرّكت كالضباب فوق أرض العذاب المستعبدة، فما أن مات حتى نزل إلى الجحيم ولم يخرج منه، فى حين أنَّ البار كان يصعد إلى الأعالى، ليستقر موضعه عن يمين القوة.


Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:07 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
إنَّ يهوذا قد اشتاق إلى مملكة يكون
فيها أميرا ً! أمَّا يسوع فأراد مملكة
يكون فيها كل الناس ملوك وأُمراء

!


والآن،

ماذا أقول لو كنت قد عاصرت مأساة هذا العبد الشرير؟

كنت سأُشير بيدي نحو القتيل وأصرخ بصوت أجش قائلاً:

" ملعونة هى الأيدي التي تُمد إلى هذا الجسد الملطّخ بدماء الخيانة، وملعونة هى الأعين التى تذرف دموع الحزن، على هالك قد حملت الشياطين روحه إلى الجحيم لتبقَ جثّة ابن سدوم وعمورة مطروحة على هذا التراب الدنس، حتى تتقاسم الكلاب لحمه وتُذري الرياح عظامه، فليهرب الناس من تلك الرائحة النجسة المتصاعدة من داخل قلب دنُسته الخطية وسحقته الرذيلة، ولينصرفوا مسرعين قبل أن تلسعهم ألسنة نار جهنم ".

لقد مات ابن الهلاك الذى لم يكن فى العالم الوثنيّ نظيره، ولم يكن فى إمكانه أن يُنجب مُجرماً مثله! ولكن هذا ليس بغريب لأنَّ سليمان الحكيم يقول: " اَلرَّجُلُ الْمُثَقَّلُ بِدَمِ نَفْسٍ يَهْرُبُ إِلَى الْجُبِّ " (أم17:28)، وهكذا كل من يُعانق الشيطان عليه أن يُعانق الموت أيضاً!

ولكننا نعترف بأنَّ الجرثومة التي عملت فى يهوذا الإسخريوطيّ لازالت موجودة، وإن كنَّا لا نضع أنفسنا بين يدي الله ونطلب أن يُظللنا بأجنحة حُبّه فإنَّ إبليس الذي يجول كأسد زائر ملتمساً من يبتلعه (1بط8:5)، سوف ينقض كالوحش علينا ليفترسنا .


قطع أُذن مَلَخُس


بعد أن وجّه المسيح كلماته إلى يهوذا، نراه يسلم نفسه طوعاً لأيدي أعدائه.. هنا تحرّك الدم فى عروق التلاميذ بعد أن تجمّد ساعات طويلة فاستل بطرس سيفه " وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى وَكَانَ اسْمُ الْعَبْدِ مَلْخُسَ " (يو10:18)، فقد أراد بطرس بهذا أن يُظهر غيرته للرب فى وقت الشدة، ولكنَّه لم يعلم أنَّ ابن الله لا يحتاج إلى المعونة، لأنَّه لو أمر أُلوفاً من الملائكة لملأوا الأرض ناراً.

وكم كانت دهشة الجميع عندما رأوا الرب فى شفقة، يميل على مَلخُسَ ويلمس أُذنه المُصابة بيده الشافية، فتوقف سيل الدم فى الحال وعادت سليمة كما كانت! فمن مِن الأطبَّاء له القدرة أن يُصحّح الأعضاء المقطوعة كمخلّصنا! لقد وضع الأُذن فى مكانها كالغصن الذى سقط من الشجرة، فكلل الجسم بالعضو الذى سقط منه، ليُعلن أنَّه سيد الخليقة وطبيب البشر الأعظم!

ونحن أيضاً نتعجب من هذه المعجزة، وما يُثير إعجابنا ليس فقط قوته التى أظهر بها مجده، ولكن الأكثر من ذلك محبته، التى لا تستثنى حتى الأعداء من أعمالها النافعة، كما أراد أن يُعلمنا أن ملكوته ليس من هذا العالم ولذلك لا مكان للانتقام، بل للوداعة التي تجمع جمر نار فوق رأس الأعداء، وما هذا إلاَّ إعلان أن حُب يسوع عميقاً كالبحر، عالياً كالنجوم، متّسعاً كالفضاء، وهكذا سيظل إناء حُبّه مملؤاً إلى الأبد لتشرب البشرية العطشانة فترتوى ويبرد حقدها وغيرتها وقسوتها!


وبينما كان الرب يمد يده الشافية المُحيية ليلمس الأُذن الجريحة، يقول لبطرس: " رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ ! " (مت52:26)، فالسيف ليس له استعمال إطلاقاً فى دائرة ملكوت الله، فالنصر يُحرز هنا بقوة الشهادة، وبدم الحمل، وصبر القديسين..

ومن المفسرين يرى أنَّ بطرس أراد ضرب رقبة مَلخُسَ،

لكن التدبير الإلهيّ أبعد يده عن الرقبة إلى الأُذن اليمنى لأمرين:


الأول: إن الشعب قد آذانه عن سماع أقوال الأنبياء وأقوال المسيح، فوقع العقاب على العضو المُخطيء، فالشعب الأصم ضُرب على أُذنه، لأنَّ أصوات بل رعود الأنبياء صرخت فيها ولم تسمع!!

الثانى: علامة على رغبتهم فى دوام عبوديتهم إلى الأبد، ليس للرب بل للشيطان، لأنَّ الشريعة كانت تأمر أن يُخيّر العبد وقت تحرره، هل يرغب أن يُعتق أم يظل كما هو عبداً، فإن رفض أن يعتق كانت أُذنيه تثقب، علامة على رغبته أن يظل هكذا عبداً (خر6:21).

أمَّا الأُذن التى قُطعت فهى أُذن عبد رئيس الكهنة، لا أُذن أحد الجنود، وهذا إنما يدل على أن المقصود هم بنو إسرائيل الذين أعطاهم الله الشريعة، ولكنَّهم لم يفهموها ولم يعملوا بما جاء فيها!

برئ يحاكم أمام خطاة

بقلم الراهب كاراس المحرقى


Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:08 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
إنَّ يهوذا قد اشتاق إلى مملكة يكون
فيها أميرا ً! أمَّا يسوع فأراد مملكة
يكون فيها كل الناس ملوك وأُمراء

!


والآن،

ماذا أقول لو كنت قد عاصرت مأساة هذا العبد الشرير؟

كنت سأُشير بيدي نحو القتيل وأصرخ بصوت أجش قائلاً:

" ملعونة هى الأيدي التي تُمد إلى هذا الجسد الملطّخ بدماء الخيانة، وملعونة هى الأعين التى تذرف دموع الحزن، على هالك قد حملت الشياطين روحه إلى الجحيم لتبقَ جثّة ابن سدوم وعمورة مطروحة على هذا التراب الدنس، حتى تتقاسم الكلاب لحمه وتُذري الرياح عظامه، فليهرب الناس من تلك الرائحة النجسة المتصاعدة من داخل قلب دنُسته الخطية وسحقته الرذيلة، ولينصرفوا مسرعين قبل أن تلسعهم ألسنة نار جهنم ".

لقد مات ابن الهلاك الذى لم يكن فى العالم الوثنيّ نظيره، ولم يكن فى إمكانه أن يُنجب مُجرماً مثله! ولكن هذا ليس بغريب لأنَّ سليمان الحكيم يقول: " اَلرَّجُلُ الْمُثَقَّلُ بِدَمِ نَفْسٍ يَهْرُبُ إِلَى الْجُبِّ " (أم17:28)، وهكذا كل من يُعانق الشيطان عليه أن يُعانق الموت أيضاً!

ولكننا نعترف بأنَّ الجرثومة التي عملت فى يهوذا الإسخريوطيّ لازالت موجودة، وإن كنَّا لا نضع أنفسنا بين يدي الله ونطلب أن يُظللنا بأجنحة حُبّه فإنَّ إبليس الذي يجول كأسد زائر ملتمساً من يبتلعه (1بط8:5)، سوف ينقض كالوحش علينا ليفترسنا .


قطع أُذن مَلَخُس


بعد أن وجّه المسيح كلماته إلى يهوذا، نراه يسلم نفسه طوعاً لأيدي أعدائه.. هنا تحرّك الدم فى عروق التلاميذ بعد أن تجمّد ساعات طويلة فاستل بطرس سيفه " وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى وَكَانَ اسْمُ الْعَبْدِ مَلْخُسَ " (يو10:18)، فقد أراد بطرس بهذا أن يُظهر غيرته للرب فى وقت الشدة، ولكنَّه لم يعلم أنَّ ابن الله لا يحتاج إلى المعونة، لأنَّه لو أمر أُلوفاً من الملائكة لملأوا الأرض ناراً.

وكم كانت دهشة الجميع عندما رأوا الرب فى شفقة، يميل على مَلخُسَ ويلمس أُذنه المُصابة بيده الشافية، فتوقف سيل الدم فى الحال وعادت سليمة كما كانت! فمن مِن الأطبَّاء له القدرة أن يُصحّح الأعضاء المقطوعة كمخلّصنا! لقد وضع الأُذن فى مكانها كالغصن الذى سقط من الشجرة، فكلل الجسم بالعضو الذى سقط منه، ليُعلن أنَّه سيد الخليقة وطبيب البشر الأعظم!

ونحن أيضاً نتعجب من هذه المعجزة، وما يُثير إعجابنا ليس فقط قوته التى أظهر بها مجده، ولكن الأكثر من ذلك محبته، التى لا تستثنى حتى الأعداء من أعمالها النافعة، كما أراد أن يُعلمنا أن ملكوته ليس من هذا العالم ولذلك لا مكان للانتقام، بل للوداعة التي تجمع جمر نار فوق رأس الأعداء، وما هذا إلاَّ إعلان أن حُب يسوع عميقاً كالبحر، عالياً كالنجوم، متّسعاً كالفضاء، وهكذا سيظل إناء حُبّه مملؤاً إلى الأبد لتشرب البشرية العطشانة فترتوى ويبرد حقدها وغيرتها وقسوتها!


وبينما كان الرب يمد يده الشافية المُحيية ليلمس الأُذن الجريحة، يقول لبطرس: " رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ ! " (مت52:26)، فالسيف ليس له استعمال إطلاقاً فى دائرة ملكوت الله، فالنصر يُحرز هنا بقوة الشهادة، وبدم الحمل، وصبر القديسين..

ومن المفسرين يرى أنَّ بطرس أراد ضرب رقبة مَلخُسَ،

لكن التدبير الإلهيّ أبعد يده عن الرقبة إلى الأُذن اليمنى لأمرين:


الأول: إن الشعب قد آذانه عن سماع أقوال الأنبياء وأقوال المسيح، فوقع العقاب على العضو المُخطيء، فالشعب الأصم ضُرب على أُذنه، لأنَّ أصوات بل رعود الأنبياء صرخت فيها ولم تسمع!!

الثانى: علامة على رغبتهم فى دوام عبوديتهم إلى الأبد، ليس للرب بل للشيطان، لأنَّ الشريعة كانت تأمر أن يُخيّر العبد وقت تحرره، هل يرغب أن يُعتق أم يظل كما هو عبداً، فإن رفض أن يعتق كانت أُذنيه تثقب، علامة على رغبته أن يظل هكذا عبداً (خر6:21).

أمَّا الأُذن التى قُطعت فهى أُذن عبد رئيس الكهنة، لا أُذن أحد الجنود، وهذا إنما يدل على أن المقصود هم بنو إسرائيل الذين أعطاهم الله الشريعة، ولكنَّهم لم يفهموها ولم يعملوا بما جاء فيها!

برئ يحاكم أمام خطاة

بقلم الراهب كاراس المحرقى


Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:08 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
الإشارة إليها

وإلى هذه الكأس المرّة المـذاق قد أشـار المخلص أكثر من مرّة، فعندما طلبت أُم ابني زبدي، أن يجلس ابناها واحد عن يمينه والآخر عن يسـاره فى ملكوته، أجاب رب المجد متسائلاً: " أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟ " (مت22:20).

وفى بستان جثسيماني بعد جهاد فى الصلاة، سمعناه يتساءل: إن كان ممكناً أن تعبر عنه هذه الكأس " يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ " (لو42:22).

محتوياتها

++ فى الكأس كانت خطايا البشرية كلها



فكل ما ادخرته البشرية لنفسها ليوم الدينونة العظيم، من قتل ونهب وسرقة، وتجديف وجحود، وكبرياء وظلم وقساوة قلب، ومكر وخداع وشهوات رديئة، وكذب ونفاق ونميمة.. هذه كلها امتزجت فى كأس آلامه.


وهكذا صار المسيح ذبيحاً فى هابيل، ومُزدَرى فى نوح من بنيه، ومتغرباً فى شخص ابراهيم، وعبداً أجيراً فى يعقوب، وهارباً فى موسى، وأسيراً مباعاً فى يوسف الصديق.. وإلى الأبد سيذوب على مذبح الحُب، ليضئ بنوره حُبِّ الطريق أمام كل زورق تائه في الحياة!

++ وفي الكأس أيضاً آلام الصلب

سواء النفسيّة أو الجسديّة عندما حزن فى جثسيمانى وتساقط عرقه دماً على الأرض!! (لو44:22)، وعندما وقف فى بلاط هيرودس وبيلاطس مقيداً ليُحاكم كلصٍ شرير، من قوم ضالين عن تهم لم يفعلها، وكم كانت آلام مخلصنا قاسية، عندما عروه من ثيابه وجلدوه! وهو اللابس النور كرداء ويُرصّع ذيل ثوبه بالنجوم، أو عندما وضعوا قصبة فى يمينه ليسخروا لملكه وهو الملك الحقيقيّ الذي ستخضع الشعوب لسلطانه، وسينحني ملوك الأرض أمام صولجانه..

تُرى من يستطيع أن يصف وجهاً يُعلن فى كل دقيقة سراً من أسرار الله؟‍! هل لنا أن نصف جمال يسوع الذي كحلم لا يُفسر، أو كفكر سماويّ لا يُعبَّر عنه، ولا يتجسّد بقلم كاتب أو يتجسّم بريشة فنان؟! ومع ذلك بصقوا فيه!!

إذهب بفكرك إلى الجلجثة، تلك البقعة الجرداء، التى تخضّبت رمالها بدماء القتلى والمجرمين، وارفع عينيك إلى فوق لتعرف مقدار آلام مُخلّصنا.. فالدماء تملأ وجهه من آثار جروح إكليل الشوك، والأرض ارتوت بالدماء من آثار المسامير المغروسة فى يديه ورجليه، أمَّا جنبه فقد طُعن بالحربة، ليصير ينبوعاً يُطهّرنا من خطايانا، ويشفينا من أمراضنا.

++ ولا شك أن خطايا اليهود زادت الكأس مرارة

فالمسيح عانى من كراهية وحسد اليهود!! وقد عاش مرفوضاً من خاصته يُعامل معاملة الازدراء المهين التي قلّما يُعامل بها أشر الخطاة! فكم من نفوس عاشوا فى كهوف تتدلى أفكار اليأس من سقوفها، وكم من نفوس طريدة كادت حياتها كشمس المغيب تذوب فى صدر الحياة، هؤلاء غير العميان الذين كانت أحلاهم تسيل على الطريق لَعَلَّهم يبصرون فى يوم ما النور.. إلى أن جاء المسيح وحررهم فتحوّلوا إلى شعلة من نور ونار! ومع ذلك قالوا بجهل أنّه: " بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخرِجُ الشَّيَاطِينَ " (لو11: 15)، وأرادوا كرياح الخريف إسقاط أوراقه من شجرة الحياة!

فهل أخطأ يسوع؟ ربَّما يكون فى نظرهم أخطأ عندما تحدث عن نفسه! ولكنّه فى الحقيقة لم يدّعِ لنفسه أكثر مما يدّعى شهر الربيع فى عبيره، أليس من واجبه أن يُعلن الحقيقة اللامعة التى أرادوا لحقدهم إخفاءها؟!

وإذ هو يسعى فى البحث عن الخطاة والضالين كانوا يتهمونه بأنه " إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ " (مت19:11)، وهم لم يعرفوا أنَّ يسوع قد جاء ليجالس غير المتوجين، فهؤلاء فى نظره أفضل من ملوك كثيرين، يعبثون بلا فكر كالجماجم المطروحة بين الصخور، ينظرون إلى قصورهم نظرة الأسير إلى جدران سجنه الحديدية، أمَّا أرواحهم المحبوسة فى ظلمة الخطية، تتعذب مثل العصفور بين قضبات قفصه، وهو يرى أسراب الحمام تسبح حرّة فى الخلاء! وها نحن نتساءل:

ما قيمة أُناس يحملون رؤوسهم الفارغة فى سلال إلى السوق ويبيعونها بأرخص الأثمان؟‍! فماذا ينتفع الإنسان لو عاش كبلبل ميت فى إحدى زوايا قفص حبكت ضلوعه يد شيطان ماهر، وفى زاوية أُخرى جرن جف وجرن نفذتَ بذوره! صدّقوني لو سكن الأبرص فى أعظم القصور، فلن يقترب منه أحداً لئلا يتنجس! لكني أشفق على هؤلاء لأنّهم لا يقـدرون بأرواحهم السُفلية أن يصعدوا إلى العلاء ليروا الحقيقة متجلية! فما أكثر البوم التى لا تعرف من الأغاني غير ما شابه نعيبها!(منتديات الفرح المسيحى)


فتح وأضاء الطريق أمام العميان، وهم حقّروه وأغمضوا عيونهم عن رؤيته! شفى بكلمته اليد اليابسة وانبسطت تلك اليد لتضربه! أطلق ألسن الخرس وأولئك شتموه وجدّفوا عليه ونفضوا البصاق فى وجهه! حوّل الماء خمراً مختاراً فى عرس قانا الجليل، وفى وقت عطشه أعطوه خلاً! أكثر الخبز وأشبع الجياع وعوض الخبز كافئوه بالمر..!!

لقد كان غريباً!! نعم كان يسوع غريباً فى أرض ليست له، وزائراً يقرع أبوابنا الحديدية، وضيفاً جاء يفتقدنا من بلاد بعيدة فى منحوتاتنا الصخرية، لكنّه لم يجد بيننا مُضيفاً عطوفاً ولذلك رجع إلى مسكنه!

لم يكن يسوع هو ابن الولاية الفخور، ولا ابن الإمبراطورية المتمتّع بحمايتها، ولذلك حسبوه غريباً عن بلاطهم، ودخيلاً على قصورهم، فعاملوه كرجل مختل العقل يثور على النظام، ومتسوّل يُقاوم المقتنيات، وسكِّير لا يفرح إلاَّ مع المحتالين والمزدرين، ولايجالس إلاَّ الزناة والعشارين! وهكذا ترفض الصخور البشرية ابن وحفيد الملوك الذين أسسوا مملكة الروح!

فهل كان يسوع دنيئاً، أو رجلاً فظاً، أو شجرة خاملة لزرع خامل؟! حاشا لنا أن نقول هذا! لكنَّهم ادعوا جنونه وقد نسبوا إلى الشياطين أقواله، ولكن فليعلم هؤلاء المهوسون أنَّ يسوع قد تكلّم، فألهبت كلماته النارية قلوب سامعيها، وكان رنين صوته كقطرات الندى تتساقط على أرض جافة لترويها! وسيظل كلامه أُنشودة لا يستطيع أحد أن يمحوها، فهى ترفرف بأجنحتها من جيل إلى جيل، وتنهض من محيط إلى محيط، حاملة ذكرى الشفتين اللتين ولِدت هذه الأُنشودة فى أحضانها!

++ هذا بالإضافة إلى حروب الشياطين


ولعنة الناموس التى لم يسقط منها حرف واحد، واحتجاب وجه الله عنه وقت التجربة، وهروب التلاميذ وتركهم إياه وحده، وخيانة يهوذا تلميذه وإنكار بطرس له.. كل هذه وتلك اختلطت وامتزجت معاً فى كأس آلام المسيح، وتحوّلت إلى علقم مر وسم مميت، وعلى الرغم من ذلك شربها.

شرب المسيح كأس الألم
ليملأها بالبركات لشعبه!!

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:08 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 

نتائجها


لا شك أن كل ما مُزج فى الكأس، كان مقدّراً لنا من العدل الإلهيّ بسبب خطايانا، فكأس الألم التي شربها المسيـح كان يجب أن نشربها، وكل الآلام التى وقعت عليه كانت ستقع على طبيعتنا الفاسدة، وما لقيه من عذاب كنا سنناله كجزاء عادل لشرورنا، لكن المسيح حمل خطايا البشرية فى جسده المقدس وحرقها على مذبح الصليب بنار الغضب الإلهيّ، فأوفى العدل الإلهى حقه، وبهذا أكمل الفداء وأتم الصلح، وأصبح الآن " لا شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ " (رو1:8).

فالذى لم يفعل خطية صار خطية لأجلنا، لنصير بر الله فيه، والشجرة الوحيدة الخضراء المثمرة الثمر الجيد وضعت عليها الفأس وقٌطعت لتثمر شجرتنا التى جفت وأفسدتها الخطية، وهذا إنَّما يدل على محبة الله وحكمته، لأنَّه بكأس ألم شربها المسيح كانت نهاية آلام البشرية!

نعم فحُب المسيح هو الذي جذبه ليتألم من أجلنا، وأي إنسان لم يرتشف من كأس حُبّه فى إحدى كاساته؟! أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة من الندى بين أوراقها؟! فأمام حُبِّه يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة، والمفكرون صوامعهم الباردة، والشعراء أوديتهم الخيالية، ويقفون على جبلٍ عالٍ مصغيين لصوت الحُب يقول لصالبيه "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَيَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو34:23).

إن قصة تكوين الجنس البشرى مكتوبة بأعظم لغة ألا وهى لغة الحب، فقد خلق الله الإنسان من تراب ونفخ فيه فصار نفساً حيّة، وما هذه النفخة إلاَّ أنفاس الحُب الإلهية، فالله محبة وكل ما يخرج منه هو حُب ويدعو إلى الحُب، ولهذا فإن الكون بكل حركاته يشير إلى الحُب، فرياح الصباح تهب لتوقظ الأوراق النائمة على أشجار الحُب! والليل يأتى بظلامه لا ليخيفنا بل ليدعو الناس إلى الصلاة فى أعظم مخدع ألا وهو مخدع الحُب!

قالت " قطعة الجليد " وقد مسّها أول شعاع من أشعة الشمس فى مستهل الربيع: أنا أُحب وأنا أذوب وليس فى الإمكان أن أحب وأوجد معاً!! فلابد من الاختيار بين أمرين: وجود بدون حُب وهذا هو الشتاء القارس، وحُب بدون وجود وهذا هو الموت فى مطلع الربيع، وها رب المجد ذاب فى ربيع حياته، حُبّاً فينا ورغبة فى خلاصنا، مات الحياة لتحيا الخليقة المائتة بموته! فهل لنا أن نحمل قارورة حُبّه عالياً لنقطرها بلسماً على جراح البشرية؟!

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:08 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
رحلة الالام : 4 - دمــوع في البستان .... بقلم الراهب كاراس المُحرَّقيّ



دمــوع في البستان




بقلم الراهب كاراس المُحرَّقيّ



حديث الطريق

فرغ المسيح من العشاء المُقدّس، وبعد أن سبّح مع تلاميذه، وخفقت قلوبهم كالعصافير، غادر عليّة صهيون (مت26:30)، وها هو يعبر معهم وادى قدرون (يو1:18) الذي عبره من قبل داود الملك وهو يسير حافي القدمين، مُغطّى بمسوح ووجه منكساً، هارباً من بطش ابنه أبشالوم بسبب خطيته، التي أهان وجرح بها نفسه وأغضب الله (2صم30:15).

ويسير مُخلّصنا فى سكون الليل وظلامه، وأخيلة الأشجار تتحرك أمامه، كأنّها أشباح انبثقت من شقوق الأرض لتُخيفه، وأشعه القمر الضعيفة ترتعش بين الغصون، كما لو كانت سهام شيطانية تتجه نحو صدره لتُميته! يُرافقه تلاميذه وهم فى تأثر عميق لِما جرى فى العُليّة، وإعلانه المؤلم عن مُسلّمه.

وفي أثناء السير قال لهم: " كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ : أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ " (مت31:26)، فمنذ فترة وجيزة كشف لهم عن خيانة تلميذه يهوذا الإسخريوطيّ، ولكن يجب ألاَّ يطمئن الباقون، فإن كان لا يوجد سوى خائن واحد إلاَّ أنَّ الجميع سيهجرونه، ستتبدد خراف الرعيّة لأنَّ راعى الخراف قد ضُرب .

ثم يعطيهم فكرة عن لقاء سعيد يلتقون فيه مّرة أُخرى عقب هذه العاصفة فيقول: " وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ " (مت32:26) فهناك لن تكون كأس ألم يتجرعها ولا أتباعه يشكّون فيه، سيتقابل معهم مُمجداً وعلى رأسه تيجان كثيرة.. بعد أن اكتنفه الحزن طويلاً، فقد كان لابد أن يقوم ليغسل ما لحق به من إهانات وتعييرات وعذابات من اليهود والرومان، أولئك الذين شاطت عقولهم وصلبوه حسداً، وظنوا أنَّ القش يمكن أن يقف أمام اللهيب، فقام الجبَّار وازدرى بهم! لأنَّ الغبار لا يقدر أن يقف أمام الريح!



ويصر بطرس الرسول على أنَّه سيحتفظ بأمانته مهما حدث إذ قال " وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً " (مت33:26)، لا أجحدك فأنا مستعد لأمضى معك، إن بذلت ذاتك للموت ها أنا معك، وإن اخترت الصعود للصليب أصعد معك، فالموت معك ربح لى لأنه سيقودنى إلى الحياة الدائمة.. لكن يسوع بكل صراحة يُعلن أنَّه سيُنكره سريعاً " إِنَّكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ " (مت26: 34)، ويعود بطرس يؤكد أمانته، مع التلاميذ ولكن دون جدوى، لأنَّ الجميع تركوه ساعة الصلب وحده وهربوا كل واحد إلى خاصته، وقد لبثت أُمه واقفة بجانب الجثّة الهامدة كأنّها تحرس طفلها!(منتديات الفرح المسيحى)

هربت الخراف وبقى الراعى وحده يحيط به الذئاب الخاطفة! لأنَّ الظلمة لا تعانق النور فهناك عداوة قديمة بينهما! كما أن الشيخوخة الذابلة لا تستأنس بالشباب الغض، شأنها شأن الصباح لا يلتقي بالمساء إلاَّ ليبدده!

ويدخل رب المجد بستان جثسيماني، على ممر بين أشجار الزيتون لا ليحيا فيه متنعماً كآدم فى جنَّة عدن، بل متألماً! ففى هذا المكان جمعه الربيع فى قبضة الحُب، حيث كان يقضي أيامه في الصلاة، وفى نفس المكان جمعه خريف الأشرار المُلبّد بالزوابع أمام عرش الموت!

معصرة الزيت


تقع جثسيمانى على سفح جبل الزيتون، ومعناها معصرة الزيت، لأنَّهم كانوا يُحضرون الزيتون من أشجاره، التي تنمو هناك فى الحدائق المجاورة لتُعصر ويُستخرج منها الزيت.. وفـى المعصرة انداس المسيح وحده (إش3:63)، وقد سُر الله أن يسحقه لكى يخرج منه زيت جديد لكل من يؤمن به، لنشترك فى أصـل الزيتونة الجديدة ودسمها (رو11:17).

هناك كانت تنمو أشجار الزيتون، والمسيح قد جاء إلى جثسيمانى، لكي يغرس الزيتون الصغير بقوته الإلهية فهو الزارع السماويّ وكل غرس يغرسه فى الحقل الإلهيّ يُعلن " أمَّا أَنَا فَمِثْلُ زَيْتُونَةٍ خَضْرَاءَ فِي بَيْتِ اللهِ " (مز8:52).

والزيتون إن كان يرمز إلى الألـم لمرارته، إلاَّ أنَّه يرمز أيضاً إلى السلام، فالحمامة التى أرسلها نوح من الفُلك، عندما غطّت مياه الطوفان الأرض، عادت إليه وهى تحمل غصن زيتون أخضر فى فمها، فعلم نوح أنَّ المياه قلّت عن الأرض (تك8: 11)، فكان ذلك إشارة لحلول سلام الله على الأرض، ومنذ ذلك الوقت قد صار غصن الزيتون شعار السلام بين البشر، وشجرة الزيتون علامة تشير إلى النجاح والبركة الإلهية (مز52: 8) (هو14: 6).

وهذا يعنى: إننا لن نحيا فى سلام إلاَّ من خلال آلام المسيح، فعن طريق الآلام تم الفداء، ومن ثمار الفداء عودة السلام إلى الأرض مرة ثانية بعد أن سادها الرعب سنينَ طويلة، أتتذكرون يوم ميلاده عندما شق الملائكة ببهائهم ظلام الليل، فحوَّلوا الأرض سماء وملأوا الكون بذبذباتهم الروحية، وعزفوا على قيثارات الحُب تسبيح المجد والسلام والفرح " لْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ " (لو14:2).


قمة الألم

ما أن وصل يسوع إلى باب
البستان حتى قال لتلاميذه: " جْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ " (مت36:26)، ويجلس التلاميذ عند مدخل البستان طاعة لأمر مُعلّمهم، بينما يصطحب المُعلّم بطرس ويوحنا ويعقوب ويتقدمهم إلى داخل البستان، ويلقى بنفسه بين يدي الآب فى تضرع ولجاجة.. ولا تزال كأس الأهوال لم تعبر عن المخلص الغارق فى الألم، بل تزداد مرارتها لحظة بعد الأُخرى، ويزداد الصراع وتعلو الزفرات.. وهل يستطيع الجالس على أجنحة الموت، أن يستحضر تغريد البلبل وهمس الزهور وحفيف الغصون؟! أيقدر الأسير المثقّل بالقيود والهموم أن يُلاحق هبوب نسمات الفجر؟!

وتصل الآلام النفسية إلى قمتها، وقد عبّر مُعلّمنا متى البشير عن هذه الآلام بعبارة " وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ.. نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ " (مت37:26،38) وكلمة يكتئب تعبّر عن الحزن، الذى يجعل الإنسان غير صالح للاختلاط بالناس أو غير راغب فيه.

ويعطينا مُعلّمنا مرقس بوصفه الدقيق لتفاصيل المشهد الرهيب، فكرة أوضح عن الحزن الذى قد جاء علـى المسيح فى قوله: " وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ " (مر33:14)، وكلمة يدهش فى الأصل تتضمن رعباً مُفاجئاً، بسبب شئ مُخيف، فالبشير يريد أن يُعلن أن فزع يسوع، كان بسبب مناظر من الخارج اقتحمته وكانت تنذر بتمزيق أعصابه.

فما الذى جعل يسوع يحزن ويكتئب؟!

لابد أنَّه رأى كل خطايا البشرية أمام عينيه، رأى سقوط آدم وطرده من الجنَّة، وقايين الذي قام على أخيه هابيل وقتله حسداً وغدراً، وشر العالم الذى كثُر أيام نوح فاغرقهم بماء الطوفان، والفساد الذى عاش فيه أهل سدوم وعمورة فأحرقهم بالنار والكبريت.. وكان يعلم أنَّه بعد ساعات سيُعرى من الأشرار ويُجلد ويُتفل على وجهه ويُكلل بالشوك ويُسمّرعلى الصليب..

فهذه كلها أحداث تركت أثراً عميقاً فى نفس البار! حقيقة إنَّ الشهداء تألَّموا وماتوا لأجل المسيح، لكنَّهم لم يحزنوا كمخلصنا، لأنَّه على صليب القديسين ينطق الرب بالتطويب، الأمر الذي يجعلهم يفرحون أثناء حمل الصليب (مت10:5-12) أمَّا صليب المسيح فكان يقترن باللعنة " مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ" (غل13:3) الأمر الذى يجعله يحزن ويكتئب!

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:09 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
مدرسة الصلاة


بعد أن أعلم المسيح تلاميذه أن نفسه حزينة حتى الموت، ابتعد عنهم نحو رمية حجر ثم جثا على ركبتيه وخر على وجهه، وكانت تصعد أنات من نفسه المثقّلة بالحزن الشديد " يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتكَ" (لو41:22،42) وهكذا خر أيوب على الأرض وهو فى شدة الألم (أى20:1)، فالتمرغ فى التراب يُعبّر عن شدة الألم، كما يُعبّر أيضاً عن التواضع والانسحاق.

وفى هذا الجو المظلم نراه يدعو الله " أبتاه " ! فمهما تكاثفت السحب، وهاجت العاصفة، وأظلم الليل.. فإنَّه يستطيع أن يرى من خلالها الله أباً، وما أجمل ما يقول المؤمن " يا أبتاه " فى أوقات التجارب، لأنَّه لمن يذهب الطفل عندما يشعر بالضيقة إلاّ إلى أبيه!

وعلى الرغم من شدة آلامه إلاَّ أنّه عبّر عنها بالكأس! ومن هذا نتعلَّم أنَّ التخفيف من شدة الألم وقت الضيق وأنَّ شرب الكأس المرَّة التى يضعها الله فى أيدينا، مهما اشتدت مرارتها بشكر أفضل وسيلة للخروج من الضيقة.

كما أعطانا المسيح بصلاته أعظم درس ألا وهو: إنَّ الصلاة هى أعظم سلاح نستطيع أن نُحارب به، ففى جثسيمانى صار الألم كزلزال حبلت به الأرض فتمخضت متوجعة تريد أن تلد الخراب والشقاء! ولكنّها على غير عادتها لم تلد سوى الخلاص! فهل من سبيل للخلاص من المحن والشدائد غير الصلاة ؟ لقد صار المسيح للمؤمنين كالمرآة ينظرون فيها ويتعلمون!



عرق المحبة



كان يسوع يصلى بلجاجة، فتراءت له البشرية فى لحظة خاطفة فى جميع عصورها، تجرجر فى خزى إجرامها وقبح معاصيها! وطفقت جميع الخطايا تخرج من خفايا الزوايا وشقوق الضمائر، تفح كالأفاعى لتنفث سمها وتفرغ خبثها فى الحمل الوديع، قبل أن يقضى عليها ليمحوها! لقد هاله المنظر فصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض (لو22: 44)، فقدست هذه القطرات الطاهرة والمُطهّرة الأرض وباركت تربتها.


يقول مار إفرآم السريانيّ

" طوباك أيها المكان الذى تأهلت لأنْ يسقط فيك عرق الابن، إنَّ الابن بارك الأرض بعرقه ليُبطل عرق آدم الذى حل عليها، طوبى للأرض التى طيّبها بعرقه والتى كانت مريضة فشفاها لأنَّه نضح عرقاً عليها.

سقط آدم بزلته فكان إليه صوت الرب " بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً " (تك3: 19)، ومع أنه عـرق مرات إلاَّ أنَّه لم يُشف، وفى هذا يقول مار يعقوب السروجى: " وعرق أثناء الصلاة فشفى آدم من العذاب، بعرق الرب صارت الصحة للمريض، نظر آدم عرق ربوات ولم يُشف لأجل الخطية الممزوجة به، فبغير خطية عرق مُخلّصنا دفعة واحدة وكانت نتيجتها تخليص آدم من الموت ".



أما الذي جعل عرق يسوع يتصبب هكذا كقطرات الدم، وجسده كله يبكي عوض الد موع دماً.. هو المحبّة، فإن أشارت المحبّة إليكم فاتبعوها وإن كانت مسالكها صعبة! وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها! وإذا خاطبتكم المحبّة فصدقوها وإن عطّل صوتها أحلامكم! لأنَّ المحبّة إن كانت تكللكم فهى أيضاً تصلبكمّ وكما تعمل على نموكم، هكذا تستأصل الفاسد منكم! المحبّة تغربلكم لتحرركم من قشوركم، وتطحنكم لكى تجعلكم أنقياء كالثلج، وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا، ثم تعدكم لنارها المقدسة لتصيروا خبزاً مقدساً يقّرب على مائدة الرب، كل هذا تصنعه المحبة بكم لتدركوا أسرار قلوبكم، فتصبحوا بهذا الإدراك جزءاً من قلب الحياة .


ولأنَّ دموع العين لم تكن كافية، بكى كل عضو من أعضاء المسيح حزناً على فساد أعضائنا التى دنّستها الخطية، فها هى عيناه تبكيان عوض أعيننا التى تلوثت برؤية المناظر القبيحة، وأذناه ويداه ورجلاه وفمه... والعجيب أنها لا تبكى ماءً بل دماً، لأنَّه كما قال القديس بولس الرسـول : " بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ ! " (عب22:9).

بكى يسوع حزناً على فساد البشرية، وقد كان لابد له أن يبكي، لأنَّ عينيه لم تتقنعا ببرقع السنين، أمَّا نحن فكثيراً ما نرفض البكاء، ليس على الآخرين فقط، بل حتى على أنفسنا لأننا ننظر ولا نبصر، ونصغي ولا نسمع، ونأكل ولا نتذوق، ولا نكرم ملوكاً بدون ممالك، ولا نراقب عودة الزارع من حقله إلاَّ إذا كان يهمنا، ولا ننصت لصوت مزمار الراعي وهو يقود قطيعه إلى العلف، إلاَّ إذا كان القطيع ملكاً لنا..

وفى كل هذا يقوم الفرق الشاسع بيننا وبين يسوع، فحواس المسيح تتجدد فيه دائماً، والعالم فى نظره جديداً على الدوام، والإنسان هو شاغله وموضوع حبه، ولم ينظر إلى تمتمة الطفل بأقل من نظره إلى صراخ الشيخ، فى حين أنها فى نظرنا تمتمة طفل لا أكثر ولا أقل.

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:09 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
نوم التلاميذ



صلى مُخلّصنا ثلاث دفعات، وبينما كان يصارع مع الموت فى جهاد لا يوصف، كان التلاميذ نياماً وقد غلب عليهم النعاس، ويوقظهم المُعلّم أكثر من مرّة لكي يسهروا معه ولو قليلاً ولكن دون جدوى! فأصبحوا أمامه كتاباً قرأ سطوره، وفسر آياته، وأخيراً عندما صل إلى نهايته إذا بعبارة " الضعف البشريّ " !!

لقد ناداهم فلم يقوموا من رقادهم، بل ظلوا يسيرون فى مواكب الأحلام! طلب منهم أن يصعدوا إلى قمة الجبل ليروا ممالك العالم فرفضوا، مفضلين أعماق الوادى حيث عاش أباؤهم، وفى ظلاله ماتوا ودفنوا فى كهوفه! ولكن لا عجب فقد مضت الأيام المفعمة بأنفاس الربيع وابتساماته المُحيية، وجاء الشتاء باكياً، منتحباً، لكى يبقى يسوع وحده، فالحمل الوديع قد جُرح ولابد أن يبتعد عن سربه ويتوارى حتى الموت!

لما بكى داود على جبل الزيتون أثناء هروبه من وجه أبشالوم ابنه، بكى معه جميع أتباعه (2صم30:15) أمَّا يسوع ابن داود عندما بكى على نفس الجبل، كان تلاميذه الذين يجب عليهم أن يسهروا ويبكوا معه، كانوا نياماً نياماً، فى حين أنَّ أعداءه الذين يترقبون خُطاه كانوا فى يقظة كاملة (مر14: 43)! ألم يعرفوا أن فى إناءه يمتزج الحلو والمر؟! ألم يدركوا أن قربهم منه يجعلهم يعيشون بين النور والنار؟!

كان يجب أن يجمعوا كل قواهم الروحية، حتى لا يخوروا أمام التجربة، ويتعرّضوا للشك والإنكار ثم الارتداد، خاصة وأن رئيس هذا العالم قد استعد بسلاحه وبكل قواته، لكنهم تثقلوا من الحزن الذى صفعهم، ولم يعد فيهم قوة ليتقدموا إلى الطلبة والتضرع.

أما الدافع الذى جعل الرب يسوع يوقظ تلاميذه هكذا، ليس فقط شعوره بالحاجة إلى من يواسيه بسبب نفسه المتألمة، بل كان أيضاً عطفه الشديد عليهم، إذ كانوا مثله تُحيط بهم قوات الظلمة، وقد حانت الساعة التى أشار عنها " هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَة " (لو53:22).

ولسنا نعلم إذا كانوا قد سهروا فما الذى كان ممكناً أن يقولوه فى صلاتهم؟! إن قالوا لا يجب أن يموت البار من أجل الأثمة فلن يسمع لهم الله! وإن قالوا فليمت الابن لتحيا البشـرية بموته فهذه جسارة عظيمة!! لأنَّه من يستطيع أن يقول للآب يُصلب ابنك أو لا يُصلب!



لذلك بطلت الصلاة من أفواهم ،
وقد كان هذا الصمت أفضل لهم!



Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:10 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
رحلة الالام : 5 - برئ يحاكم أمام خطاة .... بقلم الراهب كاراس المُحرَّقيّ




برئ يحاكم امام خطاه


بقلم الراهب كاراس المُحرَّقيّ


يسوع موثقاً


كأفاعى البحر التى تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة، وتمتص دماءها بأفواه عديدة.. قبضوا على يسوع وأوثقوه (يو18: 12) وهو الذى جاء ينادى للمأسورين بالإطلاق (لو4 : 18) ويحل المربوطين بقيود الخطية ورباطات الشياطين!

ذاك الذى أعطى للإنسان سلطاناً أن يربط ما على الأرض ويحله، وكسّر مصاريع النحاس وقطع حديد الهاوية وفك أسرى الجحيم ربطوه بحبال! الذى فك لعازر من أربطة الموت ( يو11: 44) وحرر بطرس من قيود السجن الحديدية (أع 12 :7) ها هو الآن مربوط، مقيد من أناس
خطاة قيدتهم أغلال الكراهية والحقد!

لو أراد لفك هذه الربُط أسرع مما فعل شمشون قديماً

(قض15: 14)، لأنه يملك القوة وكانت الملائكة على أتم الاستعداد أن تقوم بهذا العمل، لكنهم امتنعوا لأن الرب يريد أن يوثق ويتألم، ولسنا نعرف لماذا أوثقوه وهو الذى قدم نفسه طواعية! ولكن لابد أن يتم قول الكتاب " أوثقوا الذبيحة بربُط إلى قرون المذبح " (مز118: 27).

وبعد أن أوثقوه قادوه إلى مجالس القضاء ليُحاكم وهو " المعّين من الله دياناً للأحياء والأموات " (أع 10 : 42) أما هو فكمسكين كان يمضى معهم من هنا إلى هناك دون أن يتذمر أو يفتح فاه، فانطبق عليه قول الكتاب " كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه " (إش53 : 7).

عن هذه المحاكمات تنبأ إشعياء قائلاً : " الرب يدخل فى المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم " (إش3: 14)، وبحسب ما كتبه البشيرون وقف يسوع أمام القضاة والحكام، ليُحاكم ست مرات، ثلاثاً أمام قضاة اليهود وهم (حنّان وقيافا ومجمع اليهود المعروف بالسنهدريم) واثنين أمام بيلاطس البنطى، وواحدة أمام هيرودس الملك ..

قال مار يعقوب السروجى:

" أدخلوا الابن إلى بيت الحكم كمشجوب.. صعد التراب الجبلة المنفوخة وجلس على الكرسى.. ودخل الخالق ووقف ليُسأل.. أمسك الطين قضيب الحكم على جابله.. وجلس القش ليسأل اللهيب.. انحنى ابن الله قدام الحاكم وشتمه وسلبه كهنة أبيه.. الناس المعيبون بالجراحات الكثيرة.. أدخلوا الطبيب الذى افتقدهم للحكم"!

المسيح أمام حنّان وقيافا

جرت أول محاكمات يسوع (يو18: 12،13) أمام قاضٍ من أشر الناس وأخبثهم، يحمل على جبهته سمة اللعنة، يتقلد سيف الرهبة، ويتشح بثوب الرياء، ينظر بعينيه إلى أعماق الموت، ويصغى بأُذنيه إلى أنّة الفناء، إنه حنّان حما قيافا، الذى لم يغير مركزه الدينى من أخلاقه، فصار كالأفعى التى لايمكن أن تصير حمامة حتى لو حُبست فى القفص، شأنها شأن الشوك لا يصير عنباً ولو غُرس فى كرم!

وقد كانت هذه المحاكمة فحصاً استعدادياً، بعدها أرسل حنّان يسوع مقيداً إلى قيافا رئيس الكهنة (يو18: 13) لأنه لم يكن رئيس الكهنة الفعلى، لأن الرومان كانوا قد عزلوه، إلا أنه كان لا يزال يحمل لقب رئيس الكهنة (لو2:3) (أع4 : 6).

" وَكَانَ قَيَافَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُ خَيْرٌ أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ " (يو18 : 14) .
ويقف يسوع فى دار رئيس الكهنة أمام مجمع غير منظم، ولم يكتمل أعضاؤه، لعلهم يجدون تهمة زور يشهدون بها عليه، ويسأل رئيس الكهنة لكي يصطاده بكلمة، ويسوع يُجيب عن أسئلته بخصوص تعليمه، فهو لا يهمه هنا أن يدافع عن نفسه، حتى وإن كتب حياته لا بالحبر بل بدم قلبه! ولكنه يرى من واجبه أن يبرر تعاليمه التى تعاليم الله

وبينما المسيح يتكلم إذا بواحد من عبيد رئيس الكهنة، يقوم ويلطم يسوع على وجهه قائلاً: " أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ ؟ "، فلم يُخفَ على العبد أن سيده أُفحم من جواب المتهم البسيط، وكانت هذه اللطمة هى الوسيلة الوحيدة لتخليصه من الورطة المخزية (يو19:18ـ24) وها نحن نتساءل:

ماذا فعل يسوع ليُلطم من عبد حقير؟! ومن هو حنّان الذى يحاكم الإله القدير؟! إنه يصح أن يكون لصاً، دجالاً، لا قيمة له إلا فى عيون المدنّسين والفاسدين، ولكنه لا يصلح بأية حال أن يكون واحداً من رجال الدين..
لقد نظر إلى يسوع نظرة النسر الجائع، إلى عصفور مكسور الجناحين، سخر منه ومن شرائعه، وهزأ من طهارته وعفته، وضحك من وقاره ومن هيبته، وتمادى فى شروره ليقتله.. فها هو الذى يتلعثم لسانه ينطق بالحكم على سيده، وبلغة السفهاء والأدنياء يطلب أن يقتله!

أليس حنّان هو حارس الهيكل؟ أليس من واجبه أن يطبّق الشريعة؟ وماذا تقول الشريعة؟ " العَدْل العَدْل تَتَّبِعُ لِكَيْ تَحْيَا " (تث16: 20) فأين العدل هنا؟! لماذا نظر إلى يسوع على أنه يهذى ويجدف؟! لماذا عامله كما لو كان ابناً عاصياً للولاية، يجـب أن يوضع فى مقدمة الجيش، لتذهب به سهام العدو وتحررهم من كبريائه؟! لماذا صمّ أُذنيه عندما سمع صوت يسوع يدعوهم: كذّابين ومرائين وذئاب وحيات أولاد أفاعى..؟!

وقد كانت سقطة عظيمة، تلك التى سقطها بطرس أمام جارية، فى دار رئيس الكهنة أثناء محاكمة يسوع (لو22: 54ـ62) ولولا أنه تاب وبكى بكاءً مراً لصارت نهايته كيهوذا فى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، لكنه بصوت البكاء أسكت رعد الجحود، أفاض الدموع من عينيه ليسبح فيها ويتطهر، غسل نفسه بالمياه النقية التى للتوبة إلى أن ابيضت أكثر من الثلج.

هو الذى اعترف بلاهوت المسيح " أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ" (مت16:16) وهو الذى جحده، وهو أيضاً الذى صار رئيساً للتائبين.

لقد صار مِرآة ينظر فيها الجاحدين الذين أنكروا المسيح فيتوبوا، فالذى نزل بالجحود إلى عمق الخطية، استطاع بالتوبة أن يصعد إلى درجة الكاملين، فعلّمنا أن خنق أشواك الخطية بالدموع، أفضل وسيلة لكى لا تأتى إلى الفكر وتقتله.

لقد انسابت دموع بطرس، كما لو كانت خيوطاً فضية، طرحتها السماء من الأعالى فأخذتها الطبيعة ونمقت بها أوديتها، أو لآلئ نفيسة من تاج ملوكى، أخذتها رياح الصباح ورصّعت بها حقولها!

قال أحد الآباء:

" نظر بطرس نفسه صدأت بالإثم،
فألقى المياه النظيفة وغسلها بحكمة،
غسل النفس بالمياه النقية التى للتوبة،
إلى أن بيضت لتكون لباساً للملكوت،
أفاض الدموع من عينيه ليسبح فيها ويتطهر".

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:10 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
أمام السنهدريم

وينعقد مجمع السنهدريم بكامل أعضائه ليصدر حكماً نهائياً فى قضية يسوع، وهو يُعتبر هيئة القضاء العليا عند اليهود فى القديم، وكان يتكون من (72) عضواً من رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة، على نفس نظام شيوخ إسرائيل الـ (70) الذين جعلهم موسى معه، لإقرار العدالة أثناء ارتحال شعبه فى البرية، فكان لهم أن يقضوا ويصدروا أحكامهم فى المسائل التى بين اليهود خاصة الأمور الدينية.

وقد أشار معلمنا القديس لوقا إلى هذه الجلسة بقوله: " وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ " (لو22 :66-71).

وينتظم أعضاء المجمع فى أماكنهم، ويقف المتَّهم البريء كمجرم أمامهم، ويسأل القاضى الشرير: " هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟ "، أمَّا المسيح فأجاب: " أَنْتَ قُلْتَ " (مت63:26،64)، ويقول مرقس البشير: " فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ ؟ فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ " (مر61:14،62).

ولمَّا قال يسوع: " َسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ " ، يقول مُعلّمنا متى البشير: " فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَـالَ: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ " (مت64:26،65)، وقد كان ذلك الفعل علامة خلعه الكهنوت وانتزاعه منه، لكي يبدأ كهنوت السيد المسيح فى الإنتشار، ولهذا قال مار يعقوب السروجيّ:

" انشقت الحبرية مع الثوب وتعرى الكاهن من الحبرية.. بيدي موسى أعطى الحبرية لهرون الكاهن وعراها بيد قيافا.. من هرون بدأت وإلى قيافا انتهت.. تعرى قيافا ونُزع من الحبرية ومن تقديم الذبائح.. "

وينهض المجلس فى هياج وسخط شديد وهم يصيحون قائلين: " مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ " (لو71:22)، ويأخذوا المتَّهم لكي يقدموه للوالى، ليحصلوا منه غصباً على تصديق، لكى يُنفّذوا حكمهم عليه بالموت!
فما أشقى هؤلاء الرؤساء وما أتعسهم!! فأنَّهم إذ يتيهون فى ظلمتهم يعثرون ويسقطون، ولكن هذه هى سمة الأشرار:

يعقدون مجالسهم ويحكمون على الرجل الذي لم يولد بعد!! ويأمرون بموته قبل أن يرتكب الجريمة!! دون أن يدروا أنَّ نهار الأبرار يطول.

إن يسوع الذى اتهموه بأنَّه يُخالف الشريعة، وينقض الناموس، ويكسر السبت، هو نور العالم الذى قد جاء لكي يوقد ناراً يوم السبت لا لكي ينقضه بل لُينيره!! ويحرق بمشاعله كل القش اليابس!! أليست تعاليمهم قد جفت، ووصاياهم أصابها العطب؟!


المسيح أمام بيلاطس


ويسير الموكب الصاخب إلى أن يصل إلى دار الولاية، وهناك يمسكون بأسيرهم ويدفعونه بوقاحة إلى الداخل " وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ " (يو28:18).

ويجلس بيلاطس على كرسيه العاجيّ المطعم بالذهب ويقف الجنود وكل من نبذهم الجنس البشرى محدّقين بالشاب المكتوف، الواقف بينهم برأس مرفوع وقوف الجبل الشامخ بين المنخفضات وفتح بيلاطس فمه، وظهرت حنجرته المسمومة مثلما تظهر حنجرة الوحش الكاسر عندما يفتح فكيه متثائباً! فحوّل الحاضرون أعينهم واشرأبت أعناقهم، كأنَّهم يريدون أن يسبقوا الشريعة بأعينهم، ليروا فريسة الموت خارجة من أعماق ذلك الفم أو قل ذلك القبر.

ويستفسر بيلاطس عن الأسباب التي جعلت اليهود أن يدفعوا أسيرهم داخل دار الولاية فيقول: " أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟ "، فأجاب اليهود على سؤال الوالى فى عجرفة: " لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ ! "، ولمَّا طلب منهم أن يأخذوه ويحكموا عليه حسب ناموسهم رفضوا قائلين: " لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَداًً " (يو18: 29ـ31).

ويعرض الرؤساء شكاياتهم ضد يسوع بشدة، محاولين أن يؤثّروا على الوالي الرومانيّ، ليدفعوه إلى تأييد الحكم الذى أصدروه على يسوع بالموت، أمَّا التهمة التي وجّهت إليه فهى تهمه الخيانة للدولة الرومانية والحاكم: " إِنَّنَا وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ، مَلِكٌ " (لو2:23).

وعلى الرغم من أن بيلاطس البنطيّ لم يقتنع بهذه الحيلة الماكرة، لأنَّه كان أشد خبثاً ومكراً منهم، إلاَّ أنَّه لم يجد سبيلاً أمام ثورة اليهود، سوى أن يُرسل يسوع إلى هيرودس والي الجليل بحجة أن يسوع جليلى (لو7:23)، فلو كان بيلاطس يعرف بلده الحقيقيّ لأرسله إلى سما السموات حيث عرش الله القدوس.


المسيح أمام هيرودس

ويذهب يسوع إلى هيرودس، الذى قَبِِله من بيلاطس بفرح عظيم، لأنَّه كان مشتاقاً أن يراه لسبب معجزاته الكثيرة التى سمع عنها، ولهذا اشتهى أن يرى منه آيَّة (لو8:23)، أمَّا رب المجد فلم يشأ أن يُظهر مجده أمام هيرودس، فصمت ولم يصنع أمامه آيَّه واحدة، لكى لا يُطلقه فيتعطّل بذلك الفداء (لو9:23).

لقد ظل يسوع صامتاً كالصخرة، أو كالأرض التى لا تريد أن تتكلم، لكى لا تقذف بركانها فى وجه الأشرار! ولو فهم الناس ما تقوله السكينة لكانوا أقرب إلي الملائكة من وحوش الغابة!

فما أعجبك معلماً وسيداً، عندما تتكلم يكون كلامك جنّة غنّاء، وفى صوتك يجتمع ضحك الرعود ودموع الأمطار ورقص الرياح والأشجار، وعندما تصمت يكون صمتك كالصحراء! لكننا يجب أن نعرف أن يسوع كالزهرة تضم أوراقها أمام الظلمة، ولا تعطى أنفاسها لخيالات الليل!

كانت نتيجة صمت يسوع أمام هيرودس، أنَّه احتقره مع عسكره واستهزأوا به، وألبسوه لُباساً لامعاً، ورده إلى بيلاطس مرة ثانية، فصارت المحبة بين الحكام لأنَّهم كانوا متخاصمين (لو11:11،12)، وقد كان هذا التصرف غريباً، على رجل اشتهر بالقسوة والعنف وسفك الدماء، خاصة وأن آثار دماء يوحنا المعمدان كانت لا تزال عالقة بيده، لكن الله سمح بهذا لكي يؤكد أنَّه رسول المحبة، فأينما يمضى يسوع يصنع السلام بين المتخاصمين.


فهل رأيتم مذنباً يزرع السلام
بين الحكام غير ربنا يسوع ‍‍‍‍!

أمام بيلاطس مرة ثانية

مرّة ثانية يقف يسوع أمام بيلاطس لأنَّ هيرودس لم يحسم الأمر، فكان لابد أن يتّخذ هذه المرّة حُكماً حاسماً فى قضية يسوع.

ويجلس بيلاطس للمحاكمة، والجالس عن يمين الآب يقف ليُحاكم أمام الشعب، الذى أعتقه من عبودية فرعون وأخرجه من أرض مصر، لقد تناسوا معجزاته معهم، وها هم يصرخون ضده " أُصلبه، أُصلبه!! "، هل لأنَّه أقام موتاهم؟! أم لأنَّه فتح أعين العميان وجعل العرج يمشون، والخرس يتكلّمون، والصم يسمعون..؟!

هذا المسلك البشع الذي يُعلن عن عدم عرفانهم بالجميل! سبق أن تنبأ عليه إشعياء النبيّ قائلاً: " عَلَى مَنْ تَفْغَرُونَ الْفَمَ وَتَدْلَعُونَ اللِّسَانَ؟ " (إش4:57).

لاشك أن بيلاطس كان مقتنعاً ببرائته، لكنه أراد أن يُحافظ على مركزه ويظل حاكماً، وهذا يتطلّب منه أن يُرضى اليهود على حساب المسيح، فليس أثقل على إنسان من حمل التاج!! وكم تصارع البشر من أجـل اعتـلاء العـروش!! فعاشوا حيـاتهم قانعين بتلك اللذة الوحشية- لذة القتل وسفك الدماء- حتى يرى الناس جباههم اللامعة، يتلألأ فوقها تاج المُلك المُرصّع بالذهب والجواهر والأحجار الكريمة!

حاول مرَّة أُخرى أن يتهرب من المسئولية، ويزيح عن كاهله عبء الحكم على يسوع، فطلب من اليهود أن يأخذوه ويحكموا عليه حسب ناموسهم (يو31:18)، فقد رأى الوداعة تتكئ كطفل فى عينيه، والنبل يشيع على وجهه، والعفاف يسيل على شفتيه.. فتحرَّكت فيه عاطفة الشرف الإنسانيّ والعدل الرومانيّ فأجابهم: " وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ " (مت23:27)، " لَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ " (لو23: 14)، ففى الوقت الذى كان يسألهم بيلاطس عن شروره، كانوا يذكرون له الحسنات دون أن يدروا! كل من يأتى ليشتكى عليه يذكر عجائبه، ومع هذا صرخوا أُصلبه، فلماذا الصلب إذن؟!

كان يمكن لبيلاطس أن يحكم ببرائته ويطلقه فيخلصه من أيدى اليهود الحاسدين، وبهذا يكون قد نفّذ أوامر شريعتهم التى تقول " بِالْعَدْلِ تَحْكُمُ لِقَرِيبِكَ " (لا15:19)، لكنه ارتخى أمام أصواتهم المضطربة، التى أثارتها شياطين جَهَنّميّة! فخضع الملك ضاغراً، وتناسى العدل وضحى بالحق والضمير والشهامة قربان رخيصاً على مذبح قيصر! أسلمه لمَّا رأى أن هناك مساساً بنفوذه " إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرََ" (يو12:19) وقد نسى أن العواصف تفنى الزهور ولكنها لا تميت بذورها!

أخيراً بعد أن ظل يُماطل جلده وأسلمه ليُصلب، ولكي يفلت من الملامة أخذ ماء وغسل يديه قدام الجميع وقال: " إنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ" (مت24:27).

وقد كان الأولى أن يغسل جبنه!


Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:11 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
رحلة الالام : 6 - صلبـان قبـل الصـليب .... بقلم الراهب كاراس المُحرَّقيّ



صلبـان قبل الصـليب



الجـلد



كانت العادة عند الرومان أن يُجلد المذنب قبل أن يُصلب، وهذا ما حدث مع رب المجد يسوع، الذى بعدما فشل بيلاطس فى إطلاقه أطلق لهم باراباس " وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ " (مت26:27).

وكان الجلد يتم بتعرية المذنب من ثيابه، وربطه فى عمود، ثم ضربه بالسوط، الذى كان عبارة عن سيور من الجلد، وفيه عُقد مُثبّت فيها قطع من الرصاص أو الحديد أو العظام، وكان الجندي الرومانيّ يُعتبر فاشلاً، إذا كانت جلداته لا تترك جراحاً فى ظهر المجلود .

أما عدد الجلدات فكان (39) جلدة، فى حين أن القانونى (40) جلدة، هكذا جُلد القديس بولس الرسول من اليهود كما قال: " مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً " (2كو24:11)، والسبب فى ذلك هو خوفهم أن يسهو فى جلدة فتزيد الضربات عن (40)، وبهذا يكونون قد خالفوا أمر الشريعة، التى كانت تأمرهم ألا يزيدوا الضربات عن هذا العدد: " فَإِنْ كَانَ المُذْنِبُ مُسْتَوْجِبَ الضَّرْبِ يَطْرَحُهُ القَاضِي وَيَجْلِدُونَهُ أَمَامَهُ عَلى قَدَرِ ذَنْبِهِ بِالعَدَدِ أَرْبَعِينَ يَجْلِدُهُ، لا يَزِدْ لِئَلا إِذَا زَادَ فِي جَلدِهِ عَلى هَـذِهِ ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً يُحْتَقَرَ أَخُـوكَ فِي عَيْنَيْكَ " (تث25: 2،3) .

عن جلد المسيح تنبأ إشعياء النبيّ قائلاً " بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ " (إش6:50) وهكذا تنبأ المسيح عن جلد التلاميذ والمؤمنين " سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ " (مت17:10).
وما جلد المؤمنين إلاَّ دخول فى شركة آلام السيد المسيح: " لأَعْرِفَهُ وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ " (في10:3)، ولهذا مهما تفرّق المؤمنون، إلاَّ أنَّ عنصر الإنسانية سيظل يربط البشرية المتفرقة وأيضاً الألم، الذى صار محطة التقاء المؤمنين، كل المؤمنين، فالجميع عند الألم يلتقون! ليبقَ الألم سراً رهيباً صعب الفهم عسر التفسير!

وهى دليل على محبة الله " لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ " (عب12: 6)، ولهذا لمَّا جلد اليهود الرسل يقول الكتاب المقدّس: " وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ " (أع40:5،41).

لقد صارت جراحات المسيح، دواء شافياً لأمراضنا، مرهماً مداوياً لجراحتنا، كما قال مُعلَّمنا بطرس الرسول: " الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ " (1بط24:2).

هذا عن المؤمنين، أمَّا الخطاة فليسوا فى حاجة إلى من يجلدهم، إذ هم يجلدون أنفسهم بسياط الخطية، فهناك من يجلد نفسه بسوط الزنى والنجاسة، كالسامرية والمرأة الخاطئة وأهل سدوم وعمورة، وآخر يجلد نفسه بسوط محبة المال، كالشاب الغنى والغنى الغبى ويهوذا، وثالث يجلد نفسه بسوط العظمة والكبرياء، مثل هيرودس الملك الذى من أجل قسمه أمام الجمع أرسل وقطع رأس يوحنا، وهناك من يجلد نفسه بسوط المسكرات وتعاطي المخدرات أو السرقة أو القتل..

وكما تسببت خطايا البشر فى ربط المسيح وجلده، هكذا أيضاً الخاطيء ليس أحد أقرب منه إلى الأسر والعبودية والمذلة، مهما حاول أن يتظاهر بالحريّة والبعد عن كل مذلة وعبودية .

التعـرية

فى منظر مؤلم وبكل قسوة ووحشيّة عُري الصالبون يسوع من ثيابه، ذاك الذى صنع ثوباً من جلد لكي يستر به عُري آدم، الذي لا يزال يكسو السماء بحلة بهية من الأنوار، والأرض برداء من الأزهار.

أمَّا هو فترك لباسه بفرح عظيم ليلبس أولئك الذين خرجوا من الفردوس عرايا، لقد رأى أن يلبسهم ثيابهم ويبقى هو عارياً، لأنَّه عرف أنَّها تصلُح لآدم المفضوح المُعرَّى من ثيابه، ومن عرتهم الخطية من لباس النعمة الإلهيّة، ولكن، أليست السماء هى التى قد نسجت ثوباً من آشعة القمر وألقته على جسد خالقها فى حياته، فلماذا الآن قد حاكت من ظلمة الليل رداءً كثيفاً مُبطّناً بأنفاس الموت لتستر به أضلع المسيح؟!


وهكذا يتعرى آدم الجديد من ثياب الأرض،
قبل أن يرجع إلى ملكوت أبيه، ليتشح فقط
بوشاح طهره، ويتسربل بسربال محبته !!


لقد عروه من ثيابه احتقاراً (مت28:27) ، دون أن يفهموا أنَّه تعرَّى لينزع عن أجسادنا ثياب الخطية، لكى نلبس عوضاً عنها ثياب البر والخلاص.. لم يدركوا أن رب المجد لمّا رأى الإنسان قد تعرى من ثياب التواضع نزل من السماء متجسداً، وتعرى من ثياب مجده ليكسوه بتواضعه، ولمّا رآه عرياناً من ثمار المحبة غطَّاه برداء الحُب الإلهيّ!!

ولكى يزيدوه احتقاراً ألبسوه ثوباً قرمزياً لأنَّه فى نظرهم ادّعى المُلك، فكان لابد أن يلبس ثياب الملوك، فألبسوه ثوباً لون الدم ليتزين به العريس المقتول، لكن المحزن أنَّهم عادوا فنزعوا عنه الرداء القرمزيّ وألبسوه ثيابه مرة أُخرى، فكان هذا إعلاناً على أنَّهم رفضوا أن يرتدوا ثوب الخلاص، مفضّلين ثوب الخطية التى أحبّوها وفضلوا ألاّ ينفصلوا عنها.

قال أحد الآباء:


" طرحت عني اللباس المرقّع الذى كنت ألبسه وغسلت جسدي من الدخان الذى كنت حامله، وألبستنى عوضاً عنه ثياب مجدك وطهارتك وبرك ".

Marina Greiss 09 - 10 - 2012 07:11 PM

رد: رحلة الالام .... كاراس المُحرَّقيّ
 
إكليل الشوك


الشوك يرمز للخطية التى لولاها ما كانت الأرض قد لُعنت، ولا أنبتت شوكاً وحسكاً (تك17:3،18)، فكما أن الشوك سهل الاحتراق، وعندما يشتعل يحرق كل من يقترب منه، هكذا أيضاً الخطية، كل من يقترب منها يحترق بنارها، كما أنَّها تقود إلى النار الأبدية، أليست الخطية هى التي تسببت فى إحراق سدوم وعمورة بالنار والكبريت؟! (تك24:19).

وقد تحدّث سفر الرؤيا عن البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، ووصف عقاب الخاطيء بأنَّه " سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ الله " (رؤ10:14)، ويشرح كمثال لهذا العقاب عقوبة بابل الزانية فيقول: " وَسَيَبْكِي وَيَنُوحُ عَلَيْهَا مُلُوكُ الأَرْضِ، الَّذِينَ زَنُوا وَتَنَعَّمُوا مَعَهَا، حِينَمَا يَنْظُرُونَ دُخَانَ حَرِيقِهَا " (رؤ9:18) .

وكما أنَّ الشوك يؤلـم كل من يمسكه ويسبب له جروحاً بالغة، هكذا الخطية لا نجنى منها سوى الآلام والأحزان، وكما قال القديس أُغسطينوس: ما من سعادة يجنيها الإنسان من الخطية لأن آلامها تفوق أفراحها ".

وإن كانت الخطية تبدو لذيذة فى بدايتها لكن إلى حين، إذ سرعان ما تنقلب حلاوتها إلى مرارة، ويستطيع أن يتحقق من هذا كل خاطيء إذا سأل نفسه بعد كل خطية يسقط فيها: ماذا ربحت وماذا خسرت من خطيتي هذه؟ قد تربح لذة وقتية، أو تجني مالاً، أو تنال مركزاً.. لكنَّك ستخسر الله اللذة الحقيقية، الذي لذته تفوق كل لذة مهما كانت أرضية.

ولو تأملنا منظر الإكليل لرأينا أنَّه يأخذ شكلاً دائرياً، وهذا يُشير إلى أنَّ السيد المسيح قد رفع الخطية من دائرة العالم كله.
أمَّا كون الشوك أُخذ من الأرض التى لُعنت فهذا يعنى: إنَّ المسيح إنَّما جاء ليستأصل اللعنة القديمة وينزع جذور الخطية من الأرض ولهذا قال أحد الآباء:

" أتى ليقلع الأشواك من الأرض.. حمل لعنة الأرض بالإكليل الذى وضعوه على رأسه، الخطايا والذنوب والأوجاع والآلام والضربات.. ضُفرت بالإكليل ووضعت على رأسه لكي يحملها.. خلع بإكليله الزرع الملعون الذى للحية.. قطعوا بأيديهم الأشواك التى اضطرت أن تنقلع وصارت إكليلاً لابن الله وذلك لكي يزيلها ".

جاء المسيح وحمل شوك الخطية على رأسه لينقذنا من لعنتها، من الظاهر كان يحمل شوكاً على رأسه، أمَّا الداخل فكان يحمل خطايا ولعنات البشرية كلها، التى تجمّعت فى هذا الإكليل، وتراكمت على رأسه المقدس فى شكل أشواك.



وهكذا وضع الناس خطاياهم بأيديهم
على رأس يسوع الذبيحـة الحقيقية،
الذى جاء لُيذبح ويرفع خطايا العالم



أرادوا أن يستهزئوا بملك الملوك فماذا فعلوا؟ ألبسوه تاجاً، لا من جواهر نفيسة أو معادن كريمة، بل من شوك، فصار كالhttp://74.220.207.152/%7Eanbawis1/vb...es/36_3_11.gif الجميلة المحاطة بأشواك الخطاة! وها نحن إلى الآن لا نمل من التطلع إلى جمال منظرها، أو تنسم عبير رائحتها.

وهكذا حوّل المسيح إكليل اللعنة والعار إلى إكليل المجد والبهاء، وضع إكليل شوك على رأسه، ليرد آدم إلى رتبته الأولى ممجداً ومتوجاً بإكليل النصرة والغلبة، وأيضاً ليُسقط تاج الشيطان الذى ملك على الخليقة!!

القصبة


القصبة تشير إلى المُلك والسلطان، فقديماً كان الملك يمسك فى يده قضيباً من ذهب يستخدمه فى إعلان رأيه، فقد جاء فى سفر أستير عن الملك أحشويروش:

" كُلَّ رَجُلٍ دَخَلَ أَوِ امْرَأَةٍ إِلَى الْمَلِكِ إِلَى الدَّارِ الدَّاخِلِيَّةِ وَلَمْ يُدْعَ فَشَرِيعَتُهُ وَاحِدَةٌ أَنْ يُقْتَلَ إِلاَّ الَّذِي يَمُدُّ لَهُ الْمَلِكُ قَضِيبَ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَحْيَا " (أس4: 11)، " فَلَمَّا رَأَى الْمَلِكُ أَسْتِيرَ الْمَلِكَةَ وَاقِفَةً فِي الدَّارِ نَالَتْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ فَمَدَّ الْمَلِكُ لأَسْتِيرَ قَضِيبَ الذَّهَبِ الَّذِي بِيَدِهِ فَدَنَتْ أَسْتِيرُ وَلَمَسَتْ رَأْسَ الْقَضِيبِ " (أس5: 2).

فإن كانت القصبة ترمز إلى المُلك، فيكون وضعها فى يد المخلص (مت30:7)، إشارة إلى انتقال المُلك من أيدى اليهود إلى المسيح، وانتهاء مملكة اليهود لكي تبدأ مملكة المسيح فى الانتشار.

وقيل إن القصبة هى أفضل وسيلة لسحق رؤوس الحيات، وهذا يعني: إنَّ رب المجد قد جاء ليقتل الحية القديمة، التي هى إبليس ويشفينا من سُمها المميت، ولكى يعطينا سلطاناً أن نسحقها بأقدامنا، وتأكيـداً لهذا قال لتلاميذه بعد القيامة:
" وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاًمُمِيتاً لاَيَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ " (مر16: 17،18) .

لقد أراد الأشرار أن يستهزئوا به، ظانين أن قصبته ومملكته ضعيفة ولا قيمة لها وسوف تزول سريعاً، لكنّهم أخطأوا لأنَّ كرسيّه إلى دهر الدهور وقضيب استقامة هو قضيب ملكه (مز45 :6).


الساعة الآن 01:43 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025