منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=909393)

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:13 PM

كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي

https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg
تقديم: القديس كيرلس والكنيسة الأولى








ترسم لنا حياة القديس كيرلس رئيس أساقفة أورشليم ومقالاته صورة حيَّة ناطقة للكنيسة في القرن الرابع، خاصة الكنيسة الشرقية.
1. فبالرغم من قلة ما سجّله لنا المؤرخين الأولون عن حياته لكننا خلال ما وصل إلينا من حياته ومقالاته نستطيع أن نستشف بسهولة واقعية الكنيسة الأولى كما هي، دون أن تمتد إليها يد لإظهارها في غير ما هي عليه.

حقًا إن محبة الكثيرين للكنيسة الأولى دفعتهم لاشعوريًا بكل أسف أن يحاولوا إبرازها كما هي مرسومة في مخيلاتهم، كنيسة ذات قيادات معصومة من الخطأ، أتعابها كلها من الخارج. وهم بهذا يشوّهون الكنيسة بغير ما يدرون، لأنهم يؤلِّهون القديسين والمجاهدين ويصورونهم في غير واقعهم.
وإنني أجد نفسي لست أهلًا لأنحني مطوبًا آبائي القديسين الأولين في الكنيسة الأولى، فإن سيرتهم حلوة وعذبة، تستريح لها النفس وتشتم من خلالها رائحة المسيح الذكيّة. لكن يجدر بنا ألاّ نؤلّههم ولا نعصمهم من الضعف والخطأ، بل نحبهم ونكرمهم ونقتدي بجهادهم ونصادقهم ونطلب صلواتهم عنّا!
إن الكنيسة الأولى أيها العزيز، كما ستلمس بنفسك، كنيسة قويّة حيَّة عاملة عمل عريسها ربنا يسوع الكرازي، تجتذب يهودًا ووثنيين كل يوم إلى الإيمان، دون أن تُحرم من آلام وأتعاب من الخارج وفي الداخل، مملوءة قديسين، وتسلّل إليها أيضًا أُجراء وذئاب!
2. كذلك من خلال مقالات هذا القديس المتسمة بالبساطة مع الصراحة والانفتاح للناس تتلمس المبادئ الأساسية التي تغرسها الكنيسة في نفوس الموعوظين لتبقي أساسًا لهم في حياتهم كل أيام غربتهم. هذه المبادئ يليق بنا أن ندرسها ونحفظها ونرددها ونعيش بها.
3. خلالها أيضًا تتكشف مفاهيم الكنيسة الأولى وفكرها من جهة التوبة والعماد والجهاد والأصوام والصلوات والكرازة والخدمة، في أسلوب بسيط بلا تفلسف ولا تكلف.
4. أفاض القديس كثيرًا في الحديث عن الطقوس في حيويتها ودلالتها، كما تتذوقها الكنيسة الأولى.
الرب قادر أن يستخدم هذا العمل لمجد اسمه، وبركة لنا لنعيش بروح آبائنا. آمين.
القمص تادرس يعقوب ملطي

الإسكندرية في 1970 م.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:18 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
البداية
نشأ القديس كيرلس في وقت تغلغلت فيه الأفكار الأريوسية(1) واقتنصت بعض الأساقفة الذين انحرفوا عن رسالة الكنيسة والإيمان المستقيم.
في وسط هذا الجو العاصف وُلد كيرلس من أبوين تقيين مستقيمي الإيمان(2) فأرضعاه إيّاه. ويمكننا أن نلتمس ذلك من مقالاته حيث يتحدث عن شعوره بالدين تجاه والديه وشوقه إلى رد الجميل لهما(3).
هذا وإننا لا نجد في مقالاته التي اتسمت بالصراحة أي تلميح من بعيدٍ أو قريبٍ أنه كان يومًا ما هرطوقيًا أو وثنيًا.
أما عن عائلته، فلا نعرف منها أحدًا بالاسم اللهم إلاّ ابن أخته الأنبا جلاسيوس أسقف قيصرية، الذي أشار إليه عند موت أكاسيوس (4) Acacius سنة 366م.
ويرجح البعض(5) أنه ولد في أورشليم أو على الأقل نشأ فيها وهو طفل، معلّلين ذلك بسببين:
1. عادة لا يُرسم رئيس أساقفة على أورشليم إلاّ من كان قد نشأ فيها وعرفه شعبها معرفة قويه منذ نشأة حياته.‎

2. ما أورده بالتفصيل في مقالاته أنه رأى عيانًا الأماكن المقدسة في أورشليم قبل أن تمتد إليها يد الإمبراطور البار قسطنطين والملكة البارة هيلانة سنة 326م لإصلاحها وتزيينها، وهذا يعني أنه رآها وهو أقل من 10 أو 12 سنة.
كيرلس الراهب

جاء في التقليد أنه راهب ناسك، وربما اعتمد في ذلك على ما ورد في مقالاته من عبارات ينسب فيها نفسه إلى فئة المتوحدين. إلا أننا نعلم أن كثيرين لم تتح لهم فرصة الانطلاق إلى البرية أو التمتع بالشركة في دير، فعاشوا في حياة التوحد داخل المدن في بيوت منعزلة، هكذا التهب قلب كيرلس بالحب الإلهي، فعشق الخلوة مع الله، وكرس كل وقته للعبادة والدراسة.
لم يكن يخرج من منزله إلاّ للاشتراك مع المؤمنين في الصلاة مكرسًا نهاره وليله للخلوة مع سيده، حتى قال مختبرًا: [هل يوجد أنفع من الليل ليصير الإنسان حكيمًا؟!] فقد اختبر حياة السهر والجهاد في الصلاة مع القراءة والتأمل ليتعلم الحكمة السمائية(6).
كيرلس الكاهن

جاء عرضًا في إحدى ملاحظات القديس إيرونيموس (جيروم) أن الأنبا مكاريوس أسقف أورشليم رسمه شماسًا. وغالبًا ما يكون هذا في أواخر حياته على الأرض إذ تنيح حوالي آخر سنة 334م، أو على الأكثر بداية سنة 335م(7).
بعد نياحة الأنبا مكاريوس خلفه الأنبا مكسيموس المعترف(8) أسقفًا على أورشليم، وقد أحب كيرلس جدًا ووثق فيه، فرسمه كاهنًا سنة 343م، وأوكل إليه تعليم الموعوظين، وكان ذلك حوالي سنة 347م أو 348م، والتي تكاد أن تكون كل ما وصل إلينا من مؤلفاته.
كيرلس رئيس أساقفة أورشليم

في أواخر عام 350م سيم أسقفًا على أورشليم، وكان ذلك بمساعدة أكاسيوس أسقف قيصرية بفلسطين وبتروفليس اللذين كانت لهما ميول أريوسية ويبغضان الأنبا مكسيموس(9).
إننا لا نعرف ما هو الدافع الذي بعثهما إلى ذلك، إذا كانت رسامته غير واضحة.
وقد بدأ عهده بحادث مفرح، وذلك أنه في 7 مايو سنة 351م حوالي التاسعة صباحًا في يوم صحو مشمس، ظهر صليب منير في السماء أكثر لمعانًا من الشمس، تعلق فوق جبل الجلجثة، وامتد إلى جبل الزيتون، وبقي ساعات طويلة حتى رآه جميع سكان أورشليم: المواطنون والغرباء، المسيحيون واليهود والوثنيون، الشيوخ والصغار، فتدفق الكل نحو الكنيسة وكانوا يسبحون الله ويمجدونه، إذ تأكد لكثيرين صحة الديانة المسيحية.
ارتجت المدينة كلها لهذا المنظر، وبادر الأنبا كيرلس بكتابة رسالة إلى الإمبراطور يصف له ما حدث. ويُشتم من رسالته أن هذا الأمر كان في بدء أسقفيته.
رعايته

نستطيع أن نلتمس مدى ما اتسمت به شخصية الراعي كيرلس مما ذكره عنه المؤرخ سوزومين Sozomen. إذ حدثت مجاعة في أورشليم والبلاد المجاورة لها، وقد تكدس الفقراء في البطريركية يتضورون جوعًا، رافعين أنظارهم إلى أسقفهم المملوء حبًا. وإذ كان الراعي يعيش في حياة نسكيّة تقشفيّة لا يملك في بطريركيته شيئًا، لم يجد مفرًا من أن يبيع بعض أواني الكنيسة ويوزعها على أولاده الفقراء.
قد يبدو هذا التصرف غريبًا، لكن أمام الحب المتقد في قلب الأب لم يجد سبيلًا آخر غير هذا.
وإننا نجد القديس يوحنا الذهبي الفم يطلب الاهتمام بالفقراء قبل الاهتمام بشراء أوانٍ ثمينة لبيت الرب، إذ يقول:

[أتريد أن تكرم جسد يسوع؟! لا تتغافل عنه وهو عريان! فلا تكرمه هنا في الكنيسة بثياب ديباج وفي الخارج تضرب عنه صفحًا وهو يموت من البرد والعري.
إنه غير محتاج إلى كأس ذهبية بل إلى نفس نقية!]

كيرلس والآلام

وقع صدام بين كيرلس وأكاسيوس ربما كان سبب رغبة الثاني في خضوع الأول له في آرائه الأريوسية، الأمر الذي جعل كيرلس يقوم بمقاومته علنًا، مفندًا الآراء الأريوسية ومنددًا بها.
ولما كان قسطنس يحتضن الأريوسيين، أسرع أكاسيوس بعقد مجمع اتهم فيه كيرلس أنه مبدد لأموال الكنيسة. ولكي يقويّ مركزه أسند الاتهام باتهام لاهوتي مدعيًا أن كيرلس يخلط بين الأقانيم الثلاثة، وبهذا صدر الحكم بتجريده من أسقفيته ونفيه.
لم يبالِ كيرلس بهذا، بل قام من جانبه بعقد مجمع يبرئه من الاتهامات الموجهة ضده.
لكن أكاسيوس المتقرب من الإمبراطور جاء ومعه شرذمة من الجنود، وطردوا كيرلس، وأقام أسقفًا أريوسيًا عوضًا عنه.
نُفي كيرلس إلى أنطاكية، وبعد ذلك إلى طرسوس، فقبله أسقفها سلفانوس كزميلٍ له يشاركه أعمال أسقفيته. لكن للأسف كان هذا الأسقف من أتباع الهومائيين(12) الأمر الذي عرض الأنبا كيرلس للنقد.
أسرع أكاسيوس بتحذير سلفانوس ألاّ يشرك كيرلس معه في الخدمة، لكن الثاني لم يبالِ من أجل محبته لكيرلس، ومن ناحية أخرى كان الشعب قد أُعجب بالأسقف الجديد وتعلق به(13).
وفي عام 359 م. انعقد بسبب أودكسيوس مجمع في سلوكية بـIsauria غرب أرمينيا. وإذ أثير موضوع نفي الأنبا كيرلس فحدث شقاق حاول البعض إقناعه بالانسحاب(14)، لكن بفضل الهومائيين بقي وانسحب أكاسيوس. وبانسحابه استطاع هو وأتباعه من الالتقاء بعظماء القسطنطينية المتصلين بالقصر الإمبراطوري، وعن طريقهم توصلوا إلى الإمبراطور حيث أثاروا غضبه ضد مجمع سلوكية، مقدّمين شكوى أكاسيوس ضد كيرلس التي تتلخص في اتهامه أنه باع لإحدى الراقصات الثوب المقدس الذي أهداه قسطنطين إلى الأنبا مكاريوس الأورشليمي تكريمًا لكنيسة أورشليم، لكي ما يلبسه أثناء خدمته طقس العماد المقدس، وهو منسوج بالذهب، وقد اُستخدم في المسارح.
هذا الاتهام كان بمثابة عينة قُدمت للإمبراطور لإثارته ضد كل أعضاء المجمع.
وقد قام رجال البلاط بإقناع الإمبراطور إلاّ يستدعي المجمع كله، بل يكتفي بعشرة من قادته منهم: أوسطاسيوس(15) الأرمني وباسيليوس الغلاطي وسلفانوس الطرسوسي وايليسوس من Cyzicus.
نفيه الثاني

مع بداية عام 360م انعقد مجمع في القسطنطينية اُتهم فيه كيرلس ودين بسبب مشاركته لأوسطاسيوس الأرمنّي وباسيليوس من أنقرا(16) وجورج من لاودكية(17)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. هؤلاء الثلاثة ليسوا على مبدأ واحد، ولا هم مثقفين في شيء، بل منهم من هو أريوسي المذهب كأكاسيوس لكنه كان يبغضهم لدوافع شخصية، خاصة بعدما قبلوا كيرلس عدوه.
هذا وقد شهد التاريخ الكنسي الأول للقديس كيرلس أنه بالرغم من اختلاطه بهؤلاء الأساقفة وغيرهم، إلاّ أنه لم ينحرف قط عن مبادئه ولا في سلوكه، بل بقي أرثوذكسي العقيدة والمسلك. وهذا ما أكده أيضًا مجمع القسطنطينية سنة 381م في إحدى محاضره.

نعود لنؤكد أن أكاسيوس لم يستطيع أن يثبت عليه أي اتهام، ولم يكن غايته العقيدة الإيمانية، بل كان كل همه الانتقام منه.
انتهى المجمع بالحكم على الأنبا كيرلس بالنفي للمرة الثانية، وإن كنا لا نعلم عن مكان نفيه شيئًا.
كيرلس في عهد يوليانوس

لم يبقَ كيرلس في النفي أكثر من سنتين، إذ في 3 نوفمبر من سنة 361م مات قنسطنس Constantius وهو يستعد لمحاربة ابن عمه يوليانوس، الذي بعدما تولى الحكم أصدر أمرًا بعودة جميع الأساقفة المنفيين إلى كراسيهم. ويقول المؤرخ سوزومين(18) إنه لم يكن الدافع هو الإشفاق عليهم ولا حبًا فيهم، لكنه كان يلذ له أن يري الكنيسة منقسمة متنازعة في داخلها.
عاد كيرلس إلى إيبارشية مارًا على أنطاكية حيث استقبله أسقفها القديس ميليتوس استقبالًا حارًا.
وفي سنة 363م قرّب يوليانوس الجاحد جماعة اليهود إليه. لا محبة فيهم بل إثارة للمسيحيين ولإغاظتهم. يذكر لنا المؤرخون أنه أمد اليهود بالمال، وساعدهم مشجعًا إياهم على بناء الهيكل تكذيبًا لقول السيد المسيح بخصوص خراب الهيكل. وفعلًا أُعدت جميع أدوات البناء، وتهيأ العمال للعمل، وكان القديس كيرلس يُطمئن نفوس شعبه أن كلمات ربنا يسوع لن تسقط.
ذكر لنا سقراط ثلاث معجزات حدثت في ذلك الوقت(19).
أ. حدثت بالليل زلزلة عنيفة جدًا أرعبت العمال اليهود.
ب. جاءت نار، أحرقت مواد البناء استمرت من الصباح حتى المساء.
ج. في الليلة التالية ظهرت انطباعات لصلبان منيرة على ثيابهم، باطلًا حاولوا التخلص منها. ومع هذا كله، فقلوبهم الغبية المظلمة لم تقدر أن تؤمن!

وفي أيام يوليانوس الجاحد أيضًا، يذكر لنا المؤرخ ثيؤدورت قصة ابن كاهن وثني من المقربين إلى البلاط، أخبره الابن بها بنفسه(20)، ملخصها أنه وهو صبي تعلم على يدي شمّاسة صديقة حميمة لأمه. آمن بالمسيحية علي يديها، ولما اكتشف أمره هرّبته إلى الأنبا ميليتوس. وإذ بحث عنه والده ووجده جلده كثيرًا وحرق يديه ورجليه وظهره بمسامير محماة، ثم حبسه في حجرة النوم وذهب إلى معبده... فتمكن الابن من الهروب والالتجاء إلى الشمّاسة التي ألبسته ثوب فتاة وأخذته في عربة مغطاة وأعادته إلى القديس ميليتوس، وهو بدوره أسلمه إلى القديس كيرلس أسقف أورشليم.
وبعد موت يوليانوس قاد الابن أباه طريق الحق.
أما يوليانوس ففي 26 يونيو من ذات العام (363) الذي حاول فيه بناء هيكل اليهود قُتل في حربه ضد الفرس وهو يقول: "غلبتني أيها الجليلي!"
نفيه الثالث

بعد يوليانوس خلفه جوفنيان صاحب الإيمان المستقيم، الذي في عهده استراحت الكنيسة. لكنه لم يبقَ سوى 7 شهور، إذ مات في فبراير 364م، وخلفه فالنتنيان الأرثوذكسي المبدأ في شهر مارس. وقد سلم الولايات الشرقية إلى أخيه فالنز معضّد الأريوسية.
مضي العامان الأولان دون أن نسمع شيئًا عن الأنبا كيرلس، وفي عام 366م مات أكاسيوس، وعلي أثر ذلك قام خلاف بين كيرلس والأريوسيين بخصوص ترشيح خلف له وانتهى الأمر بنفي كيرلس وذلك بمعاونه الإمبراطور الأريوسي.
بقي كيرلس منفيًا أحد عشر عامًا حيث عاد إلى كرسيه ليرى كنيسته متألمة مجروحة من الأريوسيين وأتباع أبوليناريوس(21).
ويمكننا أن نتلمس مدى ما وصلت إليه الكنيسة في ذلك الوقت من التقرير المحزن الذي قدمه القديس غريغوريوس النيسي (335-394م) بناء على طلب مجمع أنطاكية المنعقد سنة 378م لافتقاد كنائس فلسطين والعربية.
على أي الأحوال عاد الراعي إلى رعيته يتفقدها ويهتم بشئونها. وقد اشترك في مجمع القسطنطينية(22) المنعقد سنة 381م بناء على أمر الإمبراطور ثيؤدوسيوس.
وفي عام 388م تنيح القديس كيرلس بعدما قضى 38 عامًا أسقفًا على كرسي أورشليم.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:29 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

كتاباته


أهم أعماله


1. مقالاته لطالبي العماد

سجلها الأب كيرلس وهو بعد كاهن عندما أنابه الأنبا مكسيموس المعترف لتعليمهم سنة 347 أو 348م. وتُعتبر هذه المقالات فريدة في نوعها، إذ هي مجموعة كاملة للتعاليم التي تقدمها الكنيسة الأولى للموعوظين طالبي العماد. يعلق Quasten على هذه المقالات، قائلًا: "ألقى أغلبها في كنيسة القبر المقدس، وهي إحدى أعظم الكنوز المسيحية القديمة الثمينة. توجد ملاحظة مدونة في كثير من المخطوطات، وهي أنها مختزلة، مما يعني أن لدينا نسخة سجلها أحد المستمعين، وليست نسخة الأسقف(24)."
حقًا لقد سجل لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مقالين إلى طالبي العماد(25)، وكان غاية اهتمامه أن يكّرهم في العادات الوثنية الشريرة التي تأصلت فيهم. كما سجل لنا القديسان غريغوريوس النيسي وأغسطينوس(26) أحاديث وإرشادات موجهة إلى معلمي الموعوظين لا إلى الموعوظين أنفسهم. وقد وصلت إلينا مقالات أخرى موجهة إلى الموعوظين، جاءت كمقالات فردية أو بين مجموعة مقالات أو عظات(27).


2. مقالاته عن الأسرار للمعمدين حديثًا

وهي خمس مقالات، تُعتبر تكملة للمقالات السابقة، ولها أهمية خاصة، إذ سجلت لنا الكثير من طقوس الكنيسة الخاصة بأسرار المعمودية والميرون والإفخارستيا، ومعانيها في القرن الرابع.

3. رسالة إلى الإمبراطور قنسطنس Constantius بمناسبة الظهور العجيب لصليب ضخم من النور في 7 مايو 351 م، نظروه في أورشليم فوق جبل الجلجثة المقدس ويمتد حتى جبل الزيتون المقدس.
لم ينظره شخص أو اثنان، وإنما رأته الجماهير كلها في المدينة بكل وضوح، ليس إلى لحظات، بل إلى عدة ساعات. وكان نوره يغطي على نور الشمس. فجأة اندفعت الجماهير إلى الكنيسة في خوفٍ ممتزج بالفرح، وكانوا يسبحون ربنا يسوع المسيح. (رسالة إلى الإمبراطور قنسطنس، 4)

4. عظة على مفلوج بركة بيت صيدا (يو 5:5).
In paralyticum iuxta piscinam iacentem
غالبًا ألقاها وهو كاهن، إذ أشار إلى الأسقف التابع له.

5. مقتطفات من عظات على معجزة تحويل الماء خمرًا وعلى يو 16: 28.

6. مقال عن حضور المسيح في الهيكل ومقابلته مع سمعان... وينسبها البعض إلى القديس كيرلس السكندري.

7. رسائل ومقتطفات وردت في الطبعة البندكتية. لم يقم الدليل بعد علي صدق نسبتها إليه.






أرثوذكسية إيمانه

إذ قام أكاكيوس مطران قيصرية بسيامته، وهو أريوسي، اتهمه البعض أنه قدم تنازلات للأريوسية مقابل هذه السيامة.
لم يشر القديس إلى الأريوسية أو الأريوسيين بالاسم، كما أشار إلى بعض الهرطقات والهراطقة، لكنه هاجم أفكار الأريوسيين بكل وضوح، نذكر على سبيل المثال العبارات التالية:
[عندما تسمع "ابن" لا تحسبه أنه مُتنبى، بل ابنًا بالطبيعة، الابن الوحيد، ليس له أخ. من أجل هذا دعي "الوحيد الجنس"، إذ ليس له أخ من جهة شرف اللاهوت ونسبته للآب. ونحن لا ندعوه "ابن الله" من عندياتنا، بل الآب دعي المسيح (دون غيره) ابنه وما يدعوه الآباء لأبنائهم هو اسم حق.] مقال 11: 2.
[مرة أخرى أقول عند سماعك عن الابن لا تفهم هذا في معنى غير لائق بل هو ابن بالحق. أنه ابن بالطبيعة بلا بداية، لم يأتِ من حالة العبودية إلى التبنّي، أي انتقل إلى حالة أعظم، بل هو ابن أبدي مولود بنسب لا يُفحص ولا يدرك.
وبنفس الطريقة عند سماعك "البكر" لا تفكر في هذا الأمر بمستوى بشري، لأن البكر في البشر له إخوة آخرون.] مقال 11: 4.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:29 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

تعليم الموعوظين وطالبي العماد

مقدمة

ترفع الكنيسة أنظارها إلى عريسها ربنا يسوع لتراه علي الدوام باسطًا يديه ليضم إليه أحباءه كل بني البشر، تراه لا يكف عن مناداة الجميع ليلتقوا معه مهما كلفه الأمر.
هذا الموضوع هو سرور عريسها أن يجمع الكل في حضنه، "الأثمة والمتمرّدين، الفجار والخطاة، الدنسين والمستبيحين، قاتلي الآباء وقاتلي الأمهات، قاتلي الناس، الزناة..."(28)، بعدما يقدسهم ويطهرهم ويهيئهم للحياة السمائية الملائكية.
هكذا أيضًا تتقدم الكنيسة، كهنتها وشعبها، رجالها ونساؤها، شيوخها وأطفالها، المتزوجون والبتوليون والأرامل. الكل يتقدم بروح عريسهم القدوس ممارسين عملهم، مقدمين له ثمار دمه المسفوك على عود الصليب، نفوسًا عرفته وآمنت به.
لم تكن الكنيسة الأولى تعرف السلبية في العبادة، بل تتقدم كنورٍ حقيقيٍ أمام اليهود غير المؤمنين والوثنيين الأشرار، فتشهد لعريسها أمامهم بالحياة المقدسة والسلوك الطيب والقلب المنفتح للخطاة والفم المبارك للمضطهدين والصلاة الدائمة من أجل الكل والحديث عن الحق.
هكذا يقول القديس أغسطينوس(29): [ما بين اضطهادات العالم وتعزيات الله تتقدم الكنيسة في سعيها إلى الأمام.]
وإنني أترك الحديث عن عمل الكنيسة الكرازي للعودة إليه في مجال آخر(30) مكتفيًا الآن بالقول أنها لا تألو جهدًا عن أن تشرق تلقائيًا بنور المسيح وسط الظلمة فتبددها؛ وتعلن الحق فيموت الباطل، وتشهد للرب لتكسبهم أبناء له، فمتى تقبل إنسان هذا التعليم أو اشتاق إليه يُدعى موعوظًا حتى لحظة عماده فيُسمى ابنًا.
ولما كانت مقالات الأنبا كيرلس الموجهة إلى طالبي العماد تُعتبر من أهم أعماله, لهذا رأيت ضرورة التحدث عن تعليم الموعوظين وطالبي العماد وعن طقوس العماد في الكنيسة الأولى(31).

أولًا: الموعوظون Catechumens

الموعوظ الحقيقي هو من يتقبل التعليم المسيحي لا لمجرد الدراسة العلمية أو الفلسفية أو بغرض آخر سوى التعرف علي الحق وتقبله. حقًا إن كثيرين دخلوا بين صفوف الموعوظين خلسة, منهم من دخل إلى المسيحية معجبًا بها كفلسفة أو من أجل البلاغة، كما أعجب أغسطينوس بعظات القديس أمبروسيوس أسقف ميلان، فكان يحضر لا ليعيش في شركة مع الرب بل لمجرد الدراسة الفلسفية. ومنهم من دخل بنيّة شريرة، أو حبًا للاستطلاع، أو بقصد إرضاء الغير، كأن يريد أحد الوثنيين الزواج بفتاة مسيحية أو تريد فتاة وثنية التزوج بمسيحي(32).
هؤلاء يلزم على الراعي أن يفرزهم، فلا يحرمهم من الحضور للوعظ لكن لا يقبلهم في المسيحية ما لم يكن من أجل المسيح المصلوب.
ليس هناك طريق آخر لقبولنا دخول أحد إلى المسيحية سوى قبوله الإيمان بالمسيح، وشوقه لحمل الصليب، والدخول من الباب الضيق للعبور إلى الأبدية. فالكنيسة لا تُسر بالعدد لأنها ليست حزبًا منافسًا، ولا تنخدع بالمظهر بل تطلب نفوسًا حيَّة مُحبة تود الاتحاد بالله والتمتع بالميراث الأبدي.
والموعوظون في الكنيسة كانوا ينقسمون إلى أربع درجات حسب درجة تجاوبهم مع التعاليم وغيرتهم وشوقهم للشركة مع الله.

أما عناصر الموعوظين فثلاث:

1. موعوظون من أصل يهودي: تُقدم لهم دراسات في نبوات العهد القديم وتحقيقها في شخص ربنا يسوع، وتكميل المسيحية للناموس الموسوي.
2. موعوظون من أصل وثني: تُقدم لهم دراسات تتناسب مع ثقافتهم ودراساتهم، فلا عجب إن رأينا معلمين تخصصوا في دراسة الفلسفات الوثنية ليجتذبوا الوثنيين إلى الحق.
3. موعوظون هم أطفال المسيحيين المؤمنين.
وقد عُرف عماد الأطفال في الكنيسة الأولى(33) بصورة عامة، تحت مسئولية آبائهم أو أشابينهم وفي عهدتهم(34)، إذ تعرف الكنيسة قيمة نفوسهم، وتدرك أهمية عضويتهم في جسد الرب.
يقول العلامة أوريجينوس(35): [تسلَّمت الكنيسة من الرسل تقليد عماد الأطفال أيضًا. فالأطفال يعمدون لمغفرة الخطايا ليُغسلوا من الوسخ الجدي بسرّ المعمودية.]
وقد زعم بيلاجيوس (360-430 م.) وأتباعه أن خطيئة آدم أصابته وحده دون أن تسري في أولاده. على هذا يُولد الرضيع بغير الخطية الأصلية، ولا يحتاج إلى عماد لأنه كآدم قبل السقوط.
انبرى له القديس أغسطينوس (354-430م) وغيره من الآباء يؤكدون من الكتاب المقدس كيف أنه حبل بنا بالآثام، وتثقّلت البشرية كلها بالخطية الجدِّية (رو 5: 12). وبهذا يحتاج الطفل كما الكبير إلى صليب ربنا يسوع والتمتع بعمل قيامته. كما أصدر مجمع قرطاجنة(36) (418-424م) قانونًا يوجب عماد الأطفال ليتطهروا من الخطية الجدية.
قد يعترض البعض قائلين: "لا يدرك الأطفال قيمة نعمة المعمودية، ولا يصونونها"، فيجيب القديس غريغوريوس النزينزي(37) بعد أن وبّخ الذين يحجمون عن التمتع بسرّ العماد بدعوى الحرص والحذر لئلا يسقطوا في الخطية بعد العماد، فيقول لهم: إن هذا الحذر في ذاته يحمل عدم حذر، بل هو خداع شيطاني، به تغلق النفس على ذاتها من أن تتمتع بعمل النعمة الإلهية، والتمتع ببركات المعمودية تحت ستار الخوف والحرص... وأخيرًا يوبّخ المُحجمين عن عماد أطفالهم قائلًا:
[هل لديك طفل؟ لا تسمح للخطية أن تجد لها فرصة فيه!
ليتقدس في طفولته، وليتكرس بالروح منذ نعومة أظافره!
لا تخف على "الختم" بسبب ضعف الطبيعة!
أيتها الأم ضعيفة الروح وقليلة الإيمان! لماذا وعدت حنة أن يكون صموئيل للرب من قبل أن تلده (1 صم 1: 10)؟! وبعد ميلاده كرسته له في الحال... ولم تخف قط من الضعف البشري بل وثقت في الله...
سلّمي ابنك للثالوث، فإنه حارس عظيم ونبيل!]
هذا وقد فرضت الكنيسة تأديبًا على الوالدين إذا أجلا عماد طفلهما فمات دون عمادٍ، قانونه الصوم والصلاة والحرمان من شركة الأسرار المقدسة لمدة عام كامل(38).
ومن شدة شوقها واهتمامها بعضوية هؤلاء الأطفال فيها فرضت أيضًا عقوبات مختلفة على الوالدين اللذين يمتنعان عن عماد ابنهما بسب نذر العماد في مكان معين، أو على يد إنسان معين. ومات طفلهما، إذ حرَّمت الكنيسة النذر في أمر المعمودية مطلقًا!

ويرى بنجهام(39) أن أطفال المؤمنين إذ ينالون سرّ العماد في الطفولة ينضمون إلى صفوف الموعوظين حالما يستطيعون التعليم. غير أننا نجد في كتابات آباء الكنيسة الأولى، ومنهم القديس كيرلس الأورشليمي -كما سنرى- أن مهمة تعليم أطفال المؤمنين غالبًا ما توكل إلى الآب أو الأم أو شماس أو شماسة.
يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغي(40): [إن هذا الأمر افتكر فيه معلمونا الإلهيون ورأوه موافقًا أن يُقبل الأطفال على هذا الوجه الشريف، أعني أن يُسلم الوالدان الطبيعيّان ولدهما لمربٍ صالح، وأن يبقى الطفل فيما بعد تحت إدارته، كأنه تحت عناية أبٍ إلهيٍ وكفيلٍ لخلاصٍ مقدسٍ، فمتمم السرّ يرفعه وهو معترف إلى الحياة المقدسة، طالبًا جحد الشيطان والإقرار بالإيمان.]
ويقول القديس أغسطينوس: [إننا نؤمن ونصدق بتقوى وصواب أن إيمان الوالدين والأشابين يفيد الأطفال، وعلى هذا الإيمان يُعمدون.]
نعود مرة أخرى إلى الموعوظين لنقول إنهم غالبًا ما يبقون في رعاية الكنيسة لمدة سنتين أو ثلاث سنوات، ينتقلون من فئةٍ إلى أخرى، حتى تطمئن الكنيسة على حسن نيتهم وتمسكهم بالإيمان وقبولهم للصليب، وعندئذ ينتقلون إلى آخر درجة من الموعوظين وهي: "طالبو العماد"،هذا الانتقال يختلف من شخص إلى آخر حسب غيرته ودراسته الفردية الخاصة قبلما ينضم إلى صفوف الموعوظين أو أثناءها.

ثانيًا: معلمو الموعوظين

إننا نعلم أن الكنيسة كلها منذ نشأتها كانت منطلقة للكرازة، مدركة قول الرب: "من لا يجمع فهو يفرق". فالكل يشعر بمسئوليته نحو الشهادة للرب، إن لم يكن بالكلام فبالقدوة الحسنة... يعمل أعمال المسيح الحي. وكما يقول العلامة أوريجينوس(41): [إن كل تلميذ للمسيح هو صخرة، وفية تكتمل الكنيسة الجاري بناؤها بيد الله.]
ويحمل القديس كيرلس الأورشليمي مسؤولية تعليم الموعوظين الأطفال أو الكبار على الآباء والأشابين، إذ يقول(42): [إن كان لك ابن حسب الجسد أنصحه بهذا، وإن كنت قد ولدت أحدًا خلال التعليم، فتعهده برعايتك.]
إذن كل مؤمن حقيقي يلتزم أن يكون له نصيب في تعليم موعوظ أو موعوظين، بصورة أو أخرى، فماذا نقول عن الكاهن الذي يدعوه الذهبي الفم "أب كل البشرية"؟!
لقد سيم القديس غريغوريوس العجائبي(43) أسقفًا على قيصرية الجديدة، وكان بها سبعة عشر مسيحيًا فقط، وحين تنيح بسلام لم يكن بها سوى سبعة عشرة وثنيًا.
على أي الأحوال لم يكن يُحرم كاهن ما من خدمة الموعوظين المنظمة في الكنيسة، بل يقوم كل منهم بنصيبه فيها. أما المرحلة الأخيرة للتعليم، فغالبًا ما كان يقوم بها الأسقف نفسه، أو كاهن يثق فيه من جهة قدرته التعليمية بالنسبة لهم.
غير أن التاريخ سجل لنا عن أناس تخصّصوا في تعليم الموعوظين، نذكر منهم على سبيل المثال أن البابا ديمتريوس سلّم العلامة أوريجينوس مدرسة الإسكندرية التعليمية وهو بعد في الثامنة عشر من عمره(44). وأيضًا كتب القديس أغسطينوس إلى الشماس ديوجرانيس بقرطاجنة الذي اتسم بمهارة عظيمة ونجاحٍ في تعليم الموعوظين.

ثالثًا: مادة الوعظ لهم

1. تُقَّدم دراسات خاصة بالذين كانوا من أصل يهودي تختلف عمن هم من أصل وثني، فيقدم لكل فئة ما يتناسب مع ثقافاتهم ودراستهم السابقة وأفكارهم.
2. تُقدم لهم دراسات تأملية لاهوتية مبسطة لأهم العقائد المسيحية، وقد رتبت هذه الدراسات بعد مجمع نيقية المسكوني في القرن الرابع، بصدور قانون الإيمان، الذي يُعتبر ملخصًا شاملًا، يقدم للموعوظين مع شرحه لكي يحفظوه ويفهموه.
ويظهر اهتمام الكنيسة بتسليم قانون الإيمان أن الأسقف بنفسه هو الذي يقوم بذلك إذ نجد الأسقف أمبروسيوس يكتب رسالة إلى أخته مرسيلينا قائلًا(45): [في اليوم التالي إذ كان يوم الرب، بعد الدروس والعظة -لما خرج الموعوظون- سلمت لطالبي العماد قانون الإيمان في معمودية الباسليكي.]
ويقول الأنبا يوحنا خلف كيرلس الأورشليمي في رسالته إلى جيروم(46): [إن العادة عندنا أن نسلم تعليم الثالوث القدوس بصورة عامة خلال الأربعين يومًا للذين سيتعمدون.]
كذلك يفتتح القديس أغسطينوس(47) مقاله عن "قانون الإيمان" لطالبي العماد قائلًا: [استلموا يا أولادي دستور الإيمان الذي يُدعى قانون الإيمان، وإذ تتقبلونه اكتبوه في قلوبكم وردِّدوه يوميًا قبل النوم وقبل الخروج، سلِّحوا أنفسكم بقانون إيمانكم. قانون لا يكتبه الإنسان لكي يقرأه، بل كي يردده، حتى لا ينسى ما تسلمه بعناية. سجلوه في ذاكرتم...]
3. بعد قانون الإيمان يقومون بشرح الصلاة الربانية، وكما يقول القديس أغسطينوس(48): [بعدما نعرف من نؤمن به نصلي إليه. إذ كيف نصلي لمن لا نعرفه ولا نؤمن به؟!]
4. في الفترة الأخيرة يقوم المعلمون بتحفيظهم بعض التلاوات، أي صلوات قصيرة.
5. وفي الأيام القليلة قبل العماد أو بعده مباشرة تقدم لهم مائدة دسمة عن شرح ترتيب العماد ومفاهيمه، وسرّ المسحة وفاعليتها، وسرَ التناول وبركاته... الأمور التي لا تجيز الكنيسة الحديث عنها مع المبتدئين.

وأخيرًا يمكننا تقسيم جميع التعاليم السابقة إلى قسمين رئيسيين هما:
1. دراسات بسيطة تقدم المبادئ الأولية للإيمان المسيحي.
2. دراسات أعمق تقدم شرحًا لأسرار الكنيسة.
يظهر هذا التقسيم بوضوح في مقالات القديس كيرلس، كما تظهر أيضًا في "تعاليم الاثنى عشر رسولًا"(49)، التي ذكرها البابا أثناسيوس الرسولي(50) أنها ليست من الكتب المقدسة لكن الآباء أشادوا بقراءتها للداخلين إلى الإيمان حديثًا.

هذه التعاليم موجهة على وجه الخصوص إلى الذين هم من أصل وثني حتى دعيت "تعاليم الرب للأمميين خلال الاثني عشر"، وهي تنقسم إلى قسمين:
1. الفصول الست الأولى: تحمل تعاليم أولية للأمميين.
2. بقية الفصول تشرح ترتيب العماد الصلاة والصوم وخدمة يوم الرب وتقديس سرّ الإفخارستيا...
هذا وإننا نختتم حديثنا عن تعليم الموعوظين بالقول: خصصت الكنيسة الجزء الأول من القداس الإلهي للموعوظين، يحمل قراءات ووعظ يحضرها المؤمنون والموعوظون ليتعرفوا عل الحق. ولكن قبل البدء في قداس المؤمنين يصرخ الشماس(51)مناديًا بخروج الموعوظين، وتغلق الأبواب، ويقوم الشمامسة بحراستها حتى ينتهي القداس الإلهي!

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:34 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

طقوس عماد الموعوظين



عيد القيامة وطقوس العماد

ارتبط عيد القيامة في الكنيسة الأولى بطقس العماد. أما الآن ففي كنيستنا القبطية الأرثوذكسية خُصص يوم الأحد السابق لأحد الشعانين للعماد، ويدعى "أحد التناصير".
سرّ ارتباط القيامة بالعماد هو أن عيد قيامة الرب محور حياة الكنيسة ومركزها. قيامة الرب هي الصخرة التي تتكئ عليها الكنيسة لتعيش مطمئنة وسط دوامة هذا العالم، لا تخاف أمواجه أو عواصفه أو شروره، تحيا على رجاء القيامة، مرتبطة بعريسها الذي لا يموت، متبررة، متقدسة به.
هذا الرجاء وذلك التبرير والتقديس لا يمكن أن نتمتع به إلاّ خلال المعمودية، التي فيها نُدفن مع الرب ونقوم، كقول الرسول: "أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع اعتمدنا لموته، فدٌفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح بمجد الآب هكذا نسلك أيضًا في جدة الحياة" (رو 6: 2-6).
خلال المعمودية نجتاز مع ربنا يسوع آلامه وموته ودفنه، ونختبر عمل قيامته وأمجادها وقوتها في أعماق حياتنا الداخلية. "عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية، كي لا نعود نستعبد للخطية" (رو 6: 6).
من أجل هذا رتبت الكنيسة منذ القرون الأولى أن تقوم بعماد عدد كبير من الموعوظين ليلة عيد الفصح أو عيد القيامة، حتى يرفع المعمَّدون أنظارهم إلى قيامة الرب على الدوام ويعيشون بقوتها. وفي نفس الوقت ترفع أنظار المؤمنين في ليلة عيد القيامة ليذكروا عمادهم، فيعيشوا كأبناء الله مولودين منه بالروح للتمتع بقيامة الرب في حياتهم.
في عيد القيامة تختلط الأفراح وتمتزج المشاعر، إذ تقوم الكنيسة كلها مرتجة متهلِّلة بالمعمَّدين حديثًا بصورة علنية، تبعث في كل إنسانٍ ذكريات عماده، ليعيش سالكًا بما يليق به كإنسانٍ معمد، وفي نفس الوقت تهتز مشاعرهم لأجل هذه الثمار التي هي عمل الرب القائم من الأموات في الكنيسة خلال أعضائها الكهنة والشعب، السادة والعبيد، الشيوخ والأطفال... إنها ثمرة مبهجة، تفرح الرب القائم من الأموات، والنفوس القائمة به!

ويمكننا تلخيص مراسيم العماد في كلمات قليلة:


أولًا: تقديمهم للعماد

مع بداية صوم الأربعين المقدسة يختار الموعوظون الذين تطمئن الكنيسة لتقبلهم سرّ العماد، وتتعهدهم خلال الأربعين المقدسة بدراسات خاصة كما سبق أن رأينا. غير أنه لا يقف الإعداد لقبولهم في عضوية الكنيسة عند مجرد الاستماع إلى التعاليم أو حفظ التلاوات، بل كما يقول العلامة ترتليان(52): [يجدر بالآتين إلى المعمودية أن ينشغلوا على الدوام بالصلوات والأصوام والمطانيات والأسهار، كل هذا مع الاعتراف بالخطايا السابقة.]
هكذا لا يليق تسليمهم عطية العماد بهدفٍ آخر سوى خلاص نفوسهم، أي تبرئتها من خطاياها وتمتعها بالشركة مع الرب. وهذا لن يكون بالنسبة للكبار بغير التوبة الصادقة والاعتراف بالخطايا والضعفات، مع المثابرة في الصلوات والأصوم والمطانيات والأسهار.
لهذا يخصص القديس كيرلس مقالًا كاملًا عن "التوبة عن الأخطاء السابقة" وأخرى عن "فاعلية التوبة في غفران الخطية"(53).
ويحدث القديس يوحنا الذهبي الفم طالبي العماد قائلًا(54):
[لذلك يسبق هذا أن نتوب ونرفض أعمالنا السابقة الشريرة، وهكذا نتقدم للنعمة.
اسمع ما يقوله يوحنا، وما يقوله الرسول لمن اقتربوا للعماد. الواحد يقول: "فاصنعوا ثمارًا تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا" (لو 3: 8). والآخر يجيب سائليه: "توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح" (أع 2: 38).
ليته لا يرجع أحد فيمس ما قد تاب عنه! على هذا الأساس أمرنا أن نقول: "أجحدك أيها الشيطان"، كي لا نرتد إليه مرة أخرى.]

ثانيًا: فرز طالبي العماد

في يوم أحد الشعانين(55) يُفرز طالبو العماد، وقد وصف العلامة أوريجينوس(56) دقة الفحص الذي يليق بالكنيسة أن تقوم به من جهة الموعوظين، سواء قبلوا الإيمان بطريقة أو أخرى، حتى لا يُعمد إنسان دون التأكد من صدق نيته.
ويشبِّههم القديس كيرلس بالمنضمِّين إلى صفوف الجندية(57)، إذ يلزم الاهتمام بفحصهم قبل دخول المعركة، فكأعضاء في جيش المسيح الخلاصي، يحاربون الشيطان.
بعد الفرز من وُجد مستحقًا يحضر قدام الأسقف أو الكاهن وعندئذ:
1. يتلو طالب العماد قانون الإيمان علنًا.
2. يتقبل علامة الصليب من الأسقف.
3. يصلي الأسقف عليه.
4. يضع الأسقف عليه الأيدي.
ويعتبر القديس أغسطينوس أن تقبلهم علامة الصليب أشبه بالحبل بهم في أحشاء الكنيسة، إذ يقول لهم(58): [إنكم لم تولدوا بعد بالعماد المقدس، لكنكم بعلامة الصليب قد حُملتم في أحشاء أُمُّكم الكنيسة.]
كما يقول لهم(59): [إنهم تباركوا بعلامة الصليب، والصلوات ووضع الأيدي، وأنهم وإن كانوا لم يتمتعوا بعد بجسد المسيح، إلاّ أنهم ينالون شيئًا مقدسًا.]

ولعلَّه يقصد بالشيء المقدس الخبز المقدس (القربان) الذي يأكلونه. وإن كان بنجهام يرى أنه ملح مقدس، يستخدم كرمزٍ إلى أن المؤمنين ملح الأرض. وقد اعتمد في ذلك على ما ورد في اعترافات أغسطينوس أنه أكل ملحًا.
ومن عادة الكنيسة الأفريقية في أيام أغسطينوس أن يُدهن طالبو العماد بزيت مصلى عليه قبل عمادهم(60). ولا تزال هذه العادة قائمة إلى يومنا هذا في كنيستنا حيث يدهن الكاهن الموعوظ وهو يقول: "أدهنك يا فلان باسم الآب والابن والروح القدس. زيت عظة لفلان في الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية".

ثالثًا: حمل المشاعل ولبس الثياب البيضاء

يبقى طالبو العماد طول أسبوع الآلام بغير وعظٍ اللهم إلا الاشتراك مع المؤمنين في التأمل حول آلام الرب يسوع وموته. هكذا يتوقف كل عمل للكنيسة في هذا الأسبوع عند شغل كل الأذهان بالرب المتألم من أجل البشرية!
هكذا يصير أسبوع الآلام فرصة ثمينة لطالبي العماد أن يتفرغوا عن كل عملٍ، حتى الاستماع للتعاليم، لكي تنطلق نفوسهم مشتاقة للتمتع مع المسيح في آلامه، وتزداد غيرتهم لحمل الصليب معه.
وفي ليلة عيد القيامة التي يسميها القديس أغسطينوس(61) أم جميع الأمسيات، يسهر طالبو العماد طول الليل حاملين مشاعل أو شموع أو مصابيح في أيديهم، لابسين الثياب البيض، لينالوا أسرار العماد والميرون والإفخارستيا.
يا لها من ليلة سماوية، تمتلئ الكنيسة بالفرح، وتمتزج تسابيح القيامة مع تسابيح البهجة بقبول النفوس الساقطة وإقامتها لتحيا كعروس مقدسة للرب السماوي!
لقد حق للقديس كيرلس الأورشليمي أن يدعو المعمودية "حجال العريس الداخلي". ففي هذه الليلة يرتدي المعمَّدون ثياب العرس البيضاء، رمزًا لتطهير الرب إيَّانا، وقبوله لنا في السماء الطاهرة، التي كل من يسكنها يلبس ثيابًا بيضاء.
يشير الثوب الأبيض إلى انعكاسات إشراقات المجد الإلهي على الإنسان، إذ في تجلِّي السيد المسيح "صارت ثيابه بيضاء كالنور" (مت 17: 2). هذا اللون كما يقول القديس إكليمنضس السكندري(62): [لون الحق الطبيعي، إذ يلبسون الحق ويكون مجدهم.]
وتحمل الثياب البيض علامة الطهارة والنقاوة، كما تحمل سمة الغلبة(63).

أما المشاعل أو الشموع التي يحملها المعمَّدون الجدد، فبسب كثرتها يختفي الليل وظلامه، ولا يميِّز من بداخل الكنيسة الليل من النهار، بل تكون أشبه بسماءٍ منيرةٍ!
ويصف القديس غريغوريوس النيسي هذا المنظر البديع فيقول(64): [في هذا الليل اللامع يختلط لهب المشاعل بأشعة شمس الصباح، فتخلق نهارًا مستمرًا واحدًا بغير انقسام، لا يفصله وجود ظلام.]
وتشير المشاعل إلى:
1. يقول القديس كيرلس إنها تشير إلى نور الإيمان الذي يضيء العقل.

2. نور المعرفة الإلهية، هذه المعرفة التي يقول عنها القديس مرقس الناسك(65): [إنها تحفظ النفس في يقظة العقل، وتشددها حتى تبدد ظلام الجهل الخبيث. هذه المعرفة المنيرة لن تتحقق عمليًا في حياتنا إلاّ بالمعمودية.]
حقًا كما يقول القديس إكليمنضس السكندري(66): [إن التعليم ينير النفس، إذ يكشف لها الأمور الخفيّة.]
وكما يقول القديس الأورشليمي(67) لطالبي العماد: [لقد سبق أن استنارت نفوسكم بكلمة التعليم، فإن كل واحدٍ منكم يكتشف شخصيًا عظمة العطايا التي يمتحنكم إيّاها الله.]
إذن يمكننا أن نقول إن الاستنارة تبدأ بالتدريج بتقبل الإنسان التعليم السليم، بكونه إعدادًا ضروريًا ونيّة عملية للعماد، ولكن لا تتحقق الاستنارة إلاّ في سرّ العماد، ويبقى الروح المنير فينا يضيء لنا مادمنا نقبل استنارته، ولا نطفئ فاعليته في حياتنا.
فطالبو العماد يُحسبون مستنيرين مجازًا من قبل نيتهم الصادقة لقبول "الاستنارة"، إذ ينتقل الإنسان من مملكة الظلمة -مملكة إبليس- إلى مملكة النور الحقيقي.
لهذا متى ذكر في كتابات الآباء كلمة "الاستنارة" ندرك في الحال أنه يتحدث عن المعمودية.
يقول القديس غريغوريوس النزينزي(68): [الاستنارة وهي المعمودية... هي معينة الضعفاء... مساهمة النور... انتفاض الظلمة. الاستنارة مركب يسير تجاه الله، مسايرة المسيح، أُس الدين، تمام العقل! الاستنارة مفتاح الملكوت، استعادة الحياة...! نحن ندعوها هدية، وموهبة، ومعمودية، واستنارة، ولباس الخلود، وعدم الفساد، وحميم الميلاد الثاني، وخاتمًا، وكل ما هو كريم...]
ويقول الشهيد يوستينوس(69): [هذا الاغتسال يُدعى استنارة، لأن الذين يتعلمون هذه الأمور يستنيرون في فهمهم.]
ويقول القديس إكليمنضس الإسكندري(70): [إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نتبنى، وإذ نتبنى نكمل... ويدعى هذا الفعل بأسماء كثيرة أعني: نعمة واستنارة، وكمالًا، وحميمًا... فهو استنارة، إذ به نرى النور القدوس الخلاصي، أعني أننا به نشخص إلى الله بوضوح.]
3. إشارة إلى مصابيح موكب العرس الأبدي حيث تُزف النفس البشرية عروسًا للمسيح. فخلال المعمودية ننال التبنّي، إذ نتحد به... هذا الاتحاد السري المقدس بين النفس والله يدعى عُرسًا.
لذلك يحمل المعمَّدون حديثًا مصابيح عرسهم، وذلك كما جاء عن العرس الأبدي، حيث يتم في أكمل صورة. إذ يقول الرب: يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى، خمس منهن حكيمات حاملات مصابيح متقدة، مستعدات للدخول مع الخدر السماوي.
هكذا يقول القديس غريغوريوس النزينزي(71)عن هذه المصابيح: [إنها تحمل معنى سري عن عملية الإنارة، حيث تدخل النفوس اللامعة البتول لتقابل العريس بمصابيح الإيمان المتلألئة نورًا.]

رابعًا: جحد الشيطان

عند جرن المعمودية يقف الموعوظ ووجهه إلى الغرب، أو تقف الأم أو الأب أو الإشبين حاملًا على ذراعه الأيسر الطفل، ويعلن جحده لإبليس، ورفضه مملكة الظلمة بجسارة علانية(72).
قبل أن نُدفن مع المسيح يسوع، النور الحقيقي، يلزمنا أن نعلن جهارًا وبصراحة رفضنا للشيطان وكراهيتنا لأعماله، أي رغبتنا في التحرر من عبوديته.
هذا الرفض، كما يقول العلامة ترتليان(73): [يتم أولًا في الكنيسة تحت يد الأسقف، ومرة أخرى قبيل الدخول في الماء مباشرة.]
أما مصدر هذا الطقس، فكما يقول القديس باسيليوس الكبير هو التقليد، إذ يقول(74):
[إننا نبارك ماء المعمودية وزيت المسحة كما نبارك المعمد نفسه أيضًا.
أي وصايا مكتوبة علمتنا أن نفعل هذا؟! أليس من التقليد السري المقدس؟!
وأيضًا الدهن بالزيت، أي كلمة في الإنجيل علمت به؟!
وأين ورد تغطيس الإنسان ثلاث مرات؟
أي كتاب جاء بكل الأمور اللازمة للعماد وجحد الشيطان وملائكته؟! ألم يأتِ إلينا من التعليم السري الذي حافظ عليه آباؤنا في صمت دون أن (يُكتب) كتعليم عام...
إذن لا تبحثوا الأمر بتطفلٍ... لأنه كيف يحق تعميم تعليم الأسرار كتابة، هذه التي لا يُسمح لغير المعمَّدين حتى أن يطلعوا عليها؟!]

خامسًا: الاعتراف بالإيمان

يقول القديس كيرلس(75): [إن طالب العماد يحوِّل وجهه من الغرب إلى الشرق مكان النور، معلنًا رفضه مملكة الظلمة وقبوله الانتساب لمملكة النور.
هذا الاعتراف العلني يتم في بعض الكنائس يوم الخميس المبارك حسب قانون 46 لمجمع لادوكية(76)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. إلاّ أن قوانين الرسل تطالب بأن يكون ذلك قبل العماد مباشرة. وهذا ما يحدث في كنيستنا إلى يومنا هذا، حيث يوجه الموعوظ وجهه ناحية الشرق، أو يقوم الإشبين بذلك، حاملًا الطفل على يده اليمنى، معلنًا اعترافه بالثالوث القدوس والكنيسة الواحدة.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم(77): [إن كان المعمَّدون أطفالًا أو صُمّـًا لا يستطيعون استماع التعليم، يجاوب أشابينهم عنهم. وهكذا يُعمَّدون حسب العادة.]
وما يعلنه الموعوظ أو الإشبين من جحد الشيطان والاعتراف بالإيمان هما من ضمن برنامج التلوات Exorcism التي يقوم المعلِّمون بتحفيظها لطالبي العماد، كصلواتٍ قصيرةٍ فعّالة، يستخدمها الإنسان كل أيام غربته في محاربته للأفكار والشهوات الخ. وقد تحدّث القديس كيرلس عن أهميتها(78). كما تحدث عنها الذهبي الفم(79) قائلًا: [بعدما تسمعون تعليمنا تخلعون صنادلكم ويعرونكم وتسيرون عراة حفاة الأقدام، مرتدين فقط التنك(80) الذي لكم Your tunic لكي تنطلقوا بالتلوات.]

سادسًا: المسح الأول بالزيت

يبدو أن كل الخطوات السابقة كانت تمارس في البهو الخارجي للمعمودية، بعدها يعبر طالب العماد الذي مارس الاعتراف وجحد الشيطان وقبل الشركة مع المسيح، يسير حافي القدمين عاريًا من كل الملابس ماعدا التنك إشارة إلى خلع الإنسان العتيق وأعماله كقول القديس كيرلس(81): [كما يرى أيضًا أن فيه إقتداء بالسيد المسيح الذي عُلق على الصليب عاريًا. وبعريه هذا نتذكر آدم الذي كان في الفردوس عاريًا ولم يخجل. ثم يدهن الشخص بزيت مُصلى عليه من شعر رأسه إلى قدميه(82).]
هذا ولم يذكر العلامة ترتليان شيئًا عن هذه المسحة، لكن ذكرها الشهيد يوستينوس(83).

سابعًا: العماد

بعد مسح الشخص بالزيت يُقاد الشخص إلى بركة المعمودية المقدسة المملوءة ماء(84).
وإننا نلاحظ أن جميع المعموديات القديمة معموديات ضخمة. وكثيرًا ما يكون لها سُلَّمين، ينزل على أحدهما الموعوظون، والثاني يقف عليه الكاهن الذي يتمم مراسيم العماد. وضخامة حجم المعموديات جعلت البعض يرى أن الكنيسة الأولى كانت تعمد جماعات معًا في نفس الوقت.
أما عن قداس المعمودية الذي به يتقدس الماء، فإنني أرجو أن يهيئ الله لي مجالًا آخر لشرحه.
لكن في داخل المياه المصلى عليها، المقدسة، يقول القديس كيرلس: [إن طالبي العماد يعلنون ما يسمى "بالاعتراف المخلص The Saving Confession" وهو يحمل اعترافًا مختصرًا جدًا للإيمان المسيحي المستقيم. يُسأل المعمد ثلاث أسئلة: أتؤمن بالآب؟ أتؤمن بالابن؟ أتؤمن بالروح القدس؟ وفي كل مرة يجيب بالإيجاب.]
ويذكر القديس كيرلس السكندري(85)، أن الكاهن يسأله ثلاث مرات عن الإيمان بالسيد المسيح. أما العلامة ترتليان(86) فيقول إن الأسئلة لا تخص إيمانه بالثالوث القدوس فحسب بل والكنيسة أيضًا.

ثامنًا: الغطسات الثلاث

يقول المرحوم حبيب جرجس في كتابه: "أسرار الكنيسة السبعة"، إنه طبقًا للتسليم الرسولي تمارس الكنيسة سرّ المعمودية بتغطيس المعتمد ثلاث مرات في الماء باسم الثالوث القدوس: الآب والابن، والروح القدس.
ويرى القديس كيرلس الأورشليمي(87) أن هذه الغطسات الثلاث لا تحمل فقط إشارة إلى الثالوث القدوس، بل وأيضًا هي دفن مع المسيح الذي بقي مدفونًا ثلاثة أيام.
ويقول القديس باسيليوس(88) [بثلاث غطسات ودُعاء مساوٍ لها في العدد يتم سرّ المعمودية العظيم، لكي يتصور رسم الموت، وتستنير نفوس المعمَّدين بتسليم معرفة الله .]
بعد الخروج من الماء لم يذكر القديس كيرلس عما ذكره بنجهام(89) من ممارسة المعمَّدين الجدد قبلة السلام وأكلهم خليطًا من اللبن والعسل.
لقد ذكر ترتليان(90) عادة أكل اللبن المخلوط بالعسل. ولعل أكلهم اللبن يحمل رمزًا للبن النقي غير الفاسد الذي تقدمه الكنيسة لأولادها خلال إيمانها وطقوسها وعباداتها غذاء لنفوسهم. والعسل يشير إلى وصايا المسيح العذبة في فم أولاده، أحلى من العسل وقطر الشهد.

تاسعًا: المسحة أو التثبيت

ذكر القديس كيرلس(91) مقالًا كاملًا بخصوص "المسحة بزيت الميرون" بعد العماد يتم كعمل سري مقدس Sacremental هذا الطقس قديم جدًا في الكنيسة، ويظهر ذلك من أقوال الآباء.
فيقول الأب ثاوفيلس الأنطاكي(92) من رجال القرن الثاني (115-181م)، "إننا ندعى مسيحيين لأننا نُدهن بمسحة الله".
وأيضًا العلامة ترتليان(93) بعد حديثه عن العماد يقول: [بعد الخروج من الجُرن نُدهن في الحال بمسحة مكرسة.] ويقول: [بعد هذا تُوضع اليد علينا في منح البركة والابتهال، مستدعين الروح القدس.]
كما يقول(94): [غُسل الجسد لكي تتطهر النفس!
دُهن الجسد لكي تتقدس النفس!
رشم الجسد (بالصليب) لكي تُحفظ النفس!
وُضع اليد عليه لكي تستنير النفس بالروح!]
يقول الشهيد كبريانوس(95): [ينبغي على من اعتمد أن يُمسح أيضًا، لكي يصير بواسطة المسحة ممسوحًا، ويأخذ نعمة المسيح.]
أما عن عمل هذا السرّ في حياتنا وفاعليته فينا، فقد سبق لي شرحه، وقد سبق أن عرضت لبعض أقوال الآباء فيه(96).
وإنما أكتفي هنا بالقول أن هذا الرشم يتم على جميع أعضاء الجسد لكي تصير كل الأعضاء والحواس، وكل طاقات النفس قدس للرب.
بالميرون انتقلنا من ملكيتنا لذواتنا لنصير بكليتنا ملكًا للرب.
وقد شرح القديس كيرلس المعنى الرمزي لكل رشم كما سنرى في مقالاته عن الأسرار إن شاء الرب وعشنا.
حقًا لقد اختلفت الكنائس في أماكن الرشم، لكن الجميع اتفق على ضرورتها، خاصة رشم جبهة المعمد بعلامة الصليب. ويسميها القديس كيرلس بـ"العلامة الملوكية"، "السمة الملوكية التي تحملها جبهة جنود المسيح"، "ختم التبعية للروح القدس"(97).

عاشرًا: منظر روحي سماوي

بعد إتمام سرَّي العماد والميرون يلبس المعمَّدون الجدد ثيابًا بيضاء، ويحملون المشاعل. في هذه اللحظات تدوي في الكنيسة تسابيح الفرح والتهليل. وكما يقول القديس كيرلس(98): [إن السماء ذاتها تتهلل والملائكة السمائيون يرددون "طوبى للذي غفر إثمه وسترت خطيته".]
وفي طقس الكنيسة إلى اليوم ينشد الشمامسة قائلين للمعمد: "أكسيوس، أكسيوس، أكسيوس"، أي مستحق، مستحق، مستحق. بدم المسيح صار له هذا الاستحقاق أن يدعى ابن لله.
في طقس الكنيسة إلى الآن توجد تسابيح شكر لله من أجل نعمه على بني البشر، كما يلبس المعمَّدون أكاليل، هي رمز لحياة النصرة التي بدأت منذ لحظة العماد، لكنها لا تكمل إلاّ خلال الجهاد ضد إبليس وشروره حتى النفس الأخير، حيث تنطلق النفس إلى الفردوس منتظرة إكليل مجد أبدي في كماله.
ثم يدخل الكل بين صفوف المؤمنين فتمتلئ الكنيسة، ويشترك الكل معًا في التناول من الأسرار المقدسة.
يا لها من فرحة الشعب كله!
يرون كنيسة الله التي لا تشيخ، بل ككرمةٍ مخصبةٍ دائمة الإثمار.
يرونهم لابسين الثياب البيضاء، فيذكر كل منهم ثوبه المقدس الذي تسلّمه يومًا عند عماده، عربونًا للثوب السماوي!
وإذ يتطلعون إلى الشموع، ترتفع أنظارهم إلى النور الحقيقي، ذاكرين أنهم أبناء نور، لا تليق بهم أعمال الظلمة.
يسمعون تسابيح الفرح، فتهتز أصوات الكل: ملائكة السماء، أبناء الفردوس المؤمنون، المعمَّدون حديثًا... بفرح وتسبيح وشكر لله محب البشر!

حادي عشر: أسبوع الثياب البيضاء

بعد التناول يبقى المعمَّدون الجدد أسبوعًا كاملًا في الكنيسة لا يخلعون فيه ثيابهم البيضاء، أسبوع الفرح بميلادهم الجديد.
وأخيرًا نختتم قولنا بما ذكرته الراهبة اثيريه الأسبانية(99) التي جاءت إلى القدس في القرن الرابع [عندما تأتي أيام الفصح ولمدة ثمانية أيام يتوجه المعمَّدون مرتّلين الأناشيد إلى كنيسة القيامة، وبعد الانتهاء من الطقوس التي بعدها يخرج غير المعمَّدين تُقام صلاة خاصة ويبارك الأسقف المؤمنين ثم يقف وراء الحاجز الذي يقوم أمام مغارة القيامة ويشرح وهو مستند على هذه المغارة كل ما يُعمل في العماد.
وفي هذه اللحظة لا يجوز للموعوظين أن يدخلوا كنيسة القيامة، وللمعمدين حديثًا والمؤمنين فقط الذين يريدون سماع العظات عن الأسرار أن يدخلوا وحدهم.
فتغلق الأبواب لكي لا يدخل أحد الموعوظين، بينما الأسقف يشرح كل هذه المسائل، يهتف السامعون له بأصوات قوية بحيث تُسمع في خارج الكنيسة، لأنه يشرح لهم هكذا شرحًا واضحًا وقويًا، حتى أنه لا يستطيع أحد أن يحبس شعوره أمام ما يسمعه!]

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:35 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

مقالاته لطالبي العماد: مقال افتتاحي



مقالاته لطالبي العماد

  1. مقال افتتاحي: البنيان الروحي
  2. المقال الأول: اغتسلوا، تنقوا
  3. المقال الثاني: التوبة وغفران الخطية
  4. المقال الثالث: في العماد
  5. المقال الرابع: في البنود العشر التعليمية
  6. المقال الخامس: الإيمان
  7. المقال السادس: وحدانية الله
  8. المقال السابع: في الله الآب
  9. المقال الثامن: القدير: الله العظيم القوي
  10. المقال التاسع: خالق السماء والأرض، ما يُري وما لا يُرى
  11. المقال العاشر: نؤمن برب واحد يسوع المسيح
  12. المقال الحادي عشر: ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، به كان كل شيء
  13. المقال الثاني عشر: تجسد وتأنس
  14. المقال الثالث عشر: صلب ودفن
  15. المقال الرابع عشر: وقام من الأموات في اليوم الثالث وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب
  16. المقال الخامس عشر: سيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء
  17. المقال السادس عشر: الروح القدس الواحد؛ المعزي، الذي تحدث في الأنبياء
  18. المقال السابع عشر: الروح القدس
  19. المقال الثامن عشر: كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية


مقال افتتاحي



تقديم

هذا المقال الافتتاحي الذي كتبه القديس كيرلس هو بداية الحديث مع طالبي العماد، في اليوم الأول من الأربعاء المقدسة (أربعاء البصخة)، حيث يحدثهم حديثًا مجملًا مختصرًا عن المعمودية والجهاد، فيتحدث عن:
أولًا: عدم الدخول في المعمودية بنيّة غير خلاص النفس.

أ. فلا يكون بدافع شرير كما فعل سيمون الساحر.
ب. ولا يكون الدافع مجرد حب الاستطلاع ليرى ما يناله المسيحيون.
ج. ولا يكون الدافع التودد إلى إنسانٍ، كمن يتعمد لمجرد الزواج من إنسانٍ مسيحي، أو بقصد التودد إلى سيد مسيحي.
ثانيًا: فاعلية النعمة وعملها في حياة المؤمن

ثالثًا: المعمودية كباعثٍ للمثابرة

أ. التلاوات والصلوات.
ب. الجهاد في الحرب الروحية.
ج. مداومة التعليم.
د. مخافة بيت الرب.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:40 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

البنيان الروحي






مقال افتتاحي


1. رائحة المعمودية الذكية


ها هي رائحة السعادة تنبعث منكم يا من تتقبلون الاستنارة!
ها أنتم تستعدون لقطف الأزهار الروحية(4)، لتضفروا منها أكاليل سمائية! إنه يفوح فيكم شذا الروح القدس (نش 2: 12)!
إنكم تجتمعون في بهو قصر الملك(5)، ليت الملك بنفسه يقودكم!
الآن تظهر الأزهار على الأشجار، ليت الثمر يكون كاملًا! إذ صار لكم:
تسجيل أسمائكم (في قوائم طالبي العماد)،
دعوتكم للخدمة (في جيش المسيح)،
حمل مشاعل كوكب العرس،
شوق إلى الوطن السمائي،
نيّة صالحة ورجاء مرافق...!
الله سخي جدًا في هباته، لكنه ينتظر الإرادة الصالحة لكل أحدٍ. لذلك يضيف الرسول قائلًا: "الذين هم مدعون حسب قصده" في قوله الذي لم يكذب فيه "كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو 8: 28).
إن إخلاص نيّتك يجعلك مدعوًا.
أما إذا كنت ها هنا بجسدك (بين صفوف طالبي العماد) دون ذهنك فلن تنتفع شيئًا.
2. مثال لمن يعتمد بنيّة شريرة

جاء سيمون الساحر يومًا إلى الجرن (أع 8: 13)، واعتمد دون أن يستنير، فمع أنه غطس بجسده في الماء، لكن قلبه لم يستنر بالروح. لقد نزل بجسده وصعد، أما نفسه فلم تُدفن مع المسيح ولا قامت معه (رو 6: 4؛ كو 2: 12).
ها أنا أقدم لكم مثالًا لساقط حتى لا تسقطوا أنتم. فإن ما حدث كان عبرة لأجل تعليم المتقرّبين لهذا اليوم (يوم العماد).
ليته إذن لا يكون بينكم من يجرب نعمة الله، لئلا ينبع فيه أصل مرارة ويصنع انزعاجًا! (عب 12: 15)
ليته لا يدخل أحدكم وهو يقول: لأنظر ماذا يعمل المؤمنون! لأدخل وأرى حتى أعرف ماذا يحدث؟! (أي يدخل لمجرد حب الاستطلاع).
أتظن إنك ترى الآخرين وأنت (في نيتك أن) لا ترى؟! أما تعلم أنك وأنت تفحص ما يحدث معهم، يفحص الله قلبك؟!
3. مثال لإنسان يعتمد لمجرد حب الاستطلاع

جاء في الإنجيل أن إنسانًا دخل مرة إلى وليمة العرس يستطلعها(6)، وقد ارتدى ثوبًا غير لائق. دخل وجلس وأكل، إذ سمح له العريس بذلك. كان يليق به لما رأى الكل لابسين ثيابًا بيضاء أن يرتدي ثوبًا مثلهم، لكنه اشترك معهم في الطعام دون الهيئة والنيّة.
والعريس مع سخائه هكذا فهو ليس بعديم الفطنة، إذ بينما كان يسير بين الضيوف ويلاحظهم... رأى إنسانًا غريبًا غير مرتد ثوب العرس، فقال له: "يا صاحب. كيف أتيت إلى هنا؟ وبأي وجه؟(7) وبأي ضمير أتيت؟! هل دخلت هكذا لأن الحارس لم يمنعك من الدخول بسبب وجود صاحب الوليمة؟ أم أنك تجهل الزي اللائق بدخولك الوليمة؟! ألم تتعلم هذا مما رأته عيناك حين دخلت ونظرت ثياب الضيوف المتألقة؟! أما كان يليق بك أن ترجع في الوقت المناسب لكي تعود وتدخل أيضًا في الوقت المناسب؟! لكن لأنك دخلت بغير لياقة تخرج". وهكذا أمر عبيده قائلًا: "أوثقوا قدميه اللتين اقتحمتا الموضع بوقاحة. اربطوا يديه اللتين لم تعرفا كيف تلبسانه الثوب اللامع. اطرحوه في الظلمة الخارجية لأنه غير مستحق لمشاعل العرس".
لقد رأيتم ما حدث مع هذا الرجل، فاسلكوا أنتم في الطريق الآمن.
4. لا تعتمد بنية خاطئة

إننا عبيد نقبل كل من يتقدم إلينا، كبوابين نترك الأبواب مفتوحة.
هل تمكنت من الدخول بنفس ملوثة بالخطايا ونيّة دنسه؟ لقد سُمح لك بذلك، وسُجل اسمك.
أخبرني، هل ترى هيبة اجتماعنا؟! هل ترى نظامه وتدابيره(8)؟! وقراءات الأسفار المقدسة(9)، وحضور المكرّسين(10)، ونظام تعليمنا؟ إذن فلتخزَ في هذا المكان (الذي اقتحمته) وتعلَّم مما تراه!
أخرج الآن بلياقة (أي لا تتعجل الدخول في صفوف طالبي العماد وأنت بنيه شريرة)، وادخل غدًا وأنت أكثر استعدادًا.
إن كان ثوب نفسك هو "الطمع"، البس آخر غيره وتعال اخلع ثوبك القديم ولا ترتده.
أرجوك أن تخلع الزنا والنجاسة، وتلبس ثوب النقاوة المتألق.
إنني أوصيك بهذا قبل أن يدخل العريس يسوع ويتطلع إلى ثوبك.
إنني اترك لك زمانًا طويلًا للتوبة. إنها فرصة كافية لك كي تخلع وتغسل وتلبس وتدخل!
لكنك إن بقيت مقاومًا بنيّة شريرة، فإن المتكلم لا يكون مسئولًا، بل أنت تحرم نفسك من النعمة، إذ تتقبل الماء (ونيّتك شريرة) لا يقبلك الروح(11).
إن شعر أحد بجرحه فليأخذ المرهم، وإن كان ساقطًا فليقم!
ليته لا يكون بينكم سيمون، ولا رياء، ولا حبًا للاستطلاع مملوء بلادة من جهة هذا الأمر.
5. العماد بقصد التودد للغير


... قد يحدث أن رجلًا يرغب في التودد إلى امرأة، فيأتي بهذا الدافع. ويمكن أن نقول نفس الأمر لامرأة، أو قد يأتي عبد إرضاء لسيده أو صديق ليبهج صديقه.
إنني أقبل هذا كَطُعم الصنارة. أقبلك بالرغم من مجيئك بنيّة غير سليمة، إذ لي وطيد الأمل إنك ستخلص.
ربما لا تعرف إلى أين قد أتيت؟ ولا في أي شبكة أنت تُصطاد؟ إنك أتيت في داخل شباك الكنيسة! (مت 13: 47) لقد أُخذت حيًا فلا تهرب، لأن يسوع اصطادك كالسمكة لا لتُقتل بل لتصير بالموت حيًا.
يلزمك أن تموت وتقوم ثانية، إذ تسمع الرسول يقول: "أموت عن الخطية لكن أحيا في البرّ" (راجع رو 6: 11، 14). مُت عن خطاياك وعش للبرّ. عشْ هكذا اليوم.
6. يا لعظمة المعمودية!

أرجو أن تتأمل عظمة عطايا المسيح التي يشرِّفك بها. لقد كنت تدعى "موعوظًا"، كنت تسمع الكلمة تدوي حولك من الخارج، كنت تسمع الرجاء ولا تدركه، تسمع عن الأسرار ولا تفهمها، تسمع الأسفار المقدسة ولا تلمس أعماقها. هوذا لا يعود الصدى يدوي حولك، بل يكون في داخلك، لأن الروح الساكن فيك (رو 8: 9، 11) يجعل من ذهنك بيتًا لله.
عندما تقرأ عن الأسرار وتفهم ما لا تفهمه عنها الآن، اعلم أن هذا الأمر ليس بشيء هين. فبالرغم من أنك إنسان بائس تتقبل أحد ألقاب الله.
اسمع القديس بولس يقول "أمين هو الله" (1 كو 1: 9). ويقول سفر آخر: "هو أمين وعادل" (1 يو 1: 9)، فإذ ينال الإنسان لقب من ألقاب الله، أي "أمين". لهذا تنبأ المرتل في شخص الله قائلًا: "أنا قلت أنكم آلهة وبني العلي تُدعون". لكن أحذر لئلا يكون لك اللقب أنك "أمين" وأنت لك إرادة غير مؤمن "أي غير أمين في إرادتك".
إنك تدخل سباقًا، جاهد فقد لا تجد فرصة أخرى كهذه(13).
إن يوم زفافك (عمادك) أمام عينيك، ألاّ تريد أن تترك كل شيءٍ وتتفرغ لإعداد الوليمة؟! لقد اقترب يوم تكريس نفسك للعريس السماوي، أما تكف عن الانشغال بالأمور الزمنية حتى تربح الروحية؟!
7. معمودية واحدة!

إننا لا ننال المعمودية مرتين أو ثلاثًا... لأنه يوجد "رب واحد، وإيمان واحد، ومعمودية واحدة" (أف 4: 5)، فلا تُعاد المعمودية، إلاّ معمودية الهراطقة، إذ لا تحسب معمودية.
8. آمن بفاعلية المعمودية

لا يطلب الله منا سوى النيّة الصالحة.
لا تقل كيف تُمحى خطاياي؟ فإنني أقول بواسطة الإرادة(14) والإيمان.
أي طريق أقصر من هذا؟! لكن إن أعلنت شفتاك الإرادة (في التمتع بمغفرة الخطايا) وقلبك صامت، فإن الذي يدينك يعلم قلبك.
من اليوم كف عن كل ما هو رديء! كف لسانك عن أن ينطق بكلمات غير لائقة. أغمض عينك عن التطلع إلى الخطية والتجول فيما لا ينفع.
9. المعمودية والتلاوات

لتسرع قدماك بشغف إلى التعاليم(16) المستلمة، سواء تلك التي تسمعها أو تتلوها، فإن العمل بالنسبة لكم هو الخلاص.
لو كان لديك ذهب خام مخلوط بمواد أخرى مثل النحاس والقصدير والحديد والرصاص، وأنت تطلب ذهبًا نقيًا، فهل يمكن تنقيته بطريق آخر غير النار؟! هكذا لا يمكن للنفس أن تتنقى بدون التلاوات الإلهية المجمعة من الأسفار المقدسة.
لتستر وجهك(17) لكي يتحرر ذهنك، لئلا تزوغ عيناك، فلا ينضبط قلبك. لكن متى أغمضت عينيك لا يعوق شيء أيضًا أذنيك عن تقبل معاني الخلاص.
وكما أن المهرة في حرفة الصياغة ينفخون النار بأدوات دقيقة فيشعلونها تجاه الذهب الموضوع في البوتقة، وبهذا يبلغون غايتهم، هكذا بنفس الطريقة أصحاب التلاوات يثيرون رعبًا بواسطة روح الرب، وتصير النفس كما لو كانت على نار بوتقة الجسد، فيهرب الخصم الشيطان، ويسكن الخلاص ورجاء الحياة الأبدية، وعندئذ تتنقى النفس من خطاياها ويكون لها خلاص.
يا إخوة، ليتنا نسكن في رجاءٍ، ونسلم أنفسنا للرب ونترجاه، حتى يرى إله الكل غايتنا وينقينا من خطايانا، ويهبنا أمالًا صالحة فيما نحن عليه، ويعطينا توبة تنشئ خلاصًا.
الله يدعو، والدعوة هي لك أنت!
10. المعمودية والحرب الروحية


أصغ إلى التعاليم بكل طاقتك(18). ومع أنه يجدر بنا أن نطيل مقالنا لكنني لا أترك ذهنك يمل، فإنك تتسلم عدة حربية ضد قوة العدو، سلاحًا ضد الهراطقة، ضد اليهود والسامريين(19) والأمم.
إن لك أعداء كثيرين. تسلم سهامًا كثيرة ترشقهم بها، إذ يجدر بك أن تتعلم كيف تنازل اليونانيين(20)، وكيف تصارع الهراطقة وأيضًا اليهود والسامريين.
هوذا السلاح مُعد "سيف الروح" (أف 6: 17) مهيأ. يليق بك أن تبسط يدك اليمنى بطريقة صالحة لكي تحارب حرب الله، وتغلب القوات المقاومة وتصير (حصنًا) منيعًا يصد كل محاولة للهراطقة.
11. المعمودية وملازمة التعليم

دعني أقدم لك هذه الوصية أيضًا. اعرف التعاليم(21)، واحفظها إلى الأبد.
لا تظنها عظات عادية، فإن العظات العادية مع كونها صالحة وتستحق المديح، لكننا إن أهملناها اليوم ندرسها غدًا. أما التعاليم بخصوص جرن المعمودية التي نقدمها لك في حلقات مسلسلة إن أهملتها اليوم متى تدرسها كما ينبغي؟!
تصور أن الآن فصل غرس الأشجار، فإننا إن لم نحفر، ونحفر بعمقٍ، كيف نقدر أن نغرس الشجرة بطريقة سليمة إن غرسناها بطريقة خاطئة (وضاع وقت الغرس)؟!
التعليم نوع من البناء، إن لم يرتبط بعضه مع البعض بربطات منتظمة يكون البيت معيبًا، ويصير البناء غير سليمٍ، ويؤول عملنا السابق إلى لا شيء.
إذن يلزمنا أن نُلحق الحجر بحجرٍ، ونزوج الزاوية بأخرى، وخلال اللمسات الأخيرة لإزالة الزيادات يصير البناء منسقًا، هكذا بنفس الطريقة نجلب المعرفة كما لو كانت حجارة، فنُسمعك عن الله الحي، والدينونة، والمسيح، والقيامة... وأمور أخرى كثيرة يلزم تتابع مناقشتها، هذه التي نحبها واحدة فواحدة حتى يتهيأ لنا بناء مترابط متناسق، فإن لم تتهيأ (التعاليم) في وحدة واحدة، ونرتبها كما يليق التعليم الأول فالثاني... فإن البناء يُعد لكنه لا يكون سليمًا.
12. نقدم كل تعليمٍ في الوقت المناسب

عندما تتسلم تعليمًا، إن سألك موعوظ من الخارج(22) قائلًا لك: ماذا يقول المعلمون؟ لا تجبه بشيءٍ. إننا نسلمك سرًا ورجاء في الحياة المقبلة، احفظ السرّ لذاك الذي يهبك المكافأة.
لا يقول لك أحد: ماذا يصيبك لو عرفته أنا أيضًا؟ فإنه كالمريض الذي يطلب خمرًا، فإذ يأخذه في وقت غير مناسب يحدث له هذيان، وبهذا يتحقق شران: المريض يموت والطبيب يُلام! هكذا أيضًا متى سمع الموعوظ شيئًا من المؤمن يصير في حالة هذيان (إذ لا يفهم ما يسمعه، ويجد فيه خطأ، ويتهكم على ما يسمعه)، ويُدان المؤمن كخائنٍ.
أنت الآن على الشاطئ، احذر من أن تقول شيئًا في الخارج، لا لأن ما تقوله لا يستحق أن يُقال، بل لأن الأذن لم تتهيأ للسماع له.
أكنت يومًا ما موعوظًا، ولم أخبرك بما أعلنه لك الآن.
إنك ستختبر كيف أن أمور تعاليمنا عالية، وعندئذ تدرك أن الموعوظين لم يتأهلوا بعد لسماعها.
13. المعمودية والاهتمام بخلاص النفس

أنتم الذين سُجلت أسماؤكم تصيرون أبناء وبنات أم واحدة. عندما تدخلون إلى وقت التلاوات، فليتكلم كل واحدٍ منكم بما هو للصلاح. وإن لم يأتِ أحدكم في دوره فلتبحثوا عنه، لأنه متى دعيتم إلى وليمة أما تنتظرون حتى يأتي زميلكم الضعيف؟! إن كان لك أخ أما تطلب خيره؟!
لا تنهمكوا في أمور باطلة، فلا تنشغلوا (في وقت الأربعين المقدسة) بما يحدث في المدينة أو القرية أو مع الملك أو الأسقف أو الكاهن. انظروا إلى فوق واطلبوا ما تحتاجون إليه في هذه الساعة التي أنتم فيها.
لتصمتوا ولتعرفوا إني أنا الله!

أن رأيتم المؤمنين يخدمون... وهم مطمئنون، فلتعترفوا أنهم في ملكية النعمة... أما أنتم فإلى الآن على كفة ميزان، قد تقبلون وقد لا تقبلون، فلا تقلدوا من تحرروا من القلق، إنما اطلبوا المخافة.
14. آداب الحضور في الكنيسة

عندما تتم التلاوة، فإلى أن يجيء دور الآخرين يجب أن يبقى الرجال مع الرجال والنساء مع النساء(23).
إنكم محتاجون أن أقدم لكم فلك نوح كمثالٍ، إذ كان فيه نوح وبنوه، وزوجته ونساء بنيه. فمع أن الفلك واحد والباب مغلق، لكن كل الأمور فيه كانت مرتبة ترتيبًا حسنًا.
هكذا متى أغلقت الكنيسة وأنتم في داخلها، لينفصل الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء، لئلا يكون علة خلاصكم فرصة للهلاك. إن وجد عذر مقبول لجلوسكم مع بعضكم البعض (أي جلوس رجل مع امرأة) فلتطرد شهواتكم!(24)
بالأحرى ليت الرجال عند جلوسهم يكون معهم كتابًا مفيدًا، واحد يقرأ والآخر يستمع، وإن لم يوجد كتاب فليصل واحد وينطق آخر بكلام نافع.
كذلك ليت الحدَثات يجلسن معًا بنفس الطريقة، يسبحن أو يقرأن بهدوء، فتتحرك شفاهن دون أن يسمع أحد أصواتهن، إذ لا يُسمح للمرأة أن تتكلم في الكنيسة (1 كو 14: 34؛ 1 تى 2: 12).
وليتبع النساء المتزوجات نفس المثال ويصلين. لتتحرك شفاهن دون أن تُسمع أصواتهن حتى يوهب لهن "صموئيل"(25) -الذي معناه "الله الذي يسمع الصلاة"، إذ هكذا هو تفسير اسم "صموئيل"- وتلد نفوسهن العواقر الخلاص.
15. اقبلوا عمل الله

سأرى غيرة كل رجل وتقوى كل امرأة.
ليت ذهنكم يتنقى كما بنار في وقار! ليت نفوسكم تُصهر كالمعدن! ليت الشوائب تُزال، ويتبقى المعدن خالصًا. لينزع زغل الحديد، ويتبقى المعدن الحقيقي!
ليظهر الله لكم الليلة الظلام الذي يتلألأ كالنهار، إذ قيل عنه: "الظلمة لا تظلم لديك، الليل مثل النهار يضيء" (مز 139: 12). لينفتح باب الفردوس في وجه كل واحدٍ منكم، عندئذ تبتهجون بمياه المسيح(26) التي لها رائحة ذكية.
اقبلوا اسم المسيح(27)، وقوة الأمور الإلهية.
الآن أرجوكم أن ترفعوا عيون أذهانكم، فتروا طغمات الملائكة، والله رب الجميع جالسًا مع الآب عن يمينه والروح القدس...، تنظرون العروش والسلاطين يخدمون (الثالوث القدوس)، ترون كل واحدٍ وواحدة منكم سيخلص.
لتنصت آذانكم من الآن إلى الصوت المجيد الذي ستتغنى به الملائكة بسبب خلاصكم قائلة: "طوبى للذي غفر إثمه وسُترت خطيته"(28). وذلك عندما تدخلون ككواكب الكنيسة المتألقة جسدًا، ومتلألئة نفسًا.
عظيم هو العماد الذي يوهب لكم فإنه(29):
عتق الأسرى،
غفران المعاصي،
موت الخطية،
ميلاد جديد للنفس،
ثوب النور،
ختم مقدس لا ينفيك،
مركبة للسماوات،
بهجة الفردوس،
ترحيب في الملكوت،
عطية التبنّي!
لكن احذروا، فإنه توجد حيَّة في الخارج تترقب المارين. احترسوا لئلا تلدغكم بلدغات عدم الإيمان.
إنها إذ ترى كثيرين يقبلون الخلاص تلتمس أن تبتلعه منهم (1 بط 5: 8).
إنكم داخلون إلى أب الأرواح، لكنكم ستعبرون على هذه الحيّة.
كيف تعبرون عليها؟ كونوا "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام" (أف 6: 15)، حتى إذا لدغتكم لا تؤذيكم. فإذ يكون لكم إيمان حي ورجاء ثابت وصندل قوى تجتازون العدو وتدخلون إلى حضرة الرب.
هيئوا قلوبكم لتقبل التعليم من أجل شركة الأسرار المقدسة.
صلوا بأكثر مثابرة، لكي ما يجعلكم الله مستحقين للأسرار السمائية الخالدة. لا تنقطعوا عنها نهارًا وليلًا، بل عندما يُطرد النوم من عيونكم تحرر أذهانكم للصلاة. وإن ثار فيكم أي فكر معيب، حوّلوا أذهانكم إلى التأمل في الدينونة، فتتذكّرون الخلاص.
قدموا أذهانكم كلها للدراسة، حتى تحتقروا الأمور الدنيئة.
وإن قال لكم أحد: "هل أنت داخل لكي تغطس في الماء(30)؟ ألاّ توجد طرق أخرى للمدينة؟" أذكر هذا قول: "التنين الذي في البحر" (إش 27: 1) الذي يبث خداعاته ضدّك، فلا تنصت إلى شفتيه، بل أصغِ إلى الله الذي يعمل فيك.
لاحظوا أنفسكم إلى النهاية، حتى لا تسقطوا في الشباك، فتعيشوا في رجاء، وتصيروا وارثين للخلاص الأبدي.
16. أنتم عملنا

نحن نوصيكم ونعلمكم وأنتم كبناء لنا لا تكونوا خشبًا وعشبًا وقشًا حتى لا نفقد بناءنا فيحترق عملنا، بل كونوا ذهبًا وفضة وحجارة كريمة (1 كو 3: 12، 15).
مهمتي أن أتكلم، وعملكم أن تصغوا بذهنكم فيما أقول(31)، وتركزوه في الله ليجعلكم كاملين.
لنشدد أذهانكم وننهض نفوسكم على رجاء نوال الأبديات، والله الذي يعرف قلوبكم ويميز الصادق من المرائي قادر أن يحفظ من هو صادق النيّة، ويهب إيمانًا للمرائي، لأنه حتى غير المؤمن متى سلم قلبه لله قادر أن يهبه الإيمان.
ليوف الله الصك الذي عليكم (كو 2: 14) ويهبكم غفران معاصيكم السابقة، ويغرسكم في كنيسته، ويجندكم في خدمته، ويلبسكم سلاح البر (2 كو 6: 7)، ويغمركم بخيرات العهد الجديد السمائية، ويعطيكم ختم الروح القدس الذي لا يمحى على مرِّ الأزمنة، في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى الأبد. آمين.
إلي القارئ

هذه المقالات التعليمية موجهة إلى الذين يستنيرون، فتُعطى للموعوظين المتقدمين للعماد وللمؤمنين الذي اعتمدوا فعلًا لكي يقرأوها، لكنها لا تُقدم دفعة واحدة للموعوظين... وإن كتبت نسخة منها فاكتب هذه في المقدمة.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:43 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

اغتسلوا، تنقوا

المقال الأول

"اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني..." (إش 1: 16)

1. السماء تفرح بكم!

يتوق تلاميذ العهد الجديد وشركاء أسرار المسيح أن يكون لهم قلب جديد وروح جديد، ليس بحكم عملهم بل وبالنعمة أيضًا، إذ تعم السعادة سكان السماء. لأنه إن كان كقول الإنجيل: "يكون هناك فرح من أجل خاطئ واحد يتوب" (لو 15: 7)، فكم بالأكثر يسعد سكان السماء بخلاص نفوس كثيرة؟! إذ كما لو كنتم داخلين ممرًا صالحًا مجيدًا، راكضين بوقار في جهادٍ وورعٍ.
إن ابن الله الوحيد حّال هنا، ومستعد على الدوام أن يخلصكم، قائلًا: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28).
يا لابسي ثوب المعاصي الدنس، أيها المقيّدون بحبال خطاياكم، أنصتوا إلى صوت النبي القائل: "اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني" (إش 1: 16)، فإن طغمات الملائكة تترنم بسببكم قائلة: "طوبى لمن غفر إثمه، وسُترت خطيته" (مز 32: 1).
يا من تضيئون مشاعل الإيمان، لا تسمحوا لها أن تنطفئ بين أيديكم حتى يهبكم -ذاك الذي قديمًا على جبل الجلجثة المقدس فتح باب الفردوس للص بسبب إيمانه- أن تسبحوا ترنيمة العرس.

2. اخلعوا الإنسان العتيق

إن كان بينكم من هو عبد للخطية، فليستعد بالإيمان استعدادًا تامًا للميلاد الجديد في الحرية والتبني. وبخلع عبوديته لخطاياه المرذولة وارتدائه عبوديته للرب المطوّبة، يصير أهلًا لميراث ملكوت السماوات.
اخلعوا "الإنسان العتيق الفاسد حسب شهوات الغرور" (أف 4: 22) بالاعتراف، حتى تلبسوا "الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 3: 10).
بالإيمان خذوا "عربون الروح القدس" (2 كو 1: 22) "لكي يقبلوكم في المظال الأبدية" (راجع لو 16: 9).
تعالوا لتنالوا الختم السري حتى يعرفكم السيد بسهولة، وتكونوا محصيين بين قطيع المسيح المقدس الروحاني، ويكون مكانكم عن يمينه، فترثوا الحياة المعدة لكم. أما هؤلاء اللابسون ثوب خطاياهم الدنس فيبقون عن يساره، إذ لم يقتربوا بالمسيح إلى نعمة الله في الميلاد الجديد بالمعمودية. وإنني لا أعني بالميلاد الجديد ميلادًا جسديًا، بل ميلادًا روحيًا جديدًا للنفس، فوالدانا المنظوران يلدوننا حسب الجسد، أما أرواحنا فتُولد ميلادًا جديدًا بالإيمان. إذ "الريح تهب حيث تشاء" (يو 3: 8).
عندئذ متى وُجدتم مستحقين، تسمعون الصوت القائل: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين" (مت 25: 21)، وذلك إن كان ضميركم غير ملوث بدنس الرياء.

3. اخلعوا الرياء

إن ظن أحد الحاضرين في نفسه أن يجرب الله، فإنه يخدع نفسه ولا يختبر قوة الله.
تحرر يا إنسان من الرياء، وذلك من أجل فاحص القلوب والكُلى (مز 7: 9).

وكما أن الذين يتقدمون للحرب يفحصون أعمار المتقدمين للخدمة العسكرية ويختبرون لياقتهم البدنية، هكذا يختبر الرب نيّات الأرواح المجندة (ضد إبليس)، فإن وُجد في إحداها رياء خفيًا يطردها، إذ لا تصلح لخدمته الحقيقة، أما إن رأى من تستحق فإنه للحال يهبه نعمتها.
إنه لا يعطى القدس للكلاب (مت 7: 6)، لكن من رأى فيه ضميرًا صالحًا يهبه ختم الخلاص، الختم الذي يرعب الشياطين وتعرفه الملائكة، يهرب منه الأولون، ويتطلع إليه الآخرون كأقرباء... لذلك يليق بمن يتقبل هذا الختم الروحي المخلص أن تكون له الأخلاق اللائقة به. وكما أن القلم والسهم يحتجان إلى من يستخدمها، هكذا تحتاج الخدمة إلى أذهان مؤمنة تستخدمها.

4. تأمل عظمة المركز الجديد

إنك لا تتقبل درعًا فاسدًا، بل درعًا روحيًا!
منذ الآن تُزرع في فردوس غير منظور!
إنك تتسلم اسمًا جديدًا لم يكن لك من قبل، إذ كنت تُدعى موعوظًا، أما الآن فمؤمنًا!
من الآن فصاعدًا تُطعم في زيتونة روحية (رو 11: 24)، إذ قُطعت من الزيتونة البرية، وطُعِّمت في الزيتونة الجيدة،نُزعت من الخطايا إلى البرّ، ومن الأدناس إلى النقاوة.
ها أنت تصير شريكًا في الكرمة المقدسة! (يو 15: 1، 4، 5) حسنًا فإن ثبّت في الكرمة تنمو كغصنٍ مثمرٍ، وإن لم تثبت فيها تهلك بالنار.
إذن لتحمل ثمرًا باستحقاق! فلا يسمح الله أن يحل بك ما حلّ بشجرة التين العقيمة (مت 21: 19)، إذ لم يأتِ بعد المسيح (للدينونة)، ولا لعننا بسب عُقمنا.
لتكن لنا القدرة أن نقول: "أما أنا فمثل زيتونة مثمرة في بيت الله، توكلت على رحمة الله إلى الدهر والأبد" (راجع مز 52: 8)، وهنا لا نفهم الزيتونة بمعناها المادي، بل نفهمها ذهنيًا بكمال النور.
فإن كان الله يزرع ويسقي(34)، فإنه يليق بك أن تأتي بثمار. الله يهب نعمته، وأنت من جانبك تتقبلها وتحافظ عليها.
لا تحتقر النعمة من أجل مجّانيتها بل اقبلها واكتنزها بورع.

5. جاهد لتنال أكثر

الآن وقت للاعتراف. اعترف بما تقترفه بالقول أو بالعمل، نهارًا وليلًا. اعترف في وقت مقبول وفي يوم خلاص (2 كو 6: 2)، فتتسلم الكنز السماوي.
كرِّس وقتك للتلاوات، واظب على التعليم، تذكر ما تتلقنه، لأن ما يُقال لك هو ليس لأذنك فحسب، إنما بالإيمان اختمه في ذاكرتك.
أمحِ من ذهنك كل اهتمام أرضي(35)، فإنك تركض من أجل نفسك، إنك تطلب أمور العالم فقط، وهذه قليلة بينما يهبك الله الأمور العظيمة!
أطلب الأمور الحاضرة، لكن لتكن ثقتك في الأمور المقبلة.
العلّك ركضت حلقات من السنين هذا عددها منهمكًا في العمليات الباطلة، ولا تتفرغ في الأربعين يومًا للصلاة(36) من أجل نفسك؟!
يقول الكتاب: "كفوا واعلموا أني أنا الله" (مز 46: 10).
اعف نفسك من التفوّه بكلمات كثيرة باطلة، وامتنع عن الوشايات، ولا تمل أذنك إلى النمامين، بل بالأحرى كن متأهبًا للصلاة، وليظهر قلبك متشددًا في التدبير النسكي.
نقِ كأسك لتقبل فيضًا أكثر من النعمة! حقًا إن غفران الخطايا يوهب للجميع بالتساوي، لكن شركة الروح القدس تُوهب حسب إيمان كل إنسانٍ. فإن كنت تعمل قليلًا تنال قليلًا، وإن كثيرًا تكسب مكافأة عظيمة.
إذن اركض لأجل نفسك واهتم بها.

6. نصائح ووصايا

إن كان لك شيء على أحد أصفح عنه. فإذ تأتي هنا لنوال غفران خطاياك يلزمك أن تصفح لمن أخطأ ضدك. وإلا فبأي وجه تقول للرب: "اغفر لي خطاياي الكثيرة"، إن كنت لا تصفح عن أخطاء العبد رفيقك القليلة؟!
واظب على اجتماعات الكنيسة بنشاطٍ، ليس فقط في هذه الوقت حيث يطالبك الكهنة بالمثابرة على الحضور، بل وبعد أن تنال النعمة، لأنه إن كنت قبل نوالها تعمل عملًا صالحًا، أفما يليق بالأكثر بعد نوالها؟! إن كنت وأنت لم تُطعم بعد لك فرصة آمنة لكي تُسقى ويُعتنى بك، فكم بالأولى بعد تطعيمك؟!
صارع من أجل نفسك، خاصة في مثل هذه الأيام. أنعشها بالقراءات المقدسة، إذ يعد الرب لك مائدة روحية. عندئذ تقول مع المرتل: "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء، في مراعٍ خضرٍ يربضني، إلى مياه الراحة يوردني، يرد نفسي" (مز 23: 1-3)، حتى الملائكة أيضًا تشاركك فرحتك، والمسيح نفسه رئيس الكهنة الأعظم إذ يتقبل صدق عزيمتك يُحضرك أمام الآب قائلًا: "ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله" (عب 2: 13؛ إش 8: 18).
ليحفظك الرب موضع سرور في عينه، هذا الذي له المجد والسلطان إلى دهر الدهور الأبدية. آمين.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 03:52 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

التوبة وغفران الخطية


المقال الثاني


"بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون، فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًا وعدلًا، فحياة يحيا لا يموت..." (حز 18: 20-23).

1. الخطية لهيب نار متقدة!

الخطية مرعبة للغاية، والعصيان مرض النفس الوبيل، إذ يشل طاقاتها خفية، ويجعلها مستحقة للنار الأبدية.
إن الشر الذي يختاره الإنسان بنفسه هو نتاج الإرادة، وتظهر إرادتنا الحرة في ارتكاب الخطية من قول النبي بوضوح: "وأنا قد غرستك كرمة مثمرة، شجرة كاملة، فكيف تحولتِ إلى شجرةٍ بريةٍ وكرمةٍ غريبةٍ؟!" [راجع (إر 2: 21)] كان الزرع جيدًا ولكن الثمر جاء رديئا! فالزارع بريء، وأمّا الشجرة فتُحرق بالنار، لأنها زُرعت جيدة وبإرادتها حملت ثمرًا رديئًا. وكما يقول المبشر: "الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" (جا 7: 29). ويقول الرسول: "لأننا نحن عمله، مخلوقين... لأعمال صالحة وقد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أف 2: 1-2). فالخالق صالح، خلقنا لأعمال صالحة، أما الخليقة فانحرفت إلى الشر بإرادتها الحرة.
إذن الخطية كما قلنا شر مرعب للغاية، لكنها ليست بالمرض المستعصى شفاءه. هي مرعبة لمن يلتصق بها، لكن من يتركها بالتوبة يُشفى منها بسهولة.
تصور إنسانًا يحمل نارًا في يديه، فإنه مادام يحمل الفحم يتأكد احتراقه، وإن ألقاها يلقى اللهيب أيضًا! لكن أن ظن أحد أنه لا يحترق إن أخطأ، فإن الكتاب المقدس يخبره قائلًا: "أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟!" (أم 6: 27)
الخطية تحرق طاقات النفس (تكسر عظام الذهن الروحية، وتظلم نور القلب)(37).

2. اهتم بحياتك الداخلية!

قد يقول قائل: ماذا يمكن أن تكون الخطية؟ هل هي شيء؟ هل هي ملاك؟ هل هي شيطان؟ ما هذه التي تعمل في داخلنا؟ يا إنسان، إنها ليست عدوًا يحاربك من الخارج، بل هي برعم يبزغ في داخلك. (احفظ نفسك(38))، ولا تنشغل بأمر آخر، فستنتهي أعمال اللصوصية(39) (التي للخطية).
تذكر الدينونة، فلا يسيطر عليك الزنا ولا الدعارة ولا القتل ولا عصيان الشريعة، أما إن نسيت الله فالشر يراودك وترتكب المعصية.

3. الشيطان يخدعنا بأفكاره

لست وحدك صانع الشر، بل يوجد من يدفعك إليه بعنف. إنه الشيطان الذي يقترح عليك الشر دون أن تكون له سيادة إلزامية على من يقبله. لذلك يقول المبشر: "إن صعدَت عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك"(40).
أغلق بابك واطرده بعيدًا عنك، فلا يصنع بك سوءًا، أما إن قبلت فكر الشهوة بغير مبالاة، فستتغلغل جذوره فيك، ويُفتن ذهنك بحيله، ويهوي بك في هاوية الشرور.
قد تقول: أنا مؤمن، لا تقدر الشهوة أن تصعد إليّ حتى وإن فكرت فيها كثيرًا! أما تعلم أن جذع الشجرة بالمقاومة المستمرة يستطيع أن يحطم حتى الصخرة؟! فلا تسمح للبذرة أن توجد فيك حتى لا تمزق إيمانك وتحطمه. اقتلع الشر بجذره قبلما يزهر، لئلا بإهمالك في البداية تحتاج بعد ذلك إلى فؤوس ونار.
عالج عينيك في الوقت المناسب عندما يلتهبان، لئلا تصير أعمى، وتحتاج إلى طبيب!

4. الشيطان يجرف معه البشرية

الشيطان هو المصدر الأول للخطية وأب الأشرار.
هذا القول ليس من عندي، بل هو قول الرب. "لأن إبليس من البدء يخطئ" (1 يو 3: 8، يو 8: 44)، إذًا لم يخطئ أحد من قبله. لكنه لم يخطئ عن إلزام، كأن فيه نزوع طبيعي للخطية، وإلا ارتدت علة الخطيئة إلى خالقه أيضًا، إنما هو خُلق صالحًا، وبإرادته الحرة صار إبليس، متقبلًا هذا الاسم من عمله.
كان رئيس ملائكة، لكنه دُعي "إبليس" بسبب أضاليله. كان خادم الله الصالح، وقد صار مدعوًا شيطانًا بحق، لأن كلمة "شيطان" معناها "خصم".
هذا التعليم ليس من عندي، بل هو تعليم حزقيال النبي الموحى به، إذ رفع مرثاة عليه قائلًا: "كنت خاتم صورة الله، وتاج البهاء، وُلدت في الفردوس" [(راجع (حز 28: 12-17)]. يعود فيقول بعد قليل: "عشت بلا عيب في طرقك من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم". إنه بحق يقول: "حتى وُجد فيك إثم"، إذ لم يُجلب عليه من الخارج، بل هو جلبه لنفسه.
وللتوّ أشار إلى السبب قائلًا: "قد ارتفع قلبك لجمالك بسبب كثرة خطاياك، طعنت فطرحت على الأرض". هذا القول يتفق مع قول الرب في الإنجيل: "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء" (لو 10: 18). ها أنت ترى اتفاق العهدين القديم والجديد!
عندما طُرد سَحَبَ معه كثيرين، إذ يبث الشهوات فيمن ينصتون إليه. منه تنبع الدعارة والزنا وكل أنواع الشر. خلاله طُرد أبونا بسبب العصيان، وتحول عن الفردوس ذي الثمر العجيب إلى الأرض المنبتة شوكًا.

الرب يردنا ويخلصنا

ماذا إذن؟ قد يقول قائل: لقد سُلبنا وفُقدنا، أما من خلاص لنا؟! لقد سقطنا، أما يمكن أن نقوم؟! صرنا عُمى، أما يمكن أن نشفي؟ وفى كلمة، نحن أموات ألا يمكن أن نقوم؟! الذي أقام لعازر بعد موته بأربعة أيام ونتنه، ألا يقدر بالأكثر أن يقيمك يا إنسان وأنت حي؟!
ليتنا لا نستهين بأنفسنا يا إخوة! ليتنا لا نهجر أنفسنا، فنسلك في اليأس. إذ مخيف هو عدم الإيمان برجاء التوبة. لأن من لا يتطلع إلى (يرجو) الخلاص لا يكف عن أن يزيد الشر شرًا، أما من يترجى الشفاء بسهولة يقدر أن يعتني بنفسه.
اللص الذي لا يترجى العفو ييأس، أما من يرجوه فغالبًا ما يأتي إلى التوبة.
ماذا إذن؟! هل تنسلخ الأفعى عن جلدها، وأنت لا تخلع خطيتك؟!
إن كانت الأرض المملوءة شوكًا متي فُلحِّت جيدًا تصير خصبة، أفلا نترجّى نحن الخلاص؟
حاشا! بل بالأحرى طبيعتنا تربة صالحة للخلاص، إنما نحتاج إلى الإرادة!

6. الله يحبك!


الله محب البشر، لا يحبهم في مقاييس قليلة. لهذا لا تقل إنني ارتكبت الزنا والدعارة وفعلت خطايا فظيعة، ليس مرة بل مرات، فهل يغفر لي؟ هل يهبني عفوًا؟! اسمع ما يقوله المرتل: "ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك" (مز 31: 19)، فإن معاصيك المتراكمة لن تعلو مراحم الله الكثيرة. جراحاتك لن تغلب مهارة الطبيب الفائقة. سلِّم نفسك له بإيمان. أخبر الطبيب عن مرضك المزمن. قل أيضًا مثل داود: "قلت أعترف للرب بذنبي"، فيحدث معك ما قد حدث معه، فتقول للتو "أنت رفعت آثام خطيتي" (مز 32: 5).

7. أمثلة عن محبة الله لأناس ساقطين

يا من أتيت لسماع التعاليم متأخرًا، أتريد أن ترى محبة الله المترفقة؟ أتريد أن تنظر حنو الله وغنى طول أناته؟! اسمع ما حدث مع آدم.
آدم -أول خليقة الله البشرية- عصى الله، أما كان يمكن أن يُفرض عليه الموت فورًا؟! لكن أنظر ماذا فعل الله بالإنسان في محبته العظيمة؟ لقد طرده من الفردوس، إذ صار بالخطيئة غير مستحقٍ للعيش هناك، "وأقامه ليسكن مقابل الفردوس"(41) حتى متى تطلع إلى حيث سقط وتأمل ما كان عليه وما بلغ إليه، يخلص بالتوبة.
قايين أول مواليد البشر صار قاتلًا لأخيه، مخترعًا كل الشرور، وأول الحاسدين والقتلة. ومع هذا بماذا حكم الله عليه بعد أن أزال أخيه من الوجود؟ "تكون متنهدًا ومرتعبًا على الأرض" (راجع تك 4: 12). يا لبشاعة الإثم، ويا لخفة الحكم!

8. وفي الطوفان

هذه الأمور تكشف عن محبة الله المترفقة الحقيقية، لكنها قليلة إن قورنت بما يلي ذلك: تأمل ما حدث في أيام نوح فإن الجبابرة أخطأوا، وانتشر على الأرض شر عظيم بسببه حدث الطوفان. بقى الله يهدد خمسمائه عامًا، وفي المئة السادسة جاء بالطوفان على الأرض.
تأمل مدى اتساع محبة الله المترفقة على مدى هذه المئات من السنوات! أما كان يمكنه أن ينفذ في الحال ما قد صنعه بعد انتظار مئات السنين! لكنه أمد في الزمن لكي يهبهم مهلة للتوبة فلو أنهم تابوا لما أخفقوا في التمتع بمحبة الله المترفقة.

9. ترفقه براحاب الزانية الوثنية

تعال معي الآن إلى فئة أخرى خلصت بالتوبة.
قد تقول امرأة ما: لقد ارتكبت الزنا والدعارة ودنست جسدي بكل أنواع الترف والإفراط فهل لي خلاص؟ حولي عينيك إلى راحاب، وتطلعي أيضًا إلى الخلاص. إن كانت زانية عامة تزني علنًا خلصت بالتوبة، أفما تخلص بالتوبة والصوم من سقطت في الزنا قبل قبولها النعمة؟!

اسألي كيف خلصت؟ إنها فقط قالت: "الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت" (يش 2: 1). إنها تقول: "إلهكم" دون أن تجسر لتنسبه لنفسها بسبب حياتها المملوءة ضلالًا. وإن أردتم التأكد من خلاصها بشهادة من الكتاب المقدس فإنك تجد في سفر المزامير: "أذكر راحاب وبابل بين الذين يعرفونني"(42) (مز 87: 4).
يا لعظمة حنو الله المترفق، فإن الكتاب المقدس يشير حتى إلى الزانيات. إنه لا يقول: "اذكر راحاب وبابل" فقط بل يكمل "بين الذين يعرفونني"، فالخلاص نبلغه بالتوبة سواء كنا رجالًا أو نساء على قدم المساواة.

10. أمثلة أخرى

لا، بل وإن أخطأ الشعب كله. فهذا ليس بكثير على حنو الله المترفق فقد صنع الشعب (القديم) عجلًا، ومع ذلك لم يكف عن محبته(43). هم أنكروا الله، أما هو فلم ينكر نفسه...
ليس فقط الشعب، بل حتى هارون رئيس الكهنة أخطأ، إذ يقول موسى "وعلى هارون غضب الرب جدًا ليبيده فصليت أيضًا من أجل هارون في ذلك الوقت (فسامحه)". ماذا إذن؟ يصلى موسى من أجل رئيس كهنة مخطئ فيغلب الله (بالمحبة) بينما لا تقبل شفاعة يسوع ابنه الوحيد عند الآب؟! إن كان هرون لم يُمنع من الكهنوت السامي بسبب عصيانه، فهل تمنع من الدخول إلى الخلاص يا من أتيت من بين الأمم؟! فقط تب يا إنسان هكذا، فلا ترفضك النعمة!
عُد بلا خجل إلى طريقك الذي للحياة، فإن الله بحق محب للبشر، ولا تقدر كل الأزمنة(44) أن تخبر عن محبته المترفقة، بل وكل الألسنة إن اجتمعت معًا لا تستطيع أن تخبر بما يليق بها. وإنما نحن نخبركم قليلًا مما ورد بشأن محبته للبشر المتحننة...

11. ترفقه بداود الساقط

... تعال إلى داود الطوباوي واقبله مثالًا للتوبة. فبقدر ما كان عظيمًا سقط. إذ قام من نومه وأخذ يتمشى على السطح في المساء، تاركًا لنفسه أن ينظر بغير حرصٍ، فشعر بشهوة بشرية. لقد أكمل خطيته لكنه لم يمت بسببها، وذلك بسبب صراحته في الاعتراف بها، عندما جاءه ناثان النبي كمتهم مفاجئ له ليشفي جرحه. إنه يقول له بأن الرب غاضب وأنت تخطيء.
لقد عُرض الأمر على الملك الحاكم، فلم يتهاون داود الملك، إذ لم يهتم بمن يكلمه بل بالله الذي أرسله. إنه لم يتعجرف بحشود الجند المحيطين به، لأنه تطلع إلى جنود الرب الملائكية. لقد ارتعب إذ رأى من لا يُرى (عب 11: 7)، لهذا قال للرسول بل بالأحري أجاب الرب مرسله قائلًا: "أخطأت إلى الرب" (1 صم 12: 13).

أنظر إلى تواضع الملك! تأمل اعترافه... لقد حدث كل شيء على وجه السرعة، فما أن ظهر النبي كمتهم حتى أعترف الخاطئ بخطيئته، وإذ أسرع بالاعتراف نال الشفاء بأقصى سرعة! فناثان الذي هدد هو بنفسه نطق للحال: "الرب أيضًا قد نقل عنك خطيتك". يا لعظمة رقة مراحم الله...!

12. هكذا إذن أراحه النبي، لكن الطوباوي داود إذ سمعه يقول:

"الرب قد نقل عنك خطيتك"، لم يكف عن التوبة. ومع أنه كان ملكًا، لبس المسموح عوض الأرجوان، وجلس في الرماد عوض التاج الملكي... لا بل جعل الرماد طعامه، قائلًا: "إني قد أكلت الرماد مثل الخبز" (مز 102: 10). لقد غسل عينيه الشهوانيتين بالدموع قائلًا: "أعوِّم كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي" (مز 102: 7).
وعندما سأله موظفوه أن يأكل خبزًا لم يسمع لهم، بل بقي صائمًا سبعة أيام كاملة.
إن كان الملك قد اعترف هكذا، أفما يليق بك أيها الشخص العادي أن تعترف؟
أيضًا عند عصيان أبشالوم عليه كان أمامه طرق كثيرة للهروب، أما هو فاختار الهروب خلال جبل الزيتون (2 صم 15: 23)، وكأنه يناشد المخلص إذ من هناك صعد الرب إلى السماوات.
وعندما لعنه شخص بمرارة قال "دعوه" (2 صم 16: 10)، عالما أن من يغفر يُغفر له!

13. رحمته مع سليمان وآخاب ملك السامرة

لقد رأيت نفع الاعتراف. لقد أدركت كيف يوجد خلاص للتائبين.
سليمان أيضًا سقط، لكنه قال: "إني تُبت"(45).
أيضًا آخاب ملك السامرة، صار أشر عبدة الأوثان. صار إنسانًا وحشيًا قاتلًا للأنبياء(46)، غريبًا عن الصلاح، مغتصبًا حقوق الآخرين وكرومهم (1 مل 21: 19). لكنه عندما قتل نابال مخدوعًا من إيزابيل وجاءه إيليا النبي يهدده خلع ثيابه ولبس المسوح، فماذا قال الله الرحوم لإيليا؟ "هل رأيت كيف أتَّضَع (نُخس في قلبه) أخآب أمامي"؟ (1 مل 21: 29) وكان الله يريد أن يهدئ غيرة إيليا المتقدة من جهة التائب ويلطفها، إذ قال له: "لا أجلب الشر في أيامه".
ومع تأكده أنه لا يترك شره سامحه، ليس جهلًا بما سيكون عليه في المستقبل، بل كواهبٍ للغفران حسب التوبة المقدمة في ذلك الوقت. فإن عدل الله يقتضيه أن يحكم في كل قضية حسبما هي عليه في حينها.

14. ومع يربعام

وأيضًا يربعام كان قائمًا عند المذبح يقدم ضحايا للأوثان، يده ملطخة بالدماء، هذا عندما قبض علي النبي الذي وبخه، بخبرته أدرك قوة الواقف أمامه، فقال له: "تضرع إلى وجه الرب إلهك" (1 مل 13: 6) وبسبب هذا القول رجعت يده مرة أخرى كما كانت.
إن كان النبي شفي يربعام، أفما يستطيع المسيح أن يشفيك وينقذك من خطاياك؟!


ومع منسى

وأيضًا كان منسى شريرًا إلى أبعد حد (2 مل 21: 2-7). لقد نشر إشعياء ومزقه، وتدنس بكل العبادات الوثنية، ولطخ أورشليم بدم الأبرياء، لكنه عندما أُسر استخدم خبرته في محنته مستعينًا بالتوبة كعلاج، إذ يقول الكتاب عنه أنه تواضع جدًا أمام الرب، وصلى إليه، فاستجاب له، ورده إلي مملكته (2 أي 33: 12). فإن كانت التوبة قد أنقذت من نشر النبي ومزقه، أفما تخلصك أنت يا مَنْ لم ترتكب مثل هذا الشر العظيم؟!

15. ومع حزقيا

أتريد أن تعرف ما هي قوة التوبة؟
أتريد أن تعلم سلاح الخلاص القوي وتدرك قوة الاعتراف؟
حزقيا بالاعتراف ضرب خمسة وثمانين ألفًا ومائة من أعدائه (2 مل 19: 25). يا له من أمر عظيم، لكنه يحسب قليلًا بالنسبة لما أذكره لك. إذ بالتوبة استطاع الملك أن يحصل على تغيير في القول الإلهي الذي نطق به فعلًا. إذ لما مرض قال له إشعياء: "أوصِ بيتك، لأنك تموت ولا تعيش" (2 مل 20: 1). هل يمكن أن يقوم استثناء بعد، أو يوجد رجاء شفاء بعدما قال له النبي: "لأنك تموت"؟!
لكن حزقيا لم يكف عن التوبة. وبتذكره ما هو مكتوب: "متى رجعت وبكيت تخلص" (راجع إش 30: 15)، اتجه بوجهه إلى الحائط وهو على سريره، رافعًا ذهنه إلى السماء (حيث لا تعوق الحائط بلوغ الصلوات بورعٍ إلى السماء) وقال: "أذكرني يا رب. يكفي أن تذكرني فأشفي!" (راجع إشعياء 38)
إنك لا تخضع للزمان، بل أنت خالق القانون. أنت واهب قانون الحياة وتدبيرها حسب إرادتك، إذ لا تعتمد حياتنا على يوم ميلادنا، ولا على اقتران النجوم معًا في برجٍ واحد كما يظن البعض في غباوة.
ذاك الذي كان يمكنه إلاّ يرجو الحياة بسبب العبارة النبوية، صار له خمسة عشر عامًا مضافة إلى حياته، وكانت العلامة أن الشمس رجعت إلى خلف عشر درجات (2 مل 20: 11).
حسنًا! من أجل حزقيا رجعت، وأمّا من أجل المسيح انكسفت. لم ترجع درجات بل انكسفت معلنة بذلك الفارق بين حزقيا ويسوع!

الأول أبطل قرار الله (بالتوبة)، أفما يقدر يسوع على غفران الخطايا؟!
أرجعوا ونوحوا على أنفسكم! أغلقوا أبوابكم وصلوا لكي يغفر لكم!
صلوا لكي ينزع عنكم النار المحرقة، لأن له السلطان أن يطفئ حتى النار، وله قوة أن يبكم حتى الأسود!

16. مع حنانيا وصاحبيه

لكنك إن كنت لا تؤمن بهذا، فتأمل ما حدث مع حنانيا وصاحبيه، أي عواصف أطفأوها(47)؟! كم من مياه كانت تحتاج إليها النار لإطفاء لهيبها الذي ارتفع تسعة وأربعين ذراعًا إلى فوق(48)؟! فإذا ارتفع اللهب قليلًا(49) إلى العُلى، تدفق عليها الإيمان، إذ تكلموا ضد كل الشرور(50). إذن توبتهم أطفأت اللهب(51).
إن كنت لا تؤمن بقدرة التوبة على إطفاء نار جهنم فلتتعلم هذا من حنانيا.
لكن قد يقول أحد السامعين الحاذقين: هؤلاء الفتية خلصهم الله بعدل، إذ هم رفضوا الاشتراك في عبادة الأصنام فوهبهم الله هذا السلطان.
إذ يثور هذا الفكر فإنني أقدم مثلًا آخر بخصوص التوبة(52)

17. ماذا تظن في نبوخذنصر؟

ألم تسمع عنه في الكتاب المقدس كيف كان متعطشًا لسفك الدماء، وحشًا كالأسد(53)؟! ألم تسمع عنه أنه أخرج إلى النور عظام الملوك من قبورهم (إر 8: 1؛ با 2: 25). ألم تسمع(54) أنه حمل الشعب إلى السبي؟ ألم تسمع أنه خلع عيني الملك بعدما أراه أولاده يذبحون؟! (2 مل 25: 7)
ألم تسمع أنه كسر الشاروبيم إلى أجزاء؟! لست أقصد الشاروبيم غير المنظورين(55) -هذا ما لا يخطر على الفكر قط يا إنسان(56)- بل الصورتين المنحوتتين على غطاء التابوت الذي في وسطه يتكلم الله بصوته(57)، كما داس تحت قدميه حجاب القدس(58)، وأخذ مذبح البخور وحمله إلى مذبح الأوثان؟! (2 أي 26: 7) أخذ كل التقدمات، والهيكل حرقه من أساساته!(59)
أية عقوبة شديدة يستحقها هذا من أجل ذبحه الملوك وحرقه القدس وسبيه الناس وحمله الأواني المقدسة إلى بيت الأوثان؟! أما يستحق الموت عشرات الألوف؟!


18. لقد رأيت تفاقم شروره! تعال لترى محبة الله الحانية! لقد تحول إلى وحش بري(60)، وتأدب بالسكنى في البرية لكي يخلص. لقد صارت له مخالب كالأسد(61)، إذ كان زائرًا علي القدس. أكل العشب كالثور، إذ كان بهيمي لا يعرف من الذي أعطاه المملكة. تبلل جسده بالندي، لأنه رأى النار تنطفئ بالندي ولم يؤمن(62).
وماذا حدث؟ يقول(63): "بعد هذا أنا نبوخذنصر رفعت عيني إلى السماء... وباركت العلي، وسبحت وحمدت الحي إلى الأبد" (دا 4: 34).
إذ عرف العلي(64) نطق بالحمد لله، وتاب عن فعله. لقد عرف ضعفه فأعاده الله إلى كرامة ملكه.

19. ماذا إذن؟ هل عندما اعترف نبوخذنصر الذي فعل كل هذه الأعمال ردّه إلى الملك وغفر له، وأنت عندما تتوب إلاّ يهبك مغفرة الخطايا وملكوت السماوات متى عشت في حياة بلا لوم؟!
الرب محب للبشر، مسرع إلى المغفرة، لكنه يظهر العقوبة (التأديب)! إذن ليته لا ييأس أحد من خلاصه.
فبطرس الرسول(66) أنكر الرب ثلاث مرات، لكنه تاب وبكي بمرارة. بالبكاء تطهر قلبه، فلم ينل فقط المغفرة عن إنكاره، بل وعاد إلى كرامة الرسولية كما كان.

خاتمة

إذ قدمت لكم يا إخوة أمثلة كثيرة لأناس أخطأوا وتابوا وخلصوا، فهل تعترفون أنتم أيضًا من قلوبكم للرب، حتى يجعلكم مستحقين للعطية السمائية وميراث ملكوت السماوات مع كل القديسين في المسيح يسوع الذي له المجد إلى أبد الأبد، آمين(67).


Mary Naeem 07 - 11 - 2022 04:07 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

في العماد


المقال الثالث

"أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت..." (رو6: 3-4).

1. السماوات تفرح لاتحادكم بالعريس

"لتفرح السماوات ولتبتهج الأرض" (مز 96: 11) من أجل أولئك الذين يُنضحون بالزوفا (1)، ويتطهرون بزوفا روحي(2) هو قوة ذاك الذي في آلامه قُدم له أن يشرب من زوفا وقصبة(3).
فإذ تفرح القوات السمائية، ليته تستعد هذه النفوس التي تتحد مع العريس الروحي، فتسمع صوتًا صارخًا في البرية: "أعدوا طريق الرب" (إش 40: 3).
إنه ليس أمرًا بسيطًا ولا شيئًا هينًا ولا اتحادًا حسب الجسد، بل هو اختيار الإيمان يقوم به الروح القدس فاحص الكل (1 كو 2: 20).
إنه حيث توجد ثروة أو جمال يوافق العريس بسرعة، أما هنا فلا يطلب (العريس) جمال الإنسان بل نقاوة ضمير النفس. إنه لا يسعى إلى ماله بل ثروة النفس في الصلاح.
2. أعدوا طريق الرب

يا أبناء البرَ، أنصتوا إلى نصيحة يوحنا، القائل: "اصنعوا طريق الرب مستقيمًا" (يو 1: 23). انزعوا العقبات وكل حجر عثرة لكي تسيروا تجاه الحياة الأبدية باستقامة.
لتكن أواني النفس مستعدة، مطهرة بإيمان ثابت، لكي تتقبل الروح القدس.
ابدأوا فورًا في غسل ثيابكم بالتوبة، حتى متى دعيتم إلى حجال العريس يجدكم أنقياء.
حقًا إن العريس يدعو الجميع بغير تمييز، لأن نعمته غنية، وصوت الرسل يعلو صارخًا لكي يجمع الكل. لكن العريس نفسه يقوم بفرز من دخلوا معه في علاقة زوجية رمزية.
آه ليته لا يسمع أحد ممن سُجلت أسماؤهم هذه الكلمات: "يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟" (مت 22: 12).
ليتنا نسمع جميعًا: "نعمًا أيها العبد الصالح الأمين، كنت أمينَا في القليل، فأقيمك على الكثير. أدخل إلى فرح سيدك" (مت 25: 23).
فإذ أنتم الآن جالسون خارج الباب، يهبكم الرب أن تقولوا: "أدخلني الملك إلى حجاله" (نش 1: 4)، "لتبتهج نفسي بالرب، لأنه قد ألبسني ثوب الخلاص. كساني رداء البهجة. توجني بعمامة(4)garland كعريس، وزينتني بحلي كعروس" (راجع إش 61: 10)، وبهذا تكون نفوسكم بلا دنس ولا شيء من هذا القبيل.
لست أقصد أن يكون لكم هذا قبل نوالكم النعمة، إذ كيف يمكن أن يتحقق هذا؟! إذ أنتم مدعوّون لنوال غفران الخطايا! لكن حين توهبون النعمة يكون ضميركم غير ملوم، منسجمًا مع النعمة.
3. استعدوا للنعمة العظيمة

يا إخوة، حقًا أنها العماد أمر خطير، يليق بكم أن تقتربوا إليه بكل اهتمام صالح.
لقد اقترب وقت امتثال كل واحد منكم في حضرة الرب أمام عشرات الألوف من الأجناد الملائكية، والروح القدس يختم نفوسكم.
إنكم تسجلون في جيش ملكٍ عظيمٍ. لذلك تزٌودوا بارتدائكم ليس لباسًا لامعًا، بل ورع النفس بضمير صالح.
لا تنظروا إلى الجرن كماء بسيط، بل بالأحرى تطلعوا إلى النعمة الروحية التي توهب مع الماء.
فكما أن التقدمات التي ترفع على مذابح الأوثان تتدنس بتكريسها للأصنام بالرغم من كونها بسيطة في طبيعتها، هكذا على النقيض يحمل الماء البسيط قوة جديدة للقداسة بتكريس الروح القدس والمسيح والآب.
4. تقدسوا بالماء والروح

للإنسان طبيعة ذات جانبين هما النفس والجسد، هكذا تحمل التنقية جانبين: جانب غير مادي من أجل ما هو غير مادي (النفس)، وجانب جسداني من أجل الجسد. الماء ينظف الجسد، والروح يختم النفس. بهذا تقترب إلى الله بقلب مرشوش بالروح، وجسد مغتسل بالماء (عب 10: 22). إذن عندما تنزلون في الماء لا تفكروا في المادة المجردة، بل تطلوا إلى الخلاص بقوة الروح القدس. لأن بدونهما -كلاهما- لا يمكن أن تصيروا كاملين.
وما أقوله هذا ليس من عندي، إنما هو كلام الرب يسوع صاحب السلطان في هذا الأمر. إنه يقول: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (راجع يو 3: 3). فمن يعتمد بالماء ولا يكون متأهلًا للروح (بسبب سوء نيته) لا يتقبل نعمة الكمال، كذلك إن كان فاضلًا في أعماله ولم يتقبل الختم بالماء لا يدخل ملكوت السماوات.
هذا القول فيه جسارة، لكنه ليس مني، بل أعلنه يسوع. وفيما يلي برهان على ذلك بشهادات من الكتاب المقدس. كان كرنيليوس إنسانًا بارًا، تكرم برؤية ملائكة، وصعدت صلواته وصدقاته تذكارًا صالحًا أمام الله في السماء. جاءه بطرس وانسكب الروح القدس على المؤمنين، وتكلموا بألسنة وتنبأوا، وبعد نعمة الروح يقول الكتاب إن بطرس أمرهم أن يعتمدوا باسم يسوع المسيح (راجع أع 10: 48) حتى تولد النفس مرة أخرى بالإيمان، ويكون للجسد شركة في النعمة بواسطة الماء.
5. لماذا اختار الماء للعماد؟

إن أراد أحد أن يعرف سبب إعطاء النعمة بواسطة الماء دون سواه، فليتعلم هذا من الكتاب المقدس. الماء شيء عظيم، وهو ألطف العناصر المنظورة التي يتكون منها العالم... فقبل الأيام الست التي فيها تكونت الأشياء كان "روح الله يرف على وجه المياه" (تك 1: 2). الماء هو بدء العالم، كما أن الأردن هو بداية بشارة الإنجيل.
خلاص إسرائيل(5)من فرعون كان خلال البحر، وخلاص العالم من الخطيئة يتم بغسل الماء بكلمة الله (أف 5: 26). وحيث يقطع عهد يكون الماء أيضًا. فبعد الطوفان قطع عهد مع نوح، ومن جبل سيناء كان هناك عهد بماء وصوفًا قرمزيًا وزوفا (عب 9: 19)...
إيليا صعد بوجود الماء، إذ عبر أولًا على الأردن وبعد ذلك ارتفع في مركبة إلى السماء.
رئيس الكهنة كان يلزمه أن يغتسل قبل أن يقدم بخورًا، إذ اغتسل هارون وبعد ذلك صار رئيس كهنة، لأنه كيف يقدر أن يصلي عن الآخرين من لم يتطهر بالماء؟!
كذلك كانت توجد مرحضة في خيمة الاجتماع تشير إلى المعمودية.
6. العماد خاتمة العهد القديم وبداية الجديد

العماد هو خاتمة العهد القديم وبداية العهد الجديد، إذ قام به يوحنا الذي ليس من بين مواليد النساء من هو أعظم منه. إنه نهاية الأنبياء "لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا" (مت 11: 13). وهو بكر ثمار الإنجيل إذ قيل: "بدء إنجيل يسوع المسيح... كان يوحنا يعمد في البرية" (مر 1: 41).
قد تشير إلى إيليا التسبيتي الذي أُخذ إلى السماء، لكنه مع هذا ليس أعظم من يوحنا.

أخنوخ انتقل، ومع ذلك ليس أعظم من يوحنا.
موسى مستلم الشريعة العظيم جدًا، وكل الأنبياء نُعجب بهم لكنهم ليسوا أعظم من يوحنا. إنني لست أتجاسر فأقارن بين الأنبياء بالأنبياء، لكن سيدهم وسيدنا، الرب يسوع، أعلن ذلك قائلًا: "الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا" (مت 11: 11). إنه لم يقل "بين المولودين من العذارى"، بل "بين المولدين من النساء". فالمقارنة هنا بين الخادم العظيم وزملائه من الخدام، أما سموّ الابن ونعمته فيفوقان كل مقارنة...
انظر كيف اختار الله إنسانًا عظيمًا كأول خادم للنعمة؟! اختار إنسانًا لا يملك شيئًا، محبًا للبرية، لكنه غير مبغض للبشرية. يأكل الجراد وتطير نفسه تجاه السماويات. يقتات بالعسل، ويتحدث عن أمورٍ أحلى من العسل وأقْيَم منه، يلبس ثوبًا من وبر الإبل، مقدمًا نفسه مثالًا للحياة النسكية. تقدَّس بالروح وهو بعد محمول في أحشاء أمه!
إرميا تقدس، لكنه لم يتنبأ وهو في الرحم (إر 1: 5)، إنما يوحنا وحده الذي ركض بابتهاج وهو محمول في الرحم (لو 1: 44). ومع أنه لم يرَ سيده بعينيه الجسديتين لكنه عرفه بالروح. فإذ كانت نعمة العماد عظيمة لهذا تطلَّبت أن يكون موجدها عظيمًا أيضًا.
7. اعترفوا بخطاياكم

كان هذا الرجل يعمد في الأردن فخرجت كل أورشليم (مت 3: 5) لتتمتع ببكورات العماد، إذ يوهب لأورشليم امتياز في كل عملٍ صالحٍ.
تعلموا يا سكان أورشليم كيف كان يعمد الخارجين إليه، "المعترفين بخطاياهم" (مت 3: 6). لقد كانوا يكشفون له جراحاتهم، ويقدم لهم العلاج، فيخلص الذين يؤمنون من النار الأبدية.
وإن أردت فحص هذه النقطة، أي أن عماد يوحنا يخلصهم من التهديد بالنار، اسمعوا قوله: "يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي" (مت 3: 7). لا تكن بعد أفعى. فإذ لك جلد أفعى قديم، أي حياتك الماضية، اخلعه عنك. لأن كل أفعى تزحف في جحر وتتخلص من جلدها القديم، وبهذا يتجدد شباب جسدها. هكذا ادخل أنت أيضًا من الطريق الكرب الضيق (مت 7: 13-14)، واخلع القديم بالأصوام، واترك ذاك الذي يهلكك. اخلع الإنسان العتيق مع أعماله (كو 3: 9.). وقل مع نشيد الأناشيد: "قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟!"(6).
لكن ربما يكون فيكم مرائي أو من يحب إرضاء الناس، ومن يتظاهر بالتقوى دون أن يكون له إيمان القلب، فيكون له رياء سيمون الساحر، فيأتي لا ليتقبل النعمة بل ليتجسس على ما يُعطى هنا. ليته يتعلم أيضًا من يوحنا "الآن قد وُضعت الفأس علي أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا، تُقطع وتلقى في النار" (مت 3: 10).
إن الديّان لا يتهاون، اخلع عنك الرياء!
8. ثمار التوبة العملية

إذن ماذا يليق بكم أن تفعلوا؟! وما هي ثمار التوبة؟ "من له ثوبان فليعطِ من ليس له" (لو 3: 11).
المعلم بهذا مستحق للثناء، إذ مارس بنفسه ما علَّم به. لهذا لم يخجل من أن ينطق بهذا، إذ ضميره لم يخالف لسانه.
"ومن له طعام فليفعل هكذا". أتريد أن تتمتع بنعمة الروح القدس، ومع ذلك تحكم بأن الفقير غير مستحق للطعام المادي؟! أتطلب الخيرات العظيمة وأنت لا تجود بالخيرات البسيطة؟!
حتى إن كنت عشارًا أو زانيًا ترجَ الخلاص، فإن العشارين والزناة يسبقونكم إلى ملكوت الله (مت 21: 31)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. لقد شهد بولس بذلك قائلًا: "لا زناة ولا فاسقون... يرثون ملكوت الله، وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم بل تقدستم" (1 كو 6: 9-11). إنه لم يقل "هكذا فيكم أناس" بل "كان أناس منكم". إذ الخطية المرتكبة بجهل يُعفي عنها، أما عناد الشرير فيُدان عنه.
9. يا لعظمة المسيح واهب العماد

إن كان لكم الابن نفسه، ابن الله الوحيد، كمجد العماد فلماذا أتكلم بعد عن إنسان؟! حقًا كان يوحنا عظيمًا، لكن ماذا يكون يوحنا بجانب الرب؟! إنه صوت صارخ، لكن ماذا يكون إن قورن الصوت بالكلمة؟! هذا الرسول نبيل جدًا، لكن ماذا يحسب إن قورن بالملك؟!
نبيل هو هذا الذي عمد بماء، لكن ماذا يكون إن قورن بالذي يعمد بالروح القدس ونار؟! (مت 3: 11) إذ عمد المخلص الرسل بالروح القدس ونار عندما "صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحدٍ منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أع 2: 2-4).
10. معمودية الدم

من لا ينال المعمودية لا يتمتع بالخلاص، اللهم إلا الشهداء الذين يتقبلون الملكوت حتى بدون ماء. لأنه عندما طُعن المخلص في جنبه لخلاص العالم بصليبه أفاض دمًا وماء، لكي يتعمد من هم في زمن السلم بالماء، ومن هم في وقت الاستشهاد بدمهم.
اعتاد الرب أن يدعو الاستشهاد عمادًا قائلًا: "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا، وأن تعتمدان (تصطبغان) بالمعمودية (الصبغة) التي اعتمد بها أنا؟! (مر 10: 38)...
11. في المعمودية رضض الرب رؤوس الشيطان

لقد قدس يسوع المعمودية باعتماده بنفسه. إن كان ابن الله قد اعتمد فكيف يمكن أن يكون ورعًا من يحتقر العماد؟!
إنه لم يعتمد لينال غفران خطايا، إذ هو بلا خطيته. لكنه إذ هو هكذا بلا خطية اعتمد ليهب المعمَّدين نعمة سماوية علوية. "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما" (عب 2: 14)، حتى إذ تشاركنا بحضوره في الجسد نصير شركاء معه في نعمته الإلهية. هكذا اعتمد يسوع لكي بشركتنا معه نتقبل الخلاص والكرامة.
جاء في أيوب أنه كان في المياه الوحش الذي "اندفق الأردن في فمه" (أي 40: 23)، وكان يلزم تحطيم رؤوسه (مز 74: 14)، لهذا نزل (السيد) وربط القوي في المياه، حتى نال قوة فيها إذ يكون لنا سلطان أن ندوس على الحيات والعقارب (لو 10: 19).
كان الوحش عظيمًا ومرعبًا، لا يقدر أي قارب صيد أن يقاوم ضربة واحدة من ذيله(7)، ثائرًا على كل من يلتقي به. لقد نزل "الحياة" إليه ليلتقي معه، فيسد فم الموت هناك، عندئذ إذ نخلص نقول: "أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا قبر؟!" (راجع 1 كو 10: 55) لقد نُزعت شوكة الموت بالعماد.
12. بالمعمودية ندفن ونقوم في برّ

إنكم تدخلون المياه حاملين خطاياكم، وبابتهال النعمة التي تختم نفوسكم لا يعود يبتلعكم الوحش المرعب.
إذ تنزلون أمواتًا في الخطايا تصعدون أحياء في البرّ. فان كنتم قد صرتم متّحدين مع المخلص بشبه موته تصيرون جديرين أيضًا بقيامته (رو 6: 5). لأنه كما حمل يسوع خطايا العالم ومات، حتى بإماتته الخطية نقوم في برٍّ، هكذا بنزولكم في الماء إذ تُدفنون فيه، كما دُفن هو في الصخرة، تقومون أيضًا سالكين في جدة الحياة (رو 6: 4).
13. بالمعمودية ننال سلطانًا لمقاومة إبليس

أضف إلى هذا، أنكم إذ تتأهلون للنعمة يهبكم سلطانًا لمحاربة القوات المضادة. فكما جُرب أربعين يومًا بعد عماده، لا لأنه كان عاجزًا عن نوال النصرة قبل ذلك، بل أراد أن يفعل كل شيءٍ بترتيبٍ حسنٍ وتدبيرٍ صالحٍ، هكذا أنتم أيضًا على نفس المثال بعد نوالكم النعمة تصيرون واثقين في سلاح البرّ (2 كو 6: 7)، فتدخلون المعركة وتكرزون بالإنجيل إن أردتم، أنتم الذين كنتم قبل العماد لا تتجاسرون على الصراع مع المقاومين (الشياطين).
14. بالمعمودية ننال التبني

يسوع المسيح هو ابن الله، ومع هذا لم يكرز قبل العماد بالإنجيل (الذي جوهره هو التمتع بالتبني لله خلال السيد المسيح).
إن كان السيد نفسه قد اتبع هذا الوقت المناسب اللائق، فهل يجوز لنا نحن خدامه أن نخالفه النظام؟! إذ "من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز" عندما "نزل عليه الروح القدس بهيئة جسيمة مثل حمامة" (مت 4: 17؛ لو 3: 22) لا لكي يراه يسوع فيعرفه، إذ هو يعرفه قبلما يأتي عليه على هيئة جسيمة، إنما لكي يراه يوحنا الذي يعمده إذ يقول: "لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس" (يو 1: 23).
إن كنت أنت أيضًا تحمل درعًا قويًا، فإن الروح القدس يحل عليك، والآب يكلمك من فوق من الأعالي ليس قائلًا: "هذا هو ابني" بل "الآن صرت ابني"، لأن فعل المضارع في "هذا يكون ابني" يخص الابن وحده الذي "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" (يو 1: 1)، فهو وحده الذي يقال له: "هو يكون ابني" إذ هو على الدوام ابن الله. أما أنت فيُقال لك: "الآن تكون" إذ لا تحمل بنوة طبيعية بل تتقبلها بالتبني. هو ابن سرمدي، أما أنت فتقبل النعمة مؤخرًا.
15. استعد مهما بلغت خطاياك

ليكن إناء نفسك مُهيأ لتصير ابن لله ووارث مع المسيح (رو 8: 17).
إن كنت حقًا تُعد نفسك لتقبل هذا، إن كنت بحق تقترب إلى الإيمان لتكون مؤمنًا، إن كنت تخلع الإنسان العتيق من أجل غرض أمامك، فإن كل ما اقترفته يُغفر لك، سواء الزنا أو الدعارة أو أي شكل من أشكال الفسق.
أية خطية أعظم من أن يَصلب الإنسان المسيح، ومع هذا فإن العماد يغسلها! لأنه هكذا تحدث بطرس مع الثلاثة آلاف الذين جاءوا إليه. هؤلاء الذين صلبوا الرب، إذ سألوه قائلين: "ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟!" (أع 2: 37) فإن الجرح عظيم؟! لقد جعلتنا يا بطرس نفكر في خطيتنا بقولك: "رئيس الحياة قتلتموه" (أع 3: 51). فأي تضميد يصلح لجرحٍ عظيمٍ كهذا؟! أي تطهيرٍ يكون لغباوة كهذه؟! أي خلاصٍ لهلاكٍ مثل هذا؟!
إنه يقول: "توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح ربنا لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس" (أع 2: 38).
يا لحب الله المترفق غير المنطوق به؟! مع أنهم كانوا بلا رجاء من جهة خلاصهم، لكنهم مع ذلك تأهلوا للروح القدس! هل رأيت قوة المعمودية؟!
إن كان أحدكم يصلب المسيح بكلمات تجديفه، إن كان أحدكم ينكره في جهلٍ أمام الناس، إن كان أحدكم يجدف على التعاليم بكلمات شريرة، فليتب، وليكن له رجاء صالح، لأن النعمة حاضرة إلى الآن.
16. تشجعوا... الرب يطهركم!

"تشجعي يا أورشليم فإن الرب ينزع عنكِ كل آثامك"، "الرب يغسل دنس أبنائه وبناته بروح القضاء وبروح الإحراق"، "سيرش عليكم ماء طاهرًا، فيطهركم من كل خطاياكم" (راجع صف 3: 14، 15؛ إش 4: 4؛ حز 36: 25).
إن الملائكة سترقص حولكم قائلة: "من هذه الطالعة في ثوب أبيض مستندة على حبيبها" (راجع نش 8: 5).
لأن النفس التي كانت قبلًا عبدة تبناها سيدها كقريبة له، وإذ يرى أمامه غاية راسخة يجيب: "ها أنت جميلة يا حبيبتي. ها أنت جميلة... أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل، وذلك بسبب الاعتراف بضميرٍ صالحٍ، كل واحدة متئم" (نش 1:4، 2) وذلك بسبب النعمة ذات الجانبين "أي توأم": أقصد أنها تصير كاملة بالماء والروح، أو النعمة المعلنة في العهدين القديم والجديد.
ليت الله يسمح أن تذكروا جميعكم ما أقوله لكم عندما تنهون فترة الصوم، وتأتون بثمر أعمال صالحة، فتقفوا أمام العريس الروحي بلا لوم وتنالوا غفران خطاياكم من الله الذي له المجد مع الابن والروح القدس إلى الأبد. آمين.


Mary Naeem 07 - 11 - 2022 04:07 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

في البنود العشر التعليمية

المقال الرابع "انظروا أن لا يكون أحد يسبيكم "يفسدكم" بالفلسفة وبغرور باطل حسب تقليد الناس حسب أركان العالم..." (كو 2: 8).

دعوة للتمتع بروح التمييز

1. الرذيلة تحاكي الفضيلة، وذلك كما يجتهد الزوان أن يبدو قمحًا، فينمو مثله في مظهره، لكن يكتشفه عارفوه ويميزونه من طعمه. هكذا أيضًا يُغير الشيطان نفسه في شكل ملاك نور (كو 11: 14)، لا لكي يصعد مرة أخرى إلى حيث كان، إذ قلبه صلب كالسنديان(9)، فصارت إرادته عاجزة عن أن تتوب، إنما يفعل هذا بقصد إغراق السالكين في حياة ملائكية في ظلمات العمى والكفر المهلك.
ذئاب كثيرة تجول في ثياب حملان (مت 7: 15)، نعم ثيابها ثياب حملان وليس أظافرها أو أسنانها. وإذ هم يسيرون في الجلد الناعم يخدعون الأبرياء بمظهرهم، فيبثّون فيهم من أنيابهم سم الدنس المهلك.
إذن نحن نفتقر إلى نعمة إلهية وذهن علوي وبصيرة نفاذة، حتى لا نأكل الزوان علي أنه حنطة، فيصيبنا ضررُ من الجهل، ونسقط فريسة للذئاب التي نحسبها حملان، ويبيدنا الشيطان المهلك الذي نظنه ملاكًا مباركًا. إذ يقول الكتاب: "كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1 بط 5: 8). هذا هو السبب لتحذيرات الكنيسة، وهو الدافع لتعليماتنا الحالية، الدروس التي تقرأ الآن.
الحاجة إلى الإيمان العملي

2. لأن طريق الصلاح يحمل أمرين: تعاليم ورعة، وتدريب عملي للفضيلة. ولن تكون التعاليم مقبولة لدى الله بعيدًا عن الأعمال، ولا الأعمال دون أن تتكمّل بالتعاليم التقوية. لأنه ما الفائدة إن عرفت التعاليم الخاصة بالله معرفة حسنة ومع ذلك أنت زانٍ دنيء؟! أو أي أنفع أن تكون نبيل الطبع وأنت مجدف جاحد؟! لذلك فإن معرفة التعاليم تُعتبر مقتنيات ثمينة، لكنها في نفس الوقت تحتاج إلى نفسٍ متيقظةٍ، إذ كثيرون يفسدون بالفلسفة والخداع الباطل (كو 2: 8).
فاليونانيون(10)، من ناحية يسحبون الناس خارجًا بلسانهم اللين، إذ يقطر العسل من شفتي الزانية (أم 5: 3). وأهل الختان(11)، من ناحية أخرى يخدعون من يلتقون بهم بتفسيرهم الكتاب المقدس تفسيرًا خاطئًا رغم دراستهم له منذ الطفولة حتى الشيخوخة (راجع إش 46: 3 LXX). أما الهراطقة فبأعمالهم الصالحة ولسانهم اللين يخدعون قلوب البسطاء (رو 16: 17) تحت ستار اسم المسيح، إذ يدسون أسهمًا مسمومة هي تعاليمهم المملوءة كفرًا.
عن هؤلاء جميعًا يقول الرب "انظروا لا يضركم أحد" (مت 24: 4).
لهذا نقوم بتعليم قانون الإيمان وشرحه لكم.
3. لكننى أظن أنه يليق قبل تسليمكم قانون الإيمان أن نقدم لكم ملخصًا مقتضبًا للتعاليم الضرورية حتى لا يسبب كثرة الكلام مع طول فترة أيام الصوم الكبير المقدس نسيانًا في أذهان البسطاء منكم. فأقوم بغرس بعض بذور التعاليم باقتضاب فلا تنسونها، نعالجها بأكثر إسهاب فيما بعد.
ليت الناضجون ذهنيًا من الحاضرين الآن، والذين "لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر" (عب 5: 14)، يحتملون بصبر الإنصات إلى أمور تتناسب بالأكثر مع الأطفال، إذ هو حديث افتتاحي يُقدم مثل لبنٍ (للأطفال). بهذا ينتفع المحتاجون إلى التعليم، وفي نفس الوقت يتذكره جيدًا الذين لهم سابق معرفة به.
الله الواحد

4. أولًا لنلقِ "التعليم عن الله" كأساس في أنفسكم.
إنه الله (الآب)، واحد وحيد غير مولود، بلا بداية ولا تغيير، ليس فيه تنوع، ليس مولودُا من آخر، ولا يعقبه آخر، لم يبدأ في زمن للحياة ولا ينتهي قط.
إنه صالح وعادل في نفس الوقت، فإن سمعت من هرطوقي ينادي بوجود إله عادل وآخر صالح(12) تذكر في الحال سهام الهراطقة المسمومة. إذ يتجاسر البعض في كفر أن يقسموا الله الواحد. وقال البعض إن واحد خالق للنفس وآخر إله الجسد(13). وهذا التعليم غامض وشرير. لأنه كيف يمكن لإنسان أن يصير خادمًا للسيدين، بينما يقول ربنا في الإنجيل "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين؟!" (مت 6: 24؛ لو 6: 13)
يوجد الله، واحد وحيد، خالق للنفوس والأجساد، واحد هو خالق السماء والأرض، صانع الملائكة ورؤساء الملائكة.
هو خالق لكثيرين، لكنه أب لواحدٍ وحيد قبل كل الدهور، الابن الواحد الوحيد ربنا يسوع المسيح، الذي به خلق كل شيء، ما يُرى وما لا يُرى (يو 1: 3؛ كو 1: 16).
سمو كمال الله

5. إن أبا ربنا يسوع المسيح، الذي لا يحده مكان، هو ليس بأقل من السماء، بل هي عمل يديه (مز 8: 3)، وكل الأرض في قبضته (إش 40: 12). إنه في كل شيء ومحيط بكل شيء!
لا تظن أن الشمس أكثر منه بهاءً، ولا مساوية له في الضياء، بل يليق بموجدها أن يكون أعظم منها وأبهى بما لا يقاس!
لقد سبق فعرف كل شيء قبل كونه. هو أقدر من الكل، عالم بكل شيء. يعمل ما يريده دون أن يخضع إلى حتمية إلزامية، ولا لحركات نجم(14)، ولا لمحض صدفة أو قضاء وقدر. إنه كامل في كل شيءٍ. يملك كل أشكال الفضائل في كمال مطلق متساوٍ، لا ينقص ولا يزيد. بل كما هو بلا تغيير... يُعد العقوبة للخطاة والإكليل للأبرار.
الحفظ من عبادة الأوثان

6. لقد ضل كثيرون عن الله الواحد بطرقٍ متعددة، فعبد البعض الشمس حتى متى غابت يسكنون في الليل بغير الله. والبعض عبدوا القمر فلا يكون لهم الله في النهار(15). والبعض عبدوا أجزاء العالم الآخرى(16). والبعض عبدوا الفنون(17).
وعبدَ البعض أنواع أطعمة مختلفة(18)، والبعض ملذاتهم(19)، وسُحر البعض بالنساء، فأقاموا تمثالًا لامرأة عارية ودعوها أفروديت(20)، وعبدوا شهواتهم بصورة منظورة.
وبُهر البعض ببريق الذهب فعبدوه(21)، وآخرون عبدوا أنواعًا أخرى من هذه الأمور.
أما من ألقى في قلبه تعليم وحدانية الله كأول أساس، ووثق فيه للحال ينزع عنه حصيلة(22)، شرور عبادة الأصنام وكل أخطاء الهراطقة.
إذن ألقوا بالإيمان بهذا التعليم الديني الأول كأساس في أنفسكم.
المسيح

7. آمن أيضًا بابن الله الواحد الوحيد، ربنا يسوع المسيح، المولود، إله من إله، حياة من حياة، نور من نور، مساوٍ لمن ولده في كل شيء(23)، لم يتقبل وجوده في زمان، بل هو أزلي قبل كل الدهر، مولود من الآب بطريقة لا تدرك.
إنه حكمة الله وقوته، وبرّه، كائن فيه شخصيًا(24).
جالس عن يمين الآب قبل كل الدهور. لأنه لم يتقبل العرش الذي عن يمين الآب كجزاء لاحتماله بصبرٍ كما يظن البعض، إنما تقبله بوجوده السرمدي...
هو شريك الآب في عرشه بكونه الله والحكمة والقوة، وكما يقال عنه إنه يملك مع الآب... دون أن ينقص شيئًا من الكرامة الإلهية.
إنه يعرف (الآب) الذي ولده، كما يعرف هو أيضًا أنه مولود منه. وباختصار أذكر ما جاء في الإنجيل: "لا يعرف أحد الابن إلاّ الآب، ولا الآب إلاّ الابن" (مت 11:27؛ يو 10: 15؛ 17: 25).
واحد مع الآب

8. علاوة على هذا، لا تفصل بين الابن والآب(25). لا تعتقد في ابن شبيه بالآب Son - Fatherhood))... بل آمن أن الله الواحد ابن واحد وحيد، هو كلمة الله من قبل الدهور. ليس كلمة منطوقه(26) منتشرة في الهواء، ولا شبه الكلمات غير الذاتية، بل هو الكلمة الابن خالق كل المخلوقات العاقلة، يسمع الآب وهو نفسه يتكلم.
ليت الله يسمح فنتكلم عن هذه الأمور بأكثر توسع في الوقت المناسب حتى لا ننسى هدفنا الحالي، أي تقديم تمهيد لعقائد الإيمان باختصار.
ميلاده من عذراء

9. آمِنْ أن ابن الله الوحيد هذا نزل من السماء إلى الأرض من أجل خطايانا. لبس هذه الطبيعة البشرية وتشبه بنا (أع 14: 15؛ يع 5: 17)... وولد من العذراء القديسة من الروح القدس، وصار إنسانًا.
لم يكن هذا خيالًا، ولا مجرد مظهر، بل بالحق صار هكذا(27)، ولا عبر في العذراء كما في قناة(28) بل صار منها جسدًا فعلًا "وانتعش باللبن فعلًا"(29)، وأكل مثلنا فعلًا، وبحق شرب، فلو كان التجسد خيالًا لصار الخلاص أيضًا خيالًا...
الصليب

10. بحق صُلب عن خطايانا. فإن أردت إنكار هذا يرفضك بطريقة منظورة هذا المكان أي الجلجثة المباركة التي نجتمع فيها الآن (من أجل المصلوب هنا. وقد امتلأ العالم بأجزاء من خشبة الصليب)(30).
لكنه لم يُصلب عن خطايا ارتكبها، بل لكي يخلصنا من خطايانا. وفي الوقت الذي فيه احتقره البشر فلطموه، كانت الخليقة تعرف أنه ابن الله، فانكسفت الشمس لما رأت ربّها مُهانًا، مرتعبة كيف تحتمل هذا المنظر؟!
دفنه

11. بحق وُضع في قبرٍ منحوتٍ في الصخر، لكن الصخور تشققت مرتعبة بسببه! لقد نزل إلى أسافل الأرض ليخلص الأبرار(31).
اخبرني، هل ترغب في أن يتمتع الأحياء وحدهم بنعمته ولا ترغب في أن ينالوا حريتهم من لهم زمان طويل مسجونون من آدم؟! لقد أعلن إشعياء النبي بصوت عالٍ عن أمورٍ كثيرة تخصه، ألاّ تريد أن ينزل الملك ويخلص رسوله؟!
أيضًا داود وصموئيل وكل الأنبياء كانوا هناك، ويوحنا نفسه القائل خلال تلميذيه "أنت هو الآتي أم ننتظر آخر" (مت 11: 3)، أفما ترغب أن ينزل ويخلص أمثال هؤلاء؟!
قيامته

12. لكن الذي نزل إلى طبقات الأرض السفلي قام أيضًا. يسوع الذي دفن بالحق قام في اليوم الثالث.
وإن ضايقك اليهود في هذا اسألهم: هل يخرج يونان من جوف الحوت في اليوم الثالث ولا يقوم المسيح من الأرض في اليوم الثالث؟!
إن كان الميت بلمسه عظام أليشع عاد إلى الحياة، أفليس بالأولي جدًا على خالق البشرية أن يقوم بالآب؟!
حسنًا، إنه قام حقًا، وبعد قيامته رآه التلاميذ، وشهد الاثنا عشر بقيامته(32)، حاملين الشهادة لا بكلمات مفرحة، بل باحتمال الآلام والموت من أجل حقيقة القيامة. ماذا إذن؟ إن كان "على فم شاهدين أو على فم ثلاثة شهود يقوم الأمر" كقول الكتاب (تث 19: 15)، فهل لازلت غير مؤمن بقيامة المسيح وها اثنا عشر رسولًا يشهدون؟!

صعوده

13. إذ تمم يسوع نصيبه من الاحتمال بصبرٍ، وخلص البشرية من خطاياها، صعد إلى السماوات مرة أخرى إذ رفعته سحابة، وإذ ارتفع صارت ملائكة بجواره والتلاميذ يتطلعون إليه.
إن كان أحد لا يؤمن بهذه الكلمات التي أنطق بها، فليؤمن بقوة الأمور التي يراها الآن. لأن كل الملوك ينطفئ سلطانهم بموتهم، أي بانتهاء حياتهم، أما المسيح المصلوب فهو معبود من العالم كله. نحن نعلن عن المصلوب، والشياطين ترتعب منه!
كثيرون صُلبوا في أزمنة مختلفة، لكن أي شخص آخر مصلوب صنع ابتهالًا يطرد الشياطين!
قوة علامة صليب المسيح

14. ليتنا لا نخجل من صليب المسيح، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. وإن استحى منه البعض، فاطبعه بوضوح على جبهتك، فتهرب منك الشياطين مرتعبة، إذ ترى العلامة الملوكية(33).
اصنع هذه العلامة عندما تأكل وعندما تشرب، عندما تجلس وعندما تنام وعندما تنهض، وعندما تتكلم وعندما تسير، وباختصار ارسمها في كل تصرف(34). لأن الذي صُلب هنا هو في السماوات في الأعالي. لو أنه بقي في القبر بعد صلبه ودفنه لكنا نستحي منه، لكن في الواقع الذي صُلب على الجلجثة صعد إلى السماوات من فوق جبل الزيتون من ناحية الشرق، فإنه بعدما نزل إلى الجحيم وصعد إلينا ارتفع من بيننا إلى السماوات، فيحدثه أبوه قائلًا: "اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك" (مز 110: 1).
الدينونة المقبلة

15. يسوع المسيح الذي صعد يأتي لا من الأرض بل من السماوات، وأنا أقول "لا من الأرض، وذلك لأن مسحاء كذبه كثيرون يأتون في هذا الوقت من الأرض. وقد بدأوا فعلًا في المجيء قائلين: "أنا هو المسيح" (مت 24: 5)، مدعين لأنفسهم باطلًا اسم المسيح، وقد أوشكت "رجسة الخراب" أن تحل (مت 24: 15).
لكن تطلع إلى المسيح الحقيقي، ابن الله، الابن الوحيد، إنه لا يأتي بعد من الأرض بل من السماوات، ظاهرًا للجميع أكثر لمعانًا من أي نورٍ مبرقٍ، تحيط به الجنود الملائكية، يأتي ليدين الأحياء والأموات ويملك مُلكًا سمائيًا أبديًا لا ينتهي.
أرجوك أن تحتاط في هذا الأمر لأن كثيرين يقولون إن ملكوت المسيح له نهاية(35).
الروح القدس

16. آمن أيضًا بالروح القدس، وما تسلمته بخصوص الآب والابن، واقبله بالنسبة للروح القدس. ولا تتبع المعلمين بتجاديف عنه(36).
اعلم أن هذا الروح القدس هو واحد غير منقسم، له قوة ذات جوانب متعددة وأعمال كثيرة، أما هو فغير منقسم.-
إنه يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1 كو 2: 10)، نزل على الرب يسوع في شكل حمامة. عمل في الناموس والأنبياء، وهو يختم نفوسكم عند العماد.
تحتاج كل خليقة عاقلة إلى قداسته، ومن يجدف عليه "لن يُغفر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي" (مت 12: 32).
هو مع الآب والابن(37)، مكرّم بذات اللاهوت.
تحتاج إليه العروش والسيادات والرئاسات والقوات (راجع كو 1: 16).
إذ يوجد الله واحد، أب المسيح، رب واحد هو يسوع المسيح الابن الوحيد لله الواحد، روح قدس واحد يقدس الجميع ويتعبدون له، هذا الذي تحدث في الناموس والأنبياء، في العهد القديم والعهد الجديد...
ختم الروح القدس

17. هل تفكر في الختم الذي تلمسته لمسًا خفيفًا خلال مقالي المختصر عنه، والذي أعرضه بمشيئة الرب فيما بعد ببراهين الأسفار المقدسة قدر المستطاع، إذ لا يكفي أن نتحدث بعبارات عرضية فيما يختص بأسرار الإيمان الإلهية دون الرجوع إلى شهادات الأسفار المقدسة؟! حتى بالنسبة لي أنا الذي أخبرك عن هذه الأمور لا أقدم تصديقًا مطلقًا لما أقوله دون أن استند على الكتب الإلهية. لأن الخلاص الذي نؤمن به لا يعتمد على حذاقة الذهن بل برهان الأسفار المقدسة.
النفس

18. بعد معرفة هذا الإيمان الموقر المجيد الكلّي القداسة يليق بك أن تعرف من أنت. الإنسان له طبيعة ذات جانبين، إذ يتكون من النفس والجسد. وكما سبق أن قلنا منذ قليل أن الله ذاته هو خالق النفس والجسد(38).
اعرف أيضًا أن لك نفس سيدة ذاتها، هي أسمى أعمال الله، خُلقت على صورة خالقها. خالدة إذ وهبها الله الخلود. إنها كائن حيّ عاقل غير فاسدٍ، إذ وهبها الله هذه النعم.
لها سلطان أن تفعل في حرية ما تشاء(39)، فأنت لا تخطئ حسب (تاريخ) ميلادك، أو ترتكب الزنا بمحض الصدفة، ولا تُجبر على ارتكاب الفجور حسب سير النجوم كما ينطق البعض بكلمات فارغة(40).
لماذا تُحجم عن الاعتراف بأفعالك الشريرة، ناسبًا اللوم إلى النجوم البريئة؟!
أرجوك إلاّ تعطي اهتمامًا للمنجمين، إذ يقول الكتاب المقدس الإلهي "ليقف الراصدون النجوم يخلصوك"، ثم يكمل: "ها إنهم قد صاروا كالقش. أحرقَتهم النار. لا ينجّون أنفسهم من يد اللهيب" (إش 47: 13، 14).
مسؤولية النفس وحرية إرادتها

19. إننا نعلم أيضًا أن النفس لم ترتكب خطيئة قبل مجيئها(41)، بل جاءت بلا خطية(42)، إنما أخطأنا بإرادتنا الحرة.
أرجوك إلاّ تجوي وراء من يفسر الكلمات التالية تفسيرًا خاطئًا "إن كنت أفعل ما لست أريده" (رو 7: 16)، بل تذكر القائل: "إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتحررتم تأكلون بالسيف" (إش 1: 19-20). وأيضًا "كما قدّمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم، هكذا الآن قدّموا أعضاءكم عبيدًا للبرّ للقداسة" (رو 6: 19). تذكر أيضًا الكتاب المقدس القائل: "وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم" (رو 1: 28). وأيضًا "إذ معرفة الله ظاهرة فيهم" (رو 1: 19). وأيضًا "غمضوا عيونهم" (مت 13: 15).
تذكر أيضًا كيف اتهمهم الله مرة أخرى قائلًا: "أنا قد غرستك أفضل كرمة (سورق)، زرع حق كلها، فكيف تحولتِ إلى مرارة أيتها الكرمة الغريبة؟!" (راجع إر 2: 21).
نفوس الرجال والنساء متشابهة

20. النفس خالدة. وكل نفوس الرجال والنساء متشابهة، إنما التمييز هو في أعضاء الجسد(43). لا يوجد أنواع معينة في النفوس، نوع يخطئ بالطبيعة، وآخر يمارس البرّ بالطبيعة(44). بل كلها تعمل بحريتها. فمادة النفوس واحدة، جميعها متشابهة.
على أي الأحوال أنني أدرك أنني تكلمت كثيرًا، وأن الوقت فعلًا قد طال، لكن أي شيء أهم من الخلاص؟
أما تريد أن تتعب في الحصول على إمدادات في الطريق ضد الهراطقة؟!
ألا تشاء أن تعرف الممرات الجانبية التي للطريق حتى لا تسقط في هوةٍ بسبب الجهل؟!
إن كان معلموك يحسبون تعليم مثل هذه الأمور شيئًا نافعًا ليس بقليل، أما تتقبل بفرح ما نحدثك به ونحن مسرورون؟!
حرية إرادة النفس والمكافأة

21. تتمتع النفس بحرية الإرادة. ومع أن الشيطان يقدر أن يقترح عليها، لكنه ليس له سلطان يلزمها بشيء بغير إرادتها. إنه يصور لك فكر الزنا، فإن أردت قبلته، وإن لم ترد تحتقره. لأنك لو كنت زانيًا قهرًا لما أعد الله جهنم؟! وإن كنت صانع بر بالطبيعة وليس بإرادتك لما أعد الله أكاليل مجد لا يُنطق بها؟!
الغنم وديع، لكنه لا يكلل على وداعته، لأنها ليست باختياره بل بحكم الطبيعة.
جمال الجسم البشري

22. لقد تعلمت أيها الحبيب عن طبيعة النفس قدر ما سمح الوقت، اجتهد أن تقبل التعليم الخاص بالجسد أيضًا.
لا تقبل القائلين أن هذا الجسد ليس من عمل الله(45). لأن الذين يعتقدون بأن الجسد لا يعتمد على الله وأن النفس تسكن فيه كما في وعاءٍ غريبٍ، هؤلاء يدنسونه بالزنا.
ومع هذا أي خطأ يجدونه في هذا الجسد العجيب؟!
ماذا ينقصه في كماله؟!
أما يحمل تكوينه مهارة كاملة؟!
ألا يلزمهم أن يتأملوا تكوين العينين المضيئتين؟! وكيف توضع الإذن بميل لتستقبل الصوت بغير عائق؟! وكيف يميز الشم الروائح؟! وكيف يخدم اللسان غرضين: حاسة التذوق وقوة الكلام؟! وكيف تستنشق الرئتان غير المنظورتين استنشاق الهواء بغير انقطاع؟!
من الذي جعل نبضات القلب غير منقطعة؟!
ترى من الذي وزع (الدورة الدموية) بين أوردة وشرايين هذا عددها؟!
من الذي ربط بمهارة بين العظام والعضلات؟
من الذي يحول جزء من الأطعمة إلى طبيعتنا وآخر إلى عصارات مناسبة؟!
من الذي وهب البشرية أن تبقى خلال الاتصال الجسدي البسيط، مع أنها كانت ستنتهي وتموت؟!
النفس هو وراء الخطية

23. لا تقل لي إن هذا الجسد هو علّة الخطية(46). فلو كان الجسد سبب الخطية، فلماذا لا تخطئ الجثة الميتة؟ ضع سيفًا في يمين إنسان مات حالًا، فإنه لا يرتكب جريمة قتل! ليقترب جمال ما من كل نوع نحو شابٍ ميت حالًا، فإنه لا تثور فيه شهوة دنسة. لماذا؟ لأن الجسد لا يخطئ بذاته، بل النفس تخطئ خلال الجسد.
الجسد هو آلة، إنه بالنسبة للنفس بمثابة ثوب أو رداء لها. فإن غلبْته بالزنا تدنس، وإن قطنت فيه نفسًا مقدسة يصير هيكلًا للروح القدس.
لست أنا القائل بهذا، بل الرسول بولس الذي قال: "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم؟!" (1 كو 6: 19).
إذن اهتم بجسدك بكونه هيكل للروح القدس. لا تفسده بالزنا، ولا توسّخ ثوبك الجميل. وإن كنت دنسته فأغسله الآن بالتوبة. اغسله جيدًا إذ سمح الوقت.
دعوة إلى البتولية

24. أما بخصوص التعليم عن العفة، فلنهتم أولًا بخصوص نظام المتوحدين والعذارى الذين يمارسون الحياة الملائكية في العالم. ليت بقية شعب الكنيسة يتمثل بهم. لأنه قد أعد لكم أيها الإخوة إكليل عظيم، فلا تستبدلوا شرفًا عظيمًا مقابل لذة زهيدة. اسمعوا قول الرسول: "لئلا يكون أحد زانيًا أو مستبيحًا كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع باكوريته" (عب 12: 16).
ليسجل (اسمك) هنا في الكتب الملائكية من أجل عمل العفة، ناظرًا أنك تمسحه مرة أخرى بارتكابك الزنا.
كرامة الزواج

25. من ناحية أخرى لا تنتفخ بسبب عفتك (بتوليتك) أمام السالكين في طريق الزواج الذي هي أقل. إذ يقول الرسول: "ليكن الزواج مكرمًا عند كل أحدٍ، والمضطجع غير دنس" (عب 13: 4). ألم تولد من أناس متزوجين أيها المحافظ على عفتك (بتوليتك)؟! فإن كنت تملك ذهبًا، فلماذا تحتقر الفضة؟ بل ليكن المتزوجون منبسطي السريرة، هؤلاء الذين يستخدمون الزواج حسب الشريعة، حسب أقوال الله، وليس للفجور، طالبين شهوات بلا ضابط. هؤلاء الذين يعرفون أوقاتً للامتناع ليتفرغوا للصلاة (1 كو 7: 5)، الذين يحضرون اجتماعاتنا في الكنيسة بأجساد طاهرة وثياب نقية، إذ دخلوا قصدوا من الزواج إنجاب الأطفال لا للانغماس في متعة اللذة.
شرعية الزواج

26. أيضًا لا يحتقر المتزوجون مرة واحدة الذين قبلوا الزواج الثاني (بعد وفاة الطرف الأول). فمع أن ضبط النفس أمر نبيل وعجيب، لكن الزواج الثاني مسموح به للضعيف كي لا يسقط في الزنا. يقول الرسول: "إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا، ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا، لأن التزوج أفضل من التحرق" (1 كو 7: 8، 9).
اترك جميع الممارسات الأخرى من زنا ودعارة وكل أنواع الفسق. احفظ جسدك طاهرًا للرب فيكرم الرب في جسدك.
لتنعش جسدك بالطعام لكي يعيش ويخدم دون أي عائق وليس لكي تدفعه للذات.
الطعام

27. أما من جهة الطعام، فلتكن هذه هي قوانينك، إذ توجد عثرات كثيرة من جهته. فالبعض لا يبالي بما يقدم للأوثان. بينما يدرب البعض نفسه (على عدم أكله) لكنهم في نفس الوقت يدينون من يأكلون منه. وهكذا بطرق متنوعة تتدنس نفوس البشر في أمر الأطعمة بسبب جهلهم الأسباب المعقولة النافعة للأكل أو الامتناع عنه.
فنحن نصوم ممتنعين عن الخمر واللحوم، ليس احتقارًا لهما كأشياء دنسة، بل أملًا في المكافأة. فنستهين بالأمور المادية لكي نتمتع بالوليمة الروحية العقلية، وإذ نزرع الآن بالدموع نحصد في العالم الآتي بالفرح (مز 126: 5).
إذن لا تدنْ من يأكل، إذ بسبب ضعف جسده يشترك في الطعام (رو 14: 3). وأيضًا لا تلم من يستخدم قليل خمر من أجل معدته وأمراضه الكثيرة (1 تي 5: 23)، لا تحسبهم خطاة، ولا تبغض اللحم كطعام غريب، فإن الرسول عرف أناسًا من هذا النوع عندما قال: "مانعين عن الزواج وآمرين أن يمتنع عن أطعمة قد خلقها الله لتتناول بالشكر من المؤمنين" (1 تى 4: 3).
فالامتناع لا يكون بالنظر إليها على أنها أمور دنسة(47) بل من أجل المكافأة. فتترك أمورًا صالحة بسبب تطلعك إلى أمور روحية أفضل.
عدم الأكل مما يقدم الأوثان

28. احفظ نفسك في أمان فلا تأكل مما يقدم الأوثان... فإن هذا الأمر لست أنا وحدي أمنعك عنه، بل والرسل ويعقوب أسقف هذه الكنيسة كان مملوء غيرة من جهته. فلقد كتب الرسل والشيوخ رسالة جامعة لكل الأمم أنه ينبغي أن يمتنعوا أولًا عما ذبح للأصنام ثم عن الدم والمخنوق (راجع أع 15: 20، 29). لأن كثيرين يشربون الدم بصورة وحشية، سالكين مثل الكلاب. وأيضًا يتمثلون بالحيوانات المفترسة التي تفترس المخنوق. أما أنت يا خادم المسيح فاحترس في الأكل مراعيًا أن تأكل بوقار...
ما قلته هذا يكفي بخصوص الأطعمة.
الكساء

29. ليكن لباسك بسيطًا، لا للزينة، بل للسترة للضرورة، لا لكي تخدم غرورك بل لتدفئتك في الشتاء وإخفاء ما هو غير لائق من جسدك، لئلا في إخفاء ما هو غير لائق من جسدك تسقط في أمر غير لائقٍ بملبسك المغالي فيه.
القيامة

30. أتوسل إليك أن تهتم بهذا الجسد، فإنك ستقوم من الأموات لتدان به. إن ساورك بعض الشك باستحالة هذا الأمر، تأمل بنفسك على ما تراه من الأحداث.
اخبرني أين كنت منذ مائة عام ونيف؟ ومن أية مادة حقيرة جدًا وصغيرة للغاية أخذت هذه القامة العظيمة وصار لك هذا الجمال؟ ماذا إذن؟ الذي أوجدك من العدم أما يستطيع أن يقيمك مرة أخرى بعدما صرت موجودًا الآن وتفسد؟!
الذي يقيم المحصول الذي يُزرع من أجلنا عامًا بعد عامٍ(48)، هل يجد صعوبة في إقامتنا نحن؟!...
ها أنت ترى كيف تتجرد الأشجار من الثمار والأوراق شهورًا كثيرة، وإذ يعبر الشتاء تحيا من جديد كما من الموت! أو ليس بالأحرى والأسهل جدًا أن نعود نحن إلى الحياة؟!
لقد تحولت عصا موسى بإرادة الله إلى طبيعة غير طبيعتها، إلى حيَّة، فالإنسان الذي مات أما يمكن أن يُعاد إلى ما هو عليه مرة أخرى؟
31. لا تهتم بالقائلين إن هذا الجسد لا يقوم، فقد شهد إشعياء قائلًا: "تحيا أمواتك تقوم الجثث" (إش 26: 9). ودانيال يقول: "وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي" (دا 12: 2).
ومع أن القيامة عامة للجميع لكنها ليست متشابهة بالنسبة للجميع. جميعًا يستلم أجسادًا أبدية، لكنها ليست متشابهة. فالبعض يتقبلها خلال الأبدية مرتبطين بجوقات الملائكة، وأمّا الأشرار فيتقبلونها لاحتمال عذابات خطاياهم.
جرن المعمودية

32. لهذا السبب وهبنا الرب حسب محبته المترفقة التوبة عند العماد لحمايتنا.
فننبذ الخطايا الرئيسية، بل بالأحرى نترك كل ثقل خطايانا، ونتقبل ختم الروح القدس لنكون ورثة الحياة الأبدية. وإذ تكلمنا بالأمس عن جرن المعمودية بما فيه الكفاية. ليتنا نعود الآن، فنثبت المواضيع التي ذكرناها في افتتاحية تعليمنا.
الأسفار المقدسة

33. الأسفار المقدسة الإلهية الموحى بها: كل العهد القديم والعهد الجديد، هي التي تعلمنا. فإن إله العهدين هو واحد، فقد أخبرنا في العهد القديم عن المسيح، الذي يظهر في العهد الجديد، والذي قادنا خلال الشريعة والأنبياء إلى مدرسة المسيح... إذ "كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح" (غل 3: 24).
إن سمعت أحد الهراطقة ينطق بشرٍ على الناموس والأنبياء أجبه بكلمات المخلص إذ جاء يسوع "لا لينقض الناموس بل ليكمله" (راجع مت 5: 17).
اعرف أيضًا بمثابرة من الكنيسة ما هي أسفار العهد القديم وما هي أسفار العهد الجديد. ولا تقرأ من كتابات الأبوكريفا(49)، لأنه ما الداعي أن تتعب نفسك باطلًا في كتب مُتنازع فيها يا من لم تعرف بعد ما هو معروف للجميع.
اقرأ الأسفار الإلهية الاثنين وعشرين سفرًا للعهد القديم التي قام بترجمتها اثنان وسبعون مفسرًا.
تاريخ الترجمة السبعينية

34. فإنه بعد موت الإسكندر ملك مكدونية وتقسيم مملكته إلى أربعة أقسام بابليون ومكدونية، وآسيا، ومصر، فإن أحد الذين ملكوا مصر هو بطليموس الفيلادلفي كان مغرمًا بالقراءة، يجمع الكتب من كل بقعة، فسمع من أمين مكتبته ديمتريوس فيلادلفيوس عن الكتاب المقدس الذي يحوى الشريعة والأنبياء، وإذ يرى أنه من الأفضل جدًا إلاّ يأخذ الكتب من أصحابها عنوة بل خلال تقديم الهدايا والصداقات، إذ يعلم إن ما يؤخذ عنوة غالبًا ما لا يُسلم كما هو، أما ما يُقدم إليه بطيب خاطر فإنه يُقدم بإخلاص بغير تغيير. لهذا أرسل إلى اليعازر رئيس الكهنة هدايا كثيرة عظيمة للهيكل في أورشليم، وطلب منه أن يرسل عشرة مفسرين من كل سبط من أسباط إسرائيل الاثنى عشر للترجمة(50).
وقد صنع تجربة لمعرفة أنه الكتاب الإلهي (أي لئلا يكونوا قد خدعوه)، فمن حذّره منع القادمين إليه من الاجتماع معًا بل جعل لكل واحد منهم حجرة مستقلة منفصلة في جزيرة فاروس مقابل الإسكندرية. وأمر كل واحد منهم أن يقدم ترجمة للكتب المقدسة. ولما انتهوا من العمل في اثنين وسبعين يومًا أحضر جميع الترجمات التي تمت في حجرات مختلفة، دون أن يرسل الواحدة إلى الأخرى فوجدها متشابهة لا في المعنى فقط، بل وفي الكلمات، لأن الترجمة لم تكن وسيلة لإبراز بلاغة بشرية، بل نطق بها الروح القدس وتمت به...
أسفار العهد القديم

35. من هذه الترجمة اقرأ الاثنين وعشرين سفرًا...
ادرس بشغف الأسفار التي تقرأ علانية في الكنيسة، لأن الرسل والأساقفة الأولون ورؤساء الكنيسة الذين سلمونا هذه الأسفار هم أكثر منك حكمة وتقوى....
فبخصوص العهد القديم -كما نقول- ادرس الاثنين وعشرين سفرًا التي متى كنت مشتاقًا للتعليم تحفظ أسماءها كما أتلوها لك:
* الشريعة، أي أسفار موسى، الأسفار الخمس الأولى: التكوين والخروج واللاويين والعدد وتثنية.
* بعد ذلك يشوع بن نون Nave(51)
* سفر القضاة شاملًا راعوث محسوبًا السفر السابع.
* الكتب التاريخية الأخرى: ملوك الأول والثاني(52)، وهما عند العبرانيين سفر واحد. والثالث والرابع سفر واحد. وبنفس الطريقة أخبار الأيام الأول والثاني سفر واحد.
وأيضًا Esdras الأول والثاني (عزرا ونحميا) سفر واحد.
أستير هو الكتاب الثاني عشر. هذه هي الكتب التاريخية.
* أما الكتب الشعرية فهي خمسة: أيوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الأناشيد. وبهذا يكون العدد سبعة عشر سفرًا.
* يأتي بعد هذا الكتب الخمس للأنبياء وهى:
أ. الاثنا عشر نبيًا وهي تكوٌن سفرًا واحد.
ب. إشعياء.
ج. إرميا ويحوى باروخ ومراثي إرميا والرسالة(53).
د. حزقيال.
هـ. دانيال.
هذه هي أسفار العهد القديم الاثنان وعشرون(54).
أسفار العهد الجديد

36. يحوى العهد الجديد أربعة أناجيل فقط، أما بقية الأناجيل مزورة...
فقد كتب أتباع ماني إنجيلًا دعوه "حسب توما" وقد أعطوه اسم الرسول لكي يفسدوا أرواح البسطاء.
بعد ذلك سفر أعمال الرسول ومعه سبعة رسائل الجامعة ليعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا.
وكخاتم لهذه كلها أخرى أعمال التلاميذ الأربعة عشر رسالة لبولس(55).
أمّا ما تبقّى فهو من الدرجة الثاني.
الأسفار التي لا تقرأها الكنيسة لا تقرأها أنت أيضًا، بل اقرأ ما تسمعه...
حياة المسيحي في المسيح

37. أبطل كل عمل شيطاني ولا تصدق "الحية" المقاومة التي تغيرت عن طبعها الأصلي بإرادتها الحرة. والتي تستطيع أن تغري الإرادة دون أن تلزمها بشيء.
أيضًا لا تنصت إلى أقوال التنجيم والعرافة والتكهنات ولا إلى خرافات الإغريق في الإلهيات(56). فإن العرافة والسحر واستحضار الأرواح لا تستحق حتى سماعها.
ابتعد عن كل نوع من الإفراط ولا تنسق إلى النهم ولا إلى الفسق، ولتكن ساميًا فوق كل طمع ورِبا فاحش.
لا تهلك نفسك بحضورك اجتماعات الوثنين في مشاهدهم العامة ولا تستخدم الاحجبة عند المرض.
أبطل أيضًا كل فظاظة...
لا تنزلق في مذهب السامريين أو اليهودية، لأن يسوع المسيح فاديك.
ابتعد عن ملاحظة السبوت (غل 4: 10)، ولا تدع أطعمة ما أنها دنسة.
على وجه الخصوص أبغض كل اجتماعات الهراطقة الأشرار. وفي كل طريق أمّن نفسك بالأصوام والصلوات والصدقات والقراءة في أقوال الله، فإذ تعيش بقية حياتك في الجسد في تعقل متمسكًا بالتعاليم الصادقة تتمتع بالخلاص الواحد الذي يفيض من العماد. بهذا تُحسب عضوًا في جيوش السماء بواسطة الله الآب، وتستحق أكاليل سمائية في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى أبد الأبد آمين.
_____

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 04:15 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

الإيمان



المقال الخامس
"وأما الإيمان، فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى. فإنه في هذا شُهد للقدماء" (عب 11: 1-2)

1. يا لعظمة لقبك: "مؤمن"!

أظهر الرسول بولس عظمة الشرف الذي يهبه لك الله بانتقالك من نظام الموعوظين إلى جماعة المؤمنين، مؤكدًا "أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح" (1 كو 1: 9). فإذ يُدعى "أمينًا Faithful"، هكذا أنت أيضًا تُدعى بنفس اللقب (أمينًا أو مؤمنًا faithful)، فتتقبل كرامة عظيمة.
فكما يدعى الله صالحًا وعادلًا وقديرًا وخالق المسكونة، هكذا هو آمين. تأمل إذن أية كرامة ارتفعتَ إليها إذ صرت شريكًا في لقب يخص الله!

2. لتكن أمينًا أو مؤمنًا بالعمل

بالأحرى يليق بكل واحدٍ منكم أن يكون أمينًا (مؤمنًا) في ضميره. "أما الرجل الأمين فمن يجده؟!" (أم 20: 6) أظهر صدق إيمانك (أمانتك) لله فاحص الكُلى والقلوب (مز 7: 9)، والعارف بأفكار البشر (مز 94: 11)، ولا تكشف ضميرك لي أنا، لأنك لا تُدان بحسب حكم إنسان (1 كو 4: 3-5).
عظيم هو الإنسان المؤمن، وأغنى من جميع الأغنياء، لأن المؤمن يملك العالم بكل ثروته، إذ يستهين به ويطأه. أما الغني في المظهر صاحب الممتلكات الكثيرة فهو فقير في نفسه، إذ قدر ما يجمع يُنخس بالشوق إلى ما لم ينله بعد.
يحمل المؤمن نقيضين غريبين. إنه غني وهو فقير، إذ يعلم أنه إن كان له قوت وكسوة فليكتف بهما (1 تى 6: 8)، وبهذا يطأ الغنى تحت قدميه.

3. أهمية الإيمان حتى في الأمور الزمنية بين غير المؤمنين

ليس وحدنا نحن الذين نحمل اسم المسيح نعرف كرامة الإيمان العظيمة أن كل ما يجري في العالم -حتى ما يتم على أيدي الغرباء عن الكنيسة(1)- يحدث بإيمان(2).
فبالإيمان تُربط شرائع الزوجية بين أطراف غرباء معًا، فيصير الغريب شريكًا لغريب عنه من جهة شخصه وممتلكاته...
بالإيمان تقوم الزراعة أيضًا، فمن لا يؤمن أنه ينال محصولًا لا يتحمل المشاق.
بالإيمان يثق البحارة في قطعة خشب رقيقة ويستبدلون الأرض الصلبة جدًا بأمواج لا تهدأ، معتمدين على آمال غير أكيدة، حاملين معهم إيمانًا أقوى من كل مرساة.
إذن بالإيمان تتم أغلب شؤون البشر فيما بينهم، ليس بيننا نحن وحدنا بل كما أقول حتى بالنسبة للذين هم من خارج... فإن كانوا لا يقبلون الأسفار المقدسة، لكنهم تعلموا هذا من ذواتهم وقبلوها بإيمان...

4. بالإيمان نتحصن ضد إبليس

القراءة التي تُتلى عليكم اليوم تدعوكم إلى الإيمان الحقيقي، فتقدم لكم الطريق الذي فيه يُسر الله بك إذ قد تؤكد أنه بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب 11: 6).

كيف يُقبل إنسان على خدمة الله إن لم يؤمن أنه واهب المكافأة؟!
كيف تختار شابة حياة العذراوية أو يعيش شاب في تعقل ما لم يؤمن أن للعفة إكليلًا لا يفنى؟! (1 بط 5: 4)
الإيمان بمثابة عين تنير كل ضمير وتهب الفهم، إذ يقول النبي: "إن لم تؤمنوا لا تفهموا" (إش 7: 9 LXX). الإيمان يسد أفواه الأسود (عب 11: 34)، كما حدث مع دانيال، إذ يقول الكتاب عنه: "فاصعد دانيال من الجب، ولم يوجد فيه ضرر، لأنه آمن بإلهه" (دا 6: 23).
هل يوجد ما هو مرعب أكثر من الشيطان؟ نعم، فإننا في مقاومته لا نجد درعًا سوى الإيمان (1 بط 1: 9)، إذ هو ترس خفي ضد عدو غير منظور، يرشق سهامًا متنوعة في ليلٍ بهيمٍ (مز 11: 2) تجاه غير المتيقظين. فإذ لنا عدو غير منظور يلزمنا الإيمان كعدة حربية قوية، إذ يقول الرسول: "حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة" (أف 6: 16). فإذ يصوب إبليس سهم الشهوة الدنس الملتهب، يُقدم الإيمان صورة الدينونة، فيبرد الذهن وينطفئ السهم.

5. مثال من العهد القديم: إبراهيم

إن لي كثيرًا أقوله عن الإيمان، ولا يكفيني اليوم كله لوصفه كما ينبغي. إنما لنكتفِ بإبراهيم كمثال من العهد القديم، ناظرين أننا قد صرنا أبناءه بالإيمان. لقد تبرر ليس فقط بالأعمال(3)، بل وأيضًا بالإيمان. فمع أنه صنع أعمالًا صالحة كثيرة، لكنه لم يُدع خليل الله إلاّ عندما آمن. وهكذا كما تبرر هو تتبرر أنت أيضًا.
لقد مات جسده فعلًا من جهة النسل، وشاخت سارة، ولم يوجد بعد أي رجاء لهما لإنجاب أبناء. وإذ وعد الله الشيخ بابن، فإن إبراهيم "إذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبر جسده وهو صار مماتًا" (رو 4: 19) إذ لم يتطلع إلى ضعف جسده، بل إلى قوة من وعده، إذ حسب الذي وعده صادقًا (عب 11: 11). هكذا بغير تردد اقتنى ابنه من الجسدين اللذين ماتا فعلًا.
وعندما اقتنى ابنه أُمر أن يقدمه ذبيحة، ومع أنه سمع الكلمة "بإسحق يُدعى لك نسل" (تك 21: 12؛ 22: 2)، قدم ابنه الوحيد لله مؤمنًا أنه قادر أن يقيمه من الأموات (عب 11: 19). وإذ ربط ابنه ووضعه على الحطب، قدمه فعلًا بالنيّة، لكن خلال صلاح الله الذي أعطاه حملًا عوض ابنه، تقبّل (إبراهيم) ابنه حيًا.
وإذ آمن إبراهيم في هذه الأمور ختم بره "وأخذ علامة الختان ختمًا لبرّ الإيمان الذي كان في الغرلة" آخذًا وعدًا أن يكون "أبًا لجمهور من الأمم" (رو 4: 11؛ تك 17: 5).

إبراهيم أب لأمم كثيرة

6. إذن ليتنا نرى كيف صار إبراهيم أبًا لأمم كثيرة؟ (رو 4: 17، 18) فبالنسبة لليهود هو أب لهم كما هو معروف، إذ هم نسله حسب الجسد.
لكننا إن أخذنا بالنسل حسب الجسد تكون الأقوال باطلة. لأنه حسب الجسد إبراهيم ليس أبًا لجميعنا، إنما نحن صرنا أبناء لإبراهيم على مثال إيمانه. كيف؟ وبأية طريقة؟ إنه بحسب البشر لا يُعقل قيامة إنسان من الأموات، ولا يُصدق أن يأتي نسل من شيخين متقدمين في السن كالأموات. هكذا أيضًا عندما كُرز بالمسيح أنه صُلب على شجرة، وإنه مات وقام آمنا نحن. فعلى مثال إبراهيم، بإيماننا صرنا أبناء له.
ويتبع إيماننا أننا نتقبل مثله الختم الروحي، إذ نُختن بالروح القدس خلال المعمودية، ليس في غرلة الجسد بل في القلب، كقول إرميا: "اختننوا للرب في غرلة قلوبكم" (راجع إر 4: 4). وقول الرسول "بختان المسيح مدفونين معه في المعمودية..." (كو 2: 11، 12).

7. مثال من العهد الجديد: بطرس على المياه

إن حفظنا هذا الإيمان نتحرر من الدينونة ونتزين بكل أنواع الفضائل.
عظيم هو السير على البحر فبطرس إذ كان إنسانًا مثلنا له جسد ودم ويقتات بطعامٍ، عندما قال له يسوع: "تعال" (مت 14: 29) آمن وسار على المياه في أمان أكثر مما لو كان على الأرض، وارتفع جسده بفعل سمو إيمانه. ومع أن سيره على المياه كان فيه أمان طالما هو مؤمن، فإنه عندما شكّ في الحال بدأ يغرق. وعندما رأى يسوع -مخفف الآلام- هلاكه قال له: "يا قليل الإيمان لماذا شككت؟" (مت 14: 31) وإذ تقوّى من جديد بالذي أمسكه بيمينه. وعاد إليه إيمانه وهو ممسك بيد السيد، عاد إلى سيره على المياه. وقد أُشير إلى هذا بطريق غير مباشر إذ يقول: "ولما دخل السفينة" (مت 14: 36)، إذ لم يذكر أن بطرس سبح وعبر، بل نفهم أنه رجع إلى السفينة مرة أخرى نفس المسافة التي جاءها ليقابل يسوع.

8. بالإيمان يخلص الغير أيضًا

نعم، الإيمان هكذا هو قدير، حتى أنه ليس فقط المؤمن وحده هو الذي يخلص، بل ويخلص البعض بإيمان الآخرين. فالمفلوج بكفر ناحوم لم يكن مؤمنًا، لكن الذين أحضروه كانوا مؤمنين ودلّوه من السقف (مر 2: 4)، إذ كان مرض نفسه مشتركًا في مرض جسده.
لا تظن أنني أتهمه باطلًا، فإن الإنجيل نفسه يقول: "ولما رأى يسوع إيمانهم -وليس إيمانه- قال للمفلوج: قم" (مت 9: 2، 6).
الحاملون آمنوا والمريض بالفالج انتفع ببركة الشفاء!

أختا لعازر

9. أتريد دليلًا أقوى على أن البعض يخلص بإيمان آخرون؟! لعازر مات (يو 11: 14-44)،ومضى عليه يوم واثنان وثلاثة، وانحلت عضلاته، ودّب الفساد فعلًا في جسده. كيف يمكن لميت له أربعة أيام أن يؤمن، ويطلب بنفسه من المخلص؟
ولكن ما نقص عند الميت، وُجد عند أختيه الحقيقيتين، فعندما أتى الرب سجدت الأخت أمامه. وعندما قال: "أين وضعتموه؟" أجابته: "يا سيد قد أنتن، لأن له أربعة أيام". فأجابها: "إن آمنتِ ترين مجد الله". كأنه يقول لها: ليكن عندك الإيمان الذي يقيم جثة الميت.
كان لإيمان الأختين قوة عظيمة هكذا حتى أعاد الميت من أبواب الجحيم! إن كان للبشر بالإيمان -واحد لحساب الآخر- يمكن أن يقوم الميت، أما يكون النفع أعظم إن كان لك إيمان خالص لأجل نفسك؟! بلى، حتى وإن كنت غير مؤمن أو قليل الإيمان فإن الله محب البشر يتعطف عليك عند توبتك.فمن جانبك يليق بك أن تقول بذهن أمين: "أؤمن يا سيد، فأعن عدم إيماني" (مر 9: 24).
أما إذا حسبت أنك مؤمن بحق، لكنك لست في كمال الإيمان، فإنك محتاج أن تقول مثل الرسل: "يا رب زد إيماننا" (راجع لو 17: 5). فإذ لك نصيب من جانبك، تتقبل النصيب الأعظم من الله.

الإيمان العقائدي

10. كلمة "الإيمان" من جهة اللفظ واحدة، لكنها تحمل معنيين متمايزين. يوجد نوع من الإيمان عقائدي dogmatic يحمل قبول النفس لأمورٍ معينة. وهو مفيد للنفس كقول الرب: "إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة" (يو 5: 34). وأيضًا من "يؤمن بالابن لا يدان بل انتقل من الموت إلى الحياة" (يو 3: 18، 5: 24).
يا لمحبة الله المتحننة! لأنه كان الأبرار لسنوات طويلة موضع سروره، وما اقتنوه خلال السنوات العديدة لإرضائه يمنحه لك يسوع في ساعة واحدة. فإنك إن آمنت أن يسوع المسيح رب، وأن الله أقامه من الأموات تخلص، وينقلك في الفردوس الذي أدخل فيه اللص.
لا تشك في إمكانية هذا، لأن الذي خلص اللص على هذه الجلجثة المقدسة بعد ساعة واحدة من إيمانه هو بنفسه يخلصك بإيمانك (لو 23: 24).

الإيمان بحسب النعمة من الروح القدس

11. يوجد نوع آخر من الإيمان يمنحه المسيح كهبة للنعمة، "فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء" (1 كو 12: 8، 9). هذا الإيمان المُعطى هو نعمة من الروح القدس وليس مجرد إيمان تعليمي، إنما يعمل أعمالًا فوق طاقة الإنسان. فمن له هذا الإيمان ويقول لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك ينتقل (راجع مر 11: 23). من يقول هذا بإيمان أنه يكون ولا يشك في قلبه يتقبل نعمة.
وقد قيل عن هذا الإيمان: "لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل" (مت 17: 20). وحبة الخردل صغيرة الحجم لكنها متقدة في عملها حتى أنه وإن كانت تُزرع في موضع صغير لكن بنموها يصير لها مجموعة أغصان عظيمة تؤوي الطيور (مت 13: 32).
هكذا أيضًا للإيمان فاعلية عظيمة في النفس في لحظة سريعة، فعندما تستنير تتمتع برؤى خاصة بالله، إذ تراه قدر ما تستطيع، وتهيم فوق رباطات العالم، وترى الدينونة ونوال المكافأة الموعود بها قبل نهاية هذا العالم. ألك الإيمان في الله الذي من جانبك(4) حتى تتقبل منه ذاك الإيمان الذي يعمل ما هو فوق حدود البشر؟!(5)

أهمية قانون الإيمان الكنسي

12. عندما تتعلم "الإيمان" والاعتراف به، أطلب هذا الإيمان وحده الذي تسلمه لك الكنيسة الآن(6)، واحتفظ به، هذا المشيٌد من كل الكتاب المقدس تشييدًا قويًا.
فإذ لا يستطيع الكل أن يقرأ الكتاب المقدس (بكامله)، فلكي لا تهلك النفس بسبب الجهل لحرمانها من المعرفة بسبب نقص تعلمها... نلخص كل تعليم الإيمان في سطورٍ قليلة.
هذا الملخص أريد منك أن تتذكره عندما أتلوه عليك، وتردده أنت بكل اجتهاد. فلا تكتبه على ورق، بل انقشه بذاكرتك في قلبك، واحذر لئلا يسمعه أحد الموعوظين(7)...
إنني أرغب في تقديمه لك كعونٍ يسندك كل أيام حياتك، لا تطلب آخر سواه حتى إن تغيّرنا نحن أنفسنا ونقضنا هذا التعليم الحالي، أو جاءكم ملاك مقاوم مغيرًا شكله إلى ملاك نوراني (2 كو 11: 54) لكي يضللكم. "ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما" (غل 1: 8-9).
أنصت الآن إذا حدثك ببساطة ناطقًا قانون الإيمان.
أودعه في ذاكرتك، وفي الوقت المناسب سأثبت كل بند من بنوده ببراهين من الأسفار المقدسة، لأن بنود الإيمان لم تُجمع حسبما يبدو صالحًا في عيني إنسان، بل جمعت البنود الهامة الواردة في الكتاب المقدس كله مكونة تعليمًا للإيمان واحدًا كاملًا.
وكما تحمل حبة الخردل أغصانًا كثيرة في حبة واحدة صغيرة، هكذا يحتضن الإيمان كل معرفة الصلاح الواردة في العهد القديم والعهد الجديد مسطرًا في كلمات قليلة...
يا إخوة، انظروا وتمسكوا بالتقاليد(8) التي تتسلمونها الآن. اكتبوها على ألواح قلوبكم.

الإيمان كوديعة

13. كرموها (التقاليد) لئلا يُهلك العدو من يتراخى، أو يشوِّه أحد الهراطقة إحدى الحقائق المسلمة إليكم. فإن الإيمان يشبه إيداع الأموال في مصرف (مت 25: 27، لو 19: 23) كما نفعل نحن الآن، لكن اطلبوا الحسابات المودعة من الله.
وكما يقول الرسول: "أوصيك أمام الله الذي يحي الكل، والمسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس بنطس بالاعتراف الحسن أن تحفظ هذا الإيمان المسلم إليك بلا دنس إلى ظهور ربنا يسوع المسيح" (راجع 1 تي 13: 14).
لقد تسلمت الآن كنز الحياة، ويطلب السيد منك أن تودعه إلى مجيئه، "الذي سيبينه في أوقاته، المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب، الذي وحده له عدم الموت، ساكنًا في نور لا يُدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له (المجد) والكرامة والقدرة" (1 تي 6: 15-16) إلى الأبد. آمين.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 06:32 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg


وحدانية الله: أؤمن بإله واحد | بخصوص الهراطقة





المقال السادس




"أما إسرائيل، فيخلص بالرب خلاصًا أبديًا، لا تخزون ولا تخجلون إلى الأبد. لأنه هكذا قال خالق السماوات...أنا الرب وليس آخر". (إش 45: 17-18)


1. وحدانية المجد للآب والابن


"مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح" (2 كو 1: 3). مبارك أيضًا ابنه الوحيد(9).

إذ نفكر في الله، فلنفكر في الحال في الآب دون أن نجزئ مجد الآب عن الابن، لأنه ليس للآب مجد والابن مجد آخر، بل هو مجد واحد بذاته، إذ هو أب الابن الوحيد.

إذ يتمجد الآب يشاركه الابن مجده، لأن مجد الابن من كرامة الآب!

وأيضًا عندما يتمجد الابن يُكرم الآب -الذي له بركة عظيمة- بكرامة علوية!


2. مجد الله لا يُنطق به!


إن كان الذهن يستوعب أفكاره في غاية السرعة، لكن اللسان يتطلب كلمات وإبراز حديث طويل كوسيط (للتعبير عما يجول في الذهن).

العين تدرك عددًا من مجموعات الكواكب في لحظة واحدة، لكن متى رغب الإنسان في وصفها واحدة فواحدة، ليصف كوكب الصباح وكوكب المساء... يحتاج إلى كلمات كثيرة!

وهكذا أيضًا في لحظة خاطفة يستوعب الذهن الأرض والبحر وكل أفق المسكونة، وما يدركه في لحظة يستلزم الكثير من الكلمات لوصفه(10).

هذا المثال الذي قدمته قوي، لكنه أيضًا ضعيف وغير لائق، لأننا لا نتكلم عن الله كل ما ينبغي الحديث به (إذ لا يعرفه إلاّ الله وحده)، وإنما نتكلم حسبما تسعفنا الطاقة البشرية قدر ما يحتمل ضعفنا. إننا لا نشرح الله كما هو، بل في صراحة أقول إننا نشهد بأن معرفتنا لله كما هو غير دقيقة!

إن أفضل معرفة هي اعترافنا بجهلنا فيما يخص الله!(11)

إذن "عظموا الرب معي ولنُعلِّ اسمه معًا" (مز 34: 3). لنجتمع كلنا معًا في مجموعنا، لأن الإنسان ضعيف بمفرده. لا بل بالأحرى وإن اتحدنا جميعًا معًا لا نقوم بالعمل (تعظيم الله وتسبيحه) كما ينبغي!

إنني لا أقصدكم أنتم فقط الحاضرين هنا، بل ولو اجتمع كل أبناء الكنيسة في العالم، سواء الموجودين الآن أو الذين سيكونون فيما بعد، فإن الجميع معًا يعجزون عن الترنم بتسابيح راعيهم!


3. إبراهيم أدرك عجزه أمام الله!


إبراهيم رجل عظيم ومكرم بمقارنته بالبشر فقط، لكنه متى امتثل أمام الله تكلم بحق قائلًا في صراحة: "أنا أرض ورماد" (تك 17: 27). إنه لا يقف عند حد قوله "أنا أرض" لئلا يكون قد لقب نفسه بعنصر عظيم بل أكمل "ورماد" معلنًا طبيعته الواهية. هل يوجد شيء أقل من الرماد وأهون منه؟ فلنقارن الرماد بالبيت، والبيت بالمدينة، والمدينة بمقاطعة الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الرومانية بكل الأرض، وكل الأرض بالسماوات التي تحيط بها...

وعندما تستوعب بالفكر السماوات بأجمعها، ومع هذا فإن السماوات أيضًا لا تستطيع تمجيد الله كما يستحق، حتى ولو كانت أصواتها أقوى من الرعد. إن كانت هذه القوات السمائية العظيمة لا تقدر أن تتغنى بتسابيح الله كما ينبغي، فهل يقدر "الأرض والرماد" الذي هو أقل الأشياء وأصغرها أن يقدم التسبيح لله، أو يستحق الحديث عن "الجالس على كرة الأرض و(الممسك) سكانها كالجندب (نوع من الجراد)" (إش 40: 22).


4. من يدرك الله في كماله؟!


إن حاول أحد الحديث عن الله، فليبدأ أولًا بالحديث عن الأرض، فإن كنتَ وأنت تسكن الأرض لا تعرف حدودها... كيف تقدر أن تشكل فكرًا سليمًا عن خالقها؟!

إنك تنظر الكواكب ولا ترى خالقها، أحصِ هذه الكواكب المنظورة، وبعد ذلك صف ذاك الغير منظور، إذ هو "يحصي عدد الكواكب، يدعو كلها بأسماء" (مز 47: 4).

منذ فترة قليلة اجتاحتنا السيول متأخرًا وأهلكتنا. أحصِ قطرات الأمطار التي سقطت على هذه المدينة وحدها، لا بل أقول إن استطعت فأحصِ فقط القطرات التي سقطت على منزلك -وليس على المدينة- لمدة ساعة واحدة! إنك لا تستطيع!

إذن، فلتعرف ضعفك ولتعلم من هذه اللحظة قدرة الله "المحصي قطرات الأمطار" (راجع أي 36: 27) على المسكونة كلها، ليس الآن فقط بل خلال كل الأزمنة.

والشمس هي من صنع الله. ومع عظمتها فهي أشبه بنقطة وسط السماء. تأمل الشمس وبعد ذلك تفرّس في رب الشمس مندهشًا. "لاَ تَطْلُبْ مَا يُعْيِيكَ نَيْلُهُ، وَلاَ تَبْحَثْ عَمَّا يَتَجَاوَزُ قُدْرَتَكَ، لكِنْ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ، فِيهِ تَأَمَّلْ" (سفر يشوع بن سيراخ 3: 22).


5. إذن، كيف نتكلم عن الله؟!


رب قائل يعترض: إن كان جوهر اللاهوت لا يقع تحت الحواس، فلماذا نتحدث في هذه الأمور؟ نعم، هل لأني لا أستطيع أن أشرب النهر كله يكون هذا سببًا في ألاّ أستقي منه باعتدال قدر ما يناسبني؟! هل لأن عينيَّ تعجزان عن استيعاب أشعة الشمس في كمالها ألاّ أنظر إليها قدر ما احتاج؟! وإذا دخلت حديقة عظيمة ولم أقدر أن آكل كل ثمارها هل تريد مني أن أخرج منها جائعًا؟! إذن لأسبح الله خالقنا وأمجده، إذ وُهبت لنا وصية إلهيه تقول: "كل نسمة فلتسبح الرب" (مز 50: 6).

إنني أسعى الآن، أقوم بتمجيده دون أن أصفه، عالمًا أنه بالرغم من عجزي عن القيام بتمجيده حسبما يستحق، لكن حتى مجرد السعي هو من الأعمال التقوية. ويشجع الرب يسوع ضعفي بقوله: "الله لم يره أحد في أي زمان" (يو 1: 18).


6. الملائكة ترى الله قدر احتمالها!


رب قائل يعترض: ماذا إذن، ألم يُكتب: "إن ملائكة الصغار كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات؟" (أنظر مت 18: 10). نعم لكن الملائكة ترى الله ليس كما هو، بل قدر ما تحتمل. إذ يقول يسوع المسيح: "ليس أن أحدًا رأى الآب إلاّ الذي من الله، هذا قد رأى الآب" (يو 6: 46).

لذلك فالملائكة ترى الله قدر ما تحتمل، ورؤساء الملائكة يرون قدر ما يحتملون، والعروش والسلاطين يرون أكثر من السابقين، لكنها لا ترى كما يستحق الله(12).

فالابن -مع الروح القدس- هو وحده الذي يقدر أن يراه بحق كما هو، لأنه: "يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (1كو 2: 10). هكذا الابن الوحيد مع الروح القدس يدركان الآب في كماله، إذ قيل: "لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له" (مت 11: 27).

إذ يري الكل حسب احتمالهم، لذلك فهو يرى الآب بكماله، معلنًا الله (الآب) خلال الروح، إذ الابن مع الروح شريك (واحد) مع الآب في اللاهوت.

المولود يعرف الوالد، والوالد يعرف المولود.

إن كان الملائكة جاهلين (بمعرفة الله في كماله)، فلا يخجل أحدكم من الاعتراف بجهله.

حقًا إنني أتكلم الآن كما يتكلم أي إنسان في مناسبة ما، أما كيفية الكلام فلست أعرفه. إذن كيف أستطيع أن أخبركم عن واهب الكلام نفسه؟!

وإذ لي نفس لا أقدر أن أخبركم عن سماتها المميزة لها، فكيف أصف واهب النفس؟!


7. كماله مطلق!


من أجل التقديس يكفينا أن ندرك في بساطة أن لنا إله، هذا الإله واحد حي، حيّ إلى الأبد، يشبه ذاته على الدوام "بلا تغيير"، ليس له أب غيره ولا أحد أقوى منه، لي ينازعه خليفة مملكته. له أسماء متعددة، سلطانه بلا حدود، جوهره بلا تغيير.

وإذ يدعى صالحًا وعادلًا وقديرًا وصباؤوت(13)، فلا يفهم من ذلك أي تنوع أو أنه أخذ أشكالًا متغايرة. إنما هو واحد، يقوم بأعمالٍ كثيرة بفعل لاهوته دون زيادة أو نقص، بل في كل شيء شبيه بذاته بلا تغيير.

إنه ليس عظيمًا في حبه المترفق وقليلًا في الحكمة، بل له قوة متساوية في الحكمة والحب المترفق. لا يُرى من ناحية معينة فيه دون أخرى، بل كله عين وكله إذن وكله ذهن(14). إنه ليس مثلنا يُدرك من جانب دون آخر. فإن مثل هذا تجديف لا يليق بجوهر الله الذي يعرف الأمور قبل كونها. قدوس وقدير، يفوق الكل في الصلاح والعظمة والحكمة. لا يمكننا أن نخبر عن بداية له أو شكل أو مظهر، إذ يقول الكتاب: "لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته" (يو 5: 37). وكما قال موسى: "احتفظوا جدًا لأنفسكم، فإنكم لم تروا صورة ما (يوم كلمتكم)"(15). فإذ يستحيل تمامًا رؤية شكله، كيف تفكر في الاقتراب من جوهره؟!


8. لا تتصور اللاهوت بشكلٍ!


كثيرون قدموا تصورات لله، وجميعهم فشلوا. فالبعض تخيلوه نارًا، وآخرون حسبوه إنسانًا مجنحًا، إذ أساءوا فهم العبارة الحقانية القائلة: "بظل جناحيك استرني" (مز 17: 8). لقد نسوا قول ربنا يسوع المسيح في حديثه إلى أورشليم عن نفسه: "كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37).

إنه يتطلع إلى قوة حماية الله كأجنحة، أما هم ففشلوا في فهم هذا، ساقطين في إدراكات بشرية (حسِّية)، ظانين غير المفحوص على شكل إنسانٍ!

كذلك تجاسر البعض قائلين إن له سبع أعين، إذ مكتوب "إنما هي (سبع) أعين الرب الجائلة في الأرض" (زك 4: 10). فإن وضعت حوله سبع أعين منفصلة، يكون بهذا نظره منفصل وغير كامل. وفي هذا القول عن الله تجديف، إذ يليق بنا أن نعتقد في كمال الله في كل شيءٍ، كقول المخلص: "إن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (مت 5: 48).

إنه كامل في النظر، وكامل في القوة، وكامل في العظمة، وكامل في العدل، وكامل في المحبة المترفقة. ليس بمحصور بفراغٍ، بل هو خالق كل الفراغ، موجود في الكل، لا يحدّه شيء. حقًا "السماء كرسيه"، لكن ليس بجالسٍ عليها، "والأرض موطئ قدميه" (راجع إش 66: 80)، لكن قوته تبلغ إلى ما تحت الأرض...


10. تركوا الله الحقيقي وعبدوا الخليقة!


الله عظيم هكذا بل وأعظم (لأنه وإن تحول كل كياني إلى لسان لما استطعت التحدث عن سموّه. بلى ولو اجتمعت كل الملائكة معًا لما قدرت أن تتحدث عنه كما يستحق).

ومع أنه عظيم هكذا في صلاحه وجلاله لكن الإنسان تجاسر وقال للحجر الذي نحته "لأنك أنت إلهي" (إش 44: 17). يا للعمى المريع، إذ نهوي من عظمة هذا قدرها إلى انحطاط هذا عمقه! الشجرة التي أوجدها الله وتعهدها بالأمطار، التي ستحرق وتصير رمادًا تُدعى الله، والله الحقيقي يُزدرى به!

بل انتشر شر الوثنية بأكثر إسراف، فعُبدت القطة والكلب والذئب عوض الله!(16) عُبد الأسد مفترس الإنسان بدل الله صديق الإنسان المحب له إلى الغاية! عُبد الثعبان والحية(17) التي خدعته، وأخرجته من الفردوس، ومستهينًا بالذي غرس له الفردوس!

إنني أخجل أن أقول، لكنني أقول إنهم عبدوا حتى البصل!

لقد أُعطى الخمر ليبهج قلب الإنسان (مز 104: 10)، لكن ديوناسيوس (باخوس) عبده عوض الله (لأجل البهجة)! خلق الله القمح بقوله "لتنبت الأرض عشبًا" (تك 1: 11)، وتأتي البذور كل بنوعها، وبهذا يتقوّت قلب الإنسان بالخبز، فلماذا يعبده ديميتر Demeter!

إلى يومنا هذا تتولد النار من احتكاك الحجارة معًا، فكيف يكون هيفاستوس (فولكان) خالق النار؟ (مز 104: 15)


تعدد الآلهة يدعو إلى مجيء الابن


11. كيف جاء الشرك بالله عند اليونانيين؟ الله ليس له جسد، فكيف وُجد بين المدعوين آلهة زناة؟! إنني لست أتكلم بخصوص تحول زيوس إلى خنزير. إنني أخجل من التحدث عن تحوله إلى ثور، لأن النعير لا يليق بإله!

لقد وُجد عند الإغريق إلهًا زانيًا، وهم لا يخجلون من هذا، إذ كيف يدعى إلهًا من كان زانيًا؟! يتحدثون عن آلهة سقطوا في ميتات(18) وسقطات(19) وانحطاط. انظروا كيف سقطوا من علوّ شاهق هكذا إلى انحطاط شديد.

إذن هل جاء ابن الله من السماء باطلًا؟! ألم يأتِ ليشفي جرحًا كان عظيمًا هكذا؟!


هل جاء الابن باطلًا؟ أم جاء لكي يخبر عن الآب؟! لقد عرفت ما هو الدافع لمجيء الابن الوحيد من العرش عن يمين الآب فإذ هم احتقروا الآب جاء الابن يصلح الأمر.

إذ به خُلق كل شيء التزم أن يحضر "الخليقة" بأسرها كتقدمة لرب الكون!

لاق به أن يضمد الجراح، لأنه أي جرح أشر من أن يُعبد الحجر عوض الله؟!


الهرطقات

12. لهم اسم المسيح وهم أعداء له!


لا يصنع الشيطان هذه الحروب بين الوثنيين وحدهم، بل حتى بين كثيرين من المدعوين مسيحيين باطلًا، هؤلاء الذين ينتسبون خطأ إلى اسم المسيح العذب، إذ يخطئون في كُفر متجاسرين أن يُبعدوا الله عن خليقته. أقصد بذلك جماعة الهراطقة، أشر الناس، أصحاب الاسم الرديء، يتظاهرون بالصداقة مع المسيح، وهم مبغضون له تمامًا. إذ من يجدف على أبي المسيح يكون عدوًا للابن.

لقد تجاسروا فنادوا بوجود إلهين: واحد صالح والآخر شرير. يا للعمى المريع! كيف ندعو من هو غير صالح إلهًا! الله بالتأكيد صالح؟! يُحسب الصلاح هكذا إذ هو من خصائص الله، فالله وحده يخصه الحب المترفق والبركة والقدرة والسلطان. فلهم أحد اختيارين، إما يربطون الاسم بالعمل لمن يدعونه الله، أو لا يعطونه الاسم مجردًا بغير عمل.


سخافة الثنائية


13. يتجاسر الهراطقة فينادون بوجود إلهين: مصدرين للخير والشر، وهما غير مولودين. فإن كانا غير مولودين، فهما متساويان وقديران، فكيف يبدد النور الظلمة؟! ثم هل يتواجدان معًا أم هما منفصلان عن بعضهما البعض؟ لا يمكن أن يكونا معًا، إذ يقول الرسول: "أية شركة للنور مع الظلمة؟!"(20)

وإن كان أحدهما منفصلًا عن الآخر فبلا شك يحتل كل منهما مكانًا مستقلًا. وعلى هذا نكون تحت سيادة أحدهما، وبالتالي نعبد إلهًا واحدًا.

إذن ننتهي إلى أننا حتى إن قبلنا غباوتهم نلتزم بالتعبد لله الواحد(21).

لنسألهم عما يقولون في صدد الإله الصالح: هل هو قدير أم غير قدير؟

إن كان قديرًا، فكيف لا يستطيع أن يسحق الشر؟ وكيف يتأتى الشر على الرغم من إرادته؟

فإن كان يراه ولا يستطيع منعه، بهذا ينسبون إليه العجز. وإن كان يستطيع أن يمنعه ولا يفعل ذلك، فيُحسب غير صالح. اُنظر إذن إلى جنونهم؛ فإنهم يدّعون أحيانًا أنه إله الشر، لا علاقة له بإله الخير فيما يختص بالخليقة.

يقولون أحيانًا إن له رُبع العالم.

ويقولون أيضًا إن الإله الصالح هو أبو المسيح، ويُسمون المسيح بالشمس. فإن كان العالم -حسب عقيدتهم- من صنع إله الشر؛ وإذا كانت الشمس في العالم، فكيف يمكن لابن الله الصالح أن يخدم إله اشر مُكرها؟

إننا نتلوث بالحديث عن هذه الأمور، لكننا نتحدث عنها حتى لا يسقط أحد من الحاضرين في حمأة الهراطقة عن جهلٍ.

أنا أعلم أن فمي قد تلوث، وكذلك آذان السامعين. لكن الأمر لا يخلو من فائدة، إذ من الأفضل أن نحثكم عن عقائد الآخرين الخاطئة، عن أن نترككم تسقطون فيها عن جهلٍ.

عقيدة الهراطقة الشريرة متشعبة، وعندما يضل أحد عن طريق التقوى ينساق إلى إحدى شُعبها.


14. سيمون الساحر مصدر كل هرطقة


مصدر كل هرطقة هو سيمون الساحر(22)، هذا الذي جاء عنه في سفر أعمال الرسل أنه فكَّر أن يشتري بمال نعمة الروح القدس، فسمع القول: "ليس لك نصيب في هذا الأمر" (أع 8:18-21)... وعنه أيضًا كُتب: "منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا" (1 يو 2: 19). هذا الإنسان بعدما طرده الرسل جاء إلى روما حيث استمال إليه زانية تدعى هيلين Helene(23). وقد تجاسر بفمه المملوء تجديفًا أن يدعي أنه هو الذي ظهر على جبل سيناء كالآب، وظهر كيسوع المسيح بين اليهود، ليس في جسدٍ حقيقيٍ، بل كان يبدو هكذا(24)، وبعد ذلك كالروح القدس الذي وعد المسيح أن يرسله كمعزٍ(25).

لقد خدع مدينة روما حتى أقام له كلوديوس تمثالًا، نُقش عليه من أسفل بلغة الرومان: Simoni Deo Sancto وهى تعني "إلى سيمون الله القدوس"(26).


وضع بطرس وبولس نهاية لخطأ سيمون


15. وإذ كان الضلال سينتشر لهذا وضع النبيلان -بطرس وبولس- من قادة الكنيسة(27) نهاية لهذا الخطأ. وعندما أراد سيمون مُدعي الألوهية أن يظهر نفسه أظهراه كجيفة ميتة، إذ وعد سيمون أنه يرتفع إلى السماوات ويأتي على مركبة شيطانية في الهواء...

هذان طرحا إلى الأرض الإله المزعوم أنه من السماء، حتى يُحمل إلى طبقات الأرض السفلى. لقد ظهرت حيَّة الشر في هذا الرجل، وإذ قُطِع رأس كل منها وُجدت جذور الشر برؤوس أخرى عديدة...


ضلال الأبيونيين ومرقيون


16. صنع كيرنثوس(28) خرابًا في الكنيسة. وأيضًا Menander (29) وكربوقراط(30) وأبيونيت(31) ومرقيون فم الشر، لأنه أعلن عن وجود إلهين مختلفين، واحد صالح والآخر عادل، يناقض الابن القائل "أيها الآب البار" (يو 17: 25).

وأيضًا من يقول إن الآب غير خالق المسكونة يناقض الابن القائل: "فإن كان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل ويُطرح غدًا في التنور يلبسه الله"، "ويشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (لو 12: 28؛ مت 5: 45).

كذلك يُعتبر مرقيون(32) مصدر ثانٍ لضرر أعظم. وقد دُحض بإبراز شهادات من العهد القديم اقتبست في العهد الجديد، إذ تجاسر وعزل العهدين عن بعضهما، تاركًا الكرازة بكلمة الإيمان بغير شاهدٍ، نازعًا الإله الحقيقي، طالبًا تخريب إيمان الكنيسة كأنّ لا بشائر لها.


17. باسيليدس وفالنتينوس


هذا تبعه آخر هو باسيليدس(33) الشرير صاحب الشخصية الخطيرة، والكارز بالأدناس.

وجاء أيضًا فالنتينوس(34)معينًا للشر، هذا الذي نادى بوجود ثلاثين إلهًا. لقد تحدث الإغريق عن آلهة قليلة، أما هذا الإنسان الذي ادعى المسيحية باطلًا فقد بالغ في الفساد فجعلهم ثلاثين إلهًا. لقد قال أيضًا أن بيثوس Bythus الذي من الهاوية وُلد صامتًا والصمت ولد الكلمة...

البيتوس هذا أشر من زيوس الذي للإغريق، هذا الذي اتحد بأخته...

أما ترى السخافات التي اقترحها متسترًا تحت المسيحية؟!

انتظر قليلًا فستصعق من شره، إذ يؤكد أن بيثوس هذا ولد ثمانية أيونات، ومنهم وُلد عشرة، كما ولد اثنا عشر ذكرًا وأنثى (8 +10 + 12=30) من أين يدلل على هذا!؟

من أين جاء بالثلاثين أيونا؟؟

إنه يجيب: مكتوب عن يسوع أنه اعتمد وهو في الثلاثين من عمره (لو 3: 23).

إن كان قد اعتمد في الثلاثين من عمره، فهل في هذا دليل؟! هل يوجد خمسة آلهة لأنه كسر خمسة أرغفة لخمسة آلاف رجل؟! أو هل يلزم وجود اثني عشر إلهًا لأنه كان تلاميذه اثني عشر؟!


المسيح حسب فالنتينوس


18. حتى هذه الأقوال لا تزال أقل شرًا من غيرها، فقد تجاسر قائلًا: إن آخر الآلهة الكائنة هو ذكر وأنثى، وهذا الإله يدعى الحكمة(35). أي شر هذا، فإنه حقّر حكمة الله (1 كو 1: 24)، أي المسيح الابن الوحيد، فدعاه أنثى، وجعله أحد ثلاثين (أيونا)، وآخر خالق!

كذلك يقول إن الحكمة سعت لترى الإله الأول، وإذ لم تحتمل بهاءه سقطت من السماء وُطردت في ثلاثين، فتنهدت، ومن تنهدها وُلد الشيطان، ومن بكائها على سقوطها صنعت دموعها البحر. يا له من كفرٍ! كيف تخلق الحكمة الشيطان، والتعقل والشر، والنور والظلمة؟!

كذلك قال إن إبليس ولد آخرين، ومن هؤلاء خلق العالم. وقد نزل المسيح لكي ما يُعّصي البشرية ضد خالق العالم.


اهرب من الهراطقة


19. لكن اسمع ماذا يقولون عن شخص يسوع المسيح، إذ يشوّهون أنفسهم أكثر بقولهم إن الحكمة بعدما انطرحت أسفل، فلكي لا يكون العدد ثلاثين كاملًا، فإن التسعة وعشرين أيونًا ساهم كل منهم بنصيبٍ قليلٍ وتكوّن المسيح(36). قد قالوا إنه ذكر وأنثى في نفس الوقت. هل يوجد كفر أشر من هذا؟! هل يوجد بؤس أكثر منه؟!

إنني أصف لك ضلالهم حتى تمقتهم أكثر. ارفض كفرهم، ولا تسلم على من كان هذا حالهم (2 يو 10: 11)، لئلا تشترك معهم في أعمال الظلمة. لا تسألهم ولا تجاملهم(37).


المبتدع ماني


20. أمقت كل الهراطقة، خاصة ذاك الذي يدعى بحق "ماني"، الذي قام من زمن ليس ببعيد في أيام حكم بروبس Probus. لقد بدأ ضلاله منذ تمام سبعين عامًا(38)، ولا يزال إلى يومنا هذا، أحياء رأوه بأعينهم...

لقد طمح في أن يصير أول الأشرار، فأخذ بتعاليم الكل وربط بينها في هرطقة واحدة مملوءة تجاديف وكل شرور، وضع رمادًا في الكنيسة، بل بالأحرى أهلك الذين هم في الخارج، إذ كان زائرًا كالأسد مفترسًا من يجده (1 بط 5: 8).

لا تُبالِ بكلماتهم الرقيقة، ولا بتواضعهم المزعوم، فإنهم حيات أولاد أفاعي (مت 3: 7). لقد قال يهوذا وهو يخون سيده "السلام يا سيدي" (مت 26: 49)، هكذا لا تهتم بقبلاتهم، بل أحذر خبثهم.


21. نشأة ماني ومعلموه


ولئلا أبدو لك إنني اتهمه باطلًا، اسمح لي أن أميل وأخبرك من هو ماني؟ وأُحدثك قليلًا عما علُم به، وإن كان الوقت لا يسمح بالحديث عن كل تعاليمه الغبية بما فيه الكفاية. ولكن "لكي تجد عونًا في حينه" (عب 4: 16) تذكر ما سبق أن أخبرت به من قبل، وأكرره الآن حتى يعرفه من لم يسبق لهم معرفته، ويتذكره من سبق لهم معرفته.

ماني ليس من أصل مسيحي. حاشا! ولا هو كسيمون محروم من الكنيسة، ليس هو هكذا ولا معلموه. إنما هو سرق شر الآخرين ونسب شرورهم إلى نفسه...


سيتيانوس (سكيثيانوس) وتريبنثوس أصل المانية


22. لقد كان في مصر إنسان يدعى سيتيانوس (سكيثيانوس) Scythianus عربي المولد(39)، لا علاقة له لا بالمسيحية ولا اليهودية. سكن في الإسكندرية وتمثل بحياة أرسطو، وصنف أربعة كتب(40)، ودعى أحدها إنجيلًا دون أن تحمل أعمال المسيح إنما حمل مجرد الاسم. والثاني دُعي "الفصول Chapters" والثالث "الأسرار" والأخير هو المتداول اليوم ويدعى "الكنز".

ولما قصد سكيثيانوس الذهاب إلى اليهودية ليصنع فسادًا (بتعاليمه الوثنية) ضربه الرب بمرضٍ خطيرٍ موقفًا سمومه، وقد كان له تلميذ يدعى تريبنثوس Terebinthus.


موت تريبنثوس Terebinthus


23. ورث تلميذه خطأه الشرير كما ورث ماله وكتبه وهرطقته، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. فذهب إلى فلسطين، وهناك اشتهر، وقد أدين في اليهودية، لذلك وضع في نفسه أن يذهب إلى بلاد فارس، ولكي لا تُعرف شخصيته هناك استبدل اسمه مدعيًا أنه بيداس Buddas(41).

على أي الأحوال صنع قلاقل بين كهنة ميثراس Mithras، وإذ دخلوا معه في نقاشٍ وفنّدوا أقواله ببراهين كثيرة ومجادلات، التجأ إلى أرملة معينة لتحميه. وإذ صعد إلى سطح بيتها استدعى شياطين الهواء، الذين لا يزال يستخدمهم أتباع ماني إلى اليوم، الذين صنعوا محفلًا تافهًا ممقوتًا، فضربه الله وسقط من السطح وأماته، وهكذا انقطع الوحش الثاني.


كوبريكوس Cubricus يخلفه باسم ماني


24. بقيت الكتب المسجلة لكفره، إذ ورثتها الأرملة مع أمواله، وإذ لم يكن لها قريب أو صديق قررت أن تشتري ولدًا يدعى كوبريكوس Cubricus(42)، تبنته وعلمته التعاليم الفارسية، فاستل سيفًا شريرًا أشهره ضد البشرية.

نشأ العبد كوبريكوس بين الفلاسفة، وعند موت الأرملة ورث الكتب والمال. ولكي يخفي اسم العبودية دعى نفسه "ماني" التي تعني في الفارسية "مجادل"... إذ حسب نفسه باحثًا.

لقب نفسه "ماني" كما لو كان سيدًا ممتازًا في الجدال. ومع أنه نسب لنفسه اسمًا مكرمًا في لغة الفارسيين، لكن عناية الله اتهمته، إذ هو ديان نفسه بغير إرادته، فإذ يظن أنه مُكرم عند الفرس إذ يدعى مانيًا "Manioe" عند اليونان، ومعناها "الجنون".


ادعى أنه الروح القدس "المعزي"


25. لقد تجاسر فادعى أنه "المعزي" بالرغم مما كتب: "أما من جدف على الروح القدس فلا يُغفر له" (مز 3: 29). لقد ارتكب تجديفًا بادعائه أنه الروح القدس. ليت هؤلاء الهراطقة ينظرون في اجتماعاتهم إلى ما ادعاه لنفسه...!

لقد اشتهر فبدأ يتحدث بأمورٍ فوق طاقة الشر.

حدث أن مرض ابن ملك الفرس، فوعد ماني أنه كإنسان إلهي يشفيه طالبًا الاستغناء عن الأطباء الذين يرعونه، وهنا انفضح كفره، وصار الفيلسوف سجينًا.

لم يسجن من أجل انتهاره الملك لأجل الحق، ولا لرغبته في إبادة الأوثان، إنما سُجن بسبب كذبه وادعائه أنه يخلص، مع أنه كان يليق به أن يقول الحق ولا يرتكب جريمة، إذ قتل الطفل بحرمانه من الأطباء الذين كان يمكن أن ينقذوه بالعلاج.


ماني بعد فشله


26. هنا ظهرت شرور كثيرة أخبرك بها:

أولًا: تذكر تجديفه.

ثانيًا: عبوديته (إذ حسبها عارًا، فتنكر لها).

ثالثًا: بطلان وعده.

رابعًا: قتله الطفل.

خامسًا: عار سجنه. ولم يقف الأمر عند عار السجن بل هرب منه، هرب الذي ادعى أنه "الباراكليت" و"قائد الحق". إنه لم يتبع يسوع الذي ذهب إلى الصليب، بل على العكس هرب.

سادسًا: علاوة على هذا أمر ملك الفرس بعقاب حراس السجن. وهكذا كان سببًا في موت الطفل خلال عجرفته الباطلة، وسببًا في موت الحراس بسبب هروبه.

فهل يُعبد من ساهم في جريمة قتل؟! أما كان يليق به أن يقتفي مثال يسوع القائل: "فإن كنتم تطلبونني، فدعوا هؤلاء يذهبون؟!" (يو 18: 8) أما كان يلزمه أن يقول مع يونان "خذوني واطرحوني في البحر... أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم؟!" (يونان 1: 12)


27. جدال بين الأسقف أرشلاوس وماني


لقد هرب إلى ما بين النهرين(43) وهناك تدرع الأسقف أرشلاوس بالبرّ واصطدم به. لقد جمع محفلًا من الأمم، واتهم ماني في حضرة الفلاسفة كقضاة، إذ خشي أن يصدر عليه المسيحيون حكمًا فلا يبالي به القضاة.

قال أرشلاوس لماني: أخبرنا بماذا تبشر؟

تكلم ذاك الذي فمه مثل قبرٍ مفتوحٍ (مز 5: 9) بتجاديف ضد خالق الكل، إذ قال إنه إله العهد القديم مصدر الشرور، مدللًا بذلك أنه قال عن نفسه أنه "نار آكلة" (تث 4: 24).

أفسد الحكيم أرشلاوس برهانه المملوء تجديفًا بقوله: إن كان إله العهد القديم كما تقول أنه يدعو نفسه نار آكلة، فإن ابنه أيضًا قال "جئت لألقي نارًا على الأرض" (لو 12: 49). وإن كنت تُخطّئ القائل: "الرب يحيي ويميت" (1 صم 2: 6) فلماذا تكرم بطرس الذي أقام طابيثا وجعل سفيره تموت (أع 5: 10). وإن كنت تجد فيه شرًا لأنه أعد نارًا، فلماذا لا تجد ذلك في (المسيح) "اذهبوا عني إلى النار الأبدية؟" (مت 25: 41)

إن كنت تجد خطأ في القائل: "أنا الله، مبلغ السلام وموجد الشر" (إش 45: 7) فكيف تفسر قول يسوع: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا؟!" (مت 10: 34)

فإن كان الاثنان تحدثا بكلام مشابه، بل الاثنان هما واحد. فإما أنهما صالحان، وإلا فلماذا لا تلوم يسوع على حديث نطق به، بينما تلوم ذات الحديث إن ورد في العهد القديم؟


تابع الجدال حول إله العهد القديم ويسوع المسيح


28. عندئذ أجابه ماني: "أي إله هذا الذي يسبب العمى"، إذ يقول بولس: "الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا يضيء لهم إنارة إنجيل (مجد المسيح)" (2 كو 4: 4).

لكن أرشلاوس قدم إجابة مفحمة صالحة بقوله اقرأ ما جاء قبل هذا بقليل: "ولكن إن كان إنجيلنا مكتومًا، فإنما مكتوم في الهالكين" (2 كو 4: 3). أنظر إذن، أنه مكتوم في الهالكين. فليس من الحق أن يُقدم القدس للكلاب (مت 7: 6).

ثم هل إله العهد القديم وحده هو الذي أعمى أذهان غير المؤمنين؟ ألم يقل المسيح نفسه: "من أجل هذا أكلمكم بأمثال، حتى لا يبصروا (لأنهم مبصرين لا يبصرون)؟" (مت 13: 13) هل بدافع البغضة يريدهم إلاّ يبصروا؟ أم بسبب عدم استحقاقهم إذ هم "غمّضوا عيونهم؟!" (مت 13: 15)، فإذ يوجد شر إرادي، تُحجز النعمة عنهم، "لأن كل من له يُعطى فيزاد، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه" (مت 25: 29؛ لو 8: 18).


لماذا تُعمى بصيرة غير المؤمنين؟


29. هذا والبعض يفسره تفسيرًا محقًا يليق بنا أن نأخذ به. إن كان حقًا هو أعمى أذهانهم لكي لا يؤمنوا، فقد أعماهم من أجل غاية صالحة. إذ لم يقل: "أعمى أنفسهم" بل "أذهان غير المؤمنين" (2 كو 4: 4). وهذا معناه أنه يعمي الشهوانيين في ذهنهم الشهواني لكي يخلصوا، ويعمى خبث اللصوصية المستحوذ على أذهان السالبين لكي يخلص الإنسان نفسه.

وإن كنت لا تقبل هذا التفسير، فإنه يوجد تفسير آخر.

الشمس تعمي من كان ضعيف البصر. فمن كانت أعينهم متوعّكة يؤذيهم النور ويصبهم العمى. فليست طبيعة الشمس أن تعمي، بل العين غير قادرة على النظر.

هكذا أيضًا غير المؤمنين كمرضى القلوب لا يستطيعون التطلع إلى بهاء اللاهوت. وإذ لم يقل: "قد أعمى أذهانكم لكي لا يسمعوا الإنجيل"، بل "لئلا يضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح..." لذلك فإن سماع الإنجيل مكفول للجميع، أما مجده فمحفوظ لأولاد المسيح الحقيقيين وحدهم.

من أجل هذا تحدث الرب بأمثال مع الذين لم يقدروا أن يسمعوا (مت 13: 3)، أما التلاميذ ففسّر لهم الأمثال على وجه الخصوص (مز 4: 34)، لأن ضياء المجد هو للذين يستنيرون، والعمى للذين لا يؤمنون(44).

هذه الأسرار التي تشرحها الكنيسة الآن يا من تعبر من فصل الموعوظين لم تشرحها للوثنيين. فلا نشرح للوثني الأسرار الخاصة بالآب والابن والروح القدس، وحتى أمام الموعوظين لا نتكلم عن الأسرار بوضوح، إنما نتحدث عن أمورٍ كثيرة بطريقة محجبة، يفهمها المؤمنون العارفون بها، ولا يتأذى منها غير العارفين.


إعدام ماني


30. بمثل هذه البراهين وغيرها تُطرح الحيّة خارجًا. هكذا قاوم أرشلاوس ماني وطرحه. فهرب من هذا المكان ذاك الذي سبق فهرب من السجن، وذهب إلى قرية صغيرة جدًا، متشبهًا بالحيّة التي في الفردوس، تركت آدم وذهبت إلى حواء.

لكن الراعي الصالح أرشلاوس المهتم بقطيعه، ما أن سمع بهروبه حتى أسرع بالبحث عن الذئب. وإذ فوجئ ماني برؤية خصمه اندفع هاربًا، وكان ذلك آخر هروب له، إذ بحث عنه أتباع ملك الفرس في كل مكان، وقبضوا على الشارد. وهكذا إذ كان يلزم أن يحكم عليه أرشلاوس تم ذلك بواسطة أتباع الملك.

ماني هذا الذي عبده تلاميذه أُلقي القبض عليه، وأُحضر أمام الملك. وبّخه الملك على بطلان ادعائه وهروبه، موبخًا إياه بعبوديته، ومنتقمًا لقتله ابنه، كما أدانه بسبب قتل الحراس، فأمر بسلخ جلده على النظام الفارسي، وقدّم جسده طعامًا للوحوش، أما جلده فعلق على الأبواب كما لو كان كيسًا (جرابًا).

ذاك الذي ادعى أنه الباراكليت، وأنه عالم بالمستقبل، لم يكن يعرف بأنه سيهرب وسيُقبض عليه.


تلاميذ ماني والتقمص


31. كان لهذا الرجل ثلاثة تلاميذ هم: توماس وباداس وهرماس.

ليته لا يَقرأ أحد إنجيل توماس، فإنه ليس من عمل أحد الاثني عشر رسولًا، بل أحد تلاميذ ماني الثلاثة الأشرار.

ليته لا يجتمع أحد مع أتباع ماني مهلكي النفوس... الذين يتكلمون بشرٍ على خالق الأطعمة، وهم يبتلعون ما لذَّ وطاب بنهمٍ. إنهم يُعلمون أن من يقطع عشبًا من نوعٍ أو آخر يتحول نفسه إلى ذات العشب. فإن كان أحد يجمع عشبًا أو أي نوع من الخضروات يتحول إليه. فإلى كم نوع يتحول المزارعون وأصحاب الحدائق؟!

يستخدم البستاني منجله ليحصد أنواعًا كثيرة، فإلى أي نوع يتحول؟!

راعي القطيع يصير قطيعًا، فإن قتل ذئبًا فإلى ماذا يتحول؟!

كثيرون اصطادوا سمكًا وطيورًا فإلى أيهما يتحولون؟!


أتباع ماني يلعن بدلًا من أن يبارك


32. فليرد أبناء الكسل أتباع ماني الذين يأكلون من تعب العاملين. إنهم يرحبون ببشاشة بالذين يحضرون لهم أطعمة، ثم يعودون فيلعنوهم...

فإذ يأتيهم أحد بسيط بشيء ما يقولون له: قف خارجًا إلى حين ونحن نباركك. وإذ يأخذ أحد أتباع ماني الخبز على يديه يقول: "أنا لم أصنعك"، ثم يصب اللعنات على العليّ، ويلعن خالق الخبز، وبعد هذا يأكل ما قد خلقه الخالق.

إن كنت تبغض الطعام، فلماذا تبتسم لمن يقدمه لك؟!

وإن كنت تشكر من أحضره لك، فلماذا تجدف على خالق الطعام وموجده؟!

كذلك يقول: "أنا لم أزرعك، ليُزرع من زرعك! أنا لم أحصدك، ليُحصد من حصدك. أنا لم أخبزك، ليُخبز بالنار من خبزك..."


تصرفات أتباع ماني الشنيعة


33. هذه أخطاء شنيعة لكنها ليست بشيءٍ إن قورنت بما تبقى. إنني لا أتجاسر فأصف لكم استحمامهم أمام الرجال والنساء. لا أجسر فأقول ماذا يحدث عندما يغطسون، وأية قباحات يتعاطون! فليُفهم بالتلميح ما أقوله... فإنه بالحق ندنس فمنا إن تحدثنا عن هذه الأمور المخزية.

ألعل الوثنيين يستحقون أن يُمقتوا أكثر من هؤلاء؟!

ألعل السامريين أكثر بؤسًا منهم؟!

ألعل اليهود أكثر جحودًا منهم؟!

ألعل الزناة أكثر دنسًا منهم؟!

لأن الذي يستسلم للفسق، إنما يفعل ذلك للذة لمدة ساعة، لكنه يعود ويدين عمله، ويقر بأنه تنجس، ويشعر بالحاجة إلى التطهير، ويعترف بقباحة فعله. لكن الماني يقيم مذبحه(45) وسط الأدناس ويلوث فمه ولسانه. وأنت يا إنسان، أتقبل تعليمًا من فم كهذا؟ هل تسلم على إنسان كهذا بقبلة متى اجتمعت معه؟

وإني إذ لا أقول شيئًا عن شرهم الآخر، أما تهرب من دنسهم، إذ هم أشر من الفاجرين، تمجهم النفس أكثر من العاهرات؟!


تحذير من المانيين


34. هوذا الكنيسة تنصحك وتخبرك عن هذه الأمور المملوءة وحلًا حتى لا تتوحَّل.

تحدثك عن الجراحات لكي لا تُجرح.

يكفيك أن تعرف ما قلته لك دون أن تمارسه.

الله يرعد وكلنا نرتعب، أما هم فيجدفون.

الله ينير وجميعنا ننحني حتى الأرض، وهم يجدفون على السماوات.

لقد كُتبت هذه في كتب أتباع ماني. ونحن نقرأها بأنفسنا، إذ لا يمكننا أن نصدق من يرويها لنا. نعم من أجل خلاصكم نحن استقصينا بتدقيق عن هلاكهم...


بين الكنيسة وجماعات ماني


35. ليخلصنا الله من ضلال كهذا، ويعطيكم كراهية للحية، إذ هم يرقدون منتظرين عقبكم، فلتدوسوا أنتم على رأسهم.

تذكروا ما أقوله: أي اتفاق يمكن أن يقوم بيننا وبينهم؟! أية شركة بين النور والظلمة؟! بين سمو الكنيسة ودنس أتباع ماني؟!

هنا يوجد ترتيب ويقوم النظام، هنا السمو، هنا النقاوة، هنا من ينظر إلى امرأة ليشتهيها يُدان (مت 5: 28).

هنا الزواج المقدس، والعفة ثابتة.

هنا تُكرم البتولية كما بين الملائكة.

هنا يؤخذ الطعام بشكرٍ.

هنا يُحمد خالق العالم.

هنا يُعبد أب المسيح.

هنا نتعلم المخافة والخشوع أمام مرسل الأمطار.

هنا نمجد صانع الرعد والبرق.


36. لترع مع القطيع، ولتهرب من الذئاب


لا تنفصل عن الكنيسة. ولتمقت الذين يشككون في هذه الأمور (أتباع بدعة ماني). وإن لم تدرك توبتهم، فلا تثق فيهم، مندفعًا بنفسك في وسطهم.

إنه يُسلم إليك وحدانية الله. فتعلم أن تميز مراعي التعليم.

كن صرافًا مزُكى. "تمسك بالحسن، وامتنع عن كل شبه شر" (راجع 1 تس 5: 21، 22).

إن كنت تحبهم اعرف ضلالهم وأبغضه.

إنه يوجد طريق الخلاص، إن ازدريت بالقيء ومقتهم من قلبك، وانفصلت عنهم بنفسك لا بشفتيك، إن تعبدت لأب المسيح إله الشريعة والأنبياء، إن عرفت أن الصالح والعادل إله واحد بنفسه.

وإذ هو حافظكم كلكم، يحفظكم من السقوط والتعثر ويقيمكم في الإيمان في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى أبد الأبد.آمين.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 06:36 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

في الله الآب



المقال السابع


"بسبب هذا أحني ركبتيّ لدى الآب الذي منه تسمى كل أبوة في السماوات وعلى الأرض" (راجع أف 3: 14-15).

مقدمة

1. تحدثنا بالأمس عن الله العلة الوحيدة بما فيه الكفاية. وإني لا أقصد بـ"ما فيه الكفاية" من حيث استحقاق الموضوع، لكن حسبما وُهب لضعفنا. كذلك فندت عرضًا أخطاء الهراطقة الأشرار المتعددة الجوانب. والآن ليتنا ننفض عنا غباوتهم وتعاليمهم السامة للنفس. وإذ نتذكر ما يخصهم، لا لكي يصيبنا ضرر، إنما لكي نمقت خطأهم بمرارة، ونرجع إلى أنفسنا متقبلين تعاليم الإيمان الحقيقي المخلصة. فنرتبط خلال الأبوة التي للوحدانية، ونؤمن بالله الآب الواحد، إذ يليق بنا لا أن نؤمن بإله واحد فحسب، بل بخشوع نتقبله أبًا للابن الوحيد ربنا يسوع المسيح.

اليهود رافضو المسيح

2. لنسمو بأفكارنا على اليهود، فإنهم حقًا يقرون بتعاليمهم بالله الواحد، (ولكن ماذا يكون هذا وهم ينكرونه خلال عبادتهم للأصنام؟!) لكنهم يرفضون أنه أبو ربنا يسوع المسيح. وهم بهذا ينقضون أنبياءهم الذين يؤكدون هذا في الأسفار المقدسة، إذ جاء فيها "الرب قال لي: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7).
إنهم إلى يومنا هذا يرتجون مجتمعين على الرب ومسيحه (مز 2: 2)، حاسبين أنهم قادرون أن يكونوا أصدقاء للآب وهم منفصلون عن تعبدهم للابن، جاهلين أنه لا يأتي أحد إلى الآب إلاّ بالابن، القائل: "أنا هو الباب والطريق" (يو 14: 6؛ 10: 9). فمن يرفض الطريق الذي يقود إلى الآب وينكر الباب، كيف يتأهل للدخول لدى الله (الآب)؟!
إنهم يناقضون ما جاء في المزمور الثامن والثمانين: "هو يدعوني أبي. أنت إلهي وصخرة خلاصي. أنا أيضًا أجعله بكرًا أعلى من ملوك الأرض" (مز 89: 26-27).
فلو أصروا أن هذا قيل عن داود أو سليمان أو واحدٍ من نسلهم، فليظهروا كيف يكون عرشه حسبما وُصف في النبوة، كأيام السماء وكالشمس قدام الله وكالقمر يقوم إلى الأبد؟ كيف يكون هذا ولا يخجلون مما كتب: "قبل كوكب الصبح أنا ولدتك"(1). وأيضًا أنه "يثبت مع الشمس وقدام القمر إلى دور فدور"(2).

الإيمان بالآب يمهد للإيمان بالابن

3. على أي الأحوال، لقد بقي اليهود في جحودهم الشرير كعادتهم، سواء في تفسيرهم لهذه العبارات أو غيرها... أما نحن فلنتقبل تعاليم إيماننا الورعة، متعبدين لله الواحد، أبي المسيح (لأن تجريده من مثل هذه الكرامة، ذاك الذي يهب الكل نعمة البنوة يكون جاحدًا).
لنؤمن بالله الآب الواحد، حتى أننا قبل أن نتعرض لتعليمنا بخصوص المسيح يزرع الإيمان بالابن الوحيد في نفوس السامعين دون أن يحدث ارتباك في تعاليمنا بخصوص الآب.

عدم الفصل بين الآب والابن

4. فإذ ننطق باللقب "الآب" يوحي لنا ضمنًا أن نفكر في "الابن". وهكذا من يدعو "الابن" يفكر ضمنًا في "الآب"(3). لأنه إن كان الآب فهو أب الابن، بالتأكيد الابن هو ابن الآب. لذلك في حديثنا في قانون الإيمان نقول "نؤمن بإله واحد، الآب القدير خالق السماء والأرض ما يرى"، نكمل "نؤمن بربنا يسوع"، قد يظن أحد في سخافةٍ أن الابن يأتي في المرتبة الثانية في السماء وعلى الأرض، لهذا قبلما نبدأ بدعوتهما نقول: "نؤمن بالله الآب"، فإذ نفكر في "الآب" للحال نفكر في الابن، إذ لا يوجد فاصل بين الآب والابن.

أبوة طبيعية

5. إذن يقال أن الله أب لكثيرين في معنى غير لائق (غير طبيعي)، أما بحسب الطبيعة وبالحق فهو أب لواحد وحده، الابن الوحيد، ربنا يسوع المسيح. لم يوجد في زمن ليصير فيه أبًا بل منذ الأزل هو أب الابن الوحيد(4).
لم يكن قبلًا بدون الابن، ولا بتغيير في قصده صار أبًا. إنما قبل وجود أية مادة وأي فهم، وقبل الزمان والدهور كان للآب الأبوة، ممجدًا نفسه في هذا أكثر من كل الكرامات الأخرى التي له.
إنه ليس أبًا خلال شهوة، ولا باتحاد، ولا في جهلٍ، ولا بحدوث زيادةٍ فيه أو إصابته بنقصٍ، ولا في تعاقب زمني، إذ "كل عطية صالحة وموهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (يع 1: 17).
أب كامل ولد ابنًا كاملًا، وسلم كل شيء للمولود، إذ قال: "كل شيء قد دُفع لي من أبي" (مت 11: 27)، وتمجد بواسطة الابن الوحيد، إذ يقول الابن: "أكرم أبي" (يو 8: 49)، وأيضًا: "كما إني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته" (يو 15: 10).
لذلك فنحن نقول مع الرسول: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية" (2 كو 1: 3). ونحني ركبنا لدى الآب الذي منه تسمى كل أبوة ما في السماوات وما على الأرض (أف 3: 14-15). فنمجده مع الابن الوحيد، لأن "الذي ينكر الابن ليس له الآب أيضًا ومن يعترف بالابن، فله الآب أيضًا" (1 يو 2: 23)، عالمين أن "يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (في 2: 11).

رد على أتباع ماني المسيئين إلى إله العهد القديم

6. لذلك فنحن نعبد الله بكونه أب المسيح، خالق السماء والأرض، "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" (خر 3: 6)، الذي من أجل تكريمه بني الهيكل القديم، الذي هو ضدنا الآن (إذ صار اليهود أصحاب الهيكل القديم ضد المسيحيين).

إننا لا نسكت على الهراطقة الذين يفْصلون العهد القديم عن العهد الجديد. إنما نؤمن بالمسيح القائل عن الهيكل: "أما تَعلمان أنه ينبغي أن أكون في بيت أبي" (راجع لو 2: 49). وأيضًا: "ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة" (يو 2: 16). هنا يعترف بأكثر وضوح أن الهيكل السابق في أورشليم هو بيت أبيه.
ولكن إن طلب أحد في جحود براهين أخرى على أن أب المسيح هو خالق العالم. فليسمع ما قاله أيضًا: "أليس عصفوران يباعان بفلسٍ وواحدٍ منهما لا يسقط بدون أبي الذي في السماوات؟!"(6) وأيضًا قوله: "انظروا إلى طيور السماء، أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يقوتها" (مت 6: 26). وأيضًا قوله: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أيضًا أعمل" (يو 5: 7).

أبي وأبيكم

7. ولئلا يظن أحد في بساطة أو عن سرعة خاطر مع عنادٍ أن في قول المسيح: "أصعد إلى أبي وأبيكم" (يو 20: 17) أنه مساوٍ في الكرامة مع الأبرار، لهذا يجدر بنا أن نصنع تمييزًا. وهو أن اسم "الآب" هو واحد (أي أب لابن واحد)، أما عمله متعدد (أي يعطى البنوة بالتبني لكثيرين). وإذ يعلم المسيح نفسه هذا قال في عصمة عن الخطأ: "أصعد إلى أبي وأبيكم"، ولم يقل: "أبينا"، بل مميزًا بينهما. فقال أولًا بما يليق به "إلى أبي" الذي هو بالطبيعة، وبعد ذلك أضاف: "وأبيكم" الذي هو بالبنوة. لأنه مهما بلغ سمو الامتياز الذي تقبلناه بقولنا في صلواتنا: "أبانا الذي في السماوات"، إلاّ أن العطية هي من قبيل محبة الله المترفقة. فنحن ندعوه أبًا ليس لأننا ولدنا بالطبيعة من أبينا السماوي، بل انتقلنا من حالة العبودية إلى البنوة بنعمة الآب خلال الابن والروح القدس.
لقد سمح لنا أن ننطق بهذا من قبيل محبة الله المترفقة غير المنطوق بها.

بنوتنا له بالتبني

8. لكن إن أراد أحد أن يتعلم كيف ندعو الله "أبًا" فليصغِ إلى موسى المعلم الممتاز، إذ يقول "أليس هذا هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟!" (تث 32: 6) وأيضًا إشعياء النبي يقول: "والآن يا رب أنت أبونا نحن الطين... وكلنا عمل يديك" (إش 64: 8).
لقد أعلنت العطية البنوية في أكثر وضوح أننا ندعوه أبًا ليس حسب الطبيعة، بل بعمل نعمة الله بالتبني.

العهد الجديد يعلن عن بنوتنا له بالتبني

9. ولكي تتعلم بأكثر تدقيق من الكتاب المقدس الإلهي أنه ليس فقط يُدعى "أبًا" من هو أب طبيعي بل وغيره أيضًا، اسمع ماذا يقول الرسول؟ "لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون، لأني ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1 كو 4: 15). كان بولس أبًا للكورنثويين، ليس لأنه ولدهم حسب الجسد، بل خلال التعليم، وولدهم مرة أخرى حسب الروح. اسمع أيضًا أيوب: "أب أنا للفقراء". لقد دعا نفسه أبًا، ليس لأنه ولدهم جميعًا، بل من أجل اهتمامه بهم.
وابن الله الوحيد نفسه عندما سُمر على الشجرة وقت الصلب، لما نظر مريم أمه حسب الجسد ويوحنا تلميذه المحبوب جدًا من تلاميذه، قال له: "هوذا أمك". وقال لها: "هوذا ابنك" (يو 19: 26، 27)، معلمًا إياها أن تصب حبها الأبوي "الأموي"(7) فيه، شارحًا بطريقة غير مباشرة ما قيل في لوقا: "وكان أباه وأمه يتعجبان منه"(8) هذه الكلمات التي يتصيدها الهراطقة قائلين أنه وُلد من رجل وامرأة.
فكما دعيت مريم أمًّا ليوحنا من أجل حبها الأموي وليس لأنها أنجبته، هكذا دُعي يوسف أبًا للمسيح من أجل عنايته بتربيته، وليس لأنه أنجبه، إذ يقول الإنجيل: "لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر" (مت 1: 25).

أبوة بالطبيعة وأبوة بالتبني

10. وهكذا يمكنني أن أذكركم بأمور كثيرة الآن بطرق مغايرة، لكن على أي الأحوال أقدم لكم شهادة أخرى حتى تتأكدوا أن الله يدعى "أبًا للبشر" في معنى غير مناسب (أي ليس بالطبيعة). هكذا خوطب الله في إشعياء: "فإنك أنت أبونا، وإن لم يعرفنا إبراهيم" و"سارة لم تتمخض بنا" (إش 63: 6).
وإن كان المرتل يقول "ليضطربوا من هيئته، أب لليتامى (للذين بلا أب) قاضي الأرامل" (مز 68: 5 LXX)، أليس من الواضح للجميع أنه يدعو الله أبًا للذين فقدوا آباءهم متأخرًا، ليس لأنه ولدهم، بل من أجل اهتمامه بهم وحمايته لهم؟!
ولكن بينما نحن ندعو الله أبًا للبشر في معنى غير مناسب، فهو أب المسيح وحده بالطبيعة لا بالتبني.
فبالنسبة للبشر هو أب في زمان، أما بالنسبة للمسيح أب قبل كل زمان، إذ يقول: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك، بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو 17: 5).

الابن يرى الآب في كماله

11. إذن نحن نؤمن بإلهٍ واحدٍ، الآب غير المفحوص، غير المنطوق به، الذي "لم يره أحد من الناس" (1 تى 6: 16)، بل "الابن الوحيد هو خبر" (يو 1: 28)، لأن "الذي من الله يرى الآب" (يو 6: 46)، هذا الذي ترى الملائكة وجهه على الدوام في السماوات (مت 18: 10) حسب درجة كل منهم. أما استنارة وجه الآب (في كماله) فتبقى في نقاوتها للابن مع الروح القدس.

لنطلب أبانا السماوي

12. إذ أبلغ هذه النقطة في حديثي، متذكرًا العبارات التي سبق لي الإشارة إليها حالًا، والتي فيها خوطب الله كأب للبشر اندهش للغاية أمام جمود البشر. إن الله بحنوه المترفق غير المنطوق به تلطف، فدُعي "أب للبشر" مع أنه في السماء وهم على الأرض. هو خالق سرمدي وهم خُلقوا في زمان، هو الممسك الأرض في قبضة يده، وهم في الأرض كالعشب والجندب(9). ومع هذا فإن الإنسان يبحث عن أبيه السماوي، قائلًا: للعود "أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" (إر 2: 27). لهذا السبب أظن أن النبي يخاطب البشرية قائلًا: "انسي شعبك وبيت أبيك" (مز 45: 10) أي انسي من اخترتيه أبًا لك، الذي تطلبه نفسك لأجل هلاكك.

الأشرار يطلبون أبوة إبليس

13. لا يقف الأمر عند العود والحجارة بل اختار الإنسان حتى الشيطان مهلك النفوس ليكون أبًا له. لهذا انتهر الرب قائلًا: "أنتم تعملون أعمال أبيكم" (يو 8: 41، 44) أي الشيطان، أب البشر بالخداع لا بالطبيعة.
فكما صار بولس بتعليمه الصالح أبًا للكورنثيين (1 كو 4: 15)، هكذا دُعي الشيطان أبًا للذين وافقوه بإرادتهم الحرة.
إننا لا نقبل الشرح الخاطئ للعبارة: "أولاد الله ظاهرون، وأولاد إبليس" (1 يو 3: 10)، قائلين أنه بالطبيعة يخلص البعض وبالطبيعة يهلك آخرون. إنما نحن ندخل في بنوة مقدسة كهذه ليس عن إلزام بل باختيار، كما لم يكن يهوذا الخائن ملزمًا أن يكون ابنًا للشيطان والهلاك، وإلا ما كان يمكنه أن يُخرج الشياطين باسم المسيح، لأن الشيطان لا يخرج شيطانًا" (مر 3: 23).
ومن جانب آخر ما كان لبولس أن يتحول من الاضطهاد ليكون مبشرًا. لكن التبني في قوتنا "أي بإرادتنا"، إذ يقول يوحنا إن كثيرين "قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يو 1: 12)، أي لم يكونوا قبل الإيمان أولاد الله، إنما باختيارهم بالإيمان تأهلوا لذلك.

لنسلك كما يليق بالبنوة

14. إذ نعرف هذا، فليكن حديثنا روحيًا حتى نحسب مستحقين لبنوتنا لله، إذ كثيرون "ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رو 8: 14). إننا لا ننتفع شيئًا من دعوتنا مسيحيين دون أن تكون لنا أعمال لائقة. إنه يقال "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم"، "وإن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحدٍ، فسيروا زمان غربتكم بخوف"، "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب" (يو 8: 39؛ 1 بط 1: 17؛ 1 يو 2: 15).
إذن ليتنا أيها الأبناء الأحباء نمجد أبانا السماوي بأعمالنا الصالحة. "لكي يروا أعمالنا الحسنة ويمجدوا أبانا الذي في السماوات"، "ملقين كل همنا على أبينا، لأنه يعلم ما نحتاج إليه" (مت 5: 16؛ 1 بط 5: 7؛ مت 6: 8).

بنوتنا لله لا تنفي بنوتنا لوالدينا

15. لكن ليتنا ونحن نمجد أبانا السماوي، نمجد أيضًا "آباء أجسادنا" (عب 12: 9). وقد أشار الرب بنفسه بوضوح إلى هذا الأمر في الناموس والأنبياء قائلًا: "أكرم أباك وأمك لكي يكون لك الخير، وتطول أيام حياتك على الأرض" (راجع تث 5: 16). ليلاحظ الحاضرون هذه الوصية باهتمام... "أيها الأولاد أطيعوا والديكم في كل شيء لأن هذا مرضي في الرب" (كو 3: 20).
فلم يقل الرب: "من أحب أبًا أو أمًّا فلا يستحقني" لكي بجهلك تخطيء معاندًا ما كُتب بحق، بل أضاف: "أكثر مني" (راجع مت 10: 37). فمتى كان آباؤنا الأرضيون مضادين في الفكر لأبينا السماوي عندئذ نلتزم بالطاعة للمسيح.
أما إن وضعنا عائقًا لصنع البرّ بجحودنا، ناسين بركاتهم علينا، مستهينين بهم، عندئذ تجد الوصية التالية مكانًا: "من يلعن أبًا أو أمًّا موتًا يموت" (راجع خر 21: 17؛ لا 20: 9؛ مت 15: 4).

إكرام الوالدين

16. فضيلة المسيحيين الأولى هي إكرام الوالدين ومكافأتهم عن متاعب من أنجبوهم، مقدمين لهم كل راحة قدر ما يستطيعون... فيستريحون بالراحة التي نقدمها لهم، وعندئذ يثبتون لنا البركات التي نالها يعقوب بمكرٍ عوض أخيه، ويتقبل أبونا السماوي هدفنا الصالح، ويحكم علينا باستحقاق أن "يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت 13: 43)، الذي له المجد مع الابن الوحيد مخلصنا يسوع المسيح ومع الروح القدس المحيى الآن والي الأبد والي أبد الأبد. آمين.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 06:39 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

القدير: الله العظيم القوي


المقال الثامن


"الله العظيم القوي، رب المشورة العظيمة، القدير في أعماله، الله العظيم، الرب القدير ذو اسم عظيم" (إر 19: 18-19 LXX)

مقدمة

1. بإيماننا بالله الواحد نهدم كل اعتقاد شرير في آلهة كثيرة، مستخدمين ذلك كدرعٍ ضد اليونانيين وكل قوة الهراطقة المقاومين.
وإذ نضيف "نؤمن بإله واحد الله الآب" نناقض أهل الختان الذين ينكرون ابن الله الوحيد، إذ كما تحدثنا بالأمس أن بقولنا "الآب" نوضح ضمنا الحقائق الخاصة بربنا يسوع المسيح قبل أن نشرحها، إذ هو أب للابن، حتى حيث ندرك وجود الله ندرك ضمنا "الابن".
ونضيف إلى ذلك أنه "قدير (ضابط الكل)" مؤكدين هذا بسبب اليونانيين واليهود(10) معًا وكل الهراطقة.

قدرته وسلطانه على السماء والأرض

2. فمن جهة اليونانيين يقول البعض إن الله نفس (Soul) العالم(11). وآخرون قالوا إن سلطانه يسود السماء وحدها دون الأرض. ويشترك البعض معهم في خطأهم مسيئين استخدام العبارة القائلة "حقك إلى السحاب"(12)، فتجاسروا بتحديد عناية الله بالسحب والسماوات، عازلين الله عن شؤون الأرض، ناسين المزمور القائل: "إن صعدت إلى السماوات، فأنت هناك، وإن نزلت إلى الجحيم، فأنت هناك" (مز 139: 8). فإن كان ليس شيء أعلى من السماوات والجحيم أدنى من الأرض، فإن من يدير أمور الجحيم السفلي يهتم بالأرض أيضًا.

قدرته وسلطانه على النفس والجسد

3. سبق أن قلت أن الهراطقة لا يعرفون إلهًا واحدًا قديرًا، فإنه يُحسب قدير إن كان يدبر كل الأمور وله سلطان على كل شيءٍ. أما القائلون بوجود إله هو رب النفس وآخر رب الجسد، فإنهم يجعلون منهما إلهين غير كاملين، يحتاج كل منهما للآخر.

كيف يكون قديرًا من كان له سلطان على النفس دون الجسد، أو الجسد دون النفس؟! لكن الرب يدحض هؤلاء بقوله: "بل خافوا بالأحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم" (مت 10: 28). فلو لم يكن لأبي ربنا يسوع المسيح سلطان عليهم أما كان يخضعهما للعقاب؟! إذ كيف يأخذ الجسد الذي تحت سلطان آخر ويلقيه في جهنم "إن لم يربط القوى أولًا وحينئذ ينهب بيته؟!" (مت 12: 29)

بين قدرة الله وطول أناته

4. تعرفنا الأسفار المقدسة وتعاليم الحق بإله واحد وحده، مدبر كل الأمور بقدرته، يتحمل كثيرًا بإرادته. إنه صاحب سلطان على الوثنيين وبطول أناته يحتملهم. له سلطان على الهراطقة الذين لا يقيمونه عليهم إلهًا، وبطول أناته يحتملهم. له سلطان على الشياطين وبطول أناته يحتملهم، ليس لأنه محتاج إلى سلطان كمن هو ضعيف... لقد سمح للشياطين أن تعيش لغرضين:
1. لكي تخزى نفسها بنفسها بالأكثر في حربها.
2. لكي يتكلل البشر بالنصرة.
يا لعناية الله الحكيمة! التي تستخدم نيّة الشرير كأساس لخلاص المؤمنين!
فكما استخدم نيّة إخوة يوسف التي لا تحمل أخوّة كأساس لتدبيره، وإذ سمح لهم ببيع أخيهم بدافع الكراهية، وجعلها فرصة ليقيمه ملكًا، الأمر الذي يريده الله.
هكذا سمح الشيطان أن يصارع لكي يتكل المنتصرون. وإذ تتحقق النصرة يخزى هو بالأكثر إذ هزمه الضعفاء، ويُكَّرم البشر بالأكثر بالنصرة على من كان يومًا ما رئيس ملائكة.

لا يفلت شيء من سلطان الله

5. إذن لا شيء يفلت من سلطان الله، إذ يقول الكتاب: "لأن الكل عبيدك" (مز 119: 91). الكل سواء كخدم لله، لكن من هذه الأشياء كلها فقط واحد وحده هو ابنه الوحيد، وواحد هو روحه القدوس، كلاهما مستثنيان. أما الباقي فجميعهم يخدمون الله بالابن الوحيد في الروح القدس.
إذن الله يحكم الكل، وبطول أناته يحتمل حتى المجرمين واللصوص والزناة، محددًا وقتًا معينًا لمجازاة كل أحدٍ، لكن إن أصر من يحذرهم على عدم التوبة من القلب ينالون دينونة عظيمة.

الغنى والذهب لله القدير

6. الغنى والذهب والفضة لا تخص الشيطان كما يظن البعض(13)، بل "كل غنى العالم هو للمؤمن، وأمّا الكافر فليس له فلس" (أم 17: 6 LXX)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. ليس أحد كافر مثل الشيطان، ويقول الله بوضوح: "لي الذهب ولي الفضة لمن أعطيها؟!" (راجع حجي 2: 8)
فإذ تستخدم هذه الأمور حسنًا لا تخطيء عندما تمتلكها، لكنك إذ تسيء استخدام ما هو صالح فلكي لا تلم تدبيرك في جسارة تلقي باللوم على الخالق(14). إذن يمكن للإنسان أن يتبرر بواسطة المال، إذ يسمع القول: "كنت جوعانًا، فأطعتموني" (مت 25: 35، 36)، وهذا يتحقق بالمال. وأيضًا قوله: "كنت عريانًا فكسوتموني" يتحقق أيضًا بالمال.
أتريد أن تتعلم أن المال يمكن أن يكون بابًا للدخول في ملكوت السماوات؟!
إنه يقول "بع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء" (مت 19: 21).

الغنى ليس خاصًا بالشيطان

7. لقد ذكرت هذه الملاحظات بسبب الهراطقة الذين يحسبون الممتلكات والمال وأجساد البشر ملعونة. فإنني لا أريدك عبدًا للمال، ولا تنظر إلى ما وهبك الله لاستخدامه كعدو لك. ليس لك أن تقول عن الغنى إنه خاص بالشيطان، لأنه وإن قال لك: "أعطيك هذه جميعها، لأنه قد دفع إلي" (مت 4: 9، لو 4: 8) فلتحتقر كلامه إذ لسنا محتاجين لتصديق الكذاب. فإنه وإن التزم أن ينطق بالصدق إنما لحضور الله، إذ لم يقل: "أعطيك هذه جميعها"، بكونها ملك له، بل "قد دفع إليّ" أي ليس له سلطان عليها، بل يعترف أنه عُهد إليه بها، وصار واهبًا لها إلى زمانٍ، وفي نفس الوقت يتساءل المفسرون ما إذا كان قوله باطلًا أم صادقًا؟!

تجديف الهراطقة

8. إذن الله واحد، الآب القدير، الذي تجاسر الهراطقة بالتجديف عليه. نعم تجاسروا بالتجديف على رب الصباؤوت(15)، الجالس على الشاروبيم (مز 80: 1).

تجاسروا أن يجدفوا على أدوناى(16).
تجاسروا بالتجديف على من أعلن عنه الأنبياء أنه الله القدير. أما أنتم فاعبدوا الله الواحد القدير، أبا ربنا يسوع المسيح.
اهربوا من خطأ الإيمان بآلهة كثيرة.
اهربوا من كل هرطقة، وقولوا مع أيوب: "اطلب من الرب القدير، الفاعل عظائم لا تُفحص، وعجائب لا تُعد" (راجع أي 5: 8، 9)... الذي له المجد إلى أبد الأبد. آمين.

Mary Naeem 07 - 11 - 2022 06:47 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

نؤمن برب واحد يسوع المسيح

المقال العاشر


"لأنه وإن وجد ما يسمى آلهة، سواء كان في السماء أو على الأرض. لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء، ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح. الذي به جميع الأشياء ونحن به" (1 كو 8: 5-6).

مقدمة

1. من يتعلم أن يؤمن "بإله واحد، الله الآب القدير"، يلتزم بالإيمان بابنه الوحيد لأن كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضًا (1 يو 2: 23). يقول يسوع: "أنا هو الباب"، "ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي" (يو 14: 6؛ 10: 9)، "لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27)، فإن أنكرت من يعلن لك تبقى في جهلٍ.
لقد جاءت العبارة التالية في الإنجيل: "الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله" (يو 3: 36). فالآب يغضب عندما يُستهان بالابن الوحيد. فإن الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده. أما إن احتقر أحد ابنه الوحيد، فمن يقدر أن يطفئ غضب الأب من أجل ابنه الوحيد؟!

الآب يوصينا بالابن

2. فإن رغب أحد في إظهار ورع لله فليعبد الابن، عندئذ يتقبل الله خدمته. لقد نادى الآب بصوتٍ عالٍ قائلًا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت" (مت 3: 17). لقد سُر الآب به، فإن لم تكن أنت موضع سروره في الابن لا تكون لك حياة. لا يخدعنك اليهود بقولهم في مكر "يوجد إله واحد وحده" لكن لتعرف أن الله واحد، ولتعلم أن ابن الله وحيد. لا أقول هذا مني بل هو قول المرتل في شخص الابن: "الرب قال لي: أنت ابني" (مز 2: 7).
إذن لا تبالِ بما يقوله اليهود بل اهتم بقول الأنبياء.
هل تتعجب من ازدرائهم بكلمات الأنبياء، هؤلاء الذين رجموا الأنبياء وقتلوهم!

رب واحد، يسوع المسيح

3. آمن بربٍ واحدٍ، يسوع المسيح ابن الله الوحيد إذ نقول: "نؤمن برب واحد يسوع المسيح". بنوته فريدة لهذا نقول عنه: "واحد" حتى لا نفكر في آخر غيره. ندعوه "واحدًا" حتى لا تسقط في الضلال المنتشر بطلب أسماء كثيرة بسبب أعماله تجاه الأبناء الكثيرين (البشر).
إنه يُدعى "الباب" (يو 1: 7، 9). لا تأخذ المعنى الحرفي للكلمة كمادة خشبية، بل المعنى الروحي. إنه "باب حيّ" يميز الداخلين فيه.
يُدعى "الطريق" (يو 14: 6) لا أن يُداس بالأقدام، بل يقودنا للآب السماوي.
يُدعى “الحمل" (يو 1: 29؛ إش 53: 7، 8؛ أع 8: 32) لا كغير عاقلٍ، بل لأن بدمه الثمين يطهر العالم من خطاياه، ويقف صامتًا أمام جازيه.
هذا الحمل دُعي مرة بـ"الراعي" إذ يقول: "أنا هو الراعي الصالح" (لو 10: 11). هو حمل من جهة ناسوته، وراعٍ بالحب المترفق الذي للاهوته. هل تريد أن تعرف حملان عاقلة؟ اسمع المخلص يقول للرسل: "ها أنا أرسلكم كحملانٍ بين ذئاب" (مت 10: 10، 16).
إنه يُدعى "أسدًا" (تك 49: 9؛ رؤ 5: 5)، ليس مفترسًا للبشر، بل كرامة شخصه الملكية وثباته وقوته. لقد دعي أسدًا، لأنه يقف قبالة الأسد المقاوم الذي يزأر ملتمسًا أن يفترس من يخدعهم (1 بط 5: 8). لأن المخلص في مجيئه لم يغير وداعة طبيعته، بل بكونه "الأسد الخارج من سبط يهوذا" (مز 118: 22) يخلص المؤمنين ويطأ على المقاوم.
يُدعى "حجرًا"، ليس بلا حياة، مقطوع بيدٍ بشرية، بل "حجر الزاوية الرئيسي" (إش 28: 16)، من يؤمن به لن يخزى.

تبع أسماء المسيح

4. يُدعى "المسيح"، ليس ممسوحًا بيد بشرية، بل سرمديًا، ممسوح من الآب لكهنوته العلوي من أجل البشر.
دُعي "ميتًا"، لا كمن هو بين الأموات الذين في الجحيم جميعهم، بل وحده الحر بين الأموات (مز 88: 25).
يُدعى "ابن الإنسان"، ليس لأنه من أصل أرضي مثلنا جميعًا، إنما لأنه آت على السحاب ليدين الأحياء والأموات (يو 5: 27).
يدعى "ربًا" ليس عن عدم لياقة مثل أولئك الذين يدعوهم البشر هكذا، إنما هو رب من أجل طبيعته الإلهية السرمدية.
يدعى "يسوع" باسم لائق، إذ دُعي هكذا من أجل العلاج (الخلاص) الثمين الذي يقدمه.
إنه يدعى "ابنًا"، ليس لأنه نال البنوة بالتبني، بل هو مولود طبيعيًا.
كثيرة هي ألقاب مخلصنا، لكن لا تظن بسبب كثرة أسمائه أنه يوجد أبناء كثيرون، كما ظن بعض الهراطقة الذين قالوا أن يسوع غير المسيح، وآخر هو "الباب"(24) وهكذا. فإن قانون الإيمان يؤكد أنه هو "يسوع المسيح". فالألقاب كثيرة لكن موضوعها شخص واحد.

المسيح رب حقيقي

5. يظهر المسيح لكل واحد حسب احتياجه(25). فالمحتاجون إلى البهجة يتقدم إليهم ككرمة، والمحتاجون إلى الوجود في حضرة الآب يأتيهم كبابٍ، والمحتاجون إلى من يقدم صلواتهم يجدونه الشفيع فيهم الكاهن العلي، وللخطاة هو الحمل (المذبوح) لأجل تقديسهم.
إنه كل شيءٍ لكل واحد (1 كو 9: 22) دون أن تتغير طبيعته بل يبقى كما هو. هو باقٍ، وعمل بنوته لن يتغير، لكنه يكيف نفسه حسب ضعفنا، بكونه طبيبًا ممتازًا أو معلمًا مملوء حنوًا.
إنه الرب نفسه، لم يقبل الربوبية عن تقدم(26)، إنما عمل بنوته طبيعي.
لم يُدعَ ربًا بغير لياقة مثلنا(27)، بل بالحقيقة هو هكذا... فنحن نُدعى أرباب على أناس مثلنا، لهم ذات الحقوق وفيهم نفس العواطف. وأحيانًا ندعى أربابًا على شيوخ، إذ كثيرًا ما يحكم سيد شاب على خدم مسنين.

أما ربوبية يسوع المسيح فهي ليست هكذا بل هو خالق فرب(28)، خلق كل الأشياء بإرادة الآب...

الابن في العهد القديم (سفر التكوين)

6. المسيح الرب هو ذاك الذي وُلد في مدينة داود (لو 2: 11). أتريد أن تعرف أن المسيح هو رب مع الآب قبل تجسده حتى تتقبل العبارة ليس فقط بالإيمان وإنما ببرهان من العهد القديم؟
عد إلى أول سفر "التكوين" يقول الله "نعمل الإنسان" لا على صورتي بل "على صورتنا" (تك 1: 26). وبعد خلقة آدم يقول الكتاب المقدس، "فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه" (زك 1: 27). فإنه لم يقصر شرف اللاهوت على الآب وحده بل شمل الابن أيضًا، مظهرًا أن الإنسان ليس من عمل الله (الآب) وحده بل أيضًا هو عمل ربنا يسوع المسيح الذي هو الله نفسه.
هذا الرب الذي يعمل مع الآب، عمل معه في حالة سدوم أيضًا إذ يقول الكتاب المقدس "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء" (تك 19: 24).
هذا الرب هو الذي رآه موسى قدر ما يستطيع أن يرى. لأن الرب محب البشر ينزل إلينا حسب ضعفاتنا.

الابن في العهد القديم (سفر الخروج)

7. علاوة على هذا، فلكي تتأكد أنه هو بنفسه الذي رآه موسى، اسمع شهادة بولس القائل: "لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح"
(1 كو 10: 4). وأيضًا قال: "بالإيمان
موسى ترك مصر"، وبعد ذلك بقليل يقول: "حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر"(29). موسى هذا قال له: "أرني ذاتك". إنك ترى أن الأنبياء أيضًا في ذلك الإيمان رأوا المسيح بمعنى أن كلًا منهم رآه قدر ما يحتمل (خلال الأنبياء).

"أرني ذاتك لكي أعرفك بفهم" (خر 33: 13). لكن الله قال: "الإنسان لا يرى وجهي ويعيش" (خر 33: 20). لهذا السبب إذن، إذ لا يستطيع أحد أن يرى وجه لاهوته ويعيش.
أخذ الرب وجه الطبيعة البشرية حتى نراه ونعيش. لكن حتى عندما أراد أن يظهر بأن هذه عظمة قليلة، فإن التلاميذ إذ رأوا وجهه يضيء كالشمس (مت 2:17) سقطوا مرتعبين. فإن كانت هيئته الجسدية (الناسوتية) تضيء، ليس في كمال قوته بل حسب طاقة التلاميذ، ومع ذلك ارتعبوا غير محتملين هذا، فكيف يقدر أحد أن يحملق في جلال لاهوته؟!
يقول الرب: إنه لأمر عظيم الذي تطلبه يا موسى، وأنا أحقق لك رغبتك التي لا تُشبع. ما أفعل لك هذا الأمر، ولكن قدر احتمالك. "إني أضعك في نُقرة من الصخرة (تك 33: 22)، فإذ أنت صغير أن أحميك في موضع صغير".

الابن في العهد القديم (تبع سفر الخروج)

8. ...عندئذ قال الرب لموسى: "حتى أجتاز بك بمجدي، وأنادي اسم الرب قدامك". وإذ هو الرب، أي رب هو ينادي؟ أنظر، فإنه يتحدث بطريقة خفية عن التعليم بالآب والابن.
مرة أخرى انظر ما جاء بعد ذلك كلمة فكلمة "فنزل الرب في السحاب فوقف عنده هناك، ونادى باسم الرب. فاجتاز الرب قدامه ونادي الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطية" (تك 34: 5-7). وبعد ذلك "فأسرع موسى وخرّ إلى الأرض وسجد"(30) أمام الرب الذي نادى الآب، وقال "ليَسِر الرب (السيد) في وسطنا"(31).

الابن في العهد القديم (سفر المزامير)

9. هذا برهان أول، تقبل برهانًا آخر واضحًا. "قال الرب لربي أجلس عن يميني" (مز 110: 1). قال الرب هذا للرب، لا لعبدٍ، بل لرب الكل، ابنه الذي أخضع كل شيء له. "ولكن حينما يقول إن كل شيء قد أُخضع، فواضح أنه غير الذي أَخضع له الكل". وماذا يلي هذا؟ "كي يكون الله الكل في الكل".
الابن الوحيد هو رب الكل، لكن ابن الآب المطيع لم ينل لاهوته (كأمرٍ جديدٍ)، بل هو ابن بالطبيعة حسب إرادة الآب. فليس الابن ناله، ولا الآب حسده لكي يغتصبه. فالابن يقول: "كل شيء قد دُفع إليّ من أبي" (مت 11: 27؛ لو 10: 22). "دفع إليّ" ليس كما لو كان ليست لي من قبل. وأنا أحفظه حسنًا ولا أسلبه من الذي أعطاه لي.

الابن في العهد الجديد

10. ابن الله هو الرب: إنه الرب الذي وُلد في بيت لحم اليهودية، كقول الملاك للرعاة: "ها أنا أبشركم بفرحٍ عظيمٍ، إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود المسيح الرب" (لو 2: 10، 11). وفي موضع آخر يقول عنه الرسول: "الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشر بالسلام بيسوع المسيح، هذا هو رب الكل" (أع 10: 36).
ولكن عندما يقول "الكل" هل تُستثنى ربوبيته على أحد، لأنه سواء ملائكة أو رؤساء ملائكة أو رؤساء أو سلاطين أو أي مخلوق آخر دعاه الرسول، يخضع الكل لربوبية الابن...

مقارنة بين يسوع وكل من هارون ويشوع

11. يحمل يسوع المسيح اسمين: يسوع لأنه يخلص، والمسيح لأنه كاهن.
إذ عرف موسى النبي المُلهم هذا، دعى اللقبين على شخصين ساميين اختارهما من جميع الشعب، فدعا الذي يخلفه في الحكم Auses "يسوع (بن نون)"، ودعا أخاه "مسيحًا". وخلال هذين الرجلين المزكين تمامًا يقدم لنا في وقت واحد الكهنوت العلوي والمملكة، كرمز للواحد يسوع المسيح الآتي.
فالمسيح هو كاهن مثل هارون، إذ "لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (عب 5: 5-6).
وكان يشوع بن نون رمزًا له في أمور كثيرة لأنه عندما بدأ يحكم على الشعب بدأ من الأردن (يش 3: 1)، وبدأ المسيح أيضًا الكرازة بالإنجيل بعد العماد.
ويشوع بن نون عين اثني عشر ليقسموا الميراث (يش 14: 1)، وأرسل المسيح اثني عشر رسولًا كرسل للحق في كل العالم.
أنقذ يشوع الرمز راحاب الزانية عندما آمنت، ويسوع الحقيقي قال: "إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (مت 21: 31).
في أيام الرمز بمجرد التصويت بالبوق تهدمت حصون أريحا، لأن المسيح قال: "لا يُترك حجر على حجرٍ إلاّ وينقض" (مت 24: 2) سقط الهيكل اليهودي أمامنا، والسبب في ذلك هو عصيانهم.

إشعياء يدعو يسوع مخلصًا

12. يوجد رب واحد يسوع المسيح، اسم عجيب، سبق أن أخبر به الأنبياء بطريقة خفية. إذ يقول إشعياء النبي: "يأتي المخلص، ومعه مكافأته" (إش 62: 11).
كلمة "يسوع" في العبرية معناها "مخلص". فإن العطية النبوية، إذ سبق فرأت روح القتل عند اليهود وأنهم ضد الرب، حجب اسمه عنهم، لئلا إذا عرفوه من قبل يتدبرون ضده فورًا. لكنه دُعي صراحة "يسوع"، ليس فقط من الناس بل ومن الملاك الذي لم يأتِ من ذاته، بل بسلطان الله. قال ليوسف: "لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابنًا، وتدعو اسمه يسوع" (مت 1: 20)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. وفي الحال ذكر سبب اسمه قائلًا: "لأنه يخلص شعبه من خطاياهم"...

اليونانيون يدعون يسوع طبيبًا

13. "يسوع" في العبرية معناها "مخلص"، أما في اليونانية فتعني "الشافي"، إذ هو طبيب الأنفس والأجساد. هو شافي الأرواح، فتح عيني المولود أعمى، وقاد الأذهان إلى النور. يشفي العرج المنظورين، ويقود الخطاة في طريق التوبة. يقول للمفلوج: "لا تخطئ"، وأيضًا: "احمل سريرك وامشِ" (يو 5: 14، 8)، لأن الجسد كان مفلوجًا بسبب خطية النفس. شفى النفس أولًا حتى يمتد بالشفاء إلى الجسد.
لذلك إن كان أحدكم متألمًا في نفسه من خطايا، فإنك تجده طبيبًا لك. وإن كان أحدكم قليل الإيمان، فليقل له: "أعن عدم إيماني" (مر 9: 24).
وإن أصابت أحدكم آلام جسدية، فلا يكن غير مؤمنٍ، بل يقترب، فإن يسوع يعالج مثل هذه الأمراض، وليعلم أن يسوع هو المسيح.

اليهود يرفضون المسيح

14. يقبله اليهود على أنه يسوع. لكنهم يرفضون كونه المسيح. لهذا يقول الرسول: "من هو الكذاب إلاّ الذي ينكر أن يسوع هو المسيح" (1 يو 2: 22).
لكن المسيح هو كاهن عليَّ، "له كهنوت لا يزول" (عب 7: 24). لم يبدأ كهنوته في زمان، إذ ليس له سلف في كهنوته العلوي، وذلك كما سمعت في يوم الرب عندما ناقشنا عبارة "على رتبة ملكي صادق" في المجمع(32).
لم يتسلم كهنوته عن سلف بشري، ولا مُسح بزيت أعدّه إنسان، بل هو ممسوح من الآب قبل كل الدهور.
هكذا هو يعلو على غيره، فقد صار كاهنًا بقسمٍ (عب 7: 21)، أما هم فبغير قسم... إن هدف الآب المجرد كان كافيًا ليكون مؤكدًا، لكن استخدم وسيلة مضاعفة للتأكيد، إذ تبع الهدف قسم أيضًا، "حتى بأمرين عديمي التغير لا يمكن أن الله يكذب فيهما تكون تعزية قوية" (عب 6: 18) في إيماننا الذي هو أن يسوع المسيح ابن الله.

رفض اليهود له

15. عندما جاء المسيح رفضه اليهود، بينما اعترفت به الشياطين.
داود جده لم يجهله عندما قال: "رتبت سراجًا لمسيحي" (مز 132: 7)، هذا السراج الذي فسره البعض أنه بهاء النبوة (2 بط 1: 19)، وفسره البعض أنه الجسد الذي أخذه من العذراء...
لم يجهل النبي أمر المسيح إذ قال: "وأعلن بين البشر بمسيحه His Anointed" (عا 4: 13 LXX).
موسى أيضًا عرفه، وإشعياء، وإرميا. لم يجهله أحد من الأنبياء، بل حتى الشياطين عرفته إذ انتهرها...
رئيس الكهنة لم يعرفه، والشياطين اعترفت به.
رئيس الكهنة لم يعرفه، والسامرية أعلنت عنه قائلة: "انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟!" (يو 4: 29)

اسم جديد يبارك الأرض

16. هذا هو يسوع المسيح الذي جاء "رئيس كهنة للخيرات العتيدة" (عب 9: 11)، الذي من أجل غنى لاهوته وهبنا نحن جميعًا لقبه الخاص به. فالملوك بين البشر لهم طابعهم الملكي الذي لا يشاركهم فيه أحد غيرهم، أما يسوع المسيح فكابن لله أعطانا كرامة أن ندعى "مسيحيين".
قد يقول قائل إن اسم مسيحيين هو اسم جديد لم يستخدم من قبل والعبارات ذات الطابع الجديد غالبًا ما تدعى كعلامة على أن الإنسان غريب.
لقد سبق أن أشار النبي إلى هذا من قبل، إذ قال: "ويسمى عبيده اسمًا آخر (جديدًا) يبارك في كل الأرض" (إش 65: 15-16 LXX).
لنسأل اليهود: هل أنتم عبيد الرب أم لا؟ أين اسمكم الجديد.
لقد دُعيتم يهودًا وإسرائيليين في أيام موسى وبقية الأنبياء، وأيضًا بعد الرجوع من سبي بابل إلى يومنا هذا، فأين هو اسمكم الجديد؟ أما نحن فقد صرنا عبيد الرب، ونحمل اسمًا جديدًا حقًا يبارك الأرض...

بولس مضطهد الكنيسة يشهد لها

17. لكن هل تريد أن تعرف أن الرسل عرفوا اسم "المسيح" وبشروا به أو بالأحرى كان المسيح فيهم؟ يقول بولس: "أم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ" (2 كو 13: 3). ويعلن بولس عن المسيح قائلًا: "فإننا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح يسوع ربًا، ولكن بأنفسنا عبيدًا" (2 كو 4: 5)...
من هو هذا المتكلم؟ إنه المضطهد السابق! يا للقدرة العجيبة! المضطهد السابق يكرز بالمسيح! لكن لماذا؟ هل كان مرتشيًا؟ لا بل لم يكن من يستخدم هذه الوسيلة للإغراء هل رآه وهو على الأرض...؟ لقد ذهب ليضطهد وبعد ثلاثة أيام صار مبشرًا في دمشق، بأية قوة؟ الآخرون يأتون بأصدقائهم كشهودٍ، أما أنا فأقدم لكم عدوًا سابقًا كشاهدٍ.
إن شهادة بطرس ويوحنا بالرغم من قوتها لكن قد تجد بابًا للشك، لأنه صديقه، أما ذاك الذي كان قبلًا عدوًا، فيقبل بعد ذلك أن يموت من أجله، من يقدر أن يشك في الحق بعد ذلك؟!

المضطهد يكتب أربع عشرة رسالة

18. في هذه النقطة امتلئ دهشة من تدبير الروح القدس الحكيم، كيف قلل عدد رسائل الباقين، بينما أعطى لبولس المضطهد السابق الامتياز ليكتب أربع عشرة رسالة... لنكون نحن جميعًا هكذا مؤمنين، إذ الجميع اندهشوا منه قائلين: أليس هذا هو المضطهد السابق؟! (راجع أع 9: 21) ألم يأتِ إلى هنا لكي يقودنا مقيدين إلى أورشليم؟!
يقول بولس: لا تندهشوا، فإنني اعلم أنه صعب عليّ أن أرفس مناخس. إنني أعلم إنني لست أهلًا أن أُدعى رسولًا لأنني اضطهد كنيسة الله (1 كو 15: 9)، لكنني فعلت هذا في جهلٍ (1 تي 1: 13). إذ ظننت أن التبشير بالمسيح يحطم الشريعة، وأعرف أنه جاء ليكمل الناموس لا لينقضه (مت 5: 17)، لكن "تفاضلت نعمة ربنا جدًا في" (1 تى 1: 14).

الكل يشهد للمسيح

19. كثيرون يا أحبائي كانوا شهودًا حقيقيين للمسيح.
الآب حمل شهادة من السماء لابنه.
والروح القدس شهد بنزوله في هيئة جسمانية على شكل حمامة.
ورئيس الملائكة جبرائيل شهد، جالبًا بشائر صالحة للعذراء.
والعذراء والدة الإله (ثيؤتوكوس) qeotokoc تحمل شهادة.
وموضع المزود المقدس يحمل شهادة.
مصر تشهد له، حيث استقبلت الرب وهو بعد صغير في الجسد.
سمعان حمل شهادة له إذ حمله على ذراعيه، وقال: "الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام حسب قولك، لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه كل الشعب" (لو 2: 29-30).
حنة النبية، الأرملة الورعة للغاية في حياة طاهرة شهدت له.
يوحنا المعمدان حمل شهادة، العظيم في الأنبياء وقائد العهد الجديد، الذي بطريقةٍ ما وحّد بين العهدين في نفسه.
الأردن شاهد له بين الأنهار، وبحيرة طبرية بين البحار.
العمي والعرج شهدوا له، والأموات الذين قاموا، والشياطين التي قالت: "ما لنا ولك يا يسوع، نحن نعرفك، أنت قدوس الله" (مز 1: 24).
الرياح شهدت له بصمتها كأمره، والخمس خبزات تزايدت لتشبع خمسة آلاف...
خشبة الصليب المقدسة تحمل شهادة، هذا الذي يُرى بيننا إلى اليوم. ويمتلئ هذا الموضع وافدون من كل بقاع العالم ليأخذ الكل بإيمان نصيبًا منه(33)...

Mary Naeem 11 - 11 - 2022 05:59 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg





ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، به كان كل شيء


المقال الحادي عشر

"الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا في أزمنة متنوعة وطرق مختلفة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 1-2).

يسوع هو المسيح الوحيد

1. قدمنا لكم بالأمس، مظهرين لكم بما فيه الكفاية، قدر استطاعتنا، أن رجاءنا هو في يسوع المسيح. لكن يليق بنا ألاّ نؤمن به ولا نقبله كواحدٍ من مسحاء كثيرين يدعون هكذا بلا لياقة. فإن هؤلاء المسحاء رمزيّون، أما هو فالمسيح الحقيقي، لم يرتفع إلى الكهنوت عن تقدم(1) بين صفوف البشر، بل له شرف الكهنوت من الآب. من أجل هذا فإن قانون الإيمان يرشدنا مقدمًا حتى لا نظنه واحدًا من المسحاء العاديين، فيضيف الاعتراف بهذا الإيمان أننا نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد.
الابن الوحيد الجنس

2. وأيضًا عندما تسمع "ابن" لا تحسبه أنه مُتبنى، بل ابنًا بالطبيعة، الابن الوحيد، ليس له أخ. من أجل هذا دعي "الوحيد الجنس"، إذ ليس له أخ من جهة شرف اللاهوت ونسبته للآب(2). ونحن لا ندعوه "ابن الله" من عندياتنا، بل الآب دعي المسيح (دون غيره) ابنه وما يدعوه الآباء لأبنائهم هو اسم حق.
الابن المتأنس

3. ربنا يسوع صار إنسانًا، لكن كثيرين لم يعرفوه. وإذ رغب في تعليم من لم يكونوا قد عرفوه دعا تلاميذه وسألهم: "من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟! (مت 13: 6) لم يسأل حبًا في المجد الباطل، إنما بقصد إظهار الحق لهم، لئلا بإمعان النظر في الله وابن الله يظنون بخفة أنه مجرد إنسان عادي.
وعندما أجابوه أن البعض قالوا بأنه إيليا وآخرون إرميا، أجابهم أنهم معذورون في إجابتهم من أجل عدم معرفتهم، أما أنتم -يا رسلي- يا من باسمي تطهرون البرص وتخرجون الشياطين وتقيمون الموتى، فيلزمكم ألاّ تجهلوا (اسمي) الذي خلاله تفعلون هذه العجائب.
وعندما صمت الكل (إذ كان الأمر أعظم من أن يتعلمه إنسان) أجاب بطرس الرسول(3)... دون أن يرشده كشف بارع ولا فكرٍ بشري، إنما أضاء الآب ذهنه، فقال: "أنت هو المسيح"، بل وأيضًا قال: "ابن الله الحي" وقد تبع هذا تطويب من أجل حديثه كختم على أن ما قاله هو إعلان من الآب. إذ قال المخلص: "طوباك يا سمعان بن يونا، فإن لحمًا ودمًا لم يُعلن لك، بل أبي الذي في السماوات" (مت 16: 17). لذلك فمن يعرف ربنا يسوع المسيح أنه ابن الله يشترك في هذا التطويب، أما من ينكر ابن الله فهو فقير وبائس!
نور سرمدي من نور سرمدي

4. مرة أخرى أقول عند سماعك عن الابن لا تفهم هذا في معنى غير لائق بل هو ابن بالحق. أنه ابن بالطبيعة بلا بداية، لم يأتِ من حالة العبودية إلى التبنّي، أي انتقل إلى حالة أعظم، بل هو ابن أبدي مولود بنسب لا يُفحص ولا يدرك.
وبنفس الطريقة عند سماعك "البكر" لا تفكر في هذا الأمر بمستوى بشري، لأن البكر في البشر له إخوة آخرون.
لقد قيل "إسرائيل ابني البكر" (خر 4: 22) لكن إسرائيل كان مثل رأوبين الذي صعد إلى مخدع أبيه "أي كان خائنا"، فقد طرد إسرائيل ابن الآب خارج الكرم (وصلبوه). قيل عن آخرين: "أنتم أبناء الرب إلهكم" (تث 14: 1). وقيل في موضع آخر "أنتم آلهة، وكلكم بني العلي تُدعون" (مز 72: 6). هؤلاء عندما يقول لهم الله هكذا إنما يتقبلون بنوّة لم تكن لهم من قبل. أما هو فلم يولد ليصير على حال لم يكن عليه من قبل، بل هو مولود من البدء ابن الآب. هو فوق كل بداية وكل العصور، ابن الآب مشابهًا(4) للآب الذي ولده في كل شيء، أبدي من أب أبدي، حياة من حياة، نور من نور، حق من حق، حكمة من الحكيم، ملك من ملك، الله من الله، قوة من قوة.
تقبل البنوة حسب الجسد "لداود"

5. فإن سمعت الإنجيل يقول: "كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم" (مت 1: 1) حسب الجسد. فهو ابن داود "في ملء الأزمنة" (عب 9: 26)، ولكنه ابن الله قبل الدهور بلا بداية. قد تقبل البنوة "لداود" إذ لم تكن له، أما البنوة للآب فهي له سرمديًا.
إن له أبين، داود حسب الجسد، والآخر أي الله أباه في اللاهوت.
بكونه ابن داود يخضع للزمن وللتدبير والتنازل النسبي، لكن من جهة اللاهوت فلا يخضع لا لزمانٍ ولا لمكانٍ. "جيله من يعلنه؟ الله روح" (راجع إش 53: 8؛ يو 4: 24). فذاك الذي هو روح قد وُلد روحيًا بكونه غير جسدي بنسب غير مدرك ولا مفحوص. الابن نفسه يقول للآب: "قال الرب لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7) هذا "اليوم" ليس زمنيًا بل سرمديًا. اليوم هنا غير زمني، بل قبل كل الدهور. "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك"(5).
آمن بيسوع المسيح


6. إذن آمن بيسوع المسيح، ابن الله الحي، الابن الوحيد. حسب الإنجيل القائل: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16؛ يو 3: 18؛ 5: 24؛ يو 3: 36؛ يو 1: 14؛ لو 4: 34). وأيضًا: "الذي يؤمن به لا يُدان، إذ يعبر من الموت إلى الحياة". وأمّا الذي لا يؤمن به فلن يرى الحياة بل يمكث عليه غضب الله". ويشهد يوحنا عنه قائلًا: "ورأينا مجده مثل مجد ابن وحيد للآب. مملوء نعمة وحقا". إذ ترتعب منه الشياطين وتقول "ما لنا ولك يا يسوع. أنت ابن الله الحي".
ابن الله بالطبيعة وليس بالتبنّي

7. إذن هو ابن الله بالطبيعة وليس بالتبنّي، مولود من الآب، "وكل من يحب الوالد يحب المولود منه" (1 يو 5: 1)، ومن يحتقر المولود يسيء إلى الوالد. عندما تسمع عن الله "الوالد" (يو 4: 24) لا تفكر في أمور جسدية، ليس في توالد فاسد حتى لا تسقط في خطأ الكفر.
"الله روح"، نسبه روحي، لأن الأجساد تلد أجسادًا، وولادة الأجساد تحتاج إلى زمان، أما ولادة الابن من الآب فلم يدخل فيها زمن.
في حالتنا نحن ما يولد، إنما يولد غير كامل، أما ولادة الابن من الآب فهي ولادة كاملة، لأن ما هو الآن كان منذ البدء، إذ هو مولود بلا بداية.
نحن مولودون هكذا لنعبر من جهل الطفولية إلى التعقل. مولدك يا إنسان غير كامل ونموك يزداد. لكن لا تفكر هكذا في حالة الابن، ولا تنسب الضعف إلى الوالد، لأنه إن كان الذي ولد غير كامل ويحتاج كماله إلى زمان، فإنك بهذا تنسب ضعفًا إلى الوالد...
ولادة غير بشرية

8. لهذا لا تفكر في هذه الولادة على أنها بشرية، ولا كما ولد إبراهيم إسحق، لأنه في ميلاد إسحق لم يلد إبراهيم حسب إرادته، بل ولد ما قد منحه له غيره. أما الله، فإن ما ولده الآب لم يكن عن جهلٍ ولا احتاج إلى وسيطٍ(6). لأن القول بأنه كان يجهل ما كان يفعله هو كفر. والقول بأنه أصبح أبًا خلال أزمنة، هو أيضًا كفر. لأن الله لم يكن قط بدون الابن، وقد أصبح أبًا مع الزمن. إنما كان له الابن أزليًا، ولده ليس كما يلد البشر بشرًا، بل كما هو وحده يعرف، ولده قبل كل الدهر، إلهًا حقًا.
البنوة بالتلمذة

9. فالآب، إذ هو الله ذاته ولد الابن شبهه(7)، الله ذاته، إذ لم يلد كما يلد المعلمون تلاميذ، ولا كما يقول بولس للبعض: "لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1 كو 4: 15). إذ لا يكون في هذه الحالة ابنًا بالطبيعة بل بالتلمذة. أما في الحالة السابقة فهو أب بالطبيعة لابن حقيقي.
إنه ليس مثلكم أنتم الذين تستنيرون، فتصيرون أبناء الله... إذ أنتم أبناء بالتبنّي، كما هو مكتوب: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسدٍ، ولا من مشيئة رجلٍ، بل من الله" (يو 1: 12، 13).
حقًا إننا نولد من الماء والروح، لكن المسيح لم يُولد من الآب هكذا. إذ في وقت عماد خاطبه قائلًا: "هذا هو ابني" (مت 3: 17). لم يقل "صار ابني"، بل "هذا هو ابني"، معلنًا أنه "ابن" حتى قبل العماد.
10. المسيح كلمة الله

ولد من الآب "الابن" ليس كما بين البشر يلد الذهن كلمة. لأن الذهن موجود فينا جوهريًا، أما الكلمة فتنتشر في الهواء عندما ننطق بها وتنتهي"(8). لكننا نعلم أن المسيح لم يولد كمثل كلمة منطوق بها، بل هو كلمة جوهرية حية، لا تُنطق بشفتين، ولا تنتشر فتبدد، بل هو مولود من الآب أبديًا، لا يُوصف في الجوهر. إذ "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو 1: 1).
إنه جالس عن يمين الله،
الكلمة فاهم إرادة الآب،
خالد،
كل الأشياء كائنة بأمره.
الكلمة الذي نزل وصعد، أما الكلمة التي ننطق نحن بها فإنها تنزل ولا تصعد.
"الكلمة" ينطق قائلًا: "أنا أتكلم بما رأيت عند أبي" (يو 8: 38).
الكلمة له سلطان، يملك على كل شيءٍ، إذ أعطى الآب كل شيء للابن (مت 11: 27؛ يو 5: 22).
من يقدر أن يعرف كيفية الولادة الأزلية؟

11. الآب الذي ولد ليس بطريقة يُمكن لإنسانٍ أن يفهمها، بل يقدر وحده أن يفهمها. فإننا نعرف ألاّ نخبر عن الطريقة التي ولده بها، بل نصر أنها ليست بهذه الكيفية وليس فقط نحن نجهل مولد الابن من الآب، بل نجهل حتى كل طبيعة مخلوقة.
"أو كلم الأرض فتعلمك" (أي 12: 8). وبالرغم من أنك تسأل كل الأشياء التي على الأرض، فإنها تعجز عن أن تخبرك. لأن الأرض لا تقدر أن تخبر عن جوهر الذي شكَّلها كخزاف صنعها. وليس فقط الأرض بل الشمس أيضًا... والسماء أيضًا لا تعلن ذلك... ولا سماءٍ السماوات...
إذن هل تنحط يا إنسان، إن كنت تجهل ما لا تعرفه حتى السماوات؟! لا. ليس فقط السماوات تجهل طبيعة هذه الولادة بل وكل الطبائع الملائكية، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. فلو صعد أحد إلى السماء الأولى، وأدرك الرتب الملائكية، وسألهم:" كيف ولد الآب الابن؟" ربما يجيبونه؟ "إن هناك من هم أعظم منا وأسمى، اسألهم". أذهب إلى السماء الثانية والثالثة. ابلغ إن أمكنك إلى العروش والسلاطين والرئاسات والقوات، فإنه حتى أن وصل أحد إليهم -وهذا مستحيل- فإنهم يمتنعون عن الإجابة لعدم معرفتهم.
جسارة الذين يحاولون أن يفحصوا الخالق ذاته

12. فمن جهتي أنا دائمًا أعجب على جرأة المتجاسرين الذين بوقارهم المتخيل يسقطون في الكفر. فإذ لا يعرفون شيئًا عن العروش والسلاطين والقوات وأعمال المسيح، يحاولون أن يفحصوا الخالق ذاته!
أخبرني أولًا أيها الإنسان الجسور: ما هو الاختلاف بين العروش والسلاطين وبعد ذلك افحص ما يخص المسيح!
اخبرني: ما هي الرئاسات وما هي القوات وما هي الفضيلة(9)Virtue، وما هو الملاك، وعندئذ ابحث في خالقهم الذي "به كان كل شيء" (يو 1: 3)...
من يعرف "أعماق الله" (1 كو 2: 10، 11)، إلاّ الروح القدس الذي تكلم به الكتاب المقدس؟ بل حتى الروح القدس لم يتحدث في الأسفار المقدسة بخصوص ميلاد الابن من الآب، فلماذا تشغل نفسك بالأمور التي لم يكتبها الروح القدس في الكتاب المقدس؟!
هناك أمور كثيرة وردت في الكتب الإلهية، منها ما لا نفهم كنهه، فلماذا نشغل أنفسنا بما لم يُكتب؟!
إنه يكفينا أن نعرف أن الله ولد الابن الواحد الوحيد.
لا تخجل من الاعتراف بجهلك

13. لا تخجل من الاعتراف بجهلك مادمت تشترك في هذا مع الملائكة. الوالد وحده هو الذي يعرف المولود، والمولود يعرف الوالد. ويشهد الكتاب المقدس أن المولود هو الله. "لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته" و"لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" و"كما أن الآب يُقيم (من يشاء) كذلك الابن أيضًا يحيى من يشاء" (يو 5: 26، 23، 21). فالذي وَلد لم يحدث له نقصان، ولا ينقص المولود شيئًا(10)...
ميلاد أزلي

14. إذن نحن نؤمن بابن الله الوحيد المولود من الآب الله ذاته. نقول إن الله الحقيقي لا يلد إلهًا باطلًا، ولا هو تَمَعَّن في الأمر وبعد ذلك ولد، بل ولد أزليًا بأكثر سرعة عن ولادة كلماتنا وأفكارنا. إذ نحن نتكلم في زمان، ونخضع للزمان، لكن بخصوص القوة الإلهية، فالميلاد يتم خارج الزمن(11). وكما قلت مرارًا أن الابن لم يأتِ من عدم إلى التبني الإلهي. ولكن كما أن الآب أزلي، فقد وُلد الابن منه منذ الأزل، بطريقة لا توصف...
نبوات عن التجسد

15. أتريد أن تعرف أن المولود من الآب وقد صار إنسانًا هو الله؟ اسمع النبي يقول: "هذا هو إلهنا ولا يعتبر حِذائُه آخر. هو وجد طريق التأديب (المعرفة) بكماله، وجعله ليعقوب عبده... وبعد ذلك تراءى على الأرض، وتردد بين البشر" (با 3: 36-38). أما ترى هنا أن الله صار إنسانًا بعد أن قدم الشريعة بواسطة موسى؟
اسمع أيضًا شهادة أخرى عن لاهوت المسيح، إذ قُرأ الآن حالًا "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور" (عب 1: 8). ولئلا بسبب حضوره هنا بالجسد قد يُظن أنه ارتقى إلى اللاهوت، يوضح الكتاب المقدس بجلاء "مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك" (عب 1: 9). أما ترى المسيح أنه الله ممسوحًا بواسطة الله الآب؟!
شهادة إشعياء عن لاهوت المسيح

16. أتريد شهادة ثالثة عن لاهوت المسيح؟! اسمع إشعياء يقول: "تعب مصر وتجارة كوش (إثيوبيا)" وبعد ذلك "إليك يتضرعون قائلين: فيك وحدك الله وليس آخر سواك. أنت هو الله ولم نعرف...المخلص" (إش 45: 14، 15). إنك ترى أن الابن هو الله، فيه الله الآب، إذ يقول نفس العبارة التي وردت في الإنجيل "إني في الآب والآب فيَّ" (يو 14: 11). إنه لم يقل: "أنا هو الآب"، بل "الآب فيّ وأنا في الآب". أيضًا لم يقل: "الآب وأنا هما أنا"، بل "أنا والآب واحد"، حتى لا نفصل بينهما دون أن نضع خلطًا في ابن الآب.
إنهما واحد من جهة شرف وحدة اللاهوت، إذ ولد الله الله. هما واحد في ملكوتهما لأن الآب لا يملك على هؤلاء، والابن على أولئك، متكبرًا على أبيه كما فعل أبشالوم، إنما ملكوت الآب هو ملكوت الابن.
إنهما واحد، إذ لا يوجد بينهما اختلاف ولا انقسام، بل ما يريده الآب يريده الابن.
إنهما واحد، لأن أعمال الخلقة التي للمسيح ليست غير ما للآب، إنما خالق كل الأشياء هو واحد، خلقها الآب خلال الابن. وكما يقول المرتل: "هو قال فكانوا. هو أمر فخلقوا" (مز 33: 9، 5:148).
تمايز بين الآب والابن لا انفصال

17. الابن هو الله بعينه Very God، له الآب فيه، دون أن يصير هو الآب، لأن الآب لم يتجسد بل الابن...
الآب لم يتألم من أجلنا بل أرسل من يتألم...
فليس بقصد تكريم الابن ندعوه "الآب"، ولا لتكريم الآب نتصور الابن أحد خلائقه. إنما هو آب واحد نعبده خلال ابن واحد دون أن نفصل العبادة بينهما.
ليعلن عن الابن الواحد، جالسًا عن يمين الآب قبل كل الدهور في العرش ليس عن تقدم ناله في زمان بعد الآلام بل منذ الأزل.
لا تفصلهما، ولا تصنع تشويشًا

18. "الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9). لأنه في كل شيء الابن شبيه (واحد مع) من ولده. مولود حياة من حياة، نور من نور، قوة من قوة، إله من إله، وسمات اللاهوت غير متغيرة في الابن.
من يتأهل للتطلع إلى ربوبية الابن ينعم بربوبية الآب.
هذا الكلام ليس من عندي، بل هي كلمات الابن الوحيد القائل: "أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب".
وباختصار لا تفصلهما، ولا تصنع تشويشًا.
لا تقل قط إن الابن غريب عن الآب، ولا تقبل القائلين أن الآب في وقت ما هو الآب وفي وقت آخر هو الابن. فإن هذه العبارة غريبة وجاحدة وليست من تعاليم الكنيسة. لكن الآب بولادته الابن بقي الآب ولم يتغير، ولد الحكمة ولم يفقد الحكمة. ولد القوة دون أن يصير ضعيفًا. ولد الله ولم يخسر ربوبيته. لم يفقد شيئًا بالنقص أو التغير، ولا المولود ناقص في شيء. كامل هو الوالد، وكامل هو المولود. الله هو الوالد، الله هو المولود، الله من الله، ولكنه يُدعى الآب إلهه دون أن يخجل من القول: "اصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يو 20: 17).
تفسير: "أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"

19. ولكن لئلا يُظن أنه من جانب ما هو أب للابن وللخليقة معًا صنع المسيح تميزًا كما يلي: إنه لم يقل: "اصعد إلى أبينا"، لئلا تصير الخليقة شريكة للابن الوحيد (على مستواه الطبيعي)، بل قال: "أبي وأبيكم" أي هو أبي بالطبيعة وأبوكم بالتبنّي.
مرة أخرى يقول: "إلهي وإلهكم"، فمن ناحية هو إلهه بكونه ابنه الوحيد الحقيقي(12)، وبطريقة أخرى هو إلههم بكونهم عمل يديه...
آمن أن الله له ابن، لكن ليس في تطفل (لإدراك هذا)، إذ بالبحث لا تبلغ شيئًا. لا تنتفخ لئلا تسقط. "لا تبحث عما يتجاوز قدرتك لكن ما أمرك الله به" (ابن سيراخ 3: 22)، ونص الآية هو: "لاَ تَطْلُبْ مَا يُعْيِيكَ نَيْلُهُ، وَلاَ تَبْحَثْ عَمَّا يَتَجَاوَزُ قُدْرَتَكَ، لكِنْ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ، فِيهِ تَأَمَّلْ" (سفر يشوع بن سيراخ 3: 22)...
مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل

20. يكفيك من أجل الصلاح أن تعرف، كما قلنا، إن الله له ابن واحد وحيد مولود طبيعيًا. الذي لم يبدأ وجوده عندما وُلد في بيت لحم، بل قبل كل الدهور. اسمع النبي ميخا يقول: "أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (مي 5: 2).
إذن لا تفكر في ذاك الذي هو خارج الآن من بيت لحم (ولا تحسبه حديثًا)، بل اعبده، إذ هو مولود من الآب أزليًا.
لا تسمح لأحد أن يقول إن للابن بداية في زمان...
أتريد أن تعرف أن ربنا يسوع المسيح هو ملك أزلي؟ اسمعه يقول: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وتهلل" (يو 8: 56). وعندما استصعب اليهود قبول هذا، قال لهم إن هذا ليس بصعب، فإنه "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو 8: 58).
مرة أخرى يقول: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو 17: 5). قال بوضوح: "بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم". وأيضًا عندما قال "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو 17: 24)، معلنًا أن مجده أزلي.
خالق الكل

21. إذن نحن نؤمن بربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من أبيه الله عينه قبل كل الدهور، الذي به كان كل شيء لأن "فيه خلق الكل... سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين" (كو 1: 16). ولم تفلت خليقة ما من سلطانه.
لتصمت كل هرطقة بخصوص الخالق

22. لتصمت كل هرطقة تنادى بآلهة مختلفة وصانعين للعالم. ليصمت كل لسان يجدف على المسيح ابن الله. ليصمت القائلون إن الشمس هي المسيح، وإنه شمس الخالق(13)...
ليصمت القائلون إن العالم هو من عمل الملائكة لكي يلبسوا كرامة الابن الوحيد، إذ كل شيء، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشًا أو رئاسات أو أي شيء هكذا يدعى إنما كان بالمسيح(14)...
عمل الآب والابن في الخلق

23. لكن دعنا نسترجع اعترافنا بقانون الإيمان لننهي مقالنا.
المسيح صنع كل الأشياء... لا بمعنى أن الآب تنقصه قوة لخلق أعماله إنما لأنه أراد أن يحكم الابن على أعماله، فأعطاه الله رسم الأمور المخلوقة، إذ يقول الابن مكرمًا أبيه: "لا يقدر الابن أن يعمل شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل. لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يو 5: 19). وأيضًا: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). فلا يوجد تعارض في العمل إذ يقول الرب في الأناجيل: "كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي" (يو 17: 10).
هذا نعلمه بالتأكيد من العهدين القديم والجديد، لأن الذي قال: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26) بالتأكيد تكلم مع أقنوم معه.
وأوضح من هذا كلمات المرتل: "هو قال فكانت، وهو أمر فخُلقت" (مز 148: 5). فكما لو أن الآب أمر وتكلم والابن صنع كل شيء كأمر الآب...
يسوع المسيح خالق الكل بأمر الآب

24. إذن المسيح هو ابن الله الوحيد. خالق العالم لأنه "كان في العالم، والعالم به كونّ" و"إلى خاصته جاء" كما علمنا الإنجيل (يو 1: 10، 11). لقد خلق المسيح كأمر الآب ليس فقط الأشياء التي تُرى بل وما لا يُرى، إذ يقول الرسول: "فإن فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل" (كو 1: 16، 17).
حتى إن تحدثت عن العوالم، فإن يسوع المسيح أيضًا هو خالقها بأمر الآب، إذ "كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكي شيءٍ، الذي به أيضًا عمل العالمين" (عب 1: 2)، هذا الذي له المجد والإكرام والقدرة الآن وإلى أبد الأبد آمين.

Mary Naeem 11 - 11 - 2022 06:05 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
المقال الثاني عشر




"ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلًا: "اطلب لنفسك آية... ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش 7: 10-14).


إن قلنا إنه لم يأخذ الطبيعة البشرية يصير الخلاص غريبًا عنا


1. بشفاهٍ مملوءة طهرًا، وبفكرٍ عفيفٍ ننشد تسبيحنا للإله ابن البتول. لنستحق أن ننال الشركة في جسد الحمَل الروحي: لنشترك في الرأس مع القدمين(16)، مدركين أن الرأس هو لاهوت المسيح والقدمان تعنيان ناسوته.

لنصغ أيها المستمعون إلى الأناجيل المقدسة، إلى يوحنا اللاهوتي، إذ يقول: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو 1: 1.)، ويكمل قائلًا: "والكلمة صار جسدًا". لأنه ليس حسنًا أن نتعبد لإنسان عادي، ولا أن نقول إن المسيح إله فقط ناكرين ناسوته. لأنه إن كان المسيح هو الله فهذا حق، لكن إن قلنا إنه لم يأخذ الطبيعة البشرية يصير الخلاص غريبًا عنا.

إذن لنتعبد له بكونه إله مؤمنين بتأنسه، لأنه لا نفع من القول عنه إنه إنسان وليس الله، أو أي خلاص لنا إن رفضنا الاعتراف ببشريته مع ألوهيته. لنعترف بحضوره إذ هو ملك وطبيب. لأن يسوع الملك، إذ صار طبيبًا، اتزر بكتان ناسوتنا، وشفى من كان مريضًا.

المعلم الكامل للرُضع، صار رضيعًا بينهم (رو 2: 20)، لكي يعطى حكمة للجهلاء. خبز السماء نزل إلى الأرض لكي يُطعم الجياع!


احتقر اليهود المسيح الحقيقي


2. لكن أولاد اليهود الذين لم يبالوا بالذي جاء، متطلعين إليه كبشرٍ، احتقروا المسيح الحقيقي وانتظروا المخادع فخدعوا أنفسهم. يقول المخلص الحقيقي: "أنا أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه تقبلونه" (يو 5: 43).

حسنًا! لنسأل اليهود: هل كان النبي إشعياء الذي قال إن عمانوئيل يولد من عذراء صادق أم كاذب؟ فإن وسموه بالكذب فلا تعجب، لأنهم قد اعتادوا لا أن يزيفوا الأقوال فحسب، بل ويرجموا الأنبياء. أما إن قالوا إنه صادق، فأشر إلى عمانوئيل وقل: هل الذي يأتي وتقبلونه يكون مولودًا من عذراء أم لا؟! فإن قلتم إنه لا يولد من عذراء تتهمون النبي بالكذب، وأمّا إن كنتم تتوقعون فيه هذا، فلماذا رفضتم من جاء فعلًا؟!


مغالطات الهراطقة


3. ليضل اليهود إذ هم أرادوا هذا، ولتتمجد الكنيسة. فقد قبلنا الرب الكلمة الذي صار إنسانًا حقيقيًا، وهو لم يأتِ عن مشيئة رجل وامرأة كما يدعى الهراطقة، بل من العذراء والروح القدس. ويقول الإنجيل إنه "صار جسدًا" حقيقيًا وليس خيالًا. أما عن كونه إنسانًا حقيقيًا من عذراء ففي الوقت المناسب أقدم الأدلة في هذا المقال إذ أخطاء الهراطقة متعددة.

فالبعض يدعي أنه لم يُولد من عذراء قط.

والبعض يدعي أنه وُلد ليس من عذراء بل من امرأة تقطن مع زوج.

وآخرون ادعوا أن المسيح ليس إلهًا متأنسًا، بل إنسان متأله، فيقولون إنه ليس "الكلمة الأزلي" قد صار جسدًا بل إنسان تقدم فنال إكليلًا.


لنتذكر ما قيل بالأمس عن ربوبيته


4. آمن أنه ابن الله الوحيد، هو هو بنفسه الذي عاد فولد من العذراء. صدق يوحنا الإنجيلي القائل: "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا". ذلك لأن الكلمة أبدي، مولود من الآب قبل كل الدهور، وقد أخذ حديثًا جسدًا من أجلنا.

كثيرون يعترضون متشككين، قائلين: ما هو السبب العظيم الذي يدعو أن يصير الله إنسانًا! وأن تكون للطبيعة الإلهية علاقات مع البشرية! هل يمكن لعذراء أن تحبل بدون رجلٍ!

ولما كانت الاعتراضات كثيرة، والمعركة متعددة الجوانب، لهذا فإنني أجيب على كل سؤال بنعمة المسيح وصلوات الحاضرين.


لماذا تجسد المسيح؟


5. دعنا أولًا نبحث عن سبب مجيء المسيح. لا تبالِ ببراهين من عندي كي لا تضل الطريق، بل إن لم تتقبل شهادة الأنبياء فلا تصدقني. ما لم تتعلم من الكتاب المقدس بخصوص البتول وعن مكان الميلاد وزمانه وطريقته، فلا تقبل شهادة إنسان (يو 5: 34). لأن تعليم إنسان قد يؤدى إلى الشك، لكن كيف يشك أحد في نبوات أعلنت منذ حوالي ألف سنة ونيف؟!

إن أردت أن تعرف عن سبب مجيء المسيح ارجع إلى أول أسفار الكتاب المقدس.

في ستة أيام صنع الله العالم. بَيد أن العالم كان من أجل الإنسان، الشمس تبرق بضيائها لكي تنير له، وكل الخليقة وُجدت من أجل خدمتنا. العشب والشجر لكي نستمتع به. كل أعمال الخليقة صالحة، لكن لم يُخلق على صورة الله سوى الإنسان وحده.

الشمس وُجدت بمجرد أمر، أما الإنسان فإنه عمل يديّ الله، إذ قال "لنعمل الإنسان على صورتنا ومثالنا". إن كانت قطعة خشب منحوتة على صورة ملك تنال شرفًا، فكم بالحري صورة الله العاقلة؟!

لكن إذ وُضع هذا المخلوق العظيم في الفردوس سرعان ما طرده حسد إبليس.

ابتهج العدو بسقوطه، فهل يُترك العدو مستمرًا في بهجته؟! هذا العدو الذي لم يجسر أن يتكلم مع الرجل بقوته فاستضعف حواء التي كانت لا تزال عذراء، إذ عرف آدم حواء امرأته بعد الطرد من الفردوس.


فساد اليهود وشرهم


6. جاء قايين وهابيل في الجيل الثاني للبشرية، وكان قايين القاتل الأول. وبعد ذلك غمرت آثام البشر الأرض. فنزلت نار من السماء على شعب سدوم بسبب تعدياتهم.

وبعد زمن اختار الله شعب إسرائيل، لكن إسرائيل حاد عن الطريق، وصار الشعب المختار جريحًا. إذ بينما كان موسى يقف أمام الله على الجبل إذا بالشعب يعبد ثورًا عوض الرب. وفي أثناء حياة موسى مستلم الشريعة القائل "لا تزن"، تجاسر الإنسان ودخل أماكن الخلاعة مرتكبًا الإثم.

وبعد موسى جاء الأنبياء لشفاء إسرائيل، وإذ بهم يولولون ويندبون عدم قدرتهم على التغلب على الأمراض حتى قال فيهم أحدهم" ويل لي... لأنه قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس" (مي 7: 2). وأيضًا "الكل قد زاغوا وفسدوا ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (مز 14: 3؛ رو 3: 12). وأيضًا "لعن وسرقة وفسق وقتل غمر الأرض" (هو 4: 2)... "كانوا يقدسون أولادهم وبناتهم قرابين للشياطين فاستخدموا السحر والجان" (2 أي 31: 6). وأيضًا "يتمدّدون على ثياب مرهونة بجانب كل مذبحٍ، ويشربون خمر المغرمين في بيت إلههم"(17).


انحطاط البشرية


7. ما أعمق جرح الطبيعة البشرية "من القدم إلى الرأس. ليس فيه صحة، ليس من يقدر أن يستخدم دهنًا أو زيتًا أو عصائب" (راجع إش 1: 6). لذلك ولول الأنبياء قائلين: "هل من صهيون خلاص إسرائيل؟!"(18)... كما يتضرع أحد الأنبياء فيقول: "يا رب طأطئ سماواتك وانزل" (مز 144: 5). إن جروح الطبيعة البشرية لا تلتئم. "نقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك" (1 مل 19: 10)، وصرنا عاجزين عن إصلاح الشر، محتاجين إليك لتصلحه.


رفض اليهود المسيح


8. سمع الرب صلوات الأنبياء واهتم الآب ألاّ يهلك جنسنا، فأرسل ابنه من السماء كشافٍ. يقول أحد الأنبياء: "يأتي بغتة السيد الذي تطلبونه" (مل 3: 1) إلى أين؟ "إلى هيكله"!

يقول نبي آخر عند سماعه هذا: "على جبلٍ عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون... قولي لمدن يهوذا". ماذا أقول؟ "هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي" (إش 40: 9، 10).

والرب نفسه يقول: "هأنذا آتي وأسكن في وسطكم" (زك 2: 10).

لكن الإسرائيليين رفضوا الخلاص، لهذا "جئت لأجمع كل الأمم والألسنة" (إش 66: 18). إذ "جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله" (يو 1: 2).

إنك تجيء، فماذا تهب الأمم؟ "جئت لأجمع كل الأمم والألسنة وأجعل فيهم آية" (إش 66: 19). لأنه متى علقت على الصليب أعطي جميع جنودي ختمًا على جباههم.

يقول نبي آخر "طأطأ السماوات ونزل، (ضباب) تحت رجليه" (مز 18: 9)، لأن نزوله من السماء لم يكن معروفًا من البشر.


سليمان يتنبأ عن مجيئه


9. إذ يسمع سليمان أباه داود ينطق بهذه الأمور، ويبني بيتًا عجيبًا، في دهشة يتساءل: هل يسكن الله حقًا على الأرض مع الإنسان؟! (1 مل 8: 27) بلى، يجيب داود متنبأ في المزمور المنسوب لسليمان "ينزل مثل المطر على الجزة" (مز 71: 5).

"مثل المطر" لطبيعته السمائية، و"على الجزة" لناسوته. ولأن المطر ينزل على الجزاز بغير ضوضاء. لهذا فإن المجوس وهم لا يدركون سرّ الميلاد يتساءلون: أين هو المولود ملك اليهود؟ وإذ سمع هيرودس ذلك اضطرب، وأراد أن يعرف من هو هذا المولود فسأل: أين يولد المسيح؟!


شهادة الأنبياء


10. لكن من هذا الذي ينزل؟ "إنه يدوم مع الشمس، وقبل القمر بأجيال الأجيال" (مز 71: 4). ويقول نبي آخر: "ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون. اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك عادل ومعه الخلاص" (زك 9: 9).

ما أكثر الملوك، فعن من تتكلم أيها النبي؟ لتعطنا علامة ينفرد بها عن باقي الملوك. إن قلت إنه مكسو بالأرجوان لا يكون فريدًا، وإن قلت إنه محاط بحاملي السلاح، أو يجلس على مركبة ذهبية، فإن هذا يتميز به باقي الملوك. إذا فلتعطنا علامة ينفرد بها ذلك الملك الآتي، الذي تخبرنا عنه؟ يجيب النبي "هوذا ملكك يأتي إليك، عادل ومعه الخلاص وديع وراكب على جحش ابن أتان" وليس على مركبة. إنه يسوع الوحيد بين الملوك، يجلس على أتان بغير سرج، ويدخل أورشليم بحفاوة كملك.

وعندما يأتي هذا الملك ماذا يفعل؟ "وأنت أيضًا فإني بدم عهدك قد أطلقت أسراكِ من الجيب الذي ليس له ماء" (زك 9: 11).


أورشليم عاصمة مملكته


11. لكن ربما حدث هذا مصادفة أن الملك ركب أتانا؟ أعطنا علامة أخرى. أين يحل هذا الملك! ولتكن هذه العلامة داخل المدينة ذاتها، ولتكن العلامة معلومة لدينا، ولتكن واضحة أمام عيوننا حتى نتعرف عليها؟ يجيب النبي: "وقفت قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم من الشرق" (زك 14: 4). هل يصعب على أي إنسان في داخل المدينة أن يتطلع إلى الموضع؟!


يفتح عيون العميان


12. لدينا علامتان ونريد أن نعرف علامة ثالثة. أخبرنا ماذا يفعل الرب عند مجيئه؟ يقول نبي آخر "هوذا إلهنا يأتي ويخلصنا حينئذ تنفتح عيون العمي، وتسمع آذان الصم، حينئذ يقفز الأعرج كالإيل، ويترنم لسان الأخرس" (إش 35: 4-6).

لنأخذ شهادة أخرى. إنك تقول أيها النبي أنه سيأتي ويعمل ما لم يعمله آخر، وماذا أيضًا!" الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (إش 3: 14). يا لها من علامة جديرة بالأهمية. فإن السيد حاكمه خدامه الشيوخ وخضع لهم!


لماذا لم ينصت اليهود الأشرار لأنبيائهم؟


13. هذه الأمور قرأها اليهود ولكنهم لم يعوها، إذ سدوا آذان قلوبهم كي لا تسمع. أما نحن فلنؤمن بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد وتأنس، لأننا لا نقدر أن نقبله بغير ذلك فإن لم يكن في استطاعتنا أن نتطلع إليه كما هو، ولا نتمتع به، صار واحدًا منا حتى نتمتع به. لأنه إن كنا لا نستطيع أن نمعن النظر تمامًا في الشمس المخلوقة في اليوم الرابع فكيف نستطيع إمعان النظر في الله خالقها؟!

لقد نزل الرب في لهيب نار على جبل سيناء، فلم يستطع الشعب أن يتحملوا ذلك، وطلبوا من موسى: تكلم أنت معنا ونحن نسمع، "ولا تجعل الله يكلمنا لئلا نموت" (خر 20: 19). "لأنه من هو من البشر الذي سمع صوت الله الحي يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش" (تث 5: 6). فإن كان سماع صوت الله يُميت أفلا تدفع رؤية الله إلى الموت؟! وأي عجب، فإن موسى نفسه يقول: "أنا مرتعد ومرتعب" (عب 12: 21).


دانيال لم يحتمل رؤية ملاك


14. ماذا تريد إذن! الذي جاء إلى خلاصنا يصير خادم هلاك، لأن الناس لا يحتمّلونه! أو يحد نعمته لقياسنا! دانيال لم يحتمل رؤية ملاك، فهل تقدر أنت أن تحتمل رؤية رب الملائكة؟ عندما ظهر جبرائيل سقط دانيال.

في أية طبيعة أو مظهر ظهر؟ لقد كان على شكل نور (دا 5: 6). لكن ليس كالشمس. عيناه مثل مصباح نور، لكنهما ليسا كشعلة لهيب. صوته كصوت جمهور، لكن ليس كصوت اثني عشر ربوة من الملائكة، ومع ذلك سقط النبي فجاءه الملاك قائلًا: "لا تخف يا دانيال، قم وتشجع فقد سمعت كلماتك".

قال دانيال: "قد وقفت مرتعدًا"، بل حتى هذه الكلمات لم ينطق بها إلى أن لمسته يد تشبه اليد البشرية، ولما تحوّل ذاك الذي ظهر له إلى صورة إنسان عندئذ تكلم دانيال. ماذا قال؟ يا سيدي، بالرؤيا "انقلبت عليّ أوجاعي لم تثبت فيّ قوة، ولم تبقَ فيّ نسمة" (دا 10: 16، 17).

إن كان مجرد ظهور ملاك لنبي لم يبقِ فيه صورة ولا قوة، فهل ظهور الله بنفسه سيبقي له نسمة؟! يقول الكتاب المقدس: "فعاد ولمسني كمنظر إنسان" وإلى أن لمسني الملاك لم تلازم الشجاعة دانيال قط. هكذا رأى الرب أنه لكي يمكن للإنسان أن يسمع له يتعين له أن يكون في طلعة الإنسان وملامحه، لذلك أخذ المخلص الطبيعة البشرية بانفعالاتها حتى يمكن أن يرشد بأكثر سهولة.


خلّصنا الرب بنفس الأسلحة التي أراد إبليس أن يهزمنا بها



15. لنتعلم أيضًا عله أخرى. جاء المسيح ليعتمد ويقدس العماد. جاء لكي يصنع عجائب ويسير على مياه البحر. فإن كان قبل ظهوره في الجسد "البحر رآه فهرب... الأردن رجع إلى الخلف" (مز 114: 3)، أخذ المخلص جسدًا لكي يقدر البحر علي رؤياه ويستقبله الأردن بلا خوف. هذا سبب لمجيئه، هناك سبب آخر: وهو أنه خلال حواء العذراء سار الموت وخلال العذراء تصير الحياة. وكما أغوت الحيّة القديمة العذراء الأولى، جُعل جبرائيل البشارة الطيبة للثانية.

هجرت البشرية الرب وتخلت عنه وسجدت لصور بشرية منحوته، عبدت صورة الإنسان باطلًا على أنه الله، فصار الله إنسانًا حقيقيًا حتى ينزع الزيف بعيدًا.

استخدام إبليس الجسد كسلاح ضدنا، وقد عرف بولس ذلك فقال: "أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني..." (رو 7: 23)، وبنفس الأسلحة التي أراد إبليس أن يهزمنا بها خلّصنا الرب. أخذ الرب شبهنا حتى يخلص البشر. أخذ مالنا حتى يهبنا نعمة أعظم تنقصنا، فتصير البشرية الآثمة مشاركة "فحيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا" (رو 5: 20). لاق بالرب أن يتألم لأجلنا، لكن لو عرفه إبليس لما تجاسر أن يقترب إليه. "لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8). لذلك صار جسده طُعمًا للموت، وإذ صار موضع أمل للوحش أن يقبض على المخلص، قبض المخلص عليه. لأنه "يَبْلَعُ الموت إلى الأبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه" (إش 25: 8).


هل تأنس الله بلا سبب؟


16. هل معتقداتنا مجرد عبارات منمقة وادعاءات بشرية؟ أليس الكتاب المقدس ونبوات الأنبياء هي لخلاصنا؟ لهذا اطلب إليك أن تحفظ هذه الوديعة بغير عيب ولا يثنيك أحد عنها. آمن أن الله صار إنسانًا.

إن كان من السهل إمكانية أن يصير الله إنسانًا، إلاّ أن اليهود لا يزالون غير مؤمنين. لهذا نسوق لهم هذا القول: أي غرابة في القول إن الرب تأنس وأنتم تقولون أن إبراهيم استقبل الرب كضيفٍ؟ (تك 10: 1) أي غرابة فيما نقول إن كنتم تقولون إن يعقوب صارع مع الرب وجهًا لوجه (تك 32: 30)... الرب الذي أكل مع إبراهيم أكل معنا...


متى يأتي هذا النبي المنتظر؟


17.... يقول موسى النبي "نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون" (تث 18: 15؛ أع 7: 37). لنترك الآن كلمة "مثلي" إلى حين لبحثها في موضعها. ولكن متى يأتي هذا النبي المنتظر؟

انظر ما كتبه وابحث بتدقيق نبوة يعقوب الموجهة إلى يهوذا: "إياك يحمدك إخوتك". ثم يقول: "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع (ويكون منتظرًا من الشعوب)" (تك 49: 8، 10)، لا من اليهود. بهذا أعطى علامة لمجيء المسيح هو انقطاع الحكم من اليهود. فلو لم يكونوا تحت حكم الرومان لما كان المسيح قد جاء بعد. لو كان لليهود ملك من يهوذا من نسل داود لما جاء المسيح بعد...

إنه المنتظر من جميع الشعوب. وما هي علامته؟ "رابطًا بالكرمة جحشه" (تك 49: 11). لاحظ الجحش الذي يعلنه زكريا بصراحة.


تحديد الزمان بالسنوات


18. إذن نبحث بأكثر تدقيق عن شهادة خاصة بزمان مجيئه، إذ يصعب إقناع الشخص ما لم يُقدم له حساب دقيق للزمان بالسنوات. فما هو وقت وحال زمان مجيئه؟ إنه في زمان انحلال ملوك يهوذا وسقوطهم، حيث بلغ هيرودس الأجنبي المُلك. لهذا قال الملاك الذي خاطب دانيال... "فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبناءها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا" (دا 9: 25). والتسعة والستون أسبوعًا يحملون 483 سنة (69×7). فكأنه يقول أنه بعد بناء أورشليم بـ483 سنة حيث يسقط الحكام، ويأتي عوضًا عنهم ملك من جنس آخر من زمان يولد المسيح.

وقد بني داريوس المادى Mede (دا 5: 31) المدينة في السنة السادسة من حكمه، والسنة الأولى من الأولمبي (Olympiad) الـ66 طبقًا للإغريق. والأولمبي هي كلمة إغريقية معناها احتفالات للألعاب، تقام كل 4 سنوات، وذلك بسبب اليوم الذي فيه تؤدى دورة الشمس إلى 3 ساعات إضافيا... أما هيرودس فهو الملك الذي تولى الحكم في الأولمبي الـ186 في السنة الرابعة منه. فمن الأولمبي الـ66 إلى الأولمبي 186 يكون هنا 120 أولمبي أي 480 سنة، وبإضافة 3 سنوات ربما الفترة ما بين السنة الأولى والرابعة للأولمبي يكون عدد السنوات 483. وبهذا يكون لديك شهادة طبقًا لقول الكتاب المقدس "إنه من خروج الأمر..."


مكان ميلاده


20. لنصغِ الآن إلى مكان الموعد، إذ يقول ميخا: "وأما أنتِ يا بيت لحم أفراته وأنت صغيرة وأن تكوني بين ألوف يهوذا..." (مى 5: 2)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. وإذ أنت ساكن في أورشليم تعرف ما جاء في المزمور 131: "هوذا قد سمعنا به في أفراته ووجدناه في موضع الغابة"، إذ من سنين قليلة كانت المنطقة مشجرة (غابة).


ولادته من عذراء


21. لنسأل أكثر من هذا: ممن يأتي؟ وبأية كيفية؟ يخبرنا إشعياء النبي بهذا "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل" (إش 7: 14). وهنا يتعثر اليهود الذين هم منذ القدم يقاومون الحق فإنهم يقولون إنه لم يكتب "عذراء" بل "فتاة". لنتمشى مع اليهود فإننا نصل إلى الحق. لنسألهم: إن أُكرهت فتاة فصرخت طالبة النجدة، هل يكون ذلك قبل الاعتداء أم بعده؟

فإنه يقول الكتاب المقدس في موضع آخر "الفتاة المخطوبة صرخت فلم يكن من يخلصها" (تث 22: 27). أم يتكلم هنا عن عذراء؟! ولكن ما يجب أن تعرفه بوضوح أن العذراء تدعى في الكتاب المقدس فتاة، إذ يتحدث عن ابيشج الشونمية "كانت الفتاة جميلة جدًا" من أجل هذا اختيرت وقد صارت موضع إعجاب داود.


بخصوص النبوة عن ولادته من عذراء


22. لكن اليهود يقولون إن هذا قيل لآحاز مشيرًا إلى حزقيا. حسنا لنقرأ الكتاب المقدس، ماذا يقول؟ "اطلب من الرب إلهك آية في العمق وفي العلو" (راجع إش 7: 11). والآية بكل تأكيد يجب أن تكون عجيبة مثل خروج المياه من الصخرة أو انشقاق البحر أو رجوع الشمس إلى الوراء، وما أشبه ذلك، لكن ما أشير إليه بأكثر وضوح لدحض اليهود أن إشعياء هذا كان في أيام آحاز. وآحاز ملك فقط 16 سنة. فإن كان النبي يتنبأ خلال هذه المدة فإن دعوى اليهود تبطل أنه يقصد الملك الذي جاء بعده حزقيا بن آحاز، إذ كان عمرة 25 عامًا يوم تولية الحكم. فإذ كانت النبوة خلال 16 عامًا فإنه من المفروض أن يكون حزقيا قد ولد بالغًا من العمر تسعة سنوات (على الأقل) قبل النبوة. فما الحاجة إلى النبوة عن شخص ولد فعلًا حتى قبل أن يملك أباه آحاز، فإن النبي لم يقل "حبلت" بل "ها العذراء تحبل" متحدثًا عن أمور ستحدث.


عائلة هذه العذراء


23. عرفنا أن الرب يولد من عذراء، بقي لنا أن نعرف عائلة هذه العذراء. "أقسم الرب لداود بالحق ولن يندم، من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك". وأيضًا "وأجعل إلى الأبد نسله وكرسيه مثل أيام السماوات". وأيضًا "حلفت بقدسي إني لا أكذب لداود. فله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس والقمر أمامي" (مز 132: 11؛ مز 89: 29؛ مز 89: 35).

ها أنت ترى الحديث عن المسيح لا سليمان، لأن عرش سليمان لا يبقي كالشمس. أما إن أنكر أحد قائلًا: إن المسيح لم يجلس على كرسي داود المادي، فإننا نقدم له هذا القول "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيّون" (مت 23: 2)، فهم لم يجلسوا على كرسي خشبي، بل صارت لهم سلطة التعليم، هكذا لا تنظر إلى كرسي داود أنه كرسي خشبي، بل المُلك نفسه.

أيضًا خذوا الأطفال كشهودٍ،ٍ إذ يصرخون: "أوصنا يا ابن داود. مبارك (الآتي) ملك إسرائيل" (مت 21: 9؛ يو 12: 13). كذلك الأعميان قالا: "ارحمنا يا ابن داود" (مت 20: 30). وقد شهد جبرائيل لمريم بصراحة قائلًا: "يعطيه كرسي داود أبيه" (لو 1: 32). وأيضًا يقول بولس: "اذكر يسوع المسيح المقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلي" (2 تي 2: 8). وفي بداية الرسالة إلى أهل روميه يقول: "الذي صار من نسل داود من جهة الجسد" (رو 1: 3). اقبل المولود ابن داود آمن بالنبوة القائلة: "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى داود القائم يحكم الشعوب وفيه تثق الشعوب" (راجع إش 11: 10؛ رو 15: 12).


العذراء من نسل داود


24. لكن يضطرب اليهود كثيرًا بسبب هذه الأمور. لقد سبق إشعياء فعرفها، قائلًا: "لأنه يكون مأكلًا للنار، لأنه يولد لنا (وليس لهم) ولد ونعطى ابنًا" (إش 9: 5)، لاحظ أنه أولًا ابن الله ثم يعطى لنا. بعد هذا بقليل يقول "سلامه بلا حدود". مملكة الرومان محدودة، أمّا مملكة المسيح ابن الله فبلا حدود.

دولة فارس ومادي لها حدود، أما ابن الله فمملكته بلا حدود.

ثم يكمل قائلًا: إنه علي كرسي داود يجلس، وعلى مملكته يديرها. لذلك فإن العذراء هي من نسل داود.


يتجسد في أحشاء عروس الطهارة


25. يليق بكلي الطهارة ومعلمها أن يتجسد في أحشاء عروس الطهارة. إن كان كاهن المسيح في الخدمة يمتنع عن المضجع، فكيف يولد المسيح من امرأة ورجل؟! إنه يقول بنفسه في المزمور "أخرجتني من الرحم" (مز 22: 1)، مظهرًا أنه مولود بغير زرع رجل، إنما يحمل الجسد عن عذراء، الأمر الذي يختلف عن المولودين من زرع بشري.


أخذ مكوّن الأجساد جسدًا


26. إذ أخذ الرب جسدًا لم يخجل منه إذ هو مكوّن الأجساد. لكن من الذي أخبرنا بهذا؟ يقول الرب لإرميا: "قبلما صورتك في البطن عرفتك. وقبلما خرجت من الرحم قدستك" (إر 1: 5). فإن كان لم يخجل من خِلْقَة جسد الإنسان، أفيخجل من الجسد الذي أخفي فيه لاهوته. الذي يخلق الأطفال في الأحشاء كما كتب أيوب: "ألم تَصُبَّني كاللبن وَخَثَّرتني كالجبن، كَسَوتَني جِلدًا ولَحمًا فَنَسَجْتَني بِعِظامٍ وعصب؟!" (أي 10: 10، 11) ليس شيء نجسًا في هيكل الإنسان بل هو يفسده بالزنى والدعارة.

الذي خلق آدم خلق حواء أيضًا، فإن يد الله هي التي خلقت الرجل والمرأة. ليس عضو من الأعضاء التي خلقها منذ البدء نجسًا.

ليصمت جميع الهراطقة الذين يهينون أجسادهم ويغتابون صناعها. لنذكر قول بولس "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم؟!" (1 كو 6: 19).

أيضًا سبق النبي فتكلم عن شخص يسوع فقال: "جسدي مأخوذ منهم" (راجع هو 9: 12 LXX). كتب في موضع آخر: "لذلك يسلمهم إلى حين تكون ولدت والدة" (مى 5: 3).

وما هي العلامة؟ إنه يخبرنا بعد ذلك فيقول: "تلد ثم ترجع بقية إخوته". وماذا عن العروس القديسة العذراء؟ "أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب" (هو 2: 20). لذلك عندما تكلمت أليصابات مع مريم قالت لها "طوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو 1: 45).


الرد على الوثنيين


27. لكن كلًا من اليهود واليونانيين يزعجوننا قائلين: إنه من المستحيل أن يولد المسيح من عذراء. أما بالنسبة لليونانيين، فإننا نخرس ألسنتهم من أساطيرهم. يا من تقولون إن الحجارة صارت بشرًا، كيف تستبعدون إمكانية ولادة المسيح من العذراء.

يا من تعتقدون أن فتاة ولدت من عظام كيف لا تقدرون أن تصدقوا أن المسيح يولد من أحشاء عذراء.

يا من تعتقدون باطلًا أن ديونيسيوس ولد من فخذ زيوس كيف تستبعدون الحق.

إنني أعلم أن ما انطق به الآن هي أمور يستخف بها الحاضرون، لكنني أذكرها لكي توبخوا اليونانيين في حينه، تجيبونهم من أساطيرهم.


الرد على اليهود


28. أما أهل الختان فإننا نواجههم بهذا السؤال: أيهما أصعب، أن تلد عاقر وفي سن الشيخوخة أم أن تحبل صبية عذراء؟!

سارة كانت عاقرًا وانقطعت عن أن يكون لها كعادة النساء، لكن على خلاف الطبيعة ولدت طفلًا. فإن ولدت عاقر طفلًا، فليس غريبًا أن تحبل عذراء. فإمّا أن تقبل الاثنين أو ترفضهما. لأن الله ذاته الذي جعل العاقر تلد هو الذي جعل العذراء تحبل.

لا تقدر إن تقول إن الله قادر في الحالة الأولى وغير قادر في الحالة الثانية.

أيضًا كيف يمكن لذراع إنسان أن تتحول في ساعة معينة إلى صورة أخرى ثم تشفى مرة ثانية؟! كيف يمكن أن تصير يد موسى بيضاء كالثلج ثم تعود لطبيعتها مرة أخرى؟! إنك تقول إنها إرادة الله صنعت هذا. فهل في هذه الحالة إرادة الله قادرة، وفي الحالة الأخرى إرادة الله بلا قوة؟! خاصة وأنه في حالة موسى كانت الآية للمصريين وحدهم، أما في حالة العذراء فهي للعالم كله.

أيهما أصعب أيها اليهود، أن تلد عذراء، أم أن تصير العصا الجماد مخلوقًا حيًا؟! إنكم تقولون إن عصا موسى صارت حيَّة، وقد هرب منها ليس خوفًا، لكن لأنها صارت حيَّة. العصا أخرجت عيون وأسنان كالحية، فهل إرادة الله تُخرج من العصا عينين، ولا يمكن أن يولد طفل من عذراء؟!

إنني لم أقل شيئًا عن عصا هارون التي أثمرت في ليلة، الأمر الذي ما كان يمكن أن يتم مع الشجر إلاّ خلال سنين. من لا يعرف أن الغصن متى فقد حياته لا يعود يفرخ حتى وإن زرع في مجاري الأنهار؟! لكن الله الذي لا يعتمد على طبيعة الأشجار بل هو خالق هذه الطبيعة جعل العصا الجافة التي بلا أوراق أو ثمار أن تزهر وتثمر. فإن كان الرب من أجل رئيس الكهنة أعطى ثمرًا بطريقة معجزية، أفلا يقدر من أجل رئيس الكهنة الأعظم أن يجعل العذراء تلد ابنًا؟!


من الذي ولد حواء؟


29. هذه أدلة قوية، لكن اليهود يرفضونها ولا يريدون الخضوع للشهادات الخاصة بالعصا ما لم يروا ميلاديات عجيبة وفريدة.

اسألهم: من الذي ولد حواء؟ أي أم ولدت من هي بلا أم؟ الكتاب المقدس يقول إنها وُلدت من جنب آدم. فهل ولدت حواء بدون أم من جنب وكثير أن يُولد طفل بلا أب من أحشاء عذراء؟

لهذا كان على جنس المرأة دين إزاء الرجل... لذا دفعت مريم هذا الدين، وردت هذا الجميل عندما حبلت ليس برجلٍ بل وحدها حين حبلت بالروح القدس بطريقة سرية بقوة الله(19).


الميلاد العذري والخلق


30. لننظر عظمة هذا: إنه لأمر عجيب أن تولد الأجسام من أجسام أخرى. وإن كان هذا الأمر عجيبًا لكنه ممكن، لكن العجب كل العجب أن يتحول التراب إلى إنسان له عيون وعظام وهيكل ورئتان يتنفس ويتحرك ويتكلم ويملك. أيها الأغبياء كيف خُلق آدم؟ ألم يأخذ الله حفنة من التراب؟!... العجب كل العجب أن تنشأ الأنسجة والعيون الرائعة من طين لا شكل له، وأن تنتج العظام الصُلبة والرئات الرقيقة، ومختلف الأعضاء الأخرى من التراب ذاته...

أيها اليهود الأغبياء، من أين أتى آدم؟ أليس الله الذي أخذ من تراب الأرض ورسم هذا الشكل العجيب؟ (تك 2: 7)، إن كان الطين تحوَّل إلى عين، ألا تستطيع العذراء أن تلد ابنًا...؟


بمجرد الوعد صار يعقوب يطلق على راحيل "زوجته"


31. أخيرًا دعنا نرد على القائلين إنه ولد من رجل وامرأة، من يوسف ومريم قائلين إنه ذكر في الكتاب المقدس "يوسف أخذ امرأته" (مت 1: 24).

لنرى ماذا قال يعقوب قبل أن يستلم راحيل "أعطني زوجتي" (تك 29: 21). لأنه حتى قبل الارتباط، لكن بمجرد الوعد صار يعقوب يطلق عليها "زوجته".

كذلك مريم إذ كانت مخطوبة دُعيت زوجة يوسف.

لاحظ قول الكتاب المقدس: "في الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف" (لو 1: 26). كما يقول صعد يوسف من الجليل ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى" (لو 2: 54)، إذ حتى وهي حبلى بولد دُعيت زوجته "المخطوبة". وكما يقول بولس الرسل: "أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة" (غل4: 4)، فقط وليس من رجل وامرأة.


العذراء نفسها سبقت أن تعجبت


32. لا تعجب أيها الحبيب، فالعذراء سبق أن تعجبت قائلة لجبرائيل: "لست أعرف رجلًا". فقال لها الملاك: "الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، ولهذا فالمولود منك يُدعى ابن الله" (لو 1: 34، 35).

لقد كانت ولادة طاهرة وبلا دنس، لأنه حيث يحل الروح القدس يزول كل دنسٍ. ولادة ابن الله الوحيد بالجسد من عذراء ولادة بلا دنس.

إن اعترض الهراطقة على هذه الحقيقة فسيلومهم الروح القدس، وتغضب عليهم قوة العليّ، ويثور عليهم جبرائيل في يوم الدين. وسيفحمهم مكان المزود الذي تقبَّل الرب، وسيشهد ضدهم الرعاة الذين بشروا بالفرح العظيم، وأيضًا جيش الملائكة الذين سبحوا الله، قائلين: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" (لو 2: 24).

سيشهد عليهم الهيكل الذي حُمل إليه في اليوم الأربعين، وزوجا اليمام اللذان قُرِّبا مكانه، وسمعان الذي حمله على ذراعيه، وحِنة النبية التي حضرت تلك الساعة.


شهادة الأطهار والبتوليين عنه


33. إذن، ليشهد الله، ويشهد الروح القدس، وسيقول المسيح: "الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسانٌ قد كلَّمكم بالحق" (يو 8: 40).

إذن، ليصمت الهراطقة الذين يعارضون في طبيعته البشرية، لأنهم يناقضون القائل: "جسُّوني واُنظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي" (لو 24: 39). فليُسجد للرب المولود من العذراء، ولتعترف العذارى بإكليل جماعتهن، ولتعترف طغمة المتوحدين بمجد العفة، فإننا لم نُحرم من كرامة العفة.

لقد مكث المخلص تسعة أشهر في أحشاء العذراء؛ وأصبح الرب رجلًا في الثالثة والثلاثين من عمره، بحيث إنه إذا كانت العذراء تفتخر بحملها إياه تسعة شهور، فإننا قد حظينا به لسنوات كثيرة.


دعوة إلى الحياة البتولية


34. لنسرع جميعًا بنعمة الله إلى سباق الطهارة، شبابًا وعذارى، شيوخًا وأطفالًا (مز 148: 12). لنسبح اسم المسيح بعيدين عن الشراهة، ولا ننكر مجد العفة. إنها إكليل ملائكي، وفضيلة تسمو بالإنسان.

لنوقر أجسامنا التي يلزم أن تضيء كالشمس (مت 13: 3). ولا ندنس هذا الجسم العظيم من أجل لذةٍ طفيفة؛ فالخطية زائلة تدوم لساعةٍ. أما العار فجسيم يدوم إلى الأبد. الذين يمارسون العفة هم ملائكة سالكون على الأرض. وللعذارى نصيب مع مريم العذراء.

لنبتعد عن كل تبرُّج، وكل نظرةٍ شريرة]، وكل حديثٍ باطلٍ، وكل زينةٍ وعطر مثير للأهواء. ليقتصر عطرنا على راحة صلاتنا الذكية، وممارسة أعمال الخير، وتقديس الأجسام. حتى يتسنى للرب المولود من العذراء أن يقول عنا نحن الذين نمارس العفة، من رجالٍ ونساءٍ؛ "إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا" (2 كو 6: 16). له المجد إلى الأبد، آمين.

Mary Naeem 18 - 11 - 2022 01:13 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg


القديس كيرلس الأورشليمي



صلب ودفن

المقال الثالث عشر


"من صدق خبرنا؟ ولمن أُستعلنت ذراع الرب...؟ كشاة تساق إلى الذبح" (إش 13: 1-7).

الصليب أعظم أعجوبة

1. كل عمل قام به المسيح، إنما يمجد الكنيسة الجامعة. ولكن أعظم كل الأمجاد للكنيسة هو الصليب. وإذ عرف بولس ذلك قال: "وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربنا يسوع المسيح" (غل 6: 14).
عجيب أن يرى المولود الأعمى من بطن أمه النور في سلوام، لكن هذا العمى كيف يُقارن بعمى العالم كله؟!
انه أمر عظيم وخارق للطبيعة أن يقوم لعازر من الموت في اليوم الرابع، لكن النعمة شملته وحده، فكيف يُقارن بالذين ماتوا بخطاياهم في العالم كله؟!
أي معجزة هذه أن يُطعم خمسة آلاف بخمس خبزات، ولكن ماذا يكون هذا بالنسبة للذين يتضورون جوعًا في المسكونة كلها؟!
حقًا إنها لمعجزة أن تحل المربوطة بالشيطان 18 عامًا من قيودها هذه، لكن ماذا يكون هذا بالنسبة لنا نحن جميعًا الذين تقيدنا برباطات آثامنا؟!
لكن مجد الصليب قادر أن يبعث النور في هؤلاء العميان في جهلهم، ويحل عنهم وثاقات الإثم، ويفتدي العالم البشرية أجمع؟!

يا لعظمة إمكانية المصلوب!

2. لا تعجب من أن العالم كله اُفتدى، لأن الذي مات من أجله لم يكن مجرد إنسان بل ابن الله الوحيد! فإذ جلب عصيان آدم الموت على العالم، لكن كما أنه "بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد. فبالأولى كثيرا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرّ سيملكون في الحياة بالواحد" (رو 5: 17).
وإذا كان بسبب شجرة طعام قد طُردوا من الفردوس، أفلا يدخل المؤمنون الآن بأكثر سهولة إلى الفردوس بشجرة يسوع.
إن كان الإنسان الأول المخلوق من الطين جلب الموت العام، أفلا يستطيع الذي صنعه من التراب أن يعيده إلى الحياة الأبدية، هذا الذي هو بنفسه "الحياة"؟!
وإذا كان فينحاس عندما زادت غيرته ذبح فاعل الشر فرد سخط الرب، فهل يسوع الذي لم يذبح غيره بل بذل نفسه فدية (1 تي 2: 6) لا يرد السخط الذي كان من جهة الجنس البشري؟!

لا تخجل من الصليب

3. لا تخجل من صليب مخلصنا، بل بالأحرى افتخر به. لأن "كلمة الصليب عند اليهود عثرة، وعند الأمم جهالة، أما بالنسبة لنا فخلاص" (1 كو 1: 2، 3). إنه "عند الهالكين جهالة، وأمّا عندنا نحن المخلصين فهو قوة الله" (1 كو 1: 18، 23). لأنه كما سبق أن قلت أنه لم يكن ذاك الذي مات عنا إنسانًا مجردًا، بل هو ابن الله، الله المتأنس.
بالأحرى إن كان الحمل في أيام موسى جعل المُهلك يعبر بعيدًا، أفلا ينزع عنا خطايانا ذاك الذي هو حمل الله الذي يرفع خطايا العالم؟! (يو 1: 29)
دم الخراف غير الناطقة وهب خلاصنا، أليس بالأحرى دم ابن الله الوحيد يخلص؟!
من ينكر قوة المصلوب، فليسأل الشياطين! من لا يؤمن بالكلام، فليؤمن بما يرى. فكثيرون صُلبوا في العالم، لكن الشياطين لم تفزع من واحدٍ منهم، لكنها متى رأت مجرد علامة صليب المسيح الذي صُلب عنا يُصعقون. لأن هؤلاء الرجال صُلبوا بسبب آثامهم، أما المسيح فصُلب بسبب آثام الآخرين... "لأنه لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش" (إش 53: 9؛ 1 بط 2: 22). لم ينطق بهذه العبارة وحده، وإلا لشككنا في أنه منحاز لمعلمه. ولكن إشعياء قالها أيضًا، ذاك الذي لم يكن حاضرًا معه بالجسد، لكنه تنبأ بالروح عن مجيئه بالجسد.
ما بالنا نستشهد بالنبي وحده هنا؟ فها هو بيلاطس نفسه الذي حكم عليه يقول: "لا أجد في هذا الإنسان علّة" (لو 23: 14). ولما أسلمه غسل يديه قائلًا: "أنا بريء من دم هذا البار".
توجد شهادة أخرى عن يسوع البار الذي بلا خطية، هي شهادة اللص أول الداخلين الفردوس، إذ بكَّت زميله منتهرًا إيّاه قائلًا: "أمّا نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأمّا هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله" (لو 23: 41)، لأن كلينا تحت قضائه.

آلامه وصلبه حقيقة وليس خيالًا

4. بالحقيقة تألم يسوع من أجل البشر، لأن الصليب لم يكن وهمًا، وإلا صار فداؤنا وهمًا أيضًا. لم يكن موته مجرد خيال، وإلا كان خلاصنا واهن أيضًا. فلو كان موته مجرد مظهر لكان على حق أولئك الذين قالوا "لقد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم" (مت 63:27).
كانت آلامه حقيقة. لأنه بالحقيقة صُلب، ونحن لا ننكر هذا. لقد صُلب ونحن نذكره بل نفتخر به. فإنني إن أنكرته ها هي الجلجثة التي احتشدنا بالقرب منها تبكتني. خشبة الصليب التي وزّعت قطعًا مختلفة على العالم كله تُفحمني.
إنني اعترف بالصليب إذ أعرف القيامة. لأنه لو كان بعد الصليب بقى كما هو ربما لم أكن أعترف به. بل لكنت أنكره وأحاول إخفاء الصليب وإخفاء سيدي. لكن إذ تبعت القيامة الصليب، فإنني لا أخجل من إعلانه.

لم يصلب بسبب خطية!

5. إذ كان قد صُلب بالجسد كالآخرين، لكنه لم يكن مثلهم في الخطية.
إنه لم يصلب بسبب الطمع، إذ كان معلمًا للافتقار.
لم يحكم عليه بسبب شهوة، بل بنفسه قال في وضوح: "وأمّا أنا فأقول لكم إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت 5: 28).
ولا حُكم عليه لغضب أو هياج سريع، إذ هو مدير الخد الآخر لمن يلطمه، ولا لكسر الشريعة إذ هو منفذها. ولا لسب نبي، إذ هو نفسه موضوع نبوة الأنبياء. ولا لغشه أحد في أجرته، إذ خدم مجانًا دون مكافأة. ولا لخطية ارتكبها بكلام أو عمل أو فعل، إذ "لم يفعل خطية، ولا وجد في فمه مكر، الذي إذ شُتم لم يشتم عوضًا. وإذ تألم لم يكن يهدد" (1 بط 2: 22-23). الذي تألم بإرادته وليس رغمًا عنه. نعم فإنه إلى الآن متى قال له أحد "حاشاك يا رب"، يجيبه "اذهب عني يا شيطان" (مت 16: 22-23).

تألم بإرادته

6. أتريد أن تقتنع أنه تألم بإرادته؟ آخرون لا يعلمون ماذا يحدث لهم لذلك ماتوا بغير إرادتهم، أما هو فسبق وقال: "ابن الإنسان يسلم ليُصلب" (مت 26: 2).
ألاّ تعرف لماذا "صديق الإنسان" هذا لم يمنع الموت؟ لكي لا يهلك العالم كله في خطاياه. "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلم ويصلبوه" وأيضًا: "تقدم صاعدًا إلى أورشليم" (مت 20: 18، لو 19: 28).

أتريد حقًا أن تعرف أن الصليب مجد يسوع؟ استمع إلى كلماته لا إلى كلماتي، فإذ كان يهوذا خائن رب البيت على وشك القيام بالخيانة، وقد جلس على مائدته، وشرب كأس نعمته، عوض الخلاص تقدم ليسفك الدم البريء. "رجل سلامتي الذي وثقت به، آكل خبزي رفع عليّ عقبه" (مز 41: 9). لم تكن يده بعد قد تركت عطية نعمته حتى أسرع ليسلمه إلى الموت، حبًا بثمن الخيانة. وبّخه، وإذ سمع: "أنت قلت" (مت 26: 5) خرج ليسلمه. عندئذ قال يسوع: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان" (يو 12: 23).
لترى يا عزيزي، كيف عرف أن الصليب هو المجد اللائق به.
إن كان إشعياء لم يخجل من نشره إلى أجزاء، أفيخجل المسيح لموته عن العالم؟!
"الآن يتمجد ابن الإنسان" (يو 13: 3)، لا لأنه لم يكن ممجدًا من قبل، بل كان ممجدًا بالمجد الذي له من قبل كون العالم (يو 17: 5). كان ممجدًا على الدوام، إذ هو الله، والآن يتمجد حاملًا صبره.
إنه لم يسلم حياته رغمًا عنه، ولا قبل الموت قسرًا، بل بموافقته. اسمع ماذا يقول؟ "لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 10: 18). إنني أسلمها لأعدائي باختياري، وإلا ما كان يتم ذلك.
لقد جاء بغرضٍ وضعه هو بنفسه أن يتألم، مسرورًا بعمله النبيل، مبتسمًا بتاجه، معتزًا بخلاص البشرية، دون خجلٍ من الصليب، إذ هو لخلاص هذا العالم. لم يكن إنسانًا عاديًا بل الله المتأنس...

اعتراض اليهود

7. لكن اليهود يعترضون على ذلك وهم على استعداد دائمًا أن يغالطوا ويرتدوا عن الإيمان. لهذا السبب يقول النبي إلى يومنا هذا "من صدق خبرنا؟" (إش 53: 1) آمن الفارسيون، والعبرانيون لم يؤمنوا. "الذين لم يُخبروا به سيبصرون والذين لم يسمعوا سيفهمون" (رو 15: 21؛ إش 5: 1). الذين كانوا يدرسون هذه الأمور كأنهم لم يدرسوها. إنهم يتكلمون ضدنا قائلين: "أيتألم الرب؟ ماذا؟ هل ليد الإنسان سلطان على جبروته؟"
اقرأ المراثي التي فيها يرثيك النبي... إذ رأى خرابك. لقد نظر سقوطك، فانتحب أورشليم على ما كانت عليه، وليس على ما هي عليه الآن، إذ صلبت المسيح أما الآن فتتعبد للرب.
إنه يقول في رثائها "مسيح الرب أُخذ في حفرهم"(1). هل هذه وجهة نظري أنا؟ إذ يشهد النبي بالقبض على الرب يسوع. ثم ماذا يتلو ذلك؟ قل لنا أيها النبي: "الذي قلنا عنه في ظله إنّا نعيش بين الأمم"، وهو يعني أن عطية الحياة لم تعد تقطن في إسرائيل بل بين الأمم.

شهادات عن آلامه

8. لكننا إذ نجد منهم مقاومة شديدة، لذلك فإنني بصلواتكم أقدم بنعمة الله قليلًا من الشهادات عن آلامه. فإن الأمور التي تتعلق بالمسيح قد سبق أن كُتبت، ولم يترك منها دون شاهد، إنما أعلن على فم الأنبياء. وكُتبت هذه الأمور بصراحة لا على لوحي حجر بل بالروح القدس. لذلك عندما تسمع الإنجيل يتحدث عن يهوذا، أما يليق أن تطلب شهادة عن ذلك؟ لقد سمعت أنه طعن بالحربة في جنبه، أما يلزم أن تعرف عما إذا كان قد كتب عنه هذا؟ سمعت أنه بيع بثلاثين من الفضة، ألاّ تريد أن تعلم أي نبي نطق بهذا؟! سمعت أنه أعطى خلًا للشرب... وأن جسده ألقي في صخرة وأقيم عليها حجر... وأنه صلب بين لصوص أما تريد أن ترى هذا مكتوبًا؟! إنك سمعت أنه دُفن أتريد أن تعرف كل ظروف الدفن كيف سجلت بدقة؟!
لقد سمعت عنه أنه قام أيضًا أتريد أن تعرف إن كنا نسخر بك في هذا التعليم؟! لأن" كلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية" (1 كو 2: 4). فنحن لا ننشئ كلامًا سوفسطائيًا بل "نكرز بالمسيح مصلوبًا" (1 كو 1: 23) الذي سبق فتكلم الأنبياء عنه...

التنبؤ بخصوص خيانة يهوذا

9. لنطلب الشهادات الخاصة بآلام المسيح... لقد تقبلت مني الشهادات الخاصة بمجيئه وبسيره على البحر، إذ كتب "في البحر طريقك" (مز 77: 19). لنبدأ الآن بالألم. كان يهوذا خائنًا ووقف ضد المسيح. فمع أنه كان يحدثه بكلمات السلام كان يدبر حربًا. لهذا يقول المرتل: "أحبائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي" (مز 38: 11). وأيضًا: "ألين من الزيت كلماته، وهي سيوف مسلولة" (مز 55: 21). قال: "السلام يا سيدي" (مت 26: 49) وهو يخون سيده إلى الموت. إذ لم يرتدع من تحذير سيده القائل "يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!" (لو 22: 48)
إن ما قاله الرب له هو تأويل اسم "يهوذا" الذي يعني "اعتراف". لقد تآمرت وقبضت الثمن اعترف بسرعة.
"يا إله تسبيحي لا تسكت. لأنه قد انفتح عليّ فم شرير، وفم الغش. تكلموا معي بلسان كذب. بكلام بُغض أحاطوا بي، وقاتلوني بلا سبب" (مز 109: 1-3). كان بعض رؤساء الكهنة حاضرين، وقد تم القبض عليه عند أبواب المدينة، وبهذا تحقق قول المزمور "يَعُودُونَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، يَهِرُّونَ مِثْلَ الْكَلْبِ، وَيَدُورُونَ فِي الْمَدِينَةِ." (سفر المزامير 59: 6، 14).

ثمن الخيانة وحقل الفخاري

10. لتسمع أيضًا بخصوص الثلاثين من الفضة. "فقلت لهم أن حسُن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا" (زك 11: 12). انظر كيف تنبأ الكتاب المقدس عن هذه الأمور، فقال: "فوَزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة". يا لدقة النبوة! يا لحكمة الروح القدس العظيمة الذي لا يخطئ! لأنه لم يقل عشرة أو عشرين ولكنه حدد بالضبط ثلاثين.
اخبرنا أيضًا ماذا يتم بهذا الثمن أيها النبي؟ هل يحتفظ بها من استلمها؟ أم يرده...؟ يقول "فأخذت الثلاثين من الفضة، وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب" (زك 11: 13). قارن قول الإنجيل بهذه النبوة! "لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم... فطرح الفضة في الهيكل وانصرف"(2)...

12. محاكمة الرب

قيدوا يسوع وأحضروه إلى دار رئيس الكهنة، أتريد أن تعرف كيف سبق أن كتب هذا أيضًا؟ يقول إشعياء "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لنفسهم شرًا قائلين: لنقيد البار لأنه مغلق لنا" (راجع إش 3: 9-10) نعم ويل لنفوسهم. لترى كيف هذا فإن إشعياء نُشر إلى أجزاء، وبعد ذلك شُفي الشعب. إرميا طُرح في جب من طين، لكن جرح اليهود شفي، إذ أن آثامهم كانت قليلة لأنها موجهة ضد إنسان. لكن عندما أخطأ اليهود إلى الله المتأنس "ويل لنفوسهم... لنقيد البار!"
ألم يكن قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟! قد يقول قائل: الذي حل لعازر من رباطات الموت في رابع يوم، وأطلق سراح بولس من قيود السجن الحديدية، أما كان قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟ لقد وقفت الملائكة مستعدة تقول "لنقطع قيودهم" (مز 2: 3)، لكنهم أحجموا لأن سيدهم شاء أن يقبل هذا.
اقتيد إلى المحكمة أمام الشيوخ. وهذه شهادة عن ذلك "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (إش 3: 14).

المحاكمة

13. لكن إذ سأله رئيس الكهنة وسمع الحق أظهر خسة. فضربه موظفوه (عبد رئيس الكهنة)... وأتى آخرون وبصقوا على وجهه هذا الذي ببصاقه شفي المولود أعمى.
"ألْرَّبَّ تُكَافِئُونَ بِهذَا يَا شَعْبًا غَبِيًّا غَيْرَ حَكِيمٍ؟" (سفر التثنية 32: 6) لهذا يتعجب النبي جدًا فيقول: "من صدق خبرنا"؟! (إش 50: 6)، لأن الذي لا يُنطق به، ابن الله، ذراع الرب (1 تس 53: 1) يحتمل هذا! أمّا الذين يؤمنون، فإنهم يخلصون، إذ سبق فكتب الروح القدس في شخص المسيح قائلًا: "بذلت ظهري للسياط، وخديّ للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق" (إش 53: 1)... كأن يسوع يقول: بالرغم من إنني أعرف مقدمًا أنهم يلطمونني لكنني لم أدر عنهم خدي. لأنه كيف أخاف من الموت أنا الذي أعلم تلاميذي ألاّ يخافوا من الموت من أجل الحق؟! فلو أحببت حياتي كيف أعلم بما لا أُمارسه؟! لهذا وهو الله أحب أن يحتمل من الأيدي البشرية حتى لا نخجل نحن إذا تألمنا من أجله مثل هذه الآلام من البشر...

في محاكمته صالحَ المتخاصمين

14. وإذ ربط (يسوع)، أُرسل من قيافا إلى بيلاطس. هل كتب هذا أيضًا؟ نعم "إذ قيد اُقتيد كهدية إلى الملك باريم Jarim" (هو 10: 6). لكن قد يعترض سامع حاذق فيقول: لم يكن بيلاطس ملكًا، (لكن نترك هذا الاعتراض إلى حين) فإنه كيف اُقتيد كهدية لملك؟ يقول الإنجيل "فلما سمع بيلاطس ذِكْر الجليل سأل: هل الرجل جليلي...؟ أرسله إلى هيرودس (لو 23: 6) "لأن هيرودس كان ملكًا، وكان في أورشليم في ذلك الوقت.
لاحظ دقة النبي: لأنه يقول أُرسل كهدية. لقد "صار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما البعض في ذلك اليوم، لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما" (لو 23: 12).
نعم الذي صار صلحًا بين السمائيين والأرضيين صالح أيضًا المتخاصمين ضده، إذ كان الرب نفسه بينهما هذا "الذي يصالح قلوب رؤساء شعب الأرض" (راجع أي 2: 24).
لاحظ دقة الأنبياء وصدق شهادتهم.

على مَنْ تفغرون الفم؟

15. تطلع باهتمام إلى الرب وهو يُحَاكَم، فقد سمح لنفسه أن يقوده الجنود. بيلاطس جلس في الحكم؛ والذي يجلِس عن يمين الآب يقف ليُحاكم! الشعب الذي حَرَّرهُ من أرض مصر... يصرخ: "خذه أصلبه" (يو 19: 15). لماذا أيها اليهود؟ هل لأنه شفى عميانكم؟ أم لأنه جعل العُرْج منكم يمشون؟ ووهب البركات للآخرين؟! يدهَش النبي فيقول: "على من تفغرون الفم وتدلعون اللسان؟" (إش 57: 4) ويقول الرب نفسه في الأنبياء: "صار لي ميراثي كأسد في الوعر. نطق عليّ بصوته. من أجل ذلك أبغضته" (إر 12: 8). لم أرفضهم لكنهم رفضوني، لهذا أقول: "قد تركت بيتي" (إر 12: 7).

صمته في المحاكمة

16. في أثناء محاكمته أعلن سلامه إلى حد قال فيه بيلاطس: "أما تسمع كم يشهدون عليك؟" (مت 27: 13).
يقول المرنم: "وأكون مثل إنسان لا يسمع وليس في فمه حجة" (مز 109: 25).
وأيضًا "كأصم لا يسمع وكأبكم لا يفتح فاه" (مز 38: 13)...

سخرية الجنود به

17. لكن الجنود الذين تجمهروا حوله كانوا يسخرون به. صار أضحوكة لهم. "ينظرون إليّ، وينغضون رؤوسهم" (مز 38: 14). كانت تظهر ملوكيته حتى في سخريتهم له حيث كانوا يركعون قدامه.
وقبل الصلب ألبسه الجنود ثوبًا من الأرجوان ووضعوا على رأسه إكليلًا. لماذا ألبسوه تاجًا ولو أنه من الشوك؟ لأن كل ملك يظهر مُلكه بواسطة جنوده. فيسوع كملك تُوِّج رمزيًا خلال الجنود. لهذا يقول الكتاب في نشيد الأناشيد: "أخرجن يا بنات أورشليم، وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه" (نش 3: 11). وقد كان التاج سريًا إذ هو غفران الخطايا ومزيل اللعنة.

بالشوك أزال اللعنة

18. تلقى آدم هذا الحكم: "ملعونة الأرض بسببك. شوكًا وحسكًا تنبت لك" (تك 3: 17، 18). لهذا السبب كان يليق بيسوع أن يقبل الشوك حتى يزيل هذا الحكم. ولهذا السبب دُفن يسوع في الأرض حتى تقبل الأرض التي لُعنت البركة عوض اللعنة.

في زمن الخطية ارتديا (آدم وحواء) أوراق التين، لهذا جعل يسوع شجرة التين آخر علاماته (قبل الصلب). فقبل آلامه لعن شجرة التين، ليس كل شجر التين، بل شجرة واحدة لكي تكون رمزًا. قال: "لا يأكل أحد منك ثمر بعد" (مر 11: 14). وإذ كانا قبلًا قد سُترا بأوراق الشجرة، جاء يسوع في وقت لا تعطى فيه شجرة التين ثمرًا. من لا يعرف أن شجر التين لا يحمل ثمرًا في فصل الشتاء؟! هل كان يسوع جاهلًا بهذا الأمر الذي يعرفه الجميع؟! لا، لكن مع معرفته بذلك جاء كمن يبحث عن ثمرٍ لهذه الشجرة، ليس جهلًا، ظانًا أنه يجد فيها ثمرًا، بل لكي يظهر اللعنة الظاهرية التي تلحق بالأوراق...

بين الفردوس والبستان

19. مادمنا قد لمسنا موضوعات تتعلق بالفردوس، فإنني أعجب من حقيقة المقارنات... في الفردوس كان السقوط، وفي البستان كان خلاصنا. من الشجرة جاء إثمنا، وإلى مجيء الشجرة انتهت آثامنا. في المساء إذ كان الرب يتمشى في الجنة اختبأ (آدم وحواء) (تك 3: 8)، وفي المساء قبل يسوع اللص في الفردوس...

الحيّة النحاسية كرمز للصليب

20. هذا هو الرمز الأصلي، الحيّة التي رفعها موسى على صليب، لكي يشفي كل من لدغته حية، فبالنظر إلى الحيّة النحاسية يُشفى بالإيمان (عد 21: 9؛ يو 3: 14).
فهل الحيّة النحاسية تشفي بصلبها، وابن الله المتجسد المصلوب لا يُخلص؟!
على أي الأحوال كانت الحياة تأتي من وسائط خشبية، ففي زمان نوح كانت الحياة تُحفظ خلال فلك خشبي. وفي أيام موسى كان عبور البحر بواسطة عصا موسى الخشبية التي ضرب بها البحر.
هل لعصا موسى قوة وصليب المخلص بلا قوة؟!
بالخشبة في أيام موسى صار الماء حلوًا، أمّا مع يسوع فقد تدفقت على خشبة الصليب المياه "من جنبه".

الماء والدم

21. الماء والدم هما بداية الرموز عند موسى، وهما آخر علامة تركها يسوع. فأولًا حوَّل موسى النهر إلى دمٍ، وآخر ما قدمه المسيح ماءً ودمًا من جبنه. وكأنهما يشيران إلى اثنين من المتحدثين: الذي حاكم (الرب) والذين صرخوا ضده، إذ هما رمزّا للمؤمنين وغير المؤمنين، بيلاطس غسل يديه بالماء قائلًا: "إني بريء"، والشعب صرخ "دمه علينا" (مت 27: 24، 25). لهذا تدفق الاثنان من جبنه.
ويمكننا أن نفهم هذا الأمر بصورة أخرى: الدم لليهود والماء للمسيحيين. لأن على هؤلاء الذين هم يُدانون من الدم (الذي سفكوه)، أما لك يا من تؤمن حديثًا فتنال الخلاص بالماء.
لم يحدث شيء بغير معنى، وقد أورد آباؤنا سببًا آخرًا لذلك. قالوا إنه حسب الإنجيل تتم نعمة المعمودية بطريقتين: أحدهما بالماء للاستنارة، والثانية للشهداء القديسين في الاضطهاد خلال سفك دمائهم. لهذا خرج من جنب المخلص دم وماء، حتى يؤكد نعمة الاعتراف بالمسيح، إما بالعماد أو الاستشهاد في أيام الاضطهاد.
يوجد معنى آخر وهو أن المرأة التي خرجت من جنب الرجل جلبت الخطية، لذلك طُعن المسيح في جنبه من أجل المرأة حتى يغفر الإثم، مانحًا الغفران للرجل والمرأة على السواء.

صلبه على الجلجثة

22. من يبحث يجد أسبابًا أخرى كثيرة لكنني أظن أن ما قلته فيه الكفاية من أجل ضيق الوقت، حتى لا يقلق السامعون. وإن كان لا يتعبنا قط الاستماع بخصوص تتويج الرب ونحن على هذه الجلجثة المقدسة للغاية. فإن غيرنا يسمعون فقط، أما نحن فنرى ونلمس.
لا يقلق أحد. احمل سلاحك(3) ضد الأعداء بالصليب ذاته. احمل الإيمان بالصليب كنصرة على المقاومين. فعندما تذهب لمجادلة غير المؤمنين بخصوص صليب المسيح، ارسم بيدك علامة صليب المسيح فيصمتون. لا تخجل من الاعتراف بالصليب. فالملائكة تمجده، إذ تقول: "نحن نعلم من تطلبان: يسوع المصلوب!" (مت 28: 5)
لماذا لم تقل أيها الملاك: "نحن نعلم من تطلبان: سيدنا!" لكن في شجاعة قلت: "نحن نعلم... يسوع المصلوب"، لأن الصليب تاج لا عار!

لا تهرب من الصليب وقت الضيق!

23. ...لا تعرض عنه وقت الاضطهاد. لا تفرح بالصليب وقت السلم فقط، بل تمسك بذات الإيمان وقت الاضطهاد أيضًا.
لا تكن صديقًا ليسوع وقت السلم، وعدوه وقت الحروب. إنك تتقبل منه غفران خطاياك وغنى مواهب الملك الروحية، فإذا جاء وقت الحرب حارب(4) بنبل من أجل ملكك.
يسوع الذي بلا خطية صُلب من أجلك، ألاّ تصلب من أجله!؟
ليس لك فضل في هذا، فقد سبق هو وابتدأ، إنما أنت ترد له الجميل، ترد له الدين الذي عليك، لأنه صلب من أجلك على الجلجثة.
"الجلجثة" تترجم "موضع الجمجمة"، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. إذ هكذا دُعيت بروح نبوية، لأن المسيح هو الرأس الحقيقي قد احتمل الصليب هناك. وكما يقول الرسول: "الذي هو صورة الله غير المنظور" (كو 1: 15، 18). وبعد ذلك بقليل يقول: "وهو رأس جسد الكنيسة". وأيضًا "رأس كل رجل هو المسيح" (1 كو 11: 3). وأيضًا "الذي هو فوق كل رياسة وسلطان" (كو 2: 10).
تألمت الرأس في "موضع الجمجمة". يا للظهور النبوي العجيب!
كأن هذا المكان يذكرك قائلًا: لا تظن أن الذي صُلب هنا مجرد إنسان، لكنه رأس كل رياسة، رأسه الآب؛ لأن رأس الإنسان المسيح، ورأس المسيح الله (1 كو 11: 3).

الظلمة في الظهيرة

24. إذن صلب المسيح من أجلك، إذ حُوكم في ليلة باردة، لهذا أُوقدت النيران (يو 18: 18) صُلب في الساعة الثالثة "ومن الساعة السادسة كان ظلام حتى التاسعة" (مت 27: 45). ومن الساعة التاسعة كان نور مرة أخرى.
هل سبق أن كتبت هذه الأمور؟ تعال نسأل النبي زكريا إذ يقول "ويكون في ذلك اليوم أنه لا يكون نور... وأنه معروف للرب" (زك 1: 6، 7).
ماذا؟ ألاّ يعرف الرب بقية الأيام أيضًا؟ نعم لكن الأيام كثيرة، لكن هذا يوم صبرالرب الذي صنعه... إنه "لا نهار ولا ليل" (زك 14: 6، 7).
أي ظلام يقصده النبي؟ إنه ذلك اليوم الذي "لا نهار ولا ليل"، فبماذا نسمّيه إذن؟ يفسر لنا الإنجيل هذا حيث يروى لنا هذا الأمر. إنه لم يكن نهارًا، لأن الشمس لم تشرق فيه من بدايته إلى وقت الغروب، بل انكسفت من السادسة حتى التاسعة، كان هناك عارض في منتصف النهار. لكن الرب دعا الظلام ليلًا (تك 1: 5)، لهذا لم يكن نهارًا ولا ليلًا. لأنه لم يكن كله نور حتى يُحسب نهارًا، ولا كله ظلامًا فيحسب ليلًا. لأنه بعد الساعة التاسعة ظهرت الشمس مرة أخرى. وهذا أيضًا ما سجله النبي لأنه بعدما قال "لا نهار ولا ليل" أضاف "بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور" ها أنت ترى دقة النبوة. إنك ترى حقيقة الأمور التي كتبت مقدمًا.

أُغيب الشمس في الظهر

25. هل تسأل عن الساعة التي أظلمت فيها الشمس بالضبط؟ هل كان في الساعة الخامسة أم الثامنة أم العاشرة؟
قل أيها النبي لليهود غير الراغبين في الاستماع عن موعد غروب الشمس تمامًا!
يجيب عاموس قائلًا: "ويكون في ذلك اليوم، يقول السيد الرب، إني أُغيب الشمس في الظهر (إذ كانت الظلمة في السادسة) وأُقتم الأرض في يوم نور" (عا 8: 9).
أي فصل أو موسم وأي يوم أيها النبي؟ يقول "وأحوِّل أعيادكم نوحًا"، وقد تحقق ذلك في أيام الفطير وفي عيد الفصح. إنه يقول بعد ذلك: "وأجعلها كمناحة الوحيد، وآخرها يوم مرّ". وفعلًا تحقق هذا حين بكت نساء أورشليم، وكان ذلك في أيام الفطير وفي عيد الفصح، واختبأ التلاميذ أنفسهم وكانوا في مرّ. يا لها من نبوة عجيبة!

اقتسام ثيابه

26. قد يقول آخر: أعطني علامة أخرى تحققت بدقة. يسوع صلب، ولم يكن له سوى لباس واحد. الثوب اقتسمه العسكر فيما بينهم إلى أربعة أجزاء، أما اللباس فلم يُقسم إذ كان يفقد نفعه لو اقتسم، فطرحوا قرعة علية كقطعة واحدة... يقول المزمور: "اقتسموا ثيابي وعلى لباسي ألقوا قرعة" (مز 22: 18؛ يو 19:).

ألبسوه ثوبًا أرجوانيًا

27. في محاكمته أمام بيلاطس كان يرتدي ثوبًا أحمر، إذ ألبسوه ثوبًا من الأرجوان. هل كُتب هذا أيضًا؟ يقول إشعياء: "من ذا الآتي من آدوم بثياب حمر من بصره؟" (أي من هو هذا الذي يلبس ثوبًا أرجوانيًا في عارٍ، لأن بصره Bosor في العبرية تحمل هذا المعنى) "ما بال لباسك حمر، وثيابك كدائس المعصرة؟!" (إش 63: 1-2) لكنه يجيب قائلًا: "بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد سائر في طريق غير صالح" (إش 65: 2).

فاعل الخلاص في وسط الأرض

28. لقد بسط يديه على الصليب حتى يعانق العالم أجمع، إذ الجلجثة هي مركز العالم. هذا ليس من عندي بل يقول النبي: "فاعل الخلاص في وسط الأرض" (مز 74: 12). بسط يديه البشريتين هذا الذي بيديه الروحيتين أوجد السماء. وسُمرتا بالمسامير، حاملًا آثام البشر، حتى إذ سمر في خشبة مات، فيموت الإثم لنقوم في برّ. "لأنه بإنسانٍ واحدٍ دخل الموت، وهكذا بإنسان واحد تكون الحياة" (رو 5: 12، 17)، بإنسان واحد -المخلص- مات بإرادته. لعلك تذكر ما قاله: "لي سلطان أن أضع نفسي ولي سلطان أن آخذها" (يو 10: 18).

أنا عطشان

29. بالرغم من احتمال كل هذه الآلام إذ جاء لخلاص الجميع إلاّ أن الشعب (اليهودي) جازاه مجازاة شريرة. قال يسوع "أنا عطشان". هذا الذي أخرج لهم الماء من الصخرة الصماء، يطلب ثمر كرمته التي زرعها، فماذا فعلت كرمته؟ هذه الكرمة التي بحسب الطبيعة هي من الآباء القديسين، لكنها بحسب قلبها مثل سدوم. "لأن جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة" (تث 32: 32). قدمت هذه الكرمة لسيدها إسفنجًا مغموسًا خل فوق قصبة. "ويجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21).
ها أنت ترى وضوح النبوة وصفاءها! لكن أي نوع من العلقم وضعوا في فمه؟ "أعطوه خمرًا ممزوجًا بمرّ" هذا المر طعمه كالعلقم شديد المرارة.
أبهذا تجازي الرب أيتها الكرمة؟! أهذه تقدمتك له؟! بالحقيقة قال إشعياء في القديم مولولًا عليك: "كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة. فنقبّه ونقّىّ حجارته وغرسه كرم سورق... فانتظر أن يصنع عنبًا (إذ عطش طالبًا عنبًا) فصنع شوكًا" (راجع إش 5: 1-2).
هل رأيت الإكليل التي تزينت به؟! لكن ماذا أفعل؟ "سأوصي السحب أن لا تمطر عليه مطرًا" (راجع إش 50: 6). لأن السحب هي الأنبياء الذين نُزعوا من بينهم وصاروا للكنيسة...

صلبه بين لصين

30. وفيما يتعلق باللصين اللذين صُلبا مع يسوع، فقد كُتب عنهما: "أحصيَ مع أثمه" (إش 23: 12). كلاهما كانا أثيمين، لكن أحدهما لم يظل هكذا، فواحد منهما بقي أثيمًا إلى النهاية رافضًا الخلاص. فبالرغم من أن يديه موثقتان فقد أطلق لسانه بالتجديف. فكانا يسبه مع اليهود الذين كانوا يعبرون ويهزون رؤوسهم ساخرين بالمصلوب، محققين المكتوب: "ينظرون إليّ، وينغضون رؤوسهم" (مز 109: 25).
انتهره الثاني مؤنبًا إياه. وبهذا ختم حياته الأثيمة وبدأ حياة الإصلاح.
كانت نفسه أول من اشتركت في الخلاص، إذ بعدما وبخ رفيقه التفت إلى يسوع وقال "اذكرني يا رب" لأكون معك. لا تبالِ يا رب بعيني فهم هذا الإنسان إذ هي عمياء، لكن اذكرني. لست أقول اذكر أعمالي، لأنني من جهتها أنا خائف. لكن كما أن لكل إنسان مشاعر تجاه رفيق سفره، هكذا مسافر معك نحو الموت، اذكرني يا رفيق سفري. إنني لا أقول اذكرني الآن، بل "إذا جئتَ في ملكوتك".

أيّة قوة قادتك إلى النور أيها اللص؟

31. من علمك أن تمجد رفيقك المصلوب معك؟ النور الأبدي الذي يضيء لمن هم في الظلمة!
سمع اللص هذه الكلمات: "تهلل". ليست أعمالك حسنة، لكن هنا يوجد ملك يوزع هبات. سؤالك جاء في وقته. النعمة معك تلحقك سريعًا جدًا. "الحق أقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس". "لأنك اليوم سمعت صوتي، ولم تقسِ قلبك" (مز 95: 7-8). فبسرعة أنا حكمت على آدم، وبسرعة عفوت عنك. فاليوم يكون خلاصك. آدم بالشجرة سقط، وأنت بالشجرة دخلت الفردوس. لا تخف من الحيّة، فإنها لن تطردك إذ سقطت من السماء (لو 10: 8).
إنني لم أقل لك اليوم ترحل، بل قلت "اليوم تكون معي". تشجع فلن تُطرد خارجًا.
لا تخف من السيف المسلول لحراسة الجنة (تك 3: 24).
يا لقدرة عطيتك غير الموصوفة يا رب! إبراهيم المؤمن لم يدخل بعد واللص دخل!
موسى والأنبياء لم يدخلوا بعد واللص كاسر الناموس دخل!
بولس أيضًا يتعجب من جهتك، فيقول: "حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا" (رو 5: 20).
الذين احتملوا حر النهار لم يدخلوا، وصاحب الساعة الحادية عشر دخل! لا يتذمر أحدكم على رب البيت الصالح، فإنه يقول: "يا صاحب ما ظلمتك، أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي؟!" (مت 20: 12) كان للّص إرادة لعمل البرّ، لكن الموت منعه، فلا أنتظر منه عملًا (إذ مات) إنما أقبل أيضًا إيمانه.
إنني جئت كراعٍ بين السوسن (نش 6: 3). جئت لأطعمهم في الحدائق. لقد وجدت الخروف الضال (لو 15: 5، 6). وأنا أضعه على منكبي، لأنه يؤمن. لهذا قيل: "ضللت كمثل شاةٍ ضالة. أُطلب عبدك لأنني لم أنس وصاياك" (مز 119: 176). نعم "اذكرني يا رب إذا جئت في ملكوتك" (لو 23: 42).

الدخول إلى الأقداس بدم يسوع

32. في هذا الفردوس غنيت لعروسي في نشيد الأناشيد: "قد دخلت جنتي يا أختي العروس" (إش 5: 1)، (فقد كان مكان الصلب بستانًا) (يو 19: 41).
ماذا أخذت من هناك؟ "قطفت مري مع طيبي"، إذ شرب المر مع الخل، وبعد ذلك قال: "قد أُكمِل". لأن السرّ تم، والمكتوب تحقق، والآثام غُفرت. لأن المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة. فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد. أي الذي ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول، ولكن بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءًا أبديًا: لأنه إن كان بدم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالأحرى يكون دم المسيح؟!" (عب 9: 11-14).
وأيضًا فإذ لنا أيها الإخوة "ثقة في الدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرسه لنا حديثا حيًا بالحجاب أي جسده" (عب 10: 19، 20). ولأن جسده -هذا الحجاب- غير ممجد، لذلك شق حجاب الهيكل كما هو مكتوب: "وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل" (مت 27: 51)، ولم يترك فيه شيء. لأن يسوع قال: "هوذا يترك بيتكم خرابًا" (مت 23: 38). لقد خرب البيت كله!

عاملًا الصلح بدم صليبه

33. احتمل المخلص هذا كله، "عاملًا الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم في السماوات" (كو 1: 20). لأننا كنا أعداء الله خلال الخطية وحكم الله على الخاطئ هو الموت. لهذا كان لابد من تحقيق أحد أمرين: إما أن الله في عدله يبيد كل البشرية، أو في محبته المترفقة يزيل الحكم!
أنظر حكمة الله، فقد حفظ الحكم، وفي نفس الوقت حقق محبته! لقد حمل المسيح آثامنا في جسده على الخشبة لكي "نموت عن الخطايا فنحيا للبرّ" (1 بط 2: 24). إنه لم يكن بالهيّن ذاك الذي مات عنا، فليس هو مجرد حمل حرفي ولا إنسان عادي، بل أعظم من ملاك، أنه الإله المتأنس، لم تكن خطايا البشر أعظم من برّ الذي مات بسببها.
لم تكن هذه الآثام كثيرة بالنسبة لبرّ من بإرادته وضع نفسه وبإرادته أخذها.
لقد صرخ إلى الآب: "في يدك استودع روحي"، استودعها لكي أخذها مرة أخرى. وإذ قال هذا أسلم الروح، لكن ليس لزمانٍ طويلٍ، إذ سرعان ما قام من الأموات.

الظروف التي صاحبت الصلب

34. لقد أظلمت الشمس (لو 23: 45) من أجل "شمس البرّ" (مل 4: 22). والصخور تشققت من أجل الصخرة الروحية (1 كو 10: 4). القبور تفتحت والموتى قاموا بسبب هذا الذي هو "حر بين الأموات" (مز 88: 5). إذ حرر أسراه من الحفرة التي بلا ماء (زك 9: 11).
تشجع ولا تخجل من الصليب، بل بشجاعة قل: "أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها وبحُبره شفينا" (إش 53: 4، 5). لا نكن جاحدي المعروف، إذ هو "ضُرب، من أجل ذنب شعبي، وجعل مع الأشرار قبره، ومع غنى عند موته" (إش 53: 8، 9). لهذا يقول بولس بوضوح "المسيح مات لأجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دفن وقام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1 كو 15: 3، 4).

دفن المسيح

35. لنبحث حتى نعرف بتدقيق أين دُفن؟ وهل صُنعت مقبرته بأيادٍ؟ وهل هي مُقامه فوق الأرض مثل مقابر الملوك أم منحوتة بحجارة؟ وماذا وضع عليها؟
أخبرونا بالحقيقة أيها الأنبياء فيما يتعلق بمقبرته! أين وضع؟ وأين نبحث عنه؟ إنهم يقولون "انظروا إلى الصخر الذي منه قطعتم" (إش 51: 1). وفي الأناجيل قيل: "ووضعوه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخر" (مت 27: 60)...
أيضًا يقول النبي "قرضوا في الجب حياتي" (راجع مرا 3: 53؛ إر 37: 16). وألقوا عليّ حجارة. أنا حجر الزاوية المختار الكريم (1 بط 2: 6-10) أُوضع في حجر إلى حين. أنا هو حجر العثرة لليهود وحجر خلاص للمؤمنين. لقد زُرعت أنا شجرة الحياة (تك 2: 9، 3: 22) في الأرض، حتى تتمتع الأرض التي لُعنت بالبركة، وينطلق أمواتها.

رشم علامة الصليب

36. إذن ليتنا لا نخجل بالاعتراف بالمصلوب.
لنرسم علامة الصليب ختمنا بشجاعة، بأصابعنا على جباهنا وعلى كل شيء: على الخبز الذي نأكله وعلى الكأس التي نشربها، في دخولنا وفي خروجنا، قبل النوم وعندما نركض وعندما نستيقظ، في الطريق وحيثما حللنا.
عظيم هو هذا الفعّال. هو مجانًا من أجل الفقراء، يتم بغير عناء من أجل المرضى. إنه علامة المؤمنين، ورعب الشياطين، إذ غلبهم ظافرا بهم جهارًا (كو 2: 15). لأنهم إذ يرون الصليب يتذكرون المصلوب، فيرتعبون من ذاك الذي كسر رؤوس التنانين (مز 74: 13).
لا تحتقر الختم من أجل مجانية العطية، بل بالأحرى كرموا صاحب الفضل(5)...
إن قال أحد أما الصليب فاعرض عنه. اترك القائلين إن المسيح صلب خيالًا فقط. لأنه لو كان الأمر هكذا، لكان الخلاص الذي هو من الصليب أيضًا خيالًا. لو كان الصلب خيالًا، لكانت القيامة هكذا، وإن كان المسيح لم يقم فنحن بعد تحت خطايانا (1 كو 15: 7).
إن كان الصليب خيالًا، يكون الصعود خيالًا... فهل مجيئه الثاني أيضًا خيالٌ وبهذا يصير كل شيء غير قائم؟!

38. إذن خذ الصليب كأساس متين يُبنى عليه كل بقية بنود الإيمان.
لا تنكر المصلوب، لأنك إن أنكرته فإن أمورًا كثيرة توبخك(6)...

عمل الصليب

40. لديك الإثنا عشر رسولًا شهود للصليب، وكل الأرض وعالم البشر الذين يؤمنون بالمصلوب عليه. ليقنعك وجودك نفسه هنا الآن بقوة الصليب. لأنه من الذي قادك إلى هذا الاجتماع؟ أي جنود؟ أية سلاسل ألزمتك؟ أي حكم من أحكام القضاء قادتك إلى هنا؟ إنه بالحري شعار حضرة الخلاص، أي صليب يسوع، الذي جمعكم كلكم هنا. هو الذي قهر الفرس ولجَّم السكِّيثيين، ووهب المصريين معرفة الله عوض القطط والكلاب، وأضاليلهم العديدة. إنه إلى اليوم يشفي الأمراض، ويطرد الشياطين ويفسد مفعول السموم والسحر.

راية الصليب

41. ستظهر (هذه العلامة) في السماء مع يسوع (مت 24: 30)، لأن الراية تسير دائمًا قدام الملك. فيندم اليهود ويحزنون عندما ينظرون إلى الذي طعنوه (يو 19: 37؛ زك 12: 10؛ رؤ 1: 7)... سيندمون وينوحون ولكن لا مجال للتوبة، أما نحن فسنتمجد ونفتخر بالصليب ونسجد للرب الذي جاء وصُلب لأجلنا، ونسجد أيضًا لله أبيه الذي أرسله مع الروح القدس، الذي له المجد إلى أبد الأبد. آمين.






Mary Naeem 18 - 11 - 2022 01:20 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg


القديس كيرلس الأورشليمي



وقام من الأموات في اليوم الثالث


وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب

المقال الرابع عشر


"وأعرفكم أيها الاخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به... وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1كو 15: 1-4)

ليمتلئ فمنا فرحًا وتهليلًا به

1. افرحي يا أورشليم. اصنعوا عيدًا عظيمًا يا جميع محبي يسوع لأنه قام.
افرحوا يا من نُحتم من قبل، حين رأيتم جسارة اليهود وشرّهم، لأنه قد قام ذاك الذي حنقوا عليه.
وإذ كان المقال عن الصليب محزنًا، فليفرح السامعون بأخبار القيامة المبهجة. ليتحول الحزن إلى فرحٍ، والنوح إلى سرورٍ، وليمتلئ فمنا فرحًا وتهليلًا به، إذ قال بعد قيامته "افرحوا"(8).
وإذ أعلم حزن أصدقاء المسيح في هذه الأيام الماضية، إذ توقف مقالنا (السابق) عند صلبه ودفنه دون أن نذكر أخبار القيامة السارة، لهذا تعلقت أذهانكم لكي تسمعوا ما تشتاقون إليه. الآن قد قام الميت الذي كان "حرًا بين الأموات" وهو مخلص الأموات. ذاك الذي أُهين محتملًا بصبر إكليل الشوك. لقد قام مُتوّجًا بإكليل النصرة على الموت.
شهادة الكتاب المقدس عن قيامته

2. وكما تحدثنا قبلًا عن الشهادات الخاصة بصليبه، فلنتحقق الآن من الأدلة الخاصة بقيامته، مادام الرسول سبق فأكد: "أنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1 كو 15: 4). فإذ يرجعنا الرسول إلى شهادات الكتب، جيد لنا أن نعرف كل شيء يخص رجاء خلاصنا، وأن نتعلم أولًا ما تخبرنا عنه الأسفار المقدسة بخصوص قيامته، إن كانت في الصيف أو الخريف أو بعد الشتاء، وفي أي موضع قام المخلص، وما أعلنه الأنبياء العجيبون بخصوص اسم مكان قيامته، وعن فرحة النسوة اللواتي بحثن عنه ولم يجدنه، وحين وجدنه تهللن، حتى إذ ما قرأنا البشائر لا نأخذ هذه القصص على أنها تلفيقات أو مجرد حكايات.
بخصوص دفن المخلص

3. فبخصوص دفن المخلص، سمعتم في المقال السابق بوضوح ما قاله إشعياء "دفنه في سلام"(9). إذ في دفنه صنع سلامًا بين السمائيين والأرضيين، مقدمًا الخطاة في حضرة الله، و"من وجه الشر يُضم الصديق" (إش 57: 1)...
جاءت أيضًا نبوة يعقوب في الكتاب المقدس تقول "جثا وربض كأسد وكلبؤة، من ينهضه؟!" (تك 49: 9) وجاء أيضًا في سفر العدد نفس القول: "جثم كأسد ربض كلبؤة من يقيمه؟!" (عد 24: 9) وأيضًا المزمور الذي تسمعونه كثيرًا يقول: "وإلى تراب الموت تضعني" (مز 22: 15). وقد درسنا هذا الموضوع بالأكثر حين اقتبسنا القول "انظروا إلى الصخر الذي منه قُطِعتم" (إش 51: 1).
أما الآن فلنحمل في طريقنا البراهين الخاصة بالقيامة.
البراهين الخاصة بالقيامة

4. أولًا يقول المزمور الحادي عشر: "من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم يقول الرب" (مز 12: 5). لكن هذه العبارة لا زال يشك البعض في تفسيرها إذ غالبًا ما يقوم الرب أيضًا في الغضب لينتقم من أعدائه(10).
تعالوا إذن إلى المزمور الخامس عشر الذي يقول: "احفظني يا الله، لأني عليك توكلت" (مز 15). وبعد هذا يقول "لا أجمع مجامعهم من الدماء، ولا أذكر أسماءهم بشفتيّ" إذ رفضوني طالبين قيصر ملكًا لهم". وأيضًا ما جاء بعد ذلك: "تقدمت فرأيت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني كي لا أتزعزع"، وما جاء: "وأيضًا إلى الليل أدبتني كليتاي". عندئذ يتكلم بوضوح جدًا "لأنك لا تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع قدوسك يرى فسادًا". إنه لم يقل "لا تدع قدوسك يرى موتًا"، وإلا ما كان قد مات، لكنه يقول: "فسادًا" أي لا يرى فسادًا ولا يبقى في الموت. ثم يكمّل "قد عرّفتني سُبل الحياة"... تأملوا أنه يكرز بوضوح عن الحياة بعد الموت!
تعالوا معي أيضًا إلى المزمور التاسع والعشرين: "أعظمك يا رب، لأنك احتضنتني ولم تشمت بي أعدائي" (مز 29). ما الذي حدث هل أُنقذت من أعداء أم نجوت مما كنت تضرب به؟ لقد أعلن بوضوح: "يا رب أصعدت من الجحيم نفسي". (في المزمور السابق) ينطق متنبأ: "لا تترك نفسي في الجحيم"، أما هنا فيتحدث عما يتم كأنه قد حدث فعلًا "أصعدت... خلصتني من الهابطين في الجب". متى حدث هذا؟ "في العشاء يحل البكاء، وبالغداة السرور"، لأنه في المساء حزن التلاميذ، وفي الصباح فرحوا بالقيامة.
أتريد أيضًا أن تعرف المكان؟

5. يعود فيقول في نشيد الأناشيد "نزلت إلى جنة الجوز" (نش 6: 11)، إذ صُلب السيد في البستان (يو 19: 41). فإنه وإن كان الموضع الآن مزينًا بالهبات الملكية، لكنه كان قبلًا بستانًا، ولا تزال العلامات والآثار قائمة.
إنه "جنة مغلقة، وينبوع مختوم" (نش 4: 12). هؤلاء الذين قالوا: "تذكّرنا أن ذلك المضل قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمرْ أن يُضبط القبر" وعلى هذا "مضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر" (مت 27: 63، 65). ويخبر واحد عن هذا بدقة قائلًا: "وفي النهاية تدينهم"(11). من هو هذا الينبوع المختوم الذي يعني "ينبوع الماء الحيّ"؟! إنه المخلص نفسه الذي قيل عنه: "لأن ينبوع الحياة عندك" (مز 36: 9).
شهادة صفنيا عن القيامة

6. ولكن ماذا يقول صفنيا في شخص المسيح للتلاميذ؟ "تهيأوا، استيقظوا عند الفجر. كل بقاياهم محطمة"(12). إنه لم يبقَ لليهود عنقود واحد ولا تُرك لهم بقايا للخلاص، إذ قُطعت كرمتهم.
انظر كيف يقول للتلاميذ "تهيأوا، استيقظوا عند الفجر"، في الفجر انتظروا القيامة.
يقول أيضًا في نفس السفر: "لذلك فانتظروني يقول الرب إلى يوم أقوم في الشهادة"(13). ها أنت ترى أن النبي سبق فرأى مكان القيامة أيضًا، فدعاه "الشهادة". لأن ما السبب في أن مكان الجلجثة والقيامة لم يدعَ كنيسة كباقي الكنائس بل بـ"الشهادة" إلاّ لأن النبي قال: "إلى يوم أقوم في الشهادة؟!"(14)
صفنيا يقدم علامة عن القيامة

7. من هو هذا إذن؟ وما هي علامة الذي يقوم؟
يقول النبي بوضوح فيما بعد: "لأني حينئذ أقدم للشعوب لغة"(15). إذ بعد القيامة أُرسل الروح القدس، وأعطيت موهبة الألسن "ليعبدوه بكتف (نير) واحد". لذلك تنبأ النبي نفسه قائلًا: "ليعبدوه بكتفٍ واحد، ومن عبر أنهار كوش يقدمون تقدمتي" (صف 3: 10).
إنكم تعلمون ما جاء في سفر الأعمال حينما جاء الخصي الحبشي عبر أنهار أثيوبيا "كوش".
فإذ تُخبركم الكتب عن وقت قيامته وطبيعة مكانها والعلامة التي تبعتها فليتقوَ إيمانكم في القيامة، ولا يزحزحكم أحد عن الاعتراف بأن "المسيح قام من بين الأموات".
صرت حرًا بين الأموات

8. خذوا لكم شهادة أخرى، المزمور السابع والثمانين(16)، حيث يتكلم المسيح في الأنبياء (هذا الذي بعدما تكلم هكذا حلّ بيننا)، "يا رب إلهي بالنهار والليل صرخت أمامك". ثم أكمل بعد قليل: "صرت مثل إنسان ليس له معين، صرت حرًا بين الأموات".
لم يقل "صرت إنسانًا ليس له معين"، بل قال: "صرت مثل إنسانٍ ليس له معين". لأنه بالحق لم يُصلب عن ضعف بل صلب بإرادته، وما كان موته عن ضعف لا إرادي.
"حسبت مثل الهابطين في الجب". وما هي العلامة؟ "أبعدت عني معارفي". ثم يتحدث بعد قليل قائلًا: "صرخت إليك يا رب. بالغداة أقف أمامك". انظروا كيف يتحدث بدقة عن الوقت وعن الآلام القاسية وعن القيامة!
تحديد مكان القيامة (كهف الصخرة)

9. ومن أين قام المخلص؟ يقول في نشيد الأناشيد "قم يا قريبي وتعال"(17)، وبعد ذلك "في كهف الصخرة"(18). إنه يدعو ذلك الكهف الذي كان قبلًا أمام باب قبر المخلص وقد نُحت في الصخرة نفسها، كما كانت العادة هنا قبلًا...
ولكن أين هي الصخرة التي كان فيها الكهف؟ هل هي في وسط المدينة أم ملحقة بالأسوار والحدود؟! هل هي بداخل الأسوار القديمة، أم داخل الأسوار الخارجية التي بنيت فيما بعد؟! يقول في النشيد "في كهف الصخرة قريبًا من السور الخارجي"(19).
تحديد فصل السنة

10. في أي فصل قام المسيح؟ هل في فصل الصيف أم في فصل آخر؟! جاء في نشيد الأناشيد قبل الكلمات السابق اقتباسها "لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال، الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضب" (نش 2: 11، 12). أليست الأرض ملآنة بالزهور الآن؟ أما تُحصد الكروم الآن؟ ألا ترون أن الشتاء قد مضى لأنه متى حل شهر نيسان Xanthicus(20) حيث يكون الربيع. هذا هو الفصل أو الشهر الأول عند العبرانيين الذي فيه تم العبور كرمز للعبور الحقيقي...
في هذا الفصل قال الله: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26)، فأخذ الإنسان الصورة، وبالعصيان أفسد الشبه. وفي ذات الفصل استرد الإنسان الشبه ثانية.

في نفس الموسم الذي فيه طُرد الإنسان المخلوق من الفردوس بسبب عصيانه، رجع إليه الإنسان المؤمن خلال طاعته. فخلاصنا حدث في نفس الوقت الذي فيه كان سقوطنا، إن "الزهور ظهرت وبلغ أوان القضب".
تحديد مكان القيامة (في البستان)

11. في بستان كان دفنه، حيث زُرعت هناك كرمة، إذ قال عن نفسه: "أنا هو الكرمة" (يو 15: 1). لقد زُرع في الأرض لكي يقتلع اللعنة التي حلّت بسبب آدم، حيث سُلِّمت الأرض للشوك والحسك. لقد طلعت الكرمة من الأرض، ليتم القول: "الحق من الأرض أشرق، والعدل من السماء اطلع" (مز 84: 10).
وماذا يقول ذاك المدفون في البستان؟ "قطفتُ مرّي مع طيبي" (نش 5: 1). وأيضًا "مرْ وعود مع كل أنفس الأطياب" (نش 4: 14). وهذه هي علامات للدفن، إذ جاء في الأناجيل "أتين (النسوة) إلى القبر حاملًات الحنوط الذي أعددنه" (لو 24: 1). "وأحضر نيقوديموس أيضًا خليطًا من مرّ وعود" (يو 19: 39)، ومكتوب أيضًا: "أكلت خبزي مع عسلي"(21). إذ أكل المر قبل الصليب والعسل بعد القيامة.
بعد القيامة دخل والأبواب مغلقة، وإذ لم يصدقوا أنه هو إذ ظنوا أنهم رأوا روحًا (لو 24: 37)، قال لهم "جسّوني وانظروا" (لو 24: 39). ضعوا إصبعكم في آثار المسامير كطلب توما "وبينما هم غير مصدقين من الفرح متعجبون، قال لهم: "أعندكم ههنا طعام؟! فناولوه جزء من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل فأخذ وأكل قدامهم" (لو 41:24، 42).
انظروا كيف تحقق القول "أكلت خبزي مع عسلي"!
بحث مريم عن القائم من الأموات

12. لكن قبل أن يدخل والأبواب مغلقة، بحثت النسوة النبيلات الشجاعات عن عريس النفوس وطبيبها. لقد أتت هؤلاء المباركات إلى القبر، وبحثن عن الذي قام ودموعهن تسيل من أعينهن مع أنه كان يجب عليهن بالأولى أن يرقصن فرحًا من أجل الذي قام.
بحسب ما جاء في الإنجيل جاءت مريم تحدثه فلم تجده. لقد سمعت الملائكة أولًا وبعد ذلك رأت المسيح... هل هذه الأمور سبق أن كُتب عنها؟ يقول نشيد الأناشيد "على فراشي طلبت من تحبه نفسي". في أي وقت؟ "في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي" (نش 3: 1). وقد قيل: "جاءت مريم والظلام باقٍ" (يو 10: 1)، "في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته". وفي الأناجيل تقول مريم "أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه؟!" (يو 20: 13)
وإذ كان الملاكان موجودان لمعالجة نقصها في المعرفة، قالا لها "لماذا تطلبين الحيّ بين الأموات؟!" (لو 24: 5) إنه ليس فقط قام بل وأقام معه موتى (مت 27: 52). أما هي فلم تفهم ذلك. ويقول سفر نشيد الأناشيد في شخصها متحدثة مع الملائكة: "أرأيتم من تحبه نفسي؟! فما جاوزتهم إلاّ قليلًا حتى وجدت من تحبه نفسي، فأمسكته ولم أُرخِه" (نش 3: 3، 4).
فرح النسوة بالقائم من الأموات

13. بعد رؤية الملائكة جاء يسوع كوعد ملاكه، وتقول الأناجيل: "إذا يسوع لاقاهما، وقال: سلام لكما، فتقدمتا وأمسكتا بقدميه" (مت 28: 9). أمسكتا به حتى يتم القول: "فأمسكته ولم أُرخِه". فمع أن المرأة كانت ضعيفة حسب الجسد، لكن روحها كانت مملوءة رجولة. "مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها" (نش 8: 7). لقد كانت تبحث عن من كان ميتًا، لكن رجاء القيامة لم ينطفئ.
يقول لهن الملاك ثانية: "لا تخفن أنتن"، لكنني لا أقول للجنود "لا تخافوا" بل لكُن لا تخفن. فهم يليق بهم أن يخافوا، فيتعلموا مختبرين شاهدين قائلين: "بالحقيقة كان هذا ابن الله" (مت 27: 54). أما أنتن فلا تخفن "لأن المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج" (1 يو 4: 18).
"اذهبا سريعًا قولا لتلاميذه أنه قد قام... فخرجتا... بخوف وفرح عظيم" (مت 28: 7). هل هذا أيضًا مكتوب؟ نعم فإن المزمور الثاني الذي يتكلم عن آلام المسيح يقول "اعبدوا الرب بخشية، وهللوا (افرحوا) له برعدة" (مز 2: 7). افرحوا للإله القائم، لكن برعدة من أجل الزلزلة والملاك الذي ظهر مضيئًا!
عرف الأنبياء ضعف إيمان رؤساء الكهنة

14. ومع أن رؤساء الكهنة والفريسيين ختموا القبر عن طريق بيلاطس، لكن النسوة تطلعن إلى ذاك الذي يقوم. وقد عرف إشعياء ضعف إيمان رؤساء الكهنة وقوة إيمان النسوة، فقال: "أيتها النسوة الآتيات، انظرن هنا لأن ليس شعبًا ذا فهم"(22). هوذا رؤساء الكهنة يحتاجون إلى الفهم، بينما صارت النسوة شاهدات عيان.
وعندما أتى الجنود إلى المدينة وأخبروهم بكل ما حدث، قالوا لهم: "قولوا أنتم إن تلاميذه جاءوا ليلًا وسرقوه ونحن نيام" (مت 28: 13). هل سبق إشعياء فتنبأ عن هذا؟ إنه يقول "أخبرونا وانسبوا لنا خديعة أخرى"(23).
الذي قام من الأموات مرتفع، لكن بالنقود خدعوهم. إنما لا يقدرون أن يخدعوا ملوك أيامنا هذه. لقد باع الجنود الحق بالفضة، لكن ملوكنا الصالحين بنوا كنيسة قيامة الرب ومخلصنا المقدسة مرصعة بالفضة والذهب، هذه التي نجتمع نحن فيها، وقد تزينت بكنوز الفضة والذهب والأحجار الكريمة.
"وإذا سُمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه" (مت 28: 14). حقًا لقد أقنعتم الجنود، لكنكم لن تقنعوا العالم، لأنه لماذا لم يُحاكم الحراس الذين حرسوا يسوع المسيح، بينما دين حراس بطرس حين هرب من السجن؟ حراس بطرس عاقبهم هيرودس لجهلهم، إذ ليس لهم ما يدافعون به، أما حراس القبر الذين رأوا الحقيقة وأخفوها بالمال، فقد احتموا برؤساء الكهنة، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. ومع أن قليلًا من اليهود اقتنعوا بذلك، لكن العالم كله أطاع (الحق). الذين أخفوا الحقيقة اختفوا، أما الذين قبلوها فقد ظهروا بقوة المخلص الذي قام من الأموات، بل وأقام الموتى بنفسه. هؤلاء الذين يقول على لسانهم هوشع النبي: "يُحيينا بعد يومين، في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه" (هو 6: 2).
كيف ينكر اليهود العصاة قيامة مخلصنا؟!

15. لكن مادام اليهود العصاة لا يقتنعون بالأسفار المقدسة، بل ينسون كل المكتوب وينكرون قيامة يسوع، فجيد أن نسألهم هكذا: على أي أساس تقولون إن أليشع وإيليا أقاما موتى، بينما تنكرون قيامة مخلصنا؟! أليس لدينا شهادات حيّة من هذا الجيل لما نقول؟ حسنًا وأنتم تقدمون شهادة التاريخ عن ذلك الوقت.
إن كان مكتوبًا عمّا تقولونه فإنه مكتوب أيضًا عن هذا (قيامة المخلص)، فلماذا تقبلون شهادة دون الأخرى؟ إن الذين كتبوا التاريخ هم عِبرانيون، والرسل جميعهم عبرانيون، فلماذا لا تصدقونهم؟
متى كتب الإنجيل بالعبرية، وبولس المبشر كان عبرانيًا، والاثني عشر جميعهم عبرانيون، والخمسة عشر أسقفًا لأورشليم الذين رسموا بالتتابع كانوا عِبرانيين(24). فلماذا تقبلون ما هو لكم، وترفضون ما هو لنا الذي كتبه عبرانيون منكم؟!
القيامة ممكنة

16. قد يقول قائل: يستحيل أن يكون ميتًا!
لقد أقام أليشع ميتًا مرتين، مرة وهو حيّ، وأخرى وهو ميت. فهل تصدق أن أليشع وهو ميت أقام الميت الذي ألقي عليه ولمسه ولا تصدق أن المسيح قام؟!
لكن في تلك الحالة حين لمس الميت أليشع قام بينما بقىَ أليشع ميتًا... وأمّا هنا فقد قام الميت الذي نتحدث عنه، وأقام معه كثيرين من الموتى دون أن يلمسوه. لأنه "قام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة (واضح أنها ذات المدينة التي نحن فيها الآن) وظهروا لكثيرين" (مت 27: 52، 54).
لقد أقام أليشع ميتًا، لكنه لم يهزم العالم.
لقد أقام إيليا ميتًا، لكن الشياطين لا تخرج باسم إيليا.
إننا لا نقول شرًا في الأنبياء، لكننا نعظم سيدهم بالأكثر جدًا، فإننا لا نكرم عجائبنا بامتهاننا عجائبهم، بل نحن نكسب ثقة أكثر بما حدث معهم.
يونان في الحوت كرمزٍ للقيامة

17. لكنهم قد يقولون أيضًا: جثة ميتة في الحال يقيمها حي، لكن أرنا كيف يمكن لميت أن يقوم بعد ثلاثة أيام، بعدما يدفن يقوم بعد ثلاثة أيام؟ إن كنا نطلب شهادة من الكتاب لإثبات هذه الحقيقة، فقد سبق الرب يسوع المسيح نفسه فأمدّنا بها في الأناجيل قائلًا: "لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال" (مت 12: 40). وإذ نفحص قصة يونان نجد شبهًا عظيمًا. فقد أرسل يسوع ليكرز بالتوبة، وهكذا كان يونان. لكن الواحد هرب غير عالم بما آتٍ عليه، والآخر بإرادته جاء ليعطي توبة للخلاص.
يونان كان نائمًا في السفينة، غارقًا في النوم وسط البحر العاصف، بينما نام يسوع أيضًا، وبدأ البحر -بعنايته وتدبيره- يرتفع ليعلن قدرة ذاك النائم.
قيل للواحد: "ما لك نائمًا؟! قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك!" (يونان 1: 6) أما الثاني فقالوا له: "يا رب نجنا" (مت 8: 25، 29).
هناك يقول "اصرخ لإلهك" وهنا يقولون: "نجنا أنت".
الواحد يقول: "خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم" (يونان 1: 12)، أما الآخر فبنفسه "انتهر الرياح والبحر فصار هدوء عظيم" (مت 8: 25، 26).
أُلقي الواحد إلى بطن الحوت، والآخر بإرادته نزل هناك حيث يوجد وحش الموت غير المنظور، نزل بإرادته لكي يطرد الموت خارجًا عن أولئك الذين ابتلعهم، كما هو مكتوب: "من قوة القبر أفديهم، من يد الملاك أخلصهم"(25).
بقاء يونان حيًا في بطن الحوت والقيامة

18. في هذه النقطة من مقالنا، دعونا نتأمل أيهما أصعب أن يقوم أحشاء من الأرض بعد ثلاثة أيام من دفنه، أم ينجو من الهلاك من دخل في بطن الحوت في الهياج العظيم الذي لهذا المخلوق الحيّ، لأنه من لا يعرف أن هياج أحشاء عظيمة كهذه كفيلة بتحطيم العظام التي تُبتلع؟!...
لكن يجيب اليهود قائلين إن قوة الله نزلت مع يونان حين ألقي في الجحيم. فهل يعطي الله حياة لعبده بمساندته بقوته، ولا يعطيها لنفسه أيضًا؟!...
إنني أرى أن كليهما جديران بالتصديق، أنا أصدق أن يونان قد حُفظ لأن "عند الله كل شيء مستطاع" (مت 19: 26). أؤمن كذلك أن المسيح قام من الأموات، إذ لنا شهادات كثيرة من الكتب الإلهية، ومن القوة العملية في اليوم الذي قام فيه ذاك الذي نزل إلى الجحيم وصعد بصحبته كثيرون، إذ نزل إلى الموت وخلاله "قام كثير من أجساد القديسين الراقدين".
المسيح ينزل الجحيم

19. لقد صُدم الموت برعدة، إذ رأى زائرًا جديدًا ينزل الجحيم دون أن يرتبط بسلاسله. ما لكم يا حراس الجحيم ارتعبتم عند رؤيته؟! ما هو هذا الخوف غير المعتاد الذي تملككم؟! الموت هرب وبهروبه انكشف جبنه.
لقد جرى إليه الأنبياء القديسون وموسى مستلم الشريعة، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب، وأيضًا داود وصموئيل وإشعياء ويوحنا المعمدان الذي شهد له حين سُئِل: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ لقد أفتدى كل الصالحين الذين ابتلعهم الموت. إنه يليق بالملك أن يخلص مرسليه النبلاء، فيقول كل منهم: أين غلبتك يا موت؟! أين شوكتك يا قبر؟! لأن الغالب قد خلصنا.
يونان مثال السيد المسيح في الجحيم

20. كان النبي يونان في هذا مثالًا لمخلصنا عندما صلى في بطن الحوت، وقال: "دعوت من ضيقي"، وأيضًا: "صرخت من جوف الجحيم" (يونان 2: 2). ومع أنه كان في داخل الحوت، لكنه يقول إنه في الجحيم، لأنه كان مثالًا لمخلصنا الذي كان لزامًا أن ينزل إلى الجحيم.
وبعد قليل يتحدث في شخص المسيح بوضوح جدًا، قائلًا: " نزلت (رأسي) إلى أسافل الجبال" (يونان 2: 6). لقد كان في بطن الحوت، فأي جبال تحيط بك؟ إنه يقول إنني أعلم أنني مثال لذاك الذي يُدفن في قبرٍ منحوتٍ في الصخر. ومع أنه كان في البحر يقول يونان إنه نزل إلى الأرض، إذ كان مثالًا للمسيح الذي نزل في قلب الأرض.
كما يتنبأ يونان عن أعمال اليهود الذين أقنعوا الجنود أن يكذبوا قائلين لهم: "قولوا إنهم سرقوه"، إذ يقول النبي "الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون رحمتهم (نعمتهم)" (يونان 2: 8)، لأن الذي كان رحيمًا معهم جاء وصلب وقام ثانية، واهبًا دمه الغالي لليهود والأمم، أما هم فقالوا: "قولوا إنهم سرقوه" مستخدمين أباطيل كاذبة.
أما عن قيامته، فيقول إشعياء أيضًا: "هو الذي أقام من الأرض راعي الخراف العظيم"(26). لقد أضاف كلمة "العظيم" حتى لا يظن أنه في مستوى الرعاة الذين سبقوه.
شهود قيامة السيد المسيح

21. فإذ لنا النبوات، فليثبت معنا الإيمان. يسقط غير المؤمنين ماداموا يريدون هكذا، أما أنتم فلتثبتوا على صخرة الإيمان بالقيامة. لا تتركوا هرطوقي يتكلم بشرٍ عن القيامة، لأنه حتى هذا اليوم يقول المانيوّن إن قيامة المخلص كانت كخيالٍ وليست حقيقة، غير منتبهين إلى قول بولس: "الذي صار من نسل داود من جهة الجسد... بقيامة ربنا يسوع المسيح من الأموات" (راجع رو 1: 3، 4)، كذلك يقصدهم قائلًا: "لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء؟! أو من يهبط إلى العمق، أي ليُصعِد المسيح من الأموات" (رو 10: 6، 7).
وبنفس الطريقة يحذر في موضع آخر: "اذكر يسوع المسيح المُقام من الأموات" (2 تى 2: 8). وأيضًا: "وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطلة كرازتنا، وباطل أيضًا إيمانكم، ونوجد نحن أيضًا شهود زور لله، لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه" (1 كو 15: 14-15). ويكمل بعد ذلك: "ولك الآن قد قام المسيح من الأموات، وصار باكورة الراقدين" (1 كو 15: 20)، "وظهر لصفا ثم للاثني عشر" (1 كو 15: 5)، حتى إن لم تصدقوا شهادة واحد فلكم اثنا عشر شاهدًا. "وبعد ذلك ظهر ليعقوب" أخيه أسقف أورشليم الأول.
فإن عرفت أن هذا الأسقف رأى المسيح يسوع حين قام فلا تشك أنت تلميذه. لكنكم تقولون إن أخاه يعقوب لم يشهد بوضوح. يقول الرسول: "وآخر الكل ظهر لي أنا" (1 كو 15: 8) بولس عدوه. وأية شهادة لا تُصدق إن كان العدو يشهد بها؟! "أنا الذي كنت قبلًا مضطهدًا" (1 تي 1: 13)، أكرز الآن بأخبار القيامة المفرحة.
شهادة الأمور المادية لقيامة المخلص

22. يوجد أيضًا شهود كثيرون يشهدون بقيامة المخلص: الليل مع ضوء القمر الساطع (إذ كانت في الليلة السادسة عشرة)(27)، صخرة القبر الذي تقبله، فستقف الصخرة شاهدة ضد اليهود... الحجر الذي دحرج يحمل شهادة عن قيامة المخلص، وهو لا يزال إلى يومنا هذا. ملائكة الله الذين شهدوا بقيامة الابن الوحيد، بطرس ويوحنا وتوما وبقية الرسل، بعضهم جرى إلى القبر ورأى الأكفان التي كان ملفوفًا بها باقية كما هي بعد القيامة، وآخرون لمسوا يديه ورجليه وتحسسوا آثار المسامير. والكل تمتع بنفخة المخلص هذه، وتأهلوا أن يغفروا الخطايا بقوة الروح القدس. النسوة أيضًا كن شاهدات، فقد أمسكن بقدميه وأحسسن بزلزلة قوية، بهاء الملاك الذي وقف بهن شاهدًا بالقيامة، الملابس الكتانية الذي كان ملفوفًا بها وقد تُركت حين قام، الحراس والنقود التي أُعطيت لهم، هذا المكان الذي ترونه، وهذه الكنيسة المقدسة التي تذكرها الإمبراطور قسطنطين في محبته، فبناها وزينها كما ترون.
طابيثا تشهد لقيامة المخلص

23. يوجد أيضًا دليل على قيامة يسوع هو طابيثا التي باسمه قامت من الأموات (أع 9: 40). كيف لا يُصدق أن المسيح قام من الأموات، إن كان حتى اسمه أقام الموتى؟!
البحر أيضًا يشهد بقيامة المسيح كما سمعتم قبلًا، والسمك المُصطاد والحجر والسمك الموضوع هناك وبطرس الذي أنكره ثلاث مرات ثم اعترف به أيضًا ثلاث مرات بعد قيامته فأوصاه أن يرعى غنمه الروحي.
إلى يومنا هذا يقف جبل الزيتون أمام أعين المؤمنين جميعًا شاهدًا للذي صعد إلى السماء من هناك، من المكان الذي بدأ فيه آلامه بين الناس وانتهى بتتويجه بينهم.
ها هي شهادات كثيرة: مكان القيامة ذاته، موضع الصعود نحو المشرق، الملائكة الذين شهدوا أيضًا، السحابة التي صعد عليها، الرسل الذين كانوا هناك.
صعود المخلص يشهد لقيامته

24. قادنا الحديث في تعليمنا عن قانون الإيمان إلى الحديث عن الصعود. وقد دبرت نعمة الله أن تسمعوا بالأمس في يوم الرب عنه بأكثر توسع حسب ضعفنا... وما قد قيل وُجه إلى الجميع، إلى المؤمنين المجتمعين جميعهم، لكنه كان بالأكثر يخصكم أنتم.
والسؤال هو: هل انتبهتم إلى ما قيل؟ إذ كلمات قانون الإيمان تعلمكم "الذي قام من الأموات في اليوم الثالث، وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب".
أظن أنكم تذكرون التفسير، لكنني استرجع أذهانكم إلى ما قيل. تذكروا ما قاله المزمور بوضوح: "صعد الله بهتاف" (مز 47: 5). تذكروا أيضًا ما جاء في المزمور من حديث القوات الإلهية مع بعضها البعض "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم" (مز 24: 7). تذكروا أيضًا المزمور القائل: "صعد إلى العلا وسبى سبيًا" (مز 68: 18). تذكروا النبي القائل: "الذي يبنى صعوده نحو السماء..."(28). وغير ذلك من الأمور التي سبق ذكرها بسبب مغالطات اليهود.
الصعود ورموزه

25. فإذ يتكلمون ضد صعود المخلص كأمر مستحيل، فليذكروا كيف حمل ملاك حبقوق من شعر رأسه(29)، فبالأحرى جدًا يستطيع إله الملائكة والأنبياء أن يصعد على سحابة من جبل الزيتون بقوته الخاصة.
يمكنكم أن تتذكروا عجائب كهذه لكن لتعط المكانة الأولى لله صانع العجائب. فهؤلاء رُفعوا أما هو فرافع كل الأشياء.
تذكروا أن أخنوخ نقُل أما يسوع فصعد.
تذكروا ما قيل بالأمس عن إيليا أنه أُصعد في مركبة نارية (2 مل 2: 11)، أما مركبات المسيح فربوات ألوف (مز 68: 17).
إيليا أخذ ناحية شرق الأردن، أما المسيح فصعد شرق وادي قدرون.
إيليا ذهب كما إلى السماء، أما المسيح ففي السماوات.
إيليا قال أن يُعطى لتلميذه الطوباوي نصيب مضاعف من الروح القدس، أما المسيح فمنح رسله نعمة الروح القدس هكذا حتى أنهم لم يأخذوه لأنفسهم وحدهم بل وهبهم أن يمنحوا المؤمنين أن يشتركوا معهم فيه بوضوح الأيدي.
الرسل ليسوا بأقل من الأنبياء

26. ولكن حينما تناضلون مع اليهود هكذا، وحينما تجاوبونهم بأمثلة متشابهة يلزمكم بالأحرى أن تُظهروا عظمة مجد المخلص، إذ هؤلاء خدام أما هو فابن الله. وهكذا يمكنكم أن تذكروا سموه بالتفكير في أن خادم المسيح قد بلغ السماء الثالثة. فإن كان إيليا قد بلغ السماء الأولى فإن بولس بلغ الثالثة، فحصل على كرامة أعظم.
لا تخجلوا من رسلكم! أنهم ليسوا أقل من موسى، ولا يأتون بعد الأنبياء. إنما هم نبلاء بين نبلاء، نعم بل وأكثر نبلًا. لأنه حقًا أُخذ إيليا إلى السماء، ووُهب بطرس مفاتيح ملكوت السماوات. إذ سمع هذه الكلمات "ما تحلِّه على الأرض يكون محلولًا في السماء" (مت 16: 19).
إيليا أُخذ إلى السماء، أما بولس فإلى السماء والفردوس (2 كو 12: 2، 4)، (إذ يليق أن يكون لتلاميذ المسيح نعمة مضاعفة)، "وسمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسانٍ أن يتكلم بها". لكن بولس نزل ثانية من فوق ليس لعدم استحقاقه أن يبقى هناك، إنما لكي ما بعد أن تمتع بالأمور التي تعلو على الإنسان يعود ويكرز بالمسيح ويموت لأجله فيأخذ إكليل الشهادة...
الجلوس عن يمين الآب

27. تذكروا أيضًا ما كنت أتحدث عنه كثيرًا بخصوص جلوس الابن عن يمين الآب، حيث جاء في قانون الإيمان: "وصعد إلى السماوات، وجلس عن يمين الآب".
ليتنا لا نتطفل في معرفة معنى "العرش"، لأنه غير مدرك. لكننا لا نقبل أبدًا القائلين كذبًا أن الابن بدأ يجلس عن يمين أبيه بعد صلبه وقيامته وصعوده إلى السماوات، لأن الابن لم يتمتع بالعرش بالتقدم (أي ترقى إليه)، بل هو دومًا على العرش حيث كائن. وقد عرف إشعياء النبي هذا العرش قبل مجيء المخلص في الجسد فيقول "رأيت السيد جالسًا على عرش عالٍ ومرتفع" (إش 6: 1). وقد قيل أن الآب لم يره أحد قط (يو 1: 18)، فكأن النبي رأى الابن.
يقول أيضًا المرتل: "كرسيك مثبت منذ القدم، منذ الأزل أنت" (مز 93: 2). وإذ توجد أدلة كثيرة على هذا لكن لسبب تأخر الوقت اكتفي بما قلته.
قال الرب لربي اجلس عن يميني

28. لكن الآن يجب أن أذكركم بقليل من كثير مما يُقال بخصوص جلوس الابن عن يمين الأب، فالمزمور المائة والتاسع يقول: "قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئ قدميك" (مز 109: 1). ويؤكد المخلص هذا في الأناجيل، ذاكرًا أن داود لم ينطق بهذا من نفسه بل بوحي الروح القدس قائلًا: "كيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا: قال الرب لربي أجلس عن يميني؟!" (مت 22: 43)، وقد استخدم بطرس والأحد عشر رسولًا هذا الدليل بنفس كلمات المزمور المائة والتاسع في سفر الأعمال في يوم البنطقسطي (حلول الروح القدس) عندما وقف ووعظ الإسرائيليين.
شهادات أخرى خاصة بجلوس الابن عن يمين الآب

29. لكن يليق بنا أن نذكركم بشهادات أخرى خاصة بجلوس الابن عن يمين الآب.
جاء في إنجيل متى: "وأيضًا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة..." (مت 26: 64). وتبعًا لهذا يكتب الرسول بطرس قائلًا: "بقيامة يسوع المسيح الذي هو في يمين، الله إذ قد مضى إلى السماء" (1 بط 3: 21، 22).
ويكتب الرسول بولس إلى أهل رومية: "المسيح هو الذي مات، بل بالأحرى قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله" (رو 8: 34).
وإلى أهل أفسس: "حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه..." (أف 1: 19، 20).
كما علّم أهل كولوسي بهذا: "إن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو 3: 1).
وفي الرسالة إلى العبرانيين يقول: "بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي" (عب 1: 3).
ثم أيضًا: "لمن من الملائكة قال قط: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟!" (عب 1: 13)
ثم أيضًا: "أما هذا فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظرًا بعد ذلك حتى يُوضع أعداؤه موطئًا لقدميه" (عب 10: 12).
وأيضًا "ناظرين إلى رئيس إيماننا ومكمله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله" (عب 12: 2).
ربنا يسوع المسيح يملك العرش عن يمين الآب قبل كل الدهور

30. بالرغم من أنه توجد نصوص أخرى كثيرة بخصوص جلوس الابن الوحيد عن يمين الله، إلاّ أننا نكتفي بهذه الآن، مكررًا ملاحظتي أن الابن لم يحصل على كرامة هذا المكان بعد مجيئه بالجسد بل الابن الوحيد ربنا يسوع المسيح قبل كل الدهور يملك العرش عن يمين الآب على الدوام...
إذًا اثبتوا غير متزعزعين في رجائكم في الذي قام.
قوموا معه جميعًا من خطاياكم المميتة إلى عطيته السمائية.
احسبوا أنفسكم أهلًا للاختطاف في السحب لملاقاة الرب في الهواء" (1 تس 4: 17)، في حينه، حين يأتي وقت ظهوره الثاني المجيد.
اكتبوا أسماءكم جميعًا في سفر الحياة ولا تمسحوها أيضًا (لأن أسماء الكثيرين تُمحى بسقوطهم).
ليهبكم جميعًا أن تؤمنوا بالذي قام، وتتطلعوا إلى الذي صعد وسيأتي (ولكن ليس من الأرض، إذ يلزمك أن تحترسوا من الكذابين الذين سيأتون)، إنما يأتي ذاك الذي يجلس في العلا وهو معنا جميعًا، "ناظرًا ترتيبكم ومتانة إيمانكم" (كو 2: 5). فلا تظنوا أنه بغيابه بالجسد غائب عنا بالروح، بل هو موجود في وسطنا، يسمع ما يُقال عنه، متطلعًا إلى أفكاركم الداخلية، فاحصًا القلوب والكلى (مز9:7)، الذي هو الآن مستعد أن يحضر الآتين إلى العماد، بل ويحضركم جميعًا في الروح القدس للآب، قائلًا: "ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله" (عب 2: 13، إش 8: 18). هذا الذي له المجد إلى الأبد. آمين.

Mary Naeem 18 - 11 - 2022 01:36 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg


القديس كيرلس الأورشليمي



سيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات،

الذي ليس لملكه انقضاء


المقال الخامس عشر

"كنت أرى أنه وضعت عروش، وجلس القديم الأيام"، ثم "كنت أرى في رؤى الليل، وإذ مع سحب السماء مثل ابن إنسان آتي" (دا 7: 9-14).
1. المجيئان

لسنا نكرز بمجيء واحد للمسيح بل وبمجيء آخر فيه يكون ممجد جدًا أعظم من الأول. المجيء الأول أظهر صبره، والثاني فيحضر معه إكليل مملكته الإلهية. لأن تقريبًا كل شيء في ربنا يسوع المسيح يحمل جانبين: فله نسب مزدوج، مولود من الله قبل كل الدهور، ومولود من العذراء في ملء الدهر.
ونزوله مزدوج، واحد يأتي فيه مختفيًا، "مثل المطر على الجزاز" (مز 72: 6)، والآخر مجيء واحد مُنتظر.
في مجيئه الأول كان ملفوفًا بقماطات في المذود، وفي ظهوره الثاني يظهر "اللابس النور كثوب" (مز 104: 2).
في مجيئه الأول "احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2)، وفي الثاني تحوطه جيوش الملائكة ممجدًا(1).
فنحن لا نستند على مجيئه الأول فحسب، وإنما ننتظر مجيئه الثاني أيضًا. وكما قلنا في مجيئه الأول: "مبارك الآتي باسم الرب" (مت 21: 9؛ 23: 39). سنردد أيضًا هذا في مجيئه الثاني، فإذ نتقابل مع سيدنا وملائكته، نتعبد له قائلين: "مبارك الآتي باسم الرب".
سيأتي لا ليُحكم عليه، بل ليدين من حاكموه. ذاك الذي صمت أثناء محاكمته يقول للأشرار الذي فعلوا معه هذه الجسارة: "هذه الأشياء صنعتم وسكت" (مز 50: 21).
إذن، قد جاء بتدبير إلهي معلمًا الناس بالإقناع، أما هذه المرة بالضرورة يقبلونه ملكًا حتى الذين لا يريدون!
شهادة الكتاب المقدس

2. بخصوص هذين المجيئين يقول ملاخي النبي: "ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه"، هذا هو المجيء الأول. أما عن مجيئه الثاني، فيقول: "وملاك العهد الذي تسرون به هوذا يأتي قال (الرب القادر على كل شيء). ومن يحتمل يوم مجيئه؟! ومن يثبت عند ظهوره؟! لأنه يأتي مثل نار الممحص، ومثل أشنان القصار، وسيجلس ممحصًا ومنقيًا". بعد هذا يقول المخلص نفسه: "واقترب إليكم للحكم، وأكون شاهدًا سريعًا على السحرة وعلى الفاسقين وعلى الحالفين باسمي زورًا..." (مل 3: 5)
لهذا السبب يحذرنا بولس قائلًا: "إن كان أحد يبني على هذا ذهبًا فضة حجارة كريمة خشبًا عشبًا قشًا، فعمل كل واحدٍ سيصير ظاهرًا، لأن اليوم سيبينه، لأنه بنار يُستعلن" (1 كو 3: 12، 13).
عرف بولس المجيئين حين كتب إلى تيطس قائلًا: "ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس، معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية، ونعيش بالتعقل والبرّ والتقوى في العالم الحاضر منتظرين الرجاء المبارك، وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح" (تى 2: 11-14). ها أنتم ترون كيف يتحدث عن المجيء الأول الذي من أجله يقدم تشكرات، وعن الثاني الذي نطلبه وننتظره. هكذا أعلن بولس نفس الإيمان الذي نعلنه، فنحن نؤمن بالذي صعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب، وأيضًا يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء.



سماء جديدة وأرض جديدة

3. هكذا سيأتي ربنا يسوع المسيح من السماء، وسيأتي بمجد في نهاية هذا العالم، في اليوم الأخير.لأن هذا العالم له نهاية، ويتجدد عالم جديد(2). لأنه حيث الفساد "والسرقة والفسق" (هو 4: 2)، وكل أنواع الشرور حلت بالأرض ولحقت الدماء بدماء، فلا يعود بعد يبقى هذا المسكن العجيب المملوء شرًا، بل يمضي هذا العالم ليظهر العالم الأفضل.
أتريد شاهدًا على هذا من الكتاب المقدس؟
اسمع إشعياء النبي يقول: "تلتف السماوات كدرجٍ، وتسقط كل النجوم كأوراق من كرمة، وكأوراق تتساقط من شجرة تين"(3). يقول الإنجيل أيضًا: "تظلم الشمس، والقمر لا يعطى ضوءه، وتتساقط نجوم السماء" (مت 24: 29).
إذًا لا نحزن كأننا وحدنا نموت لأن النجوم أيضًا تزول... وسيلف الله السماوات لا لكي يفنيها، بل ليرفعها ثانية في أجمل مما هي عليه.
اسمعوا داود النبي يقول: "أنت يا الله في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى" (مز 102: 25). اسمعوا بأي معنى يقول "هي تبيد"؟ إنه يكمل "كلها كثوبٍ تذوب قِدَمًا، وكرداء تطويها فتتغير" (مز 102: 26)، إنها كالإنسان الذي يُقال عنه إنه "يُباد". إذ مكتوب عنه: "باد الصديق وليس أحد يضع ذلك في قلبه" (إش 62: 1). هذا بالرغم من انتظار القيامة. هكذا انتظر كما لو أن هناك قيامة للسماوات.
"ستظلم الشمس، والقمر يتحول إلى دمٍ" (يوئيل 2: 31). فليتعلم أولئك الذين انحرفوا إلى المانيّة ولا يجعلوا من هذه الكواكب آلهة لهم، ولا يظنوا أن هذه الشمس التي تظلم هي المسيح، إذ يقول الرب: "السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول" (مت 24: 35)، لأن ليس للخليقة كرامة كلمات الرب!



علامات المنتهى

4. إذن ستزول الأشياء المنظورة وتأتي الأمور المقبلة التي هي أفضل. أما عن الزمن فليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه" (أع 1: 7). فلا تتجاسروا في إعلان زمان حدوث هذه الأمور، وفي نفس الوقت لا تخافوا وتتهاونوا، إذ قيل: "اسهروا إذًا لأنكم في ساعة لا تتوقعونها يأتي ابن الإنسان" (راجع مت 24: 42، 44). ولكن إن كان لزامًا أن نعرف علامات المنتهى إذ ننتظر المسيح، فلا نموت مخدوعين ونضل بواسطة ضد المسيح الكذاب، فإن التلاميذ مدفوعين بإرادة إلهية وحسب ترتيب العناية الربانية قالوا للمعلم الحقيقي: "قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟" (مت 24: 3) إننا نتطلع إليك وأنت آتٍ ثانية، لكن "الشيطان يغيّر نفسه إلى شبه ملاك نور" فأعطنا حرصًا حتى لا نعبد آخر غيرك. فتح السيد فمه الإلهي المبارك قائلًا: "انظروا لا يضلكم أحد". وهذه العبارة تنذركم جميعًا أن تحذروا وتهتموا لما يُقال، لأنه لم يتحقق بعد بل يتنبأ عن أمور مقبلة حادثة بالتأكيد. إنه ليس لنا أن نتنبأ لأننا غير مستحقين لهذا، إنما نضع أمامكم الأمور المكتوبة، ونوضح لكم العلامات، لاحظوا أنتم ما قد تحقق منها فعلًا وما لم يتحقق بعد، وكونوا في أمان.



علامات المنتهى

5. "انظروا لا يضلكم أحد"، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو المسيح ويضلون كثيرون. لقد تحقق هذا جزئيًا فإن "سيمون الساحر" قال هذا، كذلك Menander(4) وآخرون من قادة الهرطقات قالوا بهذا. وسيقوم في أيامنا وفي الأيام المقبلة أيضًا من يقول بهذا.



علامة الحروب

6. العلامة الثانية: "تسمعون عن حروب وأخبار حروب"(5). ألا توجد في أيامنا هذه حرب بين الفرس والرومان لأجل العراق؟ ألا تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة؟!
"وتكون زلازل عظيمة في أماكن ومجاعات وأوبئة". هذه الأشياء حدثت فعلًا.
ثم أيضًا "وتكون مخاوف وعلامات عظيمة من السماء"(6).
إنه يقول "اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم" (مت 24: 42).



علامة فتور المحبة

7. لكننا نبحث عن علاماتنا نحن الكنسيّين لمجيئه، التي تتناسب مع الكنيسة. يقول المخلص "وحينئذ يعثر كثيرون ويسلمون بعضهم بعضًا ويبغضون بعضهم بعضًا" (مت 24: 10). إن سمعتم عن أساقفة يضادون أساقفة، وإكليروس ضد إكليروس، وعلمانيين ضد علمانيين حتى الدم(7)، فلا تضطربوا لأنه سبق أن كُتب عن هذا.
لا تلتفتوا إلى ما يحدث الآن بل تأملوا ما قد سبق أن كُتب، حينئذ حتى إن هلكت أنا نفسي الذي أعلمكم لا تهلكوا أنتم أيضًا معي. كلاّ، بل قد يصير السامع أفضل من معلمه، والآخر يكون أولًا مادام السيد يقبل حتى أصحاب الساعة الحادية عشرة.
إن كان قد وجد بين الرسل خيانة، فهل تتعجبون إن وُجد بين الأساقفة كراهية؟!
هذه العلامة لا تكون بين القادة، فحسب بل وبين الشعب أيضًا، إذ يقول "لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12)...



الكرازة ببشارة الملكوت في كل المسكونة

8. لكم هذه العلامة أيضًا: "ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى" (مت 24: 14).
وكما نرى أن العالم قد امتلأ كله تقريبًا ببشارة المسيح.



ظهور ضد المسيح

9. ثم ماذا يحدث بعد ذلك؟ يقول: "فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس. ليفهم القارئ" (مت 24: 15). وأيضًا "حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك، فلا تصدقوا" (مت 24: 23). إن كراهية الإخوة تفسح الطريق لمجيء ضد المسيح، لأن الشيطان يصنع الانقسام بين الناس حتى يقبلوا المزمع أن يأتي. لكن الله منع أي خادم من خدام المسيح أن يذهب إلى هنا أو هناك نحو العدو.
وإذ يكتب الرسول بولس في هذا الأمر يعطى علامة واضحة إذ يقول: "لأنه لا يأتي (هذا اليوم) إن لم يأتِ الارتداد أولًا ويُستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا، حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله، مظهرًا نفسه أنه إله. أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا، والآن تعلمون ما يحجز إلى النهاية حتى يُستعلن في وقته، لأن سرّ الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يحجز الآن، وحينئذ سيُستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه، ويبطله بظهور مجيئه. الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين" (2 تس 2: 3-10).
هكذا كتب بولس، وقد تم الارتداد، إذ ارتد الناس عن الإيمان المستقيم، فالبعض يتجاسر ويقول إن المسيح أُوجد من العدم. من قبل كان الهراطقة ظاهرين، أما الآن فالكنيسة مملوءة هراطقة مستترين، إذ ضل الناس عن الحق، وصموا آذانهم (2 تي 4: 3).
هل يوجد مقال مملوء بالمظاهر الكاذبة؟! الكل ينصت إليه بفرح!
هل توجد كلمة للإصلاح؟ الكل يتحول عنها!
تحول الغالبية عن الكلمات الصحيحة، واختاروا بالأحرى الكلمة الشريرة بدلًا من الصالحة. هذا هو الارتداد، والعدو يتطلع إليه. فقد أرسل جزئيًا رواده حتى يأتي فينقض على الفريسة.
اهتم بنفسك يا إنسان، ولتكن نفسك في أمان. الكنيسة تُحملك المسئولية أمام الله الحي، فهي تخبرك عما يخص بضد المسيح قبل أن يأتي. وإننا لا نعلم إن كان يأتي في أيامكم أو بعدكم، لكن يليق بكم إذ تعرفون هذه الأمور أن تحترسوا.



سيأتي ابن الإنسان على سحاب السماء

10. المسيح الحقيقي، ابن الله الوحيد، لن يأتي بعد من الأرض، فإن جاء أحد صانعًا أعمالًا مزيفة في البرية لا تذهبوا وراءه. إن قيل "هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا". لا تعودوا تنظروا بعد إلى أسفل إلى الأرض، لأن الرب يأتي من السماوات، ليس وحده كما حدث من قبل، لكنه يأتي محاطًا بربوات الملائكة ليس سرًا "كالمطر على الجزاز" (مز 72: 6). لكن يأتي بلمعان مثل البرق، إذ قال بنفسه: "لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا أيضًا يكون مجيء ابن الإنسان". وأيضًا "يبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوةٍ ومجدٍ كثيرٍ، فيرسل ملائكته ببوقٍ عظيم الصوت" (مت 24: 30).



خداعً الشيطان والإعداد لظهور ضد المسيح

11. ولكن كما أنه كان يليق به أن يأخذ الناسوت وكان منتظرًا أن يولد الله من عذراء. فقد خلق الشيطان خداعًا بإيجاد روايات عن آلهة كذبة تلد وتولد من النساء، لكي بوجود الأكاذيب لا يُصدق الحق. وهكذا أيضًا إذ يأتي المسيح مرة أخرى، فإن المقاوم يستغل فرصة انتظار البسطاء، خاصة الذين من أهل الختان، فيأتي رجل ساحر متفنن في فنون السحر والعرافة مخادع بمكر، ويأخذ لنفسه سلطان إمبراطور روما، ويُنصب نفسه مسيحًا كذابًا، وتحت اسم المسيح يخدع اليهود المنتظرين مجيء المسيح، ويغوى الأمم بأضاليله السحرية.



مُلك ضد المسيح ونهايته

12. هذا المسيح الكذاب السابق ذكره يأتي بعد انتهاء أزمنة إمبراطورية روما عندما تقترب نهاية العالم. سيقوم عشرة ملوك لروما ضد بعضهم، ربما يحكمون في مناطق مختلفة، لكنهم يقومون في زمنٍ واحدٍ، بعد هذا يأتي الحادي عشر أي ضد المسيح الذي بخداعه السحري يغتصب القوة الرومانية، ومن هؤلاء العشرة ملوك الذين كانوا يحكمون سابقًا "يذل ثلاثة ملوك" (دا 7: 24)، والسبعة يخضعهم لسطوته. في البداية يلبس مظهر اللطف الحقيقي والتعقل والحنو، وبالعلامات الكاذبة والعجائب السحرية المخادعة يخدع اليهود، كما لو كان المسيح المنتظر، بعد هذا يظهر كل أنواع الجرائم الوحشية والشرور، فيفوق كل الأشرار والملحدين الذين سبقوه، مستخدمًا روح قتال قاسي جدًا ضد كل البشرية خاصة المسيحيين، فيكون بلا رحمة مملوء غشًا.
وبعد ثلاثة سنوات وستة أشهر فقط تتحطم هذه الجرائم بالظهور المجيد لابن الله الوحيد ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الحقيقي من السماء، حيث يسحق ضد المسيح بفمه ويلقيه في نار جهنم.


13. لسنا نُعلم بهذا من اختراعنا، بل تُخبرنا به الأسفار المقدسة الإلهية التي في الكنيسة، خاصة ما جاء في نبوة دانيال التي قُرأت منذ قليل، كما فسرها رئيس الملائكة جبرائيل قائلًا: "الحيوان الرابع فتكون مملكة رابعة على الأرض تفوق سائر الممالك"(8). ومعروف في تقليد مفسري الكنيسة أنها مملكة الرومان. فكما كانت المملكة الأولى التي ذاع صيتها هي مملكة الأشوريين، والثانية هي مملكة المديانين والفرس معًا، وبعد هذا المملكة الثالثة هي المقدونيين، والرابعة هي مملكة الرومان.
ثم يستمر جبرائيل في التفسير قائلًا: "قرونه العشرة هم عشرة ملوك سيقومون ويقوم بعدهم آخر الذي يفوق الشر كل سابقيه" (ليس فقط يفوق العشرة، بل كل سابقيه) ويذل ثلاثة ملوك" (راجع دا 7: 24). واضح أنه من العشرة ملوك السابقين. وإذ يذل الثلاثة يصير هو الثامن "ويتكلم بكلام ضد العليّ" (دا 7: 25). إنه يكون مجدفًا وشريرًا، لا يأخذ المملكة عن آبائه، بل يغتصبها بالسحر.



استخدام آيات وعجائب كاذبة

14. من هو هذا؟ وما هو نوع عمله؟ فسر لنا يا بولس. يقول: "الذي مجيئه بعمل الشيطان، بل بقوة وبآيات وعجائب كاذبة" (2 تس 2: 9)، مظهرًا أن الشيطان يستخدمه كأداة عاملًا في شخصه وخلاله. فإذ يعلم أن دينونته لن تتأخر بعد كثيرًا، يصنع حربًا ليس خلال وكلائه كعادته، بل يصنعها علنًا من ذلك الحين فصاعدًا، مستخدمًا "آيات وعجائب كاذبة". لأن أب الكذب يعمل أعمال الكذب، حتى يظن الناس أنهم يرون الميت يقوم وهو لم يقم، والعرج يمشون، والعمى يبصرون مع أنهم لم يشفوا حقيقة.



يجلس في هيكل الله

15. يقول أيضًا "المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا... حتى إنه يجلس في هيكل الله". أي هيكل هذا؟ إنه يقصد هيكل اليهود(9). حاشا لله أن يُقصد به هيكل مما نحن فيه.
لماذا نقول هذا؟ لئلا يُظن أننا نفضل أنفسنا، فإنه متى جاء لليهود على أنه المسيح راغبًا في أن يكون موضع عبادتهم، يعطي اهتمامًا عظيمًا للهيكل لكي يخدعهم تمامًا، مدعيًا أنه من نسل داود، وأنه سيبني الهيكل الذي شيده سليمان هذا الذي متى جاء ضد المسيح لن يجد فيه حجر على حجر كما حكم بذلك مخلصنا...
إنه سيأتي "بآيات وعجائب كاذبة"، رافعًا نفسه على كل الأصنام، فيتظاهر أولًا بمحبة الإحسان، لكنه يعود فيُظهر طبعه الذي لا يعرف الرحمة، خاصة ضد قديسي الله، إذ قيل: "وكنت أنظر وإذا هذا القرن يحارب القديسين" (دا 7: 21). وفي موضع آخر قيل: "ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت" (دا 12: 1). مرعب هو هذا الوحش، تنين عظيم لا يهزمه إنسان، مستعد للافتراس. لنا أن نتكلم عن هذا الكثير مما ورد في الكتب الإلهية، لكننا نكتفي الآن بهذا حتى لا نتعدى حدود المقال.



مدة حكمه

16. وإذ يعلم الرب شدة الضيق الذي يبثه المقاوم ضد الأبرار قال: "حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال" (مت 24: 16). أما إذا كان أحد متأكدًا أنه قوي في مقاتلة الشيطان، فليقف وليقل: "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟!" (رو 8: 35) ليعمل الخائفون على سلامتهم (بالهروب)، أما الذين لهم شجاعة حسنة، فليصمدوا "لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون" (مت 24: 21).
شكرًا لله الذي حّد من عظمة هذه الضيقة في أيام قليلة إذ يقول: "ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام" (مت 24: 22). سيحكم ضد المسيح لمدة ثلاثة سنين ونصف فقط. إننا لا ننطق بهذا من كتب غير قانونية بل يقول دانيال: "ويسلمون ليده إلى زمان وزمانين ونصف زمان" (دا 7: 25). الزمان هو السنة التي يكون فيها مجيئه يتزايد، والزمانان هي سنتا الشر الباقيتان، فيكون المجموع هو ثلاث سنوات، والنصف زمان هو الستة أشهر.
إذ يقول دانيال نفس الشيء في موضع آخر: "وحلف بالحيّ إلى الأبد أنه إلى زمان وزمانين ونصف زمان" (دا 12: 7). والبعض يرجع هذا إلى ما جاء بعد ذلك "ألف ومئتان وتسعون يومًا" (دا 12: 11). لهذا فلنختفِ ولنهرب، لأنه ربما "لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان" (مت 10: 23).



شهداء عصر ضد المسيح

17. من هو الإنسان المطوب الذي يشهد للمسيح بغيرة في ذلك الوقت؟ لأني أقول إن شهداء ذلك الوقت يفوقون كل الشهداء. لأن هؤلاء يصارعون ضد أناس فقط، أما أولئك الذي في وقت ضد المسيح فسيناضلون الشيطان في شخصه هو.
الملوك المضطهدون السابقون كانوا يسلمون الشهداء للموت فقط، لكنهم لم يدعوا أنهم يقيمون الموتى، ولا صنعوا آيات كاذبة وعجائب، أما في ذلك الوقت فسيكون الإغراء الشرير بواسطة التهديد كما بالخداع "حتى يضلوا لو أمكن المختارين (جدًا) أيضًا" (مت 24: 24).
لا يدخل في قلب أي إنسان حيّ هذا القول: "وماذا فعل المسيح أكثر من هذا؟" لأنه بأية قوة يعمل هذا الرجل هذه الأعمال لو لم تكن هي إرادة الله لما سمح له.
يحذركم الرسول قائلًا مقدمًا: "لأجل هذا سيُرسل إليهم الله عمل الضلال (أي يسمح لهم بذلك)، لكي يجدوا عذرًا، ولكن "لكي يدانوا" (2 تس 2: 11، 12) ولماذا؟ يقول "الذين لم يصدقوا الحق"، أي المسيح الحقيقي، "بل سروا بالإثم"، أي بضد المسيح،
لكن كما في أثناء الاضطهادات التي تحدث من حين إلى حين هكذا يسمح الله بهذه الأمور ليس لأنه محتاج إلى قوة لكي يحميهم، بل ليتوج أبطاله خلال الصبر، كما صنع أنبياؤه ورسله الذين جاهدوا لقليل حتى النهاية فيرثون ملكوت السماوات الأبدي، وكما يقول دانيال: "وفي ذلك الوقت ينجّي شعبك كل من يوجد مكتوبًا في السفر (أي سفر الحياة)، وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي. والفاهمون يضيئون كالجلد والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور" (دا 12: 1-4).



احذر ضد المسيح

18. حافظ على نفسك يا إنسان، فإنه يقدم لك علامات ضد المسيح. فتذكرها لا لنفسك فحسب، بل قدمها بوضوح للجميع. إن كان لك ابن حسب الجسد انذره بهذا الآن، وإن كنت قد ولدت إنسانًا حسب الإيمان (الوعظ) فأجعله أن يحترس لئلا يقبل الكذاب على أنه الحقيقي، "لأن سر الإثم الآن يعمل" (2 تس 2: 7.).
إنني أخشى حروب الأمم هذه. إنني أخاف الانشقاقات التي في الكنيسة. إني أخشى كراهية الإخوة المنتشرة.لكن يكفي في هذا الموضوع أن يمنع الله حدوث هذا في أيامنا. لكن لنكن محترسين. وهكذا يكفي جدًا بخصوص الحديث عن ضد المسيح.



مجيء المسيح على السحاب

19. لنتطلع إلى مجيء الرب من السماء على السحاب ونترقبه، ستصوت الأبواق الملائكية، حينئذ "الأموات في المسيح سيقومون أولًا" (1 تس 4: 16). وسيُختطف الأبرار الصالحون إلى السماء لينالوا جزاء أعمالهم الصالحة أفضل من الكرامة البشرية. ولقد كتب الرسول بولس: "لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولًا، ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب" (1 تس 4: 16، 17).



سفر الجامعة يحذرنا

20. كان مجيء الرب هذا ونهاية العالم معروفين للمبشر الذي يقول: "افرح أيها الشاب في حداثتك... فأنزع الغم من قلبك، وأبعد الشر عن جسدك... اذكر خالقك... قبل أن تأتي أيام الشر... قبل أن تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم... وتظلم النواظر من الشبابيك (مظهرًا سهولة النظر)... قبل ما ينفصم حبل الفضة (قاصدًا تجمعات النجوم التي تشبه الفضة في منظرها)، أو تنسحق زهرة الذهب (هذا الحجاب يشير إلى الشمس الذهبية لأن نبات البابونج Camomèle المعروف له أوراق كثيرة مثل الأشعة تخرج منه وتحيط به) ويستيقظون على صوت العصفور، نعم وسينظرون بعيدًا من المكان العالي وستكون مخاوف في الطريق" (راجع جا 11: 9، 10؛ 12: 4، 5).
ماذا يريدون؟ "حينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء"، وتنوح قبيلة فقبيلة (مت 24: 30؛ زك 12: 2).
وماذا يحدث عند مجيء الرب؟ "ستزهر شجر اللوز، وسينمو الجندب بكثرة، وتتكاثر براعم التوت جدًا" (راجع جا 12: 5). وكما يقول المفسرون اللوزة المثمرة تدل على رحيل الشتاء، وستثمر أجسادنا بعد الشتاء بزهور سمائية "وسينمو الجندب(10)بكثرة" (وهذا يعني الروح المجنح اللابس الجسد)، وتتكاثر براعم التوت جدًا، (إذ يكون الأثمة الذين هم كالشوك قد اندثروا).



مجيء الرب من خلال الكتاب المقدس

21. ها أنت ترى كيف تنبأ جميعهم عن مجيء الرب، كيف يُعرف صوت العصفور؟ لتعرف أي صوت من الأصوات هو هذا؟ "لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس الملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء" (1 تس 4: 16). سيعلن رئيس الملائكة قائلًا: للجميع: "قوموا للقاء العريس".
مخيف هو مجيء مخلصنا، إذ يقول داود: "يأتي إلهنا ولا يصمت، نار قدامه تأكل وحوله عاصف جدًا" (مز 50: 3 لآساف). يأتي ابن الإنسان للآب كما يقول الكتاب الذي قُرأ "على سحب السماء" وبالقرب منه "نهر نار" (دا 7: 10)، لاختبار أعمال كل أحدٍ. فإن وُجدت ذهبًا تلمع، وإن كانت قشًا تحترق بالنار.
وسيجلس الآب بلباس أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي (دا 7: 9). لكن هذا الحديث بلغة بشرية. لماذا قيل هذا عنه؟ لأنه يملك على الذين لم يتنجسوا بالخطية، إذ يقول: "أجعل خطاياكم بيضاء كالثلج وكالصوف" (إش 1: 18) إشارة إلى الصفح عن الخطايا أو عدم السقوط في الخطية.
لكن الذي يأتي على السحاب هو نفسه الذي صعد على السحاب، إذ يقول بنفسه: "ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجدٍ عظيمٍ" (مت 24: 30).

علامة الصليب في السماء

22. لكن ما هي علامة مجيئه؟ لئلا تجرؤ أية قوة مقاومة على التضليل، يقول: "حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء" (مت 24: 30). علامة المسيح الحقيقي هي الصليب. فيتقدم الملك علامة الصليب المضيئة، معلنة بوضوح ذاك الذي صُلب. حتى إذ يرى اليهود الذين طعنوه وتآمروا عليه هذه العلامة ينوحون قبيلة فقبيلة (زك 12: 12)، قائلين: هذا هو الذي ضُرب ولُكم. هذا هو الذي بُصق على وجهه. هذا هو الذي قُيِّد بالسلاسل. هذا هو الذي صُلب ولم يُبالى به.
سيقولون: أين نهرب من وجه غضبك؟ لكن جيوش الملائكة تحضرهم، فلا يستطيعون الهروب إلى أي موضع. ستكون علامة الصليب رعبًا لأعدائه وفرحًا لأصدقائه الذين آمنوا به أو كرزوا به أو تألموا من أجله. فمن هو هذا المغبوط الذي يكون صديقًا للمسيح.
ومع أن الملك عظيم وممجد جدًا، ترافقه الملائكة الحراس، شريك الآب (واحد معه) في العرش، إلاّ أنه لن يزدري بخدامه الأخصاء. ولكي لا يختلط مختاروه مع أعدائه، "يرسل ملائكته ببوقٍ عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع رياح" (مت 25: 34).
إنه لم يزدرِ بلوط الذي كان وحيدًا، فكيف يزدري بأبرار كثيرين؟! إنه يقول للذين يركبون معه مركبات السحاب وتجمعهم الملائكة: "تعالوا يا مباركي أبي!"



الديان لا يحابي الوجوه

23. لكن قد يقول أحد الحاضرين: أنا إنسان مسكين، أو قد أكون في ذلك الوقت مريضًا على الفراش، "أنا امرأة، وأُخذت إلى الطاحونة، فهل أُرفض؟!" تشجع يا إنسان، فإن الديان لا يحابي الوجوه. "لا يقضي بحسب منظر الشخص، ولا حسب كلامه" (راجع إش 11: 3). لن يكرم المتعلمين فوق البسطاء، ولا الأغنياء أكثر من المحتاجين. إن كنتم في حقل تأخذكم الملائكة. لا تظنوا أنه يأخذ أصحاب الأراضي، ويترك الحارثين. حتى وإن كنت عبدًا أو فقيرًا لا تتضايق. لقد أخذ شكل العبد (في 2: 7)، فهل يرفض العبيد؟ حتى وإن كنت راقدًا على الفراش، إذ مكتوب: "يكون اثنان على فراش واحد، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر" (لو 17: 34). حتى وإن كنت مظلومًا تحت إلزام، رجلًا كنت أو امرأة، مكبلًا أو جالسًا بجوار طاحونة، فإن الذي بسلطانه أن يحلّ المقيدين لن يتجاوزك. الذي عتق يوسف من العبودية وأخرجه من السجن إلى المملكة، يفديك من ضيقتك إلى ملكوت السماوات.
يليق بك أن تفرح فرحًا حسنًا، وتعمل وتجاهد بغيرة، فإنك لن تفقد شيئًا من جهادك. كل صلاة هي لك. كل مزمور تتغنى به يُسجل لك. العفة من أجل الله تُحسب لك.
توهب الأكاليل الأولى للبتولية والطهارة فتضيء كالملاك.
وكما سمعتم بفرح عن الأمور الصالحة، اسمعوا أيضًا بغير تبرمٍ عن العكس. كل طمعٍ يُسجل عليكم، كل زنى، كل قسمٍ كاذبٍ، كل تجديفٍ وشعوذةٍ وسرقةٍ وقتلٍ، هذه جميعها تُسجل من الآن عليكم، إن فعلتم إياها بعد العماد كما كنتم قبله، لأن الخطايا السابقة قد مُحيت.
ستُدان أمام كل البشرية

24. يقول "متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه". يا إنسان، أمام كم من الجموع تُدان. سيحضر كل أجناس البشرية. أحص عدد أفراد الأمة الرومانية، والقبائل البربرية الموجودة اليوم، والذين انتقلوا من مئات السنين الماضية من آدم إلى يومنا هذا. حقًا إنه لجمع عظيم، إلا أنهم قليلون إن قورنوا بالملائكة الذين هم أكثر بكثير، إذ هم التسعة والتسعون خروفًا والبشرية هي الخروف الواحد (لو 15: 4؛ مت 18: 12)... مكتوب: "ألوف ألوف تخدمه، وربوات وقوف قدامه" (دا 17: 10) ليس لأنه هكذا هي عظمة العدد بل لم يستطع أن يعبر أكثر من هذا. هكذا سيكون حاضرًا في يوم الدينونة الله أب الجميع، ويسوع المسيح جالسًا معه، والروح القدس حالًا، وسيجمعنا كلنا بوق ملائكي لنحضر أعمالنا معنا.
أما يليق بنا الآن أن نهتم بالأمر... لا تظنه أمرًا هينًا يا إنسان في العقاب أن يكون الحكم أمام جمع عظيم هكذا. أما تختار الموت دفعات كثيرة أفضل من أن تُحاكم في حضرة الأصدقاء؟!
ضمائركم تدينكم

25. لنرتع يا إخوة لئلا يديننا الله الذي لا يحتاج إلى فحصٍ ولا إلى أدلةٍ في المحاكمة. لا تقل إنني صنعت الفسق أو أعمال السحر أو شيئًا آخر في الليل ولم يكن معي أحد. فإن ضمائركم تدينكم، "وأفكاركم فيما بينها مشتكية أو محتجة في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس" (رو 2: 15، 16).
إن منظر الديان الرهيب يدفعكم أن تنطقوا بالحق، وإن لم تتكلموا، فإن أعمالكم نفسها تستذنبكم، إذ تقومون وأنتم لابسين أعمالكم الشريرة أو الصالحة.
وهذه يعلنها الديان نفسه، إذ المسيح هو الذي يدين. "لأن الآب لا يدين أحدًا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن" (يو 5: 22)، دون أن يتجرد الآب من سلطانه، بل يدين خلال الابن. فالابن يدين بإرادة الآب، إذ إرادة الآب والابن واحدة بذاتها ليس فيها اختلاف.
إذن ماذا يقول الديان بخصوص أعمالك؟ "ويجتمع أمامه كل الشعوب لأنه في حضرة المسيح، "تجثو كل ركبة مما في السماء وما على الأرض وما تحت الأرض" (في 2: 10). فيميز بعضهم من بعض "كما يميز الراعي الخراف من الجداء" (مت 25: 22). هل يقوم الراعي بالتميز بينهما؟ هل يفحص من هو خروف ومن هو جدي من كتاب؟ أو هل يميزهم بعلامات خاصة؟
أليس الصوف يظهر الخروف بينما الجلد الخشن المشعر يظهر الجدي؟! هكذا إذا تطهرتم من خطاياكم الآن تكون أعمالكم كالصوف النقي، ويبقى ثوبكم بلا دنس، وتقولون إلى الأبد: "خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟!"(11) من منظركم تُعرفون أنكم خراف. أما إن وجدتم كعيسو لكم شعر خشن وعقل شرير، الذي خسر بكوريته بأكلة، وباع امتيازه، حينئذ تكونون من الذين عن اليسار. ليحفظ الله كل الحاضرين هنا من أن يُلقى أحدنا بعيدًا عن النعمة أو يوجد بين صفوف الأشرار الذين عن اليسار بسبب شرهم.
مخيفة هي الدينونة

26. بالحق مخيفة هي الدينونة ومرعبة هي تلك الأمور المعلنة! ملكوت السماوات موضوع أمامنا والنار الأبدية معدة! قد يقول قائل: كيف أهرب من النار؟ كيف أدخل ملكوت السماوات؟ يقول (الرب) "جعت فأطعمتموني". من هنا نتعلم الطريق. هنا لا توجد استعارة بل لتتمم ما قيل: "جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني، محبوسًا فأتيتم إليّ" (مت 25: 35). هذه الأمور إن فعلتموها تدينون معه، وإن لم تفعلوها تُدانون.
ابدأ فورًا بعملها، ولتثبت في الإيمان، لئلا تكون مثل العذارى الجاهلات اللواتي إذ أبطأن في شراء الزيت أُغلق عليهن. لا تطمئن لمجرد امتلاكك المصباح، بل ليكن المصباح مشتعلًا، ليضيء نور أعمالكم الصالحة أمام الناس (مت 5: 16). لا تجعلوا اسم المسيح يُجدف عليه بسببكم. البسوا ثوب عدم الفساد المتألق بالأعمال الصالحة.
ما يوكِّلك الله عليه تاجر فيه بربح! هل استؤمنت على ثروات؟ وزعها حسنًا!
هل استؤمنت على كلمة تعليم؟ كن وكيلًا صالحًا.
هل تستطيع أن تصل إلى أرواح السامعين؟ اصنع هذا باجتهاد.
توجد أبواب كثيرة للوكالة الصالحة. ليته لا يُدان أحد منا ويطرد خارجًا حتى نستطيع أن نقابل المسيح الملك الأبدي بدالةٍ، هذا الذي يحكم إلى الأبد، هذا الذي يدين الأحياء والأموات، إذ مات من أجل الأحياء والأموات. وكما يقول بولس: "لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش، لكي يسود على الأحياء والأموات" (رو 14: 9).
ابغضوا الهراطقة المزدرين بالمسيح

27. يلزمكم ألاّ تنصتوا لمن يقول إن ملكوت السماوات له نهاية. ابغضوا الهرطقة. إنه رأس جديد للتنين ظهر أخيرًا في غلاطية. لقد تجاسر واحد أن يقول إنه بعد نهاية هذا العالم لن يحكم المسيح بعد. لقد تجرأ فقال إن الكلمة الذي من الآب يرجع إلى الآب مرة أخرى ولا يكون بعد.
إنه ينطق بهذه التجاديف لهلاكه، إذ لم يسمع للرب القائل: "الابن يبقى إلى الأبد" (راجع يو 8: 25). ولا سمع لجبرائيل القائل: "ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكة نهاية" (لو 1: 33). تأملوا هذه العبارة، فإن هراطقة هذه الأيام يعلمون مزدرين بالمسيح، بينما رئيس الملائكة جبرائيل يعلمنا سرمدية المخلص، فمن منهما يليق بنا أن نصدق؟!
اسمعوا شهادة دانيال في العبارة: "كنتُ أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن الإنسان آتى وجاء إلى قديم الأيام... فأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي، لن يزول، وملكوته لا ينقرض" (دا 7: 13، 14).
تمسكوا بهذه الأمور. صدقوها واطرحوا عنكم كلمات الهراطقة، لأنكم سمعتم بأكثر وضوح عن مملكة المسيح اللانهائية.

الكتاب المقدس يعلن عن أبدية ملكوت المسيح

28. هذا التعليم نجده أيضًا في تفسير "الحجر الذي قُطع من جبل بغير يدين" (دا 20: 45)، الذي هو "المسيح حسب الجسد" (رو 9: 5). "ولا تترك مملكته لشعب آخر". ويقول داود أيضًا "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور" (مز 14: 6). وفي موضع آخر يقول: "أنت يا الله في البدء أسست الأرض... هي تبيد وأنت تبقى... وأنت هو وسُنوك لن تنتهي". هذه الكلمات التي فسرها بولس أنها عن الابن.
يملك حتى بعد أن يضع جميع الأعداء تحت قدميه

29. أتريد أن تعرف كيف أسرع الذين يعلِّمون تعليمًا مناقضًا إلى جنون كهذا؟! إنهم يقرأون خطأ كلمة الرسول الحسنة: "لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه" (1 كو 15: 25)، فيقولون إنه حين يُوضع أعداؤه تحت قدميه حينئذ يكف عن الحكم. هذا الادعاء خاطئ ومملوء حماقة، لأنه إن كان يملك قبل أن يخضع له أعداؤه فكيف بالأحرى يكون ملكًا بعدما يتسلط عليهم؟!



خضوعه بالحب للآب

30. لقد تجاسروا أيضًا فقالوا إن الكتاب المقدس في قوله "ومتى أُخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه أيضًا سيَخضع للذي أُخضع له الكل" (1 كو 15: 28). يقصد أن الابن ينتهي ويُمتص في الآب. هل أنتم تبقون يا من أنتم خليقة المسيح، يا من أنتم أشد الناس كفرًا، بينما يفنى المسيح خالقكم وصانع كل الخليقة؟ إنه تجديف، إذ كيف تخضع له الخليقة، أبِفنائها أم بقائها؟ هل تخضع له الأشياء الأخرى ببقائها وإذ يخضع هو للآب يفنى ويزول؟! إنه سيخضع له لا لكي يبتدئ يصنع إرادة الآب (إذ هو منذ الأزل يعمل الأعمال التي تسره) (يو 8: 29)، ولكنه كما كان أيضًا يطيع الآب ليس كرهًا بل طوعًا، إذ أنه ليس خادمًا يخضع بالقوة، بل ابن يطيع باختياره الحر بالحب الطبيعي!



معنى "حتى"

31. لنفحص ما معنى "حتى" (في العبارة السابقة). فبهذه الكلمة عينها اقترب إليهم وأظهر خطأهم، إذ تجاسروا قائلين إن العبارة "حتى يضع أعداءه تحت قدميه" تُعلن أنه هو نفسه له نهاية. لنفترض أن ملكوت المسيح الأبدي له حدود وسلطانه غير المنتهى له نهاية، تعالوا إذن لنقرأ العبارات المماثلة في كتابات الرسول: "لكن قد ملك الموت من آدم حتى موسى" (رو 5: 14). هل معنى هذا أن الناس كانوا يموتون قبل ذلك، ولكن بعد موسى لم يمت أحد البتة؟! أو هل لا يكون موت بعد الناموس؟! حسنًا، هل أنت ترى أن كلمة "حتى" هنا لا تحدد الوقت...



معنى "حتى" (يتبع)

32. خذ أيضًا عبارة مشابهة. "لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باق" (2 كو 2: 14، 15). فهل عبارة "حتى اليوم" تعني أنه إلى أيام بولس الرسول (فقط)؟ ألا تعني أنها إلى يومنا هذا، بل وتبقى إلى النهاية. وإذ قال بولس لأهل كورنثوس: "إذ قد وصلنا حتى إليكم أيضًا في إنجيل المسيح، راجين إذا نما إيمانكم لنبشر إلى ما وراءكم" (2 كو 10: 14، 15، 16) فإنه من الواضح أن كلمة "حتى" لا تعني النهاية بل الاستمرار.
إذًا بأي معنى تفهم العبارة "حتى يضع كل أعدائه تحت قدميه"؟ إنه كما يقول بولس في موضع آخر "عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يدعى اليوم" (عب 2: 13)، فإنه يعنى الاستمرار...



خاتمة

33. وبالرغم من وجود شهادات كثيرة في الكتاب المقدس تعلن أن ملكوت المسيح أبدي لا نهاية له، إلاّ أنني اكتفى الآن بما سبق ذكره، إذ قد تأخر النهار. أما أنت أيها المستمع فأعبده هو فقط كملكٍ لك، واهرب من أخطاء الهراطقة. وإذا سمحت لي نعمة ربنا فسأفسر لك بقية عبارات قانون الإيمان في فسَحة من الوقت.
ليحفظكم جميعًا إله كل العالم في أمان، متذكرين علامات المنتهى، غير خاضعين لضد المسيح. لقد عرفتم كل علامات المُخادع المزمع أن يأتي. لقد عرفتم علامات المسيح الحقيقي الذي يأتي بوضوح من السماء. فاهربوا من الأول الكذاب، وانتظروا الآخر الحقيقي.
لقد تعلمتم الطريق حتى تكونوا من أصحاب اليمين في الدينونة.
احفظوا الوديعة التي للمسيح. كونوا صاحين في الأعمال الصالحة حتى يمكنكم أن تقفوا بيقينٍ حسن أمام الديان -وترثوا ملكوت السماوات- الذي خلاله وله المجد مع الآب والروح القدس إلى أبد الأبد. آمين.

Mary Naeem 22 - 11 - 2022 01:43 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

القديس كيرلس الأورشليمي


الروح القدس الواحد؛ المعزي، الذي تحدث في الأنبياء

المقال السادس عشر




"وأما من جهة المواهب الروحية أيها الإخوة، فلست أريد أن تجهلوا... فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح الواحد" (1 كو 12: 1، 4).


الحديث عن الروح القدس أمر مخيف


1. بالحقيقة إننا نحتاج إلى نعمة الروحانية لكي نتحدث عن الروح القدس، لا لكي نفي الموضوع حقه، فإن هذا مستحيل، بل حتى إذا ما تحدثنا بكلمات الكتاب المقدس نكمل مقالنا بغير خطرٍ. لأنه بالحقيقة أمر مخيف ما جاء في الأناجيل أن المخلص تحدث بوضوح قائلًا: "من قال كلمة على الروح القدس، فلن يُغفر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي" (مت 12: 32).

يسود الخوف من أن يسقط أحد تحت هذا الحكم، إن تحدث بما لا يليق بخصوص الروح عن جهل أو وقار مزعوم. إن ديان الأحياء والأموات -يسوع المسيح- قد أوضح أنه ليس عنده غفران، لذلك فمن يخطئ أي رجاء يكون له؟!


حاجتنا إلى نعمة يسوع المسيح نفسه


2. إذن يليق بنا أن تعمل فينا نعمة يسوع المسيح نفسه حتى لا ننطق بعيب. كما يجب عليكم أن تسمعوا بتمييز، لأن التمييز لازم ليس فقط للمتكلين، بل وللسامعين أيضًا، لئلا يسمعوا شيئًا ويفهمون شيئًا آخر خطأ.

إننا لا نتكلم عن الروح القدس إلاّ بما هو مكتوب، وأما ما هو غير مكتوب فلا ننشغل به. الروح القدس نفسه تكلم في الكتب. وقد تكلم عن نفسه قدر مسرته أو قدر استطاعتنا في الأخذ. لنتكلم بما قالته الكتب، أما ما لم تقله، فلا نجسر أن نقوله.


روح قدس واحد


3. يوجد روح قدس واحد وحيد، المعزي. وكما يوجد الله الآب واحد وليس أب آخر، وكما يوجد ابن واحد وحيد كلمة الله الذي ليس له أخ، هكذا يوجد روح قدس واحد وليس هناك ثان مساوٍ له في الكرامة.

الروح القدس قوة غاية القدرة، (أقنوم)(12) إلهي لا يُستقصى، فهو حيّ عاقل. مقدس كل ما خلقه الله خلال الابن. إنه ينير أرواح الأبرار. كان في الأنبياء وفي رسل العهد الجديد. ممقوتين هم الذين يفصلون عمل الروح القدس (في العهدين)!

إنه يوجد الله واحد، الآب رب العهد القديم والجديد، ورب واحد يسوع المسيح الذي تنبأ عنه العهد القديم، وجاء في العهد الجديد، وروح قدس واحد كرز بالمسيح خلال الأنبياء، وحينما جاء المسيح نزل وأعلنه!


كنيسة الجلجثة أفضل للتحدث عن الروح القدس


4. ليته لا يفصل أحد بين العهد القديم والعهد الجديد. لا تسمحوا لأحد أن يقول أن الروح القدس في الماضي شيء، وفي الحاضر شيء آخر، لأنه بهذا يخطئ إلى الروح القدس ذاته، الذي يُكرَّم مع الآب والابن، ويُذكر كأحد الثالوث القدوس عند العماد المقدس. إذ قال ابن الله الوحيد للرسل بوضوح: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن، والروح القدس" (مت 28: 19). رجاؤنا هو في الآب والابن والروح القدس.

نحن لا نكرز بثلاثة آلهة.

ليبكم أتباع مرقيون، فإننا نكرز بالروح القدس خلال ابن وحيد، نكرز بالله الواحد.

الإيمان غير منقسم، والعبادة غير منفصلة. نحن لا نفصل الثالوث القدوس كالبعض، ولا نعمل مثل سابيليوس تشويشًا، لكننا بحسب التقوى نعرف أبًا واحدًا أرسل ابنه ليخلصنا. نعرف ابنًا واحدًا وعد أن يرسل لنا المعزي من عند الآب. نعرف الروح القدس تكلم في الأنبياء، وحلّ على الرسل في يوم البنطقستي على شكل ألسنة نار، هنا في أورشليم في كنيسة الرسل العليا، إذ لنا في كل شيءٍ امتيازات عظمى مختارة.




هنا جاء المسيح من السماء، وهنا حلّ الروح القدس على الرسل، وبالحق كان لائقًا جدًا أن نعظ هنا عن المسيح والجلجثة في الجلجثة، وكان يليق أن نتحدث عن الروح القدس في الكنيسة العليا (التي حلّ فيها الروح على التلاميذ).

ومع ذلك فإذ يشترك الذي حلّ هناك، فيمجد ذاك الذي صلب هنا. فإننا هنا أيضًا (في كنيسة الجلجثة) نتحدث عن ذاك الذي حلّ هناك، لأن عبادتهما غير منفصلة.


البدع ضد الروح القدس


5. نتكلم الآن عن بعض الأمور الخاصة بالروح القدس، لا لنوضح طبيعته كما هي، هذا مستحيل، وإنما نتحدث عن أخطاء البعض بخصوصه، حتى لا نسقط فيها عن جهلٍ، ولكي نغلق طريق الخطأ، فنسير في الطريق الملوكي. فإن كررنا بعض عبارات الهراطقة بقصد الحذر، فإن أقوالهم ترتد على رؤوسهم، ولا نكون نحن الذين نتكلم أو أنتم الذين تسمعون مخطئين.


سيمون الساحر والغنوصيون


6. لأن الهراطقة، الذين هم أنجس من كل شيء قد سنوا ألسنتهم (مز 140: 3) ضد الروح القدس أيضًا، إذ تجاسروا ونطقوا بأشياء مملوءة نفاقًا كما كتب إيريناؤس المفسر في توصياته ضد الهراطقة. إذ تجاسر البعض فادعوا أنهم هم أنفسهم الروح القدس. من هؤلاء سيمون الساحر المذكور في سفر الأعمال، لأنه حين طُرد أخذ ينادي بهذه التعاليم.

وأيضًا الغنوصيون أناس منافقون تكلموا بأشياء أخرى على الروح، وأتباع فالنتيان الأشرار يقولون بأشياء أخرى، وأيضًا ماني النجس تجرأ وقال إنه البارقليط المرسل من المسيح.

آخرون ادعوا أن الروح في الأنبياء يختلف عنه في العهد الجديد. حقًا إن خطأهم أو تجديفهم عظيم. لذلك أمقتوا هؤلاء، واهربوا من المجدفين على الروح القدس، الذين ليس لهم غفران. لأنه أية صداقة تكون لكم مع من لا رجاء فيهم، يا من ستتعمدون من الروح القدس؟! إن كان من يلتصق بلصٍ ويوافقه يتعرض للعقوبة، فأي رجاء لمن يخطئ ضد الروح القدس؟!


أتباع مرقيون


7. لتمقتوا أيضًا أتباع مرقيون الذين يفصلون بين أقوال العهد القديم والعهد الجديد، لأن مرقيون أعظم المنافقين زعم أولًا وجود ثلاثة آلهة، وإذ عرف أن في العهد الجديد شهادات الأنبياء عن المسيح ترك الشهادات المأخوذة من العهد القديم حتى ترك الملك (المسيح) بغير شهادة. امقتوا الغنوصيين السابق ذكرهم، الذين يدعون العلم وهم مملوءون جهلًا، إذ تجاسروا وقالوا أشياء كهذه ضد الروح القدس لا أجسر أن أكررها.


أتباع فيريجيان مونتانيوس


8. لتبغضوا الكاتفرجيانس(13) ورئيس عصابتهم في الشر "مونتانيوس" وابنتيه المزعومتين ماكسيمالا وبرلسكيلا. لأن مونتانيوس هذا الذي فقد عقله كان مجنونًا بحق... إذ تجاسر وادعى أنه هو نفسه الروح القدس. ذاك الرجل البائس، المملوء من كل نجاسة ودعارة، لأنه يكفي التلميح إلى هذا من أجل النسوة الحاضرات (إذ لا يليق ذكر فضائحه أمامهن). فإذ امتلك ببيوزا Pepuza القرية الصغيرة جدًا في فريجيا دعاها كذبًا بـ"أورشليم"، وكان يقطع حناجر الأطفال الصغار البائسين ويقدمها كطعامٍ دنسٍ لما يسمونه "أسرار"... ومع كل هذا تجرأ ودعا نفسه الروح القدس، هذا الذي كان مملوء نفاقًا وقسوة بلا إنسانية وهو مدان بحكمٍ لا ينُقض.


ماني


9. وكما سبق أن قلنا إنه قد تلاه "ماني" الكافر، هذا الذي جمع كل شرور الهرطقات. هذا الذي يمثل هوة الدمار الدنيئة، جامعًا مبادئ كل الهراطقة، وعمل وعلَّم بأخطاء جديدة، وقد تجاسر ودعا نفسه "المعزي" الذي وعد المسيح أن يرسله. لكن المسيح حين وعد الرسل قال لهم: "فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي" (لو 24: 49). هل يتجاسر أحد فيقول إنهم لم يمتلئوا على الفور من الروح القدس؟ بل أكثر من هذا مكتوب "حينئذ وضعا الأيادي عليهم، فقبلوا الروح القدس" (أع 8: 17). ألم يكن هذا قبل مجيء "ماني"؟ نعم قبله بمئات السنين حين نزل الروح القدس في يوم البنطقستي!


سيمون الساحر


10. لماذا دُين سيمون الساحر؟ أليس لأنه أتى للرسل قائلًا: "أعطياني أنا أيضًا هذا السلطان حتى أي من وضعت عليه يديّ يقبل الروح القدس؟!" (أع 8: 19) لأنه لم يقل "أعطياني أنا أيضًا شركة الروح القدس" بل "هذا السلطان" هل يمكن بيع ما لا يمكن بيعه... لقد قدم مالًا لمن ليس لهم مقتنيات، مع أنه رأى الناس يقدمون ثمن الأشياء المباعة، ويضعونها عند أرجل الرسل، إذ لم يأخذ في اعتباره أن هؤلاء الذين وطأوا تحت أقدامهم الثروة المقدمة لإعالة الفقراء ما كان محتملًا أن يعطوا قوة الروح القدس بالرشوة.




لكن ماذا قالوا لسيمون؟ "لتكن فضتك معك للهلاك، لأنك ظننت أن تقتني موهبة الله بدراهم" (أع 8: 20)، لأنك صرت يهوذا الثاني، إذ ظننت أن تشتري نعمة الروح بالفضة. فإن كان سيمون يهلك لأنه رغب في أخذ القوة بثمن، فماذا يكون فجور ماني الذي ادعى أنه الروح القدس؟!

لنكره هؤلاء (الهراطقة) المستحقين للكراهية، ولنبتعد عن هؤلاء الذين يبتعد الرب عنهم، ولنقل نحن أيضًا بكل شجاعةٍ إلى الله عن الهراطقة، "ألاّ أبغض مبغضيك يا رب وأمقت مقاوميك؟!" (مز 139: 21) لأنه توجد عداوة حقة، إذ مكتوب "سأضع عداوة بينك وبين نسلها" (تك 3: 15)، لأن الصداقة مع الحيّة تصنع عداوة مع الله وتوجد موتًا!


لنرجع إلى الأسفار المقدسة


11. يكفينا هذا بخصوص الخارجين، ولنرجع إلى الأسفار المقدسة لنشرب مياهًا من أحواضنا ومن آبارنا النابعة (راجع أم 5: 15). لنشرب من مياه حيَّة تنبع إلى حياة أبدية (راجع يو 4: 14). إذ قال المخلص "هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 7: 38، 39). لاحظوا ماذا قال، "الذي يؤمن بي كما قال الكتاب (مرجعًا إياكم إلى العهد القديم) تجري من بطنه أنهار ماء حي". ليست أنهارًا تُلمس بالحواس، وتروي الأرض بأشواكها وأشجارها، بل أيضًا تُحضر الأرواح إلى النور. وفي موضع آخر يقول: "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية"، نوع جديد من الماء، ماء حيّ، ينبع للمستحقين.


الماء كرمزٍ للروح القدس


12. ولماذا دعا نعمة الروح ماءً؟ لأن كل الأشياء تقوم على المياه. فبالماء ينبت العشب وكل حيّ. لأن مياه الأمطار تأتي من السماء، تنزل مادة واحدة، لكنها تصير في أشكالٍ كثيرةٍ. عين واحدة تروي كل الفردوس، ومطر واحد ينزل على العالم كله، لكنه يصير أبيض في السوسن، وأحمر في الورود، وأرجوانيًا في الزهور... ويتعدد في أنواع مختلفة... ومع ذلك فطبيعته واحدة، غير مختلفٍ في ذاته، إذ لا يتغير، فيسقط تارة في شكلٍ، ومرة أخرى في مادة أخرى، إنما هو يشكل نفسه حسب تركيب الشيء الذي يستقبله، فيصبح لكل شيء حسبما يتلاءم معه. هكذا الروح القدس هو واحد، طبيعته واحدة لا تتغير لكنه يقسم لكل واحد نعمته كما يريد!

وكما أن الشجرة الجافة بعدما ترتوي بالماء تصنع فروعًا، هكذا أيضًا النفس في الخطية إذ بالتوبة تتأهل للروح القدس تنبت عناقيد البرّ. ومع أنه واحد في طبيعته، لكن الفضائل التي تنشأ بإرادة الله في اسم المسيح عديدة، فيؤهل لسان إنسان للحكمة، ويضيء نفس آخر بالتنبؤ، ويعطي آخر سلطانًا لإخراج الشيطان، وآخر يهبه أن يفسر الأسفار المقدسة. ويقوي ضبط النفس في إنسانٍ، ويعلم آخر طريق تقديم الصدقات، وآخر يعلمه الصوم وقمع نفسه، وآخر يعلمه احتقار الجسديات، ويهيئ آخر للاستشهاد. إنه متعدد في أناسٍ مختلفين، أما هو فلن يتغير. وكما هو مكتوب: "ولكن لكل واحدٍ يعطى إظهار الروح للمنفعة. فإنه لواحدٍ يعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع ألسنة، ولآخر ترجمة ألسنة، ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسمًا لكل واحدٍ بمفرده كما يشاء" (1 كو 12: 7-11).


كلمة "روح" في الكتاب المقدس


13. وإذ جاءت كلمة "روح" عامة في الكتاب المقدس تحمل معان كثيرة، فهناك خوف من أن يسقط أحد في تشويش عن جهل، غير مدركٍ، أي روح هو المقصود به. من أجل هذا يليق بنا الآن أن نحدد لكم كيف يوضح الكتاب المقدس "الروح القدس".

لأنه كما أن هرون يدعى مسيحًا، وهكذا داود وشاول وآخرون، ومع ذلك يوجد مسيح حقيقي واحد، هكذا كما أن اسم" الروح" يدعى به أشياء كثيرة، فبالحق يلزمنا أن نعرف أي منها يدعى على وجه التحديد "الروح القدس".

فهناك أشياء كثيرة تدعى أرواح: فالملاك يدعى روحًا، والنفس تدعى روحًا، والريح الذي يهب يدعى روحًا، والفضيلة العظيمة تدعى روحًا، والعادة النجسة تدعى روحًا، والشيطان مقاومنا يدعى روحًا،لهذا كونوا حذرين عند سماعكم هذه الكلمات لئلا يختلط معنى في الآخر، لأن أسماءهم جميعًا مشتركة.

فبخصوص نفوسنا يقول الكتاب: "تخرج روحه فيعود إلى ترابه" (مز 146: 4). ويقول ثانية عن نفس الروح: "وجابل روح الإنسان في داخله" (زك 12: 1). وعن الملائكة يقول في سفر المزامير: "الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار" (مز 104: 4). وعن الرياح يقول: "وروح عاصف بها تكسر سفن ترشيش" (مز 48: 7)، وأيضًا "النار والبرد والضباب والروح العاصف" (إش 12: 2). وعن التعليم الصالح يقول الرب نفسه: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو 6: 63) بدلًا من أن يقول "هو روحي". أما الروح القدس فلا ينطق به اللسان، إنما هو روح حيّ يهب الحكمة في الكلام متحدثًا وواعظًا بنفسه.


الروح القدس يتكلم ويقود ويرسل بسلطان


14. أتريد أن تعرف كيف يعظ الروح القدس ويتكلم؟ لقد نزل فيلبس بإعلان من الملاك إلى الطريق المؤدي إلى غزة حيث كان الخصيّ آتيًا، فقال الروح لفيلبس: "تقدم ورافق المركبة" (أع 8: 29). انظروا هنا إلى الروح فإنه يكلم واحدًا فيسمعه! أيضًا يقول حزقيال: "وحل على روح الرب وقال لي هكذا قال الرب" (حز 11: 5). وأيضًا "قال الروح القدس" للرسل الذين في أنطاكية: "افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" (أع 13: 2). انظر كيف أنه الروح الحي يفرز ويدعو ويرسل بسلطان!

بولس أيضًا قال: "غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلًا: إن وثقًا وشدائد تنتظرني" (أع 20: 23). فإنه مقدس الكنيسة ومعينها، معلمها الروح القدس المعزي، الذي قال عنه المخلص: "سيعلمكم كل شيءٍ" (ولم يقل فقط "سيعلمكم كل شيء" بل قال: "وسيذكركم بكل ما قلته لكم"، لأن تعاليم المخلص هي تعاليم الروح القدس بذاتها).

أقول إنه شهد لبولس مقدمًا عما سيصيبه حتى يتقوى قلبه أكثر.

أما الآن فقد كلمتكم بهذه الأمور بسبب العبارة "الكلام الذي أكلمكم به هو روح" حتى يمكنكم أن تفهموا هذا لا بكلام الشفتين، بل تفهموا التعاليم الصالحة التي لهذه العبارة.


الروح بمعنى مضاد


15. ولكن الخطية أيضًا تسمى روحًا، كما قلت، إنما بمعنى آخر مضاد. فمثلًا يُقال "روح الزنى أضلهم" (هو 4: 12). كذلك اسم "روح" يطلق على الروح النجس "الشيطان" بإضافة كلمة "النجس". إذا يليق بالاسم ما يميزه ويجدد طبيعته. فحينما يتكلم الكتاب عن روح الإنسان يضيف كلمة "الإنسان" إلى "روح". وإذ قصد الرياح يقول "روح عاصف". وإذا قصد الخطية يقول "روح الزنى". وإذا قصد الشيطان يقول "الروح النجس". وبهذا تعرف الروح الذي يتكلم عنه، وحتى لا تظنوا أنه يتكلم عن الروح القدس. حاشا‍‍‍ لأن اسم "روح مشترك" في أمور كثيرة.

على أي الأحوال كل شيءٍ ليس له جسم يدعى على وجه العموم "روحًا". فإذ لا تحمل الشياطين ذلك الجسم تُدعى أرواحًا. لكن هناك اختلاف عظيم، لأنه حين يدخل روح نجس إنسانًا (ليحفظ الله السامعين وغير الحاضرين أيضًا)، فإنه يأتي كذئبٍ يهجم على خروفٍ، متعطشًا إلى الدماء، ومتأهبًا للإهلاك. مجيئه قاس للغاية، أحاسيسه عنيفة جدًا، يظلم الذهن، هجومهم مملوء ظلمًا، يغتصب ممتلكات الغير، ويستغل بالقوة جسم شخص آخر وإمكانياته كما لو كانت له، فيسقط القائمين (إذ هو منتسب للذين سقطوا من السماء) (لو 10: 18)، ويملأ الإنسان ظلامًا فتكون عينا الإنسان مفتوحتين ولكنه لا يرى. يدفع بهذا الإنسان إلى حافة الموت. حقًا إن الشياطين أعداء للناس إذ يستخدمونهم بحماقة بغير رحمة.


الروح القدس والروح النجس


16. مثل هذا ليس الروح القدس، حاشا! إذ أعماله عكس ذلك، فهو يعمل كل شيءٍ للخير وللخلاص. مجيئه لطيف، وحمله خفيف، يضيء عند قدومه أشعة نور المعرفة.

يأتي بأحشاء حب حقيقي، إذ يأتي ليخلص ويشفي ويعلم وينذر ويقويّ ويحذر ويضيء العقل. يضيء أولًا العقل الذي يقبله، ثم بعد ذلك عقول الآخرين خلاله.

وكما أن الرجل الذي يكون في ظلام ثم ينظر الشمس فجأة تستضيء بصيرته الجسدية ويرى بوضوح أمورًا لم يكن يراها من قبل، هكذا أيضًا من يُمنح له الروح القدس تستضيء روحه ويرى أمورًا فوق مرأى الإنسان، لم يكن يعرفها بجسده على الأرض، لكن تنظر روحه إلى السماوات. يرى مثل إشعياء "السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع" (إش 6: 1). ومثل حزقيال يرى "الذي على رأس الكاروبيم" (حز 10: 1)، ومثل دانيال يرى "ربوات ربوات وألوف ألوف" (دا 12: 10).

والإنسان الذي هو صغير جدًا يرى بداية العالم ويعرف نهاية العالم والأوقات التي بينهما، ويرى تسلسل الملوك، أمور لم يتعلمها قط، إنما المنير الحقيقي حاضر معه.

يكون في داخل أسوار بيته، لكن قوة معرفته تصل إلى بعيد، فيرى ما يصنعه الآخرون.


أمثلة


17. لم يكن بطرس حاضرًا مع حنانيا وسفيرة حين باعا ممتلكاتهما، لكنه كان حاضرًا بالروح، إذ يقول: "لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس؟" (أع 5: 3) لم يكن بينهما، ولا شاهدهما، لكنه عرف ما قد حدث. "أليس وهو باقٍ كان يبقى لك. ولما بيع ألم يكن في سلطانك. فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر؟!" (أع 5: 4) بطرس عديم العلم (أع 4: 13) عرف خلال نعمة الروح القدس ما لم يعرفه حكماء اليونان.

كذلك أيضًا أليشع حين شفى برص نعمان مجانًا أخذ جيحزي المكافأة، أخذ مكافأة عمل آخر. أخذ المال من نعمان، وأخفاه في الظلام، لكن الظلام غير مخفيٍ عن القديسين (مز 139: 12). فلما أتى سأله أليشع، وقال له كما قال بطرس: "قولي لي أبهذا المقدار بعتما الحقل"؟! هكذا تساءل أليشع: من أين أتيت يا جيحزي؟ لم يسأله عن جهل، لكنه في أسفٍ يسأله: "من أين أتيت" (2 مل 5: 25)، من الظلام أتيت، وإلى الظلام تذهب. لقد بعت شفاء الأبرص، يكون البرص ميراثك. كأن أليشع يقول إنني نفذت أمر القائل: "مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا" (مت 10: 8)، لكن أنت بعت هذه النعمة (المجانية). يقول أليشع: "ألم يذهب قلبي معك؟" (2 مل 5: 26) لقد كنت هنا محصورًا بالجسد، لكن الروح الذي أعطاني الرب رأى الأمور البعيدة، وكشف لي بوضوح ما كان يحدث في موضع آخر.

انظروا كيف أن الروح القدس ليس فقط ينزع الجهل، بل ويهب المعرفة؟! انظروا كيف ينير أرواح الناس؟!


مثال آخر


18. عاش إشعياء منذ حوالي ألف عام ورأى "صهيون مثل مظلة". لقد كانت المدينة قائمة جميلة، بأماكنها العامة، متسربلة بالجلال، ومع ذلك... يتنبأ عمًا يحدث الآن في أيامنا هذه. لاحظوا دقة النبوة، إذ قال: "فبقيت ابنة صهيون كمظلةٍ في كرم، كخيمةٍ في حقل خيار"(14). وها هو الآن يمتلئ المكان بزراعة المقثاة.

انظروا كيف يضيء الروح القدس للقديسين. فلا تضلوا إذن إلى أمورٍ أخرى بسبب اشتراك الاسم (أي "الروح")، بل تمسكوا بالمعنى الدقيق.


قوة الروح القدس في التعليم


19. فإذا خطر على ذهنكم وأنتم جالسون هنا فكر عن الطهارة والبتولية، فإن هذا من تعليمه. ألم يحدث أن هربت عذراء وهي على عتبة الزواج؟ ألم يحدث أن رجلًا مشهورًا في البلاط الملكي احتقر الثروة والجاه، بسبب تعليم الروح القدس؟ أما حدث أن شابًا أغلق عينه أمام الجمال وهرب من المنظر، تاركًا النجاسة (حيث عرضت عليه الخطية)؟!

قد تسألون: كيف حدث هذا؟ الروح القدس هو علمّ نفس الشاب.

العالم يعرض طرقًا كثيرة للطمع، والمسيحيون يرفضون حب الامتلاك. لماذا؟ بسبب تعليم الروح القدس!

بالحقيقة مستحق الروح القدس الصالح كل كرامة!

بالحقيقة نحن معمدون باسم الآب والابن والروح القدس. فيصارع الإنسان وهو في الجسد شياطين قاسية جدًا. والشيطان الذي لا يخضعه رجال كثيرون بعصًا من حديد يخضعه الإنسان بكلمات الصلاة بقوة الروح القدس الساكن فيه، بل يصير نفس هذا الإنسان المتكل على الروح القدس كنارٍ يحرق العدو غير المنظور.


لقد أعطانا الله حليفًا وحارسًا قديرًا، ومعلمًا عظيمًا للكنيسة، وبطلا قويًا لإعانتنا. فلا تخف إذن من الأبالسة، ولا من الشيطان، لأن الذي يحارب عنا أقوى منهم.

لنفتح له أبوابنا، إذ يبحث عمن يستحقونه ويفتش عمن يستطيع أن يهبهم مواهبه.


20. الروح القدس المعزي


إنه يدعى المعزي، لأنه يعزينا ويشجعنا ويعين ضعفنا. "إذ لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، لكن الروح نفسه يشفع فينا بأنّات لا يُنطق بها" (رو 8: 18)، أي يشفع أمام الله.

كثيرًا ما يُزدرى بالإنسان ويُهان ظلمًا من أجل المسيح، ويقترب الاستشهاد منه وتحيط به الآلام من كل جانب، من نارٍ وسيفٍ ووحوشٍ مفترسة وجبٍ، ولكن الروح القدس يهمس له بلطف: "انتظر الرب" (مز 27: 14؛ 37: 34). يا إنسان ما يصيبك الآن قليل، أما المكافأة فعظيمة. احتمل إلى وقتٍ قليلٍ، فتكون مع الملائكة إلى الأبد. "آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا" (رو 8: 18). إنه يصوّر له ملكوت السماوات، ويعطيه لمحة عن فردوس النعيم. والشهداء الذين بالضرورة تتجه أنظارهم الجسدية تجاه القضاة، إلاّ أنهم بالروح يتجهون نحو الفردوس، فيحتقرون المتاعب المنظورة.


الروح القدس يسند المتألمين


21. أتريد أن تتأكد أن الشهداء يحملون شهادتهم بقوة الروح القدس؟! يقول المخلص لتلاميذه: "ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو ما تقولون، لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه" (لو 12: 11، 12). يستحيل أن يشهد إنسان كشهيدٍ من أجل المسيح، إلاّ إن شهد الروح القدس؛ لأنه إن كان "لا يستطيع أحد أن يقول عن المسيح رب إلاّ بالروح القدس" (1 كو 12: 3)، فكيف يستطيع أحد أن يبذل حياته من أجل يسوع المسيح إلاّ بالروح القدس؟


يعمل في كل أحد حسب حاجته


22. بالحقيقة عظيم وكلى القوة في مواهبه وعجيب هو الروح القدس!

انظروا كم عدد الجالسين هنا الآن؟! كم نفس حاضرة منا؟! إنه يعمل كما يلائم كل واحد، إذ هو حاضر في الوسط، ينظر إلى طبيعة الكل وإلى عقله وضميره وحديثه وفكره وعقيدته!

بالحقيقة قد أطلت الحديث ومع ذلك فهو قليل إذ أسألكم أن تفكروا بعقلٍ مستضيء كم مسيحي يوجد في هذه الأسقفية، وكم عددهم في ولاية فلسطين كلها، ثم انتقلوا بعقولكم إلى الإمبراطورية الرومانية، وبعد هذا فكروا في كل العالم...

أسألكم أن تأخذوا في اعتباركم كل أمة، والأساقفة والكهنة والشمامسة والمتوحدين والبتوليين والعلمانيين أيضًا، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. انظروا إلى حارسهم العظيم، وإلى موزع المواهب عليهم. كيف يهب في كل العالم لواحد عفة، ولآخر بتولية دائمة، ولآخر عطاء، ولآخر فقر اختياري، ولآخر قوة إخراج الأرواح المقاومة؟!

وكما أن النور بلمسة من إشعاعاته يهب ضياء لكل الأشياء، هكذا يضيء الروح القدس لمن لهم أعين. أما إذا لم يكن أحد قد أخذ نعمة بسبب عماه، فلا يلم الروح، بل يلوم عدم إيمانه هو.


الروح القدس المدبر الإلهي للسمائيين


23. لقد رأيتم قدرته في كل العالم. لا تمكثوا بعد على الأرض بل اصعدوا إلى العلا. أقول اصعدوا متأملين حتى في السماء الأولى، وانظروا هناك ربوات كثيرة جدًا من ملائكة لا تُحصى. ارتفعوا بأفكاركم إلى العلو قدر ما تستطيعون وانظروا رؤساء الملائكة. انظروا الأرواح أيضًا، فكروا في الفضائل(15)، تأملوا الرؤساء والقوات والعروش والسلاطين. إن المعزي هو المدبر الإلهي لهذه كلها، وهو المعلم والمقدس لها.

يحتاج إليه إيليا وأليشع وإشعياء بين البشر، كما يحتاج إليه ميخائيل وجبرائيل بين الملائكة! ليس في الخليقة من يساويه في الكرامة. لأن كل الطغمات الملائكية وجنودهم مجتمعين معًا ليس لهم كرامة الروح القدس. إن قوة المعزي كلي العظمة تظللهم جميعًا. جميعهم مرسلون للخدمة، أما هو فيفحص حتى أعماق الله. إذ يقول الرسول: "لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله، لأن مَنْ مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلاّ روح الله" (1 كو 2: 10، 11).


الروح القدس غير منفصل عن الآب والابن


24. لقد كرز بالمسيح في الأنبياء، وهو الذي عمل في الرسل، وإلى يومنا هذا يختم الأرواح في العماد. حقًا إن الآب يعطي الابن، والابن يشترك مع الروح القدس. لأنه ليس من عندي هذا، بل يسوع نفسه يقول: "كل شيء دُفع إليّ من أبي" (مت 11: 27). كما يقول عن الروح القدس: "وأما متى جاء ذاك روح الحق... ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يو 16: 13، 14).

الآب معطي كل نعمة خلال الابن مع الروح القدس. مواهب الآب ليست إلا مواهب الابن ومواهب الروح القدس. لأنه يوجد خلاص واحد، قوة واحدة، إيمان واحد، إله واحد الآب، ورب واحد ابنه الوحيد، وروح قدس واحد المعزي.

يكفى لنا أن نعرف هذا، وليس لكم أن تسألوا بشغفٍ عن طبيعته أو جوهره. لأنه لو كًتب عن هذا لتحدثنا عنه، أما وأنه لم يُكتب عنه، فليس لنا أن نخاطر فيه. إنه يكفي لخلاصنا أن نعرف أنه يوجد آب وابن وروح قدس.


الروح القدس في العهد القديم


25. لقد نزل الروح القدس على السبعين شيخًا في أيام موسى... وأنا أقول لكم هذا لكي أثبت لكم أنه يعرف كل شيء، ويعمل ما يريد (1 كو 12: 11).

لقد اُختير السبعون شيخًا، "فنزل الرب في سحابة وأخذ من الروح الذي على (موسى) وجعل على السبعين رجلًا الشيوخ" (عد 11: 25)، ليس بمعنى أن الروح القدس قد انقسم إنما وزّع نعمته حسب الأوعية وسعة القابلين. لقد كان حاضرًا ثمانية وستون شيخًا فتنبأوا، أما ألداد وميداد فلم يكونا حاضرين، من هنا يظهر أنه ليس موسى واهب العطية، بل الروح هو الذي عمل، إذ ألداد وميداد اللذين دُعيا مع عدم حضورهما في ذلك الوقت تنبآ أيضًا.


الروح القدس يوهب للجميع


26. اندهش يشوع بن نون الذي خلف موسى، فأتى إليه وسأل "ألم تسمع أن ألداد وميداد يتنبآن؟! لقد دُعيا ولم يأتيا يا سيدي موسى اردعهما" (عد 11: 28). أجاب: لا أستطيع أن أردعهما، لأن هذه النعمة من السماء كلا! حاشا لي أن أمنعهما، بل أشكر الله على ذلك. إنني لست أظن أنك قلت هذا عن حسدٍ. هل أنت تغار لي. لأنهما يتنبآن وأنت لا تتنبأ إلى الآن؟! انتظر الوقت المناسب. يا ليت كل شعب الرب يكونون أنبياء حين يجعل الرب روحه عليهم! (عد 11: 29)




لقد نطق بهذا متنبأ "حين يجعل الرب روحه عليهم". العبارة تقول: "إذ يجعل الرب" أي يجعله يحل على الكل... إنه سيعطى بسخاء. لقد لمح في السرّ إلى ما كان مزمعًا أن يحدث بيننا في يوم البنطيقستي؟، لأن الروح القدس بنفسه حلّ بيننا.


الروح القدس يملأ أصحاب القلوب الحكيمة


27. لقد حلّ أيضًا على كل الأبرار والأنبياء: أخنوخ ونوح وآخرين، إبراهيم وإسحق ويعقوب. أما بالنسبة ليوسف فحتى فرعون نفسه شعر أن " فيه روح الله" (تك 41: 38). أما عن موسى والأعمال العجيبة التي عملت بالروح في أيامه فقد سمعتم أكثرها.

هذا الروح كان لدى أيوب، هذا الذي كان أكثر الناس احتمالًا للآلام، وهكذا كل القديسين دون أن نكرر أسماءهم.

أيضًا أُرسل حين كانت خيمة الاجتماع تُقام، وهو الذي ملأ أصحاب القلوب الحكيمة الذين كانوا مع بصلئيل بالحكمة (خر 31: 1-6).


الروح القدس عمل في القضاة والأنبياء والملوك


28. بقوة هذا الروح حكم عثنئيل، كما نقرأ في سفر القضاة (قض 3: 10). وبه ازداد جدعون قوة، وانتصر يفتاح (قض 6: 34، 11: 29)، وقامت دبورة المرأة بالحرب، وصنع شمشون أعمالًا تفوق قدرة البشر، حين كان يعمل بالبرّ، ولم يحزن الروح.

أما عن صموئيل وداود فنقرأ عنهم ما جاء في أسفار الملوك بوضوح كيف تنبأوا بالروح القدس وكانوا قادة الأنبياء. فكان صموئيل يدعى بـ"الرائي" (1 صم 9: 9). ويقول داود بوضوح "روح الرب تكلم بي" (2 صم 23: 2). وفي المزامير يقول "وروحك القدوس لا تنزعه مني" (مز 51: 11). وأيضًا "روحك الصالح يهديني في أرض البرّ (مستوية) (مز 10:143).

وكما نقرأ في سفر أخبار الأيام الثاني أن عزيا أخذ الروح القدس في زمان الملك آسا (2 أي 15: 1)، ويحزئيل في أيام يهوشفاط (2 أي 20: 14)، وزكريا آخر الذي رجم (2 أي 24: 20، 21).

ويقول عزرا "وأعطيتهم روحك الصالح لتعليمهم" (نح 9: 20).

أما عن إيليا الذي اختطف وأليشع، فهذان الملهمان صانعي العجائب، من الواضح أنهما كانا مملوئين من الروح القدس، دون أن نقول عنهما هذا.


الأنبياء يشهدون عن عطية الروح القدس


29. هكذا إذا اطلع أحد على جميع كتب الأنبياء الاثني عشر وغيرهم فسيجد شهادات كثيرة بخصوص الروح القدس.

فيقول ميخا في شخص الله: "سأصنع قوة بواسطة روح الرب"(16).

ويوئيل يصرخ: "ويكون بعد ذلك -يقول الرب- إني أسكب روحي على كل بشر (جسد)" (يوئيل 2: 28)...

ويقول حجي: "لأني معكم يقول رب الجنود"، "وروحي قائم في وسطكم" (حجى 2: 4، 5).

كذلك زكريا: "لكن اقبلوا كلامي وفرائضي التي أوصيت بها عبيدي الأنبياء بروحي" (زك 1: 6)، وعبارات أخرى.


الأنبياء يشهدون عن عطية الروح القدس (يتبع)


30. ويقول إشعياء بصوته العظيم: "ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة والقوة (التقوى)، ويملأه روح مخافة الرب" (إش 11: 2). مظهرًا أن الروح واحد غير منقسم لكن أنواعه متنوعة.

وأيضًا يقول: "يعقوب عبدي... وضعت روحي عليه" (إش 44: 1؛ 42: 1).

وأيضًا: "اسكب روحي على نسلك" (إش 44: 3).

وأيضًا: "والآن السيد الرب أرسلني وروحه (أرسلني)" (إش 48: 16).

وأيضًا: "أما أنا فهذا عهدي معهم قال الرب، روحي الذي عليك وكلامي الذي وضعته في فمك" (إش 49: 21)....

وفي شكايته ضد اليهود يقول: "ولكنهم تمردوا وأحزنوا روحه القدس" (إش 63: 10)، "أين الذي جعل في وسطهم روحه القدوس؟!" (إش 63: 11)

وحزقيال أيضًا: (إن كنتم لم تتعبوا بعد من الاستماع) فإنه يقول "وحل عليّ روح الرب وقال لي قل هكذا قال الرب" (حز 11: 5). لكن يجب أن تفهم الكلمات "حل عليّ" بطريقة صالحة أي تعني "بمحبة"، فكما وقع يعقوب على عنق يوسف حين وجده. هكذا أيضًا في الأناجيل حين رأى الآب المحب ابنه الذي عاد من ضلاله "تحنن وركض ووقع على عنقه وقبله" (لو 15: 20). وجاء في حزقيال "وحملني روح وجاء بي في الرؤيا بروح الله إلى أرض الكلدانيين إلى المسبيين" (حز 11: 24).

وشواهد أخرى سبق لكم أن سمعتموها في الحديث عن العماد. "وأرش عليكم ماء طاهرًا..." (حز 36: 25)، "وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم" (حز 36: 26). وأيضًا "كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب" (حز 37: 1).


الروح الذي يقدس كل الخليقة العاقلة


31. لقد اكتست روح دانيال بالحكمة، فأصبح هذا الصغير قاضيًا للشيوخ.

لقد دينت سوسنة العفيفة كزانية، ولم يكن من يدافع عنها، لأنه من يقدر أن يخلصها من الحكام (قاضيي إسرائيل الشريرين)؟! لقد سيقت إلى الموت، وتُركت للجلادين، لكن المعزي معينها كان حاضرًا. الروح الذي يقدس كل الخليقة العاقلة.

يقول الروح لدانيال اقترب إلى هنا، فمع أنك صغير، لكنك تدين الشيوخ الملوثين بخطايا الشباب، لأنه مكتوب: "أشرق الله الروح القدس على فتى صغير" (سوسنة 45).

ومع ذلك (إذ نعبر سريعًا فنقول) أُنقذت السيدة العفيفة بعبارة دانيال.

إننا نقدم هذه الشهادة إذ لا يوجد وقت للشرح.

نبوخذ نصر أيضًا عرف أن الروح القدس في دانيال، إذ يقول له: "يا بلشاصر كبير المجوس (السحرة)، من حيث إنني أعلم أن فيك روح الله القدوس" (دا 4: 9). لقد نطق بالحق ولم يكذب، لأن بالحق كان معه الروح القدس، ولم يكن كبير سحرة بل لم يكن ساحرًا، بل بالروح القدس كان حكيمًا، إذ فسّر له رؤيا التمثال التي لم يعرفها الذي رآها نفسه، إذ يقول له: أخبرني بالرؤيا التي لا أعرفها أنا الذي رأيتها (إذ رأيتها ولم أذكرها).

إنكم ترون قوة الروح القدس، فإن الأمر الذي لم يعرفه من رآه، عرفه بالروح من لم يره، وفسره.


ختام


32. بالحقيقة يسهل جدًا عليّ أن أجمع شهادات كثيرة جدًا من العهد القديم عن الروح القدس، وألقيها عليكم بتوسع أكثر، لكن لضيق الوقت، إذ هو محدد نكتفي بما أوردته من العهد القديم، وحسب مسرة الله نستمر في المقال عينه بخصوص الشهادات التي من العهد الجديد.

ليحسبكم إله السلام جميعًا مستحقين لعطاياه السمائية الروحية بربنا يسوع المسيح ومحبة الروح، الذي له المجد والقوة إلى أبد الأبد. آمين.

Mary Naeem 22 - 11 - 2022 01:49 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

القديس كيرلس الأورشليمي




الروح القدس


المقال السابع عشر (تبع) الروح القدس




"فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة" (1 كو 12: 8).


الروح القدس في العهد الجديد


1. في المقال السابق قدمت لكم يا أحبائي المستمعين قدر ما استطعت نصيبًا قليلًا من الشهادات الخاصة بالروح القدس. وفي هذه الفرصة أواصل بمسرة الله معالجة الشهادات الباقية من العهد الجديد قدر ما أستطيع. وإذ التزمت بالحدود اللازمة لانتباهكم، قامعًا اشتياقنا في المقال السابق، فإنني الآن أيضًا ألتزم بالحديث عن نصيبٍ قليلٍ فقط مما تبقى (لأنه لا يشبع الإنسان من الحديث عن الروح القدس).

إنني أعترف الآن كما سابقًا أيضًا بأنني أُبتلع من كثرة الأمور المكتوبة. والآن أيضًا لن أستخدم حذاقة إنسانية، لأن هذا غير مفيد، إنما اعتمد على ما ورد في الأسفار المقدسة، إذ هذه أكثر الطرق أمانًا. وكما يقول المطوّب الرسول بولس: "التي نتكلم بها أيضًا، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات" (1 كو 2: 13). فإننا أشبه بالمسافرين أو المُبحرين، الذين لهم هدف واحد لرحلة طويلة جدًا، فمع أنهم يتعجلون مشتاقين للوصول، لكنهم بسبب الضعف البشري محتاجون إلى الاستراحة في الطريق في مدن ومواني مختلفة.


الروح القدس هو واحد


2. لذلك فبالرغم من أن مقالًاتنا عن الروح القدس منفصلة، لكن هو غير منقسم بل واحد بنفسه لا غير. فكما تكلمنا عن الآب وعلمنا مرة أنه العلة الوحيدة، ومرة أخرى أنه يدعى "الآب" أو القادر على كل شيء، ومرة أخرى أنه خالق العالم، لكن انقسام المقالات لا يصنع انقسامًا في الإيمان بموضوع تعبدنا، بل هو واحد وما زال واحدًا. كذلك عندما تعلمنا في الوعظ أن ابن الله الوحيد من جهة لاهوته، وتارة على ناسوته، مقسمين التعاليم الخاصة بمخلصنا يسوع المسيح في محاضرات كثيرة، ومع ذلك فنحن نكرز بإيمان واحد غير منقسم من جهته. هكذا الآن فمع أن المقالات عن الروح القدس منفصلة لكننا نكرز بإيمان واحد غير منقسم من جهته، لأنه هو الروح الواحد بعينه الذي "يقسم مواهبه لكل واحد بمفرده كما يشاء"، ويبقى هو غير منقسم. لأن "المعزي" ليس غير الروح القدس بل هو واحد بنفسه مدعو بأسماء متعددة، الذي يعيش ويبقى ويتكلم ويعمل، وأيضًا هو مقدِّس كل الطبائع العاقلة التي خلقها الله خلال المسيح، أي الملائكة والناس.


نؤمن بالروح القدس الواحد


3. ولكن لئلا يظن أحد عن جهل أن هذه الأسماء العديدة للروح القدس تعني أرواحًا عديدة وليس روحًا واحدًا بذاته، الكائن وحده، لذلك فإن الكنيسة الجامعة بصّرتكم من قبل وسلمت إليكم في قانون الإيمان أنه "نؤمن بالروح القدس الواحد المعزي، الناطق في الأنبياء"، حتى يمكنكم أن تعرفوا أنه مع كثرة أسمائه لكنه الروح القدس الواحد وحده، وسنعيد على مسامعكم بعض هذه الأسماء العديدة.


أسماء الروح القدس


4. إنه يدعى "الروح" حسبما قُرأ عليكم حالًا من الكتاب المقدس: "لأنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة" (1 كو 12: 28). ويُدعى "روح الحق" كقول المخلص: "وأما متى جاء ذاك روح الحق" (يو 16: 13). ويُدعى أيضًا "المعزي" كقوله: "لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي" (يو 16: 7). أما كونه واحدًا لا غير بالرغم من دعوته بألقاب كثيرة فهذا يظهر من الآتي:

إن الروح القدس والمعزي هما واحد كما تعلن العبارة: "وأمّا المعزي الروح القدس" (يو 14: 26). وأن المعزي هو نفسه روح الحق كما يظهر من القول: "فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق" (يو 14: 26، 27)... إنه يُدعى روح الله كما كُتب: "ورأيت روح الله نازلًا" (يو 1: 32). وأيضًا: "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رو 8: 14). أيضًا يُدعى روح الآب كما يقول المخلص: "لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت 10: 20). وأيضًا يقول بولس: "بسبب هذا أحني ركبتيّ للآب... لكي يعطيكم أن تتأيدوا بالقوة بروحه" (أف 3: 14-16). يدعى أيضًا روح الرب كقول بطرس: "ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب؟!" (أع 5: 9) يُدعى روح الله والمسيح كما يكتب بولس: "وأمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكنًا فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له" (رو 8: 9). يُدعى روح ابن الله كما هو مكتوب "بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه" (غل 4: 6). يُدعى أيضًا روح المسيح كما هو مكتوب: "أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح فيهم" (1 بط 1: 11). وأيضًا: "بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح" (في 1: 19).


ألقاب أخرى للروح القدس


5. إنك تجد ألقابًا أخرى كثيرة للروح القدس بجانب هذه. فهو يُدعى "روح القداسة" كما هو مكتوب: "حسب روح القداسة" (رو 1: 4). ويُدعى "روح التبنّي" كما يقول بولس: "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبنّي الذي به نصرخ أيها الآب أبا" (رو8: 15). ويُدعى "روح الموعد" كما يقول بولس: "الذي فيه أيضًا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس" (أف 1: 13). ويُدعى "روح الإعلان" كما هو مكتوب: "كي يعطيكم روح الحكمة والإعلان في معرفته" (أف 1: 17). ويُدعى "روح النعمة" كما يقول أيضًا: "ازدرى بروح النعمة" (عب 10: 29).

لقد دُعيَ بألقاب كثيرة على هذا النمط. وقد سمعت في المقال السابق أنه يُدعى في المزامير بـ"الروح الصالح"(1)، وفي مرة أخرى "روح الرئاسة" (مز 110: 12 LXX). وفي إشعياء "روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب" (إش 11: 2). من خلال عبارات الكتاب المقدس السابق ورودها أو التي نقتبسها الآن يظهر أنه وإن كانت ألقاب الروح القدس متنوعة لكنه واحد، حيّ كائن ودائمًا حال مع الآب والابن...

إنني أطلب إليكم أن تتذكروا ما أخبرتكم به أخيرًا، وأن تعرفوا بوضوح أنه ليس هناك روح في الشريعة والأنبياء وآخر غيره في الأناجيل والرسل، بل هو روح واحد بعينه هو الروح القدس الذي في العهد القديم والجديد ينطق بالأسفار الإلهية"(2).


الروح القدس وتجسد الكلمة


6. إنه الروح القدس الذي حلَ على العذراء القديسة مريم، لأنه حيث أن من حُبل به هو المسيح الابن الوحيد، لذلك فإن قوة العليّ تظللها، والروح القدس يحل عليها (لو 1: 35) ويقدسها، حتى تقدر أن تحمل ذاك الذي به كان كل شيء (يو 1: 3).

إنني لست محتاجًا إلى كلمات كثيرة لأعلمك أن الميلاد كان بغير دنس أو فساد، إذ قد سبق أن تعلمت هذا. إنه جبرائيل الذي قال لها: "أنا (مجرد) رسول لما يحدث، لكن ليس لي نصيب في العمل. فمع كوني رئيس ملائكة لكنني أعرف مكاني، ومع إنني بفرحٍ أعطيكِ السلام قوة العلي تظللك، لذلك المولود منك القدوس يُدعى ابن الله" (لو 1: 35).


الروح القدس يعمل في أليصابات


7. عمل الروح القدس في أليصابات، فإنه لا يعرف فقط العذارى بل والمتزوجات إذ يجعل زواجهن شرعيًا. "وامتلأت أليصابات من الروح القدس" (لو 1: 43) وتنبأت، فقالت الأم النبيلة عن ربها: "فمن أين لي أن تأتي أم ربي إليّ"؟! (لو 1: 43)، إذ حسبت أليصابات نفسها مطوّبة. وإذ امتلأ زكريا والد يوحنا من الروح القدس تنبأ (لو 1: 67) محدثًا عن أمورٍ صالحةٍ يفعلها الابن الوحيد، وأن يكون يوحنا سابقًا نذيرًا له (لو 1: 76) خلال العماد.

بالروح القدس أيضًا أُعلن لسمعان البار أن لا يرى الموت قبل أن يعاين الرب المسيح (لو 2: 26-35)، وحمله على ذراعيه وشهد له بوضوح في الهيكل.


الروح القدس في يوحنا المعمدان


8. وأيضًا يوحنا المعمدان امتلأ من الروح القدس وهو في أحشاء أمه(3)، لكي يتقدس، فيعمد الرب، لا أن يهب الروح، بل لكي يكرز بالبشارة المفرحة التي للرب واهب الروح القدس. إذ يقول: "أنا عمدتكم بالماء للتوبة. وأمّا الذي يأتي بعدي فهو يعمدكم بالروح القدس ونار" (مت 3: 11).

لماذا يعمد بالنار؟ لأن الروح القدس كان في ألسنة نارية، هذا الذي قال عنه الرب بفرحٍ: "جئت لأُلقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!" (لو 12: 49)


الروح القدس وعماد الرب


9. نزل الروح القدس هذا عندما تعمد الرب حتى لا تختفي كرامة الذي يعتمد، وكما قال يوحنا: "الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي الذي تري الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس" (يو 1: 33).

لكن انظروا ماذا يقول الإنجيل؟ "السماوات انفتحت". انفتحت من أجل كرامة الذي نزل. إذ يقول: "السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا (مضيئًا) عليه" (مت 3: 16)... إنه كان لائقًا -كما فسر الرب- أن يكون أول ثمار وبكور الروح القدس من جهة الوعد بالعماد أن يتحقق أولًا في شخص المخلص واهب النعمة ذاتها.

وربما نزل على شكل حمامة -كما يقول البعض- لكي يعلن أنه على مثل الحمامة من جهة أنها نقية وبريئة وطاهرة، كما أنها تعين صغرها الذين تلدهم... كذلك تحمل بطريقة رمزية ما سبق أن أخبرت به، وهو أن المسيح يُظهر في منظر عينيه، إذ تصرخ (النفس) في نشيد الأناشيد بخصوص العريس قائلة: "عيناه كالحمام على مجاري المياه" (نش 5: 12).


حمامة نوح رمز لهذه الحمامة


10. هذه الحمامة كانت لها حمامة نوح رمزًا من جانبٍ معينٍ. لأنه كما في عهده جاء الخلاص وبداية عهد جديد بواسطة الخشب والماء، وعادت إليه الحمامة بغصن الزيتون، هكذا يقولون إن الروح القدس نزل على نوح الحقيقي واهب الميلاد الجديد الذي يجمع بين جدران الأمم وحدة واحدة، إذ كانت أنواع الحيوانات المختلفة التي كانت بالفلك رمزًا. هذا الذي بمجيئه صارت الذئاب الروحية ترعى مع الحملان، وفي كنيسته الثور والأسد والذئب يقتادون في مرعى واحد كما نرى في أيامنا هذه، حيث اقتاد رجال الكنيسة حكام العالم وعلّموهم.

لذلك، كما يفسر البعض جاءت الحمامة الروحية في وقت عماده لكي يظهر أنه هو الذي يخلص المؤمنين بواسطة خشبة الصليب في الماء، واهبًا خلاصًا خلال موته.


حديث المسيح عن الروح القدس


11. هذه الأمور قد نعود فنوضحها فيما بعد، لكنه يلزمنا الآن أن نستمع إلى كلمات المخلص نفسه بخصوص الروح القدس. إنه يقول: "إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو 3: 5). هذه النعمة هي من الآب، كما يظهر من قوله: "فكم بالأحرى الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه؟!" (لو 11: 13)

يلزمنا أن نعبد الله في الروح، إذ يقول: "لكن تأتي الساعة وهي الآن حين الساجدون (الحقيقيون) يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو 4: 23-24). وأيضًا: "إن كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشياطين" (مت 12: 28). وبعد ذلك يقول للحال: "لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يُغفر للناس. وأمّا التجديف على الروح فلن يُغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي" (مت 12: 31، 32). وأيضًا يقول: "وأنا أطلب من الآب فسيعطيكم معزيًا آخر يمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأمّا أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" (يو 14: 16). ويقول: "بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو 14: 25). ويقول: "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي" (يو 15: 26).

ويقول المخلص أيضًا: "لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي" (يو 16: 7)... ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى برّ وعلى دينونة" (يو 16: 8). وبعد ذلك يقول: "إن لي أمورًا كثيرة لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب فهو لي. لهذا قلت يأخذ مما لي ويخبركم" (يو 16: 12-15).


الآب واهب الروح


12. منح الرب تلاميذه شركة الروح إذ مكتوب: "ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت" (يو 20: 13).

هذه هي المرة الثانية التي فيها نفخ على الإنسان... ليتم الكتاب: "وصعد نافخًا في وجهك، ومخلصًا إيّاك من الحزن" (نا 2: 1 LXX). لكن متى صعد؟ إنه صعد من الجحيم كما يروى لنا الإنجيل، أنه بعد قيامته نفخ فيهم، و بالرغم من أنه وهب لهم في ذلك الوقت نعمته، لكنه يهب بسخاء بأكثر غزارة (فيما بعد)، إذ قال لهم: أنا مستعد أن أعطيها لكم من الآن، لكن الإناء لا يقدر أن يمسك بها. لكن بعد حين تتقبلون نعمة عظيمة هكذا، حيث يمكنكم أن تحتملوها. انظروا إلى قدام قليلًا. "أقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي" (لو 24: 39).

الآن اقبلوها جزئيًا (ليس لأنها تُجزأ، لكن بسبب ضعفكم) بعد ذلك تلبسونها في كمالها. لأن من يقبل شيئًا، غالبًا ما يملك العطية جزئيًا، أما من يلبس فيلتحف بثوبه تمامًا.

إنه يقول: لا تخافوا أسلحة إبليس وسهامه، فإنكم تحملون قوة الروح القدس.

لكن تذكر ما قد قيل أخيرًا إن الروح القدس لا ينقسم، لكن النعمة التي تُعطى بواسطته (تكون جزئية قدر احتمالنا).


حلول الروح القدس في يوم البنطقستي


13. لذلك صعد يسوع إلى السماوات وتمم الوعد، إذ قال لهم: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر" (يو 14: 16). لهذا كانوا جالسين متطلعين إلى مجيء الروح القدس، وإذ حل يوم البنطقستي أيضًا في مدينة أورشليم هذه... نزل الروح القدس من السماء، الذي هو حارس الكنيسة ومقدسها، ومدبر الأرواح، ضابط العواصف الثائرة، الذي يرد الضالين إلى الحق ويحكم المقاتلين ويكلل المنتصرين.


عمل الروح القدس الناري في النفس


14. نزل لكي يُلبس الرسل بالقوة ويعمدهم، إذ يقول: "ستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بقليل" (أع 1: 5). هذه النعمة لم تكن جزئية، بل هي قوته في كمالها، لأنه كما أن الذي يغطس في المياه ويعتمد تغمره المياه من كل جانب، هكذا هم اعتمدوا بالروح القدس بالكمال...

ولماذا تتعجب؟! خذ مثالًا واقعيًا وإن كان فقيرًا وعامًا، لكنه نافع للبسطاء. إن كانت النار تعبر خلال قطعة حديد، فتجعلها كلها نارًا، هكذا من كان باردًا صار محترقًا، ومن كان أسود صار لامعًا، فإن كانت النار التي هي جسم هكذا تخترق الحديد وتعمل فيه بغير عائقٍ وهو جسم أيضًا، فلماذا تتعجب من الروح القدس أن يخترق أعماق النفس الداخلية؟!


حلول الروح القدس كما من هبوب ريح عاصفة



15. ولئلا يجهل الناس عظمة العطية القديرة النازلة عليهم، لذلك كان الصوت مثل أبواق سمائية، إذ "صار بغتة من السماء كما من هبوب ريح عاصفة" (أع 2: 2)، مشيرًا إلى حلول ذاك الذي يهب قوة للبشر ليتمتعوا بملكوت الله بقوة، فترى أعينهم الألسنة النارية، وتسمع آذانهم الصوت. "وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين"، إذ صار البيت إناءً للماء الروحي وجلس التلاميذ فيه، امتلأ البيت كله. وبهذا اعتمدوا تمامًا حسب الوعد ولبست النفس والجسد ثوب الخلاص الإلهي.

"وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نارٍ، واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس". لقد اشتركوا في النار، لا للاحتراق بل النار المخلصة، النار التي تحرق أشواك الخطية بل تهب بهاءً للنفس. هذه تحل عليكم الآن وتنزع خطاياكم وتحرقها كالشوك، فتضيء نفوسكم الثمينة، وتنالون نعمة... لقد استقرت على الرسل مثل ألسنة نارية حتى تتوجهم بتيجان روحية جديدة على رؤوسهم. في القديم كان هناك سيف ناري على أبواب الفردوس، والآن لسان ناري جالب الخلاص يرد العطية.


يتكلمون بألسنة الأمم الحقيقية


16. "وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا" (أع 2: 4). بطرس الجليلي أو أندراوس تكلم بالفارسية أو المديانية. يوحنا وبقية الرسل تكلموا بكل ألسنة هؤلاء الأمميين الأصل. لأنه ليس فقط في أيامنا نحن بدأت هذه الجماعات الغريبة أن تجتمع، بل منذ ذلك الحين كانوا يجتمعون هنا من كل الكون. أي معلم يمكن أن يكون هكذا عظيمًا حتى يعلم البشر جميعًا في وقت واحد أمورًا قد لم يكونوا قد تعلموها؟!

يحتاج الإنسان إلى سنوات كثيرة ليتعلم أصول النحو وفنون اللغة حتى يتحدث اليونانية وحدها حسنًا، لكنهم تعلموا جميعًا اللغات الحسنة. قد ينجح الخطيب في التحدث حسنًا، لكن رجل النحو أحيانًا لا يقدر أن يتحدث حسنًا، وصاحب النحو الماهر قد يتحدث أحيانًا لكنه يجهل مواضيع الفلسفة. أما الروح القدس فعلمهم عدة لغات في وقت واحد لم يعرفوها قط طيلة حياتهم. إنها حكمة واسعة. إنها قوة إلهية!

يا للتناقض بين جهلهم الشديد في الماضي وما حدث لهم فجأة، إذ مارسوا هذه اللغات بصورة كاملة ومتنوعة لم يعتادوا عليها.


وسيلة السقوط صارت وسيلة الشفاء


17. إن جماهير المستمعين قد ارتبكت. وهذه هي المرة الثانية للارتباك. الأول حدث كأمر شرير في بابل، إذ كان ارتباك اللغة بقصد الانقسام بسبب أفكارهم المعادية لله، أما هنا فقد انصلحت الأذهان واتحدت بقصد صالح. وسيلة السقوط صارت وسيلة الشفاء!

لماذا تتعجبون قائلين "كيف نسمعهم يتكلمون بألسنتنا؟" (أع 2: 8) لا تتعجب إن كنت جاهلًا ذلك، فإنه حتى نيقوديموس كان جاهلًا عن مجيء الروح، وقد قيل له: "الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب" (يو 3: 8). فإنك وإن سمعت صوته لا تعرف من أين يأتي، فكيف نوضحه هو نفسه في جوهره؟!


خمر جديدة هي نعمة العهد الجديد!


18. لكن آخرين سخروا قائلين "إنهم سكارى" (أع 2: 13). في استهزائهم تكلموا بالحق، لأنهم في الحقيقة كانت الخمر جديدة هي نعمة العهد الجديد. هذا الخمر الجديد هو من الكرمة الروحية... كانت قبلًا تحمل هذا الثمر في الأنبياء، والآن قد أنبتت برعمًا في العهد الجديد.

فإنه حتى في الأمور الحسّية نجد الكرمة تبقى كما هي، لكنها تحمل ثمارًا جديدة في مواسمها، هكذا الروح هو بنفسه يستمر كما عمل في الأنبياء والآن يعمل أعمالًا جديدة وعجيبة. فبالرغم من أن نعمته قد تقدمت للآباء أيضًا، لكن هنا تأتي بغزارة، لأنه كان للناس فقط (نصيب) شركة من الروح القدس، أما الآن فاعتمدوا فيه تمامًا.


إنهم سكارى، لكن ليس كما تظنون


19. لكن بطرس الذي له الروح القدس عرف ما قد ناله فيقول (موبخًا): يا رجال إسرائيل أنتم الذين يبشركم يوئيل لكنكم لا تعرفون الأمور المكتوبة "لأن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون" (أع 2: 15). إنهم سكارى، لكن ليس كما تظنون، بل حسبما هو مكتوب: "يسكرون بدسم بيتك، ويشربون بملذاتك" (مز 36: 8). إنهم سكارى بمسكرٍ سام مميت للخطية وواهب حياة للقلب. مسكر مضاد للسُكر الخاص بالجسد. لأن هذا الأخير يسبب نسيان حتى بالنسبة لما كان الإنسان يعرفه، أما هذا فيمنح معرفة حتى لما لم يكن يعرفه الإنسان.

إنهم سكارى لأنهم شربوا خمر الكرمة الروحية القائلة: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو 15: 5). لكن إن كنتم لا تقتنعون، افهموا ما أخبركم به من ذات الوقت الذي نحن فيه، إنها الساعة الثالثة من النهار (أع 2: 25، 15).

فكما يروي لنا مرقس قد صُلب في الساعة الثالثة، والآن الساعة الثالثة يرسل لنا فيها نعمته. لأن نعمته ليست شيئًا بخلاف نعمة الروح. إنما ذاك الذي صُلب وقتئذ هو أيضًا يهب الموعد... وإن أردتم شهادة بذلك أصغوا إلى ما قيل بيوئيل النبي: "يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي" (أع 2: 18)، (كلمة "أسكب" تحمل غنى العطية، إذ لا يُعطي الله روحه بمقياس...) "أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم"، وبعد ذلك يقول: "وعلى عبيدي أيضًا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام، فيتنبأون" (أع 2: 19).

لا يبالي الروح القدس بالأشخاص إذ لا يطلب كرامات بل تقوى الروح. لا ينتفخ الأغنياء ولا ينخذل الفقراء، بل ليستعد كل واحد لتقبل النعمة السماوية.


الروح القدس في العهد الجديد


20. لقد تكلمنا اليوم كثيرًا، ولعلكم قد قلقتم من الاستماع، لكن بقي أن أقول شيئًا. حقًا أن التعليم بخصوص الروح القدس يحتاج إلى مقال ثالث، بل إلى مقالات أخرى، لكن يليق بنا أن يكون لنا معرفة بكل النقط.

وإذ اقترب عيد الفصح المقدس لهذا نطيل مقالنا اليوم، وإن كان لا يكفي المجال لسرد كل شهادات العهد الجديد كما ينبغي... إنما نجمع القليل منها كما تجمع زهور قليلة من مروج واسعة على سبيل المماثلة.


الروح القدس يعمل في جميع الرسل معًا


21. لأنه في قوة الروح القدس بإرادة الآب والابن وقف بطرس مع الأحد عشر ورفعوا أصواتهم... وأسَروا في الشبكة الروحية لكلماته حوالي 3000 نسمة.

عظيمة هكذا هذه النعمة التي كانت تعمل في جميع الرسل معًا، حتى أنه من اليهود صالبي المسيح، آمن هذا العدد العظيم، واعتمدوا باسم المسيح "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والصلوات" (أع 2: 42).

وأيضًا بنفس القوة التي للروح القدس "صعد بطرس ويوحنا معًا إلى الهيكل في ساعة الصلاة التاسعة" (أع 3: 1)، وباسم يسوع المسيح شفيا الرجل الذي عند باب الجميل الأعرج من بطن أمه منذ أربعين عامًا، فتحقق ما قيل: "حينئذ يقفز الأعرج كالأيل" (إش 35: 6).

وهكذا إذ أسَرا في شبكة تعليمهما الروحية خمسة آلاف مؤمنًا في وقت واحد، وقفا ضد رئيس الكهنة وقادة الشعب الضالين ليس بحكمتهما الخاصة إذ "أنهما عديما العلم وعاميان" (أع 4: 13)، بل بقدرة الروح القدس القدير، إذ مكتوب حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس (أع 4: 8).

هكذا أيضًا عظيمة هي نعمة الروح القدس التي عملت بواسطة الاثني عشر رسولًا في الذين آمنوا حتى أنهم كانوا "بقلبٍ واحدٍ ونفسٍ واحدةٍ" (أع 4: 32)، وكان كل ما لهم مشتركًا، وأصحاب المقتنيات يبيعونها ويقدمون أثمانها، ولم يكن أحد محتاجًا إلى شيءٍ، بينما حاول حنانيا وسفيرا أن يكذبا على الروح فسقطا تحت العقاب المناسب لهما.


عجائب بقوة الروح القدس


22. "وجرت على أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة في الشعب" (أع 5: 12). هكذا عظيمة هي النعمة الروحية التي ظللت الرسل، حتى وهم ودعاء كانوا مُرعِبين. "وأمّا الآخرون فلم يكن أحد منهم يجسر أن يلتصق بهم، لكن كان الشعب يعظمهم. وكان مؤمنون ينضمون للرب، جماهير من رجال ونساء" (أع 5: 13-14). وامتلأ الطريق بالمرضى على أسرَّتهم وفراشهم، "حتى إذا جاء بطرس يخيم ولو ظلّه على أحدٍ منهم، واجتمع جمهور المدن المحيطة إلى أورشليم"، هذه المدينة المقدسة، "حاملين مرضى ومعذبين من أرواح نجسة وكانوا يبرأون جميعهم" (أع 5: 51، 16) بقوة الروح القدس.


الروح القدس يعضد الرسل أمام الحكام


23. وأيضًا سجن الاثنا عشر رسولًا بأمر رئيس الكهنة بسبب التبشير بالمسيح، وبأعجوبة خلصوا منه في الليل بواسطة ملاك، فاُستُدعوا من الهيكل في المجمع للحكم، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. وفي خوف انتهروهم بسبب حديثهم عن المسيح، فأجابوا أن الله يعطيهم روحه لطاعته. وعندما جلدوهم ذهبوا فرحين، ولم يكفوا عن التعليم والتبشير بيسوع أنه المسيح (أع 5: 12).


الروح القدس يعمل في الشمامسة


24. ولم تكن نعمة الروح القدس عاملة في الاثني عشر رسولًا فحسب، بل وفي بكر أبناء الكنيسة... أقصد السبعة شمامسة الذين اُختيروا. وكما هو مكتوب أنهم كانوا "مملوءين من الروح القدس وحكمة" (أع 6: 3). هؤلاء الذين كان منهم استفانوس الذي بحق دُعي هكذا، أول الشهداء، إنسان "كان مملوءًا إيمانا وقوة (من الروح القدس)، كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب" (أع 6: 8)، ويفحم المجادلين له. إنهم "لم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به" (أع 6: 10). وعندما اتهموه بمكرٍ، وأتوا به إلى المجمع كان متلألئًا بضياء ملائكي، ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك... وإذ بحكمته دافع مفحمًا اليهود الذين هم "قساة القلب وغير المختونين بالقلوب والآذان، دائمًا يقاومون الروح القدس" (أع 7: 51).

"نظر السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله" (أع 7: 56). لقد رآه لا بقوته الذاتية، بل كما يقول الكتاب المقدس: "وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين الله" (أع 7: 55).


الروح القدس يعمل في فيلبس


25. في قوة الروح القدس أيضًا فيلبس في وقت ما في اسم المسيح كان يُخرج الأرواح النجسة، التي كانت تخرج صارخة بصوت عظيم، وشفى المفلوجين والعرج وآمن جمع كثير بالمسيح (راجع أع 8)...

ثم إن ملاك الرب دعا فيلبس في الطريق من أجل الإثيوبي الخصي التقي جدًا، إذ سمع بوضوح الروح يقول له "تقدم ورافق هذه المركبة" (أع 8: 29). لقد علَّم الخصي، وعمّده، فذهب إلى إثيوبيا كرسول المسيح، كما هو مكتوب: "إثيوبيا تبسط يدها" (مز 31:68). واختطف الملاك فيلبس فصار يبشر بالإنجيل في المدن بالتتابع.


الروح القدس يعمل في بولس


26. أيضًا بهذا الروح القدس امتلأ بولس بعدما دعاه ربنا يسوع المسيح. وها هو حنانيا البار يشهد لما نقول، إذ في دمشق قال له: "قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس" (أع 9: 17). وللوقت تحوّل عمى بولس إلى حدة نظر بعمل الروح القدير، إذ نال نعمة ختمه في نفسه، جعلته إناءً مختارًا لحمل اسم الرب... فارتد المضطهد السابق إلى سفيرٍ وخادمٍ صالحٍ، "حتى أنه من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكمل التبشير بالإنجيل" (راجع رو 15: 19). وعلَّم في روما الإمبريالية، وحمل غيرة تبشيره إلى أسبانيا محتملًا معارك (روحية) بلا حصر وصانعًا آيات وعجائب...


الروح القدس يعمل في بطرس


27. بنفس قوة الروح أيضًا بطرس شفى إينياس المفلوج باسم المسيح في لدة التي هي الآن ذيوسبلس Diospolis. وفي يافا أقام طابيثا من الموت. وهو على السطح رأى السماء مفتوحة، وبواسطة الإناء النازل عليه مثل ملاءة مملوءة من حيوانات من كل شكل ونوع، تعلم بوضوح ألاّ يدعو أحدًا نجسًا أو دنسًا، حتى وإن كان يونانيًا (أع 10: 11-16 أمميًا أو وثنيًا). وعندما أُرسل إلى كرنيليوس سمع بوضوح الروح القدس نفسه يقول: "هوذا (ثلاثة) رجال يطلبونك، قم وأنزل وأذهب معهم ،غير مرتابٍ في شيءٍ، لأني أنا قد أرسلتهم" (أع 10: 19، 20).

ولكن يظهر بوضوح أن الذين من الأمم يؤمنون أيضًا، وتعاد لهم شركة نعمة الروح القدس، لذلك عندما ذهب بطرس إلى قيصرية وكان يعلم بالأمور المختصة بالمسيح يقول الكتاب عن كرنيليوس والذين معه: "فبينما بطرس يتكلم بهذه الأمور حلَ الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة. فاندهش المؤمنون الذين من أهل الختان، كل من جاء مع بطرس، بأن موهبة الروح القدس قد انسكبت على الأمم أيضًا" (أع 10: 44، 45).


الروح القدس وهب المؤمنين اسم "مسيحيين"


28. وفي أنطاكية أيضًا، المدينة المشهورة جدًا في سوريا، عندما كان التبشيرمنتشرًا، أرسل برنابا إلى هناك ليساعد في العمل إذ "كان رجلًا صالحًا وممتلئًا من الروح القدس والإيمان" (أع 11: 24)، وإذ كان محصول المؤمنين بالمسيح كبيرًا أحضروا بولس من طرطوس إلى أنطاكية ليعينه في جهاده. وإذ تعلم جمع غفير بواسطتهما إذ اجتمعا في الكنيسة "ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولًا" (أع 11: 26). يبدو لي أن الروح القدس إذ وهب المؤمنين الاسم الجديد... وإذ سكب الله روحه بغزارة في أنطاكية نجد هناك أنبياء ومعلمين من بينهم "واحد منهم اسمه أغابوس" (أع 11: 28).

"وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" (أع 13: 2)، وبعدما وضعوا الأيدي عليهما أُرسلا بواسطة الروح القدس.

من الواضح إذن الروح الذي يتكلم ويرسل هو روح حي، كائن عامل كما قلنا.


أقام الروح القدس عهدًا جديدًا في الكنيسة


29. هذا الروح القدس في وحدة مع الآب والابن أقام عهدًا جديدًا في الكنيسة الجامعة، محررًا إيّانا من أثقال الناموس... اقصد ما هو دنس وما هو ليس دنسًا، واللحوم والسبوت والشهور الجديدة، والختان والنضحات والذبائح (الدموية). الأمور التي تُعطي إلى زمان، وهي ظل للأمور العتيدة (عب 10: 1)، لكن متى جاء الحق نُزعت هذه بحق.

لأنه عندما أرسل بولس وبرنابا بسبب السؤال الذي ثار في أنطاكية بواسطة القائلين بضرورة اختتانهم وحفظ عوائد موسى، فإن الرسل الذين كانوا هنا في أورشليم حَرَّروا كل العالم من كل الملاحظات الرمزية والناموسية بأمر كتابي، لكنهم لم ينسبوا الحق إلى أنفسهم في أمرٍ عظيمٍ كهذا، بل أرسلوا أمرًا مكتوبًا، جاء فيه "لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلًا أكثر غير هذه الأشياء الواجبة، أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم والمخنوق والزنا" (أع 15: 28-29)، مظهرين بوضوح بما كتبوه أنه بالرغم من أن الكتابة كانت بأيدي الرسل البشريين، لكن القانون صادر من الروح القدس، هذا الذي أخذ به بولس وبرنابا ثبتاه في العالم كله.


الروح القدس يقود بولس


30. والآن إذ بلغت هذا الحد في مقالي أطلب من محبتكم الاهتمام، أو بالأحرى أطلب من الروح الساكن في بولس بسبب عجزي عن سرد كل شيء على مسامعكم بسبب ضعفي أو قلق المستمعين. لأنه بأية عبارات لائقة أتحدث عن الأعمال العجيبة التي حدثت بواسطة الروح القدس في اسم المسيح؟ هذه الأعمال التي تمت في قبرص... وسيليكية وفريجية وغلاطية وميسيا ومكدونية؟! أو ما حدث في فيلبي... وتسالونيكي، أو الخطاب الذي ألقي في أريوباغوس وسط الأثينيين، أو التعاليم التي سردت في كورنثوس وفي كل آسيا؟!...

عظيمة هي النعمة الروحية التي كانت عليهم (أهل أفسس) حتى أن الأمراض كانت تًشفى والأرواح الشريرة تخرج، ليس فقط بلمسة، بل بأخذ العصائب والمناديل التي على جسده (أع 19: 12). وأخيرًا أولئك الذين مارسوا فنون السحر، إذ أحضروا كتبهم وأحرقوها أمام كل الناس (أع 19: 19).


الروح القدس يقود بولس (يتبع)


31. إنني أعبر على الأعمال التي حدثت في ترواس لأفتيخوس الذي غلبه النوم فسقط من الدور الثالث، وحُمل ميتًا، فأعاده إلى الحياة (أع 20: 9-12).

إنني أعبر أيضًا على النبوات التي أعلنها لقسوس أفسس الذين دعاهم إليه في ميليتس، محدثًا إيّاهم بصراحة قائلًا: "غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلًا: (أع 20: 23)... فبقوله "كل مدينة" يعلن بولس الرسول أن العجائب التي تمت على يديه(4) في كل مدينة هي من عمل قوة الروح القدس بإرادة الله في اسم المسيح الذي يتكلم فيه.

بقوة هذا الروح القدس كان الرسول نفسه يسرع إلى هذه المدينة المقدسة أورشليم. وبالرغم من أن أغابوس أنبأ له بالروح بما سيحل به، لكنه في ثقة تكلم مع الشعب، معلمًا بالأمور المختصة بالمسيح.

وعندما أُحضر إلى قيصرية ووُجد بين محاكمات، تارة أمام فيلكس، وأخرى أمام فيستوس الوالي والملك أغريباس، تلقى بولس الرسول من الروح القدس قوة عظيمة، وهكذا غلب في حكمة، حتى أن أغريباس نفسه ملك اليهود قال: "غالبًا ما تقنعني أن أصير مسيحيًا"(5).

وفي جزيرة مالطة وهبه الروح القدس ألاّ يصيبه ضرر عندما لدغته أفعى، مقدمًا شفاءات للمرضى.

هذا الروح القدس قاد المُضطهِد القديم كرسول للمسيح حتى إلى روما الإمبريالية، وهناك أقنع يهودًا كثيرين ليؤمنوا بالمسيح، وكان يحاججهم قائلًا بوضوح: "حسنًا كلّم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي (عنكم) قائلًا..." (أع 28: 25)


بولس يشهد لعمل الروح القدس


32. أما كون بولس مملوءً من الروح القدس هو وكل رفقائه الرسل والذين آمنوا بالآب والابن والروح القدس فاسمع منه بنفسه، إذ يكتب بوضوح في رسائله قائلًا: "وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة" (1 كو 2: 4). وأيضًا: "الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون (غيرة) الروح" (2 كو 1: 22). وأيضًا "الذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11). ويكتب إلى تيموثاوس قائلًا: "احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس المعطى لنا"(6).


الروح القدس ينبئ للرسل


33. أما عن كون الروح القدس قائمًا ويحيا ويتكلم وينبئ، فهذا سبق أن تحدثت عنه قبلًا. يكتب بولس إلى تيموثاوس بوضوح: "ولكن الروح يقول صريحًا إن في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان. الارتداد الذي نراه ليس في الأيام السابقة، بل وفي أيامنا نحن إذ كثيرة ومتنوعة هي أخطاء الهراطقة.

مرة أخرى يقول بولس "الذي في أجيال أُخر لم يُعرف به بنو البشر، كما قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه في الروح" (أف 3: 5).

وأيضًا: "لذلك كما يقول الروح" (عب 3: 7).

وأيضًا: "ويشهد لنا الروح القدس أيضًا" (عب 10: 15).

وأيضًا: "وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي كلمة الله" (أف 6: 17).

وأيضًا: "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح مكلمين بعضكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية" (أف 5: 18، 19).

وأيضًا: "نعمة الرب يسوع ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم" (2 كو 13: 14).


أقنوم الروح القدس


34. بكل هذه البراهين التي قدمتها وأكثر منها يُمكن أن نفهم أقنومية الروح القدس وتقديسه وقوته العاملة. لأن الوقت لا يسعفني في مقالي لو رغبت في اقتباس ما تبقى من العبارات الخاصة بالروح القدس في الأربع عشرة رسالة التي لبولس حيث يعلم فيها بكل كمال ووقار... وإنني استمد الغفران من قوة الروح القدس نفسه لما حذفناه بسبب قلة الأيام. أما أنتم أيها السامعون، فيليق بكم أن تهتموا بأكثر كمال أن تعرفوا ما تبقى خلال القراءات المختلفة في الكتاب المقدس، إذ تجتهدون لفهم هذه الأمور.

من خلال المقالات الحالية أو السابق عرضها عليكم يمكننا أن نتمسك بأكثر ثبات بالإيمان أننا "نؤمن بالله الواحد، الآب القدير، وربنا يسوع المسيح ابنه الوحيد، والروح القدس المعزي".

وبالرغم من أن الكلمة نفسها واللقب "روح" تنطبق على (الثالوث) عامة في الكتاب المقدس، إذ قيل عن الآب: "الله روح" (يو 4: 24)، كما جاء في إنجيل يوحنا وقيل عن الابن: "روح أمام وجهنا المسيح الرب" كقول إرميا النبي (راجع مرا 4: 20). وعن الروح القدس قيل: "المعزي الروح القدس" (يو 14: 25)...


اقبلوا الروح القدس بغير رياء!


35. أحذروا لئلا تكونوا مثل سيمون فتأتوا إلى مدبري العماد في رياء فلا تكون قلوبكم طالبة الحق. عملنا نحن أن نمنع هذا، وعملكم أنتم أن تحفظوا نفوسكم. إن كنتم ثابتين في الإيمان، فمباركون أنتم. وإن كنتم ساقطين في عدم الإيمان فاطرحوا عنكم كفركم واقبلوا إيمانًا كاملًا.

ففي فصل العماد، عندما تأتوا في حضرة الأساقفة أو الكهنة أو الشمامسة... اقتربوا إلى خادم العماد، ولا تفكروا في الوجه المنظور، بل تذكروا الروح القدس هذا الذي نتكلم عنه الآن. لأنه حَال، ليختم نفوسكم. إنه سيهبكم ذلك الختم الذي ترتعب منه الأرواح الشريرة، ختمًا سماويًا مقدسًا كما هو مكتوب: "الذي فيه أيضًا أنتم إذ آمنتم، خُتمتم بروح الموعد القدوس" (أف 1: 13).


يا لخطورة من يتقدم للعماد في خداع!


36. لكنه هو يمتحن النفس. إنه لا يلقي لآلئه قدام الخنزير. فإن جئت برياءٍ فإنه حتى وإن عمدك الناس لا يعمدك الروح القدس. وإن تزكَّيت بإيمان، فإن الناس يخدمون (السرّ) فيما هو منظور والروح القدس يهب ما هو غير منظور.

إنك تأتي إلى تجربة عظيمة، إلى ضيقة شديدة، فإنه في ساعة واحدة تُطرد وتكون كارثتك مرعبة. أما إن كنت مستحقًا للنعمة، فتستنير نفسك وتتقبل قوة لم تكن لك من قبل، تتقبل أسلحة مرعبة ضد الأرواح الشريرة. فإن لم تلقِ عنك أسلحتك محتفظًا بالختم على نفسك لا يقدر أي روح شرير أن يقترب إليك بل يهرب، لأن بروح الله تخرج الأرواح الشريرة.


لا تحزن روح الله القدوس


37. إن كنت تؤمن، فإنه ليس فقط تنال غفران الخطايا بل وتصنع أمورًا فوق الطاقة الإنسانية. ربما تتأهل لنعمة النبوة أيضًا. إنك تتقبل نعمة حسب قياس طاقتك لا حسب كلماتي. لأنني ربما أتكلم عن أمورٍ قليلةٍ وأنت تُوهب أمورًا أعظم، لأن للإيمان عمل عظيم للغاية.

في كل حياتك يسكن معك حارسك المعزي يعتني بك كجندي لك في خروجك ودخولك وضد أعدائك (الروحيين).

إنه يهبك عطايا النعمة من كل نوع إن كنت لا تحزنه بالخطية، إذ مكتوب "لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء" (أف 4: 3).

ماذا إذن ألا تحتفظ أيها الحبيب بالنعمة؟ تهيأ لتقبلها، ومتى تقبلتها لا تطردها عنك.


ختام


38. ليت إله الكل ذاته الذي تكلم بالروح القدس خلال الأنبياء، والذي أُرسل على رسله في يوم البنطقستي في هذا المكان، هو نفسه يرسله عليكم في هذا الوقت، وبواسطته يحفظنا نحن أيضًا لكي نتمتع ببركاته نحن جميعًا، حتى نرد إليه ثمار الروح "محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف" (غل 5: 22، 23)، في المسيح يسوع ربنا الذي له وبه ومع الروح القدس المجد للآب الآن والي الأبد وإلى أبد الأبد. آمين.

Mary Naeem 22 - 11 - 2022 01:56 PM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg

القديس كيرلس الأورشليمي






كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية

المقال الثامن عشر

"كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظامًا" (حزقيال 37).
الرجاء في القيامة أصل كل عمل صالح

1. رجاء القيامة أصل كل عملٍ صالحٍ، فانتظار المكافأة يقوي النفس للأعمال الصالحة. فكل عاملٍ مستعد أن يتحمل الآلام إذا رأى أن مكافأته قريبة. لكن إن أجهد الناس أنفسهم للاشيء، تخور قلبهم كأجسادهم أيضًا. فالجندي الذي ينتظر غنيمة مستعد للحرب، لكن لا يقدم أحد نفسه للموت من أجل ملكٍ لا يبالي بالذين يخدمونه، ولا يمنح كدهم أيّة كرامة.
هكذا كل نفس تؤمن بالقيامة تحرص بطبيعة الحال على نفسها. لكن في عدم إيمانها بالقيامة تترك نفسها للدمار. فمن يؤمن أن جسده سيبقى ليقوم ثانية يكون حريصًا على ثوبه، لا يدنسه بالزنا، لكن من لا يؤمن بذلك يسلم نفسه للزنا، ويسيء استعمال جسده، كأنه لا يخصه. فالإيمان بقيامة الأموات وصية عظيمة والتعليم بـ" الكنيسة المقدسة الجامعة" تعليم عظيم وضروري، ولو ناقضه كثيرون. فهو مع ذلك بالتأكيد أمر حق! يعارضه اليونانيون، ولا يؤمن به السامريّون، ويقاومه الهراطقة، فالنفاق بينهم مختلف، لكن الحق واحد!
مجادلات الهراطقة

2. يجادل اليونانيون والسامريون قائلين: الميت سقط، وتحول إلى ديدان، والديدان ماتت أيضًا، هكذا يصيب الجسد التلف والهلاك، فكيف يقوم ثانية؟!
السفينة الغارقة يلتهم السمك من في داخلها ويبيدهم، والسمك أيضًا يُباد! من يقاتلون الحيوانات المتوحشة تُسحق عظامهم ذاتها، ويستهلكها الأسود والدببة! النسور والغربان تتغذى بجثث الأموات الذين لم يدفنوا، ثم يطيرون مشتّتين، فمن أين إذن يُجمع الجسم ثانية؟ الدجاج الذي التهمه، بعض منها في الهند والبعض في بلاد فارس والبعض الآخر في جاسان! أيضًا أناس آخرون تلتهمهم النيران ورمادهم ينثره المطر والرياح، فمن أين إذن يُجمع الإنسان؟
العالم كله في يده

3. أيها الرجال المساكين والضعفاء، تتراءى لكم الهند بعيدة عن أرض جاسان، لكن الله الذي يمسك العالم كله في قبضة يده، كل الأشياء قريبة لديه. لا تُعزِي إذن الضعف إلى الله بسبب ضعفك أنت، لكن الأفضل أن تتكل على قوته. أليست الشمس وهي عمل صغير من أعمال الله بومضة صغيرة من شعاعها تعطي الدفء للعالم كله؟! أليس الجو الذي عمله الله يكتنف كل شيء في العالم؟ فهل الله خالق الاثنين "الشمس والجو" بعيد عن الاثنين؟
تصور خليطًا من بذور النباتات المختلفة في قبضة يدك، فهل يصعب عليك وأنت إنسان أن تعزل هذه البذور التي في يدك عن بعضها البعض وتجمعها حسب أنواعها؟ أفأنت تقدر على عزل الأشياء التي في يدك، ولا يقدر الله على عزل الأشياء التي تحتويها يده؟ ويرجعها إلى وضعها الأصلي؟ لتقدِّر ما أقول، وإن كان إنكارها كفرًا!
الله عادل

4. أرجوك أيضًا أن تصغي إلى "مبدأ العدل" وترجع إلى نفسك. تصور أن لك خدمًا كثيرين بعضهم طيب والآخر شرير. إنك تكرم الطيب، وتضرب الرديء، وإن كنت قاضيًا فإنك تكافئ البار بمدحه وتعاقب المخطئ. إذن... فهل توجد فيك العدالة أيها الإنسان الفاني، والله ملك الكل الذي لا يتغير، أليس عنده عدالة لمجازيه؟ لا! فإنكارها كفر!
فكِّر فيما أقول. إن قتلة كثيرين ماتوا في أسرتهم غير معاقبين، أين إذن عدل الله؟ فإن لم تكن هناك عدالة ومجازاة بعد هذه الدنيا فأنت تتهم الله بالإثم!
لا تستغرب لتأخير العدالة، فإنه لا يُكافأ مصارع أو يُهان حتى تنتهي المباراة، ولا يُكلل قائد المباراة الرجال أثناء كفاحهم، بل ينتظر حتى تنتهي كل المباراة، فيوزع عليهم الجوائز أو أكاليل الزهور. هكذا الله أيضًا: مادام النزاع باقيًا في هذا العالم يسعف العادلين ولو جزئيا، لكن بعدئذ يرجع لهم مكافأتهم كاملة.
لماذا يُعاقب منتهكي المقابر؟!

5. لكن إن كان بحسب تفكيرك لا تُوجد قيامة للأموات، فلماذا يُحاكم لصوص المقابر؟ لأنه إذا كان الجسم يهلك ولا تكون قيامة. تأمل فيها، فلماذا يُعاقب منتهكو المقابر؟
فأنت ترى ولو أنكرت بشفتيك أنه فيك غريزة بأنه لا غنى عن القيامة!
البذور لا تعيش إن لم تمت!

6. هل تزهر الشجرة بعد قطعها؟ وهل يزهر الإنسان بعد قطعه أيضًا؟
وهل سيبقى القمح في جرن الدرّاس بعد بذارة وحصده؟ (دون أن تُعاد زراعته). هل سيبقى الإنسان بعد حصده من هذا العالم للدرّاس؟
هل ترجع أعضاء الكرمة الصغيرة بعد قطعها وشتلها في الحياة، وتعطي ثمارًا؟! وهل الإنسان الذي لأجله تعيش كل هذه (مرة أخرى) يقع في الأرض ولا يقوم ثانية؟
أيهما أصعب، صبّ تمثال لم يوجد من قبل، أم إعادة صوغ الذي سقط بنفس شكله؟
إذن هل الله الذي خلقنا من العدم غير قادر أن يقيم هؤلاء الذين عاشوا وسقطوا؟ لكنك وأنت يوناني لا تصدق الأشياء التي كُتبت عن القيامة. إذن تأمل من الطبيعة ذاتها في هذه الأمور وافهمها مما تراه اليوم.
فمثلا يُبذر القمح أو أي نوع آخر من البذور، وإذ تسقط البذرة تموت وتتعفن وحينئذ لا تكون صالحة للأكل، لكن ما تعفّن يطلع في اخضرار، ولو كان صغيرًا عند نبتته لكنه يخرج أكثر جمالًا. لكن القمح وجد من أجلنا، لأن القمح وجميع الحبوب لم تُخلق لنفسها بل لفائدتنا. إذن هل تدب الحياة في الأشياء التي عُملت من أجلنا عند موتها ونحن الذين صُنِعت من أجلنا لا نقوم ثانية بعد موتنا؟!
أمثلة من عالم النبات وعالم الحيوان

7. في فصل شتاء كما ترى، تقف الأشجار كأنها مائتة. أين أوراق شجرة التين؟! أين عناقيد الكرمة؟! هذه تموت في الشتاء، لكنها تخضر في الربيع! وعندما يأتي إليها الأوان يرجع إليها دبيب الحياة كأنه من حالة موت.
فإذ يعلم الله عدم إيمانك يصنع قيامة سنة وراء أخرى في هذه الأشياء المنظورة، فإذ تلاحظ الأشياء غير الحيّة ولا العاقلة تؤمن بما يختص بالخليقة الحيّة العاقلة...
أنواع أخرى من الفيران الحيّة النوامة. بعد بقائها بدون حركة أثناء الشتاء ترجع في الصيف...
هل الذي يهب المخلوقات الدنيئة غير العاقلة حياة خارقة للطبيعة، أما يقدر أن يمنحنا إيّاها ذاك الذي صنعها لأجلنا؟!
القيامة والعنقاء عند اليونانيين!

8. لكن اليونانيين يطلبون قيامة أموات ظاهرة -ويقولون حتى لو قامت هذه المخلوقات فهي لم تتحلل تمامًا- ويطلبون رؤية أي مخلوق يقوم ثانية بعد اضمحلال كامل.
لقد علم الله جحود الناس، فهيأ لهذا الغرض طائرًا يدعى العنقاء، وهذا الطائر كما يكتب إكليمنضس وكما يروي كثيرون غيره... أنه يصل إلى أرض المصريين في دورة كل خمسمائة سنة، ممثلًا القيامة لا في الأماكن المهجورة لئلا يبقى حدوث السرّ غير معروفٍ، لكن خلافًا لذلك يظهر في مدينة شهيرة حتى يلمس الناس ما هو غير مُصّدق. فإنه يعمل لنفسه كفنًا من اللبان والمرّ والتوابل الأخرى، ويدخل في هذه بعد نهاية عمره ويموت تمامًا ويضمحلّ. ثم من لحم الطائر الفاسد تولد دودة، وبعد أن تكبر هذه الدودة تتحول إلى طائر.
لا تُكَذِّب هذا، لأنك ترى ميلاد النحل أيضًا على هذا الأسلوب يتولد من الديدان ومن البيضات التي هي عبارة عن سائل. أرأيت الأجنحة والعظام وقوة نشأة الطيور.
بعد ذلك تطير العنقاء المذكورة محلقة عاليًا في الهواء بعد أن تكون قد أصبحت طائرًا كبيرًا كامل النمو كالعنقاء السابقة.
إذن أتعطى قيامة من الموت لهذا المخلوق غير العاقل الذي لا يعرف صانعه، ونحن الذين نمجد الله ونحفظ وصاياه لا توهب لنا قيامة؟
لننظر إلى خلقتنا ذاتها

9. حيث أن العنقاء بعيدة وغير حقيقية، ويُكذب الناس قيامتنا، فإنني أقدم لك دليلًا على القيامة مما تراه كل يوم. منذ مائة سنة (كلنا نحن المتكلمون والسامعون) أين كنا؟!
ألا نعلم أساس مادة أجسادنا؟ ألا نعرف كيف وُلدنا من عناصر ضعيفة لا شكل لها، وبسيطة، وكيف كُوّن الإنسان الحي من شيء ضعيف وبسيط؟! وكيف أن هذا العنصر الضعيف وقد صنع جسدًا تغيّر إلى ذي بأس قوي، وعيون لامعة وآذان سامعة، وأنف حساس، ولسان متكلم، وقلب نابض، وأيادٍ عاملة، وأقدامٍ سريعة، وأعضاءٍ من كل نوع؟!
كيف أن هذا العنصر الذي كان ضعيفًا في وقتٍ ما يصير صانع سفن، وبناء، ومهندسًا معماريًا، وصاحب حرف وفنون مختلفة، وجنديًا، وحاكمًا، وشارع قوانين، وملكًا؟! ألا يقدر الله إذن -الذي صنعنا من مواد ناقصة- أن يقيمنا بعد أن سقطنا في الاضمحلال؟! فالذي يشكل الجسد من شيء حقير ألا يقدر أن يقيم الجسم الساقط أيضًا ثانية؟! والذي يُشكل ما لا يشكل ألا يقيم الكائن الذي سقط؟!...
الرد على السامريين


11. لننتقل إلى السامريين الذين قبلوا الشريعة فقط ولا يميزون الأنبياء. فالفصل الذي قُرِئ من حزقيال يبدو لهم بلا قوة، لأنهم كما قلت لا يعترفون بالأنبياء. كيف إذن نقنع السامريين أيضًا؟ لنذهب إلى كلمات الشريعة! يقول الله لموسى: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب"، فهو إذن إله من لا وجود لهم.
ومتى يقول ملك: أنا ملك جنود غير موجودين؟! أو من يتظاهر بثروة لا يملكها؟! لذلك إبراهيم وإسحق ويعقوب لابد أنهم عائشون حتى أن الله يكون إله من لهم وجود. لأنه لم يقل: "كنت إلههم" بل "أنا إلههم".
إنه توجد دينونة، ويظهر ذلك إبراهيم في قوله للرب: "أديّان الأرض كلها لا يصنع عدلًا؟" (تك 18: 25)
أمثلة من أسفار الناموس

12. لكن يعترض السامريون على هذا أيضًا ويقولون إن نفوس إبراهيم وإسحق ويعقوب مُمكن بقاؤها لكن أجسادهم لا يمكن قيامتها ثانية. فهل كان ممكنًا أن تتحول عصا موسى التقي إلى حيَّة، وغير ممكن أن تحيا أجساد الأتقياء وتقوم ثانيةً؟ وهل عمل هذا خلافًا للطبيعة، وهل لا يعودون هم ثانية بحسب الطبيعة؟!
كذلك عصا هرون ولو أنها قُطفت، لكنها ازدهرت بدون رائحة الماء (أي 14: 9). ولو أنها تحت سقف أزهرت أزهارًا كما لو كانت في الحقول، ولو أنها وضعت في مواضع جافة وحملت في ليلة الزهور وأثمر النبات الذي يُسقى سنينًا عديدة، فهل قامت عصا هرون من الموت، وهرون نفسه لا يقوم؟! هل يعمل الله معجزات في الخشب ليضمن له الكهنوت، ولا يتعطف بقيامة هرون نفسه؟
تحوّلت امرأة إلى ملح على خلاف الطبيعة، وتحول جسدها إلى ملح، أفلا يرجع اللحم إلى لحم؟! هل تحولت امرأة لوط إلى عمود ملح وامرأة إبراهيم ألا تقوم ثانية؟!
بأية قوة تغيرت يد موسى النبي التي في ساعة صارت كالثلج وعادت ثانية بأمر الله؟! فهل كان أمره يحمل قوة والآن بلا قوة؟!
الخلق أم القيامة

13. أيها السامريون المجاهدون، في البدء خرج الإنسان إلى الوجود. ارجعوا إلى أول سفر في الكتاب المقدس الذي تسلمتموه. "وخلق الله الإنسان من تراب الأرض". هل يتحول إلى تراب ولا يرجع إلى لحم ثانية؟!
يلزمك أن تسال أيضًا: متى وُجدت السماء والأرض والبحر والشمس والقمر والنجوم؟ وكيف صُنعت الخليقة التي تطير وتسبح في الماء؟! وكيف خرج من التراب كل ما هو حي؟! هل خرجت من العدم إلى الوجود ونحن البشر الذين على صورة الله ومثاله لا نقوم؟!
حقًا هذا الحديث مملوء كفرًا ويدين عديمي الإيمان.
لقد صاحب إبراهيم الرب كديان الأرض كلها بينما متعلمو الشريعة لا يصدقون! إن الإنسان وُجد من التراب، والقارئون لا يصدقون!
لا يقوم الأشرار في يوم الدين

14. هذه الأسئلة موجهة إليهم، أما كلمات الأنبياء فهي لنا نحن المؤمنون. لكن مادام البعض الذين يعلمون بالأنبياء ولا يؤمنون بما هو مكتوب ويجادلون ضدنا، مسيئين فهم ما كُتب بحق: "لذلك لا يقوم الأشرار في الدين" (مز 1: 5).
حسنًا يليق بنا أن نقابلهم بطريقة سطحية بقدر الإمكان، لأنه إذ قيل إن "الأشرار لا يقومون في يوم الدين". فهذا يظهر أنهم سيقومون في يوم الدين، لأن الله لا يحتاج إلى إمعان نظر طويل إليهم، بل بعد قيام الأشرار في الحال يذهبون إلى عقابهم.
إذا قيل "ليس الأموات يسبحونك يا رب" (مز 115: 17). فهذا يُظهر أن هذه الحياة فقط هي الوقت المعين للندم والمغفرة. "والذي يهبط إلى الهاوية ولا يصعد" (أي 7: 9). الذين يُسرون بهذه الحياة هم الذين سيُسبحون الله. أما الذين ماتوا في الخطايا فلا يبقى لهم وقت أن يسبحوا بعد الموت كالمتمتعين بالبركات. إنما ينوحون على أنفسهم، لأن التسبيح لمن يشكر، والنحيب لمن هو تحت العقاب. لذلك يقوم الأتقياء بالتسبيح، أما الذين ماتوا في الخطايا، فليس لهم وقت للاعتراف (الحمد) بعد ذلك.
أيوب والأنبياء يشهدون للقيامة

15. وبخصوص العبارة: "هكذا الذي ينزل إلى الجحيم ولا يصعد". لاحظ ما جاء بعد ذلك. "لا يرجع بعد إلى بيته" (أي 7: 10). ولما كان العالم كله سينتهي، وكل بيت سيخرب، كيف يرجع ثانية إلى بيته عندما تكون أرضًا جديدة مغايرة؟
لكن كان يجب أن يسمعوا أيوب يقول: "لأن للشجرة رجاء، إن قطعت تُخلِف أيضًا ولا تعدم خراعيبها -ولو قدم في الأرض أصلها ومات في التراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ، وتنبت فروعًا كالغرس- أما الرجل فيموت ويبلى، الإنسان يسلم الروح فأين هو؟" (أي 14: 7-10 LXX). إنه يتكلم بعتاب ولوم!
يقول: إذا كانت الشجرة تقع ثم تحيا ثانية، ألا يحيا الإنسان مرة ثانية الذي من أجله وُجد الشجر كله؟ ولكي لا تتصور أنه أقحم الكلمات، اقرأ ما يتبع ذلك. يقول: "إن مات رجل فيحيا" (أي 14: 14)، وحالًا يضيف: "سأنتظر إلى أن أقوم". وفي موضع آخر: "بعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله" (أي 19: 26).
وفي إشعياء: "تحيا أمواتك، تقوم الجثث" (إش 26: 19).
وفي حزقيال: "ها أنذا افتح قبوركم، وأصعدكم من قبوركم" (حز 37: 12).
وفي دانيال: "وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار والازدراء الأبدي" (دا 12: 2).
أمثلة عملية على قيامة الأموات في العهدين

16. أناجيل كثيرة تشهد بقيامة الأموات، إذ توجد شهادات كثيرة في هذا الأمر. لكن الآن لمجرد التذكر نقدم تنويهًا عابرًا عن قيامة لعازر في اليوم الرابع، ونلمح فقط لضيق الوقت عن قيامة ابن الأرملة.-
ولكي أُذكركم فقط، دعوني أذكر ابنة رئيس المجمع، وتشقق الصخور وقيام كثير من أجساد القديسين الذين رقدوا (مت 27: 52) فقد "فُتحت قبورهم".
لكن بالأحرى كونوا ذاكرين "أن المسيح قام من الأموات" (1 كو 15: 20).
أتكلم عن إيليا وعن ابن الأرملة الذي أقامه، وعن أليشع الذي أقام ميتًا مرتين: مرة في حياته وأخرى بعد موته.
لأنه في حياته أتم القيامة بنفسه his soul (2 مل 4: 34). لكن لكي تُكرم ليس فقط نفوس الأتقياء، بل ولكي يُصدق أنه في أجساد الأتقياء تكمن قوة، فالجثة التي ألقيت في قبر أليشع عندما لمست جسد النبي قامت(2 مل 13: 21). فصنع جسد النبي الميت فعل النفس. الذي مات ودُفن أعاد الحياة للميت، ولو أن الذي أعطى حياة استمر وسط الأموات. لماذا؟ لئلا إن قام أليشع مرة أخرى فالعمل يُعزى لـ "نفسه" فقط، وإنما ليظهر أنه حتى في غياب "النفس" تسكن فضيلة في أجساد القديسين بسبب النفس التقية التي سكنت به عدة سنين واستعملتها لخدمتها.
فلا تدعونا نكذب بجهل كأن هذه الأشياء لم تحدث. لأنه إن كانت المناديل والعصائب التي من الخارج تلمس أجساد المرضى فيشفون، فما بالك بجسد النبي نفسه يقيم الموتى؟
شهادة الكتاب المقدس عن القيامة

17. يمكننا أن نقول الكثير عن هذه الأمثال، موضحين الظروف الفائقة للطبيعة لكل حادثة، لكن لما كنتم مُتعبين من صوم (الاستعداد) المفروض، وبالسهر، فنعتبر ما قيل عنهم كافيًا.
هذه الكلمات بُذرت بضعف حتى أنكم كأرض جيدة قبلت البذور. فيمكن تقديم البذور وإكثارها، ولكن اذكروا أن التلاميذ أيضًا أقاموا موتى. فبطرس أقام طابيثا في يافا، وبولس أقام أفتيخس في ترواس (أع 20: 9)، وهكذا فعل كل التلاميذ الآخرين، ولو أن المعجزات التي صنعها كل واحدٍ لم تكتب جميعها.

بعد ذلك تذكروا كل الأقوال في رسالة معلمنا بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس التي كتبها ضدهم، فقال: "كيف يقام الأموات؟ وبأي جسم يأتون؟" (1 كو 15: 35) "لأنه إذا كان الموتى لا يقومون، فالمسيح إذن لم يقم" (1 كو 15: 16)، وكيف أن الذين لم يؤمنوا دعاهم أغبياء، تذكروا كل تعليمه هناك، وما يتعلق بقيامة الأموات، وكيف كتب إلى أهل تسالونيكي (تس 16: 4-13). "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم"، لكن الأهم هو من جهة "الراقدين في المسيح سيقومون أولًا".
سمات الجسد المُقام

18. لقد دّون هذا خصيصًا، كيف يقول بولس بصراحة: "لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت" (1 كو 15: 53)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. إذن هذا الجسد سيقوم ويلبس عدم الفساد وبشكلٍ جديدٍ. وكما يمتزج الحديد بالنار ويصبح نارًا، أو الأفضل كما يعرف الرب الذي يقيمنا: هذا الجسد سيقوم، لكنه لن يمكث كما هو الآن.
إنه جسم أبدي. لا يحتاج تغذية لحياته كما هو عليه الآن، ولا إلى درجات لصعوده، لأنه سيكون روحيًا. إنه لأمر عجيب لسنا جديرين بالكلام عنه، إذ قيل في إنجيل القديس متى البشير: "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت 13: 43). "وكالقمر، وكضياء الجلد" (دا 12: 3).
فالله العالم بعدم إيمان الناس، أعطى الديدان الصغيرة أن تُخرج من جسمها أشعة من نور حتى أنه مما نرى نصدق ما نتوقعه. لأن الله الذي يعطى الجزء قادر أن يعطى الكل أيضًا. والذي جعل الدودة متألقة بالنور، يجعل بالأحرى الإنسان النقي يضيء.
يشترك الجسد في العمل كما في المكافأة

19. سنقوم إذ ذاك كلنا بأجسادنا الأبدية، لكن ليس الكل بأجسادٍ متشابه، فالإنسان التقي يأخذ جسدًا سماويًا، حتى يتأهل للتحدث مع الملائكة، وأمّا الشرير فيأخذ جسدًا أبديًا مناسبًا يتحمل عقوبة الذنوب، فيحترق إلى الأبد في النار ولا يبيد.
بحق يسمح الله بهذا النصيب للطرفين، لأننا لا نعمل شيئًا بدون الجسد. فنحن نجدف بالفم، وبالفم نصلي. بالجسد نرتكب الزنى، وبه نحفظ العفة. باليد نسرق وباليد نمنح صداقات، وهكذا.الجسد الذي كان خادمًا لنا في كل شيءٍ سيشاركنا في المستقبل ثمار الماضي.
لنعتنِ بأجسادنا إذ هو يخصنا

20. لذلك أيها الإخوة لنعتنِ بأجسادنا، فلا نسيء استعمالها كأنها ليست لنا. فلا نقول كالهراطقة إن هذا الثوب من الجسد لا يخصنا. لكن لنعتني به إذ هو يخصنا. يجب أن نقدم حسابًا لله عن كل الأشياء التي يصنعها الجسد. لا تقل لا يراني أحد. لا تفكر أنه يوجد شاهد على الفعل، وغالبًا لا يكون هناك شاهد بشري، لكن الله الذي خلقنا شاهد لا يخطئ "والشاهد في السماء أمين" (مز 89: 37)، يراقب ما نعمله.
دنس الخطية يبقى في الجسد، وآثار جروحه تبقى في الكل، ولا تُزال إلا من الذين قبلوا حميم العماد.
الجروح السابقة للنفس والجسد يشفيها الله بالعماد. لنحترس لأنفسنا من الخطايا المستقبلة حتى نحفظ الجسد طاهرًا. فليس من أجل الزنى والانهماك في الشهوات الجنسية الأخرى لوقتٍ قصيرٍ نضيع خلاص السماوات، لكن نُوهب ميراث ملكوت الله الأبدي، الذي نطلب من الله أن يحسبكم جميعًا مستحقين إياه بنعمته.
حفظ قانون الإيمان

21. وهكذا توجد براهين كثيرة على قيامة الأموات. والآن دعوني أتلو عليكم قانون الإيمان، وأنتم تنطقونه بكل اجتهاد بينما أتكلم...
كنيسة جامعة

22. قانون الإيمان الذي نردده يقول: "وبمعمودية واحدة للتوبة لمغفرة الخطايا، وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة. وبقيامة الأموات وحياة الدهر الآتي".
تكلمت عن العماد والتوبة في المقالات السابقة وفي المقالة الحاضرة تحدثت عن قيامة الجسد، والآن أُكمل ما قد تبقى "وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة" سنتكلم عنها باختصار، ولو أنه يمكن أن تقال أشياء كثيرة عنها.
جامعة

23. لأنها تمتد في كل العالم... من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، ولأنها تعلم تعليمًا شاملًا كاملًا فتقدم كل التعاليم التي يجب أن يعرفها الإنسان بخصوص الأمور المنظورة وغير المنظورة، السماوية والأرضية. ويخضع لها كل جنس الرعاة والرعية، المتعلمون وغير المتعلمين، ولأنها عمومًا تعالج وتشفي كل أنواع الخطايا التي اُرتكبت بالروح أو الجسد، وتملك فيها كل ما يُسمى تكوين للفضيلة والأعمال والأقوال، وكل نوع من المواهب الروحية.
"إكليسيّا" أو جماعة

24. بحق دعيت "إكليسيّا" لأنها تدعو كل الناس، وتجمعهم مع بعضهم البعض. كقول الرب في لاويين: "واجمع كل الجماعة إلى باب خيمة الاجتماع" (لا 8: 3). وليكن معلومًا أن كلمة "اجمع" استعملت لأول مرة في الكتاب المقدس هنا في الوقت الذي وُضع هارون في رئاسة الكهنة، وفي سفر التثنية أيضًا قال الرب لموسى: "اجمع لي الشعب، فأُسمعهم كلامي لكي يتعلموا أن يخافوني" (تث 4: 10).
ويُذكر اسم الكنيسة عندما يتكلم عن لوحيّ الشريعة، وعليهما كتبت كل الكلمات التي تكلم بها الرب على الجبل. كأنه يقول بأكثر صراحة: "في اليوم الذي دُعيتم فيه من الله واجتمعتم". يقول المرتل داود: "أحمدك في الجماعة الكثيرة. في شعب عظيم أسبحك" (مز 35: 18).
رفض اليهود ونشأة الكنيسة

25. ومن القديم يرنم صاحب المزامير: "في الجماعات باركوا الله الرب" (مز 68: 26). لكن بعد أن أُستبعد اليهود من نعمته (بسبب المؤامرات التي فعلوها ضد المسيح) بنى المخلص من الأمم كنيسة ثانية مقدسة، كنيستنا نحن المسيحيين، إذ قال لبطرس: "على هذه الصخرة ابني كنيستي، وأبواب الجحيم لم تقوى عليها" (مت 16: 18).
وتنبأ داود عن الاثنين، فقال في صراحة عن الأولى: "أبغضت جماعة الأثمة" (مز 26: 5). وأمّا عن الثانية التي بُنيت فيقول "يا رب أحببت محل مسكنك" (مز 26: 8) وبعدها رأسًا يقول: "في الجماعات أبارك الرب" (مز 26: 12).
ولما كانت الكنائس في اليهودية قد نُبذت، زادت كنائس المسيح في العالم كله. وعنها يُقال في سفر ملاخي: "ليست لي مسرة بكم، قال رب الجنود، لأنه من مشارق الشمس إلى مغاربها اسمي عظيم بين الأمم" (مل 1: 10، 11). بخصوص هذه الكنيسة المقدسة يكتب بولس لتيموثاوس في رسالته الأولي "فكيف يجب أن تتصرف في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته" (1 تي 3: 15).
تجنب اجتماعات الهراطقة

26. ولما كانت الكلمة "إكليسيّا" أي الكنيسة قد استعملت بمعانٍ مختلفة (كما كتبت عن الحشد في مسرح الأفسسيين) "ولما قال هذا صرف الجمع" (1 تي 3: 15)، ولئلا يقول أحد بالحق إن هناك كنيسة أشرار، أعني اجتماع الهراطقة المانيين وأتباع مرقيون وغيرهم. لهذا السبب أسلم لك في أمان القول "بكنيسة واحدة مقدسة جامعة" حتى تتجنب اجتماعاتهم التعسة، وتستمر على الدوام مع الكنيسة المقدسة الجامعة التي وُلدت فيها. وإن حللت في مدن لا تسأل ببساطة أين "بيت الرب" (لأن طوائف الملحدين يحاولون أيضًا أن يُسمّوا أوكارهم بيوت الرب)، ولا تسأل فقط "أين الكنيسة"، بل "أين الكنيسة الجامعة". لأن هذا هو الاسم الخاص لهذه الكنيسة المقدسة أمنا جميعًا. عروس السيد المسيح ابن الله الوحيد. لأنه مكتوب: "وكما أَحبّ المسيح الكنيسة وأَسلم نفسه لأجلها" (أف 5: 25). وهي صورة ونسخة من أورشليم السمائية التي هي "أمنا جميعًا، وهي حرة" (غل 4: 26). التي كانت من قبل عاقرًا وأصبح لها أولاد كثيرون الآن.
غنى الكنيسة الجامعة

27. لما طُردت الكنيسة الأولى (اليهودية)، ففي الثانية أقام الله بنفسه الكنيسة الجامعة ما قاله بولس "أولًا: رسلًا، ثانيًا: أنبياء، ثالثًا: معلمين ثم قوات، وبعد ذلك مواهب شفاء. أعوانًا، تدابير، وأنواع ألسنة" (1 كو 12: 28). وفيها كل أنواع الفضائل، أعني الحكمة والفهم، والاعتدال والعدل والرحمة والمحبة المترفقة، والصبر الذي لا يُقهر في الاضطهادات. إنها "بسلاح البرّ لليمين ولليسار، بمجدٍ وهوانٍ" (2 كو 8: 6-7).
في الأيام السالفة وسط الاضطهادات والمحن توِّج الشهداء القديسون بأكاليل الصبر المزهرة المختلفة. والآن في وقت السلام بنعمة الله قبلت كجسدها الجدير بها من الملوك والذين هم في منصب (1 تي 2: 2)، ومن كل نوع وقرابة من الناس. وبينما انتهى سلطان ملوك الأمم في الكنيسة المقدسة الجامعة وحدها، تمتد قوتها (الروحية) بلا حدود في كل العالم، لأن الله -كما هو مكتوب- جعلها ملجأ سلام.
إن أردت أن أتكلم عن كل الأشياء المتعلقة بها احتاج لساعاتٍ طويلة.
الحياة الأبدية

28. في هذه الكنيسة المقدسة الجامعة نتقبل التعليم ونسلك بتقوى لننال ملكوت السماوات ونرث الحياة الأبدية، لذلك أيضًا نحتمل كل الأتعاب، حتى نكون شركاء مع الرب. لأن قصدنا ليس بالأمر التافه، إنما نسعى للحياة الأبدية. ففي قانون الإيمان بعد الحديث عن قيامة الأموات (التي تحدثنا عنها) تعلمنا أن نؤمن أيضًا بالحياة الأبدية التي نجاهد لها كمسيحيين.
مصدر الحياة الأبدية

29. الآب هو الحياة الحقيقية، الذي يغدق عطاياه السماوية على الكل كأنها من ينبوعٍ خلال الابن في الروح القدس. وفي محبته للبشر وعدنا ببركات الحياة الأبدية بدون فشل من جانبنا. يجب ألاّ نجحد هذه الإمكانية، لكن لنا عين ترى، ليس ضعفنا، بل قوته "لأن كل شيء مستطاع عند الله". ولما كان هذا ممكنًا، ويجب أن ننظر إلى الحياة الأبدية كما يوضح دانيال ذلك: "الذي ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور" (دا 12: 3). ويقول بولس: "وهكذا نكون كل حين مع الرب" (1 تس 4: 17)، لأن وجودنا دائمًا مع الرب هو الحياة الأبدية. لكن الأكثر صراحة قول المخلص: "فيمضي هؤلاء إلى عذابٍ أبديٍ، والأبرار إلى حياة أبدية" (مت 25: 46).
كيف نربح الحياة الأبدية؟

30. كثيرة هي البراهين التي تخص الحياة الأبدية. عندما نرغب في أن نربح الحياة الأبدية، يوحي لنا الإنجيل المقدس بطرق ربحها. ولكي لا يطول حديثنا نبسط أمامكم شهادات قليلة، ونترك الباقي لبحث المجتهدين. فبعض النصوص تصرح مرة أنها بالإيمان، إذ مكتوب: "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية" (يو 3: 36). ويقول أيضًا: "الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية" (يو 5: 24). مرة أخرى تقول بشارة الإنجيل: "والحاصد يأخذ أجرة، ويجمع ثمرًا للحياة الأبدية" (لو 4: 36)، مرة أخرى بالاستشهاد والاعتراف باسم المسيح "من يكره نفسه في هذا العالم يحفظها لحياة أبدية" (مر 7: 25). وأيضًا بتفضيل المسيح على المال والأقارب "كل من ترك بيوتًا أو إخوة أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو أولادًا أو حقولًا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية" (مت 19: 29). وبالأكثر يكون بحفظ الوصايا "لا تزنِ لا تقتل..." كما أجاب الذي أتى إليه، وقال يا معلم "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية" (مر 10: 17). وأيضًا بترك الأعمال الشريرة، وهكذا نخدم الله، إذ يقول معلمنا بولس: "الآن إن أُعتقتم من الخطية وصرتم عبيدًا لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية للحياة الأبدية" (رو 6: 22).
أبواب كثيرة بها ندخل الحياة الأبدية

31. كثيرة هي طرق الحياة الأبدية، لأن الرب في محبته المترفقة فتح لا بابًا واحدًا ولا اثنين لكن أبوابًا كثيرة بها ندخل الحياة الأبدية، حتى يمكن أن يتمتع بها الكل دون عاتق...
التمتع بالأسرار الكنسية

32. والآن أيها الإخوة المحبوبون تعظكم كلمة الإرشاد لتُعد نفوسكم لاستقبال النعم السماوية الخاصة بالإيمان المقدس الرسولي المسلم لكم للاعتراف. فقد تكلمنا بنعمة الرب في مقالات كثيرة على قدر ما أمكن في الأيام الماضية للصوم الكبير، ليس لأن هذا هو ما كان يجب أن نقوله، إذ كثيرة هي النقاط التي حُذفت، والتي في استطاعة معلِّمين ممتازين تقديمها.
لكن عيد الفصح المقدس قريب، وأنت يا حبيب المسيح يجب أن تستنير "بحميم الميلاد"، وسنتعلم ثانيًا (إن أراد الرب) ما هو ضروري وبأية عبادة وترتيب عظيم ما يجب أن تفعلوا، عندما تستعدون بقصد إتمام أحد الأسرار المقدسة أي العماد، وبأي احترام وترتيب يجب أن تذهبوا إلى مذبح الله المقدس وتتمتعوا بأسراره الروحية السمائية، حتى إذا استنارت نفوسكم بكلمة التعليم يمكنكم أن تكتشفوا في كل شيء عظمة النعم المغدقة عيكم من الله.
الحاجة إلى عظات عن الأسرار

33. وبعد يوم عيد القيامة المقدس الذي للخلاص ستأتون يومًا بالتتابع مبتدئين باستماع مقالات أخرى تتعلمون فيها أسباب كل شيء عُمل، وتأخذون البراهين من العهدين القديم والجديد. أولًا: الأشياء التي تُعمل قبل العماد مباشرة، ثانيًا: كيف تطهرتم من خطاياكم بالرب؟ "بغسيل الماء بالكلمة" (أف 5: 26). وكيف صرتم شركاء في اسم المسيح مثل الكهنة، وكيف أُعطيتم ختم شركة الروح القدس؟ وبخصوص أسرار مذبح العهد الجديد التي ابتدأت من هذا المكان، ما سلّمه لنا الإنجيل المقدس، وما هي قوة هذه الأسرار؟ وكيف يجب الاقتراب منها ؟ وكيف ومتى نتناولها؟ وفي آخر الكل، كيف في الزمن الآتي يجب أن تسلكوا كما يليق بهذه النعمة من جهة الكلمات والأعمال، حتى يمكنكم كلكم أن تتمتعوا بالحياة الأبدية؟ كل هذه الأمور ستقال إن شاءت مسرة الرب.
الاستنارة بالعماد

34. أخيرًا يا إخوتي افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا لأن خلاصكم يقترب، وطغمات الملائكة السماوية تنتظر خلاصكم، والآن صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب (إش 60: 3). ويصرخ النبي: "أيها العطاش هلموا جميعًا إلى المياه". وبعدها فورًا "استمعوا لي وكلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم" (إش 55: 1-2). وفي برهة قصيرة ستستمعون هذا الدرس الممتاز القائل: "قومي استنيري لأنه قد جاء نورك" (إش 60: 1)، وعن أورشليم هذه قال النبي: "بعد ذلك تُدعين مدينة العدل القرية الأمينة صهيون" (إش 1: 26) و"لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب" (إش 2: 3)، الكلمة التي وزعت بسخاء على العالم أجمع. وما يقوله النبي أيضًا بخصوصكم: "ارفعي عينيك حواليك وانظري. بنوك قد اجتمعوا إليك" (إش 49: 18)، وهي تجيب قائلة: "من هؤلاء الطائرون كالسحاب وكالحمام إلى بيوتها"؟ (إش 60: 8)، سحاب لطبيعتها الروحية، وحمام لطهارتها.
وتقول ثانية: "هل تمخض بلاد في يوم واحد، أو تولد أمة دفعة واحدة؟ فقد تمخضت صهيون بل ولدت بنيها" (إش 66: 8). وكل الأشياء تمتلئ بفرح لا ينطق به، لأن الرب قال: "هأنذا خالق أورشليم بهجة وشعبها فرحًا" (إش 65: 18).
مبارك هو الله!

35. نرجو أن تُقال هذه الكلمات أيضًا لكم: "ترنمي أيتها السماوات، وابتهجي أيتها الأرض، لأن الرب قد عزى شعبه وعلى بائسيه يترحم" (إش 49: 13). وسيحدث هذا من شفقة الرب المحبة القائل لكم: "قد محوْت كغيم ذنوبك، وكسحابة خطاياك" (إش 44: 22).
وأنتم الذين حُسبتم جديرين باسم المؤمنين، الذي عنكم كُتب: "ويسمي عبيدي اسمًا جديدًا يتبارك في الأرض" (إش 65: 15). ستقولون بفرحٍ: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح" (أف 1: 3). "الذي فيه الفداء لنا بدمه لغفران خطايانا التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة" (أف 1: 7، 8)... "الله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها. ونحن أموات بالخطايا أحيانًا مع المسيح" (أف 2: 4).
وفي مثل هذا تسبحون الرب على كل الأشياء الطيبة، قائلين: "ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحساناته. لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس. الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا، حتى إذا تبرّرنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية" (تي 3: 4).
ونرجو الله أبا ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح أبو المجد "أن يعطيكم روح الحكمة والإعلان في معرفته، مستنيرة عيونكم وأذهانكم" وأرجو أن يحفظكم في أعمال وأقوال وأفكار مقدسة.
الذي له المجد والكرامة والقوة في ربنا يسوع المسيح مع الروح القدس، من الآن وإلى دهر الدهور. آمين.

Mary Naeem 29 - 11 - 2022 11:12 AM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
القديس كيرلس الأورشليمي



المعمودية


المقال التاسع عشر

الأسرار (1)

مع درس من رسالة بطرس الأولى: "تعقلوا واصحوا"... (إلى آخر الرسالة)
فاعلية عمادكم

1. كنت من زمن بعيد أرغب أن أعظكم بخصوص هذه الأسرار السمائية والروحية، أيها الأولاد الحقيقيون الأعزاء، لكن حيث علمت جيدًا أن الرؤية أكثر إقناعًا من السمع، فقد انتظرك إلى الوقت الحاضر. فإذ أجدكم مفتوحي الذهن تتأثرون بكلماتي بسبب خبرتكم الحالية "فأقودكم" بيدكم إلى روضة الفردوس المنيرة الذكية التي أمامنا. خصوصًا وقد جُعلتم متأهلين لتناول الأسرار المقدسة بعد أن وُجدتم جديرين بالعماد المقدس المعطى للحياة. وحيث ينبغي أن نبسط أمامكم مائدة من أكمل التعاليم، فدعوني أعلمكم هذه الأشياء بتدقيق حتى تعلموا بفاعلية ما قد عُمل لكم مساء عمادكم.
كأنكم أمام الشيطان تجحدونه

2. فأولًا دخلتم دهليز المعمودية، وهناك اتجهتم نحو الغرب، وأنصتّم للأمر ببسط أيديكم، وكأنكم أمام الشيطان تجحدونه. يجب أن تعلموا أن هذه الصورة وُجدت في العهد القديم. فإن فرعون ذلك الظالم القاسي المرّ مُضطهد لشعب العبرانيين الحر الأصيل، وأرسل الله موسى ليخرجهم من العبودية المكروهة، حينئذ مسحوا قوائم الأبواب بدم حمل، حتى هرب المُهلك من البيوت التي عليها علامة الدم. ونجا العبرانيّون بمعجزة، فتبعهم العدو بعد نجاتهم ونظروا البحر ينشطر لهم، ومع ذلك تقدم تابعًا خطواتهم وفي الحال غرقوا في البحر الأحمر.
بين الخروج والعماد

3. ولننتقل من القديم إلى الجديد، من الرمز إلى الحقيقة، فهناك أُرْسِل موسى من الله لمصر. هنا أرسل الله ابنه الوحيد يسوع المسيح إلى العالم.
هناك يقود موسى شعبًا مضطهدًا ويخرجهم من مصر. وهنا يُخلص المسيح الذين ظُلموا في العالم بالخطية.
هناك دم حمل بمثابة التعويذة ضد المهلك. وهنا دم الحمل الذي بلا عيب يسوع المسيح يُرعب الأرواح الشريرة.
هناك كان الظالم يتبع الشعب القديم حتى إلى البحر. وهنا الروح الحاسد الشائن أصل الشر يتبعكم حتى ينابيع الخلاص. الظالم القديم غرق في البحر. وهذا الحاضر يتبعكم في مياه الخلاص ويختفي فيها.
أجحدك أيها الشيطان

4. مع ذلك تأمرون بالقول بذراع ممدودة نحوه كأنه حاضر "أجحدك أيها الشيطان" أريد أن أقول إنكم تقفون مواجهين الغرب، لأنه ضروري مادام الغرب منطقة الظلام المحسوس. ولما كان هو في الظلام، فسيطرته هي في الظلام. لذلك تنظرون إلى الغرب بمعنى رمزي، تجحدون ذلك المسيطر المظلم الكئيب.
فماذا إذن؟ كل منكم وقف وقال "أجحدك أيها الشيطان" أيها الظالم القاسي الشرير، بمعنى إنني لا أخاف قوتك بعد الآن لأن المسيح قد قهرك، إذ شاركني في اللحم والدم، وبالموت داس الموت، حتى لا أكون تحت العبودية إلى الأبد.
"أجحدكِ" أيتها الحيّة الخبيثة الماكرة. "أجحدك" بمؤامراتك تحت قناع الصداقة، إذ اخترعتِ كل مخالفة وكل عمل مارق لأبوينا الأولين.

"أجحدك أيها الشيطان" الصانع لكل سوء والمحرض عليه.
وكل أعمالك

5. وفي عبارة ثانية تتعلم أن تقول "وكل أعمالك" فكل أعمال الشيطان خطية، يجب أن تنبذها كإنسان هرب من الظّالم ومن أسلحته أيضًا بالتأكيد. فكل الخطايا بجميع أنواعها تدخل في أعمال الشيطان. اعلم هذا فقط أن كل ما نقوله في هذه الساعة الرائعة يُكتب في كتب الله. فإذا صنعت شيئًا بعكس هذه المواعيد تُحاكم كمخالف. إذًا فقد نبذت أفعال الشيطان، أعني كل الأعمال والأفكار ضد التعقل.
وكل قوتك

6. ثم تقول: "وكل قوتك" والآن كل قوة الشيطان هي جنون المسارح وسباق الخيل والصيد وكل أمثال هذا الباطل، الذي يطلب القديس من الله أن ينقذه منها، فيقول: "حول عيني عن النظر إلى الباطل"(2). لا تسروا أيها الأحباء بجنون المسارح. حيث تشاهد الإشارات العابثة للاعبين، مصحوبة بالاستهزاء وبما لا يليق، ورقص الرجال المخنثين المهووس. وفي جنونهم في الصيد يعرّضون أنفسهم للحيوانات المتوحشة حتى يُشبعوا هواياتهم التعسة. والذين لكي يشبعوا بطونهم من اللحم يصبحون حقًا لحمًا لبطون الوحوش.
ولنتكلم بالعدل من أجل إلههم (بطونهم)، فيرمون حياتهم بتهورٍ في منافسات فردية. تحاشى أيضًا سباق الخيل المدمر للنفس بمنظره الجنوني. فكل هذه قوة الشيطان!
أطعمة باسم الشيطان

7. علاوة على ذلك الأشياء المعلقة في ميدان ومهرجان الأصنام. أما اللحم أو الخبز أو الأشياء الأخرى النجسة بتلوات الأرواح النجسة تحسب في سلطان الشيطان.
لأن الخبز والخمر للمتناولين قبل سرّ حلول الثالوث القدوس كانا خبزًا وخمرًا عاديين بينما بعد الحلول يصير الخبز جسد المسيح، وهكذا في مثل هذه الأحوال، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. هذه الأطعمة تخص "قوة الشيطان" ولو أنها بسيطة في طبيعتها لكنها تصير دنيوية بتلوات روح الشر.
وكل خدماتك

8. بعد هذا نقول "وكل خدماتك"، فخدمات الشيطان هي الصلاة في هياكل الأصنام والأشياء التي تعمل لإكرام الأصنام التي بلا حياة: إيقاد المصابيح أو إحراق البخور بجانب الأنهار والينابيع، أو كما يُخدع بعض الأشخاص بالأحلام أو بالأرواح الشريرة. (يتعهّدون بهذا) ظانين أنهم يجدون دواء حتى لعللهم الجسدية.
لا تذهب وراء هذه الأشياء: مراقبة الطيور (التطّير)، أو علم الغيب، أو الفأل، أو الأحجبة أو السحر المكتوب على أوراق الشجر، أو التنجيم، أو أي فن شرير... الكل من خدمات الشيطان، لذا تجنبهم. لأن بعد جحد الشيطان وشركتك مع المسيح، إن سقطت تحت تأثيرهم، ستجد الظالم أشد مرارة. لأنه عاملك في الماضي كأنك ملكه وأراحك من عبوديته القاسية. لكنه الآن وقد آثار حنقه عليك، وهكذا تُمنع من المسيح وتجرب من الآخر. ألم تسمع بالتاريخ القديم الذي يخبرنا عن لوط وبناته؟ عندما وصل إلى الجبل بينما تحوّلت زوجته إلى عمود ملح، واقفة كالتمثال إلى الأبد تذكارًا لإرادتها الفاسدة واستدارتها للوراء. لذلك خذ حذرًا لنفسك، "لا تلتفت إلى ما وراء" (في 2: 13) مادمت قد وضعت يدك على المحراث. لا تلتفت إلى الوراء لطعم الملح في أمور هذه الحياة. لكن اهرب إلى الجبل للمسيح يسوع، الحجر الذي لم يُنحت بأيادٍ، الذي ملأ العالم.
التحول من الغرب إلى الشرق

9. لذلك عندما جحدت الشيطان وكسرت كل عهودك معه. (هذا الميثاق القديم مع الهاوية إش 28: 15) هناك انفتح لك باب فردوس الله الذي زرعه نحو الشرق، حيث طُرد أبونا الأول لتعدّيه. ويرمز لهذا بالتحول من الغرب إلى الشرق إلى مكان النور، حينئذ أُخبرت أن تقول: "أؤمن بالآب والابن والروح القدس، وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا".
خلعتم الإنسان العتيق وستحفظون اليوم المقدس

10. أما الآن وقد تحصنت بهذه المقالات، فتعقل "لأن إبليس خصمنا" كما قُرئ الآن "كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه". ولو أن الموت كان في الأزمنة الماضية قويًا ومبيدًا، ففي غسل الميلاد المقدس "يمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه" (إش 35: 15). لأنكم لن تنوحوا بعد إذ خلعتم الإنسان العتيق وستحفظون اليوم المقدس. "قد ألبسني لباس الخلاص" حتى يسوع المسيح.
إعلان عن المقالات القادمة

11. كل هذه الأمور عُملت في الحجرة الخارجية. لكن إذا أراد الله في المقالات المتتابعة عن الأسرار لما دخلنا إلى قدس الأقداس، سنتعلم معنى الأمور التي تمت هناك.
ولنقدم إلى الله الآب والابن والروح القدس المجد والعظمة إلى أبد الآبدين آمين.

Mary Naeem 29 - 11 - 2022 11:15 AM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg




القديس كيرلس الأورشليمي



العماد

المقال العشرون

الأسرار (2)

"أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح، اعتمدنا لموته. لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رو 4: 3، 14).
1. هذه المقدمات الطويلة في الأسرار والتعاليم الجديدة، التي هي إعلان الحق الجديد نافعة لنا، وبالأحرى لكم أنتم الذين تجدّدتم من حال قديم إلى حال جديد. لذلك فمن الضروري أن أبسط أمامكم ملحق لمقال الأمس، حتى تتعلموا الأمور (التي عُلمت لكم في الحجرة الداخلية) وما تحمله من معانٍ.
خلع الثياب

2. حالما تدخلون وتخلعون ثيابكم وهذه صورة "لخلع الإنسان العتيق مع أعماله"، خلعتم وصرتم عرايا. وفي هذا نتشبه بالمسيح الذي عُري على الصليب، إذ بعُريه "جَرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 15).
إذ أن القوات الشريرة سكنت في أعضائك، فلا تلبس هذا الثوب فيما بعد. لا أعني هذا الثوب المنظور، لكن "الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور".
نرجو أن النفس التي خلعته، لا تخلعه ثانيًا أبدًا. لكن نقول مع عروس المسيح في نشيد الأناشيد "خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟" (نش 5: 3)
شيء عجيب! هل كنتم عرايا أمام الجميع ولا تخجلوا. لأنه حقًا أشبهتم آدم أول الخليقة. الذي كان عريانًا في الفردوس ولا يخجل.
مُسحتم بالزيت المصلى عليه

3. ثم عندما خلعتم ثيابكم مُسحتم بالزيت المُصلى عليه، من شعر رؤوسكم إلى أقدامكم، وصرتم شركاء في الزيتونة المقدسة بيسوع المسيح. إذ قطعتم من الزيتونة البرية، وطُعِّمتم في الشجرة المقدسة، وأصبحتم شركاء في دهن الزيتونة الحقيقية، فقد أصبح هذا لتلاوة تطرد كل أثر لسلطان الشرٍ، كما أن نفخات القديسين واستدعاء اسم الله تحرق الشياطين كاللهب المضطرم وتطردهم.

وهكذا أيضًا هذا الزيت المقدس يأخذ قوة بالتوسل إلى الله والصلاة حتى أنه يحرق الخطية وينظف آثارها، كما يطرد كل القوات الشريرة غير المنظورة.
العماد بالتغطيس

4. بعد هذه الأشياء اُقتُديتم للبِركَة (الجرن) المقدسة للعماد الإلهي، كما حُمل المسيح من الصليب إلى القبر الذي هو أمام عيونكم. لقد سُئل كل منكم هل يؤمن باسم الآب والابن والروح القدس وتممتم هذا الاعتراف الخلاصي. ونزلتم ثلاث مرات في الماء، وصعدتم ثانيًا. هنا أيضًا تشيرون برمز للثلاثة أيام التي دفن فيها المسيح. لأنه كما قضى مخلصنا ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في قلب الأرض، هكذا أنتم أيضًا في أول صعودكم تقتدون اليوم بالمسيح في الأرض.
بنزولكم تمثلون الليل، لأنه كما في الليل لا يرى الإنسان مطلقًا، لكن من في النهار يبقى في النور؛ لم تروا شيئًا. وهكذا كما في النزول كما في الليل لم تروا شيئًا. لكن في الصعود ثانية كنتم كمن بالنهار. وفي نفس اللحظة كنتم تموتون وتولدون، وأن مياه الخلاص كانت قبركم وأمكم في وقت واحد.
وما قاله سليمان عن الآخرين يناسبكم أيضًا، إذ قال: "للولادة وقت وللموت وقت" (جا 3: 2)، لكن بالنسبة لكم كان الأمر مختلفًا. كان الوقت لتموتوا، والوقت لتولدوا. لكن الآن يتم الأمرًان معًا في وقت واحد، إذ سارت ولادتكم جنبًا إلى جنب مع موتكم.
الموت مع الرب

5. أمر عجيب لا يدركه عقل! حقًا لم تمت ولم تُدفن. لم تُصلب ولم تقم ثانيًا. لكن حدث هذا لنا في مثال الرب، وصار خلاصنا حقيقة. صُلب المسيح فعلًا ودُفن فعلًا. وقام حقًا/ وكل هذه الأشياء انعم بها بسخاء علينا، حتى أننا نشترك في آلامه، ونربح خلاصًا في الحقيقة.
يا للمحبة المترفقة المتجاوزة كل حدٍ. أخذ المسيح مسامير في يديه الطاهرتين وقدميه وتعذب بالألم، بينما بدون ألم وتعب وبسخاء أصبغ على الخلاص بشركة آلامه.
نِعَمْ العماد

6. فلا يظن أحد أن العماد لنعمة مغفرة الخطايا فقط أو بالأحرى للتبني. فعماد يوحنا كان يهب مغفرة الخطايا، أما نحن كما نعلم تمام العلم أن العماد كما يطهر خطايانا ويُقدم لنا موهبة الروح القدس، فهو أيضًا يحمل مشاركة في آلام المسيح، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. لهذا السبب يصرخ بولس عاليًا: "أم تجهلون إنما كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت" (رو 6: 3). هذه الكلمات قيلت لبعض الذين فكروا أن العماد يخدمنا لمغفرة الخطايا وللتبني فقط وليس للشركة والامتثال بآلام المسيح الحقيقية.
مشاركة في آلام المسيح

7. لذلك لكي نتعلم أنه مهما احتمل المسيح من أجلنا ومن أجل خلاصنا، فقد تألم حقًا وليس خيالًا، وأننا صرنا شركاء في آلامه، صرخ بولس بكل قوته وبكل إتقان الحق: "لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته" (رو 6: 5).
حسنًا قال: "متّحدين معه"، إذ أنه مادامت الكرمة الحقيقية قد زُرعت في هذا المكان، فنحن أيضًا بالمشاركة في عماد الموت، كنا مزروعين معه.
ثبت عقلك بانتباه كثير على كلمات الرسول فإنه لم يقل: "لو كنا قد زُرعنا معه بموته" لكن "بشبه موته"، لأنه في حالة المسيح كان موتًا حقيقيًا، لأن نفسه انفصلت عن جسده. ودفن حقًا، لأن جسده المقدس لُف بكتان نقي، وكل شيء حدث حقًا له. لكن في حالتكم كان شبه موت وآلام فقط، لكن تم الخلاص لا في تشبيه بل حقيقة.
أحفظوا التعاليم في ذاكرتكم

8. أما وقد تعلمنا بما فيه الكفاية عن هذه الأمور أحفظوها في ذاكرتكم.
ولو إنني غير مستحق أن أقول إني أحبكم، لأنكم تذكروني دائمًا وقد ثبتم في التقاليد التي سلمتها إليكم.
والله الذي أخرجكم من عداد الموتى، قادر أن يمنحكم القوة لتسيروا في تجديد الحياة...
لأن له المجد والقوة من الآن وإلى الأبد. آمين.

Mary Naeem 29 - 11 - 2022 11:17 AM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg




القديس كيرلس الأورشليمي



<h1 dir="rtl" align="center"> المسحة

</h1>





المقال الحادي والعشرون

الأسرار (3)

"وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء حتى إذا أظهر يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه" (1 يو 2: 20)
قبلتم مسحة المسيح

1. إذ قد "اعمدتم في المسيح، ولبستم المسيح" (غل 3: 27)، أصبحتم على مثال صورة المسيح ابن الله، "لأن الله سبق فعيننا للتبني" (أف 1: 5).
"جعلنا لنكون على صورة جسد مجده" (في 3: 21)، حيث أننا نصبح "شركاء المسيح" (عب 3: 14).
وبحق دُعيتم للمسيح، وعنكم قال الله: "لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 105: 15).
جُعلتم مسحاء بقبولكم ختم الروح القدس. وكل الأشياء عُملت فيكم امتثالًا (بالمسيح)، لأنكم صورة المسيح. هو اغتسل في نهر الأردن ونشر معرفة ألوهيته في الماء، وصعد منه وأضاء عليه الروح القدس في تمام وجوده، وحلّ كذلك عليه. ولكم أنتم فشبه ذلك بعد أن صعدتم من بركة المياه المقدسة صار لكم دهن شبه الذي مُسحَ به المسيح. وهذا هو الروح القدس الذي قال عنه المطوّب إشعياء في نبوته عن شخص الرب: "روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني" (إش 61: 1).
مسحه بالروح القدس

2. لأن المسيح لم يمسحه إنسان بزيتٍ أو دهنٍ مادي، لكن الآب عينه من قبل ليكون مخلصًا للعالم أجمع، مسحه بالروح القدس، كما قال بطرس: "يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحة الله بالروح القدس" (أع 10: 8).

صرخ داود النبي أيضًا قائلًا: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البرّ وأبغضت الإثم، لذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز 45: 6، 7).
وإذ صُلب المسيح ودُفن وقام حقًا، أنتم في العماد حُسبتم جديرين أن تُصلبوا وتُدفنوا وتقوموا معه على مثاله، هكذا في المسحة أيضًا. وكما مُسح بزيت مثالي "زيت الابتهاج"، لأنه منشئ الفرح الروحي، هكذا أنتم مُسحتم بدهن، إذ أصبحتم شركاء للمسيح وأتباعه.
بالدهن المنظور تُقدس نفسك بالروح القدس المحيي

3. لكن احذروا أيضًا لئلا تظنوه دهنًا بسيطًا، لأنه كما في خبز الإفخارستيا بعد حلول الروح القدس لا يصير خبزًا عاديًا بعد، بل جسد المسيح، هكذا هذا الدهن لا يكون دهنًا بسيطًا أو عاديًا بعد الصلاة، لكن هي موهبة المسيح بالنعمة وبحلول الروح القدس أصبح لائقًا لمنح طبيعته الإلهية.
بهذا الدهن مُسحت رمزيًا على جبهتك وحواسك الأخرى. وإذ يرشم جسدك بالدهن المنظور تُقدس نفسك بالروح القدس واهب الحياة.
بالمسحة السرية لبستم كل سلاح الروح القدس

4. رٌشمت على الجبهة كأنك تتخلص من العار الذي حمله الإنسان الأول معه في كل مكان، وأنه بوجه مكشوف كما في مرآة ناظرين مجد الرب" (2 كو 3: 18). ثم على آذانك حتى تتقبل الآذان سريعًا سماع الأسرار الإلهية التي قال عنها إشعياء النبي: "أعطاني الرب أذنًا للسمع" (إش 1: 4). وقال سيدنا الرب يسوع المسيح: "من له أذنان للسمع فليسمع" (مت 11: 15؛ مت 13: 9). ثم على الأنف حيث تتقبل الدهن المقدس، فيمكنك أن تقول: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون" (2 كو 2: 15). بعد ذلك على صدرك حيث "قد لبستم درع البرّ" (أف 6: 14)، حتى تقدروا "أن تثبتوا ضد مكايد إبليس" (أف 6: 11).
لأن المسيح بعد عماده وحلول الروح القدس ذهب وغلب الشرير، هكذا أنتم أيضًا بعد العماد المقدس والمسحة السرية، إذ لبستم كل سلاح الروح القدس لكي تقفوا ضد قوة الشرير وتقهروه قائلين: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13).
نلتم اللقب الشريف

5. وإذ حُسبتم جديرين لهذه المسحة المقدسة، دُعيتم مسيحيين وبميلادكم الجديد أيد شرعية هذا الاسم، إذ قبل أن تكونوا مستحقين هذه النعمة، لم يكن لكم حق صحيح في هذا اللقب الشريف. لكن كنتم تتقدمون في طريقكم حتى تصيروا مسيحيين.
مثال المسحة في العهد القديم

6. علاوة علي ذلك يجب أن تعلموا أن في الكتاب المقدس يوجد رمز لهذه المسحة،لأن من وقت أن عَرّف موسى أخاه الرب وجعله كاهنًا أعظم، وبعد استحمامه ودُعي هارون مسيحًا بوضوح أو مدهونًا بالزيت الرمزي. هكذا أيضًا صنع رئيس الكهنة في تقديم سليمان للمملكة مسحه بعد استحمامه في نهر جيحون (1 ملوك 1: 39).
وهكذا حدثت لهم هذه الأمور في شبه خيال لكن ليست في خيال، لكنها حقيقة. لكن مُسحتم حقًا بالروح القدس وابتدأ خلاصكم المسيح. لأنه باكورة الثمر، وأنتم العجين. فإن كان الثمر مقدسًا فواضح أن قداسته تنتقل إلى العجين كله أيضًا (رو 11: 16).
احفظوا هذه المسحة خالية من العيوب

7. احفظوا هذه المسحة خالية من العيوب، إذ ستعلمكم كل الأشياء إذا سكنت فيكم، كما سمعتم بوضوح من المطوّب يوحنا: "وأعطانا كثيرًا بخصوص هذه المسحة" (1 يو 2: 20). لأن هذه المسحة المقدسة صيانة روحية للجسد، وخلاص للنفس. وعنها يتنبأ إشعياء المبارك منذ قديم الزمان فيقول: "على هذا الجبل" الآن يدعو الكنيسة "الجبل". وفي موضع آخر يقول: "يكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا" (إش 2: 2). وأيضًا "ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن، وليمة خمرًا، تبشرون فرحًا، يمسحون أنفسهم بدهن" (راجع إش 25: 6).
ولكي يؤكد لكم اسمعوا ما يقول عن هذا الدهن في أنه سري "سلموا كل هذه الأمور للشعوب، لأن مشورة الرب هي لكل الشعوب".
وإذ قد دُهنتم بهذا الدهن المقدس احفظوه فيكم غير مدنس لا عيب فيه، متقدمين في الأعمال الحسنة، عالمين كل ما يرضي رئيس خلاصكم يسوع المسيح، الذي له المجد الدائم إلى دهر الدهور. آمين.

Mary Naeem 29 - 11 - 2022 11:20 AM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg




القديس كيرلس الأورشليمي



<h1 dir="rtl" align="center"><h1 dir="rtl" align="center">جسد المسيح ودمه

</h1></h1>





المقال الثاني والعشرون

الأسرار (4)




"لأني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا" (1 كو 11: 23).


جسد حقيقي ودم حقيقي


1. تعليم المطوّب بولس كافٍ ليعطيكم حتى من نفسه تأكيدًا كاملًا بخصوص "الأسرار الإلهية" التي صرتم مستحقين لها، وصرتم من نفس الجسد والدم مع المسيح. لأنكم سمعتموه الآن فقط يقول بوضوح: "إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزًا وشكر وكسر وقال: خذوا كلوا هذا جسدي. كذلك أخذ الكأس وشكر وقال: خذوا اشربوا هذا هو دمي" (1 كو 11: 23-26). وحيث أنه بنفسه أوضح وقال عن الخبز: "هذا هو جسدي"، فمن يتجاسر ويشك بعد ذلك؟ وإذ هو بنفسه أكد وقال: "هذا هو دمي" فمن الذي يتردد ويقول إنه ليس دمه؟



2. في قانا الجليل حوّل الماء مرة إلى خمر قريب من الدم. فهل لا يمكن تصديق أنه يقدر أن يحوّل الخمر دمًا؟


صنع هذا العمل المدهش بمعجزة عندما دُعي إلى عرس دنيوي، وعندما يهب "بني العُرْس" (مت 9: 15) أن يتمتعوا بجسده ودمه، أفلا نعترف به بالأكثر؟


أصبحنا شركاء الطبيعة الإلهية


3. لنشترك إذا بكل ثقة في جسد المسيح ودمه. لأنه في شكل الخبز يعطي جسده لك، وفي شكل الخمر دمه، حتى بمشاركتك جسد المسيح ودمه تتحد في نفس الجسد ونفس الدم معه، لأنه هكذا نحمل المسيح في داخلنا. الآن جسده ودمه وُزِّعا في أعضائنا. وهكذا حسب قول المطوّب بطرس "أصبحنا شركاء الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 4).


غضب اليهود


4. وعظ سيدنا المسيح اليهود في مناسبة معينة، وقال: "إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فليست لكم حياة فيكم" (يو 6: 53). وغضبوا ولم يسمعوه بطريقة روحية، ورجعوا ظانين أنه يدعوهم ليأكلوا لحمًا (ماديًا).


بين خبز التقدمة والإفخارستيا


5. في العهد القديم أيضًا كان خبز التقدمة، لكن انتهى ما يخص العهد القديم. أما في العهد الجديد فيوجد خبز السماء وكأس الخلاص، مطهرين النفس والجسد، لأنه كما يمتزج الخبز بالجسد كذلك الكلمة توافق أنفسنا.


كن واثقًا دون شك أن الجسد والدم تنازلا لك


6. تأمل الخبز والخمر لا في ماديتهما، لأنهما كما أوضح الرب هما جسد المسيح ودمه. لأنه حتى لو أوحت إليك الحواس بهذا، فدع الإيمان يؤسِّسك. لا تحكم على الأمر من الذوق بل من الإيمان، كن واثقًا دون شك أن الجسد والدم تنازلا لك.


رتبت قدامي مائدة


7. وينصحك المطوّب داود بهذا قائلًا: "تُرتب قُدّامي مائدة تجاه مضايقيَّ" (مز 23: 5). وما يقوله يعنى هذا قبل مجيئك. رتبت الشياطين مائدة للناس، نجسة ومدنسة ومملوءة من النفوذ الشيطاني، لكن منذ مجيئك يا رب "رتبت قدامي مائدة". وعندما يقول الإنسان "رتبت قدامي مائدة"، فعلى ماذا يدل إلاّ على هذه المائدة السرّية الروحية التي رتبها الله لنا؟ رتبها ضد الأرواح الشريرة. وحقًا. لأن ذلك اختلاط بالشياطين، أما هذا فشركة مع الله.

"مَسحت بالدهن رأسي" (مز 23: 5) بالزيت مسح رأسك على الجبهة، لأن الختم الذي أخذته هو من الله، حفر الختم قداسة لله.

"وكأسك أسكرتني" لأنها قوية. نرى أن الكأس التي يتكلم عنها هنا هي التي أخذها المسيح في يديه وشكر وقال "هذا هو دمي الذي يسفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا" (مت 26: 28).


يجب أن تكون مكسوًا بالثياب البيضاء اللامعة الروحية


8. لذلك يقول سليمان مشيرًا إلى هذه النعمة: "تعالوا كلوا خبزكم بفرح" (أي الخبز الروحي) تعالوا هنا (ينادي للحكمة والخلاص) اشربوا كأسكم بقلب فرح (أي الخمر الروحي) ودعوا الزيت يُسكب على رأسكم (نرى أنه يشير حتى إلى الزيت السري)، واجعلوا أثوابكم بيضاء دائمًا، لأن الرب سُر بأفعالكم، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. لأنه قبل مجيئكم للعماد كانت أعمالكم باطل الأباطيل، لكن الآن إذ خلعتم أثوابكم العتيقة ولبستم هذه البيضاء روحيًا، يجب أن تكون مكسوًا بثياب. بالطبع لا تعني هذا إنك يجب أن تلبس ثيابًا بيضاء، لكن يجب أن تكون مكسوًا بالثياب البيضاء اللامعة الروحية، حتى تقول مع المطوّب "فرحًا أفرح بالرب، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البرّ" (إش 6: 10).



9. إذ قد تعلمنا هذه الأشياء، وتأكدنا تمامًا أن ما يبدو خبزًا ليس خبزًا، ولو أنه مساغ في الطعام لكنه جسد المسيح. وأن ما يبدو خمرًا ليس خمرًا ولو أن مذاقه كذلك لكنه دم المسيح. وعن هذا ترنم داود البار قديمًا "لإخراج خبز تفرح قلب الإنسان لإلماع وجه أكثر من الزيت" (مز 104: 15).

"قوِّ قلبك باشتراكك روحيًا، واجعل وجه نفسك يلمع"، ومع جعل وجهك مكشوفًا بضميرٍ طاهرٍ تعكس كمرآة مجد الرب، وتنتقل من مجدٍ إلى مجدٍ في المسيح يسوع ربنا، الذي له المجد والكرامة والقوة من الآن وإلى دهر الدهور. آمين.

Mary Naeem 29 - 11 - 2022 11:22 AM

رد: كتاب القديس كيرلس الأورشليمي - القمص تادرس يعقوب ملطي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166783393590461.jpg




القديس كيرلس الأورشليمي



<h1 dir="rtl" align="center"><h1 dir="rtl" align="center"><h1 dir="rtl" align="center"> الليتورجيا المقدسة والتناول

</h1></h1></h1>

المقال الثالث والعشرون

الأسرار (5)

" فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة" (1 بط 2: 1).
1. بمحبة الله وتحننه سمعتم ما فيه الكفاية بخصوص العماد والمسحة والشركة في جسد المسيح ودمه، والآن من الضروري أن ننتقل إلى ما يلي هذا في الترتيب، يعني أن تتوج البناء الروحي لثقافتك.
غسل اليدين وتطهيرنا من كل عمل خاطئ

2. إنك ترى الشماس (الدياكون) الذي يعطي الكاهن ليغتسل والكهنة الواقفين حول مذبح الله. أنه لا يعطيه الماء لأجل قذارة الجسد، لأننا لا ندخل الكنيسة بأجسام قذرة، لكن غسل اليدين يشير إلى ضرورة تطهيرنا من كل عملٍ خاطئٍ غير لائقٍ، لأن اليدين رمز الحركة، فبغسلهم يتضح أننا نقدم طهارة خلقنا غير الملوم.
ألم تسمع المطوّب يفتح هذا السرّ ويقول: "أغسل يدي بالنقاوة، وأطوف بمذبحك يا رب"، إذ يرمز غسل الأيدي إلى الحصانة من الخطية.
القبلة المقدسة

3. ثم يصرخ الشماس عاليًا قائلًا: "قبِّلوا بعضكم بعضًا"، ولنقبل بعضنا بعضًا. لا تظنوا أن هذه القبلة عامة، التي تقوم بين الأصدقاء، ليست هكذا. بل هذه القبلة تمزج النفوس ببعضها، وتحفظ لها غفرانًا عظيمًا. والقبلة علامة على أن نفوسنا قد اختلطت ببعضها، ومحت كل تذكر للأخطاء. لهذا قال السيد المسيح: "فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وتذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولًا اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك" (مت 5: 23). فالقبلة صُلح ولهذا السبب هي مقدسة. وكما يقول المطوّب بولس: "سلِّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة" (1 كو 16: 20). وأيضًا بطرس تحدث عن قبلة الإحسان (1 بط 3: 15).
ارفعوا قلوبكم

4. بعد هذا يصرخ الكاهن عاليًا: "ارفعوا قلوبكم". لأنه حقًا يجب علينا في هذه الساعة المهيبة أن تُرفع قلوبنا في الأعالي مع الله، ولا نكون في الأسفل مفكرين في الأرض والأمور الأرضية. وبذلك يأمر الكاهن الكل في هذه الساعة أن يطردوا كل اهتمامات هذه الحياة، من جهة المنزل أو القلق في أي شيء، ويجعلوا قلوبهم في السماء مع الله الرحيم. حينئذ تجيبون "هي عند الرب"، موافقين عليها باعترافكم. لكن، ليمتنع أي واحد من الحضور هنا من يقول بفمه: "هي عند الرب"، بينما أفكارهم مشغولة باهتمامات هذه الحياة. فالأفضل أن يكون الله في فكرنا في كل وقت. لكن إن كان هذا مستحيلًا بسبب نقصنا البشري، ففي هذه الساعة فوق كل شيء يجب أن نراعي سلوكنا بهمة.
فلنشكر الرب


5. ثم يقول الكاهن "فلنشكر الرب"... فإننا حقًا ملزمون أن نقدم الشكر لأنه دعانا ونحن غير مستحقين لهذه النعمة العظيمة، إذ صالحنا عندما كنا أعداءه حتى تلطف لنا بروح التبني حينئذ نقول "مستحق وعادل"، لأننا عندما نقدم الشكر نصنع شيئًا باستحقاق وعدل. لأنه لم يعمل لنا الحق بل أكثر من الحق، إذ جعلنا مستحقين لهذه الفوائد العظيمة.
شركة تسبيح مع السمائيين

6. بعد هذا نذكر السماء والأرض والبحر، الشمس والقمر والنجوم وكل الخليقة، العاقل وغير العاقل، المنظور وغير المنظور، عن الملائكة ورؤساء الملائكة الفضائل، السيادات، الزعماء والقوات، العروش، الشاروبيم ذا الوجوه الكثيرة كأنه يعيد هذا النداء لداود: "عظموا الرب معي" (مز 37: 3). نذكر السيرافيم الذي رآه إشعياء بالروح القدس واقفًا حول عرش الله، وبجناحين يغطون وجوههم، وباثنين يغطون أرجلهم، ويطيرون باثنين، صارخين قائلين: "قدوس، قدوس، قدوس رب الصباؤوت" (إش 6: 2-3). إننا نردد هذا الاعتراف: الذي سُلم إلينا من السيرافيم حتى نكون مشاركين في الأعالي للقوات في ترنمهم بالتسبيح.
التحول بالروح القدس

7. وإذ قدسنا أنفسنا بهذه الترانيم الروحية، نطلب رحمة الرب، ليرسل روحه القدوس على الهبات الموضوعة أمامه، أن يجعل الخبز جسد المسيح والخمر دم المسيح. فكلما يلمسه الروح القدس يتقدس ويتغير بالتأكيد.
ابتهالات وطلبات

8. ثم بعد إتمام الذبيحة الروحية، تتم الخدمة غير الدموية. وخلال ذبيحة الكفارة هذه نلتمس الله السلام العام لجميع الكنائس لخير العالم. نطلب عن الملك والجند، والمربوطين والمرضى والمتضايقين. وبالاختصار نصلي عن كل من يحتاج إلى الخلاص ونقدم هذه الذبيحة.
صلاة المجمع وعن الراقدين

9. ثم نحتفل بذكرى الذين رقدوا قبلنا. أولًا البطاركة (الآباء) والأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين لكي بصلواتهم وشفاعتهم يقبل الله التماساتنا. ثم نطلب الآباء القديسين والأساقفة الذين رقدوا قبلنا، وعن كل من رقدوا من المؤمنين لتكون فائدة عظيمة للنفوس التي نتوسل من أجلها، خلال هذه الذبيحة المقدسة والمهيبة موضوعة.
الصلاة عن الراقدين

10. وأرغب في إقناعكم في هذا الصدد. فإني أعلم أن كثيرين يقولون ماذا تنتفع نفس فارقت هذه الدنيا بذنوب أو بدون ذنوب، إذا ذُكرت في الصلوات؟ فإذا رغب ملك في إبعاد أشخاص ضايقوه فصاغ أهلهم تاجًا وقدموه له مراعاة لهؤلاء الذين تحت العقاب، ألاّ يمنح عفوًا لقصاصهم؟ فبنفس الطريقة عندما نرفع له توسلاتنا لمن رقدوا ولو كانوا مذنبين. نحن لا نصنع تاجًا: بل نرفع المسيح مقدمًا لذنوبنا، متوسلين لربنا الرحيم من أجلنا ومن أجل نفوسهم.
أبانا الذي في السماوات

11. ثم بعد هذه الأمور نقول هذه الصلاة التي سلمها المخلص لتلاميذه بضمير نقي، مخاطبين الله أبينا قائلين: "أبانا الذي في السماوات". يا لعظمة محبة الله المترفقة التي جاوزت كل حد على الذين عصوه وكانوا في تعاسة قصوى، أنعم عليهم بهذا الغفران الكامل لأعمالهم الشريرة، ومشاركة النعم العظيمة حتى يستطيعوا أن يدعوه "أبانا". والذين يحملون صورة السماوات، هم أيضًا سماوات حيث يسكن الله، ويمشي فيهم.
12. "ليتقدس اسمك". اسم الله في طبيعته مقدس إن قلنا أم لم نقل. لكن حيث يُكفر به في بعض الأوقات بين الخطاة كما قيل: "لأن اسمي يُجدف عليه بسببكم بين الأمم" (رو 2: 24)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. فنصلي أن يتقدس اسم الله فينا. ليس لأنه يتقدس من كان ليس مقدسًا، لكن لأنه يصير مقدسًا فينا عندما نصير مقدسين ونعمل أعمالًا تليق بالقداسة.
13. "ليأتِ ملكوتك" تستطيع النفس النقية أن تقول بدالة: "ليأتِ ملكوتك". لأن من سمع بولس يقول: "إذا لا تملكنّ الخطية في جسدكم المائت"، وطهر نفسه في الفعل والفكر والقول، يقول ليأتِ ملكوتك.
14. "لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض". ملائكة الله المقدسون المباركون يصنعون مشيئة الله، كما قال داود: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره" (مز 103: 24)، وعلى هذا نعني بالصلاة: "كما في الملائكة تكون مشيئتك، هكذا لتكن على الأرض فيّ يا رب".
15. "خبزنا كفافنا، أعطينا اليوم" هذا الخبز البسيط ليس خبزًا ضروريًا، لكن هذا الخبز المقدس أساسي، معين لأساس النفس، "لأن هذا الخبز لا يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج" (مت 15: 17)، لكن يوزع على جهازك كله لفائدة النفس والجسد. ويعني بـ"اليوم" كما قال بولس "مادام يدعى اليوم".
16. "واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا" إذ لنا ذنوب كثيرة لأننا نسيء بالقول والفكر وأشياء كثيرة جدًا نعملها نستحق عليها القصاص. "فإن قلنا ليس لنا خطية، نضل أنفسنا، وليس الحق فينا" كما قال المطوّب يوحنا (1 يو 1: 8). فنصنع مع الله عهدًا نستعطفه، ليغفر لنا خطايانا كما نغفر نحن لإخواننا ذنوبهم، مترجين ذلك فيما نتقبله، مستبدلين به غفراننا للآخرين، فلا نهمل أو نتأخر في تسامح بعضنا بعضًا. فالإساءات التي تُرتكب ضدنا خفيفة وزهيدة وتنتهي بسرعة. لكن التي تُرتكب ضد الله عظيمة وتحتاج إلى رحمة كرحمته فقط. لذلك انتبه لئلا من أجل الذنوب الزهيدة الطفيفة، تمنع عن نفسك غفرانًا من الله لخطاياك المحزنة.
17. "ولا تدخلنا في تجربة". هل هذا ما يعلمنا الرب أن نصلي لكي لا نُجرّب أبدًا؟ فكيف إذن يُقال في موضع آخر: "الرجل غير المُجرب، يعلم قليلًا" (سي 34: 10، رو 5: 3-4)، وأيضًا يقول يعقوب: "احسبوا كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع 1: 2).
لكن هل يعني الوقوع في التجربة ألا يدع التجربة تغمرنا وتجرفنا؟ لأن التجربة كسيل الشتاء يصعب عبوره. لذا فهؤلاء الذين لا يغرقون فيها يمرّون مظهرين أنفسهم سبّاحين ممتازين، ولم يُجرفوا في تيارها أبدًا. بينما الآخرون يدخلون فيها ويغرقون. مثلًا دخل يهوذا الإسخريوطي في تجربة حب المال، فلم يَسبح فيها بل غَرق، وشُنق نفسه بالجسد والروح (مت 27: 5). وبطرس دخل في تجربة الإنكار، لكنه دخل ولم يُسحق بها. لكن كرجل سبح فيها ونجا منها. أنصت ثانية في موضع آخر إلى جماعة من القديسين لم يُصابوا بضررٍ يقدمون الشكر لنجاتهم من التجربة. جربتنا يا الله -جربتنا بالنار كتجربة الفضة- وضعتنا في الشبكة، وضعت عذابات على ظهورنا. جعلت الناس يركبون على رؤوسنا. "جزنا في النار والماء لكن أخرجتنا إلى موضع راحة" (مز 65: 10-12). فخروجهم إلى موضع راحة يعني نجاتهم من التجربة.
18. "لكن نجنا من الشرير". إذا كان القول "لا تدخلنا في تجربة" يتضمن عدم الدخول في التجربة بالمرة، فالقول: "لكن نجنا من الشرير" فيعني أن نصلي لكي ننجو من الشرير عدونا إبليس. ثم بعد إتمام الصلاة تقول: "آمين" التي تعني "هكذا يكون". تضع ختمك على ابتهالاتك في الصلاة ذات التعليم الإلهي.
القدسات للقديسين

19. بعد هذا يقول الكاهن: "القدسات للقديسين". القرابين المقدمة على الهيكل هي مقدسة، بعد قبولها حلول الروح القدس عليها. كذلك أنتم قديسون لأنكم استحققتم الروح القدس.
لذلك فالأشياء المقدسة تتصل بالأشخاص المقدسين. حينئذ تقول: "واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس". واحد هو القدوس، واحد هو الرب يسوع المسيح، لأنه حقًا بالطبيعة قدوس. ونحن أيضًا قديسون، ليس بالطبيعة، لكن بالشركة والتكريس والصلاة.
الدعوة للتناول

20. بعد هذا تسمع المرتل يدعوكم بلحنٍ مقدسٍ للتناول من الأسرار المقدسة قائلًا: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مز 34: 8). لا تسلموا الحكم للفم الجسدي، بل للإيمان الذي لا يشك. لكن من يؤمروا أن يذوقوا لا يذوقون خبزًا وخمرًا بل جسد المسيح ودمه اللذين يمثلانه.
الحرص في التناول

21. لذلك في التقدم لا تأت برسغيك ممدودتين أو أصابعك منفردة، لكن اجعل يدك اليسرى عرشًا ليدك اليمنى، كأنك تستقبل ملكًا، وقد جوّفت راحة يدك لتقبل جسد المسيح قائلًا: آمين. وهكذا بعد أن قدست عينيك بعناية بلمس الجسد المقدس اشترك فيه منتبهًا لئلا يُفقد جزء منه...
اخبرني، إن أعطاك أحد حبوبًا من ذهب ألاّ تمسكها بكل عناية حارسًا لها من الضياع والخسارة؟ أليس بالأولى إذن أن ننتبه حتى لا يسقط فُتات مما هو أغلى من الذهب والحجارة الكريمة؟
الشركة في دم المسيح

22. ثم بعد أن تشترك في جسد المسيح، تقرب أيضًا إلى كأس دمه، ليس بمد يديك لكن بالانحناء بروح العبادة والإجلال قائلًا: "آمين"، مقدسًا نفسك بالمشاركة أيضًا في دم المسيح. وبينما تكون شفتاك مازالتا رطبتين ألمسهما بيديك، وقدس عينيك وجفنيك وأعضاء الحواس الأخرى. ثم انتظر نهاية الصلاة، وقدم الشكر للذي حسبك مستحقًا لهذه الأسرار العظيمة.
لا تحرموا نفوسكم عن هذه الأسرار المقدسة الروحية

23. تمسكوا بهذه التقاليد بلا دنس، واحفظوا نفوسكم من المعصية، لا تحرموا تنفصلوا عن الشركة، ولا تحرموا نفوسك بدنس خطاياكم عن هذه الأسرار المقدسة الروحية. "وإله السلام يقدسكم بالتمام، ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح" (1 تس 5: 23)، الذي له المجد والكرامة والقدرة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى الأبد(7). آمين".


الساعة الآن 06:46 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025