![]() |
كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري https://upload.chjoy.com/uploads/165936703649941.jpg نشكر أسرة الأستاذة إيريس حبيب المصري على السماح لنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت بوضع هذا الكتاب هنا (من خلال د. آمون كامل غبريال). مع ملاحظة أنه تم عمل تعديلات بسيطة على بعض عناوين الكتاب من قِبَل الموقع ليتضح المعنى (التعديل في العناوين باللون الأخضر في العناوين الكبيرة، وتُرِكَ العنوان الأصلي كذلك موجودًا في الصفحة بعده). في أول الكتاب المطبوع كُتِبَ هذا الإهداء: الإهداء، إلى كل نفس متطلعة نحو امتداد الملكوت. ← بيانات الكتاب: الناشر: كنيسة مارجرجس باسبورتنج، مطبعة الكرنك بالإسكندرية، (تقريبًا في الثمانينات من القرن العشرين). |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
مقدمة + إنه في لحظة خاطفة، وبالنعمة الإلهية العجيبة، سطعت رؤيا أمام شاول، تعلّم منها أن يسوع الناصري الذي أبغضه واحتقره واضطهده، وقد تجلى أمامه الآن في المجد، هو القدوس البار ابن الله الوحيد. إنه لم يره في شبه غيبوبة ولا في حلم غامض. بل رآه وجهًا لوجه في بهاء من النور وبتوكيد واقعي جعلاه لا يستطيع أن يرى غيره. لم يعد هناك شك إطلاقًا في أن الجليلي المهان ليس سوى رب المجد والحياة. وفي اللحظة استُعلن لشاول أنه سفير للقدوس؛ وأنه من هاتين الشفتين الإلهيتين سينال -من حين إلى حين- كل التوجيهات التي تمكنه من أن يؤدي بالتمام المسئوليات العظمى التي أُئتمن عليها. ومن عمق ضميره المعذب صدرت الصرخة: "ماذا تريد أن أعمل يا رب"؟ ولقد ظلت هذه الرؤيا عقيدة راسخة في داخله إلى آخر حياته: إنه المندوب المختار والرسول المعَّين من الرب، وفي الرؤى التي منحه إياها الرب انغرست رسولية شاول الطرسوسي. ولقد وجد في الصحراء العربية أماكن للعزلة يخلو فيها إلى نفسه، ويتمعن ماضيه ويتبادل الحوار الممتع مع ربه، وتجد مثلين لهذا اللقاء مع السيد المسيح: أولهما ورد في الأصحاح الحادي عشر من كورنثوس الثانية حيث قدَّم كشفًا تفصيليًّا لكونه رسولًا معتمد؛ وثانيهما أكثر روعة وأعمق أثرًا على مدى الأجيال، وهو تعليمه عن الكفارة وعن قيامة الرب (1كورنثوس1: 1-4). فهو في الطريق إلى دمشق عرف أن يسوع الناصري هو ابن الله، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وفي لقاءاته معه في الصحراء تعلَّم أنه حمل الله الذي يحمل خطايا العالم. وفي ختام استعراضه للتدبير الإلهي لتحقيق الفداء وإعادة الإنسان إلى كيانه الأصيل يضيف استعلانًا آخر: هو سرُ ما كان ليمكن اكتشافه على ضوء الطبيعة ولا بنور العقل الإنساني؛ سر أسرَّ به الفادي الحبيب في قلب رسوله المختار فأورده في رسالته إلى الكورنثيين (1كورنثوس15: 51-57) فهو قد رأى المخلص المتجلي، وحتمية البقاء معه إلى الأبد في الدهر الآتي هوّنت كل آلامه الحاضرة. وروح الإنسان الجديد فيه ذو طبيعة متواصلة مع الروح الإلهي الذي به وبفاعليته تتفتح للذهن المتجدد تعاليم عن الحقائق الإلهية تمكنه من أن يتفّهم وأن يتكلم بيقين عن هذه التعاليم. ولئن ملأته فخامة الرؤى أحيانًا بنشوة من الفرح فإنه كثيرًا ما خشع في تواضع لوعيه بعدم استحقاقه. ولم تكن هناك من ضيقات مهما بلغت قسوتها لتخفف من غيرته المشتعلة ومهما بلغ به التعب لا يتوانى لحظة في جهاده: فرفع الشعلة عاليًا إلى آخر نسمة من حياته. + ولو أننا قارنا بين شاول الذي استفزّ الجمهور الصاخب على قتل استفانوس وبين بولس وهو يشفع في أنسيمس لهتفنا تلقائيًا: حقًا ما أطول المشوار الذي ساره مع ربه الحبيب يسوع المسيح.
|
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165936703649941.jpg نشأة شاول + لقد نشأ بولس في مدينة طرسوس التي كانت ميناء تجمع بين مختلف الشعوب. فنشأ من البداية بين اليهود بناموسهم وأنبيائهم وتطلعهم نحو المسيا، وتعامل مع اليونانيين أصحاب اللغة المرنة الشائعة بين جميع المتعلمين والتي أصبحت الوسيلة للبشرى المسيحية؛ وتلاقى مع الرومان الذين "سبكوا" داخل نظامهم الإمبراطوري الدقيق الشعوب المتباينة التي كانت المسيحية ستعمل في قلوبهم. لقد عاش بين جميعهم منذ صباه، وإليهم كلهم حمل رسالة المصلوب. كانوا ينظرون إليه من موقعهم العالي باستخفاف. أما هو، فمن موقعه الأعلى، كان ينظر إليهم بشفقة ومحبة. ولكن لنبدأ من البداية. لقد كان أبو شاول تاجرًا ولا بد من أنه بلغ مكانة مرموقة لأنه حصل على الرعوية الرومانية ولو أنه كان فريسيًا عنيفًا. ومن المؤسف أننا لا نعرف شيئًا عن أمه، ولو أنها كانت من غير شك متمسكة بالناموس والأنبياء. ومن غير شك أيضًا كانت تحلم بأن ينشأ ابنها متمسكًا بهما بدوره. لهذا أرسل الوالدان شاول إلى أورشليم ليجلس عند قدميّ غمالائيل كبير معلمي الناموس آنذاك. وبعد استيعابه كل ما علّمه إياه هذا المعلم الكبير عاد إلى طرسوس وظل بها عشرين سنة. + ورجع إلى أورشليم بعد ذلك. وخلال غيابه عنها كان السيد المسيح قد أتّم الفداء. فلم يكن لأهل أورشليم حديث غيره. وأصيب شاول بغيظ جارف أمام تلاميذ الرب الذين يعلّمون في قلب المدينة التي صلبته بأن الناصري هو المسيا. وكان عدد المؤمنين به يتزايد يومًا بعد يوم حتى لقد كان بينهم بعض الكهنة فكيف يستطيع هؤلاء أن يقولوا: "هكذا أحب الله العالم" مع أنه هكذا أحب الله اليهود؟! |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ وكان الشماس استفانوس في طليعة المنادين بالبشرى الجديدة: كان باسلًا لا يرهب إنسانًا بل يتحّداهم جميعًا. صحيح أن شاول كان قوي الحجة ولكنه وجد في الشماس الوفّي كفؤًا له: أفحمه هو وجميع الذين اختطفوه إلى مجمعهم ليتحاجّوا معه. فلما أعوزتهم الحجة جرّوه خارج المدينة ورجموه. + ولم ينس شاول هذا اليوم إلى آخر نسمة من حياته. + على أن العبرة الرائعة هي أن الله يدفن العاملين في كرمه ولكنه يستمر في العمل. لأن الحق لا يموت. فمن ذا الذي كان يخطر بباله أنه خلال شهور قصيرة سيحل أعند خصومه مكانه في الكرازة؟! + وتشتت التلاميذ والذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة. لقد افتتح استشهاد استفانوس انتصار "القطيع الصغير". نعم لأن تدبير الله يعلو على أغراض الناس. وتأمل شاول نتيجة عمله فازداد غيظه اشتعالًا لأن الكارزين في هروبهم من بطشه حملوا البشرى إلى البلاد التي لجأوا إليها. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ وذات صباح، وبعد ستة شهور من استشهاد أول الكارزين استفانوس، خرج شاول مع جماعته قاصدًا إلى دمشق. كان أمامه مائة وخمسين ميلًا على الطريق الذي يحمل الكثير من الذكريات. فقد سار عليه نعمان السرياني (2ملوك 5: 1-14)، ومن قبله أليعازر وكيل إبراهيم (تكوين 24: 1-10). وبالإضافة فهو طريق يمتد وسط جمال مدهش من الطبيعة. ولكن شاول لم يكن في حالة نفسية تمكنه من استعادة الذكريات ولا من الاستمتاع بالجمال الذي خلقه الله، إنه ذاهب لاصطياد أتباع الناصري، وكان قلبه محتدمًا بالغيظ. + ولكنه لم يكن يعلم أن صيادًا آخر سائر على الطريق عينه. + وكانت المسافة التي سيقطعها شاول تستغرق ستة أيام بلياليها. ستة أيام لا شغل فيها يشغله. وفي عمق أعماقه انتصب ضميره ليحاسبه. + أخيرًا وصل إلى قمة التل الذي يستطيع منها أن يرى دمشق. وفجأة. وفي رائعة النهار، ومن السماء، سطع مجد بهير يفوق ضياء الشمس وفي وسط بهاء هذا المجد رأى مسيح الرب. رآه رؤيا ظلت ملازمة له طيلة حياته. وسمع صوتًا ظل يرن في أذنيه مدى أيامه: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟" -"من أنت يا رب؟"- "أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده". فصدّق شاول لساعته هذه الكلمات وآمن بها عن يقين. وفي رعدة ودهشة عظيمتين سقط على الأرض في تسليم كامل: "ماذا تريد يا رب أن أفعل؟" لقد اهتزّ كيانه كله لقد رأى يسوع المسيح رؤية العين وفي ملء يقظته. أخيرًا ظفر به الصياد السماوي! + وهنا نقطة يجب أن نذكِّر أنفسنا بها باستمرار. فحين تحّدث في الأصحاح الجليل عن القيامة وعن الجسد الروحاني الذي سنلبسه- من أين أتى بفكرته عن الجسد الروحاني؟ إن المتمعن يدرك في الحال الصورة المرتسمة في ذهنه: إنها رؤياه ليسوع الممجد التي عرّفه بها - "هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ." (1كورنثوس 15: 42-44). + وثمة نقطة أخرى ذات أهمية خاصة هي احترام السيد المسيح للسلطان الذي منحه إياه لتلاميذه: إنه منحهم سلطان الحل والربط،وحين سأله شاول "ماذا تريدني يا رب أن أفعل؟"، أجابه: "اذهب إلى دمشق وهناك يقال لك ماذا ينبغي أن تفعل". فهو الذي منح السلطان ومع ذلك لم يقل لشاول بنفسه ماذا يفعل وإنما أرسل إليه حنانيا الرسول ليعلّمه وليصلي عليه ويعطيه الحل. وهذا درس يعطيه الرب: أن نحترم سلطان الكهنوت. _____ |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ ورفعه رفقاؤه من على الأرض. رفعوا رجلًا مرتعدًا ذا أعصاب منهارة وعينين أعماهما اللمعان. وحملوه إلى دمشق ورفض الأكل والشرب بل رفض التحيات. وكان كل همه أن يخلو إلى نفسه. وقضى ثلاثة أيام رهيبة منعزلًا في غرفة مظلمة وحده مع ضميره. وحده مع الله. ولن يستطيع أحد أن يعرف ما دار بينه وبين إلهه في هذه الأيام الصامتة. ولكن ليس من شك في أن شعاعًا من النور اخترق ندمه وألمه. شعاع المحبة الحانية الغافرة التي أبداها السيد المسيح في مجيئه إليه. لم يستطع شاول أن ينسى هذه المحبة الغامرة مدى حياته. وبهذه البهجة المطمئنة لقلبه نستطيع أن نتعاطف معه في صراعه المزعج. إذ لم يلبث سلام الله أن تسرب إلى قلبه، وانتهت الأزمة برجل راكع يبكي حين أبلغه حنانيا الرسول ماذا يجب عليه أن يعمله. + هل خطر ببال أحدنا أن الله يعرف اسم الشارع ورقم البيت الذي نسكنه؟ إن نعجب فلنذكر توجيهه له المجد إلى البيت الذي أرشد حنانيا إليه. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ وبدأ شاول لفوره يكرز حتى لقد بلغت غيرته حدًا جعل اليهود في دمشق يستهدفون قتله فعاد إلى أورشليم، ولكن التلاميذ خشوا تصديقه إلى أن جاء برنابا لنجدته. ثم حين بدأ يكرز رفضه الجميع وحاولوا بدورهم أن يقتلوه. فاستصحبه بعض التلاميذ إلى قيصرية، ومن هناك أرسلوه إلى طرسوس. وكان قد غاب عنها عشرين سنة فكان معظم من قابلهم لا يعرفونه. أما من عرفوه فقد أولوه ظهورهم بصفته خائنًا للناموس والأنبياء. على أن الذي يجب أن نذكره هو أن الله يدرِّب أعظم خدامه عن طريق العزلة والفشل وخيبة الأمل. + وقضي شاول سنتين دون أن يتمكن من إعلان البشارة التي ملكت عليه نفسه. + وللمرة الثانية جاء برنابا لنجدته. وكان رجلًا طويل القامة ذا وجه صبوح وعينين برّاقتين، متفائلًا مبتسمًا مرطّبًا للنفوس. كذلك كان من أوائل الذين باعوا ممتلكاتهم وألقوها عند أرجل الرسل. والاسم "برنابا" أطلقه عليه الرسل ومعناه "ابن العزاء" و"ابن الوعظ". وكان قد ذهب إلى أنطاكية مع بعض الرسل الذين كانوا مصّرين على الكرازة بين اليهود فقط فلم يستسغ هذا الضيق القلبي. وأحسّ في الوقت عينه أنه لا يستطيع إيقافه بنفسه فذهب لساعته إلى طرسوس وأتى بشاول. وهنا تتضح العظمة الروحية لابن العزاء. لقد كان يهدف إلى توسيع نطاق المسيحية لتشمل الأمم. فلم يتراجع عن أن يستقدم الشخص الذي يستطيع الوصول إلى هذا الهدف. إن برنابا في مسلكه مع شاول أشبه بالأساس المختفي تحت الأرض ليقوم عليه البناء شامخًا. + لقد دقت الساعة. واستعد الرجل. ووجد شاول الطرسوسي رسالة حياته. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165936703649941.jpg شاورل وسنة من الكرازة البهيجة: + ومرت سنة اجتمعا خلالها في الكنيسة بأنطاكية وعلّما جمعًا غفيرًا. ودعى التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولًا (سفر أعمال الرسل 11: 26) ترى من الذي دعاهم بهذا الاسم؟ من المستحيل أن يكونوا اليهود وهم صلبوا رب المجد وقاوموا رسله في كل مكان. إذن فالأغلب أن الأمميين هم الذين أطلقوه عليهم. ونحن، بعد تسعة عشر قرنًا من المسيحية، لن نستطيع أن نتصوّر ما كانته للإنسان في بدايتها. إنها كانت لهم بشارة: أخبارًا مذهلة مليئة بالفرح والرجاء. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165936703649941.jpg شاول يصبح بولس: + وبعد هذه الفترة الواضحة النجاح، وبينما الكارزون يصلّون، قال لهم الروح القدس أفرزوا إلي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي وأطلقوها. - (أعمال 13: 1-3) وهنا نرى المساواة التامة بين الرسل إذ قبل برنابا وشاول أن يضع الآخرون أيديهم عليهما - وخرج الصديقان في رحلتهما المليئة بالمخاطر، والتي استمرت ثلاث سنوات. خرجا وقلباهما يفيضان فرحًا لأن عليهما رسالة تلهبهما. ومما زاد فرح برنابا أن يوحنا المُلقب مرقس كان معهما خادمًا. فقصد ثلاثتهم إلى قبرص موطن برنابا. واجتازوا الجزيرة منادين بالكلمة. ووصلوا إلى بافوس "المدينة البيضاء" حيث دعاهم إليها "سرجيوس بولس" والتمس أن يسمع كلمة منهم. وكان إلى جانبه رجلًا ساحرًا كذابًا يهوديًا اسمه "بار يشوع". فقاومهم مستهدفًا إفساد الوالي عن الإيمان. أما شاول الذي هو بولس أيضًا فوبّخه بعنف إلى حد أن جعله أعمى إلى حين. فامتلأ الوالي دهشة وآمن لتوّه. + ومما تجدر الإشارة إليه أن تغيير الاسم مؤشر إلى تحول الشخصية، وهذا واضح من أن السيد المسيح حين اختار تلاميذه غيّر أسماء عدد منهم: فيعقوب ويوحنا دعاهما: "ابني الرعد"، ولاوي أسماه: "متى"، وسمعان بن يونا أطلق عليه اسم: "بطرس"، و"شاول" هو اسم أول ملك لإسرائيل ومعناه "المرغوب فيه"، فهو اسم يهودي محض لشخصية ملكية. في حين أن "بولس" هو اسم روماني ومعناه "الصغير". إذن فحين اتجه هذا الكاروز الملتهب نحو الأمميين اتخذ اسمًا يتناسب وكرازته في المجال الجديد. + ثم اتجهوا إلى برجة بمفيليا حيث فارقهما مرقس،وكان لهذا الفراق أوخم العواقب بعد خمس سنين. واستمرا هما في رحلتهما على الطريق الجبلي الصاعد إلى الداخل المليء بالمخاطر، وعبر مساقِط مائية هادرة، وممرات يرتعد الناس من مجرد المرور أمامها لكونها مغاور اللصوص وقطّاع الطرق. ولا يعلم أحد ما أصابهما خلال الشهور الأولى. ومن الممكن أن ما صَوره بولس عن "أخطار سيول وأخطار لصوص" للكورنثيين (2كورنثوس 11: 26) كان إشارة إليها. + أخيرًا وصلوا إلى أنطاكية بيسيدية. وفي السبت دخلا المجمع. فطلب إليهما رئيسه أن يُكلما الشعب. فقام بولس لفوره وتكلم عن تحقيق النبوات عن المسيا في السيد المسيح. أخيرًا ألقى كلمة أذهلتهم جميعًا حتى لكأننا نحسّ بأنهم حبسوا أنفاسهم، وهي الحديث عن القيامة التي دعّم الأنبياء حقيقتها أيضًا. ألم يقل المرنم: "لن تدع قدوسك يرى فسادًا"؟ (مزمور 16: 10) وهذه القيامة هي أعظم دليل قدّمه الله للناس. ولقد رأى السيد المسيح القائم عددًا كبيرًا ممن كانوا معه وهم شهوده الآن. واختتم هذا الخبر المذهل بتحذيرهم: "فانظروا لئلا يأتي عليكم ما قاله حبقوق النبي: [أنظروا أيها المتهاونون وتعجبوا واهلكوا. لأنني عملًا أعمل في أيامكم. عملًا لا تصدقون إن أخبركم به أحد] (حبقوق 1: 5): "اُنْظُرُوا بَيْنَ الأُمَمِ، وَأَبْصِرُوا وَتَحَيَّرُوا حَيْرَةً. لأَنِّي عَامِلٌ عَمَلًا فِي أَيَّامِكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ بِهِ إِنْ أُخْبِرَ بِهِ". وهكذا تركهم يلهثون من انفعالاتهم. + وفي السبت التالي ازدحم المجمع حتى الباب. وقد حضر عدد وفير من الأمميين لأن بولس أعلن أن المسيا هو للجميع. وهذا أسخط غالبية اليهود الذين جاءوا وهم ممتلئون حنقًا. وحالما وقف ليتكلم قاوموه بالمعارضة وبالتجديف. واحتملهم قدر الإمكان. ثم أسكتهم بإشارة قاطعة، فهو خلال ضجتهم اتخذ قرارًا حيويًا حاسمًا: قرارًا أحدث ثورة تامة لكنيسة المستقبل. وبكلمات متزنة بطيئة تهتز بالانفعال الداخلي أعلن: "كان يجب أن تكملّوا أنتم أولًا بكلمة الله. ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجّه إلى الأمم. لأن هكذا أوصانا الرب" (أعمال 13: 46-47). + إن تلك العظمة كانت مَعْلما في حياة بولس. لقد فرد شراعه عاليًا ورسم عليها: "لم يعد اليهودي وحده المختار من الله فالكنيسة للعالم أجمع". فلم يكن من الممكن له بعد ذلك أن يبقى في بيسيدية. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ ومرة أخرى سارا فوق الجبل نحو مدينة عند طرفه الآخر هي مدينة لسترة. ويبدو أنهما وصلاها في يوم عيد لأن المدينة كانت مزدحمة إلى حد أن بولس وقف يتكلم في ميدان عام. ووسط المستمعين تركّز انتباهه على عينين مليئتين بالتطلع صاحبهما أعرج. وإذ وجد خلفيهما القلب المتفتح قال بصوت عظيم: "قُمْ عَلَى رِجْلَيْكَ مُنْتَصِبًا" فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي (أعمال 14: 8- 10). وذهل الحاضرون ذهولًا جعلهم يصرخون: "إِنَّ الآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا". ولشدة اقتناعهم بهذا أطلقوا على برنابا اسم "زَفْسَ" وعلى بولس اسم "هَرْمَسَ"(1). وزادوا على ذلك أن أتوا بثيران ليذبحوها تقدمة لهما وبأكاليل من الورود ليضعوها على رأسيها لولا أن الرسولين منعاهم. + ولكن بالسرعة تقلب الإنسان! فما كاد بولس يتحدث عن بطلان الأوثان وعن الله الواحد خالق السماء والأرض حتى أخذت نفوس سامعيه في الغليان. وأخذوا يصرخون ضدهما. فتراكض نحو الساخطين جمع غفير من الأزقة الجانبية. وفي لحظة انهالت عليه الحجارة وسقط على الأرض وهو مغمض العينين، ولكن ذهنه كان ما زال صاحيًا وعاد به اثنتي عشر سنة إلى الوراء ليرى رجمًا آخر. ثم اختفت الصورة إذ فقد وعيه. وظن راجموه أنهم قضوا عليه فجروه إلى خارج المدينة على أنه ما كاد التلاميذ يحيطون به حتى أفاق وقام ودخل معهم المدينة! + وما أعجب تعامل الله مع الإنسان! فرجم استفانوس قد أعطى الكنيسة بولس المجاهد العظيم؛ ورجم بولس يأتي إليه تيموثيئوس الذي جاهد معه إلى حد أن دعاه الرسول الكبير "ابنه". ثم غادر الرسولان لسترة في اليوم التالي إلى دربة فأيقونية ومنها إلى أنطاكية. فاجتمعا بزملائهما القدامى: "سِمْعَانُ الَّذِي يُدْعَى نِيجَرَ"، و"وَلُوكِيُوسُ الْقَيْرَوَانِيُّ"، و"مَنَايِنُ" الذي تربّى مع هيرودس. وهنا نعجب مرة أخرى: فاثنان تربيا معًا كان أحدهما قاتلًا للمسيحيين وثانيهما كارزًا بالسيد المسيح. وسرد الرسولان عليهم كل ما فعله الله وكيف أنه فتح بابًا للأمم. على أن ثلاثتهم عبروا عن توجعهم من رجال أتوا إليهم من أورشليم ونادوا بأن من لا يختتن لا يخلص. + ووضح للكارزين وجوب ذهابهما إلى أورشليم لأن المعركة احتدم أوارها . كانت معركة من أجل الحرية فصمم بولس على خوضها إلى النهاية. أنه لن يرضى إطلاقًا بأن يجّروا الذين آمنوا من الأمم تحت نير الناموس. ولن يرضى مطلقًا بأن تصير المسيحية مجرد شيعة يهودية. فأعلن تحديه جهارًا - هذا التحدي الذي كرره فيما بعد: "فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ" (غلاطية 5: 1) مؤكدًا أن الناموس لم يكن سوى مؤدبنا إلى المسيح. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ ووقف الجانبان وجهًا لوجه ينادي كل منهما بأنه مرتكن على وصية الله. فكيف الخروج من هذا المأزق؟ إن رب الكنيسة قد منح رسله الأطهار الحكمة والفطنة والرسوخ، وبنعتمه أصبح بولس الأداة العظمى لإتمام العمل اللازم لوجود الكنيسة الجامعة. فالكنيسة -في كل العصور- لم تكن محتاجه إلى مصارعين ذوي عزيمة فقط، بل احتاجت إلى جانبهم إلى أشخاص متزنين متعاطفين متبصرين. وهكذا تقرر أن يجتمع الكارزون كلهم في أورشليم. وبذلك عقدوا أول مجمع كنسي. وأسندوا الرياسة إلى يعقوب الرسول(1) بوصفه أسقف أورشليم، وكان يهوديًا عنيفًا. وتكلم بطرس أولًا فشهد كيف أن الله قد قبل الأمم مباشرة إلى حد حلول الروح القدس عليهم. وبعد ذلك نودي على بولس وبرنابا فسردا بالتفصيل عجب الله في الأمم وتفتّح قلوب هؤلاء الأمميين له. وليس من شك في أن بولس استخدم كل إمكانياته الروحية والذهنية في الدفاع عن حرية مجد أولاد الله. + أخيرًا وقف يعقوب وكأنَّى بالحاضرين قد حبسوا أنفاسهم انتظارًا لما سيقوله رئيس المجمع المعروف بانحيازه العنيف لليهودية. ويا لعجب عمل روح الله! فهذا الذي كان يستند إليه المنادون بالتهوّد قد أعلن صراحة بأن لا يثقلوا على الأمم بالختان! وهكذا انتهى نقاش المجمع بروح المحبة والتقدير المتبادل (أعمال 15: 1-35). |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ على أنه من المؤسف أن هذا التناغم الحلو لم يجعل بولس يتقبّل رجاء برنابا باستصحاب مرقس حين عزما على العودة إلى البلاد التي كرزا فيها. وعندها افترق الزميلان: فأخذ برنابا مرقس وذهبا إلى قبرص بينما استصحب بولس سيلا وعادا إلى أنطاكية. وسار العمل في هدوء وطمأنينة وتعايش اليهود والأمميون في الحرية التي حررهم بها السيد المسيح. وفجأة جاء من أورشليم بعض ممن كانوا لا يزالون متهوّدين. وبما أنه لم يكن في استطاعتهم الخروج على الإجماع الرسولي فقد صمتوا ولكنهم تعالوا على الآخرين وقاطعوهم واحتملهم بولس لفترة ما ولكنه لم يستطع الصمت حين رأى بطرس يتذبذب. وليست هناك أية إشارة إلى ما جرى إذ ذاك. ثم بعد ذلك بعشر سنوات رواها بولس للغلاطيين في استماتته على تحرير المسيحية من أغلال الناموس. فجاءت رسالته هذه بوقًا للمعركة إذ وجد تأرجح أهل غلاطية. إذن فقد ظل الخطر يتهدد الكنيسة مدى سنوات. ولكن بولس لن يهدأ ولن يستكين ولن يدع عمل الفداء الواسع سعة الأفق أن يقمطوه بأقمطة الناموس الضيق، ولفوره لبس سلاح الله الكامل وواجه الخطر ببسالته المعهودة. ولكي ندرك السبب لعنف الصراع يجب أن نعرف أن الخطر كان يتهدد كيان الكنيسة، فلو أن رسول الأمم انهزم لتحوّلت المسيحية إلى مذهب منحصر داخل حدود فلسطين أو إلى ملحق لليهودية! أما الكنيسة الجامعة العظمى الممتدة من أقاصي الأرض إلى أقاصيها فما كان ليمكن أن تقوم. + ولنوضح ناحيتي المشكلة: أ- الخلاص بأعمال الناموس، ب- الخلاص بالتسليم للإيمان بابن الله. + فما معنى أعمال الناموس؟ كانت الديانة اليهودية قد تداعت. فالوصايا التي أعطاها الله أخذ الكهنة والكتبة يضيفون إليها إضافات تزايدت بمرور الزمن. وبتزايدها ماتت الروح وتحولت إلى أوامر ونواهي ظاهرية شكلية حلّت محل الله الحي. ألم يقل عنهم رب المجد "إِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالًا ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ"؟ (متى 23: 4) واستكمل هذه الكلمات بثماني ويلات أولها أنهم "يغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ..." (متى 23: 13-36). كذلك أعلن لهم أنهم تركوا وصية الله وتمسكوا بكلام الناس، "لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ" (مرقس7 : 1-13) وبولس الذي عرف دقائق الناموس عرف أن من استطاع أن ينفذها كلها حرفيا نال الخلاص، ومن لم يستطع هلك. فأصبح الله قاضيًا قاسيًا من الصعب حصر شرائعه ومن الصعب تنفيذها. وهو لذلك قال لبطرس قدام الجميع: "إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميًا لا يهوديًا فلماذا تُلزم الأمم أن يتهوّدوا"؟ وهكذا بدأ بولس الصراع للفصل بين المسيحية واليهودية منذ أن كان في أنطاكية واستمر يصارع في هذا السبيل مع الغلاطيين. وأكد أن الصليب قام حدًا فاصلًا بين أعمال الناموس وبين الحرية التي حررنا بها السيد المسيح الذي ليس فيه يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر ليس ذكر ولا أنثى بل الجميع واحد فيه. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165936703649941.jpg
بولس يتجه غربًا ويلتقي بالقديس لوقا في ترواس الاتجاه غربًا: + وبينما بولس في أنطاكية امتلأ قلبه حنينًا لرؤية أحبائه القدامى فقصد إلى لسترة. وفي هذه الزيارة تخّير تيموثيئوس ليكون رفيقه ولم يمكث بها إلا قليلًا لأن النداء الذي يتردد داخله دفعه إلى السفر غربًا. فمرّ هو وتيموثيئوس مرورًا عابرًا بغلاطية، واستمّرا متّجهين غربًا. أخيرًا وصلا إلى ترواس وفي هذه المدينة التقى بشخص صار رفيقه وصديقه إلى آخر حياته، وهو لوقا الطبيب المحبوب كما أسماه هو فيما بعد. وهذه الصداقة أغنت العالم غنى دونه كنوز سليمان. لأن هذا الرفيق سجّل لنا تحرّكات بولس في سفر الأعمال. ولكن كيف نعرف أنهما تلاقيا في ترواس؟ نعرف ذلك من أن الرد لم يعد بصيغة المفرد بل أصبح بصيغة الجمع. ثم انتقل الأصدقاء بعد ذلك إلى تسالونيكي. + ووقف بولس ذات مساء على مرتفع في ترواس يتأمل الجبال الأوروبية عبر البحر. ولما أرخى الليل سدوله أدرك معنى اندفاعاته الملّحة نحو الاتجاه إلى الغرب: كان المعنى "أوروبا" - ففيها سيزرع صارية الصليب المقدس إذ قد ظهر له في حلم رجل مكدوني يقول له: "اعبر وأعنا". ولفوره تفهّم أن الله يناديه لهذا العمل الجديد. وفي الصباح أقلعوا إلى ساموثراكي ومنها إلى نيابوليس ثم فيلبي. وهكذا وصل الإنجيل إلى القارة الأوربية من الشرق. وجدير بنا أن نعرف أن بولس لم يتبع مخططًا وضعه هو لنفسه بل كان يسير خطوة بخطوة تحت إرشاد الروح القدس. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165936703649941.jpg
إنه سبت في مدينة فيلبي + ...إنه سبت في مدينة فيلبي. وبحث الكارزون عن مجمع فلم يجدوا. فالقانون الذي وضعه الناموسيون يحتم وجود الرجال لإقامة مجمع ولكنهم لإدراكهم أن الإنسان إن أهمل الصلاة سيتوه عن الله سمحوا بالاجتماع في أي مكان مناسب. وفي فيلبي كان هذا المكان عند النهر. ولم يكن به غير النسوة وليس بينهم رجل واحد. فاجتمع بهن الكارزون ونادوا فيهن بكلمة الخلاص. وكانت أبرز شخصية بينهن ليديا بائعة الأرجوان. + ولنقف قليلًا في شيء من الذهول أمام التغيير الهائل الذي أصاب شاول الفريسي. فالشريعة الموسوية تحكم بأن عشرة رجال يكفون لإقامة مجمع في حين أن ألف امرأة -بل ومضاعفات الألف- لا تكفي! وهذا الفريسي ابن الفريسي الذي تشبّع في طفولته وفي شبابه بهذه التعاليم لم يتراجع -وهو في فيلبي- عن أن يتكلم في اجتماع كله نسوة! إنه لم يعد شاول إنه بولس رسول الأمم المنادي بحرية مجد أولاد الله والمصارع الباسل ضد التهوّد (مَنْ لنا ببولس في هذه الأيام؟!) + وهكذا شاء الرب أنه كما ظهر بعد قيامته للنسوة أولًا أن يتراءى للنسوة أولًا في أول مدينة أوربية. لقد حرر المرأة من لعنة الناموس ومنحها في تلك المدينة التي كانت أولى مدن أوروبا تتلقى البشارة. ومذاك، بل ومن قبل، وإلى الآن نرى أن المرأة هي قلب الكنيسة النابض. فقد وقف الرجل أمام الأضواء، وتكلم، ووعظ، ولكن المرأة داخل بيتها هي التي علّمت أولادها ومازالت تعلّمهم. وهي التي تستصحبهم معها إلى الكنيسة جيلًا بعد جيل، فترضعهم اللبن الروحي مع اللبن الجسدي. ولنذكر هنا أيضًا أن كنيسة ثياتيرا، إحدى الكنائس التي وجّه يوحنا الرائي الحديث إلى ملاكها، قد ساهمت ليديا بائعة الأرجوان في بنائها. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165979006629541.jpg السجن الداخلي لبولس + وهناك امرأة أخرى برزت في فيلبي بعد شهور من الالتقاء بليديا، هي جارية بائسة بها روح عرافة، يستغلها أسيادها للمال الذي تكسبهم إياه. وعلى الرغم من أن الأرواح المتصلة بها شريرة، فقد استشفّت هذه المسكينة حقيقة الكارزين. فتابعتهم أيامًا وهي تصرخ: "هؤلاء الناس هم عبيد العلي الذين ينادون لكم بطريق الخلاص". فتضجّر بولس وأخرج منها الروح النجس. وحين فقد أسيادها مورد رزقهم هاجوا هياجًا عنيفًا ضد الرسول الملتهب. وفي صباح اليوم التالي أوقفوا بولس وسيلا في المحكمة. فصدر عليهما الحكم بالضرب بالعصى وبطرحهما في السجن مع توصية السجّان بأن يضعهما في السجن الداخلي. وإمعانًا منه في استرضاء الحكام وضع أرجلهما في المقطرة. كان العالم الذي يعيش فيه رسول الأمم كله قسوة وبطش. بينما كان عالمه الداخلي كله مجد وبهاء. أليس يعيش مسيحه؟ + ولو أننا تأملنا لوجدناه ضعيف البنية حسّاسًا، متوتر الأعصاب، ربطوه إلى عامود وجلدوه بعد أن كانوا قد خلعوا ثيابه، ثم رموا به في سجن عفن مظلم، ومع ذلك لا يتذمّر إطلاقًا. إنه يتمتع ببركات عظمى تملأه فرحًا. ومن العجب أن حياته كلها كانت سلسلة من الضيق والاضطهاد ونكران الجميل وسوء الظن، ومقابل هذا كله اسمعوه يكرر الهتاف: "افرحوا في الرب"، "افرحوا في الضيقات"، "لأن خفة ضيقتنا الوقتية". فدين السيد المسيح دين عجيب في كونه يخلق مثل هؤلاء الأبطال. وكأني به يردد لنفسه: "ماذا لو اضطهدني الناس فالله معي"، "ماذا لو فشلت عظتي هذه المرة فالله سيغلب يومًا ما"، "ماذا لو قتلوني؟ ذلك أفضل لأني سأكون مع السيد المسيح". + وبينما الكارزان في السجن كانا يترنمان بتسبيح الله. وسمع المسجونون ترانيمهم. وذهلوا من أن مسجونين في السجن الداخلي يترنّمان بدلًا من أن يشتما ويلعنا! + وقرب الفجر حدثت زلزلة عظيمة هزّت السجن وفتحت أبوابه، فارتعد السجّان وهمّ بأن يقتل نفسه. وإذا ببولس يطمئنه ويهدئ نفسه المضطربة. فلمست قلبه رهبة اللامرئي، وهكذا آمن واعتمد هو وأهل بيته. + وبعد ذلك بعشر سنوات كتب من سجنه في رومية رسالته إلى أهل فيلبي، ومنه ندرك عمق إيمان الفيليبيين. فالسيد المسيح بالنسبة لهم، لم يكن معلما لمبادئ نبيلة نشرها ثم مات. كلا، إنه الصديق الحاضر أبدًأ، الرب الحي المحيي الذي من أجله تقبّلوا العذاب بفرح. + ولنعد إلى حادثة السجن لنجد أن الولاة أرسلوا إلى السجان قائلين: "أَطْلِقْ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ" (أع 16: 35). وهنا أيضًا نعجب من بولس، فبدلًا من أن يخرج فرحًا بالحرية، قال للسجان: "ضَرَبُونَا جَهْرًا غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ رَجُلاَنِ رُومَانِيَّانِ، وَأَلْقَوْنَا فِي السِّجْنِ. أَفَالآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرًّا؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا" (أع 16: 37). وبالطبع اضطرب الولاة حين عرفوا أنهما رومانيان فنفذوا رغبة بولس. وعندها خرج الكارزان وذهبا إلى بيت ليديا، لأن هذه المرأة -باكورة المؤمنين بالسيد المسيح في أوروبا- استضافتهما في بيتها من البداية بأن قالت لهما: " «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ بِالرَّبِّ، فَادْخُلُوابَيْتِي وَامْكُثُوا». فَأَلْزَمَتْنَا. " (أع 16: 15). فهل هناك وسيلة أروع من تلك التي اتخذتها ليديا؟ أليست فيها الدليل على أن إيمانها حي؟ |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165979006629541.jpg أعجب كنيسة: تسالونيكي: + وانتقلا بولس برنابا من هناك إلى تسالونيكي. وكعادة بولس ذهب إلى المجمع أولًا. فآمن البعض ورفض البعض الآخر. وكان بين المستمعين عدد غير قليل من اليونانيين. ولم يستطع اليهود المقاومون أن يتقبّلوا صورة السيد المسيح المهان الذي انتهى على الصليب. فهيجوا الرعاع والمشاغبين والعاطلين ضده إلى درجة أن بولس لم يتمكن من الظهور في الشارع. وبعد شهرين من الفشل الظاهر اضطر إلى مغادرة المدينة. وهنا نرى القوة الباطنية للمسيحية إذ كان من المتوقع أن تموت الكنيسة التي ما كادت تتنفس حتى داهمها البطش. ولكن، ألم يقل السيد المسيح أن ملكوت الله يشبه البذرة؟ والبذرة تحتوي حياة مختبئة، تحّتم عليها حياتها المختبئة أن تنمو. والتسالونيكّيون صورة لأسرع نمو حدث في الكنيسة عامة. ففي شهرين فقط نشأت كنيستهم وبقيت. وحين كتب بولس رسالته إليهم قال فيها: "وَأَنْتُمْ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِنَا وَبِالرَّبِّ، إِذْ قَبِلْتُمُ الْكَلِمَةَ فِي ضِيق كَثِيرٍ، بِفَرَحِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَتَّى صِرْتُمْ قُدْوَةً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَفِي أَخَائِيَةَ. لأَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ، لَيْسَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وفي َأَخَائِيَةَ فَقَطْ، بَلْ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَيْضًا قَدْ ذَاعَ إِيمَانُكُمْ بِاللهِ" (تسالونيكي 1: 6-8). + فكم هو جدير بنا أن يتضاعف إيماننا بقوة البذرة الحية. فنحن نبذر بذار الحياة الأبدية وليس من قوة تستطيع أن توقفها: إنها تحتوي الحياة ذاتها. ولما اضطر بولس ومن معه إلى مغادرة تسالونيكي قسرًا ذهبوا إلى بيرية حيث قابله اليهود لأول مرة بالتعقّل وبفحص الكتب. وكان بينهم يونانيون أيضًا. ويقول عنهم الكتاب: "فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ النِّسَاءِ الْيُونَانِيَّاتِ الشَّرِيفَاتِ، وَمِنَ الرِّجَالِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيل" (أعمال 17: 12)(1). على أن يهود تسالونيكي لم يكتفوا بإخراجه من مدينتهم بل تابعوه إلى بيرية وهيّجوا الجموع فيها، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فخاف الأخوة وأرسلوه نحو البحر. والذين صاحبوه أوصلوه إلى أثينا. + وهنا أيضًا نقف لنبهت، فزيارة بولس لهذه العاصمة كانت أفشل زيارة! ولكن لو دققنا قليلًا لعرفنا السبب. فقد كانت هذه المدينة - إلى جانب أصنامها العديدة - مركزًا للفلسفة الإنسانية حيث يرتكن الناس على عقلهم فقط، وحيث يتباهون بفصاحتهم وبلاغتهم فلم يستطيعوا استساغة ما وصفه رسول الأمم "بجهالة الله" التي أثبت أنها أحكم من حكمة الناس إلا أنه على الرغم من الفشل نجد أشخاصًا التصقوا به وآمنوا: "مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ الأَرِيُوبَاغِيُّ، وَامْرَأَةٌ اسْمُهَا دَامَرِسُ (داماريس) وَآخَرُونَ مَعَهُمَا" (أع 17: 34). ولنلحظ دقة إبراز المرأة وإيمانها في هذا السفر العجيب، إنه إعلان عن محو اللعنة القديمة وتوكيد للنعمة التي شاء الخالق المبدع أن يمنحها للمرأة ليجعل منها خادمة له وحاملة لرسالته. + ومن اللائق بل من الجدير أن نذّكر أنفسنا باستمرار بجملة ذات أهمية وردت في حديث بولس إلى الأثينيين وهي: "وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ،" (أع 17: 26). أليس في هذه الكلمات دليل آخر على أن الشعوب جميعًا -على اختلاف أجناسها- قد احتفظت في عمق أعماقها بالوعد الإلهي بالفداء؟(2). |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ وغادر بولس أثينا، ولأول مرة نراه يشعر بالخيبة، وقصد إلى كورنثوس ليجد فيها سفينة تحمله إلى وطنه. وفي بادئ الأمر لم يهدف إلى تبشيرها. لأنها مدينة هي ممر بين الشرق والغرب، اشتهرت بمجونها وفسادها إلى درجة أن اسمها كان مرادفًا للانهيار الخُلقي. وبما أنه اضطر إلى الانتظار قصد إلى حي العمال ووجد به دكان صانع للخيام إذ كان هو خيّاميًا. فطلب عملًا، ورحّب به صاحبها -أكيلا- وتعاطف معه لفوره. وعرّفه بزوجته بريسكلا، وأعطاه ركنًا في دكانه وغرفة في بيته. وهكذا بدأت صداقة من أحلى الصداقات انتهت بإيمان الزوجين بالسيد المسيح، بل وبخدمتهما الكرازية وخدمتهما لبولس نفسه. + واحتدمت روحه في داخله وهو ينتظر السفينة. فبدأ كرازته في كورنثوس " فِي ضَعْفٍ، وَخَوْفٍ، وَرِعْدَةٍ " (1كو 2: 3) على حد تعبيره شخصيًا. وكان يعمل في النهار ويكرز في الليل. وفي السبوت كان يذهب إلى المجمع ليعلن فيه أن المسيا قد جاء بالفعل وتحققت فيه كل النبوات. ولكنهم لم يستطيعوا أن يحتملوا الكلام، وكعادتهم هاجوا وقاوموه، واحتملهم قدر إمكانه. أخيرًا "نَفَضَ ثِيَابَهُ وَقَالَ لَهُمْ: دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ! أَنَا بَرِيءٌ. مِنَ الآنَ أَذْهَبُ إِلَى الأُمَمِ" (أع 18: 6). وترك المجمع ودخل إلى بيت "يُوسْتُسُ" الذي أصبح من تلك الساعة مركز الكرازة، وكان بين مستمعيه السكارى واللصوص والزناة وخريجو السجون جنبًا إلى جنب مع المحتشمين الصالحين. ولكن قلوبهم جميعًا قد امتلأت من سلام الله وسطعت عيونهم بنور الرجاء. فقد ذاقوا وعرفوا ما أطيب الرب، هذا الذي جاء ليدعو خطاة إلى التوبة. وامتلأ بولس فرحًا وثقة، وتعجب من نفسه، كيف خامرته الخيبة. + ويا للعجب، فأولئك الذين تباهوا بأنهم شعب الله المختار، ومنهم قام الأنبياء ليعلنوا عن مجيء المسيا، قد قاومت غالبيتهم بولس في كل مكان. والشعوب الأخرى التي تعالوا عليها في تشامخ قد فرحت غالبيتها برسالة بولس وسارعت إلى الإيمان بالمسيا. إذن فليس من شك في أنه كان هناك حنين دفين داخل نفوس "الأمميين" إلى السيد المسيح برز لساعته عند سماعهم البشرى المفرحة. + وذات يوم وهو يشتغل في الدكان إذا بظل وقع عليه. فرفع بصره ليرى سيلا وتيموثيئوس عند الباب. أخيرًا وصلته أنباء عن تسالونيكي: أنباء منعشة مفرحة: "إن إيمانهم غير متزعزع، وهم شديدو التعاطف معك، ويتمنون رؤيتك، ولكنهم قلقون لأن بعض أحبائهم قد رقد". قال بولس: "يا لفرحتي بإيمانهم! وأنا أيضًا اشتهي أن أراهم! ولكني لا أستطيع لأن الكنيسة تنمو". وصمت قليلًا وقد قفز خياله إلى هؤلاء الأحبة، ثم قال بشيء من الفرح أيضًا: "ما دمت لا أستطيع رؤيتهم فسأكتب لهم". |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ ونحن لا نستطيع أن نرفع ما يكفي من الشكر للروح القدس الذي ألهم رسول الأمم بهذه الفكرة التي أغنت العالم غنى يفوق جميع كنوز العالم. فهنا بدأت مرحلة جديدة من الجهاد في حياة بولس: إنه بدأ يستعين بالقلم إلى جانب اللسان. وهو قد كتب من قلبه مباشرة، وهذا يضفي على كتاباته النضارة وعنف الانفعالات والإخلاص بل واللمسة الشخصية. ومن فيض محبته وتواضعه يسجل أسماء العاملين معه كشركائه في الكتابة: من "بُولُسُ وَسِلْوَانُسُ(1) وَتِيمُوثَاوُسُ، إِلَى كَنِيسَةِ التَّسَالُونِيكِيِّينَ،..." (1 تسالونيكي 1: 1) وهو يعبّر للتسالونيكيين عن فرحته بهم وشكره الله عليهم. ثم يوجههم كبناء حكيم: "افْرَحُوا كُلَّ حِينٍ"، "صَلُّوا بِلاَ انْقِطَاعٍ"، "اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ،..."، "لاَ تُطْفِئُوا الرُّوحَ!" (1 تسالونيكي 5: 16-19)، "امْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرّ" (1 تسالونيكي 5: 22). وبعد ذلك ينصحهم: "ثُمَّ لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلًا. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ. لِذلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهذَا الْكَلاَمِ" (1تسالونيكي 4: 13-18). وهو هنا يؤكد القيامة على الرغم من موت الأحياء، لأن أهل تسالونيكي كانوا يظنون أن السيد المسيح عتيد أن يأتي وأنهم جميعًا سيظلون أحياء على هذه الأرض إلى مجيئه الثاني،فلما رقد البعض منهم ساورهم القلق مما جعل الكاروز الغيور يؤكد لهم أن هذا الانتقال لا بد منه إلى أن يأتي الرب نفسه بهتاف.. لذلك "عزو بعضكم بعضًا". + وظل بولس في كورنثوس سنة ونصف بعد ذلك لكي يسهر على الكنيسة الناشئة وسط التيارات العنيفة والبلبلات الفلسفية المتباينة. على أنه كان لابد له من المسير: إنه طليعة الكارزين للعالم المتحضّر فلا يمكنه البقاء في مكان واحد. فرسم لهم الكهنة وأوصاهم بالتفصيل عما يجب أن يعملوه. ثم غادر كورنثوس في أوائل سنة 53 م. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165979006629541.jpg من أنطاكية إلى أفسس: + وكان هدفه النهائي من هذه الرحلة الوصول إلى أورشليم، ووصلها في وقت مناسب لعيد الفصح، ولكنه لم يعد يشعر بهزة الفرح في هذه العاصمة الذي صبغ جوّها قلوب المسيحيين بالتهّود الضيق! لذلك غادرها حالما انتهى العيد قاصدًا إلى أنطاكية: هذه المدينة التي أصبحت "المركز - الأم" للمسيحيين الأمميين والتي بدأ فيها كرازته، وخرج منها ليحمل البشارة إلى كافة الأمم. وكم كان يشتهي أن يبقى فيها مع أحبائه القدامى، ولكنه لا يستطيع فعمله واسع سعة الأفق الشامل للعالم كله، والأيام تمر سراعًا. + وبدأ ما يمكن أن نسميه رحلة راعوية(1): فمرّ بطرسوس مسقط رأسه، ومنها إلى لسترة موطن تيموثيئوس، ثم اجتاز بالتتابع في كورة غلاطية وفريجيا، وانتهى به المطاف إلى مدينة أفسس التي دخلها لأول مرة ليقتنصها لفاديه الحبيب. لقد كانت مدينة عظمى، وهي والكنائس الست التي ذكرها يوحنا الحبيب(2) كانت تؤلف وحدة مركزية. وحين دخلها رسول الأمم كانت من أقوى معاقل الوثنية، ترتكز شهرتها على المعبد الضخم المقام لعبادة أرطاميس (أو ديانا). فكانت لذلك مركزًا للسحر والشعوذة مما جعل بولس يشير إليها بقوله: "فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أفسس 6: 12). + ولنتأمل هذا الكارز بجسمه المريض ووحدته المزعجة في جرأته على أن يغزو مدينة كبرى بها نصف مليون من السكان! إن هذه الجرأة -في حد ذاتها- دليل أكيد على ضخامة إيمانه في حضرة الابن الوحيد لله الآب وفي سلطانه القاهر. ألم يوصف بأنه هو وزملاؤه بأنهم " أولئك الذين فتنوا المسكونة..." (أع 17: 6). وهذا الابن الأزلي هو هو اليوم كما كان لبولس، وهو -له المجد- يهيب بنا أن نجسر على أن نحمل صليبه ونتبعه. + ومن العجب أن كلمة الله ذاعت وانتشرت ليس في أفسس فقط بل وفي كل منطقة آسيا الصغرى حتى لقد احتاجوا إلى مزيد من القسوس وزادوا على ذلك بأن جمعوا كل كتب السحر والتدجيل وكوّموها في الميدان العام وأحرقوها. وقُدّر ثمن الكتب المحروقة بخمسين ألف قطعة من الفضة! ورفع بولس تمجيداته وتشكّراته لهذا الانتصار العظيم لمخلصه. + ولكن، ولكن الشيطان لا بُد له من أن يقاوم، وبالأخص أمام نصر مثل هذا. وكان شهر مايو: شهر الإلهة ديانا حين يكثر الزائرون من مختلف الجهات، وفي وسط المهرجانات جمع ديمتريوس زعيم صياغ التماثيل كل المشتغلين معه واستثارهم بعنف لأن هيكل معبودتهم ستُهدم عظمته،وما هي إلا لحظات حتى تجمّع جمهور ضخم صاخب هائج واندفع نحو دكان الخيّامين إذ كان أكيلا وبريسكلا قد جاءا لزيارة بولس. ومن نعمة الله أنه كان غائبًا ساعتئذ، فواجه الزائر هذا الجمهور الثائر ببسالة مذهلة حتى لقد قال عنها بولس فيما بعد إنهما وضعا عنقيهما لحياته (رومية 16: 3-5). وحين فشلوا في القبض على بولس ظلوا يصرخون مدة ساعتين: «عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الأَفَسُسِيِّينَ!». (أع 19: 34). + وهنا أيضًا نعجب من عمل الله. فهذه الثورة الجامحة تبخرّت كالفقاقيع بكلمة هادئة من كاتب المحفل اختتمها بقوله: "لأَنَّنَا فِي خَطَرٍ أَنْ نُحَاكَمَ مِنْ أَجْلِ فِتْنَةِ هذَا الْيَوْمِ. وَلَيْسَ عِلَّةٌ يُمْكِنُنَا مِنْ أَجْلِهَا أَنْ نُقَدِّمَ حِسَابًا عَنْ هذَا التَّجَمُّعِ. وَلَمَّا قَالَ هذَا صَرَفَ الْمَحْفِلَ" (أع 19: 22-41). + ومع أن بولس قد نجا بحياته إلا أنه من رسالته التي كتبها من أفسس أنه عانى الكثير من الضيق إذ قال: "إِنْ كُنْتُ كَإِنْسَانٍ قَدْ حَارَبْتُ وُحُوشًا فِي أَفَسُسَ..." (1كو 15: 32) بل لقد بئس من الحياة ذاتها لكثرة ما لحقه من الإهانات والتعذيب إلى درجة أنه قال إنه حُسب كوسخ وأقذار العالم! ووسط هذه المصارعات العنيفة كان سنده الأوحد الرب المسيح. + لقد كان بولس في واقعه فقيرًا ضعيفًا. متوتر الأعصاب، مرهقًا، قليل النوم، مصابًا بشوكة في الجسد لازمته مدى حياته. ولكن ابن الله القوي الهادئ كان الملجأ الذي يهرب إليه، وإليه يلقي أيضًا بكل أموره، وهذا سر قوة بولس وسر جهاده بلا هوادة، وسر فرحه في وجه كل ضيق. وفي وسط هذا الضيق ومن أفسس بعث برسالتيه إلى الكورنثيين وبرسالته إلى أهل غلاطية. وكذلك برسالته المدهشة إلى أهل رومية. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165979006629541.jpg عناية لوقا ببولس: + واستمرّ "عبد يسوع المسيح" في عمله الرعوي ما بين آسيا الصغرى والطرف الجنوب الشرقي لأوروبا لغاية فبراير سنة 58. كانت الأيام تمرّ سراعًا. وكان من المتوقّع أن يفتر حماس شبابه، ولكن لا، فمن الواضح أنه ازداد اشتعالًا، فهو متلهف على توصيل الإيمان بفاديه الحبيب إلى "كل الأرض" إنه يمتد دائمًا إلى الأمام. إنه يتطلّع إلى الأفق البعيد، يتطلع إلى شواطئ أسبانيا ومضيق جبل طارق. وفيها يشتهي أن يرفع علم السيد المسيح، ولكن لا بد له من الذهاب إلى أورشليم أولًا ليعيّد الفصح هناك وليعطي ما جمعه "للقديسين". + وكان معه تيموثيئوس وتروفيموس (تُرُوفِيمُسُ) الأفسسي ولوقا وأربعة أصدقاء آخرين لا يذكر الكتاب اسمهم، فقصدوا إلى ميناء كورنثوس. ولكن أصحابه استشفّوا أن اليهود يهدفون إلى قتله على السفينة فقرروا السفر برًا. وانتعش بولس لأنه في صحبة أحباء، وسيّمر ببلاد يتلقاه فيها أحباب قدامى. ويبدو أن "شوكة الجسد" عاودته في فيلبي لأنه اضطر هو ولوقا إلى أن يبقيا فيها بينما ذهب الجميع إلى ترواس. ومن نعمة الله أنه كان آنذاك في فيلبي موطن ليديا بائعة الأرجوان وموطن السجّان وعائلته. وله فيها صداقات كثيرة. وليس من شك في أن صداقات المسيحيين تزداد وثوقًا بوجود ربهم في وسطهم وبالرجاء الثابت في أن صداقاتهم ستدوم إلى الأبد في الملكوت. + وهكذا اضطر بولس إلى أن يقضي عيد الفصح في فيلبي، ولكن هذا الفصح بالنسبة له لم يعد عيد يهودي. فقد تخطّى به بولس إلى المسيحية مؤكدًا أن السيد المسيح هو فصحنا. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ وفي اليوم التالي قصد بولس ولوقا إلى ترواس حيث مكثوا سبعة أيام آخرها يوم الأحد. وفي مسائه اجتمعوا لكسر الخبز في علية بالطبقة الثالثة، ازدحم فيها العدد الوفير. ففتحوا كل النوافذ، وجلس الشاب أفتيخوس في طاقة منها. وبما أن رسول الأمم، في احتدام روحه، قد أطال الكلام فقد نعس الشاب وسقط إلى أسفل ومات. ثم نزل بولس إليه واعتنقه وأقامه حيًا. ويعلق أبونا بيشوي كامل -ملاك كنيسة مارجرجس بسبورتنج بالإسكندرية- على هذه الحادثة كما يلي: في الأحد الثاني من الخماسين اختارت الكنيسة الابركسيس (أي سفر الأعمال) مناسبًا للإنجيل الذي يتحدث عن الحياة بتناول جسد السيد المسيح (يوحنا 6: 48-51)، فهو يرسم لنا أيقونة جميلة وليست مجرد معجزة. الجانب الأول فيها فتى متدليًا من طاقة في الطبقة الثالثة يعيش النوم العميق وينتهي بالموت. والجانب الثاني به الحياة والقيامة - جسد السيد المسيح يزرعه بولس الرسول. + ثم أحضروا الفتى الميت إلى بولس الذي يوزّع جسد القيامة والحياة - فللحال قام الشاب حيًا. + هذه المقابلة الرائعة بين الموت والحياة هي المقصودة بهذه الحادثة: إنها ليست مجرد معجزة إقامة ميت، ولكنها حَدَث واقعي على أن التناول من جسد السيد المسيح هو قيامة بعينها التي تغلب الموت، لذلك نقرأ هذه الحادثة عند الحديث عن التناول(1). + وفي الصباح ودّع أصدقاءه الذين أقلعوا بالسفينة لأنه عزم على أن يمشي. كان يريد أن يختلي بنفسه وأن يخلو إلى ربه. فسار برفقة ربه السيد المسيح إلى أن وافاهم في أسوس. وهذا الذي فعله بولس واظب عليه جميع القديسين، ولا سيّما عمالقتهم، فهم يخصصون باستمرار وقتًا للاختلاء فيه بالرب: فيمتلئون ويفيضون من هذا الملء على غيرهم. + ومن أسوس قصد الجميع إلى ميتيليني بحرًا فوصلوا خيوس في اليوم التالي. وبما أن بولس لم يكن يريد أن يصرف وقتًا في آسيا لرغبته في الوصول إلى أورشليم قبل يوم الخماسين، لم يغادر الشاطئ بل أرسل واستدعى قسوس أفسس. + ولنتمعن الصورة التي رسمها لنا لوقا: فنرى فيها الميناء بسفنه الراسية أو المتأهبة للإقلاع في ناحية حيث البحارة يتنادون والمسافرون يتزاحمون. وفي الناحية الأخرى جزء هادئ من الشاطئ تجمّع فيه بولس وأصدقاؤه وقسوس أفسس. كان لقاء فيه الكثير من الأسى لأن الكارز العملاق بعدما ذكّر أحباءه بأنه لم يكفّ عن تعليمهم قال: "إني أعرف أنكم لن تروا وجهي بالجسد بعد اليوم. ثم جثا على ركبتيه مع جميعهم وصلى وكان بكاء عظيم ووقعوا على عنق بولس يقبلونه" (أعمال 20: 17-38). |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
+ ومرّ أسبوع من الراحة على السفينة في تلك الأيام المنعشة من شهر أبريل، وفي اليوم الثالث منه رأى مرتفعات قبرص تتفتّح أمامه: قبرص موطن صديقه برنابا الذي ينعم بصحبة سيده. وتنهّد في قلبه، وهمس لنفسه: "أواه يا صديقي - كم أتمنى لو أني كنت أكثر صبرًا معك في ذلك اليوم في أنطاكية!" + وقضوا أسبوعًا في صور حيث أنذره الجميع بالخطر الذي يتهدده في أورشليم متوسلين إليه أن لا يذهب هناك. ولكنهم إذ واجهوا تصميمه سكتوا، وعند توديعهم إياه رافقوه إلى الشاطئ مستودعينه للمراحِم الإلهية. + ثم وصلوا إلى قيصرية مقّر الحكومة الرومانية التي تبعد مسيرة ثلاثة أيام عن أورشليم،ولما كان لا يزال أمامهم أربعة عشر يومًا ليوم الخماسين رأوا من الأوفق أن يقضوها بين أحبائهم. وكان بولس ضيفًا على فيلبس: رجل حسب قلبه، فلقد أقيم ضمن الشمامسة السبعة، وتجاسر على أن يكرز في السامرة، وتجاسر كذلك على صبغ الخصي الحبشي للملكة كنداكة بالمعمودية المقدسة. وبعد أن فارقه أخذ يتجوّل من بلدة إلى أخرى يكرز ويعلم دون تفرقة بين يهودي وأممي. فكانت هذه الأيام من نعمة الله على بولس وجد فيها الهدوء النفسي والاستجمام الروحي. + ومرّ أسبوع آخر. ووصل بولس إلى أورشليم. كان قد جاءها بتطلعات صباه ليتعلم فيها، وجاءها بعد اختباره الهزّة العنيفة التي اجتازها في الطريق إلى دمشق. وجاءها مع برنابا ليكسب حرية الكنيسة. واليوم جاءها للمرة الرابعة التي ثبت أنها الأخيرة. وكان ضيفًا على مَنَاسُونَ القبرصي (رَجُلٌ قُبْرُسِيٌّ). وبدأ بزيارة يعقوب الرسول وشيوخ الإخوة. وحدثهم بما صنع الرب مع الأمم فمجدوا الله على كل ما سمعوه. ولكنهم ما كادوا يعبّرون عن هذا التمجيد حتى "كبوا ميّه باردة على رأسه"! فقد قالوا لفورهم: "يجب أن تكون على حذر، فالناس هنا قلقون لسماعهم بأنك تنادي بعدم حتمية الناموس، وتساوي بين الأمميين وبيننا لذلك يجدر بك أن تُسكت الألسنة، فاعمل بنصيحتنا، هنا أربعة رجال عليهم نذر، فخذهم جهارًا إلى الهيكل وتطّهر معهم، وانفق عليهم ليحلقوا رؤوسهم، فيعلم الجميع أنك أنت أيضًا حافظ للناموس". فقبل مشورتهم لفوره وذلك على الرغم من أن قلبه كان يخفق نشوةً بانتصار ربه في كافة البقاع التي كرز فيها، ومن أنه اختبر مرارًا وتكرارًا قبول السيد المسيح للأمميين، وفرح هؤلاء الأمميين بالسيد المسيح! |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/165936703649941.jpg حماية كلوديوس ليسياس له: + وفي اليوم السابع ظفر به اليهود، فتدنيس الهيكل جريمة لا تغتفر إلى حد أن الرومان أنفسهم وقفوا على حذر من هذا الموضوع. وفي لحظة انتشر الخبر بين الجمهور العنيف. وفي لحظة قبضوا على بولس وضربوه ورموا به من على سلالم الباب الجميل. وفي الحال أُغلقت الأبواب فالقتل ليس جريمة طالما تمّ خارج الهيكل! + ولكن وقته لم يكن قد حضر بعد، فالضباط الرومانيون متدربون تمامًا على التصرف في مثل هذه الاضطرابات. وقبل أن يستودع الرسول الباسل روحه بين يديّ الآب، رنّ في أذنيه الأمر الروماني القاطع. وتراكض الرجال المسلّحون، ورفعوه من على الأرض، ودفعوا بالمتجمهرين بعيدًا. وعلى الرغم من سرعتهم فقد انتزعوه من بين أيديهم انتزاعًا! ولولا ذلك الصف اللامع من الصلب المتراصّ فوق السلالم لتبعه خصومه إلى المعسكر. + وخلف هذا الصف اللامع وقف رئيسهم كلوديوس ليسياس، وتفرس في أسيره، كان مضروبًا بنزف الدم من جراحه، ومع ذلك كان هادئًا غير متزعزع! لقد قارب بولس الموت مرارًا فلم يعد يأبه له. وفي هدوئه ورسوخه سأل القائد: "هل من الممكن أن أتحدث معك؟" - "ماذا؟ أتعرف اليونانية! لقد ظننتك المصري (اليهودي)(1) الذي أشعل الشغب السنة الماضية فطاردناه وأبعدناه عن هذه المدينة" - "كلا، فأنا يهودي من طرسوس، وأطلب إليك أن تأذن لي بمخاطبة الشعب". + يا للعجب! لقد كانوا منذ لحظات يضربونه ويرفضونه مستهدفين قتله، ولكنهم إخوته الذين يستهدف هو خلاصهم! وواضح أن كلوديوس ليسياس انذهل: فالرجل الشجاع سريع أن يتبيّن الرجل الشجاع، وهو في الوقت عينه مشتاق لأن يعرف ما ينتج عن حديثه. وهكذا أذن له. + "أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ وَالآبَاءُ، اسْمَعُوا احْتِجَاجِي الآنَ لَدَيْكُمْ" (سفر أعمال الرسل 22: 1) فلما سمعوا أنه ينادي باللغة العبرية أعطوا سكوتًا أحرى، فحدثهم كيف أنه كان مضطهدًا للمسيحيين، ولكن السيد المسيح ظهر له، فأدرك أنه هو المسيا المنتظر وحين بدأ كرازته بدأ بتعليم بني جنسه الذين لما رفضوا الاستماع إليه قال له الرب: "اذهب فإني سأرسلك إلى الأمم بعيدًا". + وفي لحظة عاد الهرج والصخب، ماذا؟ أيقف الأممي على مستوى اليهودي! واحتدم غيظهم فنادوا مطالبين بإنهاء حياته. وامتلأ كلوديوس ليسياس ضيقًا، ولكنه أحسّ بارتياح في أنه حفظ صف الصلب اللامع في مكانه. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/168517340029871.jpg بولس في مواجهته الكهنة والفريسيين مواجهته الكهنة والفريسيين: + وأخذه إلى المعسكر وأمر جنده بأن ينزعوا عنه ملابسه ويجلدوه ليعرف بالضبط ماذا حدث. وصمت بولس وهم يعرّونه ويربطونه في عامود الجلد، وبعدها سأل الضابط: "أَيَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَجْلِدُوا إِنْسَانًا رُومَانِيًّا غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْهِ؟" (أع 22: 25). لقد كانت أهم مادة في التنظيمات الرومانية للشرطة هي الاحترام الواجب نحو الرجل الذي يقول في زهو: "أنا مواطن روماني!" واختشى ليسياس حين علم الحقيقة، وحمَى بولس من التعذيب، ولكن لا بد له من معرفة الحقيقة، ففي اليوم التالي دعا السنهدريم وأوقف بولس أمامهم. وما هي إلا لحظات حتى أمر رئيس الكهنة أن يضربوه على فمه. فأفلت الزمام من يد بولس وقال في شيء من الحدة: "سَيَضْرِبُكَ اللهُ أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ! أَفَأَنْتَ جَالِسٌ تَحْكُمُ عَلَيَّ حَسَبَ النَّامُوسِ، وَأَنْتَ تَأْمُرُ بِضَرْبِي مُخَالِفًا لِلنَّامُوسِ؟!" (أع 23: 3). + وإذ علم بولس أن البعض فريسيون والبعض صدوقيون هتف: "أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، أَنَا فَرِّيسِيٌّ ابْنُ فَرِّيسِيٍّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ" (أع 23: 6). وبهذه الكلمات شقّ الجمع، إذ انضم إليه الفريسيون مقاومين الصدوقيين. وللمرة الثانية اضطر كلوديوس ليسياس إلى أمر جنده بأن يخطفوه من وسط المجتمعين. + وهناك مَن ينتقدون الرسول الكارز على هذا الموقف. ولكنه لم يكن سوى إنسان تحت الآلام عرضة للسقوط، فمن الضروري أن نُذَكِّر أنفسنا بهذا الواقع. لأننا إذ نتأمل سجلُه الطويل البهير الذي رفعه الله إليه، نحتاج من وقت لآخر أن نتذكّر هذا الواقع لأنه سيعزّي نفوسنا ويرفعها، ويمكننا من أن نقول: "ما دامت نعمة الله قد أضفت النبل والسمو على مجاهد ضعيف سريع الاحتداد، وهو ليس سوى إنسان مثلي(1) - أليس لي رجاء أنا أيضًا أن يحقق شيئًا نبيلًا مني؟" |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
الهدوء وسط الخطر: + وإني لأرى بولس في زنزانته تلك الليلة: فموقفه خطير، ولم يحمِهِ من اليهود الساخطين عليه غير الأمير كلوديوس ليسياس وجنده. ومع ذلك نام في هدوء لأنه حين تصخب الأمواج على السطح يظل العمق هادئًا، وسر السلام في القلب المسيحي هو أن حياته الباطنية مختبئة في السيد المسيح. + وفي نومه وفي رؤى الليل وقف به السيد المسيح، وما دام ربه واقفًا معه فلا يهمه أن الناس ليسوا إلى جانبه. وقال له الرب: "ثِقْ يَا بُولُسُ! لأَنَّكَ كَمَا شَهِدْتَ بِمَا لِي فِي أُورُشَلِيمَ، هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ فِي رُومِيَةَ أَيْضًا" (أع 23: 11) -وكلمة ثق في أصلها اليوناني معناها "افرح". ولقد تكرر استعمالها في مواضع مختلفة، فمثلًا قال الرب لتلاميذه "...ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ" (يو 16: 33)، بمعنى افرحوا- وبهذه الكلمات ملأ قلب بولس عزاءً وطمأنينة. + إذن فلنذكر باستمرار ذلك السر الباطني في حياة بولس: إنه الوعي المستمر بحضرة الرب إلى جانبه، إنه يعيش في هذه الحضرة بلا انقطاع. فخلف الجماهير الصاخبة، وفوق رؤوس الكهنة والحكام. كان يرى السيد المسيح دومًا، فانساب السلام إلى أعماقه كنهر: النهر الذي تُفرّح جداوله مدينة الله. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/168517340029871.jpg ابن أخته ينذره بالمؤامرة على قتله: + وفي الصباح التالي بينما بولس لا يزال يعيش الرؤيا المفرحة التي أنعم عليه بها سيده إذا بأرجل مسرعة تقترب، وإذا بباب زنزانته ينفتح ليدخل إليه ابن أخته القاطنة في أورشليم ويخبره بمؤامرة مُدّبرة لقتله. وبتتبعنا لبولس نجد أنه لم يمكث إطلاقًا في بيت أخته في كل المرات التي جاءها إلى هذه العاصمة. فمن الممكن أن نستنتج بأن زوجها كان ضمن المعادين له. ولا بد إذن من أنه كان حاضرًا الاجتماع الليلة السابقة التي رتبوا فيها خطة الاغتيال. ولما عاد إلى بيته أبدى عدم رضاه على هذا التصرف الشائن. لأنه من الجائز أن يرضى زوج الأخت عن تصرفات أخيها ولكنه في الوقت عينه يشمئز من أن يراه مقتولًا غدرًا. وليس من شك في أنه حين سمعت أخت بولس الخبر عادت بها الذاكرة إلى أيام طفولتهما حين كانا يلعبان ويمرحان معًا. فامتلأ قلبها حنانًا وفي الفجر قامت مبكرة وبكل سكينة ودخلت على أطراف أصابعها غرفة نوم ابنها وأوصته بالذهاب حالًا إلى خاله لإنذاره. + ولفوره أرسل بولس ابن أخته إلى كلوديوس ليسيا المدرك تمامًا لمسئوليته عن حماية روماني ضد تهديدات اليهود. وبسرعة وخفية رتب بدوره الخطة لإنقاذ رسول الأمم. ففي دجى الليل نسمع وقع حوافر خمسمائة حصان يحملون فرسانهم إلى قيصرية: إلى الوالي فيلكس، وهذا بدوره وضع بولس في غرفة حرس هيرودس. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
https://upload.chjoy.com/uploads/168517340029871.jpg السجن سنتين في قيصرية: + وعلى مدى سنتين ظل بولس سجينًا في قيصرية. صحيح أن الرومان أحسنوا معاملته إذ قد أحسوا بانعطاف داخلي نحو هذا الرجل الجسور. فيلكس، مع الأمر بسجنه، أمر قائد المائة بأن يحرس بولس وتكون له رخصته ولا يمنع أحدًا من أصحابه أن يأتي إليه ويخدمه. وهكذا تمكّن فيلبس ورفقاؤه من أن يزوروه. كذلك جاءه تيموثيئوس وزملاؤه في الرحلة ليروه. وبالإضافة فقد جاء لوقا وأقام على مقربة منه ليسهر على صحته. + هذا كله صحيح. ولكن بولس لم يستطع خلال هاتين السنتين من أن يؤدي العمل الذي اشتعلت به نفسه: إنه لم يُكرز ولم يكتسب نفسًا واحدة لربه. وهنا نقف قليلًا للتأمل لقد صارع صراع الجبابرة ليحرر المسيحية من ربقة الناموس؛ ونادى حيثما ذهب بحرية مجد أولاد الله الذين تجمعهم محبة السيد المسيح حيث لا يهودي ولا يوناني. بل إنه اختبر هذه الحقيقة عيانًا. فما الذي جعله يقبل مشورة المتهوّدين ويذهب ليتطهر مع الرجال الأربعة الذين عليهم نذر؟ ترى، لو لم يكن قد فعل هذا أكان يصيبه الأذى الذي أصابه؟ لا نعرف على وجه التحقيق. ولكن الله أعطانا عِبْرَة في كيفية تعامله مع موسى، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فقد أطاع موسى كل ما أوصاه به الله. ومرة واحدة فقط لم ينفّذ الأمر الإلهي بالضبط بل ضرب الصخرة بدلًا من أن يكلمها. فعاقبه الله بأنه لن يَرَى أرض الموعد (عدد 20: 7-13). ورب المجد أعلن بأن مَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ(1)، ومن هذا المنطلق نستطيع القول بأن بولس عوقِب هذا العقاب الصارم نتيجة لهذه المرة الوحيدة التي حاد فيها عن العمل بموجب "حرية مجد أولاد الله" التي نادى بها وصارع من أجلها، بل ولم يتردد عن أن يقاوم بطرس مواجهة. صحيح أن الفادي الحبيب حفظه من الموت لكي يوصل الكرازة باسمه في رومية تطبيقًا لقول الوحي الإلهي: "تَأْدِيبًا أَدَّبَنِي الرَّبُّ، وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي"(مز 118: 18) وهو المزمور الثاني من مزامير صلاة الغروب في الأجبية. بل إنه هو نفسه أكد هذا الواقع بقوله: "مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ"(2كو 4: 9)، ويعود فيردده: "كَمُؤَدَّبِينَ وَنَحْنُ غَيْرُ مَقْتُولِينَ،" (2كو 6: 9). |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
المحاكمة أمام فيلكس + ويعطينا القديس لوقا أربع صور طريفة عن هذه الأيام في قيصرية الصورة الأولى: + الأولى تحملنا إلى قاعة المحاكمة في قصر الوالي، وقد جلس فِيلكس على كرسي الولاية، وجاء حنانيا مع المشتكين واستحضر معه خطيبًا اسمه ترتلّوس ليرفع الشكوى ضد الرجل الذي دعاه "الحائط المبيضّ". وفي هذه المرة تصالح الفريسيون مع الصدوقيين متكتلين ضد بولس. وكانت كلمة ترتلوس كلها رياء ومداهنة للوالي الذي أبغضه اليهود أكثر من أي والٍ آخر لبطشه بهم وقتله رئيسًا من كهنتهم ثم انتقل إلى اتهام رسول الأمم بأنه مفسد ومهيّج فتنة ومقدام شيعة الناصريين وقد شرع في أن ينّجس الهيكل وكانوا سيحكمون عليه وفقًا لناموسهم لولا أن كلوديوس ليسياس انتزعه بعنف من أيديهم. + ولكن فِيلكس يعرف الكثير عن هؤلاء "السادة المحترمين"، فيريد أن يسمع المشتكي عليه. ويقف الأسير ويداه مُكبلتان بالسلاسل، ولفوره يستحوذ على انتباه رجال البلاط. قال: "أني إذ قد علمت أنك منذ سنين قاض لهذه الأمة أحتجُ عما في أمري بأكثر سرور. وأنت قادر أن تعرف أنه ليس لي أكثر من أثنى عشر يومًا منذ صعدت لأسجد في أورشليم ولا يستطيعون أن يثبتوا ما يشتكون به عليّ الآن ولكنني أقرُ لك بهذا أنني حسب الطريق الذي يقولون له شيعة هكذا أعبد إله آبائي مؤمنًا بكل ما هو مكتوب في الناموس والأنبياء، ليقل هؤلاء أنفسهم ماذا وجدوا فيّ من الذنب وأنا قائم أمام المجمع..". + وليس من شك في أن هناك قوة مقنعة في موقف إنسان صادق وسط مرائين مُدعين. وليس من شك أيضًا في أن فِيلكس أحسّ بهذه القوة على الرغم من أنه لم يكن مستقيمًا. فأجّل الحكم ليستطلع كلوديوس ليسياس. الصورة الثانية: + والصورة الثانية غريبة وغير متوقعة، فلقد جئ ببولس ثانية أمام فِيلكس، وللمرة الثانية نرى أن الرسول الباسل هو الشخص المسيطر على الرغم من السلاسل المقيدة له. وهذه الوقفة ليست في قاعة محاكمة بل في صالون استقبال! وقد دعاه فِيلكس وعروسه الشابة دروسيللا ليسمعاه. عن أي موضوع؟ عن الإيمان بيسوع المسيح الذي وقع بولس في الأسر بسببه! + ياللعجب! وليس من شك في أن بولس نفسه تعجّب للطلب قدر تعجّبنا نحن. ترى، هل كانت دروسيللا هي الحافز؟ إنها يهودية. وهي ابنة هيرودس الذي اضطهد الكنيسة وقتل القديس يعقوب. ولكن بولس لم يُشر إلى هذا الواقع بكلمة لأن الله وحده يعرف ما في قلبها ويعرف السبب الذي دفعها إلى الرغبة في أن تسمعه. وهو في الوقت عينه لا يفكر في إمكانية نجاته لأن رسالته العظمى هي شاغله الشاغل. + واستحوذ بولس على انتباههما. ولسنا ندري ما جال في أعماق دروسيللا ولكن فِيلكس ارتعد وهو يصغي إليه وهو يتكلم عن البر والتعقّل والدينونة، فقد أمسك ضميره بخناقة، لأن تاريخه فائض بالجريمة والخيانة وهتك الأعراض. والضمير هو صوت الله الحنون ينادي إلى التوبة. وبدا في لحظة ما كأنه يريد أن يتوب، ولكنه -كغيره كثيرين- لا يريد أن يتوب لفوره، فقال لبولس: "اذهب الآن ومتى حصلت على وقت أستدعيك". + آه! متى حصلت على وقت! وياللأسف أننا كثيرًا ما نقف هذا الموقف. ولكن علينا أن نتيقن بأننا في كل مرة نلتقي بالسيد المسيح ونؤجل "لوقت مناسب" نباعد بيننا وبين إمكانية التلاقي. لأن كل تأجيل مثل هذا يلقى بغشاوة على العين الباطنة ويزيد القلب قساوة. + وأواه لك يا فِيلكس! فذلك الوقت المناسب لن يتيسّر لك. ففي شهور قليلة ستُلقى بعيدًا عن وظيفتك الكبيرة وتتلاشى من التاريخ نهائيًا. وهذه العروس سيبتلعها بركان فيزوفيوس في ثوراته هي وابنها ليلة أن ابتلع مدينة بومبي بأكملها(1). كم كان يكون لخيركما لو أنكما أطعتما بولس ذلك اليوم وهو يحدثكما عن البر والتعقل والدينونة ويخبركما عن معنى الإيمان بالسيد المسيح. + ولكن قبل أن نلومهما علينا أن نفحص أنفسنا بدقة لنعرف أين نقف بالضبط من رب المجد؟ الصورة الثالثة: + أما الصورة الثالثة فبعد سنة من الثانية، فقد رفع اليهود شكواهم إلى قيصر ضد فِيلكس، فاستدعاه إلى رومية لمحاكمته، ورغم أنه في الإمكان استرضاء مشتكيه بتركه بولس في السجن. ويقول لنا الكتاب أنه كان يأمل في أن يعطيه أسيره رشوة ليفرج عنه. + وجاء فستوس واليًا، وزعم اليهود أن في إمكانهم خداعه. فعاودوا طلبهم بإرسال بولس إلى أورشليم ولكن فستوس ليس بالبساطة التي توهموها. فأجابهم: "كلا فبولس يبقى هنا وأنتم تأتون بشكايتكم إلى قيصرية". وهكذا اجتمعوا ثانية في قاعة المحاكمة بقصر الولاية، ولكنهم لم يستطيعوا إثبات شيء بل إنهم أرهقوا الوالي بصخبهم وكثرة كلامهم. وفي ملله التفت إلى بولس وسأله: "أتريد أن تذهب إلى أورشليم؟". + على أن الرسول الباسل كان قد سئم التسويف والمماطلة وإذ وجد أن فستوس بدأ يتراخى اتخذ قراره الحاسم بأن استعان بحقه كمواطن روماني، فقال: "أَنَا وَاقِفٌ لَدَى كُرْسِيِّ وِلاَيَةِ قَيْصَرَ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ أُحَاكَمَ. أَنَا لَمْ أَظْلِمِ الْيَهُودَ بِشَيْءٍ، كَمَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَيْضًا جَيِّدًا. لأَنِّي إِنْ كُنْتُ آثِمًا، أَوْ صَنَعْتُ شَيْئًا يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ، فَلَسْتُ أَسْتَعْفِي مِنَ الْمَوْتِ. وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا يَشْتَكِي عَلَيَّ بِهِ هؤُلاَءِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَلِّمَنِي لَهُمْ. إِلَى قَيْصَرَ أَنَا رَافِعٌ دَعْوَايَ!". ومتى أعلن روماني في أي بلد من بلاد الإمبراطورية المترامية عن رغبته في الاحتكام إلى قيصر لا يستطيع أمير أو والٍ أن ينكر عليه هذا الحق. لذلك يقول لنا الكتاب إن فستوس بعد ما تكلم مع أرباب المشورة، قال له: "إِلَى قَيْصَرَ رَفَعْتَ دَعْوَاكَ. إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ!". (أع 25: 1-12). + وهكذا انتهت القضية مؤقتًا واضطر اليهود أن يعودوا خائبين، وقد أفحمتهم مهارة بولس. وهو رأى كيف ستتحقق كلمة الرب بأنه سيشهد له في رومية. وذهل أمام الوسيلة التي اتخذها هذا الرب العجيب لتوصيله إلى عاصمة الدولة. فما أقصر إدراكنا عن أن يتفهم كيفية استجابة الله لصلواتنا! ففي تدبير الله سيذهب إلى المدينة التي كان متلهّفًا على أن يصل إليها ولكنه سيذهب أسيرًا مقيدًا بالسلاسل! + ترى، هل امتلأت نفس بولس خيبة؟ إن الوحي الإلهي لا يقول ذلك. وليس من شك في أنه باختباراته العديدة مع ذاك الذي تصيده على الطريق إلى دمشق، استشف أن هذه الوسيلة قد وجدها الرب أفضل وسيلة لتوصيله إلى رومية. ونحن الآن نستمتع بالكنوز الفائقة التي نتجت عن السجن هناك. فقد كتب غالبية رسائله منها. وهو قد أعلن أنه "سفير في سلاسل" لأن كلمة الله لا تقيد. فمن الصالح أن نرفع كل طلباتنا إلى الله بالصلاة: الطلبات التافهة والخطيرة سواء بسواء ولكن من الأكثر صلاحًا أن نترك الإجابة بين يديه. ومن عجب أننا نسمع من بولس رنة الفرح وهو يعلن من هذا السجن للفيليبيين: "ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الإِنْجِيلِ، حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ الْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي الأَمَاكِنِ أَجْمَعَ"( فيلبي 1: 12، 13). ويختتم هذه الرسالة بعينها بقوله: "يُسلم عليكم جميع القديسين ولا سيما الذين من بيت قيصر". فكم هو جدير أن نذكِّر أنفسنا بما أنجزه الله على يد ذاك الذي كان مضطهدًا للكنيسة حين استجاب صلاته بأن أرسله "سفيرًا في سلاسل". الصورة الرابعة: + والصورة الرابعة تعطينا دفعة روحية عجيبة، نرى فيها الأسير المقيد الذي قاسى السجن لمدة سنتين يسيطر على أصحاب السلطان الذين في إمكانهم أن يقضوا على حياته! فقد حضر الملك أغريباس ومعه برنيكي ليقدما تهانيهما إلى فستوس، حضرا إلى القصر الذي كانت أختهما دروسيللا سيدته منذ شهور قليلة، وخلال أحاديثهم ذكر الوالي موضوع بولس وأنه ينادي بيسوع الذي مات وهو يؤكد أنه حي. + وكان أغريباس يهوديًا، وهو آخر ملوك أسرة هيرودس. كان جده الأكبر الذي قتل أطفال بيت لحم؛ وعمه هيرودس الذي سجن يوحنا المعمدان ثم قطع رأسه؛ وهو أيضًا الذي أرسل يسوع المسيح إلى بيلاطس بعد أن ألبسه ثوبًا أرجوانيًا؛ بينما كان أبوه هو الذي قتل يعقوب الرسول، وكان في نيته أن يقتل بطرس الرسول أيضًا لولا إنقاذ الملاك له. إذن فقد كان أغريباس على علم بيسوع الناصري الذي ينادي به بولس لذلك أعلن عن رغبته في أن يسمعه. + ففي اليوم التالي جاء أغريباس وبرنيكي بأبهة عظيمة تصحبهما حاشيتهما مع رؤساء الجند ووجوه المدينة. وبأمر من فستوس جيء ببولس. ووقف هنا الأسير والسلاسل في يديه وقلبه متهلل. كان يعلم أن هذه المحاكمة لا قيمة لها إطلاقًا ما دام أنه رفع دعواه إلى قيصر. ولكن، أليست فرصة مواتية ليتحدث فيها عن فاديه العجيب؟ + وتحدث باشتعاله المعهود، ثم أعلن كيف أن المسيا في مجده ظهر له من السماء؛ وكيف أرسله ليحمل الكرازة العظمى لكي يفتح أعين الناس، وينقلهم من الظلمة إلى النور، ومن ربقة الشيطان إلى الحرية التي حررنا بها المسيح. ثم أضاف: "وأنا هنا أقف، وسأقف مدى حياتي شاهدًا للصغير والكبير بما تنبأ به موسى وجميع الأنبياء أن السيد المسيح يجب أن يتألم، وأنه بقيامته من الأموات يعلن النور للجميع: لليهود وللأمميين". + ووسط اشتعاله الملتهب قاطعه فستوس: "أنت تهذي يا بولس، الكتب الكثيرة تحوّلك إلى الهذيان". أجابه: "لست أهذي أيها العزيز فستوس بل أنطق بكلمات الصدق والصحو. لأنه من جهة هذه الأمور عالم الملك الذي أكلمه جهارًا إذ أنا لست أًصدّق أن يخفي عليه شيء من ذلك. لأن هذا لم يُفعل في زاوية. أتؤمن أيها الملك أغريباس بالأنبياء؟ أنا أعلم أنك تؤمن". فقال أغريباس لبولس: "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا". وهنا نتعجب من رد بولس الفوري الصادر عن أعماقه: "كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى اللهِ أَنَّهُ بِقَلِيل وَبِكَثِيرٍ، لَيْسَ أَنْتَ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا جَمِيعُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي الْيَوْمَ، يَصِيرُونَ هكَذَا كَمَا أَنَا، مَا خَلاَ هذِهِ الْقُيُودَ" (أعمال 25: 13-27؛ 26). + وإلى هنا لم يحتمل السامعون أن تزاد لهم كلمة. لقد تراجعوا هم أيضًا كما تراجع فِيلكس ودروسيللا من قبل. ويا لبؤس هؤلاء المتراجعين! فالسيد المسيح واقف يقرع على باب كل قلب. وكأنه يستعطف خليقته أن تفتح له! ومع ذلك فكم هم الذين يلبّون النداء ويسارعون إلى فتح قلوبهم له؟ وهذا الجفاء القلبي هو الذي جعل العلامة المصري الكبير أوريجانوس ينصحنا بقوله: "صلوا لكي يفتح الله نوافذ قلوبكم لتدخل منها النعمة الإلهية". + ومع كونهم لم يؤمنوا إلا أن بولس هزّهم هّزة عنيفة. فقد كان يعرف الفرح والسلام والرجاء في أعماق قلبه، هذه التي يحتاج إليها العالم هنا وفي الدهر الآتي. كان يعرف أن للحياة معنى أعمق وأنبل لم يخطر قط على قلوب هؤلاء السادة فلا غرابة إذن أنهم اهتزّوا على الرغم منهم. ولا غرابة أيضًا بأنهم حين خرجوا كانت ضمائرهم تهمس: "هذا المتعصّب هو على الأقل رجل حقيقي" كذلك لا غرابة في أن أغريباس قال لفستوس: "كان يمكن إطلاق سراحه اليوم لولا أنه رفع دعواه إلى قيصر". + وعاد بولس إلى سجنه ليستعد للسفر بينما ذهب فِيلكس إلى مكتبه وكتب تقريره عن هذا الأسير العجيب وليس من شك في أن روح التقرير كان تعاطفًا معه مما أدّى إلى تبرئة بولس في محاكمته الأولى أمام نيرون. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس الرحلة البحرية الرهيبة: + ووصلت الأيام إلى سنة 60 م. حين سطعت الشمس على دروع الجنود الرومانيين وخوذهم في صباح يوم من سبتمبر وهم متراصّون في الميناء. وكانت الفرقة المكلّفة بالحراسة هي "فرقة أغسطس قيصر"، وقد أحاط أفرادها بالمساجين المقيَّدين بالسلاسل ومن بينهم بولس. وكان قائد المائة اسمه يوليوس وهو متعاطف للغاية مع بولس. فقد توثقت بينهما الصداقة خلال السنتين اللتين قضاهما "عبد يسوع المسيح" في السجن في قيصرية. ترى، أكان مجرد تعاطف أم رسالة السيد المسيح قد اخترقت قلب ذلك القائد الروماني؟ + وأركبهم هذا القائد سفينة أدراميتينية. وكان بولس متلّهفًا على دخول العاصمة الكبرى متلهفًا على توصيل معلمه وربه إلى قلب الإمبراطورية. وهو في طريقه الآن للوقوف أمام قيصر وجهًا لوجه. صحيح أن هذه المقابلة قد تؤدي به إلى الموت ولكن الموت له كان طريقًا يوصله إلى حياة كلها بهاء وبهجة. ثم إنه لم يكن وحده. فقد رافقه لوقا الطبيب المحبوب وأرسترخس المكدوني. كذلك نعرف من رسالته إلى أهل رومية أنه كان له أحباء كثيرون في تلك المدينة. وبكل هذه الصداقات والآمال، وبوعيه بحضرة الله، وبالثقة الهادئة التي كان ينظر بها إلى الموت، كان للعالم سلطان هزيل جدًا عليه، سلطان يتراجع أمام المساندة الإلهية التي تغمره. + وفي اليوم التالي أرسوا في صيداء، وهنا ندرك مدى تعاطف القائد يوليوس إذ قد أذن لبولس أن يذهب بمفرده إلى أصدقائه وهو غير مقيَّد بالسلاسل ليتعزّى قلبه بعنايتهم، وحينما وصلوا إلى ميراليكيا وجد قائد المائة سفينة إسكندرية مسافرة إلى إيطاليا فنقل إليها أسراه. وكانت السفينة تحمل القمح إلى رومية، وجدير بنا أن نذكر أن مصر ظلّت تورّد القمح إلى العاصمة الرومانية أولًا ثم إليها وإلى العاصمة البيزنطية. فهي كانت تعطي باستمرار، وهي لم تعط القمح فقط بل أعطت العلوم والآداب والفنون ثم في ملء الزمان أعطت المسيحية أيضًا. + على أن الريح كان عاصفًا فسارت السفينة رويدًا رويدًا وبمحاذاة الشاطئ إلى أن بلغوا "المواني الحسنة". واقترح البعض البقاء فيها ريثما ينتهي موسم الخطر ولكن ربان السفينة زعم أنه يستطيع الوصول إلى فينكس ليشتّوا فيها. فرفعوا المرساة وطفقوا يتجاوزون كريت، وإذ بريح زوبعية يُقال لها أوروكليدون قد هاجت. فقضوا أيامًا من الهلع ما بين العاصف والظلام حتى لقد سجّل لوقا أنه "انْتُزِعَ كُلُّ رَجَاءٍ فِي نَجَاتِنَا" (أع 27: 20) إلى درجة أنهم ظلوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون". |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس الهدوء والثقة بين المفازع: ووسط هذا كله وقف رجل واحد هادئًا واثقًا. لم يكن مجرد شجاع، فهناك الكثير من الشجعان الذين يستطيعون مواجهة الموت بثبات. ولكن الهدوء والثقة غير الشجاعة. ولكي يكون الإنسان هادئًا واثقًا وسط المفازِع لا بُد من الله. لا بُد من الوعي بحضرة الله محب البشر وهذا الوعي هو الذي منح بولس الأعصاب الثابتة واليد الأكيدة والقلب الذي يخفق باتزان. + فقد واجه العواصف البحرية ثلاث مرات من قبل، وقضى يومًا وليلة تتقاذفه الأمواج وهو ممسك بلوح خشبي. لقد وقف أمام جموع صاخبة وذاق الجلد والرجم. ويبدو الآن أنه يواجه موتًا محققًا. ومع ذلك هادئ فهو واثق والحياة قد فقدت كل ما فيها من فزع لذلك الكارز الباسل المتيقّن من حضرة فاديه في داخله. + ولنتمعّن هذا الأسير وهو وسط العاصفة، وبين قوم تملكهم الذعر بما فيهم البحّارة أنفسهم. فهو مع هذا كله قد وجد وقتًا للصلاة! وقتًا يتناجى فيه مع ربه الذي أعطاه الأمان والطمأنينة. ولنتمعّن هذه الصورة: بولس واقفًا وسط هذا الجمع اليائس المضطرب يقول لهم: "ثقوا وافرحوا" وهذه هي الكلمات التي رددها لنا فادينا الحبيب مرارًا وتكرارًا فليس كل مسيحي مدعّوًا إلى الكرازة ولكن كل مسيحي -وبلا استثناء- مدعو لتشجيع الآخرين: مدعو من الفادي الحبيب إلى إدخال الطمأنينة والعزاء على القلوب القلقة. + ثم لنتمعّن فورية الاستجابة عند أولئك الذين قوّاهم. فمن المعروف أن البحارة، في وقت الخطر، هم أكثر الناس استعدادًا لأن يؤمنوا بالتدخل الذي يأتيهم من العالم غير المنظور. وهم يدركون أن هذا الرجل على صلة بالله. لذلك يأكلون ويشربون وتهدأ أعصابهم. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس الوصول إلى جزيرة مالطة: + وفي نصف الليل صار صراخ. هوذا أرض قريبة! إنهم يسمعون صوت الأمواج ويرون رغاوتها الغاضبة. فيدركون اقترابهم من شاطئ. فقاسوا ووجدوا العمق عشرين قامة. وبعد قليل قاسوا فوجدوه خمس عشرة قامة. ومن المعروف على مدى التاريخ أن ساعة الخطر تبرز الخائن كما تبرز الشجاع الصريح. لهذا نجد أن البحارة أرادوا الهرب. فحاولوا إنزال قارب للنجاة. وهمس بولس في أذن قائد المائة بما ينوون. وفي ومضة قطع السيف الروماني حبل القارب. + وما كاد يوليوس يتخلص من هذا الخطر حتى داهمه خطر آخر. فقد جاء ضابطه يسأله: "أنقتل الأسرى لئلا يهربوا؟!" ولكن هذا القائد الوفي يفكر في بولس الذي يدين له الجميع بالتهدئة النفسية. فليس من المنفعة ولا من اللائق قتله، لذلك أخذ على عاتقه مسئولية منع القتل. + أخيرًا بزغ الفجر وأبصروا خليجًا فاتجهوا نحوه. ولكن الريح العاتية دفعت بالسفينة بعنف فانغرس مقدمها في الأرض. ثم أخذ يطوّح بها يمنة ويسرة فتكسرت ووسط المعمعة أمسك كل رجل بخشبة وعام على الرغم مما أصابه من تخبيط وتجريح وهكذا وصل الجميع إلى البر. + كان الله ساهرًا على سلامتهم كما سلامتنا - سواء أكان بيننا بولس أو لم يكن. وقد يعترض من يقول: إنه يتركنا أحيانًا لنغرق! فليكن لأنه حتى إذا تركنا نغرق، ودفعت بنا الأمواج إلى العالم الآخر فهو يعتني بنا وهو واقف ينتظرنا على الناحية الأخرى. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس كرازة بولس في جزيرة مالطا كرازة بولس فيها: + وهؤلاء الرجال الذين نجوا من السفينة التي كسرّتها الأمواج وجدوا أنهم وصلوا إلى جزيرة - هي جزيرة مالطة. وليس من شك في أنهم وصلوها عند الخليج المسمَّى الآن "خليج القديس بولس". فأبدى "البرابرة"إحسانًا غير المعتاد، وتجاوبًا مع هذا الإحسان شفى بولس مرضاهم وعلمهم إنجيل الأمل البهيج. وفي إمكاننا أن نتصور ما غمر قلوبهم من فرحة وسلام. + ولقد قضوا ثلاث شهور بتلك الجزيرة انتظارًا لسفينة تحملهم إلى إيطاليا، وبذلك انتهى الشتاء وهم فيها: وبعدها أقلّتهم سفينة إسكندرية أيضًا، ووصلت بهم إلى ميناء الجميل - ميناء بوطيولي Puteoli. وقد دخلت الميناء مرفوعة الشراع، وكأنها في شيء من الاعتزاز لأن هذا الشراع المرفوع كان ميزة للسفن الإسكندرية الحاملة للقمح. أليست حاملة للغذاء الأساسي اللازم للجسد؟ وهذه المرة كانت تحمل -على غير علم منهم- خبز الحياة الأبدية. ويا لعجب عمل الله الخفي! فقد شاء أن السفينة الحاملة للقمح تحمل أيضًا الكاروز الحامل لبشرى الفداء! ومن عجبه أيضًا أن هذه السفينة تأتي إليهم من عاصمة مارمرقس الكارز العظيم الذي هو أيضًا نادى بكلمة الخلاص في مختلف البلاد، والذي شهد له بولس نفسه قائلًا أن " مَرْقُسَ ... نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ " (2 تيموثيئوس 4: 11). وهذه شهادة ذات قيمة مزدوجة: إنها تأتي من خادم أمين يعرف قيمة الخدمة؛ وهي تأتي من بولس الذي رفض مشورة برنابا باستصحاب مرقس بعد أن انفض المجمع الرسولي الأول (أعمال 15: 36-41). وهكذا نرى طيف مصر في هذه اللحظة من تحركات رسول الأمم إلى عاصمة الأمم. + ووقف بولس على ظهر هذه السفينة الإسكندرية وتأمل جمال المنظر أمامه: منظر الحدائق البديعة تتخللها فيلات أنيقة. ولكن يالبؤس الإنسان! فهذا الجمال وهذه الأناقة يعيش فيها قوم بلغوا قاع الهاوية من الشر: وفي إحداها يعيش الحاكم المطلق الذي يعتبره رعاياه إلهًا! وهذا الإله قد قتل أمه قبل ذلك بسنة. وفي هذه السنة قطع رأس زوجته الشابة وأرسلها هدية إلى خليلته! فما كان أحوج هذا المجتمع الروماني حاجة ماسة إلى السيد المسيح،ولم يكن أحد من الرسل قد وصل حتى تلك الساعة إلى العاصمة الرومانية الفائضة بالفجور والفساد . + وسار يوليوس بجنوده وأسراه من شارع إلى آخر، ومن زقاق إلى زقاق. وأخيرًا وصلوا إلى مقر "الحرس البرتيوري" . ولقد أبدى عناية فائقة ببولس إلى النهاية إذ أوصى به خيرًا لقائد هذا الحرس. ونتيجة لتوصيته لم يُطرح بولس في زنزانة مزعجة بل سمحوا له بأن يستأجر بيتًا يعيش فيه، كما سمحوا لمن يريد زيارته والسؤال عنه أن يأتي إليه. ولكنهم قيّدوا يديه بالسلاسل ووضعوا جنديًا إلى جانبه لحراسته. وعلى الرغم من هذا فقد استطاع أن يشعر بالراحة والهدوء. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس بولس في رومية في رومية: + وبعد استقراره في ذلك البيت بثلاثة أيام استدعى بولس الذين كانوا وجوه اليهود وفسرّ لهم موقفه بالضبط. فقالوا: "نَحْنُ لَمْ نَقْبَلْ كِتَابَاتٍ فِيكَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ الإِخْوَةِ جَاءَ فَأَخْبَرَنَا أَوْ تَكَلَّمَ عَنْكَ بِشَيْءٍ رَدِيٍّ. وَلكِنَّنَا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نَسْمَعَ مِنْكَ مَاذَا تَرَى، لأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَنَا مِنْ جِهَةِ هذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُقَاوَمُ فِي كُلِّ مَكَانٍ " (أعمال 28: 17-22). + وواضح من أقوالهم أنه لم يكن قد وصل إليهم أحد من الرسل. إذن فبولس أول من دخل رومية وعلّم فيها، وهو الذي قال: "حرصت أن لا أبشر حيث بشّر غيري" (رومية 15: 20). بل إنه قالها في رسالته للرومانيين بالذات وقد استكمل بقوله: "لئلا أبني على أساس لآخر". + وهنا يجدر بنا أن نقف لنوازن بين موقف رسول الأمم وبين موقف من جاءوا إلى مصرنا على زعم أنهم مبشرون. إنه يرفض أن يقيم بناءه على حساب غيره؛ أما هم فلم يركّزوا بناءهم إلا على أساس غيرهم؛ إنهم أخذوا أولئك الذين سرت المسيحية في قلوبهم تسعة عشر قرنًا وحوّلوهم عن كنيستهم العريقة التي جالدت الزمن إلى كنائسهم الخاصة. ومما يوجع النفس أنهم حين كانوا يرسلون تقاريرهم السنوية إلى مقر رياستهم، كانوا يسجّلون فيها أنهم اكتسبوا كذا شخص للسيد المسيح! فمتى يحترم الإنسان كرامة أخيه الإنسان؟! + وكان حراس بولس يتبادلون الحراسة مرتين يوميًا، ولم يسعهم إلا الإعجاب بهذا الأسير الممتلئ فرحًا على الرغم من قيوده. وليس من شك في أن البعض منهم تعلق به، وأن مجموعات صغيرة منهم كانت تأتي لزيارته في الأمسيات. وبالطبع لم يكن من حديث غير الرب يسوع المسيح. ومن المعقول أيضًا أنهم كانوا يتحدثون عنه وهم في معسكرهم ويتحدثون عن دينه العجيب. فهو بنفسه يقول: "إن وُثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية" (فيلبي 1: 13). ولو تخيّلنا عدد الجنود الذين تعاقبوا عليه خلال السنتين لأدركنا عمق الأثر الذي أحدثه في هذه "الفرقة البريتورية". لأن بولس حتى في سجنه أدرك الضرورة الموضوعة عليه: الاهتمام بجميع الكنائس. وهو لم يحمل الكرازة في رومية وإلى معقل المهيمنين عليها فقط، بل تطلع ببصيرته نحو أحبائه البعيدين عنه، فكان يرسل إليهم من حين إلى حين رفقاءه المحيطين به والذين حمّلهم رسائله. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس تبرئة بولس: + أخيرًا وبعد تباطؤ تنفيذ القانون، وفي ربيع سنة 63 م.، وقف بولس أمام محكمة نيرون الاستئنافية. ومن العجب أن الحكم صدر لصالحه! فيبدو أن اليهود سئموا مطاردته فسكتوا كما أن تقارير فستوس وأغريباس وكلوديوس ليسياس كانت كلها تعاطفًا معه. وانضم إلى هؤلاء يوليوس قائد المائة الذي أوصله إلى رومية. ومن المعقول أن الضباط البريتوريين الذين تعاقبوا على حراسته قد ضموا -هم أيضًا- شهادتهم. وفوق هذه كله فالقضاة الرومان لا يهمهم في قليل أو كثير أمورًا خاصة بالشكليات اليهودية. لهذا كله، ومع أن لوقا لا يخبرنا عن المحاكمة ونتيجتها إلا أن الكنيسة الأولى أعلنت عن اقتناع بأنهم فكوا قيوده وأطلقوا سراحه. فذهب مرة أخرى ليستكمل رسالته العظمى التي ناداه إليها الرب وهو في الطريق إلى دمشق. + ولا نجد غير إشارات في رسائله نستنتج منها أنه ذهب إلى كولوسي ومكث في بيت فليمون حيث قابل أنسيمس للمرة الثانية. ومن هناك نجح في القيام بزيارة رعوية لجميع الكنائس التي أسسها. فثبتها على الإيمان ورسّخها لتستمر بعد انتقاله من هذا العالم. بل نستطيع أن نستنتج أيضًا أنه سافر بحرًا على سفينة مرسيلية ووصل إلى أسبانيا فأسس فيها كنيسة. كل هذا مجرد استنتاج لأنه ليس بين أيدينا سجل كالذي أعطاه لنا لوقا. + وفي فترة ما خلال سفرياته، كتب رسالته الأولى إلى تيموثيئوس الذي كان قد أقامه أسقفًا على أفسس. وبالمثل أرسل إلى تيطس الذي كان قد رسمه أسقفًا على كريت. وهكذا ظل يتنقل من كنيسة إلى أخرى مرتبًا أمورها ومودّعًا شعوبها. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس الخطر يتزايد: + وكان الخطر يتزايد يومًا بعد يوم. فقد أشعل نيرون النار في رومية ليتفرّج عليها من قصره وهو يعزف قيثارته! ثم أصابه الذعر أمام فعلته الشنعاء. وبدافع هذا الذعر الصق التهمة بالمسيحيين. وهكذا قام اضطهاد عنيف ضدهم في العاصمة الإمبراطورية لم يلبث أن امتدّ منها إلى أطرافها. ولا ندري على وجه التحقيق ما الذي حدث. ولكننا نعرف أن بولس سبق إلى رومية لمحاكمته مرة ثانية. + وكانت رحلته هذه المرة شاقة مضنية. فلم يكن معه من أصدقائه غير لوقا، ونلمح ومضة عابرة تهز قلوبنا في رسالته الثانية إلى تيموثيئوس. فهو في وحدته بالسجن منتظرًا الموت يريد أن يرى "ابنه" المحبوب ليعطيه وصيته الأخيرة، ومع ذلك فالرسالة تفيض بالرجاء وبالتشجيع وبالنصيحة الحكيمة. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس وقفة ثانية أمام نيرون: + ووقف مرة ثانية أمام نيرون، وكم كانت تكون صورة رائعة لو أن لوقا كان حاضرًا معه ليسجِّلها لنا. فهنا وقف خير رجل وجهًا لوجه مع شر رجل، تلاقى الخير والشر مواجهة. وكان الخير مُقيدًا بالسلاسل والشر جالسًا على العرش! وكم من مرة حدث هذا في عالم انقلبت فيه الأوضاع! فما زال الشر يناصب الخير العداء. وما زال الخير يصارع لينقذ العالم. ولكن على الرغم من كل المظاهر فالخير هو المنتصر. وفي هذا الوضع حين بدا أن الشر غلب تراجع متقهقرًا أمام الخير في النهاية. ومن ذا الذي يشك فيمن كان الأسعد: الشيخ المصارع الباسل الذي عاش من أجل الله بل عاشه فعلًا، ولم يكن ليملك في النهاية غير ثوب عتيق وبعض الرقوق، أم ذلك الإمبراطور الشرير الفاسق الذي كان يملك المال الوفير ويملك أيضًا السلطة المطلقة؟ + وانتهت المحاكمة بسرعة، فلم يقف إلى جانب بولس محامٍ ولا صديق. ولم يكن من المهم أن يقف أحد إلى جانبه. فما دام المسيحيون متهمين بإحراق رومية، وما دام بولس متهمًا بأنه زعيمهم - فأي دفاع مهما بلغ من الصدق والبلاغة يمكن أن يؤثر في ذلك الطاغية السافل الذي بيده الحكم؟ ولأنه مواطن روماني صدر الأمر بقطع رأسه. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس استشهاده: + وإن الرجاء ليملأ قلوبنا في أن يكون الحراس الذين اقتادوه كانوا من البريتوريين الذين في إمكانهم أن يحموه من تهجّم الرعاع. وسار الموكب. ووصل إلى ساحة الإعدام. ولمع سيف عريض في نور الشمس. وسقطت رأسه كلها شيب على الأرض، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. ولم يحظّ هذا المصارع المستميت في النهاية بمن يحمله في إعزاز ويبكي عليه ويدفنه بإكرام! + وليس في إمكاننا أن نرسم الصورة التالية: صورة هاتين العينين اللتين أغمضتهما ظلمة الموت لينفتحا على ذلك النور الذي يفوق بهاء الشمس. وهذه النفس المتواضعة الذي اعتبرها صاحبها كبيرة الخطاة وقفت أخيرًا وجهًا لوجه مع السيد المسيح الذي اقتنصها على الطريق إلى دمشق. + ويروي التقليد الروماني قصة لها جاذبية خاصة - وهي أنه بينما كان بولس في طريقه إلى الإعدام، التقت به أميرة نجح في اكتسابها إلى ربه. فبكت عند مرآه. قال لها: "لا تبكي بل بالحري هنئيني لأني سألاقي مخلصي وحبيبي، وأرجوك أن تعيريني طرحتك لكي أغطي بها وجهي من بهاء النور الذي سأواجهه"، فأعطته إياها. ولما انتهى السيّاف من مهمته وعاد الجند ليبلغوا الأمر إلى قيصر وجدوا الأميرة واقفة حيث تركوها. فسألت قائدها: "أين القديس بولس؟" أجابها: "إنه ملقّى حيث رمى به السيّاف". قالت: "ليس هذا بالصدق. فقد رأيته أنا صاعدًا إلى السماء وسط جمهور من الملائكة الفرحين المسبّحين. وهو قد رمى لي بطرحتي التي أعطيتها له في ذهابه - وها هي!" + ولئن كان بولس لم يتمكن من الذهاب بالجسد إلى أقاصي الأرض فقد نابت عنه رسائله فأوصلت البشرى الذي كان مشتعلًا بها إلى كافة البقاع: إنها أوصلتها إلى بلاد لم تكن معروفة آنذاك. فالناس يقرأونها من القطب الجنوبي إلى القطب الشمالي، ومن مشارق الشمس إلى مغاربها. ولأن رسول الأمم نجح في معركته الحيوية بتوكيد حق الأمم في السيد المسيح بغير اضطرار إلى الخضوع لربقة الناموس، فالمسيحية الآن تعرفها شعوب افريقيا وأمريكا الجنوبية، كما يعرفها الاسكيمو في كندا والشعوب السكندينافية وأيسلاند. وليس من شك في أنه مازال منشغلًا بالاهتمام بجميع الكنائس مصليًا من أجل انتشار ملكوت الرب يسوع المسيح أكثر فأكثر، حتى وإن كان فرحًا بكونها الآن قد ملأت القلوب من أقاصي الأرض إلى أقاصيها. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس رسائل الشهيد بولس الرسول مقدمة: + إن الدارس لحياة القديس بولس الرسول ليزداد إعجابًا به كلما امتدت به الدراسة. فهو رجل هزيل الجسم، يشكو من شوكة في الجسد لا نعرف متى أصيب بها وإنما نعرف أنها لازمته إلى آخر حياته إذ لقد أجاب الرب على ضراعته في رفعها عنه بقوله: "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ" (2 كورنثوس 12: 9). فتقبّل هذا الرد الإلهي بشكر. + والأعجب من ذلك أنه حين أراد أن يثبت حقه في الرسولية قدّم كشفًا رهيبًا بما قاسى من الضيقات والآلام! ومن البنيان لنفوسنا أن نتبصّر هذا الكشف: "... أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ، فَأَنَا أَفْضَلُ: فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ، فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ، فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ، فِي الْمِيتَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً. مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلًا وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ..." (2كورنثوس 11: 22-33). هذه هي شهاداته العليا التي نالها من جامعة الرب المسيح. وقد تلقّاها الكورنثيون بخشوع لأنهم شهدوا بعيونهم بسالة الرجل الذي يقدمها لهم. + ثم أنه طورِ د حتى من عائلتهّ! صحيح أننا لا نسمع شيئًا عن أمه فلا ندري إن كانت قد انتقلت من هذا العالم وهو طفل بعد. ولكن أباه غضب غضبة جامحة حين رآه قد سار وراء السيد المسيح - غضب إلى درجة حرمه من الميراث. ونحن نعرف أنه كانت له أخت تعيش في أورشليم، ولكننا لا نسمع عنها إلا حين ذهب ابنها إلى المعسكر الذي احتجزه فيه كلوديوس ليسياس لينذره بالمؤامرة التي تآمر بها اليهود لقتله. + وليس ذلك فحسب: فغالبية الرسل تباعدت عنه. تباعدوا أولًا لتشككهم في صدق مسيحيّته. وتباعدوا ثانيًا لإصراره على حرية الأمم وحقهم المتساوي مع اليهود في السيد المسيح! + وإلى جانب هذا كله فقد كان مضطرًا إلى العمل لكسب قوته، فهو قد أعلن: "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ" (أعمال 20: 34). فكان لذلك مضطرًا إلى السهر ليلًا للاشتغال بعمل الخيام. + ومع هذا كله، وعلى الرغم من هذا كله، فقد كرز في مدن هذا عددها وأسس بها كنائس مازالت باقية إلى الآن وكتب أربعة عشر رسالة هي: رومية، رسالتين إلى كورنثوس، غلاطية، أفسس، كولوسي، رسالتين إلى تسالونيكي، رسالتين إلى تيموثيئوس، رسالتين إلى تيطس، فليمون، العبرانيين. + ويظن بعض العصريين أن الرسالة إلى العبرانيين ليست له لأنه لا يبدأها بقوله: "بولس عبد يسوع المسيح" ولكن آباءنا وجميع الكنائس الشرقية التي نشأت منذ فجر المسيحية علمونا أنها ضمن ما كتب، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. ويفسِّر ذهبي الفم بدايتها المختلفة بعنف مقاومة اليهود له في كل مكان. فلو أنه استهلها بإعلانه شخصيته على الفور لرفضوها وقاطعوها قبل أن يقرأوها لذلك يبدأ بتذكيرهم بما يعتزّون هم به اعتزازًا فيقول: "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ،..". فهو بهذه البداية غير المعتادة يستثير رغبتهم في التقرب إلى السيد المسيح. ثم يُقدم لهم كشفًا جذّابًا بالعدد الوفير من الرجال المحببّين إليهم مبتدئًا من هابيل وممتدًا على مدى عصورهم المضيئة. وفي ختامه يقول: "وَهُمْ لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ..." نرى إلى أي حد كان بولس بنَاءً حكيمًا، فهو، بعد تقديمه هذا الكشف، يهيب بهم: " لِذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا... وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ..) " (عبرانيين 12: 1-2) فهو يسير من إيمان آبائهم إلى الإيمان بالسيد المسيح. + ومع ذلك فهو يخوض المعركة عينها: معركة حق الأمم ولكن من وجهة نظر اليهود. إنه يخوضها خلال المقارنة بين الكهنوت اللاوي والكهنوت الجديد، معلنًا أنه لو كانت هناك كفاية في الكهنوت اليهودي لما قامت الحاجة إلى كهنوت "على طقس ملكيصادق" الذي قدّم له إبراهيم العشور علامةً على أن ملكي صادق أعلى مكانة من إبراهيم (عبرانيين 4: 14؛ 5؛ 7-10) فالمقارنة التفصيلية بين العهدين القديم والجديد، وأفضلية الجديد الذي حررنا من الحاجة إلى الناموس - هذا كله دليل على أن الرسالة للعبرانيين قد كتبها بولس إليهم، وعلى الأخص لأنه كان متلهّفًا إلى دخولهم الإيمان بالسيد المسيح بوصفه المسيا الذي نادى به الأنبياء. إنه منذ أن لاقاه السيد المسيح على الأرض في دمشق لم يهدأ ولم يسترح، بل إنه رُجم في لسترة ولم يتركه راجموه إلا حين زعموا بأنه مات، قام وباشر نشاطه الكرازي لفوره! وهو حين تفاخر بضيقاته انتهى إلى القول: "... الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ. مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟" فقد أشعلته محبة السيد المسيح اشتعالًا فأشعل كل من استطاع أن يلهب قلبه. حتى السجن والسلاسل لم تمنعه من الكرازة. فعاش فاديه بحق. وبحق عاش في كرازته المبدأ المثالي الذي أصرّ عليه، وهو أنه في المسيح يسوع "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غلاطية 3: 28). |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس وجوب النظرة الشاملة: + ولنحاول الآن أن نتبصّر بعض رسائله فهي ترسم لنا صورة صادقة قوية لكاتبها. إنها تعكس مزاجه وانفعالاته. إنها سامية فائضة بالأحاسيس والمشاعر فتهزّ النفس هزًا. وهي تعكس عقله الذي يتراكض بسرعة مذهلة تجعل القارئ يلهث وراءه في مناسبات كثيرة. + ولكن- لنصغ أولًا إلى ما قاله ذهبي الفم عن رسائل بولس جميعها: "إن بولس يكتب كتابه منطقية مسلسلة، فمن الخطأ أن يتناول إنسان تفسيرها آية آية". ويكفي للتدليل على هذه النصيحة تفسير بعض المسيحيين قول بولس الرسول: "لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلًا وَشُرْبًا..." (رو 14: 17) بأنه يعني عدم ضرورة الصوم. ولكن الحديث عن الصوم كثير في الأسفار الإلهية. بل إن أول وصية إلهية هي وصية بالصوم: "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ" (تكوين 2: 17). والسيد المسيح قد صام هو شخصيًا وعلمنا: "وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ... وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ..." (متى 6: 16-18) فهو له المجد قد أعطى هذه الوصية بصيغة التوكيد إذ لم يقل: "وأنت إن صمت"، إذن فلمن قال بولس هذا؟ لكي نتفهّم السبب الذي جعل رسول الأمم يقول هذه الجملة. فما أحرانا بالإصغاء إلى وصية ذهبي الفم. وما أحرانا باحترام كلمة الله فلا نفتتها تفتيتًا. |
رد: كتاب العجب الذي هو شاول - بولس - أ. إيريس حبيب المصري
القديس بولس رسالته إلى أهل رومية: + وأعظم انتاجاته هي رسالته ذات الجلال التي بعث بها إلى أهل رومية. وحين كتب الرسالة لم تكن بتلك كنيسة إذ لم يكن قد وصلها أي رسول. فلقد كان التلاميذ من أهالي اليهودية. وبالطبع لم يكن لديهم وسائل النقل السريعة بل إن معظمهم كان يتنقل على الأقدام، ومن الطبيعي أن يبدأ الإنسان بأهل بيته. فرب المجد نفسه حين أوصى تلاميذه بأن يتلمذوا جميع الأمم قال لهم: " ...وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ " (أعمال 1: 8) وهم قد نفذوا وصيته هذه فلم يبرحوا أورشليم للكرازة في غيرها إلا بعد أن تشتتوا نتيجة للاضطهاد (أعمال 8: 1). وهم لم يتشتتوا إلا إلى المدن التي يعيش فيها بنو جنسهم. بل إن الأممي الأول الذي آمن بالسيد المسيح كان في قيصرية (أعمال 10). إلا أنه كان في العاصمة الإمبراطورية بعض الأفراد الذين جاءوها للعمل مؤقتًا أو للاستقرار فيها. هذا ما قرره اليهود لبولس حين استدعاهم بعد وصوله إلى رومية بثلاثة أيام(1). ومع عدم وجود كنيسة فقد دفع الاشتعال الروحي ببولس إلى أن يكتب لهؤلاء الأفراد القليلين. فرسالته هذه ليست نتيجة لاحتياج وجده كما هو الحال في رسائله الأخرى، إنما هي رسالة لاهوتية عظمى يعالج فيها موضوع التبرر بالإيمان بيسوع المسيح مقابل التبرر بأعمال الناموس. كان قد خاض هذه المعركة بعنف في رسالته إلى الكورنثيين؛ وحمى وطيسها في رسالته إلى الغلاطيين. أما هنا فيكتب بهدوء لأنه كسب المعركة. والواقع أنها أعمق ما كتب. ونتجنب عمقها العميق لنتبصر المبدأ الجذري الذي يقيم عليه صرحها. ويمكن تلخيصه فيما يلي: أنتم مدركون حاجتكم إلى مخلّص لأن الجميع -يهودًا وأمميين- قد كسروا ناموس الله. وقد يقول قائل إن الأمميين لم يكن لهم ناموس. نعم. كان لهم ناموس الله في ضمائرهم وبما أن الجميع أخطأوا فالجميع تحت الدينونة. وهنا تأتي الأخبار المفرحة من الله. فالآب محب البشر قد هيأ الدواء. ومن جانبه هي عطية مجانية كريمة؛ ومن جانبنا هي تقبّل من غير استحقاق. فلم يعد هناك مجال للمقايضة و لا للاكتفاء الذاتي ولا للكبرياء إذ لا يوجد من يستطيع أن يخلِّص نفسه: "وبأعمال الناموس لا يتبرر كل ذي جسد". والله لا يفرق بين الناس: اليهود واليونانيين، كبار الخطاة وصغارهم - جميعهم يرحّب بهم ويحتضنهم. ولكل نفس تائبة لا يمنح مغفرته عن الماضي فقط، بل يهبها قوة الروح القدس. ولنلحظ كيف يركز بتوكيد على قوة الروح القدس. ولكي نحظى بهذه المنحة العظمى مات السيد المسيح عنا ونحن خطاة. وليست هناك سلطة يمكنها أن تحول بيننا وبين محبته: "...لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رو 8: 38، 39) ثم تأتي بعد ذلك الأصحاحات الخاصة بالأسرار العميقة عن دعوة الله العليا التي كثيرًا ما أسيء فهمها. وهو -فيها- يقدّم الرجاء الخفي لشعب إسرائيل الذي فقد دعوته العليا آنذاك، والذي سيخلص يومًا ما. + أما الأصحاح الأخير فشهادة عظمى من ذاك الذي كان فريسيًا ابن فريسي لخدمة المرأة ففيه بعث بسلامه إلى سبعة وعشرين شخصًا تسعة منهم نسوة ويفتتحه بالتوصية على "... فِيبِي، الَّتِي هِيَ خَادِمَةُ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي كَنْخَرِيَا، كَيْ تَقْبَلُوهَا فِي الرَّبِّ كَمَا يَحِقُّ لِلْقِدِّيسِينَ، وَتَقُومُوا لَهَا فِي أَيِّ شَيْءٍ احْتَاجَتْهُ مِنْكُمْ، لأَنَّهَا صَارَتْ مُسَاعِدَةً لِكَثِيرِينَ وَلِي أَنَا أَيْضًا" (رو 16: 1، 2). وفي ختام الرسالة يعلن: "كُتب إلى أهل رومية من كورنثوس على يد فيبي خادمة كنيسة كنخريا". وبعد هذه التوصية الفائضة بالإعزاز يسلِّم على "... بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ الْعَامِلَيْنِ مَعِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، اللَّذَيْنِ وَضَعَا عُنُقَيْهِمَا مِنْ أَجْلِ حَيَاتِي(2)، اللَّذَيْنِ لَسْتُ أَنَا وَحْدِي أَشْكُرُهُمَا بَلْ أَيْضًا جَمِيعُ كَنَائِسِ الأُمَمِ، وَعَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي بَيْتِهِمَا" (رو 16: 3-5). وعلى الكنيسة التي في بيتهما وليس من شك في أن المؤمنين كانوا يجتمعون في هذه "الكنيسة"،ومن هذه الجملة نلمح عمل بريسكلا وزوجها في الكرازة. ويجب أن نذكر أيضًا أنهما أخذا أبلوس "وَشَرَحَا لَهُ طَرِيقَ الرَّبِّ بِأَكْثَرِ تَدْقِيق"(أعمال الرسل 18: 26). وكان هذا في أفسس على مرأى ومسمع من بولس الذي كان مقيمًا معهما. وجدير بنا أن نعتزّ بما عملاه مع أبلوس الذي وصفه لوقا البشير بأنه "إِسْكَنْدَرِيُّ الْجِنْسِ، رَجُلٌ فَصِيحٌ مُقْتَدِرٌ فِي الْكُتُبِ" (أعمال 18: 24). وإننا لنرى في سلام بولس تقديره لحاملي الكلمة. + وبعد ذلك يسلم على "مَرْيَمَ الَّتِي تَعِبَتْ لأَجْلِنَا كَثِيرًا"(رو 16: 6) ، يليها السلام على "...تَرِيفَيْنَا وَتَرِيفُوسَا التَّاعِبَتَيْنِ فِي الرَّبِّ. .. وعَلَى بَرْسِيسَ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي تَعِبَتْ كَثِيرًا فِي الرَّبِّ" (رو 16: 12). ثم يسلِّم على أم "رُوفُسَ" التي يدعوها "أُمِّي" (رو 16: 13)... وعلى ".. جُولِيَا، وَنِيرِيُوسَ وَأُخْتِهِ، ..." (رو 16: 15). فالذين ذكرهم بالاسم ثمانية عشر رجلًا وتسع نساء ولسنا نعلم كم من النسوة يشملهم كل من بيت "أَرِسْتُوبُولُوسَ" و"أَهْلِ نَرْكِيسُّوسَ" (رو 16: 10، 11). ومن هذا السجل الناطق بعرفانه الكريم للذين "تعبوا من أجله ومن أجل الإنجيل". نرى أن المرأة كان لها نصيب محترم في حمل رسالة السيد المسيح، وهذا يشجعنا على استكمال السعي. |
| الساعة الآن 12:45 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025