![]() |
كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري الفصل الاول: تفسير السلام عليك ايتها الملكة ام الرحمة والرأفة... - كتاب امجاد مريم الفصل الأول * في تفسير الكلمات الأولى من الصلاة الآتي ذكرها وهي* السلام عليك أيتها الملكة أم الرحمة، السلام عليك يا حياتنا ولذتنا ورجانا، إليكِ نصرخ نحن المنفيين أولاد حواء ونحوك نتنهد نائحين وباكين في هذا الوادي وادي الدموع، فأصغي إذاً إلينا يا شفيعتنا وأنعطفي بنظرك الرأوف نحونا وأرينا بعد هذا المنفى يسوع ثمرة بطنك المباركة، يا شفوقة يا رأوفة يا مريم البتول الحلوة اللذيذة آمين* *ويشتمل هذا الفصل الأول على أربعة أجزاء* † الجزء الأول † * في كم يجب أن يكون رجانا وطيداً في مريم والدة الإله من حيث أنها هي الملكة أو الرحمة* أنه لأجل أن مريم البتول الكلية القداسة قد حازت منالله هذه الرتبة الكلية السموّ، وهي أنها صارت والدةً لملك الملوك وسيد الممالك جميعها، فبكل عدلٍ واستحقاقٍ قد كرمتها الكنيسة بصفة ملكة، وتريد من الجميع أن يكرمونها بهذه الصفة المجيدة. على أنه يقول القديس أثناسيوس: أن كان الابن هوملكاً فيلزم بكل عدلٍ أن تدعى والدته ملكةً وتعتبر كذلك. ويضيف الى هذا القديس برنردينوس السياني (في العدد الحادي والخمسين من المجلد الثاني) قائلاً: أنه من الوقت الذي فيه قد ارتضت مريم البتول بأن تكون أماً للكلمة الأزلي، فقد استحقت منذ تلك الساعة أن تصير ملكة العالم وكل المخلوقات. والأنبا القديس أرنولدوس يبرهن هكذا بقوله: أنه أن كانت لحمان جسم العذراء المجيدة لم تكن متميزة عن لحمان ابنها يسوع، فكيف يمكن أن يكون شخصها منفصلاً عن صفة التملك في مملكة ابنها، مع كونها أمه. ولذلك يلزم أن يقال أن مجد المملكة ليس فقط هو مشتركاً فيما بين الابن ووالدته ومشاعاً لهما، بل أيضاً هو خاص لكلٍ منهما*ويقول الأنبا روبارتوس: أنه أن كان يسوع المسيح هو ملك الكائنات أجمع. فمريم والدته هي أيضاً ملكة المخلوقات بأسرها: فمن ثم كتب القديس برنردينوس المار ذكره: أن كل المخلوقات التي تخدم الله يلزمها أن تخدم مريم أيضاً، لأن جميع الملائكة والبشر وكل الموجودات في السماء والأرض، فبحسب كونهم مخضعين لمملكة الله فهم مخضعون لسلطان مريم البتول أيضاً(ف 61 كتاب 2) فلهذا يتجه الأنبا غواريكوس نحو هذه الأم الإلهية مخاطباً إياها هكذا: فداومي إذاً يا مريم على ممارسة سلطان تملكك أمينةً مطمئنة، وتصرفي كما تشائين بخيرات ابنكِ جميعها، لأنكِ من حيث كونكِ أماً وعروسةً لملك العالم فيلزم أن تخضع لكِ المملكة. إذ أنكِ ملكةٌ ويخصكِ التولي على المخلوقات بأسرها.* فإذاً مريم البتول هي ملكةٌ، ولكن فليعلم كل واحدٍ لأجل التعزية العمومية، أنها هي ملكةٌ كلية العذوبة والحلاوة والحلم والشفقة، منعطفةٌ لصنيع الخير معنا نحن المساكين الأذلاء ولذلك تريد منا الكنيسة أن نسلم عليها بهذه الصلاة مسمين إياها: ملكة الرحمة: ثم ان صفة ملكة تشير كما يقول الطوباوي البرتوس الكبير الى الحنو والعناية نحو الفقراء خلافاً لتسمية مسلطة مقتدرة المشيرة الى الصرامة والخوف. فسينكا الفيلسوف يعلّم قائلاً: أن جلالة الملوك والملكات أنما تتلألأ في اسعافهم المساكين واحسانهم اليهم. أما المغتصبون المختطفون الكراسي الملوكية اختلاساً واغتصاباً، فانما غايتهم هي خير ذواتهم لا غير. وأما الملوك الشرعيون فيلزم أن تكون غايتهم خير رعاياهم. ولذلك جرت الرسوم في أن تدهن هامة الملك يوم احتفال تتويجه بزيتٍ، دلالةً على الليونة والرحمة والرأفة، لكي يتذكر ألتزامه في أن يلاحظ فضلاً عن كل شيءٍ ما به يصنع الرحمة والإحسان مع المخضعين لولايته* فمن ثم تلتزم الملوك بأن يجتهدوا بالوجه الأول في أعمال الرحمة، ولكن ليس بنوعٍ هذا حدّه، حتى أنهم يتناسون أن يمارسوا واجبات العدل في عقاب المذنبين حينما يحتاج الأمر لذلك. غير أن تصرف مريم البتول ليس هو على هذه الصورة. لأنها ولئن كانت هي ملكةً، فمع ذلك ليست هي ملكةً مؤدبةً معاقبةً منتقمةً من المذنبين بل هي: ملكة الرحمة: المنعطفة الى الشفقة وصنيع الرحمة فقط والى منح الغفران للخطأة. ولهذا قد شاءت الكنيسة تقصداً أن ندعوها نحن بالحصر: ملكة الرحمة. فعندما كان يتأمل المعلم جرسون العظيم أول مسجلي الديوان الملوكي في مدينة باريس، تلك الكلمات الداودية الموردة من المرتل في العدد الثاني عشر من المزمور الحادي والستين وهي قوله: مرةً واحدةً تكلم الرب وهاتين الاثنتين سمعت أن العزة لله ولك يا رب الرحمة لأنك أنت تجازي كل واحدٍ نظير أعماله: فقد فسرها هو هكذا قائلاً:( في البحث الرابع من القسم الأول من تأليفه):" أنه إذ كانت مملكة الله قائمةً ومتوقفةً على هاتين الاثنتين وهما العدالة والرحمة. فالرب قد قسم لذاته ملك العدل، حافظاً لشخصه فقط الانتقام، ووهب قسم مملكة الرحمة لمريم والدته، راسماً بأن المراحم كلها التي يمنحها للبشر تكون موزعةً منه بواسطة ملكة الرحمة هذه حسبما تشاء هي وتريد". وقد أثبت ذلك القديس توما اللاهوتي في مقدمته على الرسائل القانونية بقوله: أن البتول القديسة حينما حبلت في أحشائها بالكلمة الأزلي وولدته تعالى، فقد حازت نصف مملكة الله بصيرورتها ملكة الرحمة. وحفظ يسوع ابنها لذاته صفة ملك العدل* فالآب الأزلي انما أقام يسوع المسيح ملكاً للعدل، ولذلك جعله قاضياً ودياناً مطلقاً للعالم بأسره. ومن ثم يهتف المرتل قائلاً: اللهم أعط حكمتك للملك وعدلك لابن الملك:( مزمور72 ع1) فهنا أحد مفسري الكتاب المقدس البارعين يخاطب الله بقوله: أيها الرب أنك أنما أعطيت ابنكَ مملكة العدل، ووهبت مريم البتول والدته مملكة رحمتك. والقديس بوناونتورا يغير الألفاظ الداودية المذكورة كموجب هذا التفسير قائلاً: اللهم أعط عدلك للملك ورحمتك لأم الملك. وكذلك يقول السيد أرباسطوس رئيس أساقفة براغا: أن الآب الأزلي قد خصص الابن بوظيفة قاضٍ معاقبٍ بالعدل. ومنح الأم وظيفة الاشفاق والرحمة نحو المساكين والسعي في اسعافهم: ومن ثم فالنبي داود نفسه سبق مشيراً الى أن الله قد مسح (لكي يقول هكذا) مكرساً مريم البتول ملكة الرحمة بزيت البهجة (مزمور.ع 45) لكي نبتهج نحن بأجمعنا أولاد آدم الأشقياء المساكين، ونتهلل عند تذكرنا أن لنا في السموات ملكةً ممسوحةً بزيت الرحمة، مملؤةً من الرأفات والاشفاق نحونا، حسبما يقول القديس بوناونتورا (في الفصل7): أن مريم هي ممتلئةٌ من مسحة الرحمة ومن زيت الرأفة كما قيل أن الله قد مسحك بزيت البهجة* ففي هذا الموضوع حسناً جداً يخصص الطوباوي البرتوس الكبير بوالدة الإله خبرية أستير الملكة، التي قد كانت رسماً وصورةً لملكتنا الشريفة. ففي الأصحاح الرابع من سفر أستير يورد. أنه اذ كان متملكاً أحشوروش الملك قد خرج أمرٌ الى جميع حدود مملكته في قتل اليهود جميعاً، فحينئذٍ مردخاي الذي كان هو واحداً من هؤلاء المقضى عليهم بالموت. قد استخدم أستير شفيعةً في أمر مصائبهم، لكي تدخل واسطةً مع الملك، وتجتذبه لأن ينقض الحكومة المبرزة ضدهم. فهذه الملكة قد رفضت في الأول أن تتداخل في هذه القضية، لخوفها من أن تسبب للملك أحشوروش زيادة الغيظ. غير أن مردخاي قد عنفها وأرسل يقول لها بأنها لا تفتكر في أن تخلص نفسها فقط معرضةً عن أبناء جنسها. في الوقت الذي فيه أنما رفعها الرب الى كرسي الملك، لكي تنال الخلاص لليهود كافةً. فهكذا قال مردخاي وكذلك نحن الخطأة الأذلاء يمكننا أن نقول لملكتنا مريم المجيدة: لا تفتكري أيتها السيدة بأن الله قد رفعكِ الى مرتبة ملكة العالم لكي تعتني في شأن خيركِ أنتِ وحدكِ، بل حتى أنكِ اذ حصلتِ عظيمةً سامية الاقتدار، تستطيعين أن تترأفي مشفقةً علينا ومهتمةً في أسعافنا نحن البائسين* فأحشوروش الملك حينما شاهد أستير ماثلةً أزائه قد سألها بحبٍ قائلاً: مالكِ يا أستير الملكة وما هي طلبتكِ: فأجابته وقالت له: أن وجدتُ في عيني الملك نعمةً وان رأى الملك أن يهب لي نفسي في سؤالي وأمتي في طلبتي:: فالملك قد قبل ألتماسها. وأمر حالاً بأن لا تبلغ مفعولها مراسيمه المبرزة ضد اليهود. فإذاً ان كان الملك احشوروش قد استجاب طلبة أستير لأجل حبه اياها، ووهب اليهود نعمة الخلاص من الموت أكراماً لها. فكيف يمكن للباري تعالى ان لا يقبل طلبات مريم البتول، مع أنه يحبها حباً غير متناهٍ. أو كيف يمكن أن يرفض توسلاتها في شأن خير الخطأة الذين يلتجئون اليها مستغيثين بشفاعاتها حينما تقول هي له عز وجل. أنني أن كنت وجدت لدى عينيك نعمةً أيها الملك. فهبني شعبي الذين أتوسل إليك من أجلهم (هذا مع أن البتول الأم الإلهية تعلم جيداً أنها هي وحدها المباركة في النساء والطوباوية في جميع البشر لأنها وجدت النعمة التي هم أضاعوها. وتعرف أنها هي كلية القبول لدى سيدها، ومحبوبة منه أفضل حباً من جميع الملائكة والبشر معاً) فهل هو ممكن أنها تلتمس منه تعالى قائلةً:" أن كنت تحبني أيها السيد فأمنحني واهباً هؤلاء الخطأة الذين أتضرع إليك من أجلهم". وهو جلت قدوسيته لا يقبل طلبتها. فمن تراه يجهل مقدار قوة تضرعات هذه السيدة أمام الله. مع أن شريعة الرحمة في لسانها كما قيل عنها في العدد 26 من الاصحاح 31من سفر الامثال: فكل تضرعٍ تصنعه هي فهو محسوبٌ بمنزلة شريعةٍ مرسومة من الله. بأن توهب الرحمة والنعمة لكل أولئك الذين تتوسل هي من أجلهم. فالقديس برنردوس في تفسير هذه الصلاة أي: السلام عليكِ يا ملكة الرحمة: يسأل كمستفهمٍ لماذا أن الكنيسة تسمي مريم العذراء ملكة الرحمة، ثم يجيب هو نفسه على سؤاله هذا قائلاً: لأننا نحن نوقن معتقدين بأنها هي تفتح أبواب رحمة الله التي لا قرار لعمقها، وتهب هذه الرحمة لمن تريد وحينما تشاء وبالنوع الذي ترومه. ولهذا لا يوجد أصلاً خاطئ ما مهما كانت مآثمه متفاوتة كل الشناعات يمضي هالكاً، أن كانت مريم تحامي عنه* ولكن أهَل نستطيع نحن أن نخاف من أن هذه الأم الإلهية، لا تتنازل لأن تدخل وسيطةً وشفيعةً لدى الله من أجل الخاطئ، لأجل أنها تشاهده حاملاً وسقاً ثقيلاً من خطايا كثيرة. أو هل ربما أننا نستوعب رهبةً وارتجافاً من سمو جلالة مقام هذه الملكة، ومن علوّ قمة القداسة الحاصلة هي عليها. لا لعمري، لأنه كما يقول القديس غريغوريوس الكبير (في الرسالة 47من كتابه1): أنه بمقدار ما أن هذه الملكة هي عالية الشأن وسامية في القداسة، فبمقدار ذلك هي ذات عذوبةٍ أفضل وحنوٍ أعظم واشفاقٍ أكمل، نحو اسعاف الخطأة الذين يرومون النجاة من مآثمهم تائبين، ويقصدون شفاعاتها مستغيثين. فأي نعم أن عظمة سطوة الملوك، وسمو جلالة الملكات، يسببان في قلوب رعاياهم الرهبة، ويصدانهم عن سهولة الامتثال أمامهم في البلاط الملوكي لخوفهم منهم. غلا أنه يقول القديس برنردوس: أي خوفٍ يمكنه أن يعتري الخطأة البائسين من أنهم يلتجئون الى ملكة الرحمة هذه. في الوقت الذي فيه لا تظهر هي شيئاً من الرعدة أو الصرامة ضد من يتقدم اليها مستغيثاً بها. بل تعلن له ذاتها بكليتها مملؤةً من العذوبة والرفق والحنو، وهي نفسها تقدم للجميع لبناً وصوفاً: أي أنها ليس فقط تمنح السائل مسألته، بل أيضاً هي عينها تقدم لنا جميعاً لبن الرحمة، لكي تشجعنا على توطيد الرجاء في شفاعاتها، وصوف الحماية الذي اذا ما تردينا به فننجوا من صواعق انتقام العدل الإلهي* فيخبرنا سفاسطونيوس عن الملك تيطس قيصر بأنه لم يكن يعرف هذا الملك أن يرفض ايهاب نعمةٍ ما عن أي من كان يلتجئ اليه في طلبها منه، بل الابلغ من ذلك أنه هو نفسه بعض الاحيان كان يعد بايهاب النعم بأكثر مما كان ينتظر منه، زكان من عادته أن يعطي الجواب لمن كان يجتهد في تهذيب هذا السخاء فيه قائلاً له: أنه يلزم الملك أن لا يصرف أحداً من حضرته غير راضٍ منه بعد أن يكون سمح له بالحضور أمامه وبأستماع طلبته: نعم أن هذا الملك كان يقول هكذا، الا أنه بالحقيقة كان يتفق له مراتٍ كثيرةً أن يستعمل الافك. أو يخرم في مواعيده غير متممٍ اياها. ولكن ملكتنا هذه الإلهية لا يمكنها أن تكذب، بل وتستطيع أن تستمد لعبيدها كل ما تريده لهم. ويضاف الى ذلك (كما يقول عنها لودوفيكوس بلوسيوس في الرأس12 من كتابه4) أنها هي حاصلةٌ على قلبٍ بهذا المقدار موعب حنواً ورأفةً، حتى أنها لا تستطيع أن تحتمل هذا الأمر. وهو أن أحداً مهما كان في ذاته، من الذين يتضرعون اليها يمضي من أمامها غير راضٍ، وغير متعزٍ بنوال مطلوبه: بل أن القديس برنردوس (في تفسيره الصلاة المار ذكرها) يخاطب هذه السيدة هكذا قائلاً: ترى كيف تقدرين يا مريم أن ترفضي اسعاف البائسين المستغيثين بكِ، في الوقت الذي فيه أنتِ هي ملكة الرحمة. وترى من هم أولئك الرعايا المخضعين لملكة الرحمة سوى الفقراء المساكين الاذلاء. فأنتِ هي ملكة الرحمة وأنا هو الخاطئ الأكثر دناءةً من الجميع. فاذاً أنا هو الأكبر فيما بين الرعايا المخضعين لمملكتكِ، ولذلك يلزم أن تكون عنايتكِ بي أشد فاعليةً من أهتمامكِ في جميع الآخرين* فارحمينا اذاً يا ملكة الرحمة واهتمي في خلاصنا، ولا تقولي لنا أنكِ لا تستطعين أسعافنا لأجل أن خطايانا هي كثيرةً جداً، اذ أنكِ حاصلةً على سلطانٍ هكذا عظيمٍ ومطلقٍ. وعلى قلبٍ بهذا المقدار حنون ومترفق، حتى أن مآثمنا مهما كانت عدبيدةً ومتكاثرة، فلا يمكنها أن تسمو على سلطانك وأشفاقك، فلا شيءٌ من الأشياء يمكنه ان يقاوم سلطتكِ، لأن خالقكِ ومبدعنا أجمعين اذ كان يريد أكرامكِ بحسب كونكِ أماً له. فيعتد شرفكِ وتكريمك راجعين لشخصه، على أنه (كما ينتج واضحاً من أقوال القديس غريغوريوس النيكوميدى، في خطبته على نياح مريم البتول، وعنه هي مأخوذة الألفاظ المتقدم ايرادها) ولئن كانت هذه السيدة مملؤةً من الالتزام ومعرفة الجميل نحو ابنها الإلهي على ما أنعم هو به عليها برفعه اياها الى مقام والدةٍ حقيقيةٍ له، فمع ذلك أمرٌ غير قابل الإنكار هو أن هذا الابن عينه هو ملتزمٌ ليس بالقليل لامه هذه، لأجل اعطائها اياه الطبيعة الانسانية من دمائها النقية، فمن ثم لكي يكافئ يسوع المسيح والدته ويفي على نوعٍ ما التزامه نحوها، فيسر بتمجيدها واكرامها في أنه بنوعٍ خاصٍ يستجيب دائماً طلباتها كلها* فكم ينبغي اذاً أن يكون رجاؤنا وطيداً في هذه الملكة، عند معرفتنا عظمة الاقتدار الحاصلة هي عليه لدى الله. ويضاف الى ذلك تأملنا في كم هي غنيةً ومملؤةٌ من الرحمة، بنوع أنه لا يوجد انسانٌ يحيى على الأرض من دون أن يشترك بمفاعيل اشفاقها واسعافها، الأمر الذي قد أعلنته هذه السيدة المجيدة نفسها للقديسة بريجيتا. (كما يوجد مدوناً في الرأس6 من الكتاب1 من سيرة حياة هذه القديسة) التي خاطبتها البتول والدة الإله قائلةً: أنني أنا هي ملكة السماء وأم الرحمة، وأنا هي فرح الأبرار والباب الذي بواسطته تدخل الخطأة الى الله، فلا يوجد على الأرض خاطٍ ما يعيش هذا المقدار ملعوناً ويستمر خالياً من اسعاف رحمتي. لأنه أن كان كل أحدٍ لا يحصل من مفعول شفاعتي من أجله، شيئاً آخر، فينال قلما يكون هذه النعمة، وهي أن تقل عنه تجارب الشياطين، بنوع أنها لكانت ضده قويةً جداً لولا شفاعتي. فلا يوجد أحدٌ، بحيث أنه لا يكون قد لعن مطلقاً (أي باللعنة الأخيرة المحكوم بها من دون أمكانية نقض الحكومة) يمضي مطروداً من أمام الله، بعد أن يكون استدعاني الى معونته مستغيثاً بي، ولا يرجع اليه تعالى ويتمتع برحمته الإلهية! فأنا قد سميت من الجميع أم الرحمة وبالحقيقة أن رحمة الله نحو البشر قد صيرتني هكذا شفوقةً رأوفةً نحوهم... فلهذا شقيٌ هو وسيكون شقياً على الدوام في الحياة العتيدة. ذاك الذي مع أمكانه أن يلتجئ اليَّ وهو في هذه الحياة. أنا التي بهذا المقدار شفوقةً نحو الجميع، وراغبةٌ عمل الخير مع الخطأة، فلا يستغيث بي بل يتكردس هالكاً*. فلنلتح اذاً الى هذه الملكة الكلية العذوبة والرأفة. ولكن التجاءً متصلاً، أن كنا نريد أن نجعل أمر خلاصنا الأبدي في أمان. واذا كان تأملنا في كثرة خطايانا يخيفنا ويضعف شجاعتنا، فلنفكر في أن مريم لأجل هذه الغاية عينها قد أقيمت من الله ملكةً للرحمة، وهي لكي تخلص بواسطة حمايتها الخطأة الأشد شقاءً والأوفر تيهاً في طريق الهلاك. الذين يلتجئون اليها. لأن هؤلاء عتيدون أن يكونوا لها في السماء نظير اكليلٍ مستديرٍ حولها. حسبما يخاطبها عروسها الإلهي في الاصحاح الرابع من سفر النشيد قائلاً: تعالي يا عروستي من لبنان، هلمي من لبنان تجيئين فتتكللين من صير الأسود ومن جبال النمورة. فترى ما هي صير الوحوش الضارية هذه سوى الخطأة الأشقياء الذين أضحت أنفسهم صيراً للمآثم التي هي وحوشٌ شنيعة الصور بنوعٍ متفاوت حدود الشناعة. فحسبما يفسر الأنبا روبارتوس (في كتابه3 على سفر النشيد) قائلاً: من صير هذه الأسود تتكللين، فخلاصهم يكون تاجاً لكِ: على أن هؤلاء الخطأة الأذلاء بالخصوص الذين يفوزون بالخلاص الأبدي بوساطتكِ أيتها الملكة العظيمة، فهم الذين عتيدون أن يكونوا أكليلاً لك في الفردوس السماوي، لأن خلاصهم هو تاجٌ لك. وبالحقيقة أنه لتاجٌ لائقٌ وملائمٌ واستحقاقيّ لمن هي ملكة الرحمة التي هي أنتِ.* * نموذج * أنه لمدونٌ في سيرة حياة القديسة كاترينا المختصة بالقديس أوغوسطينوس. أنه في المكان الذي فيه كانت موجودةً خادمة الرب هذه، قد كانت هناك امرأة أسمها مريم، التي اذ أنها منذ حداثتها قد كانت تمرغت في حمأة المآثم، وتأصلت فيها الرذائل الشنيعة. فحينما تقدمت في العمر والسنين لم تكن بعد تركت سيرتها الأولى الرديئة المدنسة بهذا المقدار من الخطايا حتى أن أهل بلدتها قد طردوها من وطنهم، ونفوها الى مغارةٍ بعيدةٍ عنهم. كي تعيش هناك حيث ماتت فيما بعد مرذولةً منتةً، من دون تناول الأسرار المقدسة ولذلك قد دفنت جثتها في أحد الحقول كجثة وحشٍ مكروهٍ. فالبارة كاترينا التي كانت من عادتها أن تقدم تضرعاتٍ حارةً من أجل أولئك الذين كانت تسمع عنهم أنهم فارقوا هذه الحياة بالموت. فقد أهملت الصلاة من أجل نفس هذه الإمرأة التعيسة لظنها فيها نظير ما كان ظن الجميع أنها قد ماتت هالكةً في الجحيم. فبعد أن مضى من الزمن أربع سنوات، واذا يوماً ما بنفسٍ من الأنفس الكائنة في المطهر قد ظهرت للبارة كاترينا قائلةً لها: أيتها الأخت كاترينا كم هو تعسٌ حظي، فأنتِ دائماً تتوسلين لله من أجل أسعاف كل الأنفس التي تسمعين خبر انتقالها من هذه الدنيا. فكيف من أجلي أنا فقط لم توجد عندكِ شفقةٌ: فعبدة الرب كاترينا قد سألتها قائلةً: ومن هي أنتِ: فأجابتها هذه النفس بقولها: اني هي تلك المرأة المسكينة مريم، التي ماتت منفيةً في المغارة: فأردفت عليها السؤال كاترينا مستفهمةً بقولها لها: كيف جرى الأمر، أهَل أمكنك أن تخلصي من الهلاك: فأجابتها – نعم أنني فزت بالخلاص بواسطة مراحم مريم البتول. فقالت لها كاترينا: وكيف تم ذلك. فأخذت تلك تخبرها قائلةً: أنني حينما رأيت ذاتي مدنفةً قريبةً من الموت، فاذا تأملت في شقاوتي. وفي كم أنني مملؤةً من المآثم ومهملةٌ من الجميع، فقد أتجهت نحو والدة الإله قائلةً لها: أنك أيتها السيدة أنت هي ملجأ المتروكين المهملين، فأنت هي رجائي الوحيد وانت وحدكِ تقدرين أن تعينيني، فأرحميني وترأفي عليَّ: فالبتول القديسة قد استمدت لي من الله نعمة الندامة الصادقة. وهكذا قد مت ونجوت من الهلاك، ثم أن القديسة ملكتي قد استماحت لي من الرب هذه النعمة أيضاً. وهي أن زمن أقامتي في العذابات المطهرية لا يكون مستطيلاً، بل اختصرته لي بنوع أني أتكبد العذاب مضعفاً، بدلاً مما كان يلزمني أحتمله أزمنةً مستطيلةً من السنين، ولذلك فأنا الأن لست محتاجةً، لأجل خلاصي من المطهر، سوى الى بعض قداديس تتقدم لله من أجلي. فمن ثم أتوسل اليك بأن تهتمي في أن تصيري بعض الكهنة أن يتمم ذلك، وأنا أعدك بأن أتضرع من أجلك دائما لدى الله ولمريم البتول: فالبارة كاترينا من دون تأخيرٍ قد اجتهدت في تقدمة تلك القداديس عن نفس مريم المذكورة، التي ظهرت لها مرةً ثانيةً بعد أيام وجيزة ملحفةً بالأنوار الأكثر لميعاً من ضياء الشمس وقالت لها: أنني أشكر فضلكِ أيتها الأخت كاترينا، فهوذا أنا الآن منطلقةٌ الى السماء لكي أسبح رحمة الله إلهي وأتضرع لديه من أجلكِ.*† صلاة † يا سيدتي ووالدة إلهي مريم الطوباوية، أن مسكيناً مقرحاً بالجراح مستكرهاً منظره يتقدم أمام ملكةٍ عظيمة الجلالة. فأنا هو هذا المسكين، وقد أمتثلت أمامكِ أنتِ التي هي ملكة السماوات والأرض، متوسلاً لديكِ بألا تكرهي أن تنظري اليَّ من علو السدّة التي أنتِ جالسةٌ فوقها، بل أرمقيني بعين رأفتكِ أنا العبد الخاطئ الذليل، فأنما الله قد جعلكِ غنيةً لكي تسعفي البائسين، وأقامكِ ملكةً للرحمة ليمكنكِ أن تترأفي على الأشقياء التعيسين، فأنظري إذاً اليَّ، وأشفقي عليَّ، لاحظيني بطرف رأفتكِ، ولا تتركيني ألمَّ تنقليني من حال كوني خاطياً الى حال القداسة. فأنا أعلم ذاتي يقيناً أنني لا أستحق شيئاً من ذلك، بل بالأحرى أنني مستأهل لأجل عدم معرفتي جميل المحسن اليَّ، أن أعرى من النعم كلها التي حزتها من الرب بواسطتكِ. ولكن من حيث أنكِ أنتِ هي ملكة الرحمة، فلا تفتشين ولا تطلبين استحقاقاتٍ، بل تفحصين عن الأشقياء المهملين لكي تسعفيهم: فترى من هو أكثر مني احتياجاً وأشد مني شقاوةً*فأنا أعلم أيتها البتول العالية الشأن، أنكِ بحسب كونكٍ ملكة المخلوقات بأسرها، فأنتِ هي ملكتي أنا أيضاً. الا أنني أريد بنوعٍ أخص وأشد التزاماً أن أكرس ذاتي بجملتي لخدمتكِ وعبادتكِ، لكي تتصرفي بي حسبما تشاءين وتريدين. ومن ثم أتفوه نحوكِ بكلمات القديس بوناونتورا قائلاً: أنني أريد أن أسلم ذاتي لولايتكِ أيتها السيدة لكي تعضديني وتدبري أحوالي كلها، وأن لا تتركيني على هواي: فعينيني أنتِ يا ملكتي وأحفظيني ولا تهمليني على هوى نفسي، أمريني وأستخدميني كما ترومين، بل عاقبيني أيضاً بالتأديب حينما لا أسلك ضمن حدود الطاعة لكِ، لأن القصاصات التي تأتيني من يدكِ هي مفيدةٌ خلاصيةٌ لي في الغاية، فأنا أفضل حال كوني عبداً لكِ، وأعتبره أشرف لي من أن أكون متملكاً على الأرض كلها، أنا لكِ فخلصيني. أقبليني خاصتكِ، وبحسب أنني أنا لكِ فأنت أفتكري في أن تخلصيني. فأنا لا أريد بعد الآن أن أكون لذاتي، بل أنني أهبكِ نفسي وأن كنت فيما مضى قد خدمتكِ بئس الخدمة. لأني أهملت الفرص والموضوعات المفيدة التي كان يمكنني أن أكرمكِ بها، فأرغب منذ الآن فصاعداً أن أتحد مع عبيدكِ المتمسكين بحبكِ أشد تمسكاً، والمستحرين في عبادتكِ أكثر حرارةً، بل لا أرتضي بأن أحداً منهم يسبقني في تكريمكِ وحبه لكِ أيتها الأم ملكتي المحبوبة في الغاية. فهكذا أعد وكذلك أرجو أن أتمم وعدي بواسطة معونتكِ آمين* † الجزء الثاني † * في كم ينبغي أن يكون رجاؤنا وطيداً في مريم البتول* * بنوع أفضل، من حيث أنها هي أمنا* أنه ليس من دون أفادةٍ ولا بطريق العرض تدعى مريم البتول من عبيدها بتسمية أمٍ لهم، ويبان كأنهم لا يعرفون أن يستدعوها بتسميةٍ غير هذه، بل ولا يشبعون من تكرارها في أفواههم، وذلك بكل صوابٍ، لأن هذه القديسة الجليلة هي حقاً أمنا لا الطبيعية بل الروحية، أي هي حقيقةً أمٌ لأنفسنا ولسعادتنا الأبدية. فالخطيئة حينما أعدمت أنفسنا نعمة الله قد أعدمتها في الوقت عينه الحياة الروحية. فمن ثم اذ بقيت أنفسنا على هذه الصورة مائتةً بتعاسةٍ عظيمة قد جاء يسوع مخلصنا، وبرأفةٍ وحبٍ عديم الادراك قد أسترد لنا الحياة التي كنا فقدناها. مكتسباً لنا إياهابواسطة موته من أجلنا على خشبة الصليب. حسبما قال هو تعالى نفسه: فأما أنا فأتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل: (يوحنا ص10ع10) على أن يسوع المسيح. كما يبرهن اللاهوتيون، قد جلب علينا خيراتٍ أعظم وأفضل بواسطة سرّ الافتداء الذي صنعه، مما قد جلبت علينا خطيئة آدم من الخسران. وهكذا اذ قد صالحنا تعالى مع الله أبيه. فصار أباً لأنفس الذين هم في شريعة النعمة، بالنوع الذي سبق النبي أشعيا وتنبأ عنه مسمياً إياه أبا العالم الآتي، رئيس السلام: (أشعيا ص9ع6) فان كان يسوع هو أباً لأنفسنا، فمريم هي أمٌّ لها، لأنها اذ أعطتنا يسوع فأعطتنا الحياة الحقيقية. واذ قدمت فيما بعد على جبل الجلجلة ابنها، ابنها الحبيب من أجل خلاصنا. فقد ولدتنا حينئذٍ لحياة النعمة الإلهية*ففي زمنين اذاً حسب أقوال الآباء القديسين قد أضحت مريم البتول أماً روحيةً لنا. فالزمن الأول هو حينما أستحقت هي أن تحبل في أحشائها البتولية بإبن الله كما يقول الطوباوي ألبرتوس الكبير وبأكثر أتساعٍ يتكلم عن ذلك القديس برنردينوس السياني بقوله (في الخطبة السادسة المختصة بالبتول القديسة): أن هذه العذراء المجيدة عندما بشرها ملاك الرب بالحبل الإلهي، وهي أعطت رضاها المنتظر من الكلمة الأزلي بأن يصير أبناً لها، فمنذ تلك الساعة قد التمست هي من الله خلاصنا بحبٍ فائق الادراك، وأخذت تجتهد من ذلك الوقت في أمر فدائنا وأستنقاذنا بهذا المقدار، حتى أنها حوتنا في مستودعها نظير أمٍ كلية الانعطاف والحب: ثم أن القديس لوقا الانجيلي يقول في الاصحاح الثاني من بشارته اذ يخبر عن ميلاد مخلصنا، أن مريم قد ولدت أبنها البكر، فهنا يتفلسف حسناً أحد العلماء بقوله، فاذاً أن كان الانجيلي يعلن لنا أن مريم البتول قد ولدت حينئذٍ ابنها البكر، فيلزم أن يفترض أنها قد ولدت بعد ذلك أولاداً آخرين، والا لما كان سُمي يسوع ابنها البكر والحال أنها لقاعدةً من قواعد الايمان هي أن مريم العذراء لم يكن لها ابن آخر بالجسد سوى يسوع. ولم تلد قط جسدياً أبناً آخر غيره، فاذاً يلزمها أن تكون حصلت على أولادٍ آخرين روحيين. وهؤلاء البنون أنما هم نحن أجمعون، وهذا الأمر نفسه قد أعلنه الرب لعبدته القديسة جالترودة التي اذ كانت يوماً تقرأ النص الانجيلي المتقدم ذكره قد حصلت مبهوتةً، لأنها لم تكن تعلم أن توفق هذين الشيئين معاً، وهما أن مريم العذراء لم تكن أُماً سوى ليسوع المسيح فقط، فكيف اذاً هذا الأبن الوحيد أن يدعى أبنها البكر، فالباري تعالى قد تنازل لأن يفسر لها ذلك بأن يسوع هو ابن هذه البتول البكر بحسب الجسد، والبشر هم أولادها الثانين بحسب الروح* وبهذا النوع يلزم أن تفهم الألفاظ المدونة في العدد الثاني من الاصحاح السابع من سفر النشيد عن مريم العذراء وهي: جوفكِ عرمة حنطة مسيَّجة بالسوسن: فيشرح ذلك القديس أمبروسيوس (في ارشاده عن البتولية) قائلاً: أنه ولئن لم يكن يوجد في جوف مريم البتول الكلي الطهر، الا حبةٌ واحدةٌ فقط من الحنطة وهذه الحبة هي يسوع المسيح، فمع ذلك يقال عن جوفها أنه عرمة حنطة، من حيث أنه في تلك الحبة الوحيدة قد كان يوجد المختارون أجمعون، الذين قد كانت مريم مزمعةً أن تصير هي أُمهم: ومن ثم كتب الأنبا غوليالموس (في العدد13 من الرأس4 على سفر النشيد): أن مريم بميلادها يسوع الذي هو مخلصنا وحياتنا قد ولدتنا كلنا للخلاص وللحياة* وأما الزمن الثاني الذي فيه قد تبننت بنا هذه القديسة وصارت هي فيه أمنا، اذ ولدتنا بالنعمة، فهو حينما قدمت للآب الأزلي عند جبل الجلجلة ابنها الحبيب من أجل خلاصنا بآلامٍ شديدة المراس. ولذلك يبرهن القديس أغوسطينوس (في الرأس6 على البتولية) بأنه اذ كانت هذه الأم الإلهية قد ساعدت حينئذٍ مشتركةً بالعمل بواسطة حبها، لكي يولد المؤمنون لحياة النعمة فقد صارت لأجل ذلك أيضاً أماً روحيةً لنا أجمعين نحن الذين هم أعضاءٌ لرأسنا الذي هو يسوع المسيح، وهذا هو تفسير ما يقال في العدد السادس من الاصحاح الأول من سفر النشيد عن هذه الطوباوية هكذا جعلوني في الكرم حافظةً، وما حفظت كرمي. على أن مريم لأجل خلاص أنفسنا قد أرتضت بأن تقرب حياة إبنها الحبيب ضحيةً بالموت كما يقول عنها غوليالموس: أنها لكي تصنع الخلاص لأنفس كثيرة العدد قد قدمت هي نفسها للموت. فمن تراه كان هو نفس مريم البتول سوى يسوع ابنها الذي كان هو حياتها وموضوع حبها الكلي، ولأجل ذلك قد كان سبق البار سمعان الشيخ وأخبرها بأن سيفاً كان عتيداً أن يجوز في نفسها يوماً ما بأوجاعٍ شديدة (لوقا ص2ع55) كما قد تم بالحقيقة. لا سيما بتلك الحربة التي طعن بها جنب يسوع، الذي هو روح هذه الأم الطوباوية، وحينئذٍ قد ولدتنا للحياة الأبدية بأوجاعها الإلهية، ومن ثم نستطيع كلنا أن ندعى أولاد أوجاع مريم. فأمنا هذه الكلية الحب قد كانت دائماً متحدةً بجملتها مع مشيئة الله. ولذلك يورد القديس بوناونتورا قائلاً: أن هذه القديسة عندما لاحظت محبة الآب الأزلي للبشر، حتى أنه كان يريد أن يموت أبنه لأجل خلاصنا. وأعتبرت محبة الأبن بارادته أن يموت عنا. فهي لكي توافق مفاعيل هذا الحب الشديد، المضطرم سعيره في الآب والابن نحو الجنس البشري، فقدمت هي أيضاً بكلية ارادتها المحرقة، مرتضيةً في أن أبنها يموت لكي نخلص نحن* فأي نعم أن المسيح يسوع في تخليصه الجنس البشري بموته عنهم، أراد أن يكون هو وحده فادياً، كما يقول أشعيا النبي (ص63ع3): أنني دست معصرةً وحدي: غير أنه اذ رأى تعالى أشواق مريم العظيمة، الى أن تكون هي أيضاً مساعدةً ومهتمةً في خلاص البشر، فرتب أنها بواسطة تقدمتها قرباناً حياة ابنها يسوع نفسه، تصير مساعدةً ومشتركةً في عمل خلاصنا. وهكذا تعود هي أماً لأنفسنا، وهذا قد أوضحه فادينا حينما كان على الصليب قبل أن يموت، لأنه نظر الى والدته مريم، والى تلميذه يوحنا واقفين تحت صليبه. فقال أولاً لمريم: يا أمرأة ها أبنكِ: (يوحنا ص19ع26) وكأنه أراد أن يقول لها، ها أنكِ قدمت حياتي لله، ذبيحةً من أجل خلاص ذاك الانسان الذي قد ولد بالنعمة. ثم بعد ذلك التفت يسوع نحو القديس يوحنا قائلاً: يا تلميذ ها أمك: فيقول القديس برنردينوس السياني (في العظة55من كتابة1): أن مريم البتول بواسطة هذه الكلمات، قد صارت أماً ليس للقديس يوحنا الرسول فقط، بل لكل البشر أيضاً. لأجل شدة الحب الذي أحبتهم به: ولذلك يتفلسف حسناً العلامة سيلفاريا. بأن القديس يوحنا الانجيلي عينه في تخبيره عن هذا الحادث قد كتب هكذا: ثم قال يسوع للتلميذ ها أُمك. فمن ثم يلزم أن تعتبر جيداً هذه الكلمات وهي أن يسوع المسيح لم يقل ذلك متوخياً شخص يوحنا. بل قال للتلميذ من دون أن يدعوه بأسمه يوحنا، ليوضح أنه تعالى قد أقام والدته أماً عامةً مشاعةً، لكل أولئك الذين من حيث أنهم مسيحيون فمطلقةٌ لهم تسمية تلاميذ له تعالى.* فأنا هي أم الحب الجميل: تقول مريم العذراء (حكمة ابن سيراخ ص24ع24) على أن حبها، كما يقول أحد العلماء الذي يصير أنفسنا جميلةً لدى عيني الله فقد جعل هذه الأم المتقدة بالمحبة تقبلنا أولاداً لها: لأنها هي كلها محبةٌ نحونا نحن المقبولين منها أولاداً لها. ولأجل ذلك يهتف نحوها القديس بوناونتورا قائلاً: ترى أية أمٍ تحب أولادها وتجتهد دائماً في خيرهم، بمقدار ما تحبيننا أنتِ يا ملكتنا الكلية العذوبة وتجتهدين في خيرنا ونمونا* فطوباويون هو أولئك الذين يعيشون تحت حماية أمٍ هي بهذا المقدار محبةٌ ومقتدرةٌ. فالنبي داود ولئن لم تكن بعد في زمانه ولدت مريم المجيدة، فمع ذلك كان يبتغي من الله الخلاص بحسب كونه أبناً لها بقوله (مزمور86ع16): خلص ابن آمتك: فيقول القديس أوغوسطينوس (في تفسيره المزمور 86): ومن هي آمتك: فأنما هي التي قالت لجبرائيل: ها أنا آمةٌ للرب فليكن لي حسب قولك. ثم يهتف الكردينال بالارمينوس بقوله (في تفسير السبع الكلمات): فمن تراه يستطيع أن يتجاسر على أن يخطف هؤلاء البنين من حضن مريم، بعد أن يكونوا التجأوا إليها هاربين ليخلصوا من أيدي أعدائهم. وأي رجزٍ جهنمي، أو غضب ألميٍ يقدر أن ينتصر عليهم، أن كانوا يضعون رجاءهم تحت حماية هذه الأم العظيمة: فيخبر الطبيعيون عن السمكة البحرية المسماة بالينا، أنها حينما تشاهد أولادها كائنةً في خطرٍ أما من قبل أختباط البحر بالعاصفة، وأما من قبل الصيادين، ففي الحال تفتح فاها وتبتلع أولادها في جوفها، فعلى هذه الصورة يقول نوفاريوس: أن أمنا الحنونة حينما ترانا نحن أولادها في الخطر الأعظم، الذي يحيق بنا من قبل شدة التجارب فماذا تصنع، أنها حينئذٍ تخفينا بجبٍ كأنه داخل أحشائها، وهناك تحامي عنا ولا تهملنا من محافظتها حتى تبلغنا الى مينا الفردوس السماوي الأمين. فلتكوني دائماً مباركةً أيتها الأم الكلية الحب والجزيلة الترأف والأشفاق، وليكن على الدوام مسبحاً الإله الذي أعطانا إياكِ أماً لنا. وملجأً أميناً نهرب إليه من مخاطر هذه الحياة* ثم أن هذه الأم الرحومة نفسها قد أوحت الى القديسة بريجيتا (رأس38 كتاب4) قائلةً لها هكذا: أنه كما أن أحدى الأمهات اذا شاهدت أبنها كائناً فيما بين سيوف الأعداء، فتبذل كل قوتها وأستطاعتها في أستنقاذه منهم. فهكذا أنا أصنع كل وقتٍ مع أولادي ولئن كانوا خطأة. وذلك كل مرةٍ يلتجئون اليَّ لكي أعينهم: فلأجل هذا السبب نحن ننتصر في معركتنا مع القوات الجحيمية، وسنكون على الدوام غالبين ولراية الظفر بتأكيدٍ حاملين، بواسطة التجائنا الى والدة الإله أمنا قائلين لها: تحت ذيل حمايتك نلتجيء يا والدة الإله القديسة: فكم وكم من هذه الأنتصارات العظيمة قد حصلت للمؤمنين ضد القوة الجهنمية بتلاوتهم هذه الصلاة التي أي نعم أنها قائمةٌ من كلماتٍ وجيزةٍ، الا أنها حاويةٌ قوةً كلية الاقتدار. وفيما بين الآخرين قد أنتصرت دائماً على الشياطين بواسطة هذه الصلاة، الأخت ماريا كاترينا كروجيفيسا من رهبنة القديس بناديكتوس* فأفرحوا مبتهجين اذاً يا جميع الذين هم أولاد مريم العذراء وأعلموا أن هذه السيدة تقبل بنيناً لها، كل أولئك الذين يريدون أن يحصلوا على هذا التبني، فتهللوا اذاً. لأنه أي خوفٍ يمكنه أن يعتريكم من ان تهلكوا، في الوقت الذي فيه أنتم حاصلون على حماية هذه الأم المقتدرة المناضلة عنكم. ولذلك كان يخاطب نفسه القديس بوناونتورا قائلاً: لماذا تخافين يا نفسي وما الذي يروعكِ، فلا تقلقي لأن قضية خلاصك الأبدي لا يلتحقها الخسران، اذ أن الحكومة العتيدة أن تبرز في شأنها، هي متعلقةٌ بارادة يسوع الذي هو أخوكِ، وبحماية مريم التي هي أمكِ: فنظير هذا القديس يمكنه أن يشجع ذاته ويخاطب نفسه كل أنسانٍ يحب هذه الأم الصالحة، وتكون له فيها ثقةٌ ورجاءٌ وطيدٌ. وبموجب ذلك عينه كان يهتف القديس أنسلموس فرحاً مشجعاً نفسه وأيانا معاً(في تضرعه نحو البتول) قائلاً: يا له من رجاء مغبوطٍ، ويا له من ملجأ أمينٍ. وهو أن والدة الإله هي والدتي. فأي تأكيدٍ وطمأنيةٍ يلزمنا أن نؤمل أفضل من هذه وهي أن أمر خلاصنا هو متعلقٌ، على ارادة أخينا الصالح وأمنا الشفوقة، ومتوقفٌ على مشيئتهما: فهوذا أمنا تسمعنا صوتها، وتدعونا إليها قائلةً: من كان صغيراً فليأتِ إليَّ:(سفر الامثال ص9ع4) فمن عادة الأطفال والصغار في السن أن يوجد أسم أمهم متكرراً في أفواههم، ومن ثم في كل خطرٍ يداهمهم، وفي كل خوفٍ يعتريهم، فحالاً تسمع أصواتهم صارخين يا أمي يا أمي. فأواه يا مريم الكلية الحلاوة، آه يا أيتها الأم الشديدة الحب نحو أولادها. أن هذا هو بالحصر الأمر الذي ترغبينه، وهو أننا اذ نحصل صغاراً أطفالاً، فندعوكِ دائماً، لأنك تريدين أن تعينينا وتخلصينا، نظير ما خلصتِ جميع البنين الذين – قصدوكِ والتجأوا إليكِ* *نموذج* أنه لمحررٌ في الفصل السابع من الكتاب الخامس من تاريخ تأسيس الرهبنة اليسوعية في مملكة نابولي، ما يأتي ذكره عن شابٍ شريف الحسب والنسب جداً يدعى غوليالموس الفينسطونيوس، أصله من بلاد سكوتسيا، وهو أن هذا الشاب قد كان نسيباً للسلطان يعقوب، واذ أنه ولد وتربى في الأرتقه، فأستمر عائشاً في ضلالها. ولكن ضياء النعمة الإلهية قد أشرق في قلبه، ومن ثم أخذ يكتشف على فساد معتقده، فسافر الى بلاد فرنسا، حيث أنه بواسطة ارشادات أحد الآباء اليسوعيين الفضلاء الذي كان هو أيضاً من بلاد سكوتسيا، وبأكثر من ذلك بواسطة شفاعة والدة الإله من أجله، قد عرف أخيراً صدق الإيمان الكاثوليكي وفساد الأرتقه، فرفضها وأعتنق الأمانة الأرثوذكسية، ثم حضر بعد ذلك الى مدينة رومية، وهناك اذ رآه يوماً ما أحد أصدقائه حزيناً باكياً، وسأله عن سبب ذلك، فأجابه الشاب بأنه في تلك الليلة قد ظهرت له أمه في الحلم، وأخبرته بأنها هلكت في جهنم، وقالت له نعماً صنعت يا أبني بتمسكك بالإيمان الكاثوليكي، لأني أنا أنما هلكت لأني مت أراتيكيه. فالشاب بعد هذه الرؤيا قد أستحر بأفضل نوعٍ في عبادته لوالدة الإله، مختاراً إياها أماً وحيدةً له. وهي قد ألهمته لأن يتمسك بالدعوة الرهبانية، كما أعتمد هو على ذلك، وصنع به على ذاته نذراً، ولكن من حيث أنه كان وقتئذٍ عليل المزاج، فسافر من روميه الى مدينة نابولي بحجة تغيير الهواء الا أن الرب قد اراد أن هذا الشاب يموت في نابولي راهباً، على أنه رأى ذاته هناك مدنفاً على التلف، شرع يتوسل بدموعٍ لرئيس الرهبان، وللجمعية في أن يقبلوه أخاً لهم، فمن ثم قد أبرز النذور الرهبانية أمام القربان الأقدس، الذي تناوله زوادةً أخيرةً. وهكذا أحصي في عدد الرهبان اليسوعيين، وبعد هذا قد حرك الحاضرين أجمعين الى الخشوع وذرف الدموع، عند مشاهدتهم إياه متهللاً يقدم الشكر بقلبٍ مملوءٍ من الحب لأمه العذراء المجيدة، على ما فاز به من الله من النعم بشفاعاتها، في رفضه الأرتقة وتمسكه بالإيمان المستقيم وحصوله أخيراً فيما بين الرهبان على أن يموت ناذراً في بيت الرب، ولهذا كان يهتف مبتهجاً بقوله، يا لها من سعادةٍ، ويا لها من ميتةٍ مجيدةٍ، أن يسلم الانسان نفسه بيد الله فيما بين رفقةٍ ملائكية. واذ قال له البعض محرضاً على أن يفتكر بأن يأخذ قليلاً من الراحة هادياً. فأجابه قائلاً: أنه ليس هو زمن الراحة، لأني الآن قد دنوت من نهاية حياتي: ثم بعد ذلك قبل أن يرقد بالرب قال للحاضرين: يا أخوتي أما تنظرون ههنا هؤلاء الملائكة المحيطين بي ليسوا أعدائي: وعندما سمعه أحد الرهبان يتكلم بصوتٍ منخفضٍ، سأله بماذا كان يتفوه، ومن كان يخاطب، فأجابه الشاب بأن ملاكه الحارس قد أخبره بأن زمن أقامته في المطهر كان وجيزاً، وأنه من دون أبطاءٍ كان مزمعاً أن يفوز بالسعادة الأبدية، قال هذا ورجع مخاطباً والدة الإله مكرراً نحوها الشكر وقائلاً: يا أمي يا أمي: وهكذا أسلم الروح كطفلٍ مبتهجٍ على ذراعي والدته وفي حضنها، وبعد هذا بزمنٍ وجيزٍ قد أوحى الى أحد الرهبان الأبرار، بأن نفس غوليالموس المذكور قد حصلت على السعادة السماوية*† صلاة † يا أمي الكلية القداسة، كيف هو ممكن أن اعيش أنا في المآثم. بعد أني حاصلٌ على أمٍ بهذا المقدار سامية في القداسة. وكيف أن أمي هي ملتهبةٌ بنيران الحب الشديد نحو الله، وأنا أحب المخلوقات، هي غنيةٌ بهذا المقدار من الفضائل الجليلة. وانا فقيرٌ منها بالكلية، فأي نعم يا أمي أنني لم أعد مستحقاً أن أكون أبناً لكِ، لأني ظهرت بالحقيقة عديم المعروف، وناكر الجميل بزيادة من قبل سيرتي الرديئة، ولكنني أكتفي بأن تقبليني عبداً لك، ولكي أحصل على ذلك أي قبولك إياي فيما بين عبيدك الأكثر دناءةً، فأنا مستعدٌ لأن أرفض أملاك العالم بأسره، أي نعم أني راضٍ بهذا، ولكن أتوسل إليكِ بأن لا تمنعي عني الاستطاعة على أن أسميكِ أمي، لأن هذه التسمية تملأني من البهجة والتعزية، وتجتذبني الى الخشوع والندامة، وتذكرني بالألتزام المتوجب عليَّ في أن أحبكِ. وتصيرني أن أوطد رجائي فيكِ بأفضل نوعٍ، لأنه حينما يشتملني الخوف من قبل كثرة خطاياي. ويكتنفني الجزع من صرامة الدينونة الإلهية الرهيبة، فعندما أفتكر بأنكِ أنتِ أمي، فأشعر حالاً في ذاتي بالشجاعة، طارحاً عني اليأس بعيداً، فأسمحي لي اذاً بأن أدعوكِ أمي الجليلة، أمي المحبوبة مني في الغاية، فهكذا أنا أسميكِ وكذلك أريد أن أدعوكِ دائماً، فأنتِ بعد الله يلزم أن تكوني على الدوام رجائي وملجأي وموضوع حبي في وادي الدموع هذا، ومن هنا أؤمل أن أموت مسلماً نفسي في دقيقة حياتي الأخيرة بين يديك المقدستين، قائلاً يا أمي مريم، يا أمي عينيني وأسعفيني وأرحميني آمين*† الجزء الثالث † * في كم هو عظيمٌ الحب الذي به تحبنا هذه الأم الإلهية* فأن كانت اذاً مريم البتول هي أمنا. فيمكننا أن نتأمل كم هو صدق الحب الذي فيها نحونا. فالمحبة التي بها البنون يحبون والدتهم هي محبةٌ ضروريةٌ لازمةٌ. وهذا هو السبب الذي من أجله رسمت الشريعة الإلهية على الأولاد. الوصية بمحبة والديهم (كما يورد القديس توما اللاهوتي في الرأس4 من كتيبه الستين) غير أنه بالخلاف لا توجد وصيةٌ ما خصوصيةٌ مرسومةٌ على الوالدين بأن يحبوا بنيهم. من حيث أن المحبة الكائنة في الوالدين نحو المولودين منهم. هي محبةٌ مغروسةٌ فيهم طبيعياً. وثابتةٌ وطيدةٌ في قلوبهم غريزياً بقوةٍ شديدة. حتى أن الوحوش الأشد شراسةً: حسبما يعلم القديس أمبروسيوس في الفصل4 من كتابه6: لا تستطيع أن تهمل حبها لأجروتها المولودة منها. ولذلك يورد المؤرخون عن النمرة الكلية الشراسة طبعاً، أنها اذا سمعت صوت أجروتها المخطوفة بأيدي الصيادين ضمن المركب في البحر، فتطرح ذاتها في المياه سابحةً، وتسرع لتدرك المركب الذي منه تسمع هي صوت أولادها، فاذاً تقول مريم أمنا الكلية الحب نحونا، أنه أن كان حتى ولا النمرات أنفسهن لا يستطعن أن ينسين أجروتهن. فكيف أنا يمكنني أن أنسى أن أحبكم أنتم أولادي ومن ثم يقول أشعيا النبي عن لسان الله: هل تنسى الامرأة أبنها، أو هل ما ترحم أولاد جوفها، فأن نست الامرأة أولادها الا أني لست أنساك يقول الرب الضابط الكل: فهنا مريم تردف كلامها نحونا قائلةً: أنه اذا أتفق أن يحدث هذا الأمر الذي يبان أنه غير ممكنٍ، وهو أن والدةً تنسى بنيها، أو لا ترحم أولاد جوفها، فمع ذلك لا يمكن لي أن أهمل من محبتي نفساً ما تكون متبننةً لي*فمريم هي أمنا لا الطبيعية (كما قلنا قبلاً) بل هي أمنا بالحب. حسبما يقال في سفر حكمة ابن سيراخ: أنا هي أم المحبة الجميلة: (ص24ع24) فاذاً المحبة وحدها التي هي تحبنا بها. فهذه جعلتها أن تصير أمنا. ولذلك يقول أحد العلماء: أن مريم تفتخر بحال كونها أم المحبة. لأنها اذ أتخذتنا بنيناً لها فأضحت بكليتها حباً متقداً نحونا. لأنه ترى من يستطيع أن يصف عظم المحبة، التي هي في قلب مريم نحونا نحن الأشقياء البائسين. فيقول أرنولدوس كانوطانسه (في شرحه عن لفظة سيد): أنها أي مريم البتول، قد كانت حين موت أبنها يسوع المسيح تشتهي بحرارةٍ فائقة الوصف أن تموت هي أيضاً مع أبنها حباً بنا: ويضيف الى ذلك القديس أمبروسيوس (في الرأس7من ارشاده فيما يخص البتولية) بقوله: أنه كما أن الابن كان معلقاً على الصليب منازعاً. فهكذا أمه مريم كانت تقدم ذاتها للجلادين لتبيح حياتها من أجلنا* فهنا يلزمنا أن نبحث عن علل هذا الحب وبراهينه، لأننا بذلك نفهم بأفضل نوعٍ مقدار ما تحبنا به هذه الأم الصالحة. فالسبب الأول الذي من أجله تحب مريم البشر محبة هكذا مضطرمةً، فأنما هو الحب العظيم الذي به تحب هي الله، لأن وصية المحبة لله ووصية المحبة للقريب، فأنما هما وصيةٌ واحدةٌ هي هي نفسها. حسبما يعلمنا القديس يوحنا الرسول بقوله: فهذه الوصية لنا منه، أن من يحب الله، يحب أخاه أيضاً:(يوحنا أولى ص4ع21) بنوع أنه بمقدار ما يزداد الحب لله، فبمقدار ذلك ينمو الحب للقريب متزايداً. ولهذا نحن نعلم أن القديسين لأجل أنهم كانوا يحبون الله حباً وافراً، فمارسوا نحو القريب الأعمال التي نحن ننذهل منها عند تأملنا إياها، لأنهم قد توصلوا ليس فقط الى أن يفقدوا حريتهم واضعين ذواتهم تحت الأسر، بل لأن يبيحوا حياتهم أيضاً من اجل خلاص القريب. فليقرأ ما صنعه القديس فرنسيس سافاريوس في بلاد الهند، حيث أنه لرغبته في أن يسعف أنفس أولئك الشعوب البرابرة، كان يجتاز صاعداً الى الجبال الغير المسلوكة، مطوحاً ذاته في أخطارٍ ختلفة الأنواع، ليمكنه أن يجد أولئك المساكين، الذين كانوا يقطنون في المغاير والكهوف نظير الوحوش الفاقدة الأستيناس، ويكتسبهم الى معرفة الله والى الإيمان به تعالى. والقديس فرنسيس سالس لكي يجتذب الأراتقة سكان أقليم كامبلاي الى الإيمان الكاثوليكي، قد أستمر مدة سنةٍ يلقي ذاته يومياً في خطر الموت، بأجتيازه ماشياً على يديه ورجليه من فوق سارية خشبٍ، كانت ممتدةً على النهر، مجلدةً مع المياه من شدة البرد، لكي يكرز على الشعوب القاطنين في عبر النهر. المصرين على ضلالهم، والقديس باولينوس قد باع ذاته أسيراً لكي يستفك من السبي أحد الشبان ويرده لأمه الأرملة، والقديس فيداله قد أرتضى بأن يموت من أجل أكتسابه الى الرب أولئك لأراتقة الذين كان ينذرهم بالإيمان المستقيم. فاذاً من حيث أن القديسين كانوا يحبون الله حباً شديداً، فقد أتصلوا الى أن يصنعوا أشياء مثل هذه حباً بالقريب، ولكن ترى من هو الذي أحب الله نظير ما أحبته مريم العذراء، فهذه الطوباوية قد أحبته تعالى منذ البرهة الأولى من حياتها، محبةً أعظم مما أحبه به القديسون أجمع، والملائكة قاطبةً في أزمنة حياتهم كلها، كما نحن عتيدون أن نتكلم عن ذلك بأكثر أتساعٍ في تكلمنا عن فضائل هذه الأم الإلهية. التي هي نفسها قد أوحت الى الأخت البارة ماريا كروجيفيسا (حسبما يوجد مدوناً في الرأس5 من كتاب2 من سيرة حياتها) بأن الحب الذي كان يتقد لهيبه في قلبها نحو الله، كانت ناره بهذا المقدار ملتهبةً، حتى أنه لو وضعت الأرض والسماوات في ذاك الأتون، لفنيت مستحيلةً الى رمادٍ، ومن ثم بالنسبة والمقابلة لحرارة هذا الحب لم تكن حرارة قلوب السيرافيم سوى كنسيم صبحٍ باردٍ، فاذاً من حيث أنه لم يكن يوجد فيما بين الأرواح الطوباويين بأسرهم، من يماثل حبها لله، فهكذا نحن لا نستطيع أن نجد بعد الله من يحبنا نظير هذه الأم الكلية الحب، حتى أنه اذا أجتمع معاً حب جميع الأمهات الذي به يحببن أولادهن، جملةً مع حب كل العرسان لعروساتهم. والقديسين والملائكة للمتعبدين لهم فلا يبلغ مقدار هذا المجموع العظيم، لأن يوازي حب مريم البتول لنفسٍ واحدةٍ فقط من أنفسنا، بل أن الأب نيارامبارك يقول، أن المحبة الكائنة في قلوب جميع الأمهات نحو بنبنهن، اذا أجتمعت معاً، فلا تصور ولا ظل المحبة التي في قلب هذه البتول نحو أحدٍ فقط منا، حتى أنها هي وحدها تحبنا أشد حباً، مما يحب بعضهم بعضاً الملائكة كافةً والقديسون أجمعون* وما عدا ذلك أن أمنا هذه الصالحة أنما تحبنا هكذا حباً شديداً، لأجل أننا قد سلمنا لملاحظتها من أبنها الإلهي يسوع المسيح المحبوب منها فوق كل شيءٍ، حينما قال لها وهو على الصليب قبل موته: يا امرأة ها ابنك: معلناً لها في شخص تلميذه، يوحنا أشخاصنا نحن البشر جميعاً، كما تكلمنا عن ذلك آنفاً. وهذه الكلمات قد كانت هي الأخيرة المقالة منه لوالدته الطوباوية. والحال أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن التوصيات التي يتركها الأشخاص المحبوبون في ساعة موتهم، فتعتبر وتكرم من محبيهم ولا تهمل منسيةً. ثم يضاف الى هذا كله أننا نحن بنون أعزاء جداً على قلب أمنا هذه الحنونة. وبالتالي— وهو من قبل ثمن الأوجاع الشديدة التي— تبنتنا بها...ومما لا شك فيه أن الأمهات اللواتي يكن تكبدن أوجاعاً زائدةً، ومخاطر خصوصيةً، من أجل حفظ حياة البعض من أولادهن، فيكون حبهن نحو هؤلاء أشد مما هو نحو باقي بنيهن الآخرين، فنحن هم هؤلاء الأولاد الذين، لكي تكتسب لنا حياة النعمة، أمنا هذه الإلهية قد التزمت بأن تحتمل تلك الأوجاع الشديدة، التي بها قدمت عنا حياة ابنها الطبيعي يسوع مصلوباً على الخشبة، مرتضيةً بأن تتكبد تلك المشاهدة الموعبة مرارةً، وهي موت وحيدها أمام عينيها، فيما بين العذابات من أجل خلاصنا. ومن قبيل ذلك القربان المقدم منها على هذه الصورة نحن ولدنا حينئذٍ لحياة النعمة. وبالتالي أنها ــ شاركتنا بأوجاع هذا عظم مقدارها. ولذلك نحن لديها أولادٌ كليوا القيمة. فمن ثم بموجب ما هو مكتوبٌ عن الحب الذي به أحب الآب الأزلي البشر، بأعطائه أبنه الوحيد فديةً عنهم، كما هو مدون في الأنجيل المقدس: أنه هكذا أحب الله العالم حتى أنه بذل أبنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به: (يوحنا ص3ع16) فكذلك. يقول القديس بوناونتورا، يمكن أن يمثل القول بأنه هكذا أحبت مريم العالم، حتى أنها بذلت أبنها الوحيد من أجلهم. ولكن متى بذلت مريم ابنها الوحيد من أجل البشر، فيجيب الأب نيارا مبارك بأنها قد بذلته عنهم: - أولاً: حينما سمحت له بأن يمضي الى الموت. - ثانياً: قد بذلته عندما كان يمكنها أن تحامي هي بمفردها أمام القضاة عن حياة ابنها. في الوقت الذي فيه أهمله الجميع. أما بروح البغضة وأما بحركة الخوف، وهي لم تفعل ذلك. مع أن كلمات أمٍ مملؤةٍ من الحكمة مثلها، وبراهينها السديدة، قد كانت تحصل على أعتبارٍ عظيمٍ قلما يكون في منبر بيلاطوس الذي هو نفسه كان مقتنعاً ببراءة يسوع. وبالتالي لكانت هي تقدر أن تؤخر عن أن يبرز حكومة الموت ضد ابنها، فمع ذلك لم ترد هي أن تفه ولا بكلمةٍ واحدةٍ بالمحاماة عنه، لكيلا تمنع موته الذي به كان متعلقاً أمر خلاصنا الأبدي. - ثالثاً: وأخيراً قد بذلته عنا ألوف مراتٍ على جبل الجلجلة، بوقوفها تحت صليبه مدة ثلاث ساعات نزاعه، حاضرةً موته. ففي كل رفة عينٍ من تلك الثلاث الساعات، كانت تقرب حياته ذبيحةً من أجلنا بأوجاعٍ فائقة الوصف وبحبٍ شديد نحونا، وقد كان عزمها بهذا المقدار ثابتاً على بذل حياة ابنها عنا، حتى أنه حسبما يقول القديسان أنسلموس وانطونينوس: أنه لو أتفق حينئذٍ الا يعود يوجد من الجلادين أحدٌ، ليكمل ضد ابنها حكومة الموت، لكانت هي نفسها أماتته مصلوباً لتتمم بذلك ارادة الآب الأزلي، الذي كان يشاء موته لأجل خلاصنا، على أنه أن كان أب الآباء أبراهيم عينه قد اتصف بشجاعة مثل هذه، منطلقاً بأبنه الحبيب أسحق الى الجبل لكي يذبحه بيديه ذاتيهما قرباناً لله، فيلزمنا أن نصدق من دون ريبٍ، بأن مريم البتول الأعظم قداسةً من ابراهيم، والأوفر طاعةً منه لأوامر الله، لكانت بالحقيقة تممت بيديها هذه الذبيحة بأكثر شجاعةٍ وبأشد عزمٍ، لو لم يوجد من الجلادين من يميته، فلنعد الآن اذا الى موضوعنا، وهو أنه كم يلزمنا أن نعيش حافظين معرفة الجميل نحو أمنا هذه الحنونة، مقابلةً للحب الذي بهذا المقدار من السمو تحبنا هي به، أي لتأملنا بتقدمتها ابتها قرباناً بأوجاعٍ هكذا مرة، لكي تكتسب لجميعنا الخلاص، فالباري تعالى قد كافأ حسناً عزم أبينا ابراهيم على أستعداده لأن يذبح له أبنه. وأما نحن فماذا يمكننا أن نكافئ به هذه السيدة الجليلة، عن حياة ابنها يسوع التي قربتها ضحيةً عنا، مع أن هذا الابن الإلهي هو أشرف وأعز وأفضل بما لا يحد من اسحق بن ابراهيم أبينا. فيقول القديس بوناونتورا: أن حب مريم إيانا بهذا النوع قد ألزمنا التزاماً كلياً بأن نحبها. اذ نتأمل بأنها أحبتنا أشد حباً من كل أحدٍ، لأنها بذلت عنا ابنها الطبيعي الوحيد الذي كانت تحبه أعظم من حبها نفسها* فمما تقدم ايراده يتلد السبب الثاني الذي من أجله تحبنا والدة الإله محبةً هكذا شديدةً، وهو لأنها تشاهد واضحاً أن أنفسنا هي ثمن دم ابنها الوحيد يسوع المسيح وموته على أنه اذا أتفق أن أماً ما تشاهد أمامها عبداً ما قد أشتراه ابنها الحبيب بهذا الثمن. وهو أنه أستمر مدة عشرين سنةً مسجوناً، يتكبد أنواع الشدائد والآلام التي أكتسبه بها. فترى كم لكانت هذه الأم لأجل ذلك بمفرده تعتبر ذاك العبد وتكرمه. فمريم تعلم جيداً أن ابنها الإلهي لم يأتِ الى العالم، الا لكي يخلصنا نحن المساكين. كما يعلن هذا الأمر هو تعالى نفسه بقوله: أن ابن البشر أنما جاء ليخلص الهالك: (لوقا ص19ع15) ولأجل تخليصنا قد ارتضى بأن يبيح حياته عينها، مخضعاً ذاته حتى الموت أي موت الصليب. (فيليبوسيوس ص2ع8) فاذاً لو كانت مريم تحبنا قليلاً، لكانت توضح انها تعتبر كلا شيء ثمن دم ابنها الذي هو قيمة خلاصنا، فقد أوحى الى القديسة أليصابات الراهبة، بأن مريم البتول منذ كانت عائشةً في هيكل الرب بأورشليم، لم تكن تصنع شيئاً آخر سوى أن تتضرع من أجلنا، بتوسلاتها لله في أن يرسل عاجلاً ابنه ليخلص العالم. فمن ثم كم يلزمنا أن نعتبر أنها الآن تحبنا بأفضل نوعٍ. بعد أن شاهدت أن أبنها قد كرمنا بهذا المقدار، حتى أنه لم يأنف من أن يشترينا بثمنٍ هذا سمو قيمته* ومن ثم حيث أن البشر جميعاً قد افتدوا من يسوع، فلهذا مريم تحبهم كافةً من دون استثناءٍ، وتسعى في خيرهم أجمعين. فالقديس يوحنا الانجيلي رآها في جليانه ملتحفةً بالشمس، كما هو مدون في بدء الاصحاح الثاني عشر من الابوكاليبسي هكذا "وظهرت أيةٌ عظيمةٌ في السماء امرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس". فيقال أنها ملتحفة بالشمس، لسبب أنه لا يوجد في الأرض كلها أحدٌ لا تتصل إليه حرارة الشمس، كما يقول المرتل: وليس من يختفي من سخونتها: (مزمور 19ع6) فعلى هذه الصورة لا يوجد أنسانٌ حي على وجه الأرض معدوماً من حب مريم اياه، فالعلامة أيديوطا يخصص كلمات: وليس من يختفي من سخونتها: بالحب الشديد الحرارة الذي في قلب مريم نحو الجميع، ويقول القديس أنطونينوس: ترى من يستطيع أن يعقل بالكفاية مقدار سمو عناية هذه الأم نحونا كافةً. ولذلك هي توزع رحمتها على الجميع، فاتحةً حضن رأفتها لكل واحدٍ: ويثبت ذلك القديس برنردوس بقوله: لأجل أن أمنا هذه قد رغبت قلبياً خلاص الجميع، فساعدت مشتركةً بعمل خلاصهم كافةً: ومن ثم لمفيدةٌ هي في الغاية الطريقة المستعملة من البعض من عبيد هذه الأم الإلهية، وهي أنهم كما يخبر كورنيليوس الحجري، من عادتهم أن يتوسلوا الى الرب في أن يمنحهم تلك النعم، التي تطلبها من أجلهم الطوباوية مريم البتول، اذ يبتهل كلٌ هكذا قائلاً: يا رب أعطني الشيء الذي تلتمسه منك لأجلي مريم العذراء الكلية القداسة: فيقول كورنيليوس المذكور أنهم بالصواب يصنعون هذه الطلبة. من حيث أن أمنا هذه الحبيبة ترغب لنا خيراتٍ أعظم من تلك التي نحن نفتكر فيها، ثم أن برنردينوس البوسطي الحسن العبادة يقول (في عظته الخامسة): أن مريم تحب أن تصنع معنا الخير، وأن توزع علينا النعم، حباً أعظم مما نحن نبتغي أن نفوز بالخير والنعم المشتهاة منا. ولهذا فالطوباوي البرتوس الكبير يخصص بوالدة الإله تلك الكلمات المدونة في سفر الحكمة (ص6ع14) وهي: أنها تبادر الى من يشتهي إليها أن تظهر لهم اولاً: أي أن مريم تسبق هي متقدمةً لقبول الذين يلتجئون إليها. لكي تظهر لهم قبل أن يفتشوا عليها، فبهذا المقدار هو شديد الحب الذي تحبنا به هذه الأم الصالحة. يقول ريكاردوس، حتى أنها حالما تلاحظ أحتياجاتنا فهي نفسها تأتي لمعونتنا* فأن كانت اذاً مريم جوّادةً سخيةً نحو الجميع، حتى نحو أولئك الناكري الجميل أيضاً والمتوانين والذين يحبونها قليلاً ويقصدونها نادراً، فكم بأكثر من ذلك تتلألأ جودتها وصلاحها ومفاعيل حبها نحو أولئك الذين يحبونها جداً، ويستغيثون بها بتواترٍ مستدعينها مراتٍ كثيرةً لمعونتهم، فبالحقيقة: أن الذين يحبونها يبصرونها بسهولةٍ، والذين يبتغونها يصادفونها: (سفر الحكمة ص6ع13): فكم هو شيءٌ ساهلٌ (يردف كلامه الطوباوي البرتوس بكلامه) أن تصادف مريم من الذين يحبونها. حيث يجدونها مملؤةً من الرأفة والحنو والحب نحوهم: (أمثال ص8ع8) فهي تعلن واضحاً أنها لا تستطيع أن لا تحب من يحبها. ثم أنه ولئن كانت هذه السيدة الكلية الانعطاف تحب البشر أجمعين. بحسب كونهم أولادها، فمع ذلك يقول القديس برنردوس هي تعرف أن تعتبر جيداً، وأن تحب بنوعٍ خاصٍ متميز، أولئك الذين يحبونها بأكثر أنعطافٍ وبأشد تعلقٍ، فمحبوا مريم هؤلاء السعيدون ليس فقط هم محبوبين منها، بل أيضاً هي تخدمهم كما يقول أيديوطا* ففي تاريخ رهبنة القديس عبد الأحد، يورد عن أحد هؤلاء الآباء المدعو لاوناردوس، الذي كان من عادته مئتين مرةٍ في النهار يستغيث بمريم أم الرحمة، فهذا اذ كان مدنفاً على الموت، قد شاهد ملكةً فائقاً وصف جمالها الفريد، قد جاءت اليه وجلست بجانبه. ثم قالت له: أتريد يا لاوناردوس أن تموت وتحضر عند أبني وعندي. فأجابها الراهب المذكور قائلاً: وأنتِ من هي: فقالت له: أني أنا هي البتول أم المراحم. فأنت قد استدعيتني مراتٍ هكذا عديدةً. وهوذا أني الآن قد أتيت لآخذك، فلنذهب اذاً الى الفردوس السماوي. ومن حيث أن لاوناردوس قد رقد بالرب في ذلك النهار عينه، فنؤمل أن يكون لحق هذه السيدة الى السعادة المغبوطة* فالطوبى لمن يحبك أيتها البتول الكلية العذوبة. أن الأخ يوحنا باركمانس المكرم الراهب اليسوعي، كان من عادته أن يقول هكذا: أن كنت أنا أحب مريم، فأنا متأكدٌ أني أفوز بنعمة الثبات الأخيرة، وسأنال من الله كل ما أريده: ومن ثم لم يكن يغفل هذا الشاب الحسن العبادة، أو يشبع من أن يكرر مراتٍ عديدةً في ذاته هذه الكلمات وهي: أني أريد أن أحب مريم، أني أشاء محبة مريم: ولكن أن حب هذه الأم الصالحة لبنيها، يتفاوت بما لا يحد حب أولادها اياها جميعاً، ولو مهما أحبوها بكل أستطاعتهم، فيقول القديس أغناتيوس الشهيد المتوشح بالله: أن مريم هي أشد حباً مع محبينها: فليحبوها اذاً نظير القديس سطانيسلاوس كوستكا، الذي كان يحبها بأنعطافٍ قلبيٍ هذا حده. حتى أنه حينما كان يتكلم عنها ويخاطب الآخرين في شأنها، فقد كان يحرك في قلوب سامعيه أشواقاً متقدةً لحبها، وقد أخترع لذاته كلماتٍ خصوصيةً وألقاباً جديدةً ينعت بها أمه هذه العزيزة لديه ويكرمها، فلم يكن يبتدئ عملاً ما قبل أن يلتفت أولاً نحو أحدى أيقوناتها مستمداً منها البركة، وعند تلاوته الفرض المختص بها. أم المسبحة الوردية، أو صلواتٍ أخرى راجعة لعبادتها. فكان يتمم ذلك بعواطف باطنيةٍ وبدالةٍ بنويةٍ. كما لو يكون يخاطب شخصها نفسه وجهاً بازاء وجهٍ. وحين أستماعه ترتيل الصلاة المبدوة: السلام عليك يا ملكة الرحمة: فكان يتقد كله بحرارة نار الحب ليس باطناً فقط. بل خارجاً أيضاً، بعلاماتٍ تظهر في وجهه، فيوماً ما سأله أحد آباء جمعيتهم اليسوعية، اذ كان ذاهباً برفقته لزيارة أيقونةٍ مختصةٍ بهذه السيدة الطوباوية قائلاً: كم هو مقدار الحب الذي به أنت تحب مريم البتول، فأجابه سطانيسلاوس: أنه ماذا يمكنني أن أقول لك أيها الأب أكثر من هذا، وهو أنها هي أمي: ولكن يخبر الأب المشار اليه، بأن الشاب القديس قد تلفظ بالكلمات المذكورة بصوتٍ خشوعيٍ، وبحركات عواطف الاحتشام والحب بهذا المقدار، حتى أنه كان يظهر ليس كأنسانٍ بل كملاكٍ يخاطبه عن محبة مريم* فليحبوها نظير الطوباوي أرمانوس الذي كان يسميها عروسته بالحب، لأجل أنه قد كان كرم هو من هذه السيدة نفسها بلقب عريسٍ. فليحبوها نظير القديس فيلبس نيري، الذي كان يمتلئ تعزيةً وفرحاً بمجرد تأمله اياها، ولذلك كان يدعوها لذته وتنعمه. ثم فليحبوها بمقدار ما كان يحبها القديس بوناونتورا، الذي ليس فقط كان يسميها سيدته وأمه، بل ليظهر عظم انعطافه نحوها وحبه الشديد اياها، فكان يدعوها أيضاً قلبه ونفسه وروحه. فليحبوها نظير القديس برنردوس محبها العظيم، الذي بهذا المقدار كان انشغافه متزايداً في محبته أمه هذه العزيزة، حتى أنه كان يسميها: سالبة القلوب: فختطفة الألباب. ولكي يوضح حقائق الحب الذي كان لها في جوارحه متقداً، فكان يقول لها هكذا: أما أنكِ خطفتِ قلبي. وليسموها حبيبتهم ومعشوقتهم: كما كان يسميها القديس برنردينوس السياني، الذي كان يومياً يمضي ليزور أيقونتها. لكي يوضح لها حبه اياها بمخاطباتٍ خشوعيةٍ كان يتفوه بها مع ملكته هذه العظيمة، ولذلك حينما كان يسأله أحدٌ الى أين ماضٍ. فكان يجيبه: أني ذاهبٌ عند معشوقتي لكي أراها. فليحبوها نظير القديس لويس غونزاغا، الذي بهذا المقدار كان يلتهب بالحب نحوها، حتى أنه كان يسمع ذكر أسمها الحلو فكان شهبُ نار المحبة المتقد في قلبه يظهر في وجنتيه ووجهه أحمراراً طافحاً كلون الورد، بنوعٍ كان يلاحظ عياناً من الجميع. فليحبوها شبه القديس فرنسيس صولانس، الذي على نوعٍ ما قد جن (ولكن جنوناً مقدساً) في حبه اياها، حتى أنه أحياناً كان يستعمل بعض آلات الطرب في ترتيله أمام بعض أيقوناتها تراتيل ومدائح عشيقةً مقدسةً. وكان يقول أنه نظير ما تصنع العشاق العالميون حباً بمعشوقاتهم، فهو كان يصنع أفراحه مع حبيبته وملكته مريم الطوباوية* فليحبوها كما أحبها عددٌ هكذا عظيمٌ من القديسين والأبرار والعباد. الذين لم يكونوا يعودوا يعلمون بأية طرائق يمكنهم أن يظهروا حقائق حبهم اياها الشديد، فالأب لأيرونيموس الطراكسوى الراهب اليسوعي. كان يمتلئ سروراً عند تسميته ذاته أسير مريم، ودلالةً على كونه أسيرها، كان يمضي مراتٍ كثيرةً ليزورها في كنيسةٍ مشيدةٍ على أسمها، وهناك ما عساه كان يصنع. أنه عند وصوله الى تلك الكنيسة كان يبل البلاط بدموعه المنسكبة من عينيه، بحبٍ خشوعيٍ مشتعلة ناره في قلبه نحو هذه السيدة. وبعد ذلك كان يكنس البلاط بلسانه ووجهه، مقبلاً اياه ألف مرةٍ تقريباً، لتفكره في أن ذلك البيت هو مسكن سيدته وملكته المحبوبة منه. والأب دياكوس مارتيناس اليسوعي الذي لشدة حرارة حبه وعبادته لهذه المثلثة القداسة. قد كرم من الملائكة بأنهم أخذوه مخطوفاً الى السماء في أيام أعيادها المقدسة، ليشاهد هناك كم من الاحتفال العظيم يصنع في الأيام المختصة بتكريمها. فهذا الأب البار كان من عادته أن يقول هكذا: اواه ليتني أمتلك قلوب جميع الملائكة والقديسين، لكي أحب مريم نظير ما هم يحبونها، وأني أتمنى أن أنال سني حياة البشر كلهم. لكي أصرفها جميعها في أعمال الحب لهذه السيدة: فليحبوها نظير ما كان يحبها كارلوس أبن القديسة بريجيتا، الذي كان يقول، انه لم يعد يعلم أي شيءٍ يمكنه أن يعزيه في هذا العالم ويبهجه، بمقدار ما كان يحصل على ذلك، عند تأمله في أن مريم هي بهذا المقدار محبوبة من الله، وكان يضيف الى ذلك بقوله: أنه لقد كان هو أحتمل بأختيارٍ ورضى، أشد ما يمكن أحتماله من أمر العذابات، لكيلا تخسر مريم درجةً ما من درجات المجد العظيم الحاصلة هي عليه في السماء، ولو كان أمراً ممكناً هو أن تلم بها هذه الخسارة. وأنه على فرضيةٍ محاليةٍ وهي أن العظمة المالكة عليها مريم في المجد السماوي، تكون موهوبةً له ومختصةً به، لكان تنازل عنها وأعطاها لهذه السيدة، ليصير مجدها وعظمتها ذات استحقاقٍ أفضل* ثم فليشتهوا أن يقدموا حياتهم عينها ضحيةً برهاناً على حقيقة حبهم لمريم، كما كان يشتهي ذلك ألفونسوس رودريكوس. وأخيراً فليبلغوا الى أنهم ينقشون على صدورهم مكتوباً بنخس الأبر، أسمها المحبوب في الغاية، كما صنع فرنسيس بينانسيوس الراهب، وكذلك راداغونده عروسة السلطان كلوطاريوس، أو أنهم يتصلون الى أن يدمغوا لحمانهم بحديدٍ محمى: محفور فيه أسم هذه الطوباوية العذب. لكي يستمر مرتسماً بأبلغ نوع في أجسادهم، كما فعل باتيستا أركينتوس، وأوغسطينوس أسبينوزا الراهبان اليسوعيان علامةً لشدة حبهما هذه الأم الإلهية* فمهما كان حبهم شديداً نحو مريم، ولو أنهم أجتهدوا بكل قوتهم. وأهتموا في أن يخترعوا أنواعاً غريبةً، مما تصنعه العشاق والمغرمون في المحبة. ليظهروا لاولئك الحبوبين منهم حقائق غرامهم وتعلق قلوبهم بالحب لهم، فمع ذلك هؤلاء أي محبوا مريم، لا يستطيعون أن يبلغوا الى أن يحبوها بمقدار ما هي تحبهم. ولهذا يقول القديس بطرس داميانوس (في العظة الأولى على ميلادها): أنا عالمٌ يا سيدتي أنه فيما بين أولئك الذين يحبونك، فأنتِ هي المتصفة بالحب نحوهم أكثر من جميعهم، لأنكِ تحبيننا محبةً لا يمكن أن ينتصر عليها حبٌ ما مهما كان شديداً: فمرةً ما اذ كان واقفاً أمام أحدى أيقونات والدة الإله، المكرم ألفونسوس رودريكوس اليسوعي. وهناك شعر بزيادة التهاب قلبه بنار الحب نحو هذه الطوباوية، فطفرت الدموع من مقلتيه، وهتف مخاطباً حبيبته البتول قائلاً: أنني لعالمٌ يا أمي المحبوبة في الغاية أنكِ تحبينني، ولكنكِ لا تحبينني بمقدار ما أنا أحبكِ: فحينئذٍ مريم العذراء كمن أهين في موضوع المحبة، قد أجابته من الأيقونة قائلةً: ماذا تتكلم يا ألفونسوس. وأي شيء تقول، هيهات أن تدرك مقدار تفاضل الحب الذي أنا أحبك به، عن المحبة التي أنت تحبني بها، فأعلم أنه لم يكن البعد الشاسع الكائن فيما بين السماء والأرض، موازياً لبعد زيادة الحب الذي لي نحوك، عن الحب الذي لك نحوي* فاذاً بكل صوابٍ يهتف القديس بوناونتورا صارخاً: يا لهم من طوباويين بالحقيقة وسعيدين، أولئك الذين هم مالكون الحظ المغبوط، في أن يدوموا أمينين في التعبد لهذه الأم الكلية الحب، وثابتين على محبتهم اياها، وذلك لأن هذه الملكة المكافئة المعروف، لا يمكن أن تدع ذاتها أن تغلب أصلاً من محبة المتعبدين لها: فمريم اذ أتبعت في ذلك نموذج فادينا يسوع المسيح الكلي المحبة نحونا، فتمنح الذين يحبونها أضعاف الحب، مفيضةً عليهم أنعاماتها ومواهبها وأسعافاتها لهم. (فاذاً مباحٌ لي أن أهتف أنا أيضاً، مع القديس أنسلموس في مناجاته البتول وأبنها قائلاً): فليلتهب من أجلكما قلبي دائماً. ولتذب نفسي كلها بنار الحب نحوكما، يا مخلصي يسوع المحبوب: ويا أمي العزيزة مريم، فأمنحا هذه الموهبة لنفسي بأن أحبكما، لأنني من دون نعمتكما لا أستطيع أن أحبكما. فأعطياني لأجل أستحقاقاتكما، لا لأجل أستحقاقاتي هذه النعمة. وهي أن أحبكما بمقدار ما تستحقان... فيا أيها الإله المحب البشر، أنه لقد أمكنك أن تموت متجسداً من أجل أعدائك، فهل أنك تستطيع بعد ذلك أن تنكر أيهاب طلبة من يلتمس منك أن تمنحه أن يحبك، ويحب والدتك المجيدة.* * نموذج * أنه يوجد مسطراً في الرأس السابع من المجلد الثاني من تأليف الأب أورياما، أن أبنةً مسكينةً من بنات الفلاحين، مهنتها رعاية الغنم. كانت متعبدةً لوالدة الإله بتعلق قلبٍ هذا حده، حتى أن نعيمها ولذتها وسرورها. كان قائماً في أن تتردد على كنيسةٍ صغيرةٍ حقيرةٍ. مبنيةٍ على أسم هذه السيدة المجيدة، كائنة في الجبل الذي فيه تلك الأبنة كانت تترك الغنم أن ترعى، وهي تنفرد في المصلى المذكور لتصلي، وتكرم أمها العذراء الفائقة القداسة، من حيث أنها شاهدت أن شخص هذه البتول المجسم الموجود هناك، لم يكن مكتسياً برداءٍ لائقٍ. فطفقت تكد وتعمل بيديها وشاحاً لذاك التمثال المقدس بقدر مكنتها، ثم أنها يوماً ما قد أقتطفت من زهور الحقل باقةً وصنعت منها أكليلاً، وجاءت به الى المصلى، حيث صعدت فوق الهيكل، ووضعت أكليل الزهور فوق هامة شخص البتول القديسة قائلةً لها: أنني لقد كنت أتمنى يا أمي أن أضع على رأسكِ أكليلاً من ذهبٍ مرصع بالجواهر، ولكن لعدم مقدرتي على ذلك، اذ أني فقيرةٌ، فأتوسل إليكِ بأن تقبلي مني هذا الأكليل الحقير المؤلف من الزهور، وليكن مقبولاً لديك عربوناً للحب الذي أنا أحبك به: فبهذه الأنواع وأمثالها كانت تلك الأبنة البتولة تكرم سيدتها الجليلة، متعبدةً لها ببساطة قلبها فلنتأمل الآن كيف أن هذه الأم الإلهية كافأت تلك الفتاة أبنتها، عن زياراتها أياها في ذاك المعبد، وعن مفاعيل حبها الأبني نحوها. فقد أنطرحت الأبنة الراعية مريضةً مرضها الأخير، ودنت به من زمن أنتقالها من هذه الحياة، فأتفق أن أثنين من الرهبان كانا عابري طريق في تلك الأرض، فتعبا من مشقة السفر، أتكآ تحت شجرةٍ ما ليستريحا، حيث أن أحدهما خط في النوم. والآخر لبث ساهراً. الا أنهما معاً قد شاهدا هذه الرؤيا، وهي أن مصافاً جزيل العدد من العذارى الجميلات الصور قد أقبلن مجتازاتٍ من عليهما، وفيما بين ذاك المصاف كانت توجد واحدة منهن، فائقة عليهن كافةً بألبهاء والجمال والعظمة والهيبة، فأحد ذينك الراهبين قد سأل تلك الأمرأة الجليلة قائلاً: أيتها السيدة من أنتِ، والى أين تمضين في هذه الطريق: فأجابت هي وقالت له: أني أنا هي والدة الإله، وهوذا أني منطلقةٌ وصحبتي هؤلاء البتولات القديسات، لنزور في القرية القريبة فتاة مسكينة راعية غنم مشرفةً على الموت. لأنها مراتٍ كثيرةً كانت تزورني: قالت هذا وغابت الرؤيا عن أبصار ذينك الراهبين اللذين قال أحدهما للآخر. قم بنا لنمضي نحن أيضاً لنشاهد هذه الأبنة. فنهضا مسرعين، وطفقا يفتشان في القرية على بيت تلك العذراء المريضة، الى أن وجداه ودخلاه فنظراها متكئةً فوق قليل من التبن، وبعد أن سلما عليها قالت هي لهما: أطلبا الى الله أيها الأخوان العزيزان، أن يمنحكما أن تشاهدا الجمعية المحيطة بي والمساعدة اياي، فالراهبان جثيا حالاً على ركبتهما مصليين، فرأوا مريم والدة الإله قائمةً بجانب الأبنة المريضة وبيدها أكليلٌ، وكانت تعزي المنازعة وتشجعها، وهوذا بمصاف تلك البتولات قد ابتدأن أن يرتلن، وفيما بين أصوات تلك التراتيل قد أنفصلت نفس الأبنة المباركة من جسدها، وحينئذٍ مريم البتول وضعت على رأس النفس ذاك الأكليل الذي كان بيدها، وأخذتها صحبتها مع المصاف بأسره وصعدن الى السماء*† صلاة † أيتها السيدة أنني أدعوكِ مع القديس بوناونتورا: مختطفة القلوب اذ أنك بواسطة حبكِ نحو عبيدكِ. وبمواهبكِ التي تمنحيهم اياها، تستولين على قلوبهم مخطوفةً بيدكِ، فأحفظي قلبي أيضاً أنا الحقير القلب الذي يشتهي أن يحبكِ كثيراً، فأنتِ لأجل جمال نفسكِ العظيمة قد أكتسبتِ حب الله الشديد اياكِ، حتى أنكِ أجتذبتيه من السماء الى الأرض متجسداً من أحشائكِ البتولية، فهل أني أعيش من دون أن أحبكِ، كلا، بل أنني أهتف نحوكِ مع عبدكِ الآخر المنشغف في حبكِ. وهو أبنكِ يوحنا باركمانس الراهب اليسوعي قائلاً: أنه لا يمكنني أن أهجع أصلاً أن أدعوكِ، الى أن أتأكد يقيناً أنني فزت بالمحبة لكِ حباً ثابتاً وطيداً خشوعياً نحوكِ، أنتِ يا أمي التي قد أحببتيني محبةً جزيلةً، في الوقت عينه الذي فيه أنا كنت عديم المعروف وناكر الجميل. فترى ماذا لقد كان يحل بي من الويل، لولا تكونين أحببتيني وأستمديتِ لي مراحم هكذا عظيمةً، فأن كنتِ اذاً أنعطفتِ بالحب نحوي، في الوقت الذي فيه لم أكن أنا أحبكِ، فكم يلزمني بالأكثر أن أرجو من صلاحكِ ما أبتغيه، حيث أنني أحبكِ الآن، أي نعم أني أحبكِ يا أمي، وأتمنى أن أحصل على قلبٍ أحبكِ به. بدلاً من كل أولئك المنكودي الحظ الذين لا يحبونكِ، وأشتهي أن يكون لي لسانٌ يوازي ألف لسانٍ، لكي أمدحكِ به وأعظمكِ. مبرهناً ومخبراً ومعلماً كل أحدٍ بمقدار عظمتكِ. وبسمو قداستكِ، وبغنى رحمتكِ، وبشدة محبتكِ نحو الذين يحبونكِ، فلو كنت مثرياً من الأموال، لكنت أصرف غناي جميعه فيما يأول لتكريمكِ. ولو أكون حاصلاً على رعايا مخضعين لسلطاني، لكنت أجتهد في أن أجعلهم كافةً منشغفين في حبكِ، وأخيراً أريد أن أصرف من أجل مجدكِ وأكراماً لشخصكِ ثمن دمي، وحياتي أيضاً أن لزم الأمر. فأنا اذاً أحبكِ يا أمي، ولكنني في الوقت عينه أخشى من أن لا تكون محبتي لكِ كائنة حقاً، لأني أسمع ما يقال من الفيلسوف: أن الحب يجعل المحبين شبيهين بالأشخاص المحبوبة منهم: فاذاً عندما أرى ذاتي بهذا المقدار بعيداً عن أن أكون شبيهاً بكِ، فأستدل من هذه العلامة على أن حبي لكِ ليس بكائنٍ، لأنكِ أنتِ كلية الطهارة والنقاوة. وأنا مملؤ من الدرن والأدناس. أنتِ هكذا متواضعةً وأنا بالضد متكبرٌ، أنتِ بهذا المقدار ساميةٌ في القداسة. وأنا بجملتي موعبٌ من الآثام. ولكن من حيث أنكِ تحبينني أيتها الأم الحنونة. فيخصكِ أن تصنعي هذا الأمر. وهو أن تصيريني شبيهاً بكِ. فأنتِ حصلتِ على الأستطاعة بأن تغيري القلوب. فاذاً خذي قلبي هذا وغيريه. وبذلك تظهرين للعالم كم هو عظم أعمالك. ومقدار أنعامك نحو الذين تحبينهم. فقدسيني وأجعليني أهلاً لأن أكون أبناً مرصياً لكِ. فهكذا أرجو وكذلك فليكن لي آمين †https://upload.chjoy.com/uploads/164469166527593.jpg † الجزء الرابع † *في أن مريم العذراء هي أم الخطأة أيضاً الراجعين الى الرب بالتوبة* ان مريم والدة الإله قد أوحت الى القديسة بريجيتا (رأس138 كتاب4) بأنها هي أمٌّ ليس للأبرار والصديقين فقط. بل للخطأة وللأشرار أيضاً. بحيث أنهم يريدون أن يرجعوا عن المآثم: فدائماً هو مستعدٌ قلب هذه الأم الحنونة. لأن تسعف كل من يلتجئ اليها من الخطأة متذللاً أمام قدميها. راغباً عمل التوبة. ولأن تعامله بالحنو والرحمة أكثر من أمٍ طبيعيةٍ له. وهذا هو ما كتبه القديس غريغوريوس الكبير الى الأميرة ماتيلده (كتاب4 رسالة47) قائلاً: أقصدي الا ترجعي الى الخطيئة. وأنا أضمن لكِ أنكِ تجدين مريم مستعدةً لأعانتكِ في كل ما ترتاحين اليه. أكثر من أستعداد أمٍ طبيعيةٍ لكِ: ولكن من يشتهي أن يكون أبناً لهذه الأم العظيمة، فيلزمه أولاً أن يترك الخطيئة، وبعد ذلك يؤمل أن يقبل منها فيما بين أولادها، فيتأمل ريكاردوس في تلك الكلمات المدونة في سفر الأمثال (ص31ع28) وهي: أنهضت أولادها: ويبرهن كيف أنه يقال أولاً عن النهوض، ثم بعده يذكر التبني، علامةً على أن من لم يهتم قبل كل شيءٍ في أن ينهض من خطاياه التي كان سقط فيها، فلا يمكن أن يكون أبناً لمريم. اذ أنه لا يستحق أن يدعى أبناً لأمٍ هكذا عظيمة ذاك الذي هو في حال الخطيئة المميتة، لأنه كما ينبه القديس بطرس الذهبي النطق: بأن من يصنع أعمالاً مضادةً لأعمال مريم، فينكر بالفعل حقيقة ارادته في أن يكون أبناً لها: فمريم هي متواضعةٌ وهو يريد أن يعيش متكبراً، مريم هي طاهرةٌ وهو دنسٌ، مريم هي مملؤةٌ من الحب، وهو يريد أن يبغض قربه. وبذلك جميعه يعطي علامةً على أنه ليس هو أبناً لهذه الأم القديسة. بل ولا يرغب حقاً التبني لها، ومن ثم يردف ريكاردوس كلامه السابق بهذه الكلمات قائلاً: أن أولاد مريم هم متشبهون بها بالطهارة والتواضع والوداعة والحلم والرحمة. لأنه ترى من يمكنه أن يتجاسر على أن يريد أن يصير أبناً لهذه الأم الجليلة، مع أنه يغيظها بسيرته الرديئة. فأحد الخطأة يوماً ما اذ كان يخاطب والدة الإله قال لها: أظهري ذاتك بالفعل أنكِ أمٌ: فأجابته البتول القديسة: أظهر ذاتكَ أنتَ بالفعل أنكَ أبنٌ: (كما هو مدون من الأب أورياما) وخاطٍ آخر مرةً ما اذ كان يسميها أم الرحمة مستدعياً اياها، فأجابته هذه الأم الإلهية قائلةً: أنكم أنتم أيها الخطأة حينما تريدون أني أساعدكم وأعينكم، فتسموني أم الرحمة، وبعد ذلك لا تكفوا عن أن تجعلوني بواسطة خطاياكم أم الشقاوة والحزن: أما ريكاردوس فيخصص بمريم العذراء ما قاله الله في حكمة ابن سيراخ (ص3ع18): أن من شتم أمه لعنة الله تنزل به: أي أن لعنة الله تحل بأولئك الذين يحزنون قلب هذه الأم الصالحة بسيرتهم الرديئة، وبأصرارهم على آثامهم*فقولي بأصرارهم على الخطيئة، وذلك لأن الخاطئ الذي يجتهد مغتصباً ذاته على الخروج من المآثم، فهذا ولئن لم يكن بعد خرج بالكلية عن الخطيئة، فعند ما يلتجئ الى والدة الإله، فهذه ألم الرأوفة تعضده وتسعفه لأن يرجع الى حال نعمة الله، كما قد سمعت ذلك القديسة بريجيتا من فادينا نفسه في أحد الأوحية بخطابه مع والدته قائلاً لها: أن أولئك الذين يجتهدون مغتصبين ذواتهم على القيام من سقطتهم راجعين الى الله. فأنتِ تساعدينهم بالمعونات من دون أن تتركي أحداً من تعزيتكِ: فاذاً حينما يكون الخاطئ مصراً على مآثمه من دون ارادة الرجوع الى الله، فمريم لا تقدر أن تحبه، ولكن اذا هو شاهد ذاته ربما موثوقاً برباطات ألمٍ ما، أو رذيلةٍ ما قد صيرته أسيراً للعدو الجهنمي، فبحيث أنه قلما يكون يلتجئ الى البتول القديسة بالصلوات برجاءٍ وطيد وبمواظبة، في أن تنتشله من الأثم وتخرجه من الخطيئة، فهذه الأم الصالحة تمد اليه يدها المقتدرة، وتفكه من تلك القيود والسلاسل، وتقوده الى الطريق المستقيمة، وتضعه في الحال الخلاصية. فالمجمع التريدنتيني المقدس قد حرم الأرتقة التي بموجبها يقال، أن كل الصلوات والأعمال التي يصنعها الخاطئ وهو في حال الخطيئة، أي هو عادم نعمة الله هي خطايا. فيقول القديس برنردوس: أن الصلاة في فم الخاطئ ولئن لم تكن جميلةً. لأنها غير مرافقة من المحبة، فمع ذلك هي مفيدةً له ومثمرةٌ وملائمةٌ لخروجه من الخطيئة: لأنه كما يعلم القديس توما اللاهوتي: بأنه أي نعم أن صلوات الخاطئ هي عديمة الأستحقاق. ولكنها فعالةٌ حسناً لأن تستمد من الله نعمة الغفران. من حيث أن قوة نوال الطلبات هي مؤسسة لا على أستحقاق المتضرع بها، بل على جود الله وخلاصة. وعلى أستحقاقات يسوع المسيح ومواعيده القائل بها: أن كل من سأل أعطى، ومن طلب وجد، ومن قرع فتح له: (لوقا ص11ع10) فهذا عينه يجب أن يقال عن أولئك الذين يتضرعون الى والدة الإله القديسة. فيقول القديس أنسلموس: أن كان الذي يتوسل لا يستحق أن تستجاب توسلاته، فأستحقاقات مريم التي هو يلتجئ اليها تصير ان تقبل طلبته: ومن ثم فالقديس برنردوس (في عظته الثالثة المصنوعة منه في بارمون الميلاد) يحرض الخطأة كافةً، وكلاً منهم على الألتجاء الى مريم أم الرحمة بالتوسلات. وعلى أن يوطدوا رجاءهم كثيراً في مفعول شفاعاتها، لأن الخاطئ اذا لم يستأهل بذاته أن ينال مطلوبه. فالباري تعالى لأجل سمو أستحقاقات هذه الطوباوية التي تتضرع اليه من أجله، يهبه تلك النعم التي تكون هي ألتمستها له منه عز وجل. فهكذا يقول القديس نفسه: لأنك يا هذا أن كنت غير مستحق أن يعطى لك مطلوبك. فيعطى لمريم لكي تأخذ منها أنت ما تأخذه: لأن هذه هي وظيفة الأم الصالحة (يقول القديس عينه في محل آخر) التي يكون لها ابنان وهي تعلم أن كلاً منهما هو عازمٌ في قلبه على أن يقتل الآخر ببغضةٍ متبادلةٍ، فترى ماذا تصنع أمٌّ هذه صفتها في حادثٍ كهذا، سوى أن تبذل ما عندها من الجهد، في أن تصالح أحدهما مع الآخر وتزيل العداوة من بينهما. فهكذا مريم العذراء التي هي أمٌ ليسوع المسيح. وأمٌ للانسان (أي لكل البشر) فهذه حينما تشاهد خاطياً ما كائناً في حال العداوة ليسوع المسيح، فلا تقدر أن تحتمل ذلك، بل تبذل عنايتها كلها في أن توقع الصلح والسلام فيما بينهما: فهذه السيدة الكلية الحنو لا تطلب شيئاً آخر من الخاطئ، سوى أن يلتجئ اليها، وتكون نيته أن ينقي ذاته من خطاياه بالتوبة. على أنها متى رأت الخاطئ آتياً أمام قدميها مستغيثاً بها وطالباً الرحمة، فهي لا تلاحظ المآثم المتدنس هو بها، بل تنظر الى نيته وقصده الصالح الذي به التجأ هو اليها. فاذاً حينما يقصدها الخاطئ بعزمٍ جيد وبنية مقدسة، فهي تعنقه وتقبله. ولا تستنكف من أن تشفيه من كل جراحاته الأثيمة المقرحة بها نفسه، ولو كان هو قبلاً صنع الخطايا الموجودة في العالم بأسرها، لأن هذه الأم الكلية الحب لبنيها مدعوة منا بقلب أم الرحمة، لا نعتاً وتبجيلاً وتكرمةً، بل هي حقاً وصدقاً كذلك. وبالعملية تظهر حقائق تسميتها هذه، وتعلنها الى الجميع، بالحب والرأفة والانعطاف والحنو الرحمة، التي بها تسعفنا وتساعدنا وتنعم علينا. وهذا جميعه يتضح جلياً من كلمات هذه السيدة الفائقة القداسة عينها. المقولة منها حياً للقديسة بريجيتا (كتاب1 رأس23 من سيرة حياتها) بهذه الألفاظ وهي: أن الخاطئ مهما صنع من الشر وأقبل اليَّ بحسن عبادةٍ، فلا ألاحظ كثرة مآثمه، بل أنظر الى نيته وعزمه اللذين أقبل اليَّ بهما. ولا أستنكف من أن أضمد جراحاته وأشفيه منها، لأني ألقب بأم الرحمة وأنا بالحقيقة كذلك* فمن حيث اذاً أن مريم هي أمٌّ للخطأة الذين يريدون الرجوع عن الخطيئة، فلا يمكن أن لا تأخذها الشفقة عليهم والانعطاف نحوهم، بل بالحري يظهر كأنها تشعر في ذاتها بمرارة شقاوة بنيها وبأمراضهم، كما لو تكون ملتحقةً بها هي نفسها. فالأمرأة الكنعانية حينما كانت تتوسل الى يسوع المسيح، من أجل شفاء ابنتها المعذبة من الشيطان قالت له تعالى: ارحمني يا رب يا ابن داود فأن ابنتي يعذبها الشيطان عذاباً شديداً" (متى ص15ع22) فلماذا قالت له ارحمني أنا. والحال أن ابنتها لا هي كانت تتعذب من الشيطان، وبالتالي كان يلزمها أن تقول، يا رب يا ابن داود ارحم ابنتي، لا أن تقول ارحمني أنا، ولكن بالصواب وليس من دون سببٍ قالت هكذا، لأن الأمهات يشعرن في ذواتهن بمرارة مصائب أولادهن، كأنها مصائبهن الشخصية، فلأجل ذلك يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس (في مدائح البتول): ان مريم حينما يلتجئ اليها أحد الخطأة مستغيثاً بها، فهي تتوسل من أجله لدى الله، وكأنها تقول له تعالى هكذا: يا سيدي أن هذه النفس المسكينة الحاصلة في الخطيئة هي ابنتي. فلهذا أسألك أن ترحمني أنا، أحرى من أن أقول لك أرحمها هي، لأني أنا أمها: أواه فليرتض الله بأن الخطأة جميعاً يلتجئون الى هذه الأم الحلوة العطوفة، لأنهم من دون ريبٍ يفوزون منه تعالى بالغفران عن مآثمهم. ففي هذا الموضوع يهتف القديس بوناونتورا منذهلاً وصارخاً: أنكِ يا مريم تعتنقين بحبٍ والديٍ الخاطئ المرذول من العالم بأسره، ولا تتركينه الى أن تصالحيه مع ديانه الذي هو ابنكِ: فهذا القديس بعني بالألفاظ المذكورة، أن جميع الخلائق حتى العناصر العديمة الحس نفسها، كالنار والهواء والأرض تبغض الخاطئ المصر على آثامه. وكأنها تريد أن تطرده مقصياً وتنتقم منه معاقبةً، لكي تصلح الأهانة المصنوعة منه ضد خالقها وسيدها المطلق، وتعوض الكرامة المسلوبة عنه بالخطيئة. ولكن اذا التجأ هذا ااخاطئ المنكود الحظ الى مريم، فهل أنها تطرده راذلةً كلا، أنها لن تقصيه، بل متى كانت نيته أن يستمد منها المعونة في تخليصه ذاته من الخطيئة، فتقبله بكل بشاشةٍ وحبٍ بحسبما هي أمٌ له، ولا تتركه ألم يفز بواسطة اقتدار شفاعتها بالمصالحة مع الله، وبالحصول على نعمة التقديس من الجود الإلهي* فالأصحاح الرابع عشر من سفر الملوك الثاني يخبرنا، عن الخطاب الذي تفوهت به مع داود الملك، تلك الأمرأة التقية الحكيمة بهذا المضمون قائلةً له: يا سيدي الملك أنه قد كان لي ابنان، ولأجل سوء حظي قد قتل أحدهما الآخر وبالتالي قد فقدت الواحد منهما. والأن تريد الشريعة أن تعدمني الابن الثاني الذي بقي لي وحيداً. فأرحمني أنا الأم المسكينة، وصيرني الا أفقد الابنين معاً: فحينئذٍ داود أخذته الشفقة على هذه الأم، فخلص من حكومة الموت أبنها القاتل ورده اليها مطلوقاً. فعلى نوعٍ ما يظهر أن مريم تستخدم هذه الألفاظ، حينما ترى الباري تعالى مغتاظاً ضد ذاك الخاطئ الذي يكون التجأ اليها مستغيثاً بها، فتقول له: إلهي أنه لقد كان لي ابنان، وهما يسوع والانسان، فالانسان قد قتل يسوع مصلوباً على الخشبة، والآن شريعة عدلك الإلهي تريد بحكومتها أن تهلك الانسان، فيا سيدي أن ابني يسوع قد مات. فأشفق عليَّ اذاً وصيرني الا أفقد ابني الثاني الباقي لي. بعد أني عدمت الابن الأول: فحقاً أن الله بغير شكٍ لا يمكن أن يهلك أولئك الخطأة الذين يستغيثون بمريم، وهي تتوسل لله من أجلهم، اذ أن الله عينه قد جعل هؤلاء الخطأة أولاداً لها، بصيرورته اياها أماً لهم. فالرجل الحسن العبادة لابسارجيوس يجعل كأنَّ الباري تعالى يتكلم هكذا قائلاً: أنني قد سلمت الخطأة لمريم بمنزلة بنين ومن ثم هي بهذا النوع مهتمة في أن تكمل واجبات وظيفتها هذه، وليس أحدٌ من أولئك الذين سلموا لعنايتها، خاصةً الذين يستغيثون بها، يمضي مهملاً منها الى الأبادة، بل أنها تقود الجميع اليَّ بكل قدرتها.* ويقول بلوسيوس: ترى من يستطيع أن يصف بالكفاية عظم الرحمة والخيرية والعناية والمحبة، التي بها تهتم أمنا هذه الإلهية في أمر خلاصنا، حينما نستدعيها لمعونتنا ونلتجئ اليها: ويقول القديس برنردوس (في أحد ميامره): فلنتقدم اذاً أمام هذه الأم الصالحة جاثين لدى قدميها المقدسين. ولنضبطهما شديداً، ولا نفارقها ولا نطلقها ألمَّ تباركنا، وبذلك تقبلنا أولاداً لها متبننةً بنا: فمن يمكنه أن يرتاب أو يضعف رجاؤه في هذه الأم الرأوفة، أو في شفقتها نحونا (يقول القديس بوناونتورا) حتى ولو أنها قتلتني، فأنا لا أزال وطيد الرجاء فيها وأؤمل بكلية أملي أن أموت أمام أيقونتها. وهكذا أفوز بالخلاص: فكل أحد من الخطأة حينما يلتجئ الى هذه الأم الكلية الشفقة، يلزمه كذلك أن يتفوه نحوها قائلاً: أيتها السيدة أمي، أنني لأجل مآثمي أستحق أن ترفضيني مقصياً من أمامك، وأن تعاقبيني بالقصاصات المستزوجبتها خطاياي، ولكن ولو أنك رذلتيني وقتلتيني فأنا لا يمكن أن أضعف رجائي فيكِ، ولا يحيق بي اليأس من رحمتكِ. بل أثق بأن أنال الخلاص بواسطتك. فأنا كلي الأمل فيكِ وشديد الاتكال عليكِ. وارجو أن أحصل على هذا الحظ السعيد، وهو أن أموت أمام أحدى أيقوناتكِ، مسلماً نفسي بين يدي رحمتك. وبذلك أطمئن بألا أمضي هالكاً، بل أنطلق الى السماء لكي أسبحكِ برفقة عبيدكِ الكثير عددهم، الذين لاستغاثتهم بكِ في ساعة موتهم، ولأعانتكِ أياهم بقوة شفاعاتك المقتدرة، قد فارقوا هذه الحياة فائزين بالخلاص: وهنا فليقرأ النموذج الآتي إيراده، ليفهم أن كان يمكن لأحد الخطأة، أن يقطع رجاءه من رحمة هذه الأم الصالحة، أو من مفاعيل حبها الشديد اذا التجأ اليها.* * نموذج * إن بالواجانسه يخبر (في مطلع تاريخه) بأنه قد كان في مدينة ريدوليوس في بلاد انكلترا سنة 1430 شابٌ شريف الأصل، أسمه أرناسطوس، الذي بعد أن وزع جميع الميراث المخلف له عن مورثيه، وكل ما كان يملكه على الفقراء والمحتاجين، قد ترهب في أحد الديورة، حيث كان يجتاز أيامه بسيرةٍ مملؤةٍ من حقيقة روح الكمال الانجيلي، حتى أن رؤساءه أنفسهم كانوا يعتبرون فضيلته ويكرمونه، لا سيما لأجل عبادته الخصوصية الحارة نحو والدة الإله، فحدث في تلك الأيام أن الطاعون قد دخل في المدينة المذكورة، ولذلك قد التجأءت سكانها الى رهبان ذلك الدير، طالبين منهم تقدمة التضرعات من أجلهم، فرئيس الدير قد رسم على أرناسطوس أن يمضي الى الكنيسة، ويمارس الصلوات أمام هيكل العذراء المجيدة بأتصالٍ، وألا يباين الهيكل ألمّ يحصل على جوابٍ ما من هذه السيدة الجليلة، فالشاب قد تمم ذلك وأستمر مدة ثلاثة أيام الى أن فاز أخيراً من البتول القديسة، بأنها علمته أن الشعب يتلون بعض صلواتٍ مرسومة منها، لينجوا من الطاعون، كما أنهم قد أكملوا ذلك وفازوا بالنجاة تماماً، فأتفق فيما بعد أن ذلك الشاب قد فترت حرارة عبادته نحو العذراء المجيدة. ومن ثم قد وثب عليه الشيطان بتجارب قوية جداً، لا سيما بأشياء مضادة العفة، محركاً في عقله العزم على أن يهرب من الدير، ومن حيث أن هذا المسكين لم يتجه بالأستغاثة نحو ملجأ المحاربين. فقبل هواجس أبليس، وعزم على أن يطرح ذاته من أحد جدران الدير الى خارجٍ ويفر هارباً. ولكن وفيما هو بهذا العزم مجتازاً من رواق الدير، حيث كانت توجد أيقونةٌ لوالدة الإله، فقد خاطبته هذه السيدة من تلك الأيقونة قائلةً: يا أبني لماذا قد أهملتني: فحينئذٍ أرناسطوس قد أنطرح في الأرض أمامها مملوءاً من الأنذهال والهلع والندامة معاً، وأجابها قائلاً: ألا تنظرين يا سيدتي كيف أنني ما عدت أقدر أن أحتمل التجارب. فلماذا أنتِ لم تعينيني: فقالت له القديسة: وأنتَ لما تغافلت، عن أن تستغيث بي، فلو أنكَ التجأت اليَّ وأستدعيتني الى معونتك، لما بلغت الى الحال الكائن أنتَ بها، فمنذ الآن وصاعداً أتكل عليَّ وأستغث بي ولا يخامرك ريبٌ: فأرناسطوس قد رجع الى قلايته ولكن قد وثبت عليه التجارب جديداً. ومن كونه لم يهتم في أن يلتجئ الى العذراء المجيدة فقد غلب أخيراً من عدوه الجهنمي، وهرب من الدير. وسلم ذاته لمفاعيل الآلام الرديئة بسيرةٍ كلية الشناعة، مجتازاً من فعل خطيئة الى أخرة حتى أنه صار قاتلاً وناهباً، لأنه أستنكرى فندقاً يستقبل فيه الغرباء تحت أجرةٍ بائعاً أياهم في النهار قوتاً وخمراً. وفي الليل كان يقتل من يمكنه قتلهم ويسلب أمتعتهم. ففي ليلةٍ ما قد وجد فيما بين الذين أماتهم على هذه الصورة أبن عم والي تلك البلدة، فهذا الوالي بموجب الدلائل التي حصل عليها في قيام الفحص ولأجل ما أتى ذكره قد حكم على أرناسطوس بالشنق. غير أنه في الزمن الذي كان فيه الفحص مقاماً قبل أبراز الحكومة، قد ــ جاء الى الفندق شابٌ ما شريف المقام، وعندما أستقبله أرناسطوس قد صمم عزمه على أن يقتله ليلاً، كما كان فعل بالآخرين، فلما بلغت الساعة المقصودة منه، دخل سراً الى المسكن الراقد فيه ذاك الشاب ليميته على فراشه، فلم ير الشاب، عوضاً منه شاهد مطروحاً فوق الفراش شخص مخلصنا يسوع المسيح مسمراً على الصليب مملؤاً من الجراحات، الذي قد نظر اليه بعين رأفةٍ قائلاً له: أما يكفيك يا ناكر الجميل أنني قد مت مرةً واحدةً من أجلك، بل تريد أن تميتني مقتولاً بيدك من جديد، فأمدد ذراعك سريعاً وأقتلني ثانيةً: فحينئذٍ أرناسطوس طفق يبكي بمرارةٍ وأجابه قائلاً بدموعٍ: هوذا أنا يا سيدي أمامك، ومن حيث أنك أستعملت معي رحمةً هكذا عظيمة، فأنا أريد أن أعود اليكَ راجعاً: قال هذا وحالاً خرج من الفندق ليمضي الى الدير ويمارس أفعال التوبة، ولكن فيما هو مجتاز قد صادفته خدام الشريعة فمسكوه وأتوا به الى القاضي، فلما مثل في ديوانه قد أعترف مقراً بجميع ما كان صنعه. وبقتله كل الذين أماتهم في الفندق. فحينئذٍ الوالي أبرز ضده حكم الموت مشنوقاً. من دون أن يعطيه زمناً ليعترف بخطاياه في منبر سر التوبة. فوقتئذٍ أرناسطوس التجأ الى أم الرحمة مستغيثاً بها. فالجلاد أي نعم أنه شنقه الا أن والدة الإله قد حفظته في الحياة، وفكته من الحبل وسرحته آمرةً اياه بقولها له: أرجع الى الدير وأعمل توبةً. وفي اليوم الذي فيه تشاهد في يدي ورقةً توضح أن خطاياك قد غفرت، فحينئذٍ هيء ذاتك للموت. فأرناسطوس عاد الى ديره، وأخبر رئيسه بهذا جميعه، وشرع يباشر أفعال التوبة الأشد صرامةً، وأستمر على ذلك عدةً من السنين، الى أنه يوماً ما رأى في يد الطوباوية مريم البتول ورقة الغفران، ومن ثم أستعد حالاً الى الموت، ورقد بالرب بميتةٍ مقدسة*https://upload.chjoy.com/uploads/164469166527593.jpg † صلاة † يا مريم الكلية القداسة. أيتها الملكة المسلطة، والدة الإله المستحقة هذه الرتبة السامية الجلال، أنني اذ ألاحظ ذاتي بهذا المقدار مملؤاً من الذل والأدران والخطايا، فلم يكن يليق بي أن أتجاسر على التقدم اليكِ، وعلى أن أدعوكِ أماً لي، ولكن لا أريد أن شقاوتي هذه تعدمني التعزية العظيمة، والرجاء الأمين اللذين أشعر بهما عندما أسميكِ أمي، فأنا أعلم أني مستحقٌ أن تطرديني مقصياً من أمامكِ، الا أنني أتوسل اليك بأن تتأملي في جميع ما تكبده من الآلام، وما صنعه من أجلي يسوع أبنكِ. وبعد ذلك أطرديني أن قدرتِ. فأنا هو أحد الخطأة البائسين. ولكنني أهنت العزة الإلهية أكثر من الآخرين، الا أن الشر قد صار، وفات ما مضى، فالآن أنا ألتجئ اليكِ، وأنتِ قادرةٌ أن تعينيني، فغيثيني يا أمي وساعديني، ولا تقولي لي أنكِ لا تستطيعين أسعافي، لأني أعرف أنكِ قادرةٌ على كل ما تشائين! وتنالين من إلهكِ، جميع ما ترغبين، وأما أن قلتِ لي أنكِ لا تريدين أن تعينيني، فقلما يكون عرفيني الى من التجئ لكي يساعدني في حال مصائبي هذه الثقيلة. فأنا أهتف اليك والى أبنكِ بألفاظ القديس أنسلموس قائلاً: أما أنك أنت يا مخلصي ترحمني بمغفرتك لي آثامي، وأنتِ يا أمي تشفقين عليَّ معينةً إياي، وأما أنكما تقولان لي من هم الأشخاص الأقوى منكما لأستغيث بهم. ومن هم الذين أستطيع أن أتكل عليهم. فلا يوجد لا في السماء ولا على الأرض أحدٌ يمكنني أن أحصل منه على رحمةٍ وشفقةٍ أكثر منكما، أو يستطيع هو أن يساعدني أفضل منكما، فأنت هو أبي يا يسوع. وأنتِ هي أمي يا مريم، فأنتما تحبان من هم أكثر أحتياجاً، وأوفر شقاوةً وتمضيان في طلبهم لتخلصانهم. فأنا هو أحد الأثمة المستحقين أن يطرحوا في جهنم، بل الأشد قبحاً وتعاسةً من جميعهم، ولكن لا حاجة بكما لأن تجولا ههنا وهنا لتطلباني، بل ولا أنا أدعي بأنه يلزمكما التفتيش عليَّ، لكني أقدم لكما ذاتي برجاءٍ وطيدٍ في أنكما لا تعرضان عني، وتتركاني مهملاً منكما. فهوذا أني منطرحٌ على أقدامكما، فأغفر لي يا يسوع مخلصي، وأنتِ يا مريم عينيني آمين!* † لم يسمع قد أن أحداً ألتجأ إليكِ وعاد خائباً أيتها السيدة الرؤوفة |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الثاني https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg هراً وبيت الله على قمم الجبال، ويستعلي فوق أعلى التلال، ويجيء إليه كل الأمم، ويسير نحوه شعوب كثيرة.(أشعيا 2/ 12) † في شرح ما يلاحظ هذه الكلمات وهي: يا حياتنا ولذتنا: † * وفيه ثلاثة أجزاء * أنه سيكون في آخر الأيام، جبل الرب ظا† الجزء الأول † * في أن مريم البتول هي حياتنا، لأنها تستمد لنا غفران خطايانا * أنه لكي تفهم جيداً العلة التي من أجلها تجعلنا الكنيسة المقدسة، أن نسمي مريم العذراء حياتنا، فيلزم أن يعرف أنه كما أن النفس تعطي الحياة للجسد، فهكذا النعمة الإلهية تعطى الحياة للنفس. لأن النفس من دون النعمة الإلهية. نعم أنها تسمى حيةً، ولكنها بالحقيقة مائتةٌ هي، كما قيل في سفر الرؤيا (ص3ع1) لملاك كنيسة سرديس: أني أعرف أعمالك أن لك أسماً حي ولكن أنت ميت. فاذاً اذ تستمد مريم البتول للخطأة بواسطة شفاعاتها أكتساب نعمة الله، فبهذا النوع ترد لهم الحياة. فأسمع كيف أن الكنيسة تجعل مريم متكلمةً عن ذاتها. بتخصيصها لها الكلمات المقولة في العدد السابع عشر من الاصحاح الثامن من سفر الأمثال وهي: أن الذين يبتكرون اليَّ يجدونني: أي أن الذين يطلبوني باكراً يعني حالما يمكنهم فحقاً يجدونني. بل أن السبعين مترجماً قد وضعوا عوضاً من لفظة يجدونني هذه الكلمات وهي: يجدون نعمةً، ومن ثم أن الذين يلتجئون الى مريم يحصلون على نعمة الله. ثم أنه في العدد الأخير من الاصحاح المذكور توجد مدونةً هذه الكلمات وهي: أن من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من الرب: فهنا القديس بوناونتورا يهتف عند تفسيره الكلمات المقدم ذكرها قائلاً: أسمعوا يا معشر الذين يشتهون الحصول على ملكوت الله. فكرموا مريم تجدوا الحياة والخلاص الأبدي* والقديس برنردينوس السياني يقول (في الرأس8 عظة61 ممن المجلد الأول من تأليفه): أن الله أنما لم يرد أن يبيد الانسان من الوجود بعد سقوطه بالخطيئة في عدن، لأجل الحب الخاص الذي كان يحب به هذه الابنة العتيدة: ثم بعد ذلك يقول هذه الألفاظ الأخرى وهي: أنني لا أرتاب في أن كل المراحم والغفرانات التي فاز بها الخطأة في زمن الناموس القديم، فالله قد منحهم اياها ملاحظةً لهذه البتول المباركة لا غير.* فلهذا يحرضنا حسناً القديس برنردوس بقوله: أن كنا أضعنا نعمة الله نحن الأشقياء، فلنجتهد في أن نكتسبها ثانيةً بواسطة مريم: لأننا أن كنا أضعنا هذه النعمة فمريم قد وجدتها، ومن ثم كان القديس المذكور يسميها: واجدة النعمة: أو ظافرة بالنعمة. وهذه الصفة قد نعتها بها لتعزيتنا العظيمة القديس جبرائيل رئيس الملائكة بقوله لها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمةٍ من عند الله: (لوقا ص1ع30) ولكن لأمرٌ محقٌ هو أن مريم قط لم توجد خاليةً من نعمة الله. فكيف اذاً زعيم الملائكة جبرائيل يقول لها: قد وجدت نعمةً: أو ظفرت بنعمةٍ من عند الله: والحال أن من يجد شيئاً أو يظفر بشءٍ، فيلزم أن لا يكون هو قبلاً حاصلاً عليه. فالبتول القديسة قد كانت دائماً مع الله، وحاصلةً على الدوام في حال النعمة، بل ممتلئة منها، كما أعلن ذلك القديس جبرائيل رئيس الملائكة نفسه، حالما أنتصب أمامها هاتفاً نحوها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ: فأن كانت اذاً مريم لم تجد هذه النعمة أو تظفر بها لذاتها، لأنها وجدت دائماً ممتلئةً منها. فلمن وجدتها؟ فيجيب عن ذلك في تفسيره النص المتقدم ذكره الكردينال أوغون الجليل قائلاً: أن مريم قد وجدتها للخطأة الذين كانوا أضاعوها، فليسرع اذاً جرياً نحو مريم أولئك الخطأة الذين أضاعوا النعمة، لأنهم عندها من دون ريب يجدون هذه النعمة المفقودة منهم، وليقولوا لها هكذا: أيتها السيدة أن الشيء الضائع يلزم أن يرد لمن أضاعه. فهذه النعمة التي أنتِ وجدتيها ليست هي لكِ، لأنكِ أنتِ قط ما أضعتيها. فهي لنا لأننا نحن الذين أضعناها. ولهذا يلزمكِ أن ترديها لنا. ثم يستنتج من هذا الرأي ريكاردوس الذي من سان لورانسوس (في كتابه2 على العذراء) بقوله: فأن كنا اذاً نرغب أن نحصل على نعمة الله، فلنذهب نحو مريم التي قد وجدت هذه النعمة. ودائماً هي واجدتها: ولأنها قد كانت على الدوام، كما هي الآن ولم تزل سرمداً محبوبةً عزيزةً لدى الله، فإذا ما التجأنا اليها، فمن دون كل ريبٍ نحصل على النعمة: ثم مما جاء مدوناً عن هذه السيدة في العدد العاشر من الاصحاح الثامن والأخير من سفر نشيد الانشاد المقدس وهو: أنا سورٌ وثدياي كبرجٍ. فكنت أنا في عينيه كواجدة سلامٍ: يتضح أن الله قد أقامها سوراً وملجأً لنا لأجل حمايتنا. وواسطة فيما بيننا نحن الخطأة وبينه تعالى للسلام، فسنداً على الكلمات المقدم ذكرها يشجع القديس برنردوس الخاطئ قائلاً له: أمضِ الى أم الرحمة هذه، وأكشف لها الجراحات الكائنة في نفسك من قبل خطاياك، وحينئذٍ هي بتأكيدٍ تتضرع الى ابنها بأن يغفر لك أكراماً للحليب الذي أرضعته إياه من ثدييها، وابنها لحبه اياها العظيم يستجيب من كل بد تضرعها من أجلك: كما يتضح من عملية الكنيسة المقدسة التي تجعلنا أن نطلب من الله أن يمنحنا معونة شفاعة مريم ذات الاقتدار، لكي ننهض من أحداث خطايانا. وذلك بواسطة تلك الصلاة الاعتيادية وهي: امنح أيها الإله الرحوم عوناً لضعفنا، حتى نحن المحتفلين بتذكار القديسة والدة الإله، فبمعونة شفاعاتها نكون ناهضين من سقطات مآثمنا وقباحتنا.* فاذاً بالصواب يسمي مريم البتول القديس لورانسوس يوستينياني: رجاء عمال الأثم. لأنها هي وحدها تلك التي تستمد لهم من الله غفران خطاياهم. وكذلك بكل لياقةٍ يدعوها القديس برنردوس: سلم الخطأة: لأن هذه الملكة الشفوقة. اذ تمد يدها الى الأثمة المساكين الواقعين في حفرة الخطيئة، فتنتشلهم مصعدةً أياهم من هوة الأثم الى الله كعلى سلمٍ. وهكذا بكل عدالةٍ يسميها القديس أوغوسطينوس: (في عظته18 على القديسين) "رجانا نحن الخطأة". لأننا بوساطتها هي وحدها نترجى الصفح عن ذنوبنا كلها، وهذا نفسه يقوله القديس يوحنا فم الذهب أي: أن الخطأة بشفاعات مريم فقط يفوزون بالغفران من الله. ومن ثم بعد ذلك يحييها بالسلام عن لسان جميع الخطأة (في فرض عيد ميلادها) قائلاً: السلام عليكِ من الرب يا والدة الإله وأمنا، أيتها العرش السماوي حيث يجلس الله، فأنت هي السدة التي منها يوزع الرب أنعامه كلها، فتوسلي الى يسوع دائماً من أجلنا، لكي نستطيع بواسطة صلواتكِ أن نستمد الغفران في يوم المحاسبة، ونفوز بالمجد الطوباوي الى الأبد.* وأخيراً بالصواب تدعى مريم مطلع الصبح كما هو مدون عنها هكذا: من هي هذه المستشرقة كمطلع الصبح جميلة كالقمر منتخبة كالشمس: (نشيد الانشاد ص6ع9) أي نعم أنها هي الفجر الصباحي، لأن الحبر الأعظم أينوشانسيوس يقول (في عظته الثانية على صعودها): أنه من حيث أن الصباح هو نهاية الليل وبداية النهار، فبالصواب أن مريم البتول قد شبهت بالصبح، لأنها هي نهاية الرذائل وبداية الفضائل: فالمفعول عينه الذي صنعته مريم في العالم حين ميلادها تفعله في نفس كل انسانٍ حين تتلد فيه العبادة نحوها، ولذلك يخاطبها القديس جرمانوس (في عظته الثالثة على نياحها) قائلاً: يا والدة الإله أن حمايتكِ ونصرتكِ هي عديمة الفناء، وشفاعتكِ هي الحيوة: وفي عظته المختصة بعيد وضع زنارها يقول: أن إسم مريم لمن يتلفظ به بحسن عبادةٍ وحبٍ هو علامة وجود الحياة. أو أنه من دون أبطاءٍ يحصل المتلفظ به على الحياة.* فقد رتلت هي نفسها قائلةً: ها منذ الآن يعطيني الطوبى جميع الأجيال: (لوقا ص1ع48) فيقول نحوها القديس برنردوس. (في عظته المختصة بالعنصرة): أي نعم يا سيدتي لأجل ذلك يدعوكِ طوباوية البشر جميعهم. لأن عبيدكِ كلهم ينالون بواسطتكِ حياة النعمة والمجد الأبدي: (ويقول في خطبته على ميلادها) أن الخطأة بكِ يجدون الغفران، وأما الصديقون فيحصلون بكِ على نعمة الثبات، وبعد ذلك على الحياة السرمدية: (وهنا يتكلم المتعبد لها يرنردينوس البوسطي في عظته على ميلادها قائلاً): لا يقل رجاك أيها الخاطئ، حتى ولو أنك تكون أرتكبت أفعال الخطايا كلها. بل ألتجِ بطمأنينةٍ الى هذه السيدة لأنك تجدها مملؤة اليدين من الرحمة... فمريم ترغب أن تصنع معك الخير وتهبك النعم. بأكثر وأفضل مما أنت ترغب وتشتهي أن تقتبل منها.* ثم أن القديس أندراوس الأقريطشي يسمي مريم: طمأنينة الغفران الإلهي: وهذا يفهم به أنه حينما تلتجئ الخطأة الى مريم لكي يتصالحوا مع الله، فالباري تعالى يعدهم بالغفران بنوعٍ أمينٍ كليّ الطمأنينة، ويعطيهم عربوناً لهذه الطمأنينة مريم نفسها، التي قد وهبناها عز وجل محاميةً عنا، ولأجل شفاعاتها يغفر الخطايا بقوة أستحقاقات يسوع المسيح لأولئك الذين يستغيثون بها ويقصدون نصرتها. والقديسة بريجيتا قد عرفت من الملاك (في الرأس9) أن الأنبياء القديسين كانوا يتهللون عندما عرفوا أن الله لأجل تواضع مريم وطهارتها، كان مزمعاً أن يرتضي بمصالحة الخطأة، وبان يتقبل في نعمته أولئك الذين كانوا أغاظوه.* فلا ينبغي لكائنٍ من كان من الخطأة أن يخاف أصلاً، من أنه يمكن أن مريم تطرده خارجاً، اذا أستدعاها لمعونته مستغيثاً برأفتها، كلا، لأنها هي أم الرحمة، وبحسب صفتها هذه ترغب خلاص الخطأة الأكثر شقاوةً. فيقول القديس برنردوس: أن مريم هي تلك السفينة التي كل من يحتمي فيها لا يدركه الغرق الأبدي: فداخل سفينة نوح قد خلصت من الطوفان البهائم والوحوش أيضاً. وهكذا ضمن حماية مريم وتحت ظل عنايتها تخلص الخطأة أيضاً. فالقديسة جالتروده قد شاهدت في الرؤيا يوماً ما مريم البتول مقتبلةً تحت أذيال برفيرها كثرةً من الوحوش الضارية، أسوداً، نمورةً، دبباً وغيرها، ثم لاحظت كيف أن مريم ليس فقط لم تكن تطرد من حولها تلك الوحوش، بل بالعكس كانت بأشفاقٍ وحنوٍ تجمعها وتلاطفها وتنعطف نحوها، ومن هذه الرؤيا قد عرفت القديسة أن الخطأة الأشد تعاسةً والأكثر أثماً، حينما يبادرون الى حماية هذه الأم الرأوفة، فلا يقصون من أملهم مطرودين، بل يقبلون منها مخلصين من الموت الأبدي، فلنذهب اذاً وندخل ضمن هذه السفينة، ولنلتجِ تحت ذيل حماية مريم التي من المؤكد لا تطردنا، بل من دون ريبٍ تهتم في أمر خلاصنا* * نموذج * أن الأب بوفيوس يخبرنا فيما بين الأشياء الأخرى عن أمرأة رديئة السيرة أسمها هيلانه. فهذه اذ أتفق لها يوماً ما بطريق الصدفة، أن تستمع في الكنيسة عظةً مختصةً بالوردية، فلما خرجت من المعبد الإلهي أشترت مسبحةً من مسابح الوردية، الا أنها حملتها خفيةً كيلا يراها أحدٌ، ثم شرعت فيما بعد تمارس صلاة هذه المسبحة، ومع أنها كانت تتلوها من دون عواطف العبادة، فمع ذلك قد أفاضت البتول القديسة في قلبها عذوبةً وتعزيةً بهذا المقدار عظيمةً عندما كانت تصلي بها، حتى أنها ما عادت تعرف تهمل تلاوتها، وبذلك قد حصل عندها تكرهٌ ونفورٌ من سيرتها القبيحة، بنوع أنها لم تعد تحتمل توبيخ ضميرها الشديد، أو تجد راحةً لأفكارها القلقة. ومن ثم شعرت بنفسها منجذبةً بأغتصابٍ الى أن تمضي تعترف بخطاياها في منبر التوبة. كما فعلت حقاً بتوجعٍ وندامةٍ قلبيةٍ بهذا المقدار عظيمةٍ، حتى أن معلم أعترافها قد أستوعب من ذلك أنذهالاً، فبعد نهاية الاعتراف ذهبت أمام هيكل والدة الإله، لكي تقدم الشكر لمعينتها هذه المقتدرة، وهناك أكملت صلوة الوردية، فالأم الإلهية قد تنازلت لأن تخاطبها من تلك الأيقونة قائلةً لها: يكفيكِ يا هيلانه ما قد أغظتِ به الله لحد الآن، وما أهنتيني به، فمنذ هذا اليوم فصاعداً غيري سيرتكِ، وأنا سأهبكِ جانباً ليس بقليلٍ من أنعامي: فهيلانه الخاطئة المسكينة قد أمتلأت خجلاً وأنذهالاً وأجابتها هاتفةً: أيتها البتول الكلية القداسة، أنني بالحقيقة قد عشت لحد هذا الوقت خاطئةً أثيمةً شقيةً دنسةً، ولكن أنتِ من حيث أنكِ قادرةٌ على كل ما تشائين، فعينيني لأني أهبكِ ذاتي بجملتها. وأريد أن أصرف ما بقي من حياتي في أعمال التوبة وفاءاً عن مآثمي. ثم خرجت من الكنيسة وبمعونة والدة الإله قد وزعت كل ما كانت تملكه على الفقراء والمحتاجين، وشرعت تمارس أفعال التوبة الأشد صرامةً. فأي نعم أن التجارب قد نهضت لمحاربتها ووثبت عليها بقوةٍ كلية. الا أنها أي هيلانه لم تكن تغفل عن الألتجاء المتصل الى معينة التائبين، وبذلك كانت دائماً تنتصر على أعدائها الجهنميين، وقد حصلت على انعامٍ وافرةٍ فائقة الطبيعة، حتى أنها فازت بأوحيةٍ وجلياناتٍ سماوية وبروح النبوة أيضاً. وأخيراً قبل نياحها بأيامٍ وجيزة، قد أنذرتها والدة الإله مخبرةً اياها عن وقت خروجها من هذه الحياة. ولما جاءت الساعة قد حضرت اليها هذه الأم الإلهية عينها مع ابنها الحبيب لتعزيتها، وعند أنفصالها من الجسد قد شوهدت نفسها بصورة حمامةٍ بيضاء جزيلة الجمال، قد تراقت متطايرةً الى السماء لتمجد الله في السعادة الأبدية سرمداً.* † صلاة † هوذا أنني منطرحٌ على قدميكِ يا والدة إلهي. يا رجاي الوحيد أنا الخاطئ الشقي طالباً منكِ الرأفة. فأنتِ تدعين من الكنيسة كلها ومن المؤمنين أجمعين: ملجأ الخطأة: فاذاً أنتِ هي ملجأي ويخصكِ أن تخلصيني: فأنتِ تعلمين كم هي عظيمة رغبة ابنكِ أمر خلاصنا، وتعرفين يا والدة الإله الكلية الحلاوة مقدار ما يسر وحيدكِ المبارك بتخليصنا: (غوليالموس الباريسي) ومعلومٌ هو لديكِ كم قد أحتمل يسوع لأجل خلاصي، فأنا أذكركِ يا أمي بألام حبيبكِ. وهي البرد الذي تكبده في مغارة بيت لحم، مشقة هربهِ الى مصر، أتعابه، أعراقه، دمه الذي سفكه، أوجاع الموت التي أحتملها أمام عينيكِ مقتولاً على الصليب، فأوضحي ذاتكِ أنكِ تحبين هذا الابن الإلهي. في الوقت الذي فيه أنا أتوسل اليكِ بأن تعينيني حباً به. أمددي يدكِ اليَّ أنا الواقع الملتمس منكِ الشفقة. فلو أني أكون قديساً لما كنت طلبت الرحمة، بل من حيث أني خاطٍ فأنا ملتجٍ اليكِ لكونكِ أم المراحم، فأنا أعلم أن قلبكِ الحنون يتعزى كثيراً بأعانة البائسين، حينما يمكنكِ أن تعينيهم اذ لا تجدينهم مصرين على آثامهم. فاذاً أبهجي اليوم قلبكِ الرأوف وعزيني، لأنه توجد لكِ حجة لأن تخلصيني. اذ أني مسكينٌ مستحق جهنم، وتقدرين أن تساعديني، لأني لا أريد أن أكون مصراً على عمل الخطيئة. فأنا أضع ذاتي في يدكِ، فقولي لي ماذا يجب أن أصنع. وأستمدي لي قوةً لأقدر أن أتمم ما ترسمينه عليَّ، في الوقت الذي فيه أنا أقصد أن أفعل كل ما يمكنني صنعه، لكي أرجع الى حال النعمة الإلهية. فأنا أهرب محتمياً تحت كنف وقايتكِ، وابنكِ يسوع يريد أن التجئ اليكِ. حتى لأجل مجده ومجدكِ بحسب كونكِ أمه يسعفني للخلاص ليس فقط دمه المسفوك لهذه الغاية، بل معونة صلواتكِ أيضاً من أجلي لديه. فهو أرسلني اليكِ لكي تعينيني، وهوذا أنا أسرعت مستغيثاً بكِ. وواثقاً فيكِ برجاءٍ وطيدٍ، فأنتِ تطلبين متضرعةً من أجل الكثيرين. فصلي من أجلي أنا أيضاً ولو كلمةً واحدةً. قولي لله أنكِ تريدين أن تخلصيني. وحينئذٍ لا ريب في أنه تعالى يخلصني، فقولي له أني أنا خاصتكِ، وأكثر من هذا أنا لا أطلب منكِ.* † † الجزء الثاني † https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg * أن مريم هي حياتنا كونها تستمد لنا نعمة الثبات في البر* †بي تمتلك الملوك، والذين يعملون فيَّ لا يخطئون (أمثال 8/15) مغبوط الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يوم عند أبوابي ويحفظ أوزان مداخلي. (أمثال 8/34) † أن نعمة الثبات الأخيرة هي موهبة إلهية عظيمة جداً، وكما حدد المجمع التريدنتيني المقدس هي موهبةٌ مجانيةٌ مطلقاً، لا يمكننا أصلاً أن نستحقها بذواتنا، بل كما يعلّم القديس أوغوسطينوس أن كل أولئك الذين يلتمسون من الله نعمة الثبات فينالونها، وحسبما يقول سوارس أنهم حقاً ينالونها من دون خللٍ، طالما يداومون على أن يطلبوها من الله بأجتهاد لحد نهاية حياتهم، لأن هذا الثبات على ألتماسها يومياً. كما يقول الكردينال بالارمينوس يعتبر كبرهان على أنهم يومياً ينالونها. فإن كان أمراً حقيقياً هو أن كل النعم التي تفاض علينا من الله. فتتوزع علينا بواسطة مريم البتول. حسب الرأي الكائن الأن رأياً عاماً، والذي أنا أعتده صادقاً، كما سأبرهن عنه في الفصل السادس من هذا القسم، فكذلك يكون أمراً حقيقياً هو اننا بواسطة مريم فقط. يمكننا أن نرجوا نعمة الثبات الأخيرة هذه العظمى وأن نفوز بها. ومن دون ريبٍ نحن ننالها أن كنا نطلبها بدالةٍ وبحسن أتكالٍ دائماً من هذه القديسة، التي هي نفسها وعدت بأن تمنحها لكل أولئك الذين يخدمونها بأمانةٍ في هذه الحيوة. حسبما تستخدم الكنيسة المقدسة عن لسانها في خدمة عيد الحبل بها، كلمات العدد الثلاثين من الاصحاح الرابع والعشرين من سفر حكمة ابن سيراخ، وهي هذه: أن الذين يعملون فيَّ لا يخطئون، ومن شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية.* فلكي ننحفظ نحن في حياة النعمة الإلهية، فضروري لنا هو أن نكون حاصلين على القوة الروحية، ليمكننا أن نصادم كل أعداء خلاصنا، فهذه القوة نحن نقدر أن نحصل عليها بواسطة مريم فقط، كما جاء عنها في العدد الرابع عشر من الاصحاح الثامن من سفر الأمثال بهذه الكلمات: لي هي القوة بي تتملك الملوك: فاذاً مريم تقول أن هذه القوة هي لي. لأن الله قد دفع في يدي هذه الموهبة لكي أوزعها أنا على المتعبدين لي. وبي تتملك الملوك، أي أن عبيدي بواسطتي يتملكون مسلطين على حواسهم كلها، وعلى آلامهم، وبهذه الصورة يؤهلون لأن يملكوا فيما بعد الملك السماوي الى الأبد. فيا لها من قوة عظيمة هي تلك الفائز بها المتعبدون لهذه السيدة الكلية العظمة، وبها ينتصرون على تجارب الجحيم كلها. ثم أن مريم العذراء هي ذاك البرج المدون عنه هكذا: أن عنقكِ هو كبرج داود المبني بالمحاصن المعلق عليه ألف ترسٍ وكافة أسلحة المقتدرين: (نشيد الانشاد ص4ع4) فهي نظير البرج الحصين المستدير بالأسوار لمحافظة محبينها الملتجئين اليها لتحامي عنهم، والمتعبدون لها يجدون في هذا البرج الذي هو مريم، كل الأسلحة التي بها يحاربون عن ذواتهم ضد قوات الجحيم.* فمن ثم تدعى البتول الكلية القداسة شجرة الدلب كما جاء عنها القول في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع19) هكذا أنني كالدلب أرتفعت على شط الماء في الشوارع. فالكردينال أوغون يفسر ذلك، بأن شجرة الدلب لها أوراقها بصورة الأتراس، وبذلك يتضح المعنى بأن مريم تتخذ على ذاتها حماية كل أولئك الذين يلتجئون اليها مستغيثين بمعونتها وترد عنهم قوة أعدائهم. ثم أن الطوباوي آماداوس (في ميمره الثامن) يعطي هذا النص تفسيراً آخر وهو: أن مريم تسمى شجرة الدلب، لأنه كما أن هذه الشجرة هي ذات كبرٍ وأغصانٍ ضخمةٍ وأورقٍ مدغمةٍ، وبالتالي تعطي تحتها وحولها ميداناً واسعاً، فيه يستظل المسافرون عابروا الطريق مستترين بفيها من حرارة الشمس، ومحتمين تحتها من الأمطار. فهكذا تحت أذيال حماية مريم وعنايتها، يجد البشريون ميداناً فيه يلتجئون من حرارة نيران الشهوات والآلام، ومن شدة عواصف التجارب:* فيا لتعاسة تلك الأنفس التي تبتعد عن هذا الملجأ الأمين، وتهمل التعبد لهذه السيدة. وتتغاضى عن الأستغاثة بها في حين الأحتياج، فيقول القديس برنردوس: ترى كيف يكون حال العالم سوى ظلمةٍ حالكةٍ دائمةٍ مكروهةٍ. اذا أفترضنا أن الشمس لا تعود تشرق في جلد السماء، فكذلك اذا خسرت نفسٌ ما عبادتها لمريم، فحالاً تضحى تائهةً في تلك الظلمة المقال عنها من المرتل: جعل الظلمة فكان ليلٌ وفيه تعبر سائر وحوش الغاب: (مزمور104/ع20) أي حينما لا يشرق في نفسٍ ما النور الإلهي، فيصير ظلامٌ وتضحى النفس مربضاً لوحوش الخطايا كافةً وللشياطين أيضاً. فالويل اذاً (يقول القديس أنسلموس) ثم الويل لأولئك الذين يحتقرون ضياء هذه الشمس، أي يرفضون التعبد لمريم محتقرينه: ومن ثم بالصواب كان القديس فرنسيس بورجيا يرتاب في أمكانية أن يفوز بنعمة الثبات الأخيرة، أنفس أولئك الذين لا توجد فيهم عبادةٌ خصوصيةٌ نحو البتول الطوباوية، فهذا القديس يوماً ما دخل عند المبتدئين في الرهبانية، وأخذ يفحصهم سائلاً كل واحدٍ منهم عن القديس الذي كانت له نحوه عبادةٌ أشد حرارةً، ومن ذلك عرف أن البعض منهم لم تكن فيهم هذه العبادة لمريم العذراء، فأستدعى معلم المبتدئين وحرضه بالسهر بنوعٍ خاص على تصرفات المشار اليهم، الذين قد تحقق عنهم فيما بعد بالعمل أنهم أضاعوا أثمار دعوتهم بتعاسةٍ. لأنهم خرجوا من الرهبنة. فاذاً ليس من دون برهان راهن كان القديس جرمانوس يسمي والدة الإله: نسمة حياة المسيحيين: مبرهناً ذلك بقوله (في خطبته على والدة الإله): أنه كما أن الجسد لا يمكنه أن يحميى من غير التنفس فهكذا النفس لا يمكنها أن تحميى من دون أن تلتجئ الى مريم، التي بوساطتها نحن بالحقيقة نكتسب النعمة الإلهية حياة النفس وننحفظ بها. فقد أتفق يوماً ما أن الطوباوي ألانوس قد حصل في تجربةٍ لفعل الخطيئة، ومن كونه تغاضى عن أن يلتجئ الى والدة الإله مستغيثاً بمعونتها، فكاد عما قليلٍ أن يتكردس متهوراً في هوة الأثم، الا أن هذه السيدة قد ظهرت له، ولكي تجعله في المستقبل أكثر حرصاً، قد لطمته على خده قائلةً له: أنك لو كنت أستدعيتني لمعونتك حالاً، لما كنت حصلت في هذا الخطر المبين.* وبالعكس (تقول مريم): مغبوطٌ هو الانسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبوابي ويحفظ أوزان مداخلي: (سفر الأمثال ص8ع34: كما ترتل الكنيسة في عيد الحبل بهذه السيدة) أي الطوبى لذلك الانسان الذي يصغي الى صوتي، ولذلك يلبث مستيقظاً ويأتي بأتصالٍ ليقرع أبواب رحمتي، ويستمد مني الاستنارة والمعونة. على أن البتول مريم تهتم في أن تستميح من الله لهذا المتعبد لها نوراً وقوةً. ليمكنه أن يخرج من عوائده الرديئة، ويسلك في سبل الفضائل، ولذلك نعتت العذراء المجيدة من الحبر الأعظم أينوشانسيوس الثاث في عظته الثانية على صعودها الى السماء بهذه الكلمات وهي: أن مريم هي قمرٌ في الليل، ونجمةٌ في الصبح، وشمسٌ في النهار: فهي قمرٌ لمن هو أعمى في ليل الخطيئة. لكي تنيره لمعرفة الحال الشقية الكائن هو بها المؤدية إياه الى الهلاك. وهي نجمة الصبح أي (سابقة الشمس ومنذرة بقرب أشراقها) لمن قد أستنار عقله. وعرف سوء حاله، لكي تصيره أن يخرج من هوة الآثام ويرجع الى حال النعمة الإلهية، وهي أخيراً شمسٌ لمن هو حاصلٌ على نعمة التقديس، لكيلا يرجع متهوراً بالسقوط في خطيئةٍ ما.* ثم أن العلماء يخصصون مريم الطوباوية بتلك الكلمات المقولة في حكمة ابن سيراخ وهي: أن رباطاتها هي رباطات الخلاص: (ص6ع31): فما هي رباطات الخلاص (يسأل القديس لورانسوس يوستينياني، ويجيب هو على سؤاله بقوله) هي أن مريم توثق عبيدها برباطات الحفظ الخلاصية، لكيلا يتوهوا في طريق الرذائل: والقديس بوناونتورا في تفسيره الكلمات الأخرى وهي في جمهور القديسين مقامي: (ابن سيراخ ص24ع16) يقول هكذا: أن مريم ليس فقط أن مقامها هو في جمهور القديسين، بل أيضاً هي تحفظ القديسين (أي الأبرار الأحياء في العالم) لكيلا يرجعوا الى الوراء متقهقرين. وتحفظ فضائلهم كيلا تنقص فيهم، وتمنع الشياطين لكيلا يضروهم بشيء رديء:* وقد يقال أن المتعبدين لمريم هم متردون بأثوابٍ مضعفةٍ، كما هو مكتوب: أن أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضاعفةً (أمثال ص31ع21) فكورنيليوس الحجري يفسر ما هي هذه الثياب المضعفة بقوله: أن البتول القديسة تزين عبيدها الأمناء بفضائل أبنها وبفضائلها هي أيضاً، واذ يكونون على هذه الصورة لابسين أثواب الفضائل. فينحفظون في نعمة الثبات: ولذلك القديس فيلبس نيرى كان دائماً يرشد تلاميذه قائلاً لهم: يا أولادي أن كنتم ترغبون نعمة الثبات الأخيرة. فكونوا حسني العبادة لمريم العذراء: وكذلك كان يقول الطوباوي الأخ يوحنا باركمانس اليسوعي: أن من يحب مريم ينل نعمة الثبات الأخيرة: ونعما الرأي هو ما يلاحظه الأنبا روبارتوس في مثل الابن الشاطر بقوله: أنه لو كانت أم هذا الابن المتمرد بعد حيةً. فأماً أنه لم يكن قط أبتعد عن بيت أبيه. وأما أنه لما كان تأخر عن الرجوع كل ذاك الزمان المستطيل: ويعني بهذا أن من هو ابنٌ لمريم البتول. فأما أنه لا يبتعد أصلاً عن الله. وأما اذا أبتعد لسوء حظه فلا يبطؤ عن الرجوع اليه تعالى بالتوبة.* فليت كل البشر يحبون هذه السيدة الكلية الأشفاق والمحبة، وفي حين محاربتهم من التجارب يلتجئون اليها سريعاً، فاذا فعلوا ذلك أهل يسقط أحدٌ منهم في الأثم، او هل يمضي أحدٌ منهم هالكاً، كلا، بل أنه يسقط في هوة الخطيئة وينحدر الى هاوية الجحيم من لا يلتجئ الى هذه الملكة. فالقديس لورانسوس يوستينياني يخصص بوالدة الإله تلك الكلمات المقالة في سفرحكمة ابن سيراخ (ص24ع8) وهي: في أمواج البحر مشيت: ثم يجعلها أن تتكلم هكذا: أنني أمشي جملةً مع عبيدي فيما بين العواصف حيث هم يوجدون، لكي أساعدهم معينةً، وأخلصهم منجيةً من هوة الأثام ومن بحر الخطيئة.* فيخبر الأب برنردينوس البوسطي أن البعض من مربي الطيور المناغية كان علم طيراً صغيراً هذه الكلمات وهي: السلام لكِ يا مريم: ليناغي بها. فيوماً ما أنقض الطير الخطاف وهو الباشق على ذاك الطير الصغير ليخطفه ممزقاً، الا أنه حالما الطير صرخ السلام لكِ يا مريم: فالباشق سقط في الأرض مائتاً، فبهذا الحادث أراد الباري تعالى أن ينبهنا، على أنه أن كان طيرٌ عديم التعقل قد خلص من الموت، لتلفظه بأسم مريم، فكم بأولى حجةٍ ينجو من التجارب ومن وثبات الشياطين. ذاك الذي يهتم في أن يعود ذاته على الألتجاء الى هذه السيدة مستغيثاً بها. فيقول القديس توما الفيلانوفي (في عظته على ميلاد البتول) أنه لا يلزمنا أن نصنع شيئاً آخر في حادث التجارب حينما تأتي ضدنا الأبالسة لتجربنا، سوى ما تصنعه فراخ الدجاجة حينما ترى الطير الخطاف، أي أنها تهرب سريعاً وتختفي تحت جناحي الدجاجة، فهكذا نحن عندما نشعر بقدوم التجربة وبالهواجس الرديئة، فمن دون أبطاءٍ ومن غير أن نتكلم شيئاً ما عن التجربة. فلنسرع واضعين ذواتنا تحت كنف هذه الأم الإلهية: (ثم يقول أيضاً): وأنتِ أيتها السيدة أمنا يلزمكِ أن تحمينا منجيةً لأنه لا يوجد لنا بعد الله ملجأٌ آخر سواكِ، فأنتِ هي رجاؤنا الوحيد والمحامية عنا الفريدة، وبكِ نثق مطمئنين.* فلنختتم اذاً الأيراد مع القديس برنردوس (في ميمره على أنجيل البشارة) بقوله: أيها الإنسان من أية رتبة كنتَ، فأنتَ تعلم أنك في هذه الحياة لا تزال سائراً في بحرٍ عجاجً فيما بين الأخطار والتهلكات المملؤة منها هذه الأرض، فان كنت لا تريد أن تغرق هالكاً، فلا تحد نظرك عن هذه النجمة التي هي مريم، بل تفرس فيها وأستغث بها، ثم في أخطار الخطايا، وفي حدوث الأنزعاجات والمصائب والتجارب والأرتيابات، وفي الأشياء التي يلزمك أن تمارسها وتعتمد عليها، أفتكر دائماً في أن مريم تقدر أن تعينك، ولذلك أدعها اليك مستغيثاً بها، فهي تعضدك وتنقذك، فلا يبرح من قلبك أسمها المقتدر بحسن الأتكال، ولا ينتزح عن شفتيك بأستدعائك اياها لمعونتك، فان كنت تتبع هذه السيدة لاحقاً، فلا تضل في الطريق تائهاً عن سبيل الخلاص، وطالما أنتَ ملتجٍ اليها. فلا يمكن أن تخيب من رجائك، واذا هي مسكتك بيدها، فلن تسقط أبداً، وان هي حامت عنك، فليس لك أن ترتاب في خلاصك، وان هي قادتك، فمن دون تعبٍ أنت تبلغ الى السعادة الأبدية، وبالأجمال أن كانت مريم تهتم في أمورك، فمن دون ريب أنت تمتلك السماء.* * نموذج * أنها لشهيرة هي حياة القديسة مريم المصرية المدونة في الكتاب الأول من سير الآباء. فهذه اذ كان عمرها أثنتي عشرة سنةً، هربت من بيت أهلها ومضت الى المدينة الاسكندرية حيث عاشت بسيرة هكذا قبيحة، حتى أنها صارت حجر عثرةٍ لجميع سكان المدينة. فبعد أن أستمرت على عمل القبائح مدة ست عشرة سنة، مضت الى أورشليم في زمن الأحتفال بعيد رفع الصليب المقدس. وتحركت لأن تدخل هي أيضاً الى الكنيسة بروح التفرج أحرى مما بروح العبادة، ولكن عندما دنت من باب المعبد الإلهي، شعرت بيدٍ غير منظورة كانت تردها غصباً الى الوراء كيلا تدخل داخلاً، واذ أمتحنت الأمر مرةً ثانيةً ثم ثالثةً ورابعةً، ومنعت بقوةٍ فائقة الطبيعة عن الدخول الى الكنيسة. فحينئذٍ قد أنفردت في ناحيةٍ من النرتكس، وعرفت الشقية ليس من دون أشراق النور الإلهي في عقلها، أن الله لأجل قبائح سيرتها قد كان يرذلها من كنيسته أيضاً، فلأجل حسن حظها قد رفعت عينيها حيث كانت، فرأت أمامها على الحائط أيقونة العذراء المجيدة، فأتجهت نحوها بدموع قائلةً: يا والدة الإله أرحمي هذه الخاطية المسكينة، فأنا ألاحظ أنه لأجل كثرة خطاياي لا أستحق أن تنظري اليَّ، ولكن أنتِ هي ملجأ الخطأة، فعينيني حباً بأبنكِ يسوع، وأجعليني أن أدخل الكنيسة، لأني أريد أن أغير سيرتي، وأمضي فأمارس أفعال التوبة حيثما تريدين: فحينئذٍ قد شعرت كأن البتول القديسة كانت تقول لها باطناً: أنه لأجل أنكِ التجأتِ اليَّ قاصدةً أن تتوبي عن مآثمكِ، فأنهضي وأدخلي الكنيسة لأن بابها عاد مفتوحاً لكِ: فقامت ودخلت بيت الرب وسجدت للصليب المقدس وبكت على خطاياها، ثم رجعت أمام الأيقونة قائلةً: يا سيدتي أوضحي لي أين أنفرد لعمل التوبة. اذ أني مستعدةٌ لأن أتمم ما ترسمينه عليَّ: فأجابتها العذراء الطوباوية بقولها: أذهبي الى جايز الاردن، وهناك تجدين مكان راحتكِ: فأنطلقت وأعترفت بخطاياها وتناولت القربان الأقدس وأجتازت نهر الاردن، ودخلت الى القفر الذي فهمت هي أنه فيه كان يلزمها أن تباشر أفعال التوبة. ففي مدة السبع عشرة سنة الأولى التي مكثت بها في ذلك القفر، قد أحتملت محارباتٍ شديدةً من التجارب الشيطانية، ولكن ماذا كانت تصنع هي حينئذٍ، أنها لم تكن تفعل شيئاً آخر سوى الألتجاء المتصل لوالدة الإله. وهذه الأم الرأوفة قد أستمدت لها من الله قوةً لأن تقاوم الأرواح الجهنمية في بحر تلك السنين وتنتصر عليها، وهكذا عند نهاية السبع عشرة سنة قد هدأت عنها التجارب، وأستمرت هي في ذلك القفر الى حد السنة السابعة والخمسين من أنفرادها فيه. فلما بلغت الى السنة السابعة والثمانين من حياتها. فبعنايةٍ إلهيةٍ قد وجدها هناك الأنبا القديس زوسيموس، الذي أخبرته هي بسيرة حياتها كلها، وتوسلت اليه بأن يأتيها في السنة المقبلة بالقربان الأقدس. كما تمم هو مطلوبها برجوعه اليها وبمناولته اياها السر المسجود له، ثم بعد ذلك تضرعت اليه بأن يزورها في السنة الأخرى أيضاً. الا أنه حينما رجع اليها في الميعاد قد رآها مائتةً، وكان جسدها محاطاً بأشعةٍ نورانيةٍ، ورأى مكتوبةً عند رأسها هذه الكلمات وهي: أدفن في هذا المكان جسدي أنا الخاطئة المسكينة وصلي من أجلي لدى الله. فقد دفنها عندما جاء اليه أسدٌ وحفر له الأرض، ثم رجع الى ديره وأخبر بعجائب الرحمة الإلهية التي صنعها الله مع هذه التائبة السعيدة.* † صلاة † أيتها الفائقة القداسة أم الرأفة مريم البتول، هوذا عند قدميكِ منطرحٌ الإنسان الخائن. الذي لأنه أوفى بئس المكافأة، بل بنكران لجميل النعم التي نالها من الله بواسطتكِ، فحصل خائناً لله ولكِ، ولكن أعملي أيتها السيدة أن شقاوتي هذه ليس فقط لا تنزع مني رجاي فيكِ، بل أيضاً توطده وتزيدني أملاً وثقةً بكِ، لأني أعتبر أن شقاوة حالي تضاعف فيكِ الشفقة نحوي. فأظهري ذاتكِ يا مريم، أنكِ أنتِ بالنسبة اليَّ هي تلك الرحومة عينها نحو كل أولئك الذين يستغيثون بكِ، المملؤة من السخاء والرأفة، فيكفيني أن ترمقيني بنظركِ العطوف وأن تشفقي عليَّ، فان كان قلبكِ يحنو عليَّ، فلا يمكنكِ أن لا تحامي عني. واذا صرت أنا في حمايتكِ فممن أخاف، كلا أنني لا أخشى من شيءٍ أصلاً، لا من قبل خطاياي، لأنكِ أنتِ قادرةٌ أن تصلحي فيَّ الضرر الذي حدث، ولا من الشياطين، لأنكِ أنتِ أقوى من الجحيم بأسره، ولا من قبل أبنكِ المغتاظ عليَّ بعدلٍ، لأنه تعالى بكلمةٍ واحدةٍ تتوسلين بها لدية من أجلي يهدأ غضبه. فأنا أنما أخاف من شيءٍ واحدٍ فقط، وهو أني أنسى أن ألتجئ اليكِ حينما تداهمني التجربة، وهكذا أهلك، ولكن هذا هو الشيء الذي أريد اليوم أن أعد به، وهو أني دائماً أسرع اليكِ ملتجئاً، فأنتِ ساعديني على أن أتمم ذلك، ثم لأحظى هذه الفرصة الجيدة التي فيها أنتِ ترغبين أن تكملي مسرتكِ، وهي أن تسعفي أحد البائسين الأذلاء الذي أنا هو.* فرجائي هو فيكِ عظيمٌ يا والدة الإله، ومنكِ أنتظر نوال النعمة بأن أبكي على خطاياي كما هو متوجبٌ عليَّ. وبأن أفوز بالقوة على أن لا أرجع الى الخطيئة، فأن كنت أنا سقيماً، فأنتِ قادرةٌ على أن تشفيني أيتها الطبيبة السماوية، وأن كانت مآثمي قد صيرتني ضعيفاً، فمعونتكِ تجعلني قوياً، فأنا أرجو كل شيء منكِ يا مريم المجيدة، لأنكِ تقدرين على كل شيءٍ لدى الله آمين.* † من يبتعد عني يضر نفسه، وكل مبغضيّ يحبون الموت (أمثال 8/36) يا مريم أنتِ رجائي، وخلاصي متعلق بكِ. † الجزء الثالث † https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg * في أن مريم البتول الحلوة اللذيذة، تجعل الموت عذباً* * للمتعبدين لها* أنه مكتوبٌ: أن الصديق يكون محباً في كل زمانٍ وأن الأخ يعرف في حين الشدائد: (أمثال ص17ع17) فالأصدقاء المحقون والأقرباءالخصيصون، لا يعرفون جيداً في زمن السعادة، بل في حين المصائب والتعاسة. فأما الأصدقاء العالميون فلا يهملون صديقهم طالما هو في السعة والنجاحات، ولكناذا سقط هو في محنةٍ، ألمت به شدة لا سيما عندما يدنو من الموت، فحينئذٍ يتركونه حالاً معرضين عنه. وأما مريم البتول فلا تتصرف هكذا مع عبيدها، لأن هذه السيدة الصالحة والأم العطوفة، لا تهمل خدامها الأمناء المتعبدين لها. ولا تتغافل عنهم في أوقات أحتياجاتهم، لا سيما عند موتهم الذي هو الوقت الأكثر أحتياجاً، لأنه زمن الشدة الأمر من كل شدائد العالم، وبحسبما أنها صارت علة حياتنا في مدة سكنانا في الأرض التي نحن فيها منفون، فهكذا توضح ذاتها أنها هي تعزيتنا ولذتنا حين موتنا، بأكتسابها لنا ميتةً حلوةً مغبوطةً، لأن هذه السيدة منذ ذاك اليوم العظيم الذي فيه حصلت هي على الحظ السعيد، وعلى الحزن الشديد معاً، بحضورها تحت صليب ابنها عند موته، فاذ كان هو رأس المنتخبين للمجد، فقد أكتسبت هي هذه النعمة، وهي أن تحضر عند جميع المختارين حين موتهم، ولذلك تصيرنا الكنيسة المقدسة أن نتوسل الى هذه البتول الطوباوية، بأنها تساعدنا بنوعٍ خاص في ساعة موتنا، بقولنا لها في السلام الملائكي: صلي لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفي ساعة موتنا آمين.* فشدائد المنازعين هي كثيرةٌ وأحزانهم مرةٌ، أولاً: لأجل توبيخ ضمائرهم عن الخطايا التي فعلوها. ثانياً: لأجل الخوف من المحاسبة والدينونة القريب حدوثها، ثالثاً: من قبل عدم معرفة حقائق أمر خلاصهم الأبدي. ففي ذاك الوقت بنوعٍ أخص تثب على تلك النفس المنازعة قوات الجحيم متسلحةً ضدها، والشيطان يبذل كل أستطاعته في أكتسابها حصته قبل أن تدخل الى الأبدية، لمعرفته أن زمناً وجيزاً بقي له في محاربتها. وأنه اذا نفذت هي من يده في تلك الساعة، فلا يعود يمكنه أن يكتسبها أبداً. كما هو مكتوبٌ في الأبوكاليبسي (ص12ع12): الويل للأرض والبحر لأن ابليس نزل اليكما، وله غضبٌ عظيمٌ، لأنه يعلم أن زمناً قليلاً بقي له. ولذلك فالشيطان الذي أعتاد أن يجرب تلك النفس في مدة حياتها، فلا يكتفي بأن يجربها هو وحده في حين أنفصالها من الجسد، بل يستدعي معه آخرين من رفاقه، كما قال أشعيا النبي: وتمتلئ بيوتهم تنانين: (ص13ع21) أي أنه حينما يدنو الإنسان من الموت، فيمتلئ بيته من الشياطين الذين يتحدون معاً لمحاربته وخسارته.* فيورد عن القديس أندراوس أفالينوس، أنه حينما دنت ساعة موته، قد جاءت اليه عشرة آلاف شيطاناً ليحاربوه بالتجارب. ولذلك قد حصل هو في حين نزاعه على معركةٍ قويةٍ جداً من القوات الجهنمية بهذا المقدار هائلة، حتى أن جميع الرهبان الذين كانوا محيطين به قد أرتاعوا خوفاً، وقد شاهدوا وجه القديس قد أنتفخ بزيادةٍ من شدة المجاهدة، وأستحال الى السواد. ونظروا أعضاء جسده كلها ترتعش فرقاً بأنزعاجٍ قويٍ، وعينيه مدرفةً تياراتٍ من الدموع، ورأسه يختبط بأغتصابٍ، وهذه العلامات كلها كانت تدل بكفايةٍ على شدة المعركة التي كان القديس يحارب بها قوات الجحيم. فالجميع طفقوا يبكون من التوجع له، ويضاعفون الصلوات والابتهالات من أجله، في الوقت الذي فيه كانوا يرتجفون من شدة الخوف والهلع اللذين ألما بهم، عند مشاهدتهم ديساً يموت على هذه الحال، غير أن تعزيتهم الوحيدة كانت قائمةً في أنهم، كانوا يشاهدونه مراتٍ مترادفةً يحول بعينيه نحو أيقونة والدة الإله الموجودة بالقرب من فراشه كمن يلتمس منها المعونة، متذكرين ما كان يقوله هو لهم في مدة حياته مراتٍ كثيرةً، بأن مريم البتول مزمعةٌ أن تكون ملجأه في ساعة موته. فقد أرتضى الله أخيراً بأن عبده هذا البار يفوز بالأنتصار الكامل المجيد، لأن جسمه قد هدأ من أختباطه، وزال أنتفاخ وجهه، وأرتد الى لونه القديم، وأحدق بنظره بعبادةٍ في تلك الأيقونة محنياً لديها رأسه بأحترامٍ، كمن يشكر فضلها، (ويظن بالصواب أن البتول المجيدة قد ظهرت له حينئذِ) وهكذا بكل هدوءٍ وسلامٍ قد أنتقل الى الحياة الأبدية، مسلماً نفسه بيدي هذه السيدة الجليلة بعذوبةٍ سماويةٍ، وفي تلك الساعة عينها كانت أحدى الراهبات الكبوجيات مدنفةً على الموت، فهتفت نحو الراهبات الحاضرات عندها قائلةً: يا أخواتي أتلون السلام الملائكي، لأنه الآن قد مات قديسٌ:* فيا لها من تعزيةٍ عظيمةٍ وهي أن المردة الجهنميين يهربون عند حضور هذه الملكة، فان كنا نحن نحصل على مريم عند ساعة موتنا محاميةً عنا، فأي خوفٍ يمكن أن يعترينا من قوات الجحيم كلها. فالنبي والملك داود عندما ألم به الخوف من التفكر في ساعة موته، قد شجع ذاته بقوة الرجاء بأستحقاقات موت مخلصه العتيد، وفي قوة شفاعة مريم البتول، ومن ثم هتف مرتلاً: أن أنا مشيت في وسط ظلال الموت فلا أخشى الشر لأنك معي، عصاك وقضيبك هما يعزياني (مزمور 22/3) فالكردينال أوغون يفسر هذه العصا بعود الصليب الذي عليه مات فادينا، ويعني بالقضيب مريم البتول، التي قيل عنها: يخرج قضيبٌ من أصل يسى، وتصعد زهرةٌ من أصله: (أشعيا ص11ع1) ثم يقول القديس بطرس داميانوس: أن هذه الأم الإلهية هي ذاك القضيب الذي به تغلب أغتصابات الأعداء الجهنميين. ولذلك أنطونينوس يشجعنا بقوله: أن تكن مريم معنا فمن يقدر أن يقاومنا. فالأب عمانويل باديال اليسوعي حينما أدنف على الموت، قد ظهرت له مريم العذراء مشجعةً إياه بقولها له: هوذا الآن قد جاءت الساعة التي فيها تفرح معك الملائكة مقدمين لك التهنئة وقائلين: يا لها من مشقاتٍ وأتعابٍ سعيدةٍ، ويا لها من أماتاتٍ وتقشفاتٍ قد كوفئت حسناً: ثم في الوقت عينه قد شوهد عددٌ جزيلٌ من الشياطين هاربين برجزٍ وصارخين: أواه يا لتعاستنا أننا ما عدنا نقدر أن نصنع شيئاً، لأجل أن تلك التي هي بريئة من العيب تحامي عنه. ومثل ذلك الأب كاسبار هيافود قد وثبت عليه الشياطين ساعة موته بتجربة قوية جداً ضد الإيمان، أما هو فألتجأ حالاً الى والدة الإله الكلية القداسة. وبعد ذلك سمع صوته هاتفاً أنني أشكركِ يا مريم لأنكِ أتيتِ لمعونتي:* أما القديس بوناونتورا: فيقول: أن مريم ترسل زعيم الملائكة ميخائيل مع ملائكته ليحاموا عن عبيدها في ساعة موتهم، ويصدموا عنهم عاجلاً محاربة الشياطين، ولكي يتسلموا أنفسهم كافةً، لا سيما أولئك الذين كانوا يلتجئون اليها على الدوام.* وأما أشعيا النبي فيقول: أن الجحيم من أسفل تمرمر من تلقاء مجيئك أثار لك الجبابرة: (ص14ع9) أي أنه عند خروج الإنسان من هذه الحياة يقلق الجحيم، ويرسل الشياطين الأشد رداوةً لكي يجربوا تلك النفس قبل أنفصالها من الجسد، ثم ليرافقوها بعد خروجها منه الى الى المحكمة الإلهية، حيث مزمعة أن تحاكم من يسوع المسيح ليشتكوا عليها هناك. الا أن ريكاردوس يقول: أنه حينما تكون تلك النفس في حماية مريم العذراء، فالشياطين لا يتجاسرون ولا على أن يشتكوا ضدها، لمعرفتهم أن القاضي قط لم يكن قبلاً حكم بالهلاك، على نفسٍ ما تكون والدته العظيمة قد حامت عنها، بل ولا هو عتيدٌ أن يحكم مثل ذلك على نفسٍ توجد تحت حمايتها. والقديس أيرونيموس كتب في رسالته الثانية الى البتول أوسطوكيو: أن مريم تساعد عبيدها المحبوبين وتعينهم. ليس في ساعة موتهم فقط، بل أنها تأتي أيضاً لملاقاتهم في دخولهم الى الحياة العتيدة، لكي تشجعهم وترافقهم الى المحكمة الإلهية، وهذا هو مطابق لما قالته والدة الإله عينها للقديسة بريجيتا، بتكلمها عن المتعبدين لها حينما يدنون من ساعة موتهم هكذا: أنني بحسب كوني سيدتهم وأمهم المكرمة منهم، أعتني بهم حين موتهم وأملأهم من التعزية والنعيم. ويضيف الى ذلك القديس فينجانسوس فراري بقوله (في عظته على عيد نياحها): أن هذه الملكة الكلية الحب تقتبل تحت برفيرها أنفس عبيدها، وهي ذاتها تقدمهن لدى أبنها الديان، وبهذا النوع تستمد لهن الخلاص من دون ريبٍ. وهذا نفسه قد حدث لكارلوس ابن القديسة بريجيتا، وهو أنه اذ مات هذا الشاب حينما كان خادماً بالوظيفة الجندية المخطرة، في مكانٍ بعيدٍ عن والدته القديسة، فهذه قد حصلت في أرتيابٍ بأمر خلاصه، الا أن الطوباوية مريم البتول قد أوحت اليها، بأن كارلوس قد فاز بالخلاص، لأجل الحب الذي كان هو يحبها به، ولذلك هي عينها قد ساعدته، وحركته الى أبراز أفعال الفضائل الضروري فعلها من المسيحيين في تلك الساعة، ثم أن القديسة قد رأت في الوقت عينه يسوع المسيح جالساً على العرش، وأن الشيطان قد أمتثل أمامه متشكياً من قضيتين، وهما أن البتول مريم قد منعته عن أن يجرب كارلوس في ساعة موته، وأنها هي أحضرت نفسه في المحكمة الإلهية وخلصتها من دون أن تعطيه زمناً لأن يقدم ضد هذه النفس، البراهين التي لأجلها كان يقتضي على زعمه أن تهلك وتكون خاصته، ثم شاهدت أخيراً أن الديان الإلهي قد طرد الشيطان من أمامه مقصياً، وأن نفس كارلوس قد أخذت الى السعادة الأبدية.* فيقول يشوع بن سيراخ (ص6ع29و31): أن رباطاتها هي رباطة الخلاص: فأن في أواخرك تجد الراحة بها: فالطوبى لك أيها الأخ أن كنت في آخر حياتك ساعة الموت، توجد مقيداً بقيود الحب العذبة نحو والدة الإله، لأن هذه السلاسل هي رباطات الخلاص، التي تضمن لك أمر سعادتك الأبدية، وتجعلك أن تتمتع حين موتك بتلك الراحة والسلام وبالهدوء المغبوط الذي يكون هو بدء السلام الدائم والنعيم السرمدي. فيخبرنا الأب بيناتي بأنه اذ أتفق له أن يحضر عند أحد المتعبدين لمريم الأتقياء حين موته، فقد سمع هو من فمه قبل رقوده هذه الكلمات وهي: آه لو كنت يا أبتي تعلم حقيقة التعزية العظيمة والسرور الباطن، اللذين أشعر أنا بهما لأجل أني خدمت والدة الإله الكلية القداسة، فأنا لا أستطيع أن أشرح لك ماهية الأبتهاج والتهليل الحاصلين في قلبي الآن في ساعة الموت: والأب سوارس لأجل أنه كان حاراً جداً في عبادته لهذه الطوباوية (حتى أنه كان يقول أن أستحقاق تلاوة السلام الملائكي مرةً واحدةً هو لديه أشرف من علومه كلها) فقد حصل ساعة موته على فرحٍ بهذا المقدار عظيمٍ، حتى أنه تفوه بهذه الكلمات حال أنفصال نفسه من جسده قائلاً: أنني لم أكن قط أتصور بعقلي أن الموت بهذ المقدار هو لذيذٌ. فمن دون شكٍ أنك أنت أيضاً أيها القارئ المتعبد لمريم، ستشعر بهذه التعزية والسرور حين موتك، أن كنت في تلك الساعة تفتكر في أنك قد أحببت في حياتك هذه الأم الصالحة، التي لا تعرف أن لا تكون أمينةً نحو أولادها، الذين يكونون أمينين في خدمتها، ويكرمونها بزيارات كنائسها أو أيقوناتها وبتلاوة ورديتها وبصياماتٍ ما. وبأكثر من ذلك بتقدمة الشكر لها مراتٍ كثيرةً، وبمدائحها وبالألتجاء المتكرر الى كنف وقايتها وطلب معوناتها.* ثم لا يمكن أن يعدمك هذا الأبتهاج الباطن تفكرك بحال كونك في زمنٍ ما قد كنت خاطئاً، هذا أن كنت منذ الآن فصاعداً تهتم في أن تعيش بسيرةٍ صالحةٍ، وفي أن تخدم هذه السيدة الكلية الحنو والأشفاق والأمينة نحو عبيدها، فهي في حين شدائدك، وفي أوقات التجارب التي يثب عليك بها الشيطان لكي يسقطك في قطع الرجاء تعضدك وتشجعك، حتى أنها هي نفسها تحضر عندك ساعة موتك لتسعفك. فالقديس بطرس دامانوس يخبر بأن شقيقه مرتينوس، قد مضى يوماً ما أمام هيكل والدة الإله، ليكرس ذاته أسيراً لها، من أجل أنه كان يعرف ذاته أنه أغاظ الله بفعلٍ أثميٍ، ثم وضع زناره في عنقه علامة أسره لها قائلاً: يا مرآة الطهارة سيدتي، أني أنا الخاطئ التعيس قد أهنت إلهي وأغظتكِ بأثلامي ختم العفة، فلا يوجد عندي دواءٌ آخر سوى أن أقدم ذاتي أسيراً لكِ، فهوذا أني اليوم أكرس نفسي عبداً لكِ، فأقبلي هذا اليائس العاصي المتمرد ولا تعرضي عنه مستكرهةً منه: ثم وضع عند درج الهيكل كميةً من المال، واعداً بأن يقدم مثلها كل سنةٍ بمنزلة جزيةٍ وخراجٍ تأكيداً لكونه أسيرها. فبعد مدةٍ من الزمان قد مرض مرتينوس المرض الأخير، ولكن قبل أن يموت قد سمعه البعض في أحد الأيام صباحاً يتكلم هكذا: قوموا ناهضين، أنتصبوا واقفين وقدموا الأكرام منحنين لسيدتي: ثم بعد ذلك قال: ما هذه النعمة العظيمة يا ملكة السماء، أهكذا أنت تتنازلين مرتضيةً بأن تزوري هذا العبد الخاطئ، فباركيني يا سيدتي، ولا تسمحي بأن أمضي هالكاً بعد أنكِ شرفتيني بحضوركِ عندي: واذ دخل حينئذٍ اليه أخوه القديس بطرس، فمرتينوس قد أخبره بمجيء والدة الإله عنده، وبأنها باركته، الا أنه تشكى له من أن أولئك الأشخاص الذين كانوا حاضرين عنده، أستمروا جالسين على الكراسي بحضرة هذه السيدة الجليلة، قال هذا وبعد برهةٍ رقد بالرب بسلامٍ وعذوبةٍ هادياً. فعلى هذه الصورة ستكون ميتتك أيها القارئ العزيز، أن كنت تعيش أميناً في عبادتك لمريم. هذا ولو كنت فيما مضى أغظت الله بآثامك، فمع ذلك هي تعتني في أنك تحصل على ميتةٍ صالحةٍ حلوةٍ لذيذةٍ. واذا أتفق أنك في حين الموت تمتلئ خوفاً ورعدةً، ويضعف رجاؤك عند تأملك كثرة خطاياك، فهذه الأم الحنونة تأتي اليك لتشجعك وتقويك، كما فعلت مع أدولفوس صاحب مقاطعة الساتسيا، الذي بعد أن كان هجر العالم وترهب تحت قانون القديس فرنسيس، كما يورد في تاريخ هذه الرهبنة. فقد أضحى كلي التعبد لوالدة الإله، فلما بلغ الى أيام حياته الأخيرة، وحضرت أمام عينيه عقلياً جميع تصرفاته التي كان مارسها في العالم، وما عامل به الرعايا الذين كانوا مخضعين له، ثم تأمل صرامة دينونة الله العادلة، فبدأ يخاف كثيراً من الموت، لأرتيابه في أمر خلاصه الأبدي. فحينئذٍ مريم (التي لا تنام حين وجود عبيدها في الشدائد) قد جاءت اليه مرافقةً من عددٍ وافرٍ من القديسين، واذ أخذت تشجعه قالت له هذه الكلمات المملؤة عذوبةً هكذا: يا أدولفوس العزيز لدي جداً، أنت هو خاصتي. وقد أعطيت لي، فالآن لماذا تخاف بهذا المقدار من الموت: فوقتئذٍ عبد مريم المذكور عندما سمع منها هذه الألفاظ قد زال عنه كل خوفٍ وأستوعب بهجةً، وهكذا تنيح مسروراً بسلامٍ.* فلنتشجع نحن أيضاً ولئن كنا خطأة، ولنسلح ذواتنا بهذا الرجاء وهو أن مريم عتيدة أن تأتي لمعونتنا في ساعة الموت، ولتعزيتنا بحضورها عندنا، هذا أن كنا نخدمها بأمانةٍ ومحبةٍ في زمن حياتنا الباقية لنا على الأرض. فملكتنا هذه اذ خاطبت يوماً ما القديسة ماتيلده، قد وعدت بأنها تأتي في ساعة الموت عند جميع المتعبدين لها، الذين يكونون في زمن حياتهم خدموها بأمانةٍ لكي تسعفهم وتعينهم، وهذه هي كلماتها:" أني أريد بحسبما أنا أمٌ كلية الحنو والأشفاق، أن أحضر من غير نقصٍ في ساعة الموت، عند جميع أولئك الذين يكونون في حياتهم خدموني بحسن عبادةٍ، لكي أحامي عنهم وأعزيهم". فيا لها من تعزيةٍ لا توصف تكون لنا في ذلك الوقت الأخير، الذي يداركنا فيه قيام الدعوى المعلقة بها الحكومة الأبدية على أنفسنا وهي، أن نشاهد عندنا ملكة السماوات مساعدةً لنا، ومشجعةً ايانا بوعدها لنا في أن تحامي عنا في تلك المحكمة الرهيبة. فما عدا النموذجات المتقدم ايرادها في شأن مساعدة مريم عبيدها ساعة الموت، توجد مدونةً في كتبٍ كثيرةٍ ومختلفةٍ، أخبارٌ غير محصاة عدداً تحقق لنا ذلك. وفيما بين الآخرين قد فازت بهذه النعمة القديسة كياره، والقديس فيليكوس الكبوجي، والطوباوية كياره التي من جبل فالكو، والقديسة تريزيا، والقديس بطرس الكانتراوي. ولأجل زيادة تعزيتنا نشير الى هؤلاء الآخرين أيضاً بأختصارٍ. فيخبر الأب كراسات بأن القديسة مريم أونياجانسه، قد رأت البتول الطوباوية واقفةً عند فراش امرأةٍ أرملةٍ مدنفة على الموت في مدينة فيلامبروى، التي كانت متعوبةً جداً من شدة الحمى الحاصلة لها، فمريم الكلية القداسة كانت تعزيها وترطب عنها سعير الحمى بواسطة مروحةٍ كانت بيدها. والقديس يوحنا دي ديو الذي كان جزيل التعبد لهذه السيدة، قد كان ينتظر حضورها اليه ساعة موته، واذ لم ير ذاته حاصلاً على أتمام هذا الأمل قد أعتراه الغم الشديد، وربما أنه أخذ يشكو من ذلك، الا أنه في الزمن المرسوم قد حضرت عنده هذه الأم الكلية الطوبى، وكأنها أرادت أن تؤنبه على ضعف رجائه. فقالت له هذه الكلمات الجليلة التي ينبغي أن توعب قلوب جميع عبيد مريم شجاعةً وتعزيةً وهي: أنه ليس من عادتي يا يوحنا أن أترك في ساعة الموت المتعبدين لي: وكأنها كانت تقول له بماذا كنت تفتكر يا يوحنا خاصتي، أهل أنك ظننت أني تغافلت عنك، أما تعلم أني لا أعرف أن أترك في ساعة الموت المتعبدين لي مهملةً إياهم، فأنا ما أتيت اليك قبل هذا الوقت، لأنه لم يكن بعد جاء الزمن، وأما الآن فاذ حضرت الساعة، فهوذا أني جئت لأخذك، فهلم معي لنذهب الى الفردوس السماوي: وبعد ذلك ببرهةٍ قد رقد القديس بالرب وأرتقت نفسه الى النعيم الأبدي لتشكر فضل ملكتها الكلية الحب. (وهذا جميعه هو مدون في مجموع البولانديستي تحت اليوم الثامن من شهر آذار).* * نموذج * فالآن نحن ننهي هذا الجزء بالنموذج الحاضر أيضاً، الذي منه يفهم الى أي حدٍ من الحنو والرأفة والشفقة تتصل هذه الأم الصالحة نحو أولادها في ساعة موتهم (وهذا الخبر هو مدون في الرأس 38 من القسم3 من تأليف كريسوغونوس الملقب بالعالم المريمي) وهو أن خوري أحدى الكنائس اذ كان حاضراً عند أحد الأغنياء المدنف على الموت الذي كان كان قاطناً في دار مزينةٍ بأمتعةٍ ثمينةٍ مخدوماً من كثرةٍ من العبيد ومن الأقرباء والمحبين، فنظر الشياطين محتاطين بالمسكين بصورة كلابٍ ينتظرون موت ذاك الغني، ليأخذوا نفسه الى الجحيم، كما قد تم لأنه مات في حال الخطيئة، ففيما كان الخوري مقيماً عنده حين منازعته قد دعي ليأخذ القربان الأقدس زوادةً أخيرةً الى امرأةٍ فقيرةٍ من أهل رعيته مرضة. قد ألتمست أن تقتبل الأسرار المقدسة قبل أن يدركها الموت، فالخوري لأنه لم يمكنه أن يترك نفس ذاك الغني المحتاجة الى المساعدة القصوى، قد أرسل بدلاً منه كاهناً آخر لخدمة تلك الأمرأة، فالكاهن أخذ القربان المقدس من الكنيسة وأنطلق الى بيت الأمرأة التي حينما وصل الى مكان سكناها لم ير هناك لا عبيداً يخدمونها، ولا أصدقاء ومعزين، ولا أمتعةً غنيةً في البيت، لأن تلك الأمرأة الصالحة كانت فقيرةً وربما راقدة على قليلٍ من التبن، ولكنه شاهد الأمر العجيب في الغاية، وهو أن البيت كان يلمع بأشراق أنوارٍ لا يحدق بها، وبجانب مرقد الأمرأة كانت واقفةً والدة الإله المثلثة القداسة تعزي المريضة، وبيدها لفافة رفيعة كانت تمسح بها عرق الموت عن تلك المنازعة. فالكاهن عند نظره هذه السيدة أمتلأ تهيباً وتوقف عن الدخول الى المخدع الراقدة فيه المريضة. الا أن البتول القديسة أشارت اليه بأن يدخل، وهي نفسها قدمت له الكرسي الذي كان هناك ليجلس عليه ويستمع أعتراف عبدتها المريضة، التي حينئذٍ قد أعترفت لديه وبعده تناولت من يده القربان الأقدس بعبادةٍ كلية. وأخيراً سلمت نفسها بين يدي أم الرحمة متنحيةً بالرب.* † صلاة † آمين.* † أواه ترى كيف عتيدةً أن تكون ميتتي أنا الخاطئ التعيس يا أمي الكلية الحلاوة، فأنا عند تأملي في تلك الساعة التي فيها مزمعة أن تنفصل نفسي من جسدي. وتحضر الى المحكمة الإلهية، فمنذ هذا الوقت أرتعد خائفاً وأجزع مرتعشاً، وأرتاب مشككاً في أمر خلاصي، لتذكري بأني مراتٍ كثيرةً قد سجلت أنا بعيني حكومة الهلاك على نفسي، أي كل مرةٍ أرتكبت الخطيئة المميتة، الا أن رجاي كله مستندٌ على أستحقاقات دم أبنكِ يسوع يا مريم الطوباوية. ومؤسس على اقتدار شفاعاتكِ، فأنتِ هي ملكة السماء وسيدة العالمين، ويكفي القول أنكِ والدة الإله، فاي نعم أنكِ لعظيمة الجلال، ولكن عظمتكِ لا تبعدكِ عن الأنعطاف والتنازل لملاحظة شقاوتنا وذلنا، الذي هو نفسه يجتذبكِ للحنو نحونا. فمحبوا العالم عندما يرتفعون الى مقامٍ عالٍ ويحصلون على مرتبةٍ شريفةٍ، فيبتعدون مستنكفين حتى من النظر أيضاً الى أصدقائهم الأولين الفقراء الأذلاء... غير أن قلبكِ الشريف المملوء من الحب ليس هو كذلك، بل حيثما يشاهد الناس الأكثر مسكنةً، والأشد ذلاً، والأوفر أحتياجاً، فهناك ينعطف أعظم أنعطافاً لأسعافهم، فأنتِ حالما تستدعين منا، تسرعين الى أغاثتنا، بل بالأحرى تسبقين تضرعاتنا بأيهابكِ إيانا ما نحتاج اليه، وتعزينا في حال أحزاننا، وتبددين عنا زوابع التجارب وعواصف المحن، وتصدين عنا أعداءنا، وبالأجمال لا تهملين فرصةً ما من أنت تسعي بها فيما يأول الى خيرنا، فلتكن مباركةً تلك اليد القادرة على كل شيء، التي جمعت في شخصكِ الجليل، مع سمو العظمة والرفعة، شدة الأنعطاف والحنو، ومع جلالة المرتبة والوظيفة، حرارة الحب والعناية، فأنا أشكر إلهي دائماً على هذه المواهب، وأفح بها متهللاً مع ذاتي، لأني أضع في سعادتكِ سعادتي أنا أيضاً، وأحتسب شرفكِ وحسن حظكِ كانه خاص بي. فيا معزية الحزانى عزي حزيناً ملتجياً اليكِ، فأنا أشعر بالغم والحزن من قبل توبيخ ضميري المثقل بخطايا هكذا عديدة، التي لا أعلم أن كنت بكيت عليها ومن أجلها بكفايةٍ، وألاحظ أن أعمالي كلها مملؤةٌ من الوحل والحماة ومن النقائص الشنيعة. وأنظر أن قوات الجحيم هي منتظرة موتي لكي تشتكي عليَّ في المحكمة الرهيبة، وأتأمل في كيف أن العدل الإلهي المهان مني يريد حق الوفاء عن الأهانة، فما عساه أن يحل بي يا أمي، لأنه أن كنتِ لا تسعفيني فلا شك في أني أهلك، فماذا تقولين الا تريدين أن تعينيني، فعزيني أيتها البتول الروأفة، وأستمدي لي قوةً لأن أصلح سيرتي، ولأن أثبت أميناً نحو الله في المدة الباقية من حياتي. وعندما بعد ذلك أحصل في ساعة الموت، فلا تهمليني يا رجائي، بل أسعفيني حينئذٍ بأوفر عنايةٍ. شجعيني بالا أيأس عند نظري كثرة خطاياي التي من أجلها يقاومني الشيطان في المحاسبة، ثم أغفري لي يا سيدتي جرأتي في ألتماسي منكِ أن تأتي اليَّ وقتئذٍ أنتِ بذاتكِ، لكي تعزيني بحضرتكِ، فأنتِ منحت هذه النعمة لكثيرين، فاذاً أنا أيضاً أرغبها ملتمساً، واذا كانت جسارتي بهذا الطلب هي باهظةً، فجودتكِ وصلاحكِ يفوقانها عظمةً، لأنكِ تفتشين على الأشد دناءة والأوفر ذلاً لتنعمي عليهم. ومن ثم أنا واثقٌ بصلاحكِ، فليكن مجد أفتخاركِ مؤبداً في أنكِ خلصتِ نفساً من قعر الجحيم بعد أن كانت هلكت، وأقتدتيها الى مملكتكِ التي فيها أرجو أن أتعزى بوجودي دائماً أمام قدميكِ. لكي أشكركِ وأبارككِ وأحبكِ الى الأبد. يا مريم أنا أنتظركِ، فلا تدعيني أن أمضي خائباً من هذه التعزية التي أرجو نوالها. فليكن فليكن كل تضرع تصنعه هي، فهو محسوبٌ بمنزلة شريعة مرسومة من الله، بأن توهب الرحمة والنعمة لكل أولئك الذين تتوسل هي من أجلهم. (أمثال31). |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الثالث: السلام عليك يا رجانا - كتاب امجاد مريم https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg الفصل الثالث † فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: السلام عليكِ يا رجانا: † *وفيه جزءان * † الجزء الأول † * في أن مريم البتول هي رجاء الجميع * أن الأراتقة المتأخرين لا يستطيعون أن يحتملوا منا أن نسلم على والدة الإله. بتسميتنا إياها رجانا. ويقولون أن الله وحده هو رجاؤنا. وأن من يصنع رجاءه في الخليقة فهو ملعون من الله عينه على لسان أرميا النبي القائل: ملعون الرجل الذي يتوكل على الإنسان: (ص17ع5) فيصرخون بأن مريم هي مخلوقةٌ. فكيف يمكن للخليقة أن تكون رجانا هذا ما تقوله الأراتقة. ولكن مع ذلك فالكنيسة المقدسة تريد أن كلاً من الكنائسين ومن الرهبان يرفع صوته نيابةً عن المؤمنين كافةً، ويستدعي مريم بهذا الإسم الحلو قائلاً: السلام عليكِ يا رجانا أجمعين:* فالقديس توما المعلم الملائكي يبين أنه على نوعين يمكننا أن نضع رجانا في شخصٍ ما، وهما بحسب كونه علةً أصليةً وبحسبما هو علة الواسطة، فأولئك الذين يرجون من الملك نعمةً ما فيرجونها منه بحسبما هو سيدٌ مطلقٌ، ثم يرجونها من أحد وزرائه أو من أحد المحبوبين لديه، بحسبما هو شفيعٌ ووسيطٌ عند الملك في نواله إياها لهم، فاذا منحت تلك النعمة، فتكون منحت من الملك بحسبما هو علةٌ أصليةٌ، ولكنها إنما تتصل الى المنعم عليهم بها بواسطة الشخص المقبول لديه، ومن ثم ليس من دون حجةٍ، ذلك الذي يطلب النعمة يسمي الرجل المتوسط والمتشفع في نوالها رجاءه. فالملك السماوي الذي هو الجودة المحضة الغير المتناهية، يرغب جداً أن يغنينا بخيرية صلاحه وبأنعامه، ولكن من حيث أنه من قبلنا أمرٌ ضروري لذلك هو أن يوجد فينا الرجاء وحسن الإتكال، فلكي يمني عز وجل فينا هذا الأمل والثقة، قد أعطانا والدته عينها أماً وشفيعةً ووسيطةً، مانحاً إياها كل الأستطاعة في أن تسعفنا وتعيننا، ولهذا يريد تعالى الى أن نضع فيها وعليها رجاء خلاصنا الأبدي وأمل كل خيرنا، أما أولئك الذين يضعون رجاهم في المخلوقات فقط، من دون أن يكون هذا الرجاء متعلقاً بالله وراجعاً اليه، كما يفعل الخطأة الذين يكتسبوا الصداقة والخير لذواتهم من إنسانٍ ما فيرتضون بأن يغيظوا الله، فهؤلاء هم بالحقيقة ملعونون من الله، كما يقول أرميا النبي، وأما أولئك الذين يرجون مريم واضعين فيها رجاءهم بحسب كونها والدة الإله، المقتدرة على أن تستمد لهم منه جلت خيرية صلاحه النعم والحياة الأبدية. فهؤلاء هم مباركون، وبذلك يسرون قلب الله، الذي يريد أن يشاهد بهذا المقدار مكرمةً من خليقته، تلك المخلوقة التي أحبته في هذا العالم أكثر من جميع البشر والملائكة.* فمن ثم نحن بكل صوابٍ وعدلٍ نسمي هذه البتول القديسة رجانا، اذ نرجوا أن ننال بواسطة شفاعتها، ذاك الشيء الذي لا يمكننا أن نناله بواسطة مجرد صلواتنا (كما قال الكردينال بالارمينوس) ثم يقول القديس أنسلموس: انما نتوسل الى العذراء حتى أن علو مقام هذه المتشفعة عنا يكمل نقصنا ويسد عن دناءتنا وعدم استحقاقنا. وأن تقديم تضرعاتنا للبتول القديسة برجائنا فيها ليس هو قطع الرجاء من رحمة الله، بل هو خوفٌ من نقص أستعدادنا وتأهبنا.* فاذاً ليس من دون حجةٍ راهنةٍ، الكنيسة المقدسة تخصص بوالدة الإله تلك الكلمات المدونة في حكمة ابن سيراخ وهي: أنا هي أم الرجاء المقدس: (ص24ع24): وانما تدعوها بهذا اللقب، لأنها تصير أن يتلد فينا الرجاء ولكن لا الرجاء في خيرات هذه الأرض الفاسدة العابرة، بل الرجاء المقدس في خيرات الحياة الأبدية، أي الخيرات المغبوطة العديمة الفناء والفائقة الإدراك. فالقديس أفرام السرياني (في مديحه على البتول المجيدة) يحيي هذه الأم المباركة هكذا قائلاً: السلام عليكِ يا رجاء نفسي، يا خلاص المسيحيين الأكيد، يا غياث الخطأة ومعونتهم، يا حماية المؤمنين وملجأهم، يا خلاص العالم: والقديس باسيليوس الكبير ينبهنا على أنه بعد الله لم يكن يوجد لنا رجاءٌ ما في أحدٍ، الا في مريم العذراء ولذلك كان يدعوها هكذا: يا رجانا الوحيد بعد الله: والقديس أفرام في المكان المذكور آنفاً، بعد أن يتأمل في ترتيب العناية الإلهية الحاضر الذي به رسم الله (كما يقول القديس برنردوس، وحسبما نحن مزمعون أن نبين ذلك في محله) أن كل أولئك الذين يفوزون بالخلاص. فيحلصون عليه بواسطة مريم البتول، يهتف نحوها هكذا مخاطباً: أيتها السيدة لا تهملي أن تحفظينا، وأن تضعينا تحت ذيل حمايتكِ، لأنه بعد الله ليس لنا رجاءٌ آخر سواكِ. وهذا عينه يقوله القديس توما الفيلانوفي مسمياً إياها: ملجانا الوحيد، وعوننا الفريد، وحمايتنا وحصننا الوطيد.* ويبان أن القديس برنردوس يشير عن العلة في ذلك بقوله: تأمل يا أنسان الرسم الإلهي، الذي قد صنعه الله، ليوزع علينا بواستطه رحمته بأكثر سخاءٍ وبأوفر طلاقةٍ، لأنه اذ أراد أن يفدي الجنس البشري، فقد وضع قيمة الفداء كلها في يد مريم لكي توزعه هي حسبما تشاء وتحب.* فالباري تعالى قد أمر نبيه موسى بأن يصنع المغتفر كله من ذهبٍ نقي، مبيناً له أنه من فوق المغتفر كان مزمعاً أن يخاطبه، كما هو مدون في سفر الخروج (ص25ع17ع22) هكذا: وتصنع موضع الغفران من ذهبٍ نقي... ومن هناك أنا أوصيك وأكلمك من فوق الغشاء. فيقول أحد العلماء (وهو باجيوكالي): أن هذا المغتفر هو مريم الطوباوية، التي بواسطتها يكلم الله البشر، ومن هناك يهبنا الغفران والنعم والعطايا: ولذلك يقول القديس ايريناوس (في الرأس33 من كتاب3 ضد فالنتينانوس): أن الكلمة الإلهي قبل أن يتجسد في أحشاء مريم، قد أرسل اليها رئيس الملائكة جبرائيل، لكي يطلب رضاها بذلك، لأنه أراد أن من مريم يبلغ الى العالم سر التجسد: ومن ثم يقول أيديوطا: أن الخيرات كلها، والمعونات بأسرها، والنعم كافةً، التي أقتبلها من الله البشريون فيما مضى، والعتيدون أن يقتبلوها الى حين نهاية العالم، فهذه كلها قد أتصلت وتتصل اليهم بواسطة شفاعات مريم وبوساطتها: فاذاً ليس من دون حجةٍ راهنةٍ يهتف بلوسيوس المتعبد لها صارخاً: ترى من هو ذاك الأحمق والتعيس معاً الذي لا يحبكِ يا مريم، أنتِ التي هي بهذا المقدار موضوعٌ شهي للمحبة، وحسنة المكافأة لمحبيكِ، فأنتِ في حال الشك والأرتياب والقلق، تنيرين عقول أولئك الذين يلتجئون اليكِ حين شدائدهم، وتعزين الحزان الذين يتكلمون عليكِ عند وجودهم في الأخطار، وتسعين كل من يدعوكِ مستغيثاً بكِ، فأنتِ هي بعد أبنكِ الإلهي خلاص عبيدكِ الأمنا الأكيد، فالسلام عليكِ اذاً يا رجا الميؤوسين، يا معونة المهملين، أنكِ لقادرةٌ على كل ما تشائين يا مريم، لأن أبنكِ يريد أن يكرمكِ بصنيعه حالاً كل ما تريدينه منه.* والقديس جرمانوس لمعرفته أن مريم هي بمنزلة ينبوعٍ لكل خيرٍ، وعلة للنجاة من كل شرٍ، فيستدعيها لمعونته قائلاً هكذا: يا سيدتي أنكِ أنتِ هي السند الوحيد المعطى لي من الله، وأنتِ قيادي ورشدي في مدة غربتي هذه، وأنتِ قوةٌ لضعفي، وغنى عظيم لفقري ومسكنتي. ونجاةٌ لي من قيودي، وأنتِ هي رجاء خلاصي. فأتضرع إليكِ بأن تستجيبي طلباتي، وبأن تشفقي على تنهداتي، اذ أنكِ أنتِ هي ملكتي وملجأي وحياتي، ومعونتي ورجائي وحمايتي وحصني.* ثم بالصواب اذاً يخصص القديس أنطونينوس بهذه السيدة، الكلمات المدونةفي سفر الحكمة وهي: قد جاءتني الخيرات كلها معها: (ص7ع11) قائلاً: فمن حيث أن مريم هي والدة الإله وموزعة كل الخيرات، فيمكن حسناً أن يقول العالم، وبنوعٍ أخص أولئك الذين في العالم يحيون متعبدين لهذه الملكة. أنهم جملةً مع العبادة لها قد فازوا بالخيرات كلها: ومن ثم يقول الأنبا جالانسه قولاً مطلقاً: أن من يصادف مريم فيصادف كل الخيرات والنعم والفضائل: لأنها تستمد هي له بواسطة شفاعاتها المقتدرة، كل شيء يحتاج اليه لأن يصير غنياً بالنعمة الإلهية. فهي توضح لنا أنها حاويةٌ عندها خزائن غنى الله، أي الرحمة الإلهية. لكي توزعها في أسعافات محبينها: فعندي الغنى والمجد وأقتناء العظمة والعدل... لكيما أغني الذين يحبونني: (أمثال ص8ع18ع21) ولهذا كان يقول القديس بوناونتورا: أنه يلزمنا جميعاً أن نرفع أعيننا دائماً الى يدي مريم. لكي نقتبل بواسطتها ذاك الخير الذي نبتغيه.* فكم وكم من المتكبرين قد أقتنوا بواسطة عبادتهم لمريم فضيلة التواضع، والغضوبون الحلم، والعميان النظر، والميؤوسون الرجاء والهالكون الخلاص! وهذا هو بالحصر الأمر الذي سبقت هذه البتول الطوباوية، وقالته هي نفسها في بيت نسبيتها القديسة أليصابات، حينما تلفظت بتلك التسبحة الجليلة قائلةً: فها منذ الآن يعطيني الطوبى سائر الأجيال" (لوقا ص1ع48) فهذه الكلمات اذ كررها القديس برنردوس في عظته الثانية على العنصرة قد قال: هوذا أن الشعوب كلهم يدعونكِ طوباويةً. لأنكِ أعطيتِ الشعوب كافةً الحيوة والمجد، لأن الخطأة بكِ يصادفون الغفران والصديقين بكِ يجدون الثبات في حال نعمة الله. ومن ثم يقول الرجل العابد لانسبارجيوس، مصيراً كأن الرب يخاطب البشر هكذا: أيها الناس المساكين أولاد آدم العائيشون فيما بين أعداءٍ كثيرين، والمحاطون من كل ناحيةٍ بالشدائد والأحزان، أجتهدوا في أن تكرموا بعبادةٍ خصوصيةٍ وبمحبةٍ متقدةٍ والدتي وأمكم. لأني أنا قد منحت العالم هذه الأم نموذجاً، لكي تتعلموا منها أن تعيشوا كما يجب عليكم، أعطيتكوها ملجأً، لكي تسرعوا اليها مستغيثين بها في أحزانكم، فأنا خلقت هذه الأبنة بالصفات الحاصلة هي عليها. بنوع أنه لا يوجد أحدٌ يخاف من أن يتقدم اليها، أو أنه يمسك ذاته عن الأستغاثة بها، ولذلك قد كونتها بخلقةٍ ذات أشفاقٍ وتعطفٍ ورحمةٍ بهذا المقدار من الكمال، حتى أنها لا تعرف أن ترفض أحداً أو تأنف منه، أم تتغاضى عنه من الملتجئين اليها، ولا تعلم أن تنكر أحسانها على أحدٍ مطلقاً من الطالبين معونتها، فهي دائماً توجد باسطةً رداء رحمتها، ولا تسمح بأن يمضي أحدٌ من أمام قدميها غير معتزٍ: فلتكن اذاً على الدوام مباركةً خيرية صلاح إلهنا الغير المتناهية. على إيهابه إيانا هذه الأم الإلهية والمحامية الشفوقة الكلية الحب.* ثم أن القديس بوناونتورا المغرم بشدة الحب ليسوع المسيح ولوالدته المجيدة يقول هكذا:" أنه ولو أن الرب قد رذلني حد الرذل، فأنا أعلم أنه لا يمكنه أن يرفض من يحبه ومن يطلبه من كل قلبه، فأنا أمسكه بحبي إياه ولا أطلقه أن لم يباركني، وهو من دوني لا يمكنه أن يبتعد عني، فاذا لم أقدر أن أفعل شيئاً آخر، فقلما يكون أختفي في جراحاته، واذ أكون هناك، فهو لا يستطيع أن يراني خارجاً عن ذاته". وأخيراً يضيف الى ذلك هذا القول: فأن كان مخلصي يطردني من أمام قدميه بسبب خطاياي. فحينئذٍ أنا أنطرح على قدمي والدته مريم، وهناك أستمر جاثياً من دون أن أفارقها، أ، لم تستمد هي لي الغفران، لأن أم الرحمة هذه لا تعرف، بل وقط لم تعلم أن لا تشفق على المساكين البائسين، أو لا تعضد المستغيثين بها المضنوكين المستمدين منها الأعانة، ولهذا اذا لم يكن من قبل الألتزام، فقلما يكون من قبل الشفقة تجتذب أبنها لأن يهبني الغفران.* فلنختتم اذاً الإيراد مع العلامة أفتيموس قائلين: أنظري إلينا بعينيكِ الشفوقتين يا أمنا الكلية الرأفة، لأننا نحن عبيدكِ. وفيكِ قد وطدنا رجانا بأسره.* * نموذج * أنه يوجد مسطراً في خبرية الأعجوبة الخامسة والثمانين، من التأليف الملقب: بكنز الوردية: أن رجلاً ما شريف الحسب والوظيفة، قد كان كلي التعبد لهذه الأم الإلهية، ومن ثم كان شيد داخل داره الواسعة كنيسةً صغيرةً، وهناك كان من عادته أن ينفرد مصلياً أمام أيقونة والدة الإله المصورة فيها ببراعةٍ. ولم يكن يمارس هذه الصلوات نهاراً فقط بل في زمن الليل أيضاً، معدماً ذاته لذة النوم ساعاتٍ بجملتها ليكرم سيدته المحبوبة منه. فأمرأة هذا الرجل الشريف، مع أنها هي أيضاً كانت من النساء الأكابر الحسنات الديانة، قد دخل عندها الشك وروح الغيرة، عند ما كانت تلاحظ رجلها هذا ينهض من فراشه في الساعة الأكثر هدواً من زمن الليل، ويخرج من مكان رقاده الى خارجٍ، ولا يرجع الا بعد زمنٍ ليس بقليل، فلما أزداد يوماً فيوماً الأرتياب في عقل هذه المسكينة، قد فكرت لنجاة قلبها من هذه الشوكة أن تسأل قرينها هذا بجرأةٍ، أن كان يوجد في قلبه حبٌّ ما لأمرأة أخرى غيرها؟ فالرجل الجليل أجابها مبتسماً بقوله: أعلمي أنني أحب أمرأةً سيدةً لا يوجد في العالم مثلها موضوعٌ شهيٌ للحب الشديد، وقد وهبتها قلبي بجملته، ولقد يمكنني أن أموت بالأحرى قبل أن أنتزح عن حبي أياها، ولو أنكِ تعرفينها، لقلتِ لي أنتِ نفسكِ أن أحبها بأبلغ نوع مما هي الآن محبوبةٌ مني! وأنما كان يشير بذلك جميعة عن البتول الكلية القداسة، التي حقاً كان هو يحبها بهذا المقدار. غير أن أمرأته عند سماعها منه هذا القول، قد توطد أرتيابها السابق بزيادةٍ ولكنها لكي تتحقق الأمر أفضل تحقيقاً، قد سألته أيضاً، أن كان سبب قيامه من فراشه ليلاً، وخروجه من البيت هو لكي يمضي عند هذه الأمرأة؟ فالرجل الذي لم يكن يعلم روح الغيرة والشك الكائن في قلب أمرأته قد أجابها، أي نعم أن الأمر هو كذلك. فترى ماذا صنعت هذه الزوجة التي عمي عقلها بتصديق أرتيابها الكاذب، لأنها ليلةً ما عندما نهض رجلها حسب عادته من فراشه، وذهب خارجاً الى المصلى السابق ذكره، فهي من زيادة الغم أخذت السكين كمقطوعة الرجاء، وجزت بها عنقها ذابحةً ذاتها حيث بعد برهةٍ ماتت، أما الرجل فعند نهاية صلواته قد رجع الى خدره لينام، ولكنه شعر بالفراش مغرقاً كأنه بمياه غزيرة، فصرخ الى أمرأته بأسمها، واذ لم ترد عليه جواباً، أوقد المصباح وحضر إليها، واذ هي مذبوحةً، والمرقد عائمٌ بالدم، فحينئذٍ فكر بالصواب أنها ذبحت نفسها بروح الغيرة ميؤوسةً. فما الذي فعله هو حينئذٍ. أنه أغلق باب الحجرة على أمرأته، ورجع الى المصلى حيث جثا أمام أيقونة والدة الإله الكلية القداسة، وأبتدأ يقول لها هكذا بدموعٍ منحدرةٍ من عينيه تياراتٍ: أنظرتِ يا أمي في أية حالٍ من الحزن أنا كائنٌ، فان كنت لا تعزيني أنتِ فالى من التجئ لأفوز بالتعزية منه، فافتكري بأنه لأجل مجيئي الى هنا لكي أكرمكِ، قد أحاقت بي هذه المصيبة العظمى، وهي أن أشاهد قرينتي مذبوحةً وهالكةً أيضاً، فأنتِ قادرةٌ يا أمي على مداواة الأمر: فحقاً أن من يتضرع الى أم الرحمة هذه بحسن الرجاء فينال كل ما يبتغيه، لأن هذا الرجل الشريف عندما أنهى صلاته المقدم إيرادها، سمع صوت واحدةٍ من جواريه تقول له: يا سيدي أرجع الى حجرتك، لأن سيدتي أمرأتك تدعوك اليها. فالرجل خرج من المصلى حالاً، لكنه من زيادة الفرح لم يصدق ما قيل له، بل لأجل الأمتحان طلب من الجارية أن تذهب ثانيةً الى الحجرة، لترى أن كانت حقاً سيدتها تريد رجوعه الى هناك، فالجارية مضت وعادت اليه مؤكدةً له أن زوجته طلبت ذهابه إليها عاجلاً لأنها تنتظره بشوقٍ، فأنطلق حينئذٍ هو بثقةٍ وفتح باب الخدر فرأى أمرأته حيةً، التي قد أنطرحت على قدميه باكيةً ومتوسلةً اليه بأن يغفر لها قائلةً له: أواه يا قريني العزيز أن والدة الإله لأجل تضرعاتك لديها من أجلي قد خلصتني من جهنم، وهكذا أثناهما معاً مضيا الى المصلى بدموعٍ غزيرةٍ من شدة الفرح، ليقدما الشكر الواجب للبتول الكلية الأقتدار، ثم أن الرجل في اليوم المقبل صنع وليمةً لجميع الأقرباء والأنسباء، وصير أمرأته أن تخبرهم بالحادث كما تم، وهي شرحت لهم حقائقه مريةً إياهم في عنقها علامة الجرح، الذي حفظ ظاهراً لتأكيد الأعجوبة، ومن ثم قد أزدادت في الجميع حرارة العبادة والحب نحو هذه السيدة والأم الإلهية.* † صلاة † https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg يا أم الحب المقدس، يا حياتنا وملجانا، أنكِ لتعلمين أن أبنكِ يسوع، اذ لم يكتف بأن يقيم ذاته شفيعاً أبدياً فينا ومن أجلنا لدى أبيه الأزلي، قد أراد أنكِ أنتِ أيضاً تهتمين بعنايتكِ نحوه هو ذاته، في أن تستمدي لنا منه الرحمة الإلهية، فهو قد رسم ورتب أن صواتكِ وتضرعاتكِ تفيدنا للخلاص، وقد منح توسلاتكِ قوةً عظيمةً لأن تنال كل ما تطلبينه. فاذاً أنا الخاطئ المسكين اليكِ التجي يا رجاء المويسين. وهكذا أرجو يا سيدتي أن أنال الخلاص بأستحقاقات أبنكِ يسوع المسيح، وبقوة شفاعاتكِ، فهذا هو رجاي، وأنا واثقٌ به ومتكل عليكِ بهذا المقدار بأمانة، حتى أن خلاصي لو كان الآن هو في يدي لكنت أسلمكِ إياه، لأني أعتمد على مفعول رحمتكِ وحمايتكِ أفضل من أعتمادي على أعمالي كلها، فلا تهمليني يا أمي ورجاي كما أستحق، بل لاحظي شقاوتي وأنعطفي مشفقةً عليَّ بأعانتكِ إياي لكي أنال الخلاص. فأنا أعترف بأني مراتٍ كثيرةً قد أغلقت باب قلبي ضد الأنوار السماوية، وضد المعونات الإلهية التي قد أستمديتيها لي من الرب. ولكن أشفاقكِ نحو البائسين، وأقتدارات شفاعاتكِ لدى الله تفوق عدد خطاياي كلها، وتسمو على شرها وخباثتها، فأمرٌ معلومٌ هو عند أهل السماء والأرض، أن من تحامي أنتِ عنه لا يمكن أن يهلك، فليهملني اذاً الجميع وينسوني، بحيث أنكِ لا همليني أنتِ يا والدة الإله المقتدرة على كل شيءٍ، قولي لله أنني أنا عبدكِ، وأنكِ محاميةٌ عني وهذا يكفيني لأن أفوز بالخلاص، فأنا أتكل عليكِ يا مريم رجائي، وفي هذا الرجاء أعيش وبه أريد أن أموت كما أؤمل. ومن ثم لا أكف أصلاً من أن أقول، أن يسوع هو رجائي الوحيد، وبعد يسوع رجائي الوحيد هو في مريم البتول.* † https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg † الجزء الثاني † * في أن مريم العذراء هي رجاء الخطأة * أن الله بعد أن خلق الأرض قد أبدع نيرين ليضيئا عليها، كما هو مدون في سفر التكوين: أن الله صنع نيرين عظيمين، فالنير الأكبر لسلطان النهار، والنير الأصغر لسلطان الليل: (ص1ع16) أي الشمس والقمر، فيقول الكردينال أوغون في تفسيره هذا الاصحاح: أن الشمس هي رسمٌ ليسوع المسيح الذي تتمتع الأبرار بنوره اذ يحيون في نهار النعمة الإلهية. وأما القمر فهو رسمٌ لمريم البتول التي بواسطتها يستنير الخطأة العائشون في ليل المآثم: فمن حيث اذاً أن مريم هي هذا القمر السعيد المفيد للخطأة الأذلاء فاذا أتفق لأحدهم، كما يقول البابا أينوشانسيوس الثالث (في عظته على نياح البتولة) أن يوجد ساقطاً في ليل الخطيئة، ترى ماذا يصنع بعد أن يكون فقد نور الشمس بفقدانه النعمة الإلهية. فليلتجِ الى نور القمر. أي فليتوسل الى مريم وهي تنيره ليعرف شقاوة حاله، وتهبه قوةً لأن يخرج سرعةً من طريق الأثم: ويقول القديس متوديوس: انه بواسطة صلوات مريم الطوباوية يرجع الى الله بالتوبة على الدوام عددٌ غير محصى من الخطأة.* فأحدى الصفات والنعوت التي الكنيسة المقدسة تصيرنا أن نلتجئ الى هذه الأم الإلهية، والتي تشجع الأثمة البائسين بأبلغ نوعٍ على الرجوع الى التوبة. هي هذه الصفة أو التسمية أي: ملجأ الخطأة: التي بها تستدعيها هي بالطلبات، فبموجب رسوم العهد العتيق قد كانت في بلاد اليهودية مدينةٌ تسمى الملجأ، حيث أن المذنبين الذين كانوا يفرون هاربين من الأمكنة التي فيها أرتكبوا الذنب الى تلك المدينة، فكانوا ينجون بدخولهم اليها من القصاصات المرسومة ضد ذنوبهم، أما في الزمن الحاضر فلم تعد توجد مدن الملجأ كما كانت سابقاً، ولكن عندنا واحدة فقط، وهي مدينة الله مريم التي يشير اليها النبي والملك داود هاتفاً: قد قيلت فيكِ المسبحات يا مدينة الله: (مزمور87 عدد3) الا أنه يوجد هذا الفرق فيما بين مدن الملجأ القديمة وبين هذه المدينة، وهو أنه في تلك لم تكن الخطأة كافةً ولا المذنبون بكل أنواع المآثم يجدون الحماية وحق اللجاية، وأما في هذه المدينة، أي تحت كنف حماية مريم العذراء فبالخلاف تجد الخطأة أجمعون، والمذنبون بأنواع الفواحش والسيئات كافةً، ملجأً أميناً وحصناً منيعاً. متى هربوا محتمين بها، كما يسميها القديس يوحنا الدمشقي (في ميمره الثاني على نياحها) متكلماً عن لسانها بقوله: أني أنا هي مدينة الملجأ لجميع أولئك الذين يأتون اليَّ من دون أستثناء.* فيكفي للهارب أن يبلغ الى هذا الملجأ لأن ذاك الذي يكون حصل على الحظ السعيد بأن يدخل ضمن هذه المدينة، لا يعود محتاجاً للتكلم عن شيء لكي يفوز بالخلاص، حسبما يقول أرميا النبي (ص8ع14): لماذا نجلس، أجتمعوا وندخل القرية الحصينة ونسكت هناك: فيفسر هذا النص الطوباوي ألبرتوس الكبير قائلاً: أن هذه القرية الحصينة هي القديسة مريم البتول المحصنة بالنعمة والمجد: وكذلك يقال في التفسير الملقب غلوسا عن لفظة: ونسكت هناك: أننا لأجل كثرة خطايانا اذ ليس عندنا جرأةٌ ولا لنا دالةٌ لأن نطلب من الرب الغفران، فيكفينا أن ندخل هذه المدينة الحصينة، ونسكت هناك، لأن مريم حينئذٍ تتكلم هي وتتوسل من أجلنا. ولذلك يحرض الخطأة كافةً أحد العلماء (وهو بناديكتوس فارناندس) على أن يهربوا ملتجين تحت كنف حماية مريم قائلاً: أهرب يا آثم ويا حواء ويا جميع أولادهما كلكم الذين قد أغظتم الله، أهربوا وفوزوا بالنجاة، بألتجائكم الى حماية هذه الأم الصالحة. وهكذا القديس أوغوسطينوس يقول: الا تعلمون أن مريم هي مدينة الملجأ الوحيدة. وملجأ الخطأة الفريد.* فمن ثم يهتف القديس أفرام السرياني (في مديحه البتولة) قائلاً: أنتِ هي المحامية الوحيدة عن الخطأة. والمناضلة الوحيدة عن أولئك الذين لا معين لهم. فالسلام عليكِ يا ملجأ الخطأة وسندهم ومأواهم، الذي فيه وحده يمكنهم أن يجدوا الحماية والمهرب الأمين. وهذا هو ما يتأمل به أحد الكتبة بأن الملك والنبي داود قصد أن يشير اليه بهذه الكلمات وهي: لأنه أخفاني في خيمته، وفي يوم ضري سترني في ستر مظلمته (مزمور27ع5) فيقول أن الرب أخفاني في خيمته، فترى من هي خيمة الله الا مريم البتول حسبما يدعوها القديس جرمانوس بقوله: أن مريم هي الخيمة المصنوعة من الله التي لم يدخل اليها الا العلي وحده، لكي يكمل فيها عمل الخلاص السري بأفتداء الجنس البشري. وفي هذا الشأن قال معلم الكنيسة العظيم القديس باسيليوس: أن الله قد أعطانا مريم العذراء بمنزلة بيمارستان عمومي مشاع حيث يمكن لجميع المرضى والمسقومين الذين هم فقراء وعادمون كل المعونات أن يجدوا فيه مأواهم وراحتهم. فالآن أنا أسأل مستفهماً، بأنه اذ كانت البيمارستانات أنما تشيدت لتقبل فيها المساكين، فمن هم أولئك الذين لهم حق أصرم ممن سواهم على أن يقبلوا فيها الا أولئك الأكثر فقراً والأجزل أحتياجاً والأوفر سقماً والأشد مرضاً؟.* فمن ثم أن من يوجد حاصلاً على شقاوةٍ أبلغ، لأجل أنه يكون أشد فقراً من الأستحقاقات، والمثقل بأمراض النفس والأكثر خطراً وهذ أنما يكون من مصاف الخطأة فيبان أنه يمكن له أن يقول نحو مريم: يا سيدتي أنتِ هي البيمارستان ملجأ المرضى المساكين. فلا تطرديني اذاً في الوقت الذي أنا فيه لأجل أني أكثر فقراً من الآخرين وأشد شقماً منهم فيوجد لي الحق بأبلغ نوع وبأكثر صرامة من البقية على أن أقبل في هذا البيمارستان: فلنقل اذاً ما قاله القديس توما الفيلانوفي: يا مريم أننا نحن الخطأة الأذلاء البائسين لا نعرف. ولا يمكننا أن نجد ملجأً آخر سواكِ، أنتِ هي رجاؤنا الوحيد الذي فيه نضع أمر خلاصنا الأبدي، لأنكِ أنتِ هي المحامية الوحيدة عنا لدى يسوع المسيح، وإليكِ نهرب كلنا مستغيثين بكِ.* ففي أحد الأوحية التي حصلت عليها القديسة بريجيتا تسمي مريم: النجم المتقدم أمام الشمس: وهذا يرشدنا لكي نفهم أنه حينما توجد في نفس أحدٍ من الخطأة علاماتٌ ظاهرةٌ تدل على أن ذاك الإنسان هو متعبد لهذه الأم الإلهية، فهذا هو دليلٌ أكيدٌ على أنه بعد قليلٍ من الزمن تحصل تلك النفس غنيةً من النعمة الإلهية. أما القديس بوناونتورا المجيد فلكي ينعش في قلوب الرجاء في حماية مريم، يصور لنا بحراً ما مزيداً مختبطاً هائجاً بعواصف شديدةٍ، حيث يوجد الخطأة الذين سقطوا فيه من سفينة النعمة الإلهية غارقين فيما بين تموج قلق الفكر، وأختباط الأرادة، وعواصف توبيخ الضمير، وبين أنزعاج الخوف من دينونة العدل الإلهي، تائهين من دون قائدٍ، وخلواً من نورٍ يرشدهم، حاصلين على أواخر أنفاس الرجاء وعلى قرب الأبادة باليأس، فعلى هذه الصورة اذ يبان أن القديس المذكور يريد أن يظهر للخطأة كيف أن مريم هي نجمة البحر، كما يدعوها الجميع بهذه الصفة، فمن ثم يعلى صوته صارخاً نحوهم هكذا: أيها الخطأة المساكين المنزعجون الحاصلون في الأبادة، لا تيأسوا ولا يضعف رجاؤكم، بل أرفعوا عيونكم الى هذه النجمة البهية الجميلة، وأهجعوا من أختباطكم مستنشقين النسمة وأطمأنوا بثقةٍ، لأن هذه النجمة هي تصيركم أن تخرجوا من الغرق وتبلغكم الى مينا الخلاص.* وبهذا الروح نفسه القديس برنردوس يخاطب الخاطئ قائلاً له: فأن كنت لا تريد أن تهلك غارقاً في العاصفة، فأتجه نحو النجمة وأدعُ الى معونتك مريم لأجل أنها (كما يقول العابد بلوسيوس) هي السند الوحيد والدواء الشافي لخلاص أولئك الذين سقطوا في حال أغاظة الله بالخطيئة، وهي ملجأ جميع المجربين والمصابين: فأم الرحمة هذه هي محسنةٌ عذبةٌ لطيفةٌ رأوفةٌ بكليتها ليس نحو الصديقين فقط، بل نحو الخطأة الميؤوسين أيضاً. ولذلك أنها حينما ترى هؤلاء يقصدون معونتها بألتجائهم اليها، وتلاحظ أنهم حقاً يصنعون هذا قلبياً، فحالاً تساعدهم وتعينهم وتستمد لهم من أبنها الغفران، ومن عادتها الا ترذل أحداً. ولا تتغاضى عن مطلوبه ولو مهما كان هو عديم الأستحقاق، ولذلك لا تنكر على أحدٍ مطلقاً حمايتها وعنايتها، بل تعزي الجميع، ويكفي مراتٍ كثيرةً أنها تستدعى ويستغاث بها فتوجد حالاً مكملةً مرغوب من يقصدها، وبواسطة عذوبتها تجتذب الخطأة الى التعبد لها، وتيقظهم من رقاد الخطيئة، ولو كانوا من أولئك المعدومة منهم محبة الله والمتمرغين في حماة الرذائل، وهكذا بواسطة أفعال التعبد لها يتأهبون لأن يقتبلوا النعمة الإلهية، وأخيراً يصيرون أهلاً لنوال المجد الأبدي. على أن الله قد كوَّن أبنته هذه المحبوبة منه تكويناً مملوءاً من الرأفة والعذوبة والرفق والحلم، بنوعٍ أنه لا يوجد أحدٌ يمكنه أن يرتاب في أنها تقبله، متى التجأ إليها لأنها لا تعرف أن ترد أحداً خائباً من مفاعيل شفاعاتها من أجله. ثم ينهي إيراده الكاتب العابد المقدم ذكره بقوله أخيراً: أنه ليس هو من الممكن أن يمضي هالكاً من يمارس بأتضاعٍ وأهتمامٍ، واجبات العبادة لهذه الأم الإلهية.* ثم أن هذه السيدة قد سميت في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع19) بشجرة الدلب، لأنه كما أن شجرة الدلب تعطي تحتها وفي ظلها ميداناً، لألتجاء المسافرين من حرارة الشمس، فهكذا مريم عندما تشاهد نار غضب العدل الإلهي متقدةً ضد الخطأة، فتدعوهم لأن يستظلوا في ظل حماية شفاعاتها. فالقديس بوناونتورا يتأمل في كيف أن النبي أشعيا كان يتشكى في أزمنته قائلاً: ها أنتَ غضبتَ يا رب فأخطأنا نحن... ليس من يدعو بإسمكَ ومن يقوم ويمسككَ: (ص64ع5وع7) أي أنكَ أنتَ يا رب مغتاظٌ بكل عدلٍ وحقٍ من الخطأة: ولا يوجد من يمكنه أن يسترضيكَ عنا ويرجوكَ بالرضى علينا. فبكل صوابٍ قال النبي هذه الكلمات من حيث أنه في ذلك الوقت لم تكن بعد جاءت مريم الى العالم. وأما الأن فاذا كان الباري تعالى مغتاظاً ضد أحد الخطأة، ومريم شرعت تستعطفه محاميةً عن ذاك الخاطئ فلا ريب في أنها تهدئ غضب أبنها الإلهي عن أن يعاقبه وهكذا تخلصه، بل الأبلغ من ذلك (يتبع القديس بوناونتورا كلامه بكلامه) هو أنه لا يمكن أن يوجد أحدٌ أكثر أستطاعةً من مريم على المحاماة عنا، حتى أنها تمد يدها وتمسك سيف العدل الإلهي مانعةً إياه عن أن ينقض فوق عنق الخاطئ. ثم أنه حسب الفاظ هذا القديس يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن الله قبل ميلاد مريم البتول في العالم كان يشكو من أنه لم يكن يوجد وقتئذٍ من كان يهدئ غضبه عن أن ينتقم من الخطأة، كما يقول تعالى على لسان حزقيال النبي (ص22ع30): أني قد طلبت فيهم رجلاً يتواسط بالسياج ويقاومني عن الأرض كيلا أخربها فلم أجد: الا أنه بعد أن جاءت مريم الى الدنيا، فهي التي تستعطفه جلت خيرية صلاحه وتهدئ غضبه بوساطتها:* فلهذا القديس باسيليوس الكبير يشجع الخطأوة (في خطبته على عيد البشارة) قائلاً: لا تيأس أصلاً أيها الخاطئ بل التجِ الى مريم في أحتياجاتكَ كلها، وأستدعيها الى معونتكَ، فتجدها مستعدة على الدوام لمساعدتك، لأن هذه هي الإرادة الإلهية، أي أن مريم تعضد الكل معينةً إياهم في كل شيءٍ يحتاجون إليه ضرورةً: فأم الرحمة هذه تحب من كل قلبها راغبةً أن تخلص الخطأة الأشقياء الميؤوسين، رغبةً هكذا متقدةً حتى أنها هي نفسها تفتش عنهم مجتهدةً في إعانتهم، ولذلك اذاً أستغاثوا بمساعدتها مستدعينها لأسعافكم فهي تعرف حسناً أن تجد الطريقة التي بها تصيرهم مقبولين لدى الله ومحبوبين منه. فأسحاق رئيس الآباء اذ كان يشتهي أن يغتذي بلحوم بعض الحيوانات البرية، قد طلب من أبنه عيسو أن يصطاد له منها ما يمكنه. ويصلحها له أطعمةً موعداً إياه بأن يمنحه البركة الأبوية، الا أن رفقا زوجته أم عيسو نفسه لآرادتها في أن أسحاق يمنح البركة لأبنها الآخر يعقوب لا لعيسو، فطلبت من يعقوب قائلةً له: أمضِ الى الغنم وأتنني بجديين رخصين، فأصلحهما أطعمةً لأبيكَ على نحو ما يحب ليأكل منها وتباركك نفسه قبل مماته: (تكوين ص27ع9) فيقول القديس أنطونينوس: ان رفقا كانت رسماً لمريم التي تقول للملائكة أيتوني بالخطأة (الذين قد مثلوا بالجداء) لكي أصلحهم أنا بطريقةٍ ملائمةٍ (أي بأكتسابي لهم نعمة الندامة والعزم على عدم الرجوع الى الخطيئة) وأجعلهم مقبولين مستحبين لدى سيدي: ثم أن الأنبا فرانكونه اذ أتبع هذا التفسير يقول: أن مريم تعرف جيداً أن تصلح هؤلاء الجيداء أطعمةً لذيذةً، بنوع أن ذوقهم ليس فقط يماثل ذوق لحمان الخشف والغزلان والأيل، بل أيضاً مراتٍ كثرةً يفوقها لذةً.* على أن البتول الكلية الطوبى عينها قد أوحت الى القديسة بريجيتا بأنه لا يوجد في العالم خاطٍ ما مهما كان بأثمه عدواً لله. يلتجئ إليها مستمداً منها المعونة، الا ويرجع اليه تعالى تائباً ويكتسب ثانيةً نعمته الإلهية التي كان فقدها: والقديسة بريجيتا نفسها قد سمعت يوماً ما يسوع المسيح مخاطباً والدته الطوباوية، بأنها تستطيع هي أن تنال منه عز وجل لصالح لوسيفوروس عينه، أن يرجع الى حال النعمة الإلهية، أن كان هو يتضع ويلتجئ إليها طالباً منها المعونة، فأي نعم أن أركون الظلام هذا، الروح المتعجرف لا يمكن أن يواضع ذاته لأن يلتمس حماية مريم. ولكن اذا فرضنا هذا الحادث الغريب، وهو لو أمكن للوسيفوروس أن يتواضع مستغيثاً بمريم، فهي لكانت تحنو عليه، وبقوة صلواتها الفعالة لكانت تستميح له من الله الغفران والخلاص، غير أن الشيء الذي لا يمكن حدوثه مع الشيطان، فهذا بلا ريب يبلغ مفعوله مع الخطأة الذين يلتجئون الى أم الرحمة هذه.* ثم أن سفينة نوح قد كانت توجد بالصواب رسماً لمريم المجيدة. فكما أنه في تلك السفينة كانت توجد حيوانات الأرض كلها جنسياً ونوعياً، فهكذا تحت أذيال حماية مريم يجد ملجأً أميناً الخطأة أجمعون الذين لأجل رذائلهم وعوائدهم الوحشة وخطاياهم اللحمية هم شبيهون بالوحوش والحيوانات الأخرى، ولكن بهذا الفرق، كما يقول أحد العلماء (وهو باجيوكالى): أي أن الوحوش كما دخلت السفينة كذلك خرجت منها وحوشاً من دون تغييرٍ، اذ أن الذئب الذي دخل اليها خرج منها ذئباً، والنمر أستمر نمراً، وأما تحت حماية مريم فالذئب يستحيل الى خروفٍ، والنمرة تصير حمامةً. فيوماً ما القديسة جالتروده قد شاهدت في الرؤيا عدةً من الوحوش، أسوداً، دبباً، نموراً، كائنةً تحت برفير مريم البتول المفتوح للجميع، ولاحظت أن مريم ليس فقط لم تكن تطرد عنها تلك الوحوش، بل بأكثر من ذلك كانت بيدها الجوادة تلمها وتملسها، ثم أخبرت هذه القديسة أي جالتروده بأن تلك الحيوانات هي الخطأة الأشقياء البائسون، الذين حينما يلتجئون الى مريم، فهي تقتبلهم بعذوبةٍ ورأفةٍ ومحبةٍ.* فاذاً بالصواب أمكن للقديس برنردوس أن يهتف نحو هذه الأم المجيدة قائلاً: انكِ أيتها السيدة لا ترذلين أحداً من الخطأة، مهما كان عاتياً منافقاً رديئاً، متى قصدكِ مقترباً منكِ لجايةً، واذا التمس منكِ المعونة فلا تأنفين مستكرهةً من أنكِ تمدين يدكِ ذات الأشفاق وتخرجينه من عمق يأسه ومن أقصى شقاوته: فليكن مباركاً على الدوام وممجداً بالشكر الواجب إلهنا الصالح، الذي صنعكِ يا مريم المحبوبة في الغاية، مملوةً من الحلاوة والأنعطاف. حتى نحو الخطأة الأكثر شقاوةً، فحقاً أنه تعيسٌ هو ذاك الذي لا يحبكِ ومع أنه يستطيع أن يلتجئ اليكِ، فمع ذلك لا يتكل عليكِ ولا يثق بكِ. لأن من لا يستغيث بمريم يمضي هالكاً، وبالعكس من هو الذي خاب من رجائه وأدركه الهلاك من الذين تمسكوا بها:.* فالكتاب المقدس يخبرنا في الاصحاح الثاني من سفر راعوث بأن بأعاز قد سمح لهذه الأمرأة راعوث بأن تتبع الحصادين المستأجرين منه في أراضيه، وتلتقط لذاتها السنبل الذي كان يسقط من أيديهم على الأرض، فيقول القديس بوناونتورا (في تفسيره هذا النص): أنه كما أن راعوث قد وجدت نعمةً في عيني باعاز فهكذا مريم قد وجدت نعمةً في عيني الرب بأن تستطيع أن تجمع ملتقطةً السنبل الذي يهمله الحصادون مطروحاً في الأرض، فالحصادون أنما هم الفعلة الأنجيليون، المرسلون، الواعظون، المرشدون، المعرفون الذين يومياً يجمعون الأنفس لله ويكتسبونها له تعالى، ولكن توجد بعض الأنفس عاصيةً عليهم ومصرةً على الأثم حاصلةً في قساوة القلب ولذلك تهمل من هؤلاء الحصادين، فسمح لمريم وحدها الأقتدار على أن تخلص بقوة شفاعاتها، هذه السنبلات المهملة المتروكة من الفعلة الأنجيليين، الا أنهم لتعيسون بالحقيقة أولئك الخطأة الذين هذه صفتهم، أن كانوا لا يتركون مريم أن تلتقطهم، لأنهم حينئذٍ من غير شكٍ يضحون ملعونين هالكين، وبالعكس لمغبوطين هم أولئك المهملون الذين يستغيثون بمريم الأم الصالحة: لأنه (كما يقول العابد بلوسيوس) لا يوجد في العالم خاطٍ بهذا المقدار هالكٌ في حماة المآثم، ويرذل من مريم مطروداً، بل اذا أقبل نحوها طالباً منها المعونة، فهي كأمٍ حنونةٍ تقدر جيداً وتعرف حسناً، وتريد حقاً، أن تصالحه مع أبنها وتكتسب له المغفرة.* فبمواجب الأستئهال يسلم عليكِ أيتها الملكة سيدتي القديس يوحنا الدمشقي هاتفاً: السلام عليكِ يا رجا مقطوعي الرجاء. وكذلك القديس لورانسوس يوستينياني يسميكِ: رجاء عمال الأثم: والقديس أوغوسطينوس يدعوكِ: ملجأ الخطأة الوحيد: والقديس أفرام يلقبكِ: بمينا الخلاص الأمين للمسافرين في البحر العالمي: وهو نفسه في مكانٍ آخر ينعتكِ: بمحامية عن الهالكين: وهكذا القديس برنردوس يحرض الخطأة حتى القاطعين رجاهم على أن لا ييأسوا، ومن ثم يهتف نحوكِ مملوءاً فرحاً بكِ أنتِ أمه المحبوبة منه في الغاية صارخاً: ترى من يمكنه أيتها السيدة أن لا يثق بكِ متكلاً عليكِ بحسن الرجاء بعد أنكِ تسعفين المقطوع رجاهم أنفسهم، فأنا لا أرتاب أصلاً بأننا حالما نحن نلتجئ اليكِ فدائماً نفوز بكل ما نبتغيه، فليرجوكِ اذاً المقطوع رجاهم: ثم أن القديس أنطونينوس يخبرنا بأنه اذ كان يوماً ما أحد الخطأة حاصلاً في حال الأثم معدوماً نعمة الله، قد رأى ذاته حاضراً في المحكمة الإلهية أمام يسوع المسيح، وشاهد الشيطان يقدم عليه الشكايات، ومريم البتول تحامي عنه ضدها، فالعدو الجهنمي قدم حينئذٍ سجلاً مدونةً فيه مآثم هذا الخاطئ كلها، واذ وضع ذاك السجل في ميزان العدل الإلهي بأزاء الأعمال الصالحة التي كان هو فعلها، قد وجد أثقل بما يجد من تلك الأعمال، فماذا صنعت وقتئذٍ مريم المحامية العظيمة عن الخاطئ، فقد مدت يدها الحلوة على كفة الميزان فوق الأعمال الصالحة وجذبتها، فوجدت أثقل كثيراً من سجل الخطايا، وبذلك أوضحت للخاطئ في تلك الرؤيا، أنها هي تستمد له من الله الغفران أن كان يغير هو سيرته الأثيمة، كما تم الأمر حقاً، بأن الخاطئ المومى اليه حينما رجع الى ذاته قد تاب عن خطاياه بسيرةٍ صالحة.* * نموذجٌ * لقد أخبرنا الطوباوي يوحنا أرولتوس الملقب تواضعاً بالتلميذ. عن رجل مقترن بسر الزيجة كان عائشاً في الخطيئة معدوماً نعمة الله، فأمرأته التي كانت صالحةً اذ لم يمكنها أن تجلبه الى ترك الخطيئة، قد توسلت اليه بأن يمارس، وهو في تلك الحال الشقية قلما يكون هذه العبادة نحو والدة الإله، وهي أنه كل مرةٍ يجتاز من مكان توجد فيه أيقونةً ما لهذه السيدة، فيتلو تكريماً لها: السلام لكِ يا مريم الخ: فالرجل المومى اليه قد أبتدأ أن يمارس ذلك، فليلةً ما اذ كان هذا المنافق ذاهباً ليصنع الخطيئة قد شاهد أمامه نوراً لامعاً. واذ حدق به فرآه مصباحاً متقداً أمام أيقونةٍ لمريم البتول مصورةٍ حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي يسوع. فحينئذٍ حسب عادته صلى السلام الملائكي، ولكن ماذا رأى، أنه شاهد الطفل يسوع مكسى الجسم، بجراحاتٍ متخنة تقطر دماً جارياً منها، فللوقت هو أستوعب أنذهالاً وتوجعاً معاً بأفتكاره في أن كثرة خطاياه كانت علةً لجراحات المخلص، فطفق يبكي بدموعٍ غزيرةٍ، الا أنه لاحظ أن الطفل الإلهي كان يعطيه ظهراً غير مريدٍ أن ينظر اليه، الأمر الذي أملأه من القلق والغم، ومن ثم أتجه نحو والدته المجيدة متضرعاً اليها بقوله: أن أبنكِ يطردني من أمامه يا أم الرحمة، فأنا لا أقدر أن أجد محاميةً عني ذات أقتدارٍ ورأفةٍ مثلكِ لديه، اذ أنكِ أمه، فعينيني أنتِ يا ملكتي وصلي من أجلي أمامه: فالأم الإلهية قد أجابته من تلك الأيقونة قائلةً: أنكم أنتم أيها الخطأة تسموني أم الرحمة، ولكن في الوقت عينه لا تهملون أن تجعلوني أم الشقاوة، بتجديدكم آلام أبني وأوجاعي معاً: الا أنها مع ذلك لحنوها العظيم الذي من أجله لا تعرف أن تصرف أحداً من الملتجئين اليها من غير تعزيةٍ. قد التفتت الى أبنها وشرعت تتوسل اليه من أجل ذاك الخاطئ بأن يغفر له، فيسوع أستمر يظهر نفوراً من هذه الطلبة، فحينئذٍ البتول قد وضعت الطفل في تلك الحنية التي كانت نظير هيكلٍ، وسجدت أمامه قائلةً له: أنني لا أنهض من أمام قدميكَ يا أبني أن لم تغفر لهذا الخاطئ: فوقتئذٍ أجابها يسوع بقوله: أنه لا يمكنني يا أمي أن أنكر عليكِ شيئاً. أفتريدين أن أغفر له. فأنا حباً بكِ أسامحه عن ذنوبه، فأدعيه الى ههنا ليقبل جراحاتي. فالخاطئ تكميلاً لأمره الإلهي تقدم باكياً مرتعداً وبدأ يقبل تلك الجراحات واحدة بعد الأخرى، وفي حين تقبيله كلاً منها كان يشفى الجرح، وأخيراً الطفل الإلهي عانقه علامةً للغفران وهكذا رجع ذاك الخاطئ الى بيته متعزياً، وغير سيرته الرديئة وعاش بالصلاح مغرماً بالحب لوالدة الإله التي أستمدت له هذه النعمة العظيمة.* † صلاة † https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg أنني أسجد يا مريم البتول الكلية الطهارة لقلبكِ المثلث القداسة. الذي صودف بيت راحةٍ وموضوع تنعمٍ لله الضابط الكل، قلباً مملوءاً من التواضع والنقاوة والحب الإلهي. فأنا الخاطئ التعيس آتي اليكِ بقلبٍ موعبٍ آلاماً رديئة وحماةً، ولكن ليس لأجل ذلك تستنكفين يا أم الرأفة مني، بل أنعطفي بأوفر أشفاقٍ نحوي وعينيني، ولا تطلبي فيَّ لكي تساعديني، لا أستحقاقاتٍ ولا فضائل، فأنا أنسانٌ ضال لا أستحق سوى الجحيم، ولكني أتوسل اليكِ بأن تلاحظي فيَّ هذا الأمر فقط. وهو الرجاء الذي لي فيكِ. والأرادة الحقيقية في أن أتوب عن شروري، فأنظري ما الذي صنعه وأحتمله من أجلي يسوع أبنكِ. وحينئذٍ أهمليني أن كنت تقدرين أن تهمليني، فأنا أضع أمامكِ كل آلام حياته، البرد الذي تكبده في الأسطبل، السفر الذي صنعه بذهابه الى مصر، الدم الذي سفكه، الفقر الأعراق، الأحزان، الموت الذي أحتمله حباً بي بحضوركِ، وهكذا أكراماً لحبكِ أبنكِ أهتمي بخلاصي، فأنا لا أريد أن أخاف يا أمي، بل ولا أقدر أن أخشى من أنكِ تطرديني الأن أنا ألتجئ اليكِ طالباً أن تسعفيني، لأني لو كنت أرتاب في ذلك لصنعت أفتراءً على رحمتكِ التي تفتش على البائسين لتساعدهم، فلا تنكري أيتها السيدة رأفتكِ على من لم ينكر عليه يسوع أبنكِ دمه. ولكن أستحقاقات هذا الدم لا تتخصص بي أن كنتِ لا تتوسلين أنتِ من أجلي لدى الله، فأنا منكِ أرجو خلاصي، في الوقت الذي فيه أنا لا أطلب لا أموالاً ولا كراماتٍ، ولا شيئاً آخر من خيرات الأرض، بل ألتمس منكِ نعمة الله، والحب لأبنكِ، وتكميل أرادته، والفردوس السماوي، لكي أحبه هناك الى الأبد. فهل يمكن أن لا تقبلي طلبتي هذه كلا، أني أؤمل أن تستجيبيني، فصلي لأجلي بأن أنال النعمة التي طلبتها، وأقبليني تحت كنف وقايتكِ. ولا تتركيني يا أمي، بل داومي التضرع من أجلي طالما لا تشاهديني بلغت الى السما مخلصاً، حيث أنطرح على قدميكِ لكي أبارككِ وأشكركِ الى الأبد آمين. † |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الرابع: اليك نصرخ نحن المنفيين أولاد حواء - كتاب امجاد مريم
الفصل الرابع *فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: اليكِ نصرخ نحن المنفيين.أولاد حواء* * وفيه جزءان* † الجزء الأول † * كم هي مستعدة مريم الطوباوية لأن تعين من يصرخ اليها* فيا لشقاوتنا نحن الذين اذ كنا أولاداً لأمنا حواء التعيسة. ولأجل ذلك نحن مدنسون أمام الله بجريرة خطيتها نفسها، ومحكومٌ علينا بالعقاب عينه الذي حكم به عليها، فنسير تائهين في وادي الدموع هذا منفين من وطننا، باكين محزونين من قبل أوجاع كثيرة ملمة بأنفسنا وبأجسدنا. ولكن لمغبوطٌ هو ذاك الذي فيما بين هذه الشقاوات يلتجئ مراتٍ مترادفةً الى معزية العالم، ملجأ المساكين والدة الإله متعبداً لها يدعوها مستغيثاً بها كما قيل عنه: مغبوطٌ الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبوابي ويحفظ أوزان مداخلي: (أمثال ص8ع34) فتقول مريم مغبوط من يصغي الى مشورتي، ولا يهمل أن يواظب على الدوام الألتجاء الى أبواب رحمتي مستغيثاً بشفاعاتي وملتمساً معونتي. فمن ثم تعلمنا حسناً أمنا الكنيسة المقدسة كم يلزمنا أن نلتجئ برجاءٍ وأهتمامٍ الى هذه المحامية عنا المقتدرة المملؤة حباً نحونا، راسمةً علينا نحن أولادها بأن تكون عبادتنا خصوصيةً نحو هذه الكلية القداسة ومتميزةً جداً، وأمرتنا بأن نحتفل في مدار السنة بأعيادٍ كثيرة لتكريمها، وبأن يوماً واحداً من كل سبتٍ يكون مختصاً بها ومكرساً بنوعٍ خاص لأجلها، وبأن جميع الأكليروس العلماني والقانوني يتلون يومياً في الفرض الإلهي نيابةً عن الشعب المؤمن كافةً الكلمات المختصة بالأستغاثة بها وبأستدعائها لمعونتنا، وبأن ثلاث مراتٍ في كل يومٍ أي صباحاً وظهراً ومساءً عند قرع الناقوس يحييها المؤمنون بالسلام الملائكي. ثم لقد كان يكفي لكي يفهم ذلك واضحاً أن يصير التأمل في أن كل مرةٍ تحدث الشدائد العمومية. فدائماً تمارس الكنيسة الطلبات والسهرات والزيحات وزيارات المعابد والأيقونات المختصة بهذه السيدة الجليلة، التي أنما تريد هي منا هذه العبادات ليس كأنها محتاجةٌ اليها، ولا تكريماً لشخصها ترغب هكذا أن ندعوها بأتصالٍ ونستغيث بها، لأن هذه جميعها هي شيء جزءي حقير بالنسبة الى شرفها ومقامها الكلي العظمة، بل لكي ينمو فينا نحوها الرجاء وحسن الأتكال وحرارة العبادة والحب، وبذلك يمكنها هي أن تسعفنا بأبلغ نوع وتعزينا. كما يقول القديس بوناونتورا هكذا: انها هي تطلب أولئك الذين يقدمون اليها بحسن عبادةٍ وبأحترامٍ لأنها تحب هؤلاء وتعولهم وتقبلهم بصفة بنين لها:.*ثم يقول القديس بوناونتورا عينه: أن الأمرأة راعوث التي يفسر أسمها ناظرةً ومسرعةً كانت رسماً لمريم البتول، على أن مريم هذه المجيدة اذ تنظر حال شقاوتنا وذلنا وأعوازنا فتسرع مهتمة في أن تسعفنا برحمتها: وكذلك نوفارينوس يضيف الى هذا قائلاً: أن مريم لأجل رغبتها وأشواقها الى عمل الخير معنا، لا تعرف أن تتأخر أصلاً عن ذلك، ومن حيث أنها لم تكن بخيلةً في حفظها أنهامها، فبحسب كونها أم الرحمة لا تقدر أن تمسك ذاتها عن أن تسكب بكل سرعةٍ ممكنةٍ على عبيدها خزائن سخائها.* فيا لحسن أستعداد هذه الأم الصالحة لأسعاف من يستدعيها لمعونته، كما قيل عنها: ثدياكِ كخشفي ظبيةٍ توأمين: (نشيد ص4ع5) فريكاردوس الذي من سان لورانسوس اذ يفسر هذه الكلمات يقول: أن ثديي مريم هما مهيئان لأن يفيضا بسرعةٍ لبن الرحمة لكل من يلتمسها نظير أسراع خشف الظبية: ثم أن المعلم المذكور يؤكد لدينا أن رأفة مريم تباح منها نحو كل أحدٍ يستمدها. ولئن لم يكن يستعمل هو نحوها في التماسه الرحمة تضرعاتٍ أو أبتهالاتٍ آخر سوى السلام الملائكي، ولذلك يشهد نوفارينوس بأن مريم لا تسرع فقط بل تطير ايضاً لمساعدة من يستغيث بها، فهي عند أستعمالها الرحمة لا تعرف أن تبتعد عن أن تتشبه بإلهها، فكما أن الرب يسوع كأنه طائرٌ ليعين حالاً أولئك الذين يستمدون منه الأسعاف، لأنه كلي الأمانة في أتمام مواعيده التي وعدنا بها قائلاً: أسألوا تعطوا: فهكذا مريم حينما تستدعى فحالاً توجد حاضرةً لأن تعين من يستغيث بها متضرعاً: وبهذا يفهم من هي تلك الأمرأة التي قيل عنها في الأبوكاليبسي (ص12ع14) هكذا: فأُعطيت الأمرأة جناحي نسرٍ عظيم لتطير الى البرية. فالمعلم ريبايرا يفسر ذلك بأن هذين الجناحين هما الحب الذي به مريم البتول طارت الى الله: الا أن الطوباوي أماديوس يقول: أن هذين الجناحين اللذين هما جناحا النسر يفسران السرعة الكلية التي اذ تفوق بها مريم على خفة جولان السيرافيم أنفسهم فتسعف من ثم أولادها على الدوام بمعوناتها:* فلأجل ذلك اذ يخبرنا القديس لوقا البشير في الأنجيل المقدس، عن سفر الطوباوية مريم لزيارة نسيبتها القديسة أليصابات، ولكي تملأ تلك العيلة كلها من النعم، لم تستعمل الأبطاء في مسيرها، بل كما يقول هذا الأنجيلي: أن مريم قامت وذهبت مسرعةً الى الجبل الى مدينة يهوذا: (لوقا ص1ع39) الأمر الذي لا يذكر أنها فعلته عند رجوعها، ولذلك يقال عن مريم: ان يديها هما مخروطتان من ذهب: (نشيد ص5ع14) فيقول ريكاردوس: أنه كما أن الأعمال التي تمارس بواسطة صنعة الخراطة هي الأكثر سهولةً وسرعةً في أنجازها، فهكذا مريم هي الأكثر أستعداداً وسرعةً من جميع القديسين في إعانة المتعبدين لها وفي أسعافهم: فهي حاصلةٌ على أشواقٍ عظيمةٍ دائماً لتعزية الجميع، وحالما تسمع صوت من يستغيث بها، فعلى الفور تقتبل التضرع وتقضي الحاجة بكل أنعطافٍ (حسبما يقول بلوسيوس) فبالصواب اذاً يسميها القديس بوناونتورا: خلاص من يستغيث بها: مريداً أن يعني بأن من يشاء أن يفوز بالخلاص، فيكفيه أن يلتجئ الى هذه الأم الإلهية التي على قول ريكاردوس أنها تهيئ ذاتها دائماً لأسعاف من يدعوها. لأن برنردينوس البوسطي يورد: أن هذه السيدة العظيمة تشتهي أن تهبنا نعماً أشد أشتهاءً من رغبتنا نحن أن نقبل النعم لذواتنا.* ثم أن كثرة خطايانا لا ينبغي أن تضعف رجانا في أن تستجيب مريم طلباتنا حينما نلتجئ لدى قدميها. فهي أم الرحمة، والحال أن الرحمة لا يعود لها مكانٌ عندما لا يوجد معوزون يفتقرون اليها. ومن ثم كما أن الأم الصالحة لا تأنف مستكرهةً من أن تضع دواءً شافياً لأبنها المبتلي بداء الجرب، ولئن كانت مداواته صعبةً محركةً الى الأستكراه والنفور، فهكذا أمنا هذه الحنونة لا تعرف أن تهملنا حينما نستغيث بها، ولئن كانت وافرةً هي نتانة خطايانا التي تشفينا هي منها. فهذا هو ما يورده ريكاردوس، وهذا ما قد قصدت أن تشير اليه هذه الأم الإلهية نفسها حينما أظهرت للقديسة جالتروده، كبف أنها كانت تبسط برفيرها لكي تقتبل تحت حمايتها كل من يأتي اليها، وحينئذٍ قد فهمت هي أي القديسة جالتروده أن الملائكة كافةً يهتمون في أن يحاموا عن المتعبدين لمريم ضد قوات الجحيم.* فبهذا المقدار هي عظيمةٌ الرأفة الكائنة في قلب هذه الأم الصالحة نحونا، وهكذا هو شديدٌ الحب الذي تحبنا به، حتى انها لا تنتظر تضرعاتنا لتعيننا. فقيل في سفر الحكمة (ص6ع14): أنها هي تبادر الى من يشتهيها وتظهر لهم هي أولاً: فالقديس أنسلموس يخصص هذه الكلمات بمريم، ويقول أنها هي تسبق وتبادر لتعضد الذين يشتهون حمايتها، وبذلك يلزمنا أن نفهم أنها هي تستمد لنا من الله أنعاماً كثرةً قبل أن نطلبها نحن منها. ولهذا يقول ريكاردوس الذي من سان فيتورة: أن مريم تسمى قمراً، لأنها هي ليس فقط مثل القمر قريبةً منا وسريعة الإجابة لمن يستغيث بها، بل بأكثر من ذلك هي محبةٌ خيرنا بهذا المقدار حتى أنها في أحتياجاتنا تسبق هي تضرعاتنا، ورحمتها هي مستعدةٌ لأعانتنا أكثر من حركتنا نحن لأن نستمد منها الرحمة. وهذا أنما يصدر (يتبع قوله ريكاردوس عينه بقوله) من قبيل أن صدر مريم هو مملؤٌ من الرأفة والأشفاق. ولذلك حالما تشعر هي بأحتياجاتنا فلا يتأخر هذا الصدر السخي عن أن يفيض حالاً لبن الرحمة، لأن هذه الملكة الحنونة لا تقدر أن تعلم أفتقار نفس أحدٍ الى الأسعاف ووجودها في حال الضرر ولا تمد هي يدها لمعونتها وقضاء حاجتها.* فهذه الأم الرأوفة من حينما كانت عائشةً على الأرض، قد أعطتنا هذا البرهان أيضاً، فيما بين البراهين الأخرى الدالة على أنها هي نفسها من شدة أشفاقها علينا تسبق، وتهتم في سد أعوازنا وأسعافنا في أحتياجاتنا قبل أن نتوسل اليها، والبرهان هو المورد عنها من القديس يوحنا الأنجيلي في الاصحاح الثاني من بشارته في خبرية عرس قانا الجليل، أي أن هذه الأم الشفوقة عندما شاهدت حينئذٍ الغم الحاصل للعروس ولعروسته، من قبل نقص الخمر من ذلك العرس اذ لم يعد لهما أستطاعة على أحضار خمرٍ آخر لأهل الوليمة بعد نهاية الخمر الأول، ومن ثم أستحوذ عليهما الخجل من المجتمعين الى العرس، فتحركت هي الى الشفقة عليهما من دون أن يلتمسا منها أعانةً ما، بل بمجرد نظرها إياهما في تلك الحال وأسرعت لأسعافهما، لأنها لا تقدر أن تشاهد أحداً معوزاً ولا تبادر لمساعدته، فلهذا توسلت الى ابنها يسوع بأن يعزيهما مخبرةً إياه بأحتياجهما وقائلةً: أن ليس عندهم خمرٌ: فبعد هذا لكي يعزي مخلصنا تلك الجمعية وبنوع خاص لكي يرضي قلب والدته المملؤ حنواً نحوهم قد صنع الأعجوبة المشهورة بأحالته الى خمرٍ الماء الموعب في الأجاجين. فهنا نوفارينوس يبرهن مستنتجاً بأنه: أن كانت مريم هي مستعدةً بهذا المقدار لأن تسعف المحتاجين الذين لم يلتمسوا منها الأعانة، كما تم في الحادث المذكور، فكم هي بأبلغ نوعٍ وبأعظم أشفاقٍ مستعدةٌ دائماً لأن تعزي من يستغيث بها. ويلتجئ اليها ملتمساً منها المعونة.* ومن ثم البابا أينوشانسيوس الثالث يوبخ ذاك الإنسان الذي يدخله الريب في مساعدة هذه السيدة إياه مبرهناً بقوله: أترى ممكنٌ هو أن يوجد في الكون إنسانٌ ألتمس من هذه السيدة العذبة مريم المجيدة معونةً ولم تسعفه هي. وكما يقول الطوباوي أوتيكيانوس: ترى من هو ذاك الذي يلتجئ اليكِ أيتها البتول الطوباوية بأمانةٍ، ويرجع خازياً مهملاً من حمايتكِ وعنايتكِ التي تقدر أن تعين كل أحدٍ من الأشقياء البائسين. وتخلص الخطأة الميؤوسين والأكثر خطراً للهلاك. فهذا الحادث ما أتفق قط ولن يكون أبداً وهو أن ترفضي أحداً من المتكلين عليكِ. ويقول القديس برنردوس: أنني أرتضي كل الرضا بأن لا يعود يتكلم خيراً ولا يمدح رحمتكِ أيتها البتول القديسة. ذاك الذي يكون أستغاث بكِ في أحتياجاته ويفتكر بأنه لم ينل منكِ الأهتمام بقضاء حاجته، هذا أن أمكن أن يوجد إنسانٌ كذا.* وبأشد بلاغةٍ يقول العابد بلوسيوس: أنه لأسهل هو أن تخرب السماوات والأرض، من أن مريم ترفض أن تعين من يتضرع اليها بنيةٍ صالحةٍ طالباً مساعدتها وواثقاً بها برجاءٍ ثابت: ثم أن القديس أنسلموس يضيف الى ذلك ما يزيد أتكالنا وأعتمادنا على هذه السيدة الرحومة بقوله: أننا عندما نلتجئ الى هذه الأم الإلهية يلزمنا ليس فقط أن نكون مطمأنين في مفاعيل حمايتها إيانا، بل أيضاً أننا بعض الأحيان نصدق أن طلبتنا تقبل ونفوز بالخلاص بأكثر سرعةٍ بالتجائنا الى مريم مستغيثين بأسمها المقدس، من أن نستغيث بأسم يسوع مخلصنا، والسبب في ذلك أي بمصادفتنا الخلاص بأوفر سرعةٍ بالتجائنا الى الأم مما بألتجائنا الى الابن هو، لا كأن مريم هي أكثر أقتداراً من أبنها الإلهي على خلاصنا، اذ أننا نعلم أن يسوع هو مخلصنا الوحيد، الذي بأستحقاقاته هو فقط قد أكتسب ويكتسب لنا الخلاص، بل من حيث أننا اذ نتقدم الى يسوع بأللتجاء، ونتأمل وقتئذٍ في كيف أنه هو دياننا أيضاً المختص به أن يعاقب الخائنين ناكرين الجميل. فيمكن أن ينقص فينا من ثم حسن الرجاء الضروري لنوال مطلوباتنا، الا أننا حينما نتقدم الى مريم التي لم تكن لها وظيفةٌ أخرى سوى أن تشفق علينا بحسب كونها أم الرحمة، وأن تحامي عنا بحسب كونها شفيعتنا، فيبان أن رجانا وثقتنا وأتكالنا يكون بأوفر طمأنينةٍ وبأعظم ثباتٍ: على أنه يتفق ليس نادراً أن أشياء كثيرةً تلتمس من الله فلا تعطى، وتلتمس من مريم فتعطى، فكيف يكون هذا، فيجيب نيكيفوروس: بأن هذا يحدث لا كأن مريم هي أعظم أستطاعةً وقدرةً من الله، بل لأن الله نفسه قد حكم ورسم بأن يكرم والدته على هذه الصورة.* على أنها لذيذةٌ ومسرةٌ هي المواعيد التي وعد الرب عينه بأن يصنعها وهي أنه يقرأ في الرأس الثمانين من الكتاب الأول من الأوحية الصائرة للقديسة بريجيتا، أنه يوماً ما قد سمعت هذه القديسة يسوع المسيح مخاطباً والدته هكذا: أطلبي مني يا أمي كل ما تريدين لأني لا أنكر عليكِ أعطاء شيءٍ ما من جميع ما تسألينه، وأعلمي أن كل أولئك الذين يطلبون مني شيئاً من النعم حباً بكِ. حتى ولئن كانوا خطأة بحيث أن تكون فيهم أرادةٌ للرجوع عن الخطيئة، فأنا أعدهم بان أستجيب لهم: وهذا نفسه قد أوحى به الى القديسة جالترودة حينما سمعت مخلصنا عينه قائلاً لوالدته، بأنه بحسب قدرته الضابطة الكل قد منح أن يستعمل الرحمة مع أولئك الخطأة الذين يستغيثون بها، بأي نوعٍ وطريقةٍ تشاء هي أستعمال الرحمة معهم. فليقل اذاً كل أولئك الذين يستدعون مريم أم الرحمة لمعونتهم برجاءٍ عظيم، ما كان يقوله نحوها القديس أوغوسطينوس هكذا: أذكري أيتها السيدة الرأوفة أنه لم يسمع قط منذ تأسيس العالم أن أحداً رذل منكِ مهملاً، ولهذا سامحيني أن كنت أقول لكِ أنني لا أريد أن أكون أنا هو هذا الإنسان التعيس الأول. أي بعد أن التجئ اليكِ أعود خائباً وأهمل منكِ فارغاً:* * نموذجٌ * فالقديس فرنسيس سالس قد أختبر في ذاته حسناً مفاعيل الصلاة المقدم ذكرها، كما يورد في الرأس الرابع من الكتاب الأول من سيرة حياته. على أن هذا القديس قد كان في السنة السابعة عشرة من عمره تقريباً مقيماً في مدينة باريس مهتماً في درس العلوم. في الوقت عينه الذي فيه كان غرامه ولذته الأنعكاف على أفعال التعبد والحب المقدس لله، الأمر الذي وجد لديه نعيماً فردوسياً على الأرض. فالباري تعالى لكي يختبره بأفضل نوعٍ ويضمه بأشد تعلقٍ نحو حبه، قد سمح بأن الشيطان يصور له مجيِّداً في عقله أن جميع ما كان هو يمارسه من الخير لم يكن يفده بتةً، من حيث أنه هو بموجب سابق علم الله وحكمه أحصي في عدد المرذولين، فتبرقع العقل واليبس الروحي اللذان تركه فيهما الله بأرادةٍ مقصودةٍ في هذا الزمن عينه، حتى أنه كان يوجد حينئذٍ هو عديم الحس في جميع التصورات الأكثر عذوبةً، التي كانت تستحضر منه في شأن خيرية صلاح الله وجوده الغير المتناهي، قد أوقعاه بزيادة الحزن، وأعطيا التجربة قوةً أعظم لأن تفعم جوف هذا الشاب مرارةً علقميةً، بنوع أنه لخوفه وأرتيابه المومى اليهما قد عدم شاهية الأكل، وفقد راحة النوم، وتغيرت سحنة وجهه، وأبتعدت عنه أمارات التعزية والفرح متى أن كل من يراه في تلك الحال لم يكن يمكنه الا يتوجع له من أجلها*ففي مدة دوام هذه الزوبعة المهيلة لم يكن يعلم هذا القديس أن يفتكر في شيءٍ آخر أو أن يفه بكلمات أخرى سوى فيما يزيده توجعاً وغماً وضعف رجاءٍ، ومن ثم كان يقول هكذا: فاذاً أنا سأكون معدوماً نعمة إلهي الذي فيما مضى قد أظهر لي ذاته بهذا المقدار موضوعاً شهياً للحب والعذوبة، فيا أيها الحب ويا أيها الجمال اللذان أنا كرست لكما عواطف قلبي كلها فهل لا أعود أتمتع بعد بتعزياتكما، يا والدة الإله العذراء أيتها الفائقة جمالاً على بنات أورشليم كلهن. أهل أنني لا أقدر اذاً أن أشاهدكِ في الفردوس السماوي، آواه أيتها السيدة أن كنت أنا لست بعتيدٍ أن أرى وجهكِ الكلي الجمال، فقلما يكون لا تسمحي بأني في جهنم ألعنكِ وأجدف عليكِ: فهذه الأقوال كانت حينئذٍ ثمرة أنفعالات قلبٍ نعم أنه مغرم في الحب لله وللبتول الطوباوية، الا أنه مفعمٌ من الحزن الشديد. فالتجربة المذكورة قد أستمرت مستحوذةً على هذا البار مدة شهرٍ كاملٍ، الا أن الرب قد تنازل أخيراً لأن يمنجيه منها بواسطة معزية العالم مريم الكلية القداسة. التي كان قبلاً هذا القديس كرس بتوليته تكريماً لها، وكان من عادته أن يقول أنه وضع فيها رجاه كله، فيوماً ما عند رجوعه مساءً نحو مكان سكناه قد دخل الى كنيسةٍ، وهناك شاهد لوحاً معلقاً على الحائط مكتوبةً فيه الصلاة السابق ذكرها المقالة من القديس أوغوسطينوس وهي: أذكري أيتها السيدة الرأوفة أنه لم يسمع قط منذ تأسيس العالم أن أحداً رذل منكِ مهملاً، ولهذا سامحيني أن كنت أقول لكِ أنني لا أريد أن أكون أنا هو هذا الإنسان الأول التعيس، أي بعد أن ألتجئ اليكِ أعود خائباً وأهمل منكِ مرذولاً: فتقدم القديس فرنسيس أمام هيكل والدة الإله في تلك الكنيسة وتلى هذه الصلاة بعواطف حبٍ مضطرم، وجدد هناك نذر حفظ البتولية لهذه الأم الإلهية موعداً بأن يتلو يومياً مسبحتها الوردية. ثم أضاف الى ذلك جميعه قائلاً: كوني محاميةً عني يا ملكتي لدى أبنكِ الذي أنا لا أجسر أن التجئ اليه، فأن كنت أنا التعيس يا أمي لا أستطيع في العالم الآتي أن أحب سيدي الذي أنا أعلم أنه بهذا المقدار هو مستحقٌ أن يحب، فقلما يكون أستمدي لي أنتِ هذه النعمة وهي أن أحبه تعالى في هذا العالم أعظم حباً أقدر عليه. فهذه الموهبة أطلبها منكِ وأرجو نوالها: قال هذا وأسلم ذاته بكليتها بين يدي الرحمة الإلهية خاضعاً كل الخضوع لمشيئة الله. ولكن عندما أنهى صلواته المقدم ذكرها قد خلصته حالاً أمه الإلهية الكلية العذوبة من تلك التجربة، وفاز بالسلام الباطن تماماً ومعاً شفي من مرضه الجسدي، ومن ثم داوم مستسيراً بحسن العبادة لمريم التي بعد ذلك لم يعد يكفف مدة حياته كلها، عن أن يذيع تسابيحها ومدائحها ومفاعيل رحمتها وينذر بها في مواعظه وتأليفاته الجليلة.* † صلاة † يا والدة الإله ملكة الملائكة ورجاء البشر أنصتي الى من يدعوكِ وأصغي الى من يناجيكِ. فهوذا أني اليوم منطرحٌ على قدميكِ أنا الشقي المستأسر من الجحيم. مريداً أن أكرس ذاتي عبداً لكِ على الدوام موعداً بأن أخدمكِ وأكرمكِ في جميع أيام حياتي بكل أستطاعتي. فأنا ألاحظ جيداً أن عبودية أسيرٍ هكذا دنيءٍ عاصٍ مثلي لا تكرمكِ، اذ أني قد أهنت كثيراً أبنكِ ومخلصي يسوع، ولكن أنتِ اذا قبلتِ عبداً لكِ أسيراً عديم الأستحقاق، وبواسطة شفاعاتكِ غيرتِ حاله السيئة مصيرةً إياه أهلاً لخدمتكِ، فرحمتكِ هذه عينها المستعملة منكِ نحوه بهذا النوع تعطيكِ الكرامة التي أنا الحقير الذليل لا أقدر أن أكرمكِ بها. فأقبليني اذاً ولا ترفضيني يا أمي، فالكلمة الأزلي قد أنحدر من السما الى الأرض ليطلب هذه الأغنام الضالة، واذ أراد أن يخلصها قد صيركِ أمه بتجسده منكِ، أفهل أنكِ تحتقرين خروفاً من هذه الأغنام يلتجئ اليكِ لكي يجد بواسطتكِ يسوع. فالثمن قد دفع لأجل خلاصي من الأسر ولنوالي الحياة الأبدية. لأن مخلصي قد سفك دمه الذي هو كافٍ لأن يفدي عوالم غير متناهي عددها. ولم يعد باقياً سوى أن أستحقاقات هذا الدم تتخصص بي أنا أيضاً. ولكن كما يقول لي القديس برنردوس أنه متعلقٌ بكِ أيتها البتول المباركة. أن توزعي الأستحقاقات المذكورة على من تريدين. ومختصٌ بكِ كرأي القديس بوناونتورا أيضاً هو أن تخلصي من تشائين. فاذاً عينيني يا ملكتي وخلصيني يا سلطانتي، فأنا أسلمكِ نفسي الآن بجملتها. وأنتِ أفتكري في أمر خلاصها، فيا خلاص من يستغيث بكِ حسبما يقول القديس المذكور عينه أنتِ خلصيني.† † الجزء الثاني † * في كم هي مقتدرةٌ مريم البتول على أن تحامي عمن يستغيث * *بها في حين التجارب المسببة له من الشيطان* أن مريم الكلية القداسة هي سلطانةٌ ليس على السماوات والقديسين فقط، بل على الجحيم والشياطين أيضاً، لأجل أنها أنتصرت عليهم أنتصاراً مجيداً بقوة فضائلها. فالباري تعالى منذ بدء الخليقة سبق وأخبر الحية الجهنمية بالغلبة والسلطة اللتين كانت عتيدةً ملكتنا هذه أن تفوز بهما ضدها، بأيعاذه إليها عن الأمرأة المزمع أتيانها الى العالم للأنتصار عليها، عندما قال عز وجل لهذه الحية: ولأجعلن العداوة فيما بينكِ وبين الأمرأة وفيما بين نسلكِ وفيما بين نسلها وهي تسحقُ رأسكِ (تكوين ص3ع15) فمن هي هذه الأمرأة عدوة الحية الا مريم التي بواسطة تواضعها الجميل وحياتها المقدسة قد أنتصرت دائماً على الحية وأخمدت قوتها، فيشهد القديس كبريانوس بقوله أن الوعد من الله بتلك الأمرأة كان عن والدة سيدنا يسوع المسيح، مبرهناً بأن الله لم يقل للحية قد جعلت العداوة فيما بينكِ وبين الأمرأة ليفهم بها حواء بل قال لأجعلن العداوة قولاً يخص المستقبل، ليبين لها أن هذه العداوة لم تكن مع حوا التي كانت وقتئذٍ في الوجود، بل مع أمرأةٍ أخرى عتيدة أن تولد من نسل حواء وتجلب للأبوين الأولين خيراً أعظم من الذي خسراه بخطيتهما: كما يقول القديس فيخانسوس فراري، فمريم اذاً هي تلك الأمرأة العظيمة القوية الشجاعة التي غلبت الشيطان، وسحقت رأسه بأخماد كبرياه كقوله تعالى عنها: وهي تسحق رأسكِ: فبعض المفسرين يرتابون في أن كانت هذه الكلمات قيلت عن مريم أم عن يسوع المسيح، لأن السبعين مترجماً قد كتبوا: ونسلها يسحق رأسكِ: الا أنه يوجد عندنا في النسخة العامة (التي هي مثبتة من المجمع التريدنتيني) كما قلنا أعلاه أي: وهي تسحق رأسكِ: وهكذا فهم معناها القديسون أمبروسيوس وأيرونيموس وأوغوسطينوس ويوحنا فم الذهب وغيرهم كثيرون جداً. ولكن هب أن الأمر هو كما يريد البعض الآخرون أي: نسلها يسحق رأسكِ: فالمعنى هو واحدٌ لأنه سواء كان المسيح بواسطة هذه الأمرأة أمه سحق رأس الحية أو أن مريم بقوة أبنها المسيح سحقته، فمن دون ريبٍ أن لوسيفوروس المتعجرف بالتغطرس قد غلب مقهوراً وسحقت هامته مكسورةً من هذه البتول مريم المباركة، التي فازت عليه بالأنتصار التام حسبما يقول القديس برنردوس، ومن ثم نظير أسيرٍ مأخوذٍ في الحرب هو مضطرٌ جبراً عن مشيئته لأن يخضع لأوامر هذه الملكة، ثم يقول القديس برونونه: أن حواء بواسطة أنغلابها من الحية قد جلبت لنا الموت والظلمات. الا أن البتول الطوباوية بأنتصارها على الشيطان قد جلبت لنا الحياة والنور، وقد ربطت الشيطان بنوع أنه ما عاد يقدر أن يتحرك لفعل أدنى ضررٍ للمتعبدين لها.*فحسناً يفسر ريكاردوس الذي من سان لورانسوس تلك الكلمات المدونة في سفر الأمثال (ص31ع11) عن الأمرأة الشجاعة وهي: أن قلب رجلها يثق بها ولا يحتاج الى غنائم، من هذه الحال حالها لن تعوزها ذخائر تملكها. فيقول: أن الله قد أستودع في يد مريم قلب يسوع لكي تهتم هي في أن تصير البشر أن يحبوه كما يفسر كورنيليوس، وبهذا النوع لن تعوزه ذخائر يملكها أي أكتساب الأنفس، لأنها هي تغنيه بكثرة الأنفس اللواتي كان الجحيم أغتنمهن لذاته بتخليصها إياهن بقوة مساعدتها المقتدرة.* فأمرٌ معلومٌ هو أن أغصان النخل هي علامة الأنتصار، فلهذا قد وضعت ملكتنا في عرشٍ عالٍ لتشاهد من جميع السلطات نظير نخلةٍ، علامةً للغلبة الأكيدة التي يمكن لجميع الذين هم تحت حمايتها أن يعدوا بها ذواتهم، ولهذا قيل عنها في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع18): كمثل النخلة أرتفعت في قادس: لكي أحامي حقاً عنكم: حسبما يضيف الى ذلك الطوباوي البرتوس الكبير (كأن مريم تقول نحونا): أنه حينما يثب عليكم الشيطان يا أولادي ليحاربكم فألتجئوا اليَّ وأنظروني وتشجعوا، لأنكم تشاهدون بي أنا المحامية عنكم حقيقة أنتصاركم: فمن ثم أن الألتجاء الى مريم هو واسطة كلية الأمن للفوز بالغلبة على قوات الجحيم كلها: من حيث أنها (كما يقول القديس برنردينوس السياني) هي ملكة الجحيم أيضاً وسيدة الشياطين، لأنها هي التي تحاربهم وتغلبهم، ولهذا قد سميت هذه الملكة: مخيفةً كالصفوف المرتبة (نشيد ص6ع3) فهي مخيفةٌ مرعبةٌ لسلطات الجحيم، وهي كالصفوف المرتبة لأنها تعلم أن ترتب حسناً سلطانها وأقتدارها ورحمتها وتضرعاتها، لخذل الأعداء وإبادتهم. ولأنتصار عبيدها ونجاحهم وأسعافهم، عندما يلتجئون إليها. خاصةً حينما تحاربهم التجارب مستغيثين بها وملتمسين عونها.* ثم أن الروح القدس يجعل مريم متكلمةً هكذا: أنا مثل الجفنة أثمرت رائحة طيبةً: (ابن سيراخ ص24ع23) فيقول القديس برنردوس في تفسيره هذا النص: أنه كما أن الحيات والأفاعي تهرب من الجفنة، فهكذا الشياطين يهربون من تلك النفس السعيدة التي هم يشعرون برائحة تعبدها لمريم، ولهذا تسمى أيضاً هذه الملكة أرزاً كما قيل عنها: كالأرز أرتفعتِ في لبنان. (ابن سيراخ ص24ع17) وذلك ليس فقط من حيث أن قلب شجر الأرز هو سالم من الفساد والسوس، كما وجدت مريم معصومةً من الخطيئة، بل أيضاً لأنه كما أن رائحة الأرز تجعل الحيات أن تهرب بعيداً، فهكذا مريم بواسطة قداستها تصير الشياطين أن يهربوا: حسبما يقول الكردينال أوغون في تفسيره الكلمات المذكورة.* ففي بلاد اليهودية قد كانت تحصل الأنتصارات للشعب الاسرائيلي بواسطة تابوت العهد. ومن ثم كان موسى النبي ينتصر على الأعداء بقوله عندما كان يرفع هذا التابوت: قم يا رب ولتتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمام وجهك: (سفر العدد ص10ع35) وعلى هذه الصورة قد فاز بنوا اسرائيل بالأنتصار على مدينة أريحا ثم على الشعوب الفلسطينيين فيما بعد: لأن هناك تابوت الله يومئذٍ كان معهم: (سفر الملوك الأول ص14ع18) فأمرٌ معلومٌ لدى الجميع هو أن تابوت العهد قد كان رسماً لمريم العذراء لأنه (يقول كورنيليوس الحجري) كما أن هذا التابوت كان يحوي ضمنه المن، ومثله ضمن مريم يوجد يسوع الذي نظير ذلك كان المن رسماً له، فبواسطة هذا التابوت (الذي هو مريم) يعطى الأنتصار على الأعداء الذين هم في الأرض والذين هم في الجحيم ولهذا يقول القديس برنردينوس السياني: أن مريم التي هي تابوت العهد الجديد حينما أرتفعت الى مقام ملكة السماء فوقتئذٍ ضعفت سلطة الجحيم على البشر وغُلبت.* فكم من الخوف والهلع يعتري الشياطين، وكم ترتعد أرتجافاً من مريم المجيدة ومن ذكر أسمها العظيم قوات الجحيم. كما يقول القديس بوناونتورا. فهذا القديس يقابل هؤلاء الأعداء ممثلاً إياهم بأولئك الأعداء المذكورين من أيوب البار بقوله: أنهم في الظلام ينقبون البيوت كما تواعدوا بالنهار ولم يروا النور، وأن طلع الصبح سريعاً فيحسبونه ظلال الموت ويسلكون في الظلمة كأنها هي نور (أيوب ص24ع16وع17) أي أن السارقين يذهبون في ظلام الليل ليسرقوا البيوت، ولكن متى أشرق ضياء الصبح فيهربون كما لو تكون ظهرت لهم صورة الموت وظله: فهكذا أن الشياطين (يقول القديس بوناونتورا) يدخلون الى النفس في وقت الظلام أي حينما توجد النفس مظلمةً بالجهل، ولكن حالما تأتي الى تلك النفس نعمة مريم ورحمتها، فنجمة الصبح هذه الجليلة تزيح الظلمات وتصير الأعداء الجهنميين أن يهربوا مدبرين من النفس كمن ظلال الموت، فاذاً مغبوطٌ هو ذاك الذي في وقت معركته مع قوات الجحيم يستغيث بإسم مريم العظيم.* ثم أنه مطابقةً لما تقدم ذكره قد أوحي الى القديسة بريجيتا بأن الله قد وهب مريم قوةً بهذا المقدار شديدةً على الشياطين، حتى أنه في كلٍ من الأوقات التي فيها هؤلاء يحاربون أحد عبيدها بالتجار، وهذا يستغيث بأسمها، فعلى أية إشارةٍ تعطيها هي ضدهم يهربون حالاً بعيداً مرتجفين هلعاً. ويرتضون بالأحرى بأن تتضاعف عليهم العذابات عاجلاً من أنهم يشاهدون ذواتهم مطرودين من مريم بقوةٍ هكذا عظيمة* أما كورنيليوس الحجري، ففي تفسيره الكلمات التي بها العروس الإلهي يمدح في سفر النشيد عروسته هذه المحبوبة قائلاً: كمثل السوسن بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات (ص2ع2) يتفلسف مبرهناً بقوله: كما أن زهرة السوسن هي دواءٌ قويٌ ضد الحيات والسموم. فهكذا أن أستدعاء أسم مريم هو دواءٌ فريد المنفعة للأنتصار على جميع التجارب، لا سيما المضادة العفة. حسبما يختبر ذلك بالعمل برأيٍ عامٍ كل أولئك الذين يستعملونه:* والقديس يوحنا الدمشقي (في تكلمه على البشارة بسر التجسد) يقول: أنني اذ كنت وطيد الرجاء فيكِ يا والدة الإله، فمن دوون ريبٍ أنا مخلصٌ ويمكنني أن أطرد أعدائي مهزماً لحصولي على عنايتكِ ومعونتكِ الكلية الأقتدار بمنزلة ترسٍ، فكذلك يستطيع أن يقول كل من يكون حاصلاً على السعادة بتعبده لهذه الملكة العظيمة: أنني اذا دعوتكِ مترجياً بكِ يا والدة الإله فمن المؤكد أنا لا أغلب من أعدائي، لأني اذ أكون معضداً بحمايتكِ. فأجري في أثر هؤلاء الأعداء طارداً، ولكوني أضع ضدهم مساعدتكِ إياي ومعونتكِ الكلية الإقتدار نظير الترس المنيع، فمن دون ريبٍ أنا أنتصر عليهم غالباً. وكما يقول أحد آباء الروم العلماء يعقوب الراهب (في عظته على ميلاد البتولة) مخاطباً للرب في شأن مريم هكذا: فأنتَ يا سيدي قد أعطيتنا هذه الأم سلاحاً كلي القدرة الذي بواسطته نحن ننتصر بتأكيدٍ على أعدائنا أجمعين.* ثم أن العدد الحادي والعشرين من الاصحاح الثالث عشر من سفر الخروج يخبرنا بأن الله في أقتياده الشعب الاسرائيلي من مصر الى أرض الميعاد: كان يتقدمهم بعمود غمامٍ نهاراً ليظهر الطريق وبعمود نارٍ في الليل، وما فقد عامود الغمام نهاراً ولا عمود النار ليلاً قدام كافة الشعب: فيقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن في هذا العامود الكائن تارةً عمود غمامٍ وتارةً عمود نارٍ الذي في الحالتين كان رسماً لمريم، توجد الوظيفتان المستعملتان على الدوام من هذه الأسطوانة العظيمة مريم في خيرنا، فهي كعامود غمامٍ تحمينا من حرارة ونار غضب العدل الإلهي، وكعمود نارٍ تحامي عنا ضد وثبات الشياطين: ويضيف الى ذلك القديس بوناونتورا: أنها هي عمود نارٍ، لأنه كما أن الشمع يذوب من أمام وجه النار، فهكذا الشياطين يفقدون قوتهم ضد أنفس أولئك الذين مراتٍ مترادفةً يذكرون أسم مريم ويستغيثون به بعبادةٍ، وبنوع أفضل اذا أهتموا في أن يقتدوا بنموذجاتها:* ويؤيد ذلك القديس برنردوس بقوله: أن الأبالسة يرتعدون هلعاً ويرتجفون أرتعاشاً من مجرد سماعهم ذكر أسم مريم المجيدة: ويضيف الى هذا توما الكامبيسى قائلاً: أنه نظير ما يحدث للبشر أن يسقطوا مطروحين في الأرض اذا أنقضت صاعقةٌ من السماء غائصةً في الأرض بالقرب منهم، فعلى هذه الصورة تسقط الشياطين مغلوبين حالما يسمعون التلفظ بأسم مريم، فكم وكم حصل المتعبدون حسناً لهذه السيدة على أنتصاراتٍ غريبةٍ مجيدةٍ ضد هؤلاء الأعداء عند أستغاثتهم بأسمها الكلي القداسة، فبهذا الأسم قد غلب أعداه الجهنميين القديس أنطونيوس البدواني، ومثله الطوباوي أريكوس صوسونه مع آخرين كثيرين، من المغرمين بمحبة هذه السيدة. ثم لشهيرٌ هو في تاريخ الرسالة الى بلاد الجامبون: أنه مرةً قد ظهر لأحد المسيحيين هناك عددٌ عظيمٌ من الشياطين بصورة وحوشٍ ضارية مخيفة جداً متهددين اياه بالأفتراس، الا أن هذا المسيحي قد أجاب وقال لهم هكذا: أنه لا توجد معي أسلحةٌ ما التي أنتم تخافون منها مرتعدين، فأن كان الله قد سمح لكم بضرري فأفعلوا بي ما يحسن عندكم، غير أني أنما أستعمل بالمحاماة عن نفسي ضدكم الأسمين الكلية عذوبتهما. وهما أسما يسوع ومريم: فحالما هو تلفظ بهذين الأسمين المجيدين، واذا بالأرض قد أنفتحت وأبتلعت في قلبها تلك الأرواح المتعجرفة. والقديس أنسلموس يشهد بأنه بالأمتحان العملي قد شاهد كثيرين وسمع عن غيرهم، بأنهم عند أستغاثتهم بأسم مريم قد نجوا حالاً من الأخطار التي داهمتهم* أما القديس بوناونتورا ففي مزموراته المختصة بالبتول الطوباوية يقول هكذا: أن أسمكِ العظيم يا مريم هو مجيدٌ في الغاية ومحبوبٌ جداً، فأولئك الذين يفكرون بأن يتلفظوا به في ساعة موتهم لا يخافون من الجحيم بجملته، لأن الشياطين عند سماعهم تسمية مريم يتركون حالاً تلك النفس، ويضيف الى ذلك بقوله: أنه لا يؤثر خوفاً في قلوب العساكر المحاربين على وجه الأرض خبر مجيء أعدائهم، بجيوشٍ عظيمة العدد والقوة والأسلحة ضدهم، بمقدار ما يؤثر من الخوف في قلوب قوات الجحيم ذكر أسم مريم وأقتدارها. ويقول القديس جرمانوس: أنكِ أيتها السيدة تجعلين عبيدكِ أمينين مطمأنين من غوائل وثبات العدو كلها، وذلك بمجرد أستدعائهم أسمكِ الكلي الأقتدار: فيا حبذا لو كان المسيحيون يستمرون منتبهين على أن يستغيثوا برجاءٍ وثقةٍ في حين هجوم التجارب ضدهم بأسم مريم، اذ أنهم بذلك ينجون حتماً وتأكيداً من السقوط بالخطيئة، لأن الطوباوي الأنوس يقول: أن الهتاف بهذا الأسم العظيم يرعب الشيطان مهزماً ويرتجف الجحيم مرعداً. بل أن والدة الإله نفسها قد أوحت الى القديسة بريجيتا، بأن العدو الجهنمي يغرب حالاً هارباً بعيداً عن أنفس أولئك الذين كانوا تحت حوزته، ولو مهما وجدوا من الخطأة الأشد تعاسةً، والأكثر بعداً عن الله، والأوفر دنواً من الهلاك، والأقوى أسراً لهذا العدو عينه، وذلك حالما يسمعهم يستغيثون بأسم مريم ذي الأقتدار طالبين معونتها بنيةٍ حقيقيةٍ على عدم الرجوع الى الخطيئة، غير أن تلك النفس (كقول والدة الإله عينها في الوحي المومى اليه) أن كانت لا تنفي ذاتها وتنزع عنها الخطيئة بواسطة الندامة والتوجع، فالشياطين من دون تأخيرٍ يرجعون اليها ويجددون أخذ التملك عليها كما كانوا قبلاً.* * نموذجٌ * قد كان في مدينة راجيسبارجيوس أحد طغمة الأكليروس المدعوين: تابعي القانون: أسمه أرنولدوس جزيل التعبد لوالدة الإله الطوباوية، فهذا عندما دنا من ساعة الموت قد تناول الأسرار المقدسة، وتوسل الى ذوي جمعيته بالا يهملوه في ذاك الوقت الأخير، فعما أنهى كلماته معهم واذا به قد أستحال الى حالٍ أخرى بحضورهم، مملؤة من القلق والأضطراب والأرتعاش. مكدوداً بعرقٍ باردٍ، ثم بصوتٍ مرتجفٍ صرخ نحوهم قائلاً: أما تنظرون هؤلاء الشياطين المريدين أن يختطفوني الى جهنم. ثم بعد ذلك عج صارخاً بقوله: يا أخوتي أستغيثوا لأجلي بأسم مريم وأستمدوا لي منها المعونة، لأني أرجو منها أن تهبني الأنتصار والغلبة الكاملة فعند ذلك أبتدأ الحاضرون لديه بتلاوة طلبة العذراء المجيدة، وحين قولهم: يا قديسة مريم صلي لأجله: هتف المنازع نحوهم قائلاً: كرروا كرروا ذكر أسم مريم لأني الآن قد دنوت من المحكمة الإلهية، ثم بعد أم هجع قليلاً قال: أي نعم أنني فعلت ذلك. ولكن صنعت عنه توبةً: وفي غضون هذا القول التفت نحو البتول القديسة قائلاً: يا مريم أنا أخلص ناجياً أن كنت تعينيني، فبعد ذلك بزمنٍ ما قد وثبت عليه الشياطين من جديد محاربين إياه بالتجارب، الا أنه كان هو يحامي عن نفسه برسم الصليب المقدس، وبأستغاثته بمريم البتول، وعلى هذه الصورة أجتاز كل تلك الليلة، فلما أشرق ضياء الفجر فأرنولدوس أمتلأ تعزيةً وأبتهاجاً وصرخ قائلاً: أن مريم سيدتي وملجأي قد أستمدت لي الغفران والخلاص: وبعد هذا اذ كان متفرساً في الطوباوية الداعية إياه لأن يتبعها قال لها: أني آتي يا سيدتي آتي وراكِ، وكان يغتصب ذاته لينهض من على الفراش، ولكن اذ لم يمكنه أن يتبعها بالجسد، فحالاً رقد بهدوٍ وسلامٍ وهكذا أتبعها بالنفس الى الملك السماوي كما نؤمل*† صلاة † هوذا أنا الخاطئ المسكين طريحٌ على قدميكِ يا مريم رجائي. بعد أني مراتٍ كثيرةً حصلت بخطاياي أسيراً للشيطان والجحيم، فأنا أعلم جيداً أني أهملت ذاتي أن أُغلب من إبليس المحال لعدم ألتجائي اليكِ يا ملجأي، لأني لو كنت دائماً أهرب الى حمايتكِ، وأستغثت بأسمكِ لما كنت سقطت أصلاً، الا أنني أرجو يا سيدتي المحبوبة في الغاية أن أكون بواسطتكِ قد خرجت من حوزة الشيطان وملائكته وأن يكون الله جاد عليَّ بالغفران. ولكنني أرتعد خائفاً من أن أسقط جديداً في المستقبل ضمن قيود أعدائي الشياطين، لأني أعرف أنهم ما قطعوا أملهم من أن ينتصروا عليَّ ثانيةً. وهوذا هم يعدون لي تجارب وأمتحاناتٍ جديدةً ليثبوا عليَّ بها. فيا ملكتي وملجأي عينيني تحت ذيل برفيركِ، ولا تسمحي بأن تشاهديني مرةً أخرى ساقطاً في أسرهم، فأنا أعلم أنكِ تسعفيني وتهبيني الأنتصار عليهم طالما أنا أستغثت بكِ، ومن هذا القبيل أنا لا أخشى، ولكني أخاف من أن أنسى في حين هجوم التجارب عليَّ أن أستدعيكِ لمعونتي، فاذاً أنما الآن أتضرع اليكِ بأن تمنحيني هذه النعمة التي أريدها منكِ أيتها البتول الكلية القداسة، وهي أن أفتكر فيكِ دائماً لا سيما حينما أوجد في ميدان المعركة، فأجعليني أن لا أهمل حينئذٍ أن أدعوكِ مراتٍ مترادفةً قائلاً، يا مريم عينيني، ساعديني يا مريم. وأخيراً عندما يكون بلغ اليوم النهائي لنجاز حربي مع الجحيم أي ساعة موتي، فوقتئذٍ أسعفيني يا سيدتي بأبلغ نوع. وأنتِ نفسكِ ذكريني في أن أستغيث بكِ بأكثر أتصالٍ. أما بفمي وأما بقلبي، حتى اذا ماأسلمت روحي في حال وجود أسم أبنكِ يسوع الكلي القداسة وأسمكِ الكلي الحلاوة في فمي.فأستطيع أن آتي أمام قدميكِ لأبارككِ وأمدحكِ من دون أن أنفصل عنكِ الى الأبد آمين.* |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الخامس: نحوك نتنهد نائحين وباكين في - كتاب امجاد مريم
الفصل الخامس †فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: نحوكِ نتنهد نائحين وباكين في † †*هذا الوادي، وادي الدموع*† *وفيه جزءان* † الجزء الأول † في عظم أحتياجنا الى شفاعة مريم البتول في شأن *خلاصنا الأبدي* أن الأستغاثة والتضرع الى القديسين، وبنوعٍ خاص الى سلطانتهم كافةً مريم الكلية القداسة، لكي يستمدوا لنا من الله نعمه الإلهية هو شيء ليس فقط جائزٌ بل أيضاً مفيدٌ حميدٌ مقدسٌ، وهذه هي قاعدةٌ من قواعد الإيمان محددةٌ في المجامع المقدسة، ضد الأراتقة الذين يرفضونها كأنها ذات إفتراءٍ على يسوع المسيح الذي هو الوسيط الوحيد فيما بيننا وبين الله أبيه، على أنه أن كان أرميا النبي بعد موته بسنين هكذا عديدة صلى أمام الله، متضرعاً من أجل خلاص مدينة أورشليم من يد نيكانور قائد جيوش الملك ديمتريوس، كما هو مدون في الاصحاح الخامس عشر من سفر المكابيين الثاني، وأن كانت الشيوخ المذكورون في سفر الأبوكاليبسي يقدمون لله صلوات القديسين، وأن كان الطوباوي بطرس الرسول وعد تلاميذه بأن يذكرهم بعد موته، والقديس أستفانوس صلى من أجل مضطهديه. والقديس بولس تضرع من أجل رفاقه، وبالأجمال أن كان القديسون يستطيعون أن يصلوا من أجلنا. فكيف لا نقدر أن نتوسل اليهم لكي يتضرعوا من أجلنا لدى الله. فالقديس بولس يطلب من تلاميذه أن يصلوا لأجله قائلاً: يا أخوتي صلوا عنا: (تصالونيكيه أولى 5ع25) والقديس يعقوب الرسول يحرض المؤمنين على أن يصلي بعضهم من أجل بعضٍ بقوله: وليصلي بعضكم على بعضٍ لتخلصوا: (يعقوب جامعه ص5ع16) فاذاً نحن أيضاً يمكننا أن نصنع ذلك.*فأي نعم أنه لا ينكر أحدٌ أصلاً أن يسوع المسيح هو وسيط العدل الوحيد، الذي بواسطة أستحقاقاته قد أكتسب لنا المصالحة مع الله، ولكن بالضد منكرةٌ هي بل أثمةٌ نفاقيةٌ هذه القضية وهي، أن الله لا يتنازل لأن يهب أنعامه قبولاً منه لتضرعات القديسين، لا سيما والدته مريم الكلية القداسة، التي يرغب فادينا يسوع رغبةً عظيمةً أن يراها محبوبةً ومكرمةً من كل أحدٍ، فترى من يمكنه أن يجهل أن الكرامات التي تعطى للأمهات هي راجعةٌ للبنين كما هو مكتوب: أن فخر الأولاد هو أباؤهم: (أمثال ص17ع6) فمن ثم يقول القديس برنردوس: لا يفكر أحدٌ بأن من يمدح كثيراً الأم فيظلم أشراق مجد الأبن، لأنه بمقدار ما تعظم الأم فبأكبر من ذلك يمدح الأبن: ويقول القديس أيدالفونسوس: أن الكرامات بأسرها التي تتقدم للأم وللملكة فهي راجعةٌ للأبن وللملك، على أنه لا يرتاب أحدٌ في أنه بقوة أستحقاقات يسوع قد أعطى لمريم أستطاعةٌ عظيمةٌ جداً على أن تكون هي وسيطة في أمر خلاصنا، لكن لا وسيطة العدل بل وسيطة النعمة والشفاعة، فبهذه الصفة بالحصر يسميها القديس بوناونتورا بقوله: أن مريم هي وسيطة خلاصنا الأمينة: والقديس لورانسوس يوستينياني يقول: كيف لا تكون ممتلئةً نعمةً التي هي سلم الفردوس، وهي باب السماء وهي الوسيطة الحقيقية فيما بين الله والبشر.* فلهذا حسناً ينبه القديس أنسلموس بأنه حينما نحن نتوسل الى العذراء المجيدة في أن تستمد لنا النعم، لا نيأس من الرحمة الإلهية، بل بالأحرى أننا نيأس من أستحقاقنا، ونتضرع الى مريم لكي تستعمل علو شأنها ورتبتها العظيمة في عيني الله، متممةً نقص أستحقاقنا نحن الأذلاء الحقيرين:* فاذاً لا ريب ولا أشكال في أن الألتجاء الى شفاعة مريم البتول سوى شيءٌ مفيدٌ ومقدسٌ، ولا ينكر ذلك الا أولئك الذين نقص منهم الإيمان، غير أن الشيء الذي نحن ههنا نهتم في أثباته هو، أن شفاعة مريم هي ضروريةٌ أيضاً لأمر خلاصنا. ولكن لكي نتكلم كما يجب فنقول أن شفاعتها هي ضروريةٌ لخلاصنا لا ضرورةٍ مطلقةٍ، بل بضرورةٍ أدبيةٍ، مبرهنين بأن هذه الضرورة الأدبية هي صادرةً عن إرادة الله نفسه، الذي شاء أن النعم كلها التي هو يوزعها بسخائه الإلهي تجتاز الينا عن يد مريم. كما يرتأي القديس برنردوس، وهذا الرأي يمكن حسناً أن يقال عنه أنه هو الآن رأيٌ عموميٌ فيما بين اللاهوتيين والعلماء كما يسميه رأياً عاماً مؤلف الكتاب الملقب: مملكة مريم: وقد أعتنق الرأي المذكور العلماء فاغا، وماندوتسا، وباجيوكالى، والسنيري، وبواره. وكواسات، مع لاهوتيين آخرين ماهرين لا يحصى عددهم، حتى أن الأب ناطاليس أسكندر الرجل العلامة المدقق جداً في تعاليمه وإيراداته، يقول هو عينه في الرسالة السادسة والسبعين من المجلد الرابع من لاهوته النظري: أن إرادة الله هي أن النعم كلها نحن ننتظرها بواسطة شفاعة مريم البتول الكلية الأقتدار التي نحن نستغيث بها. ثم أنه يستشهد في تأييد هذا الرأي كلمات القديس برنردوس الشهيرة وهي قوله: هكذا هي إرادة الله أن كل شيءٍ نحن نفوز به فنناله بواسطة مريم. وهذا نفسه يرتئيه الأب كونتانصونه، وذلك في تفسيره كلمات يسوع المسيح التي قالها لتلميذه الحبيب يوحنا وهو على الصليب أي: ها أمك: وكأنه يقول أنه ليس أحدٌ يشترك بأستحقاق دمي مستفيداً الا بشفاعة أمي، فجراحاتي هي ينابيع النعم ولكنها لا تتصل هذه الينابيع الا بواسطة مريم أمي التي هي القناة. وأنت يا يوحنا تلميذي ستكون محبوباً مني بمقدار المحبة التي أنت بها تحبها:* فهذه القضية أي أن كل الخيرات التي تتصل الينا من الرب، فتأتي علينا كافةً بواسطة مريم، لم تكن مرضيةً جداً لمعلمٍ من المحدثين الذي ولئن كان يتكلم بحسن ديانةٍ، وبقواعد علميةٍ في تمييزه العبادات الصادقة من الباطلة. فمع ذلك اذ يتعاطى الكلام عن العبادة المختصة بهذه الأم الإلهية، فقد أظهر على ذاته البخل الزائد في أن لا يخصص هذه البتول القديسة بصفةٍ هي مجيدةٌ لها، مع أن القديسين جرمانوس، وأنسلموس، ويوحنا الدمشقي، وبوناونتورا، وأنطونينوس، وبرنردينوس السياني، ثم الأنبا كالاس المكرم، مع علماء آخرين كثيرين لم يجدوا أدنى صعوبة في أن يخصصوها بها بقولهم، أنه لأجل السبب المذكور آنفاً، فشفاعة مريم البتول المجيدة ليس فقط هي مفيدةٌ للخلاص، بل أيضاً هي ضروريةٌ أدبياً لنواله، أما المعلم المنوه عنه فيقول أن قضيةً هذه صفتها وهي، أن الله لا يمنح نعمةً ما الا بواسطة مريم العذراء هي قضيةٌ متسعةٌ جداً غير محدودةٍ. وهي نوعٌ من المبالغة قد جاءت على أفواه البعض من القديسين بحرارة عبادتهم، وأننا اذا أردنا أن نفهم معنى قولهم بنوعٍ مستقيمٍ، فيمكن من هذا القبيل فقط أن تصدق كلماتهم، وهو من كوننا بواسطة مريم، قد حصلنا على يسوع المسيح متجسداً، الذي بأستحقاقاته نحن نقتبل جميع النعم، والا فعلى زعمه أنه لضلالٌ هو الأعتقاد بأن الله لا يقدر أن يعطي النعم من دون تضرعات مريم، لأن الرسول بولس يقول: أن الله واحدٌ هو والوسيط بين الله والناس واحدٌ هو الإنسان يسوع المسيح (تيموتاوس أولى ص2ع5) فهذا ما قاله المعلم المحدث المشار اليه* غير أني بروح السلام ذاته الذي هو يعلمني به في كتابه عينه أجاوبه بأنه شيءٌ هو وسيط العدل بقوة الأستحقاقات، وشيءٌ آخر هو وسيط النعمة بطريقة التضرع والشفاعة، وكذلك شيءٌ هو القول أن الله لا يقدر أن يعطي النعم من دون شفاعة مريم البتول، وشيءٌ آخر هو القول أنه لا يريد تعالى أن يمنحها من غير شفاعتها، فنحن نعترف جيداً بأن الله هو ينبوع كل خيرٍ، وأن الرب هو حرٌّ مطلقٌ في منح النعم، وأن مريم العذراء لم تكن وليست هي شيئاً آخر سوى خليقةٍ محصنةٍ، وبأن كل ما تناله هي من الله فأنما تناله نعمةً مجانيةً منه عز وجل، ولكن ترى من يمكنه أن ينكر أنه أمرٌ صوابيٌ عادلٌ لائقٌ جداً هو القول، أن الله لكي يرفع شأن هذه المخلوقة الجليلة، التي قد كرمته وأحبته في مدة حياتها أكثر من المخلوقات كلها، وأنه جلت خيريته اذ أنتخب هذه البتول القديسة أماً حقيقيةً بالجسد لأبنه الوحيد والمخلص العام. فيريد أن النعم كلها التي يهبها للأنفس المفيداة بدم أبنه عينه تتوزع بواسطة هذه الأم الإلهية. ثم أننا نعترف حقاً بأن يسوع المسيح هو وسيط العدل الوحيد حسبما بينا آنفاً، وأنه بأستحقاقاته الغير المتناهية قد أكتسب لنا النعم والخلاص، ولكن نحن نقول أن مريم هي وسيطة النعمة، وأنه ولئن كان جميع ما تناله هي فأنما تناله بقوة أستحقاقات يسوع المسيح، فمع ذلك كل النعم التي نحن نلتمسها نحصل عليها بواسطة شفاعة هذه السيدة.* ففي هذا الرأي لا يوجد بالحقيقة شيءٌ مضاد للقضايا الدينية المقدسة، بل بالأحرى هو مطابقٌ لها بكل أجزائه، وهو حسب تعليم الكنيسة التي في صلواتها المشاعة المثبتة منها تعلمنا بأن نلتجئ بأتصالٍ الى هذه الأم الإلهية، وبأن نستغيث بها. وبأن ندعوها: شافية المرضى: ملجأ الخطأة: معونة المسيحيين: حياتنا: رجانا: ثم من حيث أن الكنيسة عينها في صلوات الفرض الإلهي المرسومة تلاوته في أعياد مريم البتول، تخصصها بالكلمات المدونة في الكتاب الإلهي عن الحكمة، فبهذا تعلمنا أننا في مريم نحن نجد كل رجاءٍ: فيَّ أنا كل رجاء حياةٍ وفضيلة: في مريم كل نعمةٍ: فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ: وبالأجمال في مريم الحياة والخلاص الأبدي: من شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية: أن الذين يعملون بي لا يخطئون: من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من عند الرب. فهذه كلها هي أشياء توضح لنا الضرورة التي من أجلها نفتقر الى شفاعة مريم من أجلنا (وهي مسجلة في الاصحاح الرابع والعشرين من سفر حكمة ابن سيراخ وفي الاصحاح الثامن من سفر الأمثال).* فهذا هو ذاك الرأي الذي يوطدنا فيه آباء قديسون كثيرون جداً، وعلماء لاهوتيون جزيلوا العدد، ولذلك ليس هو عادلاً قول المعلم الحديث المشار اليه آنفاً، وهو أن البعض من القديسين لكي يرفعوا شأن مريم أوردوا هذه القضية الواسعة الغير المقيدة، وأنها جاءت في أفواههم كألفاظ مبالغةٍ، والحال أن ذلك يوجب الزيغان عن الحق الأمر الذي لا يجب أن نقوله عن أنامٍ قديسين قد تكلموا بروح الله الذي هو روح الحق. وهنا فليسمح لي بأن أدخل حاشيةً مختصرةً موضحاً بها رأيي. وهو أنه حينما يوجد رأيٌ أو حكمٌ يكون راجعاً لكرامة البتول مريم الكلية القداسة، ويكون له أساسٌ ما، ولا يتضمن تضاداً ما لا لقواعد الإيمان، ولا لمراسيم الكنيسة الجامعة وأوامرها، ولا للحق، فعدم التمسك بتلك الحكومة أم الرأي، أو مقاومته سنداً على أن الرأي المضاد يمكن أن يكون حقيقياً. فهذا يعلن قلة العبادة لوالدة الإله. أما أنا فلا أريد أن أكون من عدد هؤلاء الأشخاص القليلي العبادة لها، وأشتهي أن لا تكون ولا أنت أيها القارئ العزيز من مصافهم، بل بالأحرى أن تكون من عدد أولئك الذين يعتمدون بثبات العزم وبملو التصديق على كل شيءٍ يمكن من دون ضلالٍ أو غلطٍ أن تعتقد به في شأن تمجيد مريم وتكريمها، كما يتكلم عن ذلك الأنبا روبارتوس الذي يضع فيما بين التكريمات المقبولة من هذه الأم الإلهية، الأعتقاد بثباتٍ في كل ما يلاحظ عظمتها ومجدها. على أنه اذا لم يكن عندنا نموذجٌ آخر في أن نمدح مريم المجيدة بتقريظاتٍ وتكريماتٍ ما، ونكون أمينين من الخوف من أن نتجاوز بذلك الحدود الواجبة، فيكفينا نموذج الأب العظيم فيما بين آباء الكنيسة الجامعة، وهو القديس أوغوسطينوس الذي يقول: أننا حينما نورد في مديحنا مريم كل شيءٍ ممكن أن يقال من المديح والوصف والتقريظات والتكريمات، فهذا جميعه هو قليلٌ وجزئيٌّ بالنسبة الى ما تستحقه رتبتها السامية، وشرف حال كونها والدة الإله: ثم أن الكنيسة المقدسة وضعت في خدمة القداس الإلهي المختص بمريم الطوباوية هذه الكلمات وهي: لأنكِ أنتِ سعيدةٌ ومستحقةٌ في الغاية أيتها البتول القديسة مريم المدائح والتقريظات والتسابيح كلها.* ولكن فلنرجعن الآن الى موضوعنا، ولنسمعن ماذا يقول القديسون في شأن الرأي المقدم ذكره، فالقديس برنردوس يتكلم هكذا قائلاً: أن الله قد أملأ مريم من النعم جميعها لكي يقتبل البشريون بعد ذلك بواسطة مريم عينها، كأنها مجرى أو قناةٌ، كل ما يتصل اليهم من الخيرات. ثم أن القديس المذكور يضيف الى ذلك هذه الملاحظة المعتبرة أيضاً ومن ثم يقول: أن نهر هذه النعم الإلهية لم يكن موجوداً في العالم ولا جارياً الى الجميع قبل أن تخلق هذه البتول الكلية القداسة، وذلك لأنه لم يكن بعد وجد هذا المجرى، ولا كونت هذه القناة المشتهاة في الغاية... ولهذا قد أعطيت مريم للعالم، حتى أنه بواسطة هذه القناة تجري إلينا على الدوام النعم الإلهية.* فلذلك كما أن اليفانا قائد جيوش بختنصر ملك الأشوريين حينما حاصر مدينة بيت فالوا أمر غلمانه بأن يهدموا قناة الماء الجاري الى المدينة، فالشيطان على هذه الصورة يعتني بكل جهده وأستطاعته في أن يجعل الأنفس أن تخسر حسن تعبدها لوالدة الإله، لكي يغلق بذلك قناة النعم. وهكذا بسهولةٍ كليةٍ يمكنه أن يكتسب تلك الأنفس لذاته ويضعها تحت حوزته. وفي هذا الصدد ينبه القديس برنردوس عينه المؤمنين بقوله: تأملي أيتها الأنفس المسيحية بكم من الحب والأنعطاف وحسن التعبد يريد الرب منا أن نكرم ملكتنا هذه، بألتجائنا دائماً الى حمايتها، وبأعتصامنا بالرجاء في شفاعاتها، لأنه تعالى قد أدخر فيها ملء الخيرات كلها، حتى أننا نعلم أن جميع ما يوجد عندنا بعد ذلك من الرجاء والنعم والخلاص، فأنما نحصل عليه بواسطة مريم. وكذلك يقول القديس أنطونينوس: أن المراحم كلها التي أستعملت نحو البشر، فجميعها جاءتهم بواسطة مريم.* ومن ثم مريم: هي لقبت بالقمر، فيقول القديس بوناونتورا: أنه كما أن القمر هو كائنٌ فيما بين الشمس والأرض. وأن الشيء الذي يقتبله هو من الشمس (أي الأشعة والضياء) يمنحه هو للأرض، فهكذا مريم تقتبل من السماء أشعة أنعام الشمس الإلهية لكي تفيضها علينا نحن القاطنين في الأرض.* ولهذا هي قد لقبت أيضاً بباب السماء كما تدعوها الكنيسة المقدسة بقولها: أفرحي يا باب السماء السعيد. فحسبما يبرهن القديس برنردوس نفسه: بأنه كما أن كل مرسومٍ ملوكيٍ يمنح بقوته الملك نعمةً ما، يلزم أن يخرج من باب ديوانه الملوكي، فكذلك نحن أعطينا مريم كباب يجتاز الينا بواسطتها جميع ما نحصل عليه. ويضيف الى هذا القديس بوناونتورا قائلاً: أن مريم تسمى باب السماء لأنه لا يمكن لأحدٍ أن يدخل الى السماء من دون أن يجتاز بواسطة مريم التي هي الباب.* ثم أن القديس إيرونيموس يوطدنا في هذا الرأي في عظته على صعود البتولة (ولئن كان حسب رأي البعض أن هذه العظة هي لرجلٍ قديم مجهول الأسم وأندرجت فيما بين تأليفات هذا القديس) حيث يقول: أن في يسوع المسيح وجد ملء النعم كلها كوجوده في الهامة،... ومن هذه الهامة تتصل الينا نحن أعضاء جسده السري كل الأرواح الحية، أي المعونات الإلهية لكي نحصل على الخلاص الأبدي، ثم أنه في مريم أيضاً قد وجد ملؤ هذه الأنعام عينها كوجودها في العنق أو الرقبة. التي بواسطتها تلك الأرواح الحية تجتاز من الرأس الى الأعضاء، وهذا الرأي قد توطد من القديس برنردينوس السياني الذي قد فسر القول المقدم ذكره تفسيراً ذا أيضاحٍ أبلغ بقوله: أنه بواسطة مريم ترسل الى المؤمنين الذين هم جسد يسوع المسيح السري جميع نعم الحياة الروحية، التي تنحدر على هذه الأعضاء من يسوع المسيح الذي هو رأسها.* وهنا القديس بوناونتورا يورد السبب مبرهناً بقوله: أنه اذ كان الباري تعالى قد أرتضى بأن يسكن في مستودع هذه العذراء القديسة، فعلى نوعٍ ما قد أكتسبت هي تولياً على النعم كلها، لأنه من حيث أن من مستودعها الطاهر المقدس قد خرج يسوع المسيح، فقد خرجت منها صحبته أنهر المواهب الإلهية كأنها من بحرٍ محيطٍ. ونظير ذلك يقول القديس برنردينوس السياني بأفصح عبارةٍ هكذا: أنه من حينما حبلت هذه الأم البتول بالكلمة الإلهي متجسداً في أحشائها. فقد أكتسبت هي (لكي نقول على هذه الصورة) حجةً ما وحقاً خصوصياً على المواهب التي تنحدر علينا من الروح القدس، بنوعٍ أنه فيما بعد لم تتصل الى خليقةٍ ما من الخلائق ولا نعمةٌ واحدةٌ من الله، الا بواسطة مريم وعن يدها:* وهكذا أحد العلماء (من كراسات في كتاب العبادة لمريم) قد فسر على هذا النوع نفسه كلمات النبي أرميا (ص31ع22) المقولة منه عن تجسد الكلمة الأزلي من مريم بقوله: أن الرب خلق شيئاً جديداً في الأرض أنثى تحيط رجلاً: حيث يبرهن قائلاً: كما أنه من النقط الكائن في وسط دائرةٍ ما لا يخرج ولا خط ما من الخطوط المتحدة به خارجاً عن الدائرة، من دون أن يجتاز قبلاً بالخط المحيط على الدائرة نفسها، فهكذا ولا نعمةٌ من النعم تخرج ممنوحةً من يسوع المسيح الذي هو ينبوع النعم والخيرات كلها مفاضةً علينا، من دون أن تجتاز بمريم التي أحاطت به تعالى، بعد أن أقتبلته في مستودعها ومن ثم نحن ننال النعم بواسطة هذه الأنثى التي أحاطت رجلاً.* ولهذا يقول القديس برنردينوس عينه: أنه لأجل ذلك كل المواهب وجميع الفضائل وسائر النعم تتوزع عن يد مريم، على أولئك الذين هي تروم أن تمنحهم إياها. وفي الأوقات التي هي تشاء منحها، وبالأنواع التي هي تريد توزيعها، وكذلك ريكاردوس يقول: أن جميع الخيرات التي يصنعها الله مع خلائقه، فيريد أن تجتاز عن يد مريم موزعةً عليهم بواسطتها: ومن هذا القبيل الأنبا جالاس المكرم يحرض كل أحدٍ على أن يلتجئ الى خازنة النعم هذه. كما هو يسميها هكذا: لأنه بواسطتها فقط ينبغي أن يقتبل العالم وكل البشر الخيرات بأسرها التي يمكنهم أن يرجوها. فمن هذا جميعه يتضح جلياً أن القديسين والعلماء الموردة أوقوالهم آنفاً، المصرحين بأن كل النعم التي تأتينا من الله أنما تتوزع علينا بواسطة مريم، لم يقصدوا بذلك أن يبينوا هذا فقط. وهو أننا من مريم قد حصلنا على يسوع المسيح كلمة الله متجسداً، الذي هو ينبوع النعم والخيرات كلها. الأمر الذي قصد المعلم الحديث المنوه عنه في بدء هذا الجزء أن يفسر به أقوالهم بل أنهم قد أكدوا لنا هذه الحقيقة أيضاً، وهي أن الله بعد أن أعطانا أبنه الوحيد يسوع المسيح، يريد أن النعم كلها التي توزعت وتتوزع على البشر من حين تجسد أبنه الى منتهى العالم، ممنوحةً لهم بأستحقاقات هذا الأبن الإلهي نفسه، تكون معطاة لهم وهم يفوزون بها عن يد مريم وبواسطة شفاعاتها لديه.* فاذاً يختتم القول الأب سوارس بأنه في هذه الأيام قد أضحى الرأي المذكور رأياً عاماً في الكنيسة، وهو أن شفاعة مريم البتول هي لا مفيدةٌ فقط لنا لأجل نوال الخلاص الأبدي، بل هي ضروريةٌ أيضاً لذلك، لا ضرورةٍ مطلقةٍ كما نبهنا في محله، لكن بضرورةٍ أدبيةٍ، لأن وساطة يسوع المسيح هي وحدها ضروريةٌ لخلاصنا بضرورةٍ مطلقةٍ، على أن الكنيسة ترى مع القديس برنردوس بأن الله قد رسم مريداً أن النعم كلها من دون أستثناءٍ تتوزع علينا بواسطة مريم، بنوع أنه ولا نعمةٌ منها تعطى لنا الا عن يدها، وقبل القديس برنردوس قد أثبت هذا الرأي القديس أيدالفونسوس بقوله نحو والدة الإله: يا مريم أن الرب قد حكم بأن يسلم بيديكِ كل الخيرات التي أعدها هو لأن يوزعها على البشر، ولذلك قد أئتمنكِ على الخزائن كلها وعلى كنوز النعم جميعها. ولهذا يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله لم يرد أن يتجسد متأنساً الا برضا مريم أولاً: لكي نوجد كلنا ممنونين لها بنوعٍ عظيمٍ من المنة. ثانياً: لكي نفهم أن العناية بأمر خلاصنا أجمعين قد فوضت لهذه البتول القديسة:* فمن ثم اذ تأمل القديس بوناونتورا في كلمات أشعيا النبي المدونة منه في بدء الاصحاح الحادي عشر من نبؤته وهي: ستخرج عصا من أصل يسى وتصعد زهرةٌ من أصله وتستريح عليها روح الرب. فقال هو أي القديس بوناونتورا عن ذلك هذه الألفاظ الجليلة وهي: أن كل من يرغب مشتهياً أن ينال نعمة الروح القدس، فليفتش على الزهرة في العصا، أي على يسوع في مريم، لأننا بواسطة العصا نجد الزهرة وبواسطة الزهرة نجد الله: ثم يضيف الى ذلك قائلاً: فأن كنت يا هذا تريد أن تحصل على هذه الزهرة، فأهتم بواسطة التضرعات في أن تجتذب الى صالحك عصا الزهرة، وهكذا تفوز بالزهرة عينها. وألم تفعل ذلك يقول الأب المعلم السرافيمي بوناونتورا في تفسيره الكلمات الإنجيلية وهي أن المجوس، دخلوا البيت فوجدوا الصبي مع مريم أمه. (متى ص2ع11) فلا تحصل على يسوع الذي لا يوجد الا مع مريم وبواسطة مريم: ويختتم قوله بأنه: عبساً ومن دون فائدةٍ يطلب أن يجد يسوع ذاك الذي لا يفتش على أن يجده مع مريم. ومن ثم يقول القديس أيدالفونسوس هكذا: أنا أريد أن أكون عبداً للأبن، ومن حيث أنه لا يكون أصلاً أحدٌ عبداً الأبن أن لم يكن عبداً للأم، فلهذا أنا أبذل كل أهتمامي في تعبدي لمريم:* * نموذج * لقد أخبرنا المعلمان بالواجانسه وكيساريوس عن شابٍ ما ذي أصلٍ شريفٍ، بأنه بعد أن كان أصرف جميع الغنى الواسع المخلف له ميراثاً من أبيه مبدداً إياه في المعاصي والقبائح، قد حصل أخيراً فقيراً سبروتاً فاقداً كل شيءٍ، حتى أنه أضطر لحفظ حياته لأن يدور متوسلاً يجتذئ صدقةً، ولذلك أي لخجله من حاله تلك سافر من وطنه الى بلدةٍ أخرى ليكون فيها مجهولاً، ففي مسافة هذا السفر قد صادف في الطريق أحد أولئك الذين كانوا عبيداً لأبيه، فلما شاهد ذاك العبد أبن سيده في تلك الحال السيئة من الفقر مملؤاً من الحزن والأكتئاب، تقدم اليه معزياً وشرع يطمئنه موعداً إياه بأنه مزمعٌ أن يقوده أمام أحد الأمراء المعظمين، الذي يهتم به في كل ما كان يعوزه، فهذا العبد كان رجلاً ساحراً منافقاً، ومن ثم جاء في اليوم المعين منه عند ذاك الشاب. فأخذه وذهب به الى البرية ودخلا في حرشٍ كائنٍ بجانب بحيرةٍ. وهناك بدأ يتكلم مع شخصٍ غير منظور، فلهذا سأله الشاب مستفهماً بقوله له: مع من أنت تتكلم، فأجابه ذاك: أنني أتكلم مع الشيطان، ولكنه اذ رأى الشاب أمتلأ خوفاً من هذا الجواب فأخذ يشجعه ويطمئنه. وهكذا أستمر يخاطب الشيطان قائلاً له: يا سيد أن هذا الشاب قد بلغ الى أقصى الفقر والقلة، ويريد أن يرجع الى سعادة حاله الأولى: فالعدو الجهنمي أجاب وقال له: أنه لما يريد الشاب أن يطيعني فأنا سأرجعه أكثر غنىً من ذي قبل، ولكن قبل كل شيء يلزمه أن ينكر الله: فالشاب أستوعب أشمئزازاً ونفوراً من هذا الطلب، الا أن ذاك الساحر اللعين قد أجتذبه لأن يكفر به تعالى فكفر به، ثم أن الشيطان أردف كلامه بقوله: أن هذا لا يكفي بل يلزمه أن ينكر مريم البتول أيضاً، لأن هذه هي تلك التي نحن نعرف جيداً أن خسارتنا هي صادرةٌ من قلبها بالأكثر، فكم وكم هي تختطف من أيدينا من الأنفس وتردها الى الله وتخلصها: فالشاب قال له: كلا، أنا لا يمكن أن أنكر مريم أمي لا هذه هي رجائي بأسره بل أني أرتضي بالأحرى بأن أدور أتسول بحال الفقر الكلي جميع أيام حياتي من أني أفعل ذلك. قال هذا وأنصرف من ذاك المكان، ففي رجوعه أتفق له أن يمر من على باب إحدى الكنائس المشيدة على أسم والدة الإله، فدخل اليها مملؤاً من الحزن والغم، وجثا أمام أيقونتها باكياً، وأخذ يتوسل اليها بحرارةٍ في أن تستمد له غفران خطاياه، فهذه الأم الرأوفة شرعت تطلب من أجله الى أبنها الإلهي، أما يسوع ففي الأبتدا قال لها: أن هذا الخائن قد نكرني يا أمي، ولكن عندما نظر أن والدته لم تزل تتضرع اليه فأخيراً قال لها: أنني أنا قط ما نكرت عليكِ شيئاً، فليكن لهذا الشاب الغفران عن خطاياه لأجل طلبتكِ: فالرجل الغني الذي كان في ما مضى أشترى من ذاك الشاب جميع أملاكه ومقتناه رويداً رويداً، وهو أي الشاب كان أصرف أثمانها في الرذائل، قد شاهد بمنظرٍ سريٍ هذا الحادث، ولاحظ الرأفة المصنوعة من والدة الإله نحو هذا المسكين. فأرسل أستدعاه اليه وقدم له أبنته الوحيدة عروسةً له وزوجه بها، وجعله وريثاً لجميع الغنى الذي كان يملكه، وعلى هذه الصورة قد أكتسب الشاب نعمة الله ومعاً حصل على خيراتٍ أرضيةٍ غنية بأبلغ مما كان قبلاً.*† صلاة † تأملي يا نفسي كم هي جليلةٌ فضيلة الرجاء بالخلاص والحياة الأبدية التي منحكيها الرب، بأعطائه إياكِ رحمةً منه الثقة والرجاء في شفاعة أمه وحمايتها، هذا بعد أنكِ لأجل خطاياكِ قد أستحقيتِ مراتٍ كثيرةً سقوطكِ من نعمته تعالى، وحصولكِ تحت غضبه معدةً للهلاك في جهنم، فأشكري اذاً إلهكِ وأمدحي شفيعتكِ مريم التي تنازلت لأن تقبلكِ تحت ستر حمايتها، حسبما تحقق لكِ كثرة النعم التي حصلتِ عليها لحد الآن بواسطتها، أي نعم أنني أشكركِ يا أمي المحبوبة مني جداً من أجل جميع الخيرات التي صنعتيها معي أنا الشقي المستحق جهنم، فكم هس كثيرة الأخطار التي أنتِ قد نجيتيني منها يا ملكتي. كم من الأنوار وهبتيني وكم منالمراحم أفضتِ عليَّ مستمدةً لي ذلك جميعه من الله. ولكن أية مكافأةٍ بالخير صنعت معكِ وأية تكرمةٍ قدمت لكِ، أنتِ التي بهذا المقدار أعتنيتِ بي وأفضلت عليًّ.*فاذاً خيريتكِ وحدها هي التي أجتذبتكِ لذلك، فمن يعطيني أن أبيح من أجلكِ دمي وحياتي، بل أن هذا هو شيءٌ قليل بالنسبة لما أنا ملتزمٌ به لكِ، وللمنة التي لكِ عليَّ. لأنكِ قد أنقذتني منالموت الأبدي، وقد صيرتيني أن أكتسب من جديد كما أؤمل النعمة الإلهية التي كنت فقدتها بخطاياي، وبالأجمال أنني أعترف بان سعادتي كلها هي آتية من قلبكِ ومسببة لي منكِ، فأنا يا سيدتي المحبوبة في الغاية لا أستطيع أن أكافئكِ بشيءٍ آخر، سوى بأن أبارككِ وأسبحكِ وأمدحكِ دائماً، فلا تأنفي من أن تقبلي مني ذلك أنا الخاطئ الذليل المغرم بمحبة صلاحكِ، فأن يكن قلبي غير مستحقٍ أن يحبكِ لأنه غير نقي بل مملؤٌ من الأنعطافات نحو الأشياء الأرضية، فيخصكِ أنتِ أن تغيريه، ثم أتحديني بإلهي وشدي وثاق حبي إياه بنوع أني لا أعود أقدر أن أنفصل عن محبته، فهذا هو الشيء الذي أنتِ تطلبينه مني وهو أن أحب إلهكِ، وهذا أنا أطلبه منكِ، فأستمدي لي منه أن أحبه حباً شديداً على الدوام، وغير ذلك أنا لا أشتهي آمين. † † الجزء الثاني † * في موضوع الجزء الأول نفسه* أن القديس برنردوس يقول: أنه كما أن رجلاً وأمرأة قد أشتركا بالعمل الذي صدر عنه خرابنا وتعاستنا وأبادتنا، فهكذا كان. من الصواب والواجب بلياقةٍ أن رجلاً آخر وأمرأةً أخرى يشتركان بالعمل الذي منه يحصل لنا أكتساب ما كنا فقدناه، وهذا قد تم بواسطة الشخصين العظيمين وهما يسوع المسيح ومريم البتول والدته، فلا ريب ولا أشكال في أن يسوع المسيح وحده هو كلي الكفاية لأن يفيدنا، ولكن الأليق هو أن خلاصنا يكون مسبباً من شخصين رجلٍ وأمرأةٍ، كما أن هلاكنا كان مسبباً من شخصين رجلٍ وأمرأةٍ:*فمن ثم البارتوس الطوباوي يسمي مريم: المشتركة بالعمل في سر الأفتداء. فهذه البتول عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا بأنه كما أن آدم وحواء قد باعا العالم لأجل تفاحةٍ، فهكذا هي وأبنها يسوع بقلبٍ واحدٍ فيهما قد أفتديا العالم، ثم يقول القديس أنسلموس: أن الله قد أستطاع جيداً أن يخلق العالم من العدم ولكن حينما هلك العالم ضائعاً بالخطيئة. لم يرد تعالى أن يكمل أصلاح العالم وخلاصه من دون أن تكون مريم مشتركةً في هذا العمل:* أما الأب سوارس فيفسر ذلك بأن مريم قد أشتركت بعمل سر الأفتداء لأجل خلاصنا على ثلاثة أنواعٍ. وهي أولاً لكون هذه البتول قد أستحقت بأستحقاق اللياقة والمناسبة تجسد الكلمة الأزلي في أحشائها. ُثانياً لأجل أنها أهتمت كثيراً بالتضرعات من أجلنا حينما كانت عائشةً على الأرض. ثالثاً لكونها أختيارياً قدمت لله حياة أبنها ضحيةً لأجل خلاصنا، فلهذا قد رتب الرب عدلاً أنه لأجل أشتراكها، بحبٍ عظيمٍ في عمل خلاص البشر كافةً الأمر الصادر عنه مجدٌ إلهيٌ هكذا سامٍ فالبشر أجمعون بواسطة شفاعاتها ينالون الخلاص الأبدي.* فمريم تسمى: شريكة عمل تبريرنا: لأن الله أئتمنها على النعم كلها لتوزعها علينا، ولهذا يبرهن القديس برنردوس مثبتاً بقوله: أن جميع البشر الماضين والحاضرين والمستقبلين يلزمهم أن يلاحظوا مريم بمنزلة واسطة لخلاص كل الأجيال. والموضوع الملائم لذلك.* ثم أن مخلصنا يسوع المسيح يقول في أنجيله المقدس: أن ما من أحدٍ يقدر على الأتيان اليَّ الا من أجتذبه الآب الذي أرسلني: (يوحنا ص6عدد4) أي أنه لا يمكن لأحدٍ أن يحصل على فادينا ويكون من خاصته ألم يمنحه الآب نعمته الإلهية، فهكذا يقول مخلصنا عن والدته. حسبما يورد ريكاردوس في تفسيره العدد الثالث من الاصحاح الثاني من سفر النشيد: ما من أحدٍ يقدر على الأتيان اليَّ الا من أجتذبته أمي بواسطة تضرعاتها لدي من أجله: على أن يسوع هو ثمرة أحشاء مريم. حسبما هتفت القديسة أليصابات قائلةً نحوها: مباركةٌ هي ثمرة بطنكِ: ( لوقا ص1ع42) فلما كان يلتزم كل من يريد أن يحصل على الثمرة أن يمضي ساعياً نحو الشجرة، فهكذا اذاً كل من يروم أن يحصل على يسوع فيلزمه أن يذهب الى مريم. ومن يجد مريم فمن دون ريبٍ يجد يسوع. فالقديسة أليصابات حينما رأت البتول الكلية القداسة داخلةً الى منزلها، لم تعد هي تعلم بأية ألفاظٍ تقدم لها الشكر عن هذه الزيارة، سوى أنها بأتضاعٍ عميقٍ هتفت نحوها قائلةً: من أين لي مثل هذا أن تأتي أم ربي اليَّ: (لوقا ص1ع43) ولكن هنا لقائلٍ أن يقول كيف يكون هذا. أهل أن أليصابات كانت تجهل أن ليس مريم وحدها دخلت منزلها، بل يسوع أيضاً جاء ليزورها، فاذاً لماذا قالت عن ذاتها أنها لم تكن مستحقةً مجيء مريم إليها، ولم تقل بالأحرى أنها غير مستحقةٍ دخول يسوع الى بيتها. فالجواب هو أن القديسة المذكورة كانت تعلم جيداً أنه حينما تأتي مريم، فتأتي بيسوع أيضاً معها. ولذلك قد أكتفت هي بأن تقدم الشكر للأم من دون أن تذكر الأبن.* ثم أنه قد كتب عن الأمرأة الشجاعة: أنها صارت كمركب تاجرٍ ومن بلدةٍ بعيدةٍ جمعت خبزها: (أمثال ص31ع14) فمريم هي هذا المركب السعيد الذي جلب الينا من السماء يسوع المسيح الخبز الحي النازل من السماء ليعطينا الحياة الأبدية. كما يقول هو تعالى: أنا هو الخبز الحي الذي نزلت من السماء ومن أكل من هذا الخبز يحيى الى الأبد (يوحنا ص6ع51) فمن ثم يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن في بحر هذا العالم يباد غارقاً كل أولئك الذين لا يوجدون مقتبلين داخل هذا المركب، أي الذين لم تكن مريم محاميةً عنهم، فكل مرةٍ نوجد نحن في خطر الغرق. أما من قبل التجارب التي تثب علينا، وأما من قبل الآلام المتجندة في أعضائنا، فيلزمنا أن نصرخ ملتجئين الى مريم ونهتف نحوها قائلين. عينينا عاجلاً أيتها السيدة، وخلصينا أن كنت لا تريدين أن تشاهدينا هالكين: يا سيدة نجينا فأننا نهلك. فلاحظ هنا كيف أن ريكاردوس المذكور لم يكن يتوسوس من أنه يمكن القول لمريم البتول: يا سيدة نجينا فأننا نهلك، خلافاً لما كان يضع من الصعوبات الكثيرة المعلم الحديث المشار اليه في الجزء السابق ضد هذا القول، بل أنه كان يمنع مطلقاً أن يقل نحو العذراء المجيدة: يا مريم خلصينا. زاعماً أن خلاصنا هو مختصٌ بالله وحده. ولكن فليقل لنا هذا المعلم. أهل لا يمكن لإنسانٍ محكومٍ عليه بالموت أن يقول لرجلٍ من المحبوبين عند الملك: خلصني بوساطتك لدى الملك متشفعاً بي في أن يعفي عني واهباً لي الحياة، فأن كان ذلك ممكناً بدون ريبٍ فلماذا نحن لا نقدر أن نقول نحو والدة الإله خلصينا بأستمدادكِ لنا من الله نعمة الحياة الأبدية. فالقديس يوحنا الدمشقي لم يجد صعوبةً في أن يهتف نحو هذه العذراء المجيدة (في خطبته على مديحها): أيتها الملكة البريئة من الدنس خلصيني منقذةً إياي من الهلاك الأبدي: والقديس بوناونتورا يسميها: خلاص المستغيثين بها: والكنيسة المقدسة قد ثبتت بالعملية الدائمة يومياً أستدعاء مريم بصفة شافية المرضى وخلاص السقماء. ومع ذلك جميعه أيمكن لنا أن نتوسوس من قولنا: خلصينا يا مريم: مع أنه لا يفتح باب الخلاص لأحدٍ الا بواسطتها: كما يقول العلامة باجيوكالى، بل قبل هذا كان القديس جرمانوس نفسه قال: أنه لا يخلص أحدٌ الا بواسطتكِ أيتها العذراء (كما هو مدون في خطبته على وضع زنارها)* ولكن فلنعد الى موضوعنا متأملين في ماذا يقول غير ذلك القديسون، كيف أن شفاعات هذه الأم الإلهية هي ضروريةٌ لنا، فالمجيد القديس غايطانوس سيوضح علانيةً: أنه أي نعم أننا نقدر أن نفتش على النعم. ولكن لا يمكننا أن نفوز بنوالها من دون شفاعة مريم من أجلنا: وهذا القول يثبته القديس أنطونينوس متفوهاً بهذه العبارة الجليلة وهي: أن من يطلب النعم ويريد أن يحصل عليها من غير شفاعة مريم، فهو كمن يدعي بأن يطير من غير جناحين. لأنه كما أن فرعون قال ليوسف البار: أن أرض مصر كلها هي في يدك: وكما أن كل أولئك الذين كانوا يلتجئون الى فرعون طالبين الأسعاف كان هو يقول لهم: أمضوا الى يوسف، فهكذا الباري تعالى حينما نحن نلتمس منه النعم فيرسلنا الى والدته بقوله لنا: أمضوا الى مريم: لأنه عز وجل قد رسم، حسبما يقول القديس برنردوس: بالا يمنح نعمة ما الا عن يد مريم: فمن ثم يبرهن ريكاردوس الذي من سان لورانسوس قائلاً: أن خلاصنا هو في يد مريم بنوع أنه يمكننا نحن المسيحيين أن نقول لها بأفضل مما قاله المصريون ليوسف: أن خلاصنا هو في يدك. وكذلك يقول أيديوطا المكرم: أن خلاصنا هو في يد مريم. وهذا عينه يقوله كاسيانوس بأقوى عبارة هاتفاً: أن خلاص العالم كله قائمٌ في عناية مريم الوافرة: أي أن خلاص الجميع هو متعلقٌ بالأجمال في أن يكونوا مستعفين من مريم ومحامى منها عنهم، لأن من تحامي عنه مريم يخلص، ومن لا تحامي مريم عنه يهلك. ثم أن القديس برنردينوس السياني يقول نحو والدة الإله: أيتها السيدة أنكِ اذ أنتِ هي موزعة النعم كلها، ونعمة الخلاص أنما تعطى بواسطتكِ أنتِ فقط. فاذاً خلاصنا هو متعلقٌ بكِ:* فلأجل هذا بالصواب يقول ريكاردوس: أنه نظير ما يسقط الحجر متكردساً في الحفرة، متى نقيت من تحته الأرض التي كانت تسنده، فكذلك النفس اذا عدمت أسعاف مريم أياها فتسقط أولاً في حفرة الخطيئة وبعد ذلك تهبط الى هاوية جهنم: ويضيف الى هذا القديس بوناونتورا قائلاً: أن الله لايهبنا نعمة الخلاص من دون شفاعة مريم... وكما أن الطفل الرضيع اذا عدم مرضعته لا يمكنه أن يعيش، فهكذا اذا عدم أحدنا أن تحامي عنه مريم وتساعده. فلا يمكنه أن يفوز بالخلاص. ولذلك أحرضك يا إنسان على حفظ هذه العبادة دائماً والا تهملها حتى تبلغ الى السماء وهناك تقتبل من مريم البركة: ويقول القديس جرمانوس (في ميمره على عيد وضع زنار العذراء) هاتفاً نحوها: ترى من يعرف الله جيداً الا بواستطكِ يا مريم الكلية القداسة، من تراه عتيدٌ أن يخلص، من هو ذاك الذي ينجو من الأخطار، من يمكنه أن يحصل على نعمةٍ ما الا بواسطتكِ يا والدة الإله. يا أماً وبتولاً معاً يا ممتلئةً نعمةً: ثم يقول لها مخاطباً (في عظته على نياحها): أنكِ اذا لم تفتحي أنتِ للناس الطريق، فلا يوجد أحدٌ ناجياً من لسع أسنان اللحم والخطيئة:* ثم أن القديس برنردوس يبرهن قائلاً: كما أنه لا يمكننا أن ندنوا من الله الآب الأزلي الا بواسطة يسوع المسيح ، فعلى هذه الصورة ليس لنا طريقٌ بالدنو من هذا الإبن الأزلي يسوع المسيح الا بواسطة مريم أمه: وهوذا السبب الذي يورده القديس المذكور بأن الرب من أجله قد رسم في أننا كلنا نخلص بواسطة شفاعة مريم، وهو لكي نقتبل نحن في السماء بواسطة مريم ذاك المخلص نفسه الذي بواسطتها كان أعطى لنا في الأرض. ولهذا يسميها القديس: أم النعمة وأم خلاصنا: فمن ثم بالصواب يهتف القديس جرمانوس (في ميمره المذكور آنفاً) صارخاً نحوها هكذا: فاذاً ماذا لكان يحيق بنا، وأي رجاءٍ خلاصٍ لكان بقي لنا، لو كنتِ، تهملينا يا مريم أنتِ التي هي حياة المسيحيين أجمعين.* الا أن المعلم الحديث المشار اليه في الجزء السابق يتفلسف بقوله: أنه أن كانت النعم كلها تتوزع بواسطة مريم، فاذاً عندما نحن نلتجئ الى القديسين طالبين منهم أن يسعفونا بتضرعاتهم من أجلنا، فيلزمهم أن يتجهوا نحو مريم عينها مستمدين منها نوال النعم، الأمر الذي لا يصدقه أحدٌ ولا حلم به إنسانٌ: فأجيب على ذلك أنه نظراً الى تصديق هذه القضية لا يوجد شيءٌ من الضلال في الإيمان، ولا عدم لياقةٍ أو مناسبةٍ. فأية عدمية لياقةٍ يمكن أن يوجد في هذا، وهو أن الله لكي يكرم والدته المجيدة، بعد أن أقامها ملكةً على القديسين. وأراد أن النعم كلها تتوزع بيدها. يريد أيضاً أن القديسين يلتجئون اليها حينما يرغبون أن يستمدوا للمتعبدين لهم بعض النعم، وأما نظراً الى القول بأن هذه القضية ما حلم بها إنسانٌ، فأنا ألاحظ أنها قد قيلت واضحاً من القديسين برنردوس وأنسلموس وبوناونتورا، ومع هؤلاء من الأب سوارس ومن كثيرين آخرين. فيقول القديس برنردوس: أنه عبثاً وسدى يلتمس أحدٌ بتضرعاته من القديسين الأخرين نعمةً ما يبتغي هو نوالها، أن كانت مريم لا تتوسط في أستمدادها له: وكذلك أحد العلماء في تفسيره كلمات النبي والملك داود بقوله: لوجهكِ يصلي كل أغنياء الشعب: (مزمور 45عدد13) يورد ما تقدم ذكره قائلاً: أن أغنياء شعب الله العظيم أنما هم القديسون الذين حينما يريدون أن يستمدوا نعمةً ما لأحدٍ من المتعبدين لهم، فيصلون لوجه مريم ملتمسين منها أن تهتم في نوال تلك النعمة المطلوبة. ومن ثم بكل حقٍ وصوابٍ يقول الأب سوارس: نحن نتوسل للقديسين في أن يصلوا لوجه مريم بحسب كونها ملكتهم وسيدتهم من أجل خيرنا وأسعافنا:* وهذا هو مطابقٌ لما وعد به القديس برنردوس للقديسة فرنسيسكا الرومانية، كما يخبرنا الأب مركيزة بقوله: أن القديس برنردوس ظهر يوماً ما للقديسة فرنسيسكا الرومانية، وإذ أتخذ على ذاته حمايتها والمناضلة عنها، فوعجها بأن يتوسل من أجلها لدى الأم الإلهية: ويضيف الى هذه القضية أثباتاً القديس أنسلموس مخاطباً للقديسة والدة الإله هكذا: أن ذاك الشيء الذي يمكن نواله بواسطة شفاعات هؤلاء القديسين كلهم المتحدة معكِ، فهذا يمكن نواله جيداً من دون مساعدتهم بواسطة شفاعتكِ أنتِ وحدكِ: فلماذا أنتِ وحدكِ حاصلةً على أقتدارٍ هكذا عظيمٍ، فأنما ذلك هو لأنكِ أنتِ وحدكِ والدة الإله مخلصنا العام أجمعين، وأنتِ هي عروسة الله، وأنتِ هي سلطانة السماء والأرض العامة. فأن كنتِ أنتِ لا تتضرعين من أجلنا ولا تتكلمين في صالحنا، فلا أحدٌ من القديسين يصلي من أجلنا أو يساعدنا، ولكن أن أنعطفتِ أنتِ لأغاثتنا، فالجميع يصلون عنا ويسعفونا، أي أن القديسين كافةً حينئذٍ يجتهدون في خيرنا: فمن ثم الأب السينيري (في كتابه الملقب بالتعبد للعذراء) يخصص مع الكنيسة المقدسة بوالدة الإله تلك الكلمات المدونة في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع8) وهي: أنا درت دائرة السماء وحدي: قائلاً: أنه كما أن الفلك الأول يحرك بواسطة حركته سائر الأفلاك الأخرى معاً، فهكذا حينما تتحرك مريم لأن تتضرع من أجل نفسٍ ما فبحركتها تجعل سكان السماء كافةً أن يتحركوا بالصلوات معها: وبأبلغ من ذلك يقول القديس بوناونتورا: أن مريم حينئذٍ بحسب كونها ملكةً تأمر كل الملائكة والقديسين بأن يتحدوا معها. وبأن يضيفوا الى صلواتها تضرعاتهم أيضاً.* ثم على هذه الصورة أخيراً يفهم السبب الذي من أجله تحثنا الكنيسة المقدسة. على أن ندعوا هذه الأم الإلهية ونسلم عليها بتسميتنا إياها بهذا اللقب العظيم قائلين نحوها: يا رجانا: فلوتاروس المنافق كان يقول أنه لم يكن يستطيع أن يحتمل تصرف الكنيسة الرومانية بتسميتها مريم: رجانا: مع أنها أنما هي خليقةٌ محصنةٌ، ولذلك كان يصرخ قائلاً: لا أقدر أحتمل أن أدعو مريم رجائي وحياتي، لأن الله وحده ويسوع المسيح بحسب كونه الوسيط عنا فهما رجانا، بل أن الله يعلن عن لسان أرميا النبي من يضع رجاه في الخليقة بقوله: ملعون الرجل الذي يتوكل على الإنسان: (أرميا ص17ع5) الا أن الكنيسة المقدسة تعلمنا أن نستغيث بمريم في جميع الحوادث وأن نسميها رجانا بقولنا لها: السلام عليكِ يا رجانا: فأي نعم أنه بالحقيقة ملعونٌ هو ذاك الذي يضع رجاه في الخليقة من دون تعلقٍ أو أضافةٍ الى الله بالكلية، لأن الله هو وحده ينبوع كل الخيرات وموزعها. والخليقة من دون الله ليس عندها شيءٌ مطلقاً، ولا تقدر أن تعطي شيئاً، ولكن الأمر هو بالخلاف اذا كان الله عينه قد رسم كما أبنا فيما تقدم شرحه. بأن مريم تكون رجانا نظراً الى رسمه تعالى بأن النعم الإلهية كلها تتوزع علينا منه بواسطة مريم: ولذلك كان القديس برنردوس يدعوها: علة رجائه بأسره: ومثله كان يقول القديس يوحنا الدمشقي. الذي بمخاطيته البتول المجيدة يهتف قائلاً: أنني لقد وضعت يا سيدتي فيكِ رجائي كله، ومنكِ أنا أنتظر خلاصي أنتظاراً متصلاً. ويقول القديس توما اللاهوتي: أن مريم هي كل رجاء خلاصنا: والقديس أفرام السرياني يقول نحوها هكذا: أيتها البتول الكلية القداسة أقبلينا تحت حمايتكِ، أن كنتِ تريدين أن تشاهدينا مخلصين، لأنه لا يوجد عندنا رجاءٌ آخر في أمر خلاصنا الا بواسطتكِ.* فلنختتم اذاً الإيراد مع القديس برنردوس القائل: فلنجتهدن في أن نكرم بعواطف قلوبنا الأشد حباً هذه الأم الإلهية مريم الكلية قداستها. لأن هذه مشيئة الرب الذي أراد أن نقبل من يدها كل خيرٍ. ولذلك فكل مرةٍ نشتهي راغبين الحصول على نعمةٍ ما. فلنهتم في أن نستمدها من الله بواسطة مريم. محسنين أتكالنا ورجانا وثقتنا في أننا ننال بوساطتها ما نبتغيه، ثم يقول القديس المذكور نفسه: أنك أن كنت يا هذا لا تستحق من الله نوال تلك النعمة التي أنت تلتمسها منه، فمريم هي مستحقةً لديه حسناً أن تكتسبها لك... على أن كل شيءٍ نقدمه نحن لله أن يكن أعمالاً وأن يكن صلواتٍ. فلنجتهد في أن نقدمه لديه تعالى عن يد مريم وبواسطتها، هذا أن أردنا أن الرب يقبل منا ذلك.* * نموذج * أنها لشهيرةٌ هي خبرية ثاوفيلوس المعرقل المدونة من البطريرك القسطنطيني أوتيكانوس، الذي كان هو شاهداً عيانياً على حقيقة الأمر الآتي إيراده المثبت من القديس بطرس داميانوس أيضاً. ومثله من القديسين برنردوس وبوناونتورا وأنطونينوس، ومن غيرهم آخرين كما يوجد مدوناً من الأب كراسات. فقد كان ثاوفيلوس هذا رئيس شمامسةٍ في كنيسة مدينة أدنه من أقليم كيليكيا وكان حاصلاً عند الشعب على أعتبارٍ عظيمٍ، حتى أن الرعية كانت تريد أرتسامه عليها أسقفاً، غير أنه قد رفض هو قبول هذه الدرجة تواضعاً منه، ولكن اذ حدث بعد ذلك أن البعض قدموا ضده شكاياتٍ، ومن جرائها قد عزل هو عن وظيفته، فأستحوذ عليه من ثم غمٌ بهذا المقدار شديدٌ، حتى أن الآلام النفسانية قد أعمت قلبه وروحه. ولذلك مضى الى أحد السحراء اليهود طالباً معونته، وهذا الساحر المنافق قد صيره أن يحصل على خطابٍ مع الشيطان مشافهةً مستمداً منه العون في أمر مصيبته، أما الشيطان فطلب من ثاوفيلوس هذا الشرط الأثيم أن كان هو يريد منه الأسعاف، وهو أن ينكر قبل كل شيءٍ يسوع ومريم أمه. وأن يدون رفضه إياهما في صكٍ محررٍ بخط يده ويدفعه اليه، فثاوفيلوس قد أرتضى بهذا الفعل الكلي النفاق وسطر الصحيفة بخطه وسلمها للعدو الجهنمي. ففي اليوم المقبل اذ أن أسقف المدينة فحص جيداً دعوى ثاوفيلوس. وعرف أنه كان بريئاً من تلك الشكايات، قد أستدعاه اليه وأستغفر منه وأرجعه الى وظيفته كما كان قبلاً، فحينئذٍ ثاوفيلوس شعر بتوبيخ ضميره شديداً بمرارةٍ كانت تمزق أحشاه على الفعل الأثيم الذي صنعه، وشرع يبكي تياراتٍ من الدموع الحارة بأتصالٍ. ثم أنطلق الى أحدى الكنائس وأنطرح أمام أيقونة والدة الإله الكائنة هناك. مغرقاً الأرض بالدموع المنسكبة منمقلتيه وهتف قائلاً: يا والدة الإله أنا لا أريد أن أقطع رجائي بعد أن لي شخصكِ مملؤاً من الرأفة والحنو ومقتدراً على أعانتي: ثم واظب على التضرعات والبكاء مدة أربعين يوماً يلتمس الغوث من هذه الأم الإلهية التي بعد ذلك ظهرت له في الليل قائلةً: ماذا صنعت يا ثاوفيلوس، لقد رفضت صداقتك وحبك لأبني ولي أنا أيضاً متنازلاً عنهما، وذلك بين يدي عدوي وعدوك الجهنمي: فأجاب ثاوفيلوس وقال لها: أنه يخصكِ أنتِ أيتها السيدة أن تغفري لي وأن تستمدي لي الغفران من أبنكِ: فاذ لاحطت هذه السيدة الرحوم قلبها حسن ثقة ثاوفيلوس ورجاه فيها قالت له: كن مطمأناً متعزياً لأني أريد أن أتوسل لله من أجلك: فثاوفيلوس اذ تشجع من هذا الوعد قد ضاعف أفعال التوبة وسكب الدموع والصلوات من دون أن يفارق مكانه أمام تلك الأيقونة، وهوذا العذراء المجيدة قد ظهرت له ثانيةً فرحةً وقالت له: أبتهج يا ثاوفيلوس مسروراً، لأني قدمت أمام الله صلواتك ودموعك وهو تعالى قد قبلها وقد غفر لك، ولكن يلزمك منذ الآن فصاعداً أن تكون عارف الجميل وأميناً نحوه عز وجل: فأجاب ثاوفيلوس قائلاً: يا سيدتي أن هذا لا يكفيني ليعزيني بالتمام لأن الشيطان لم يزل حافظاً عنده الصك الذي دفعته اليه مدوناً فيه رفضي أبنكِ وإياكِ، فأنتِ تقدرين أن تلزميه بأن يرد لي هذا الصك: فبعد ثلاثة أيامٍ اذ نهض ثاوفيلوس صباحاً من رقاده، قد رأى الصك نفسه موضوعاً على صدره، ومن ثم مضى في اليوم عينه الى الكنيسة حيث كان الأسقف حاضراً مع شعبٍ غفيرٍ، وأنطرح على قدمي هذا الراعي معترفاً جهاراً بما كان صنعه، ومخبراً بحقيقة الأعجوبة. ومسلماً بيد الأسقف ذاك الصك الذي حرقه الأسقف حالاً أمام جميع الشعب. الذين بدموعٍ غزيرةٍ من شدة الفرح كانوا يقدمون الشكر لله ممجدين رأفته ورحمته، ومسبحين حنو والدته أم الرحمة على ما فعلته مع ذاك الخاطئ، الذي من هناك رجع الى كنيسة والدة الإله مملؤاً من الفرح. وبعد ثلاثة أيامٍ فقط أنتقل من هذه الحياة وهو مكرر التسابيح والشكر ليسوع ولأمه الطوباوية.*† صلاة † يا أم الرحمة وسلطانة الرأفة الموزعة النعم على كل أولئك الذين يلتجئون اليكِ بسخاءٍ هكذا عظيمٍ بحسبما أنتِ ملكةٌ وبمحبة هذا حد حرارتها بحسبما أنتِ أمٌ لنا كلية الحب، فأنا اليوم أقصد فضلكِ ملتجياً اليكِ أنا المقفر جداً من الأستحقاقات والفضائل، والمثقل بالديون التي عليَّ للعدل الإلهي، فيا مريم أنتِ حافظةٌ في يديكِ مفاتيح الرحمة الإلهية الغير المتناهية فلا تنسي حال فقري وأحتياجي، ولا تتركيني سبروتاً بائساً هكذا في أقصى حدود المسكونة، فأنتِ بهذا المقدار سخيةٌ جوادةٌ نحو الجميع حتى أنكِ أعتدت أن تهبي أكثر مما يلتمس منكِ، فكوني نحوي أنا أيضاً نظير الآخرين. يا سيدتي حامي عني وهذا هو كل ما أطلبه منكِ، لأنكِ اذا قبلتيني تحت حمايتكِ مناضلةً عني، فلا يمكن أن أخاف من أحدٍ. أي لا أخشى من الشياطين لأنكِ أنتِ أشد قوةً من الجحيم بأسره، ولا من خطاياي لأنكِ تقدرين أن تستمدي لي من الله غفراناً عاماً عنها، وذلك بكلمةٍ واحدةٍ تقولينها لله في صالحي، بل أني أن حزت محاماتكِ عني فلا أخاف حتى ولا من غضب العدل الإلهي ضدي، لأن الله لأجل تضرعٍ واحدٍ تقدمينه لديه من أجلي يهدأ رجزه عني ويسترضي. وبالأجمال اذا حصلت أنا تحت ظلكِ معضداً منكِ فعندي الرجاء في أن أنال كل شيءٍ أبتغيه. لأنكِ تقدرين على كل شيءٍ، فأمرٌ معلومٌ عندي يا أم الرحمة أنكِ تسرين مبتهجةً وتفتخرين ممجدةً في أعانتكِ الفقراء الأكثر أحتياجاً والأشد شقاوةً، بحيث أنكِ لا تشاهدينهم مصرين على عمل الأثم وبذلك تقدرين أن تسعفيهم، فأنا أنما خاطٍ ولكنني لست مصراً على الخطيئة بل أريد أن أغير سيرتي وأصلحها. ومن حيث أنكِ تقدرين أن تعينيني، فاذاً عينيني وخلصيني، ها هوذا أنا في هذا اليوم أضع ذاتي بجملتها في يدكِ، فقولي لي ماذا ينبغي أن أصنع لكي أرضي الله، لأني أريد حالاً أن أتممه موملاً صنيعه بمعونتكِ يا مريم أمي ونوري وتعزيتي وملجأي ورجائي آمين.* † |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل السادس † فيما يخص هذه الكلمات وهي: فأصغي اذاً إلينا ياشفيعتنا. † *وفيه ثلاثة أجزاء * † الجزء الأول † أن السلطة التي للأمهات على أولادهن هي بهذا المقدار عظيمةٌ، حتى أنه ولئن كان البنون ملوكاً ولهم السلطان على جميع الشعوب الخاضعين لممالكهم، فلا يمكن على الأطلاق أن أمهاتهم يكن مخضعاتٍ لولايتهم كأنهن من الرعايا، فأي نعم أن يسوع المسيح هو الآن كائنٌ في السماء جالساً من عن ميامن الله الآب، أي بحسبما هو إنسان أيضاً (كما يفسر القديس توما اللاهوتي) له سلطانٌ أعلى مطلقٌ كلي الأقتدار على جميع الكائنات والمخلوقات، حتى على مريم العذراء أيضاً، بحسبما أن ناسوته هو متحدٌ من دون أنفصالٍ مع لاهوته ومتقنمٌ بأقنومه الإلهي الذي هو أقنوم الكلمة الأزلي. فمع ذلك أمرٌ حقيقيٌ هو على الدوام أنه تعالى وقتاً ما، أي حينما كان عائشاً بالجسد في الأرض، قد أراد أن يواضع ذاته ويكون خاضعاً لمريم أمه كمرؤوس لها، كما يشهد لنا القديس لوقا الأنجيلي (ص2ع51) بأن يسوع كان يعيش مع أمه مريم ومع خطيبها القديس يوسف في الناصرة خاضعاً لهما، بل بأكثر من ذلك يقول القديس أمبروسيوس: أنه من حيث أن يسوع أرتضى بأن يختار مريم أماً له فصار بالحقيقة ملزوماً بأن يطيعها خاضعاً لها. ولذلك يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: انه يقال عن القديسين الآخرين أنهم كائنون مع الله. الا أنه عن مريم وحدها يمكن أن يقال أنها حصلت على الحظ السعيد، وهو أنها ليس فقط وجدت مخضعةً لإرادة الله بل أيضاً أن الله قد أخضع ذاته تحت إرادتها... وفي الوقت عينه الذي فيه مكتوبٌ هو عن العذراى الآخرات أنهن يتبعن الخاروف الى حيثما يسير (أبوكاليبسى ص14ع4) ففيه نفسه يمكن أن يقال عن الخروف الإلهي عينه أنه كان يتبع مريم في هذه الأرض، لأجل أنه كان أخضع ذاته لها وصار مرؤوسها.* فمن ثم نقول أن مريم ولئن لم تكن في السماء أيضاً قادرةً على أن تأمر أبنها. فمع ذلك أن تضرعاتها لديه هي دائماً تضرعات والدةٍ، ولهذا هي تضرعاتٌ كلية الأقتدار على أن تنال كل ما تطلبه، فيقول القديس بوناونتورا: ان مريم هي حاصلةٌ على هذا الأختصاص عند أبنها وهو أنها كلية الأقتدار على ان تستمد منه كل شيء تريده: ولما ذلك، أنه بالحصر هو للسبب الذي أشرنا إليه آنفاً والذي بعد قليلٍ نفحص عنه بأسهابٍ. أي لأن تضرعات مريم لديه تعالى هي تضرعات أمٍ له، ولأجل هذه العلة يقول القديس بطرس داميانوس: أن مريم العذراء تقدر على كل ما تريد كما في السماء كذلك على الأرض، اذ أنها تستطيع أن تعضد برجاء الخلاص المقطوعين من الرجاء أنفسهم. ثم يقول أيضاً: انه حينما تلتمس هي نعمةً ما لأجلنا من أبنها يسوع المسيح (المسمى من هذا القديس هيكل الرحمة حيث يفوز الخطأة من الله بالغفران) فأبنها الإلهي يعتبر بهذا المقدار تضرعاتها ويكرمها، ويريد أرادةً مطلقةً أن يرضيها، حتى أنها حينما تتوسل هي، فيظهر أنها تأمر أحرى من أن تتضرع، وتبان أنها سيدةٌ أحرى من عبدةٍ: فعلى هذه الصورة يريد يسوع أن يكرم هذه الوالدة العزيزة التي قد كرمته هي في مدة حياتها تكرمةً كلية القبول لديه، بأنه حالاً يستجيب طلباتها بقدر ما تشاء وبحسبما تشتهي، الأمر الذي يوطده القديس جرمانوس بألفاظٍ جليلةٍ (في ميمره على نياحها) قائلاً نحوها هكذا: أنكِ أنتِ هي والدة الإله الكلية الأقتدار على خلاص الخطأة. ولا تحتاجين لدى الله الى شيءٍ آخر يجعل كلامكِ مقبولاً عنده بعد أنكِ أنما أنتِ هي أم الحياة.* ولأجل هذا لم يجد القديس برنردينوس السياني صعوبةً في أن يعطي هذه الحكومة قائلاً: أنه حينما تبرز مريم أوامرها، فالجميع يطيعون حتى الله عينه: مريداً بالحقيقة أن يقول، أن الله يستجيب تضرعاتها كأنها أوامر وليس كتوسلاتٍ، ولهذا يكتب القديس أنسلموس مخاطباً والدة الإله بهذه الألفاظ وهي: أن الرب قد رفعكِ أيتها العذراء القديسة الى مقامٍ وحالٍ هذا عظم سعادتهما، بنوع أنكِ بواسطتهما تقدرين على أن تستمدي منه كل النعم الممكن منحها لعبيدكِ. لأن حمايتكِ هي كلية الأقتدار، أي نعم أن حمايتكِ هي قادرةٌ على كل شيءٍ يا مريم. كما يدعوكِ القديس قزما الأورشليمي، وحسبما يتبع ذلك ريكاردوس الذي من سان لورانسوس قائلاً: حقاً أن مريم هي قادرةٌ على كل شيءٍ، من حيث أن الملكة بقوة كل الشرائع لها أن تتمتع بالأختصاصات عينها التي يتمتع بها الملك: فعلى هذه الصورة يقول القديس أنطونينوس: أن الله قد وضع الكنيسة الجامعة كلها ليس فقط تحت حماية مريم بل أيضاً تحت ولايتها وسلطانها* فأن كان يلزم اذاً أن تكون الوالدة حاصلةً على سلطانٍ نفسه المختص بأبنها، فبالصواب يسوع الذي هو بذاته قادرٌ على كل شيءٍ قد صير والدته مريم قادرةً على كل شيءٍ، ولكن بهذا التمييز وهو أن يسوع هو قادرٌ على كل شيء طبيعياً ومن قبل لاهوته ذاتياً. وأما مريم فخصصت بهذه الصفة نعمةً منه تعالى. وهذا يتحقق بالعملية وهو أن كل سيءٍ تطلبه الوالدة فلا يمكن أن ينكر عليها منه شيئاً الأبن. كما أوحى للقديسة بريجيتا التي يوماً ما سمعت يسوع مخاطباً مريم هكذا: أنكِ تعلمين يا أمي كم أني أحبكِ، فاذاً أطلبي مني كل شيءٍ حتى مهما كانت مسألتكِ عظيمةً فأنا لا يمكن أصلاً أن لا أقبلها، لأنكِ حينما كنتِ معي في الأرض لم تنكري قط شيئاً أن تعمليه حباً بي، فالآن اذ أنا كائنٌ في السماء فأمرٌ عادلٌ هو أن لا أنكر أن أصنع كل ما أنتِ تريدينه مني ملتمسةً: فأنما مريم تسمى قادرةً على كل شيء بالنوع الذي يمكن أن تحصل عليه خلقةٌ ما لم تكن موضوعاً قابلاً بذاتها لأن تملك صفةً إلهيةً، فهذا النوع مريم هي قادرةٌ على كل شيءٍ أي أنها بواسطة تضرعاتها تقدر أن تنال كل ما تطلبه* فبالصواب اذاً يقول نحوكِ يا شفيعتنا العظيمة القديس برنردوس هكذا: ريد ما تحبين، فكل شيءٍ يتم كمرادكِ، ريد أن ترفعي الخاطئ الأكثر أثماً والأشد يأساً الى أعظم درجةٍ من القداسة، ففي سلطانكِ أن تصنعي ذلك. ثم أن الطوباوي ألبرتوس الكبير فيما يخص هذا الموضوع يجعل مريم متكلمةً هكذا أنه يلزمني أن أكون مسؤولةً بتضرعات الغير لدي في أن أريد. لأني أن أردت فأمرٌ ضروريٌ هو أن يصنع ما أريده: فمن ثم اذ كان يتأمل القديس بطرس داميانوس هذه المقدرة العظيمة التي لمريم، فبتوسله نحوها في أن تترأف علينا يخاطبها قائلاً: يا مريم شفيعتنا العزيزة. أنه من حيث أنكِ حاصلةٌ على قلبٍ هكذا حنون حتى أنكِ لا تعرفين بل لا تقدرين أن تشاهدي الفقراء المحتاجين من دون أن تتوجعي لهم مشفقةً. وفي الوقت عينه أنتِ مالكةٌ أستطاعةً بهذا المقدار عظيمةً أمام الله على أن تخلصي كل أولئك الذين أنت تحامين عنهم. فلا تأنفي اذاً مشمأزةً من أن تتحذي على ذاتكِ المحاماة عن دعوانا نحن أيضاً الأشقياء البائسين الواضعين رجانا بأسره فيكِ. فأن كانت صلواتنا وتضرعاتنا لا تحرككِ لذلك. فليعطفكِ نحونا قلبكِ الرأوف، ولتحرككِ قلما يكون سلطتكِ، لأن الله لأجل هذه الغاية قد أغناكِ بأقتدارٍ هذا عظم حده، حتى أنكِ بمقدار ما أنتِ غنيةٌ مستطيعةٌ على أسعافنا، فبأكثر من ذلك تكونين رحومةً مريدةً أن تساعدينا. ثم أن القديس برنردوس يؤكد لنا هذا الموضوع حسناً بقوله هكذا: أن مريم كما في الأقتدار كذلك في الرحمة هي عنيةٌ بنوعٍ لا حد له، فبحسبما أن حبها هو كلي الأقتدار، كذلك هي كلية الأشفاق لأن تحنو علينا راحمةً. وعمليتها المتصلة معنا تبرهن حقائق الأمر.* فمن حينما كانت مريم عائشةً في الأرض لم يكن لها أهتمامٌ بالوجه الأول من بعد عنايتها فيما يخص مجد الله. سوى في أن تعين المحتاجين، ونحن نعلم أنها منذ ذلك الوقت قد تمتعت من قبل الله بهذه الخاصة. وهي أن تستجاب طلباتها في كل شيءٍ كانت تلتمسه. وهذا هو معروفٌ لدينا من الحادث المكتمل في عرس قانا الجليل حينما نقص الخمر، فوقتئذٍ لأشفاقها وتوجعها من جرى الخجل الذي أعترى أهل البيت. قد طلبت من أبنها أن يعزيهم بصنيعه أعجوبةً قائلةً له: أن ليس عندهم خمر، أما يسوع فأجابها بقوله: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: (يوحنا ص2ع4) فتأمل أيها القارئ كيف أنه يبان من جوابه تعالى عدم أرادته حينئذٍ أن يصنع تلك المعجزة، بل كأنه أراد أن يقول لوالدته المجيدة: ما الذي يهمني ويعنيكِ بنقصان الخمر من عندهم، فالآن ليس هو بلائقٍ بي أن أمارس صنع العجائب اذ لم يكن جاء زمن كرازتي بالأنجيل، الزمن الذي فيه ينبغي لي أن أثبت حقائق تعليمي بعجائب ظاهرةٍ. ولكن مع ذلك جميعه فمريم كأنها فازت منه بمطلوبها، قالت للخدام أصنعوا كل ما يأمركم به: أي أسرعوا فأملأوا الأجانين ماءً فتنظرون كيف أنها مزمعةٌ أن تحصل التعزية للجميع، وبالحقيقة أن مخلصنا لكي يرضي والدته ويتمم مرغوبها قد أحال تلك المياه الى خمرٍ جيدٍ، فكيف تم هذا. أي أن كان الزمن المعين منه تعالى لصنيع العجائب لم يكن جاء بعد لأنه حفظ الى حين الكرازة بالأنجيل، فكيف الآن فعل هو هذه الآية خلافاً للمراسيم الإلهية السابق تحديدها، فيجاب على ذلك، كلا، أي أن هذا العمل لم يكن مضاداً لترتيب الله، لأنه ولئن لم يكن جاء بعد الزمن الذي فيه أعتيادياً كان ينبغي صنيع المعجزات فمع ذلك كان الله منذ الأزل بقوة مرسومٍ آخر حدد، أن جميع ما كانت مريم المصطفاة منه عتيدةً أن تطلبه، فلن ترد مسألتها به فارغةً، ومن ثم اذ لم تكن مريم تجهل هذه الخاصة والنعمة الجليلة الممنوحة لها، فمع أنه أستبان لها من جواب أبنها أن مطلوبها لم يكن مستجاباً. فمع ذلك قالت هي للخدام أن يفعلوا كل ما كان يأمرهم به. بألفاظٍ تدل واضحاً على نوالها النعمة التي ألتمستها، وهذا هو معنى ما يفسر به القديس يوحنا فم الذهب الكلمات المقدم ذكرها وهي المقالة من فادينا نحو والدته: ما لي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: فيقول: أن مخلصنا ولئن كان أجابها هكذا نفياً فمع ذلك لكي يكرم هو هذه الأم الإلهية لم يتأخر عن أن يطيعها مكملاً ما طلبته منه: وهذا عينه قد أيده القديس توما اللاهوتي حيث قال: أنه بهذه الكلمات وهي: أنه لم تأتِ ساعتي بعد أراد أن يبين أنه لقد كان أخَّر صنيع تلك الآية، لو كان أحدٌ آخر غير أمه طلب منه هذه النعمة، ولكن اذ أن والدته ألتمستها منه، فحالاً هو صنع الأعجوبة. ثم أن القديسين كيرللس وأيرونيموس يفسران هذا النص كما تقدم القول حسبما يورد البرادي. ومثلهما كتب الفاندافانسه في شرحه معنى كلمات الأنجيل المار ذكرها اذ يقول: أن المسيح لكي يكرم والدته قد سبق زمن صنيع العجائب.* وبالأجمال أنه لأمرٌ أكيدٌ هو أنه لن توجد خليقةٌ ما تقدر أن تستمد لنا من الله نحن الأشقياء مراحم ورأفات هكذا غنيةً، نظير هذه الشفيعة الصالحة التي قد كرمها الله بذلك، ليس فقط بحسبما هي آمته المحبوبة منه بل أيضاً بحسبما هي أمه الحقيقية، وهذا عينه يقوله غوليالموس الباريسي، فاذاً يكفي أن تتكلم مريم ليتمم أبنها كل ما تريده منه. ففي تكلم الرب مع عروسة النشيد المفهوم بها والدة الإله يقول نحوها هكذا: أنتِ الجالسة في البساتين الأصحاب يصغون. فسمعيني صوتكِ: (نشيد ص8ع13) فالأصحاب أنما هم القديسون الذين حينما يطلبون نعمةً ما راجعةً لخير المتعبدين لهم. فينتظرون أن ملكتهم تستمدها من الله وتنالها، لأنه (كما أوردنا في الفصل السابق) لا تتوزع نعمةٌ ما من النعم الا بواسطة شفاعة مريم. فكيف تستمد هي هذه النعم، أنه يكفي أن تتكلم لأن الأبن حالاً يستجيب لها، وهذه هي ألفاظ غوليالموس الباريسي في تفسيره كلمات سفر النشيد المقدم ذكرها حيث يجعل المسيح مخاطباً والدته هكذا: أنتِ التي تسكنين في البساتين السماوية تشفعي بدالةٍ ورجاءٍ من أجل من تريدين. لأني لا أستطيع أن أنسى حال كوني أبناً لكِ، وبالتالي لا أقدر أن أنكر عليكِ الشيء الذي تطلبينه مني أنتِ التي هي أمي، بل أنه يكفي لقبول ما تلتمسينه أن تلفظي الكلمة فأستجيبها أنا أبنكِ.* ثم يقول الأنبا غوفريدوس: أن مريم ولئن كانت تستمد من الإله أبنها النعم متوسلةً، فمع ذلك هي تتضرع اليه على نوعٍ ما بروحٍ رئاسي بحسبما هي والدته. فاذاً نحن من دون ريبٍ مطلقاً يلزمنا أن نعتبر، أن كل ما هي تطلبه منه تعالى لأجلنا وجميع ا ترغبه هي لنا فنحصل عليه أكيداً من دون ريبٍ.* أما فالاريوس مكسيموس فيخبرنا بأن كوريولانوس حينما كان محاصراً مدينة روميه، فلم تكن تؤثر في قلبه حركة حنوٍ ورأفةٍ ما تضرعات أصدقائه وسكان المدينة بأسرهم، ولكن حينما ظهرت أمامه فكتوريا والدته لتتضرع اليه من أجلهم، فوقتئذٍ ما عاد هو أستطاع أن يستمر ثابتاً على رفض المطلوب بل حالاً رفع الحصار عن المدينة، الا أن تضرعات مريم لدى يسوع هي بما لا يحد أكثر قبولاً من تضرعات فكتوريا لدى كوريولانوس بمقدار ما أن هذا الأبن الإلهي هو مكافئ عادلٌ ومحبٌ عظيمٌ لأمه هذه الجليلة. على أن الأب يوستينوس فيكوفيانسه قد كتب قائلاً: أن تنهدةً واحدةً من الطوباوية مريم لها قبولٌ وأستحقاقٌ أمام الله أكثر مما تستطيع عليه لديه تعالى توسلات جميع القديسين معاً: وهذا الأمر عينه قد أعترف به الشيطان نفسه للقديس عبد الأحد مضطراً من قبل ما حتم به عليه هذا القديس عينه، حينما كان يخرجه من إنسانٍ معترى منه، حسبما يخبر الأب باجيوكالى، أي أنه قال له أن تنهداً واحداً مصنوعاً من والدة الإله له مفعولٌ أمام الله أفضل من صلوات جميع القديسين والقديسات وتضرعاتهم وتوسلاتهم لديه عز وجل.* ثم يقول القديس أنطونينوس: أن صلوات البتول مريم الطوباوية اذ أنها هي صلوات أمٍ، فلها نوعٌ من حق التآمر ولهذا فلمن المستحيل أن لا تقبل طلبتها حينما تتضرع: ولذلك يخاطب البتول المجيدة القديس جرمانوس مشجعاً كل الخطأة بأن يلتجئوا الى هذه الشفيعة الحارة وقائلاً نحوها: أنكِ يا مريم اذ كنتِ حاصلةً على السلطان الوالدي نحو الله فتستمدين الغفران للخطأة الأكثر أثماً والأشد قبحاً، لأن ذاك الرب الذي في كل شيء يعرفكِ أماً حقيقيةً له. فلا يمكنه أن لا يهبكِ كل شيءٍ تسألينه: ولهذا القديسة بريجيتا قد سمعت القديسين في السماء يتكلمون مع والدة الإله قائلين لها: أيتها السيدة المباركة، ما هو الشيء الذي أنتِ لا تقدرين أن تصنعينه، لأن الشيء الذي تريدينه فهذا هو الشيء الذي يعمل. ومن ثم يصادق هذا الكلام ذاك القول الشهير وهو: أن السلطة التي لله هي لصلاتكِ أيتها العذراء ويقول القديس أوغوسطينوس: أفهل أنها لا تكون لائقةً بخيرية صلاح الرب هذه القضية، وهي أن يحفظ شرف مقام والدته والحال أنه تعالى يعلن واضحاً أنه لم يأتِ الى الأرض ليحل الناموس بل ليتممه، والحال أن أحدى وصايا هذا الناموس هي الحتم على الأولاد بأن يكرموا والديهم: بل أن القديس جاورجيوس رئيس أساقفة نيكوميديه يضيف الى ذلك قائلاً: أن يسوع المسيح لكي يفي على نوعٍ ما الألتزام الذي عليه لهذه الأم الإلهية، لأجل أنها أعطته بواسطة أرتضائها بسر التجسد الكون الإنساني من دمائها، فيكمل هو جميع ما تطلبه منه: وهنا يهتف القديس متوديوس الشهيد صارخاً: أفرحي يا مريم لأنكِ حصلتِ على الحظ السعيد في أن يكون مديوناً لكِ ذاك الأبن الذي هو يعطي الجميع ولا يقبل من أحدٍ شيئاً، فنحن كلنا مديونون لله في جميع ما عندنا على الأطلاق، لأن كل شيءٍ هو ممنوحٌ منه هبةً لنا، وأما أنتِ فأراد الله نفسه أن يكون مديوناً لكِ بأخذه منكِ الناسوت، ولذلك يقول القديس أوغوسطينوس: أن مريم اذ أستحقت أن تعطي الناسوت للكلمة الأزلي. وبهذا الناسوت تم أفتداء الجنس البشري وصرنا نحن ناجين من الموت الأبدي، فلهذا مريم هي مقتدرةٌ أكثر من الجميع على أسعافنا لأن نحصل على الخلاص الأبدي. وكذلك كتب القديس ثاوفيلوس الأسقف الأسكندري الذي كان عائشاً على زمن القديس أيرونيموس قائلاً هكذا: أن الأبن يسر مرتضياً بأن والدته تتوسل اليه، لأنه يريد أن يهبها جميع ما تشاء مانحاً إياها ذلك حباً بها وأعتباراً لها، وبهذا يريد أن يكافئ النعمة التي هو كان أقتبلها من هذه الأم الإلهية بأعطائها إياه الجسم الإنساني، فمن ثم يلتفت القديس يوحنا الدمشقي نحو العذراء مخاطباً إياها بهذه الكلمات وهي: فأنتِ اذاً يا مريم بحسب كونكِ والدة الإله تقدرين أن تخلصي الجميع بواسطة صلواتكِ التي لها قيمة سلطان أمٍ وحاصلة على أعتبار سطوة والدةٍ,* فلنجز القول بألفاظ القديس بوناونتورا الذي عند تأمله في مقدار عظمة الخير المصنوع من الله معنا بمنحه إيانا مريم شفيعةً بنا، يخاطب هذه البتول المجيدة قائلاً: يا لسمو خيرية صلاح إلهنا الفائقة الأدراك بالحقيقة، والعديمة التناهي، لأنه أراد أن يهبنا نحن الأثمة الأشقياء شفيعةً جليلةً التي هي أنتِ أيتها السيدة المعظمة، لكي تستطيعي بواسطة شفاعتكِ المقتدرة أن تستمدي لنا من الخير والنعم بمقدار ما أنتِ تريدين... وبالعظمة رأفة الرب الملك، كيلا نهرب نحن خوفاً من الحكومة المزمعة أن تبرز على دعوانا في ديوانه الإلهي، قد أقام لنا محاميةً وشفيعةً والدته نفسها التي لها السلطان على النعم.* * نموذج * † صلاة † † † الجزء الثاني † * في أن مريم العذراء هي شفيعةٌ بهذا المقدار مملؤةٌ من الرأفة حتى أنها لا ترفض أن تحامي عن دعاوى من هم أشد شقاوةً أيضاً* فهي تهتم في كل أحدٍ حتى في الأشرار، بل أنها تفتخر هي في كونها تدعى محامية الخطأة وشفيعتهم الخاصة، حسبما أوضحت ذلك هي نفسها لعبدة الرب الراهبة مريم فيلاني المكرمة قائلةً لها: أنني من بعد الصفة الشريفة التي أمتلكها بكوني والدة الإله فأفتخر بهذه الصفة الأخرى أكثر من البقية وهي بكوني أدعى شفيعة الخطأة، ثم يقول الطوباوي أماداوس: أن سلطانتنا لا تهمل أن تعتني لدى العزة الإلهية دائماً بالتضرعات الكلية الأقتدار من حيث أنها وهي في السماء تعلم جيداً حال شقاوتنا وشدة أحتياجاتنا، فلا تقدر أن لا تتوجع من جرائنا وألا تشفق علينا. ومن ثم بحبٍ والدي بحسبما هي أمنا تنعطف بأشفاقٍ وتعتني بحنوٍ في أن تسعفنا على الدوام وتهتم في أمر خلاصنا الأبدي: ولهذا ريكاردوس الذي من سان لورانسوس يشجع كل إنسانٍ مهما وجد شقياً على الألتجاء الى مريم شفيعتنا بحسن أتكالٍ، مؤكداً له بأنه يجد فيها دائماً أستعداداً حياً لأسعافه، كما يقول غوفريدوس: أن مريم هي على الدوام مستعدةٌ لأن تصلي من أجل الجميع.* فيا لها من عنايةٍ وغيرةٍ حارةٍ تتعاطى بها شفيعتنا المجيدة دعوى خلاصنا الأبدي، (يقول القديس برنردوس) لأننا في حال غربتنا هذه قد سبقنا وقدمنا شفيعتنا التي لكونها أم الديان وأم الرحمة أيضاً فتتعاطى أمر خلاصنا وتكتسب لنا الدعوى. ثم أن القديس أوغوسطينوس اذ كان يتأمل الحب والأعتناء اللذين بهما تهتم مريم دائماً في تضرعاتها لدى العزة الإلهية، لكي يغفر لنا الرب خطايانا ويسعفنا بأنعامه ويخلصنا من المخاطر وينجينا من الشقاوة والهلاك، يقول مخاطباً هذه السلطانة المجيدة هكذا: أي نعم أيتها السيدة أن القديسين كلهم يحبون خلاصنا ويصلون من أجلنا، ولكن الحب والشفقة والحنو والأنعطافات التي تظهرينها نحونا أنتِ من السماء بأستمدادكِ لنا بواسطة تضرعاتكِ من أجلنا نعماً هكذا عظيمةً من الله. فهذا كله يلزمنا بأن نعترف بأنه ليس لنا في السماء سوى شفيعةٍ واحدةٍ التي هي أنتِ، وأنكِ أنتِ وحدكِ محبةٌ صادقةٌ حقيقيةٌ مهتمةٌ ومعتنيةٌ في خيرنا وخلاصنا: ثم يقول القديس جرمانوس: ترى من هو الذي يمكنه أن يدرك الأهتمامات والأعتناء والغيرة التي بها تسعفنا مريم أمام اله دائماً في قضاء أحتياجاتنا، لأن رأفتها وأشفاقها نحونا نحن الأشقياء وحبها إيانا ورغبتها خيرنا هي بهذا المقدار وافرةٌ حارةٌ صادقةٌ، حتى أنها تصلي من أجلنا من دون مللٍ وتكرر تضرعاتها، ولا تشبع من التوسل في صالحنا، وهكذا تسعفنا بأنقاذها إيانا من الشرور وبأستمدادها لنا النعم التي نحتاج اليها.* فيا لشقاوتنا وتعاستنا نحن الخطأة لولا نكون حاصلين على هذه الشفيعة العظيمة التي هي مقتدرةٌ جداً ورحومةٌ في الغاية وحكيمةٌ بما لا يوصف وفطونةٌ فوق الكفاية: حتى أن القاضي الإلهي أبنها يسوع (يقول ريكاردوس) لا يمكنه أن يحكم بالهلاك على أولئك المذنبين الذين هي تحامي عنهم: ومن ثم يسلم عليها القديس يوحنا جاوماترا قائلاً: السلام عليكِ أيها الشريعة الملاشية من الدعاوى كل الخصومات." لأن جميع الدعاوى المحامى عنها من هذه الشفيعة الكلية الفطنة والحكمة فتكتسب كافةً من دون أن تخسر واحدةٌ منها، ولهذا يسمي مريم القديس بوناونتورا: أبيغال الحكيمة: فأبيغال هي تلك الأمرأة (المذكورة في الاصحاح الخامس والعشرين من سفر الملوك الأول) التي عرفت جيداً أن تهدئ بواسطة توسلاتها وبراهين حكمتها غضب داود الملك حينما وجد هو ممتلئاً رجزاً ضد نابال، فقد راق قلب داود اذاً بواسطة تضرعات أبيغال بهذا المقدار حتى أنه هو نفسه كأنه شكر فضلها قائلاً لها: مباركٌ الرب إله أسرائيل الذي أرسلكِ اليوم تجاهي. ومباركٌ هو كلامكِ ومباركةٌ أنتِ كما منعتني اليوم عن أن أدخل في الدم وأنتقم بيدي: فهذا الأمر عينه تصنعه مريم في السماء على الدوام في صالح خطأةٍ لا يحصون عدداً، لأنها تعرف هي جيداً أن تهدئ غضب العدل الإلهي بواسطة تضرعاتها المملؤة أشفاقاً، وبكلماتها ذات العذوبة والحكمة، حتى أن الله نفسه يباركها عن ذلك وكأنه على نوعٍ ما يشكر عناية حبها وتضرعاتها التي تمسكه عن أن يهمل هؤلاء الخطأة مرذلاً، ويعاقبهم مقاصاً حسبما يستحقون، فيقول القديس برنردوس: أنه لأجل هذه الغاية اذ كان الآب الأزلي يريد أن يستعمل معنا كل أنواع الرحمة والحكمة الممكنة، فما عدا الشفيع الأول والأصلي الذي يشفع فينا لديه وهو أبنه يسوع المسيح، قد منحنا هذه الشفيعة التي هي مريم لدى أبنها يسوع المسيح عينه:* فلا ريب ولا أشكال (يقول القديس برنردوس نفسه) في أن يسوع المسيح هو الوسيط العدل الوحيد فيما بين الله الآب وبين البشر، وهو الذي بقوة أستحقاقاته الخصوصية الذاتية يقدر حقاً حسب مواعيده أن يكتسب لنا الغفران والنعمة الإلهية. ويريد ذلك ولكن من حيث أن البشر يعرفون في شخص يسوع المسيح العظمة الإلهية الكائنة به حسبما هو إلهٌ، ويخافون منه، فلهذا لزم بالضرورة أن يقام لنا شفيعٌ نقدر نحن أن نلتجئ اليه بأقل خوفٍ وبأكثر طمأنينةٍ، فأقام الله لنا مريم شفيعةٌ بنوع أننا لا نقدر أن نصادرف محاميةً، لا أشد منها أقتداراً أمام العزة الإلهية، ولا أكثر منها أشفاقاً نحونا: ولهذا بالحقيقة يفتري على مريم ليس بالقليل (يتبع القديس برنردوس كلامه السابق بقوله الحاضر) ذاك الذي يخاف من أن يمضى لدى قدمي هذه الشفيعة الموعبة من العذوبة والحلاوة. والبعيدة عن الصرامة والقساوة. بل هي بجملتها عواطف حبٍ وأشفاقٍ وحنوٍ وخيريةٍ، فأقرأ يا هذا خبرية الأناجيل المقدسة كلها وأفحصها جيداً، واذا رأيت مدوناً عن مريم حادثاً ما يشير الى صرامتها وشدة معاملتها، فحينئذٍ خف منها وأخشى من أن تبادر اليها. غير أنك لا تقدر أن تجد ذلك. فاذاً بادر اليها فرحاً وهي تخلصك بشفاعتها:* أما غوليالموس الباريسي فجعل الخاطئ الملتجئ الى هذه السيدة أن يخاطبها بهذه العبارات الجليلة قائلاً لها: يا أم إلهي أني فيما أنا به من الحال الشقية عينها التي قد أوصلتني اليها خطاياي أبادر اليكِ ملتجئاً بكِ برجاءٍ وطيدٍ، فأن طردتيني رافضةً إياي، فأنا أستطيع أن أقول لكِ أنكِ على نوعٍ ما لملتزمةٌ أنتِ بأن تعينيني، لأن الكنيسة الجامعة كلها والمؤمنين أجمعين يسمونكٍ أم الرحمة، فأنتِ هي يا مريم تلك التي لأجل كونها عزيزةً أمام الله ومحبوبةً منه فدائماً طلباتها هي مقبولةٌ لديه تعالى، فرأفتكِ العظيمة ما نقصت قط عن أحدٍ، وعذوبتكِ وحلاوة قلبكِ وليونة ناسوتكِ ولطافة معاملتكِ لم تدعكِ أصلاً أن تحتقري أحداً من الخطأة. مهما كانت حاله سيئةً ومآثمه فظيعةً وقبائحه شنيعةً بحيث أنه يستغيث بكِ مستمداً منكِ العون، لأنه أهل يمكن أن الكنيسة كلها أفكاً وبطلاً وسدىً تدعوكٍ شفيعتها ومحاميتها، وتلقبكِ بملجاء البائسين، فلا يكن أبداً أن خطاياي تستطيع يا أمي أن تمسككِ عن أن تتممي نحوي واجبات الوظيفة العظيمة ذات الرأفة والرحمة المقلدة لكِ، والتي بموجبها أنتِ هي الشفيعة في البشر والوسيطة فيما بينهم وبين الله لأجتلاب الصلح. وأنتِ بعد أبنكِ هي الرجاء الوحيد للميؤوسين والملجئ الفريد للبائسين. فجميع ما أنتِ حاصلةٌ عليه من النعمة والمجد ومن المرتبة العظمى عينها وهي حال كونكِ والدة الإله (فأن يكن مباحاً لي فأقول) أن هذه كلها أنتِ ملزومةٌ بأن تعرفي جميلها عليكِ للخطأة. لأن الكلمة الأزلي بسبب هؤلاء الخطأة قد صيركِ أماً له بتجسده منكِ، فاذاً أبعد البعد هو التفكر في أن الأم الإلهية التي ولدت للعالم ينبوع الرأفة يمكن أن تنكر رحمتها على أحد المساكين الملتجئين اليها، فمن حيث أن وظيفتكِ يا مريم هي أن تتوسطي فيما للصلح بين الله والناس. فليحرككِ لأن تفتكري بي أشفاقكِ نفسه الذي هو بما لا يحد عظيمٌ، حتى أن خطاياي مهما كانت كثيرةً وكبيرةً فلا يمكن أن تسمو عليه.* " فكونوا متعزين اذاً يا معشر صغيري الأنفس (أقول لكم مع القديس توما الفلانوفي) وأبتهجوا بسرورٍ يا ميؤوسين، وتشجعوا معاً أنتم أيها الخطأة كافةً. فأن هذه البتول العظيمة التي هي والدة إلهكم وديانكم، فهي هي نفسها شفيعة الجنس البشري والمحامية عنه، وهي مقتدرةٌ على أن تنال من الله كل شيءٍ، وهي كلية الحكمة وتعرف جميع الوسائط التي بها تهدئ غضب العدل الإلهي. وهي شفيعةٌ عامةٌ مشاعةٌ للجميع، فتقبل كل واحدٍ ولا ترفض أصلاً أن تحامي عن أحدٍ مهما كان ممن يقصدونها.* * نموذج * – نعم أني أعرفها جيداً، وهي موجودةٌ في الدير وبالحقيقة أنها راهبةٌ قديسةٌ وقد أقيمت حديثاً معلمة للمبتدئات. فلما سمعت هي منه هذا الجواب قد بهتت متحيرةً قلقةً لم تعد تعلم ماذا تفتكر ولا كيف تصدق الأمر، فمن ثم لكي تتحقق القضية جيداً بالأمتحان قد غيرت ملبوسها وأنطلقت الى الدير وأستدعت الراهبة بياتريكس الموجودة هناك، وهوذا بوالدة الإله الكلية القداسة قد ظهرت أمامها بالصورة والهيئة ذاتها المصورة هي بها في تلك الأيقونة التي كانت بياتريكس وضعت أمامها مفاتيح الدير مع ثوبها الرهباني، وحينئذٍ قالت لها هذه الأم الإلهية هكذا: أعلمي يا بياتريكس أنني لكي أمنع عنكِ فضيحة الصيت وخسران السمعة الصالحة قد أتخذت على ذاتي صورتكِ وهيئتكِ، وعوضاً عنكِ قد مارست وظيفتكِ في كل مدة الخمس عشرة سنةً التي كنتِ أنتِ فيها بعيدةً عن الدير وعن الله، فأرجعي يا أبنتي وأعملي توبةً لأن أبني لم يزل ينتظر رجوعكِ اليه، وأجتهدي بواسطة صلاح سيرتكِ في أن تحفظي الأسم الصالح الذي أنا أكتسبته لكِ ههنا بما تصرفت به على أسمكِ: قالت هذا وغابت من أمامها. فوقتئذٍ بياتريكس دخلت الدير وتردت بالثوب الرهباني وعاشت كقديسةٍ حافظةً الجميل نحو المحسنة أليها وعندما دنا موتها قد أخبرت بالحادث المذكور تمجيداً لمراحم والدة الإله شفيعتها.* † صلاة † التي خلصتني من جهنم مراتٍ عديدةً موازيةً عدد المرات التي بها أنا سقطت في الخطيئة المميتة، فأنا أحبكِ يا مريم منقذتي ورجائي وملكتي وشفيعتي وأمي، وأريد أن أحبكِ وأعظمكِ دائماً آمين* † † الجزء الثالث † * في أن مريم العذراء وسيطة الصلح فيما بين الله وبين الخطأة* ثم أن هذا القديس يتأوه من تصرف البعض قائلاً: أواه كيف أن البشر يقدرون أن يعتبروا صارماً هذا المخلص الذي هو كلي الرأفة والحنو نحونا بهذا المقدار، حتى أنه أباح حياته ولا شيء ذاته من أجل خلاصنا، فترى لماذا يظنون مخوفاً ذاك الذي هو العذوبة والمحبة بالذات، فيا معشر الخطأة الميؤوسين أي شيءٍ أنتم تخافون، فأن كنتم أنما تخشون لأجل أنكم أغظتم الله وأهنتموه، فأعلموا أن يسوع قد سمر خطاياكم على الصليب مبجنةً مع يديه نفسيهما، ومن حيث أنه وفى عنها الوفاء التام للعدل الإلهي، فقد نزعها من أنفسكم ملاشياً، ولكن أن كنتم تخافون من أنكم تلتجئون الى يسوع المسيح، لأن عظمة جبروته وعزة ربوبيته تخيفكم، من حيث أنه ولئن كان هو تأنس متجسداً فلم يزل إلهاً حقاً. فهل تريدون لكم وسيطاً آخر يدخل بكم أمام هذا الوسيط الإلهي، فألتجئوا الى مريم لأنها هي تتشفع منأجلكم لدى أبنها الذي من دون أرتيابٍ يستجيب طلباتها، وهو حينئذٍ يشفع فيكم لدى أبيه الذي لا يمكنه أن ينكر عليه شيئاً: فهذه الأم الإلهية يا أولادي (يختتم القديس برنردوس كلامه قائلاً) هي سلم الخطأة الذين بواستطها يصعدون جديداً الى علو نعمة الله، وهذه هي رجائي الأعظم وهي أساس ثقتي كلها وبرهان أتكالي بجملته.* فهوذا الألفاظ التي تتفوه بها عن ذاتها من قبل الله مريم البتول قائلةً: أنا سورٌ وثدياي كبرجٍ، فكنت أنا في عينيه كواحدة سلامٍ: (نشيد ص8ع10) أي أنها تقول أني أنا حصنٌ منيعٌ محامية عن أولئك الذين يلتجئون اليَّ، ورحمتي هي لخيرهم نظير البرج لحمايتهم، ولهذا أنا قد أقمت من سيدي وسيطةً للصلح والسلام فيما بين الله والبشر. ثم يقول الكردينال أوغون في تفسيره كلمات النشيد المقدم ذكرها: أن مريم هي الوسيطة العظيمة للصلح التي تستمد من الله السلام للأعداء وتفوز لهم بالصلح، وتكتسب الخلاص للخطأة الهالكين، وتنال الغفران للأثمة، وتستمد الرجاء للميؤوسين: ومن ثم قد دعيت هذه العروسة من عروسها الإلهي: جميلةً مثل سرداق سليمان: (نشيد ص1ع5) على أن سرادق داود الملك كانت سرادق الحرب، وأما سرادق سليمان فلم تكن الا سرادق السلام والصلح. وبهذا يشير إلينا بكفايةٍ الروح القدس على أن أم الرحمة هذه لا تتعاطى شيئاً مختصاً بالحرب وبالأنتقام من الخطأة بل أنما تتعاطى الصلح والسلام فقط. وتهتم في أكتساب الغفران لهم عن جميع مآثمهم* ولذلك قد جاء رسم مريم وتمثالها في حمامة نوح، التي بعد خروجها من السفينة قد رجعت إليها وفي فمها عودٌ من الزيتون فيه ورقةٌ، الأمر الذي كان علامة الصلح والسلام الممنوح من الله للبشر بعد أتقاد نار غضبه ضدهم، ولذلك يخاطب القديس بوناونتورا البتول المجيدة هكذا قائلاً: أنتِ هي الحمامة الأمينة التي اذ تداخلت واسطةً في البشر أمام الله، قد أكتسبت للعالم الهالك السلام والصلح والخلاص. فمريم اذاً هي تلك الحمامة السماوية التي أجتلبت للعالم الهالك عود الزيتون علامة الرحمة والرضى. لأنها أعطتنا يسوع المسيح ينبوع الرحمة وأكتسبت لنا بعد ذلك بأستحقاقات هذا الأبن الإلهي كل النعم التي يمنحها الله، حسبما يقول الأب سبينالي. ثم أن القديس أبيفانيوس يلاحظ هذه القضية وهي: كما أنه بواسطة مريم أعطى السلام من السماء للعالم، فكذلك بواسطتها ما زال الخطأة على الدوام يستمدون الصلح مع الله: ولهذا الطوباوي ألبرتوس الكبير يجعل مريم متكلمةً هكذا: أني أنا هي حمامة نوح التي جلبت للكنيسة السلام التام والصلح العام:* وعلى هذه الصورة قد كان رسماً لمريم البتول ذاك القوس الذي رآه القديس يوحنا الأنجيلي في جليانه محيطاً بالعرش الإلهي كقوله في سفر الأبوكاليبسي (ص4ع3): وكان قوس قزحٍ فيما حول الكرسي شبيهاً بمنظر زمردٍ: فالكردينال يتأله في تفسيره هذا النص يقول: أن مريم هي تلك التي تجول دائماً حول كرسي الله في ديوان المحكمة الإلهية، لكي تهتم في تخفيف صرامة العدل، وفي تلطيف الأحكام كيلا تعاقب الخطأة بحسبما تستحق أعمالهم السيئة: ثم أن القديس برنردينوس السياني يقول: أن هذه البتول هي ذاك القوس الذي عنه خاطب الله نوح قائلاً: أن هذه هي علامة الموثق الذي أقرره بيني وبينك وبين كل نفسٍ حية توجد معكم الى الأجيال الدهرية. أن أجعل قوسي في السحاب، فيكون علامة موثقي الذي أقرره بيني وبين الأرض... ويكون قوسي في السحاب وأبصره لأذكر الموثق الأبدي: (تكوين ص9ع13 وما يتلوه) فمريم هي هذا القوس الذي هو علامة الصلح والموثق الأبدي: ويقول القديس المذكور نفسه: أنه بالنوع الذي به حينما ينظر الله القوس في السحاب يذكر عهد الصلح وموثق السلام الذي صنعه مع الأرض، فبهذا النوع حينما تتضرع إليه مريم يغفر هو للخطأة الأهانة المصنوعة منهم في حقه، ويوطد فيما بينه وبينهم الصلح والصداقة:* ومن ثم قد مثلت مريم بالقمر كما قيل عنها: أنها جميلةٌ مثل القمر: (نشيد ص6ع9) فيقول القديس بوناونتورا: أنه كما أن القمر هو متوسط فيما بين الشمس والأرض، فهكذا مريم تدخل واسطةً فيما بين الله والناس الخطأة، لكي تهدئ غضب الرب عنهم، ولكي تنيرهم بالرجوع الى الله: فالوظيفة الأخص التي أعطيت من الله لمريم في وضعه إياها على الأرض هي قائمةٌ بالنوع الذي به جاء الخطاب عنها في سفر النشيد بهذه الكلمات وهي: أرعي الجداء التي لكِ: (ص1ع8) فكأنه تعالى حين خلقته مريم قال لها الكلمات المقدم ذكرها، لأنه أمرٌ واضحٌ يعرفه الجميع هو أن الخطأة قد مثلوا بالجداء، فكما أن الأبرار الذين مثلوا بالخراف يقامون من عن يمين الديان في حين الدينونة العامة، فهكذا الجداء يقامون من عن شماله، ثم أن غوليالموس الباريسي يخاطب والدة الإله قائلاً: أن هؤلاء الجداء قد سلموا لرعايتكِ أيتها الأم العظيمة مريم. لكي تحيليهم الى خرافٍ، ومن حال كونهم مستحقين لأجل خطاياهم أن يقاموا في يوم الدين من عن شمال الديان. فبواسطة تضرعاتكِ من أجلهم يحصلون على أن يقاموا من عن يمينه تعالى: ثم أن الرب قد أوحى للقديسة كاترينا السيانية بأنه قد خلق أبنته المحبوبة مريم نظير طعمٍ لذيذٍ يجتذب البشر بواسطته كمن بشبكة الصيد، لاسيما الخطأة مكتسباً إياهم للرجوع إليه. ولكن ينبغي هنا أن ننبه عن العبارة الجليلة التي يوردها غوليالموس أنكليكوس فيما يلاحظ كلمات سفر النشيد وهي: أرعي الجداء التي لكِ: بقوله: أن الله يوصي مريم برعاية الجداء، لأن مريم لا تخلص الخطأة أجمعين، بل أولئك فقط الذين يخدمونها ويكرمونها متعبدين لها، وبالضد هو أن الخطأة الذين يعيشون في آثامهم ولا يكرمونها تكرمةً خصوصيةً ولا يلتجئون إليها طالبين شفاعتها ليخرجوا من حال الخطيئة، فهؤلاء ليسوا من جداء بها بل أنهم في يوم الموقف العظيم هم عتيدون أن يطردوا الى صف الشمال مع الأبالسة: فيوماً ما اذ كان أحد الأشراف لثقل جملة خطاياه الكثيرة على منكبيه حاصلاً في القلق الذي دنا به الى اليأس من الخلاص. فأحد الرهبان المطلع على حاله السيئة قد شجعه لأن يلتجئ الى والدة الإله أمام أحدى أيقوناتها الكائنة في كنيسةٍ ما أشار هو اليه عنها، فأقتبل الرجل المشورة الصالحة وذهب الى تلك الكنيسة، وعندما شاهد عن بعدٍ الأيقونة المنوه عنها شعر حالاً في ذاته كأن البتول المجيدة كانت تدعوه بعذوبةٍ لأن يأتي أمامها بثقةٍ، فأسرع هو إليها منطرحاً لدى قدميها، ثم دنا منها ليقبلها، لأن الأيقونة كانت تمثالاً مجسماً، فالأم الرأوفة مدت حينئذٍ يدها اليه ليقبلها، أما هو فرأى مكتوباً على تلك اليد: أنا أخلصك من محزنيك. وكأنها كانت تقول له: يا أبني لا تيأس فأنا أنزع عنك خطاياك وقلق ضميرك وتوبيخاته التي تعذبك: فيقال في هذه الخيرية أن ذاك الإنسان عند قراءته تلك الكلمات قد شعر بأنفعالات ندامةٍ شديدةٍ على خطاياه، وبحبٍ ملتهبٍ نحو الله ونحو والدته المجيدة حتى أنه لم يمكنه أن يعيش بعد ذلك اليوم بل تنيح قدمي هذه الأم الحنونة. فكم وكم من الخطأة يرجعون الى الله بالتوبة يومياً بواسطة هذه السيدة التي تجتذبهم كالحجر المغناتيس، حسبما أوضحت ذلك هي نفسها للقديسة بريجيتا قائلةً لها في الوحي: أنه كما أن حجر المغناتيس يجذب اليه الحديد، فهكذا أنا أجذب الى قلوب الناس الأشد قساوةً في الخطايا لكي أصالحهم مع الله: فهذا الأمر العجيب لا يحدث نادراً بل أن التجربة اليومية تؤكده علانيةً، أما أنا فيمكنني أن أقدم شهادةً صادقةً على حوادث كثيرةٍ مثل هذه تمت في أزمنة معاطاتنا الرسالات والرياضات الروحية للشعب. حيث أتفق مراتٍ عديدةً أن كثيرين من الخطأة المصرين على أثامهم. بعد أنهم يكونون أستمعوا عظاتنا الأخر من دون أدنى إفادةٍ لهم، ومن غير أن يتحركوا الى التوبة. فعند أستماعهم العظة المختصة برحمة والدة الإله كانوا يبادرون الى منبر التوبة راجعين الى الله بندامة القلب. ثم أن القديس غريغوريوس الكبير يخبر في كتابه الثالث من أدبياته عن الوحش المسمى ليونكورنوس أو الأسد المقرن بأنه بهذا المقدار هو شرسٌ كاسرٌ، مفترسٌ قويٌّ، حتى أنه لمن المستحيل أن يقدر أحد الصيادين أن يقتنصه. ولكن التجربة قد علمت الصيادين بالأمتحان طريقةً سهلةً لمسك هذا الوحش من دون خطرٍ أو تعبٍ، وهي أنهم يرسلون اليه شابةً بتولاً التي عندما تراه وتصرخ به، فهو حالما يسمع صوتها يدنو منها طائعاً ويسلم ذاته هادياً بين يديها لأن تربطه وتسوقه معها: فكم وكم من الخطأة الأشد شراسةً من الحيوانات البرية والوحوش الضارية في المآثم يهربون من وجه الله، ولكن عند سماعهم عذوبة صوت هذه البكر الكلية الطهارة يبادرون الى حمايتها ويسلمون ذواتهم بين يديها مرتضين بأن الله يربطهم برباطات حبه المقدس.* وأما القديس يوحنا فم الذهب فيقول: أن مريم قد أختيرت والدة للإله حتى أن أولئك الخطأة المساكين الذين لأجل سيرتهم الردية لا يمكنهم أن يفوزوا بالخلاص بموجب العدل الإلهي، فبحسب رأفتها وعذوبتها وبقدرة شفاعاتها تستمد لهم النعمة التي بها يخلصون: والقديس أنسلموس يثبت ذلك بقوله: أن مريم قد أقيمت مرتفعةً الى رتبة والدة الإله لأجل خير الخطأة أكثر مما لأجل خير الأبرار، لأن فادينا يسوع المسيح قد أعلن واضحاً أنه أنما جاء الى العالم لأجل خلاص الخطأة. اذ يقول: أني لم آتِ لأدعو الصديقين بل الخطأة الى التوبة: ولهذا الكنيسة المقدسة تقول نحو والدة الإله هاتفةً: أنكِ أيتها البتول لا تكرهين الخطأة الذين لولاهم لما كنتِ صرتِ قط أماً مستحقةً لأبنٍ هكذا كلي العظمة: ولذلك يخاطب غوليالموس الباريسي هذه الطوباوية قائلاً: أنكِ لملتزمةٌ أنتِ يا مريم بأن تساعدي الخطأة، لأنكِ بسببهم قد حصلتِ على الحال الجليلة التي أنت فيها، وأن يكن مباحاً لي فأقول أنكِ لمديونةٌ أنتِ للخطأة بكل ما أنتِ حاصلةٌ عليه من المواهب والنعم والعظمة، أي حال كونكِ والدة الإله، لأنكِ بسبب الخطأة قد خلقتِ من الله منتخبةً، وأهلتِ منه لأن تستحقي أن تحصلي على الإله أبناً لكِ: وهنا القديس أنسلموس يستنتج مبرهناً بقوله: فاذاً أن كانت مريم بسبب الخطأة حصلت على حال كونها والدة الإله. فكيف يمكنني ولو كانت خطاياي بهذا المقدار عظيمةً أن أيأس من نوال غفرانها.* فالكنيسة المقدسة في الصلاة المختصة ببارامون عيد أنتقال والدة الإله الى السماء التي تقال في القداس توضح: أن هذه الأم الإلهية قد أنتقلت من الأرض الى السماء لكي تتوسط لدى الله بثقةٍ، ولكي تقبل بطمأنينةٍ أكيدةٍ وساطتها ومطلوباتها من أجلنا. ولذلك القديس يوستينوس يسميها: المفوضة المطلقة. أي بمنزلة قاضيةٍ مختارةٍ، نظير ذاك الشخص الذي الجهتان المختاصمتان تضعان في يده أن يتأمل حقوق كلٍ منهما، وأن يحكم عليهما بما يراه صواباً وحسبما يشاء: وأنما يريد هذا القديس أن يعني بذلك أنه كما أن المسيح هو وسيط الناس لدى الله أبيه، فهكذا مريم هي وسيطتهم أمام أبنها، الذي يترك لها كل الحقوق ويسلمها ما يحق له عليهم بحسبما هو ديانهم مفوضاً الأمر لأرادتها.* أما القديس أندراوس الأقريطشي فيسمي مريم: ضمنية صلحنا مع الله: وبهذا يريد أن يرشدنا معلماً إيانا بأن الله الذي برحمته الغير المتناهية يسعى راغباً رجوع الخطأة اليه بالتوبة، لكي يصالحهم بإيهابه إياهم الغفران، فحتى أنهم يكونون على ثقةٍ وطمأنينةٍ به تعالى، يقدم لهم والدته بمنزلة ضمينةٍ، وكعربونٍ لتحقيق المغفرة، ومن ثم يحييها هذا القديس بالسلام قائلاً لها: السلام عليكِ يا صلح الله مع البشر: ومن هذا القبيل يأخذ القديس بوناونتورا بالتكلم نحو كلٍ من الخطأة بقوله: فأن كنت يا هذا تخاف من أن يكون الله لأجل مآثمك مستعداً لأن ينتقم منك. ترى ماذا تصنع أنه يلزمك أن تبادر نحو تلك التي هي رجاء الخطأة أي نحو مريم، ولكن أن كنت تخاف من أنها لا تريد هي أن تأخذ على ذاتها حمايتك وأسعافك، فأعلم أنها لا تقدر هي أن ترفض التجاءك إليها أو قبول المحاماة عنك، لأن الله نفسه قدر رتب عليها هذا الأمر وأقامها في هذه الوظيفة وهي أن تسعف الخطأة البائسين:* وهنا يقول الأنبا آدم: أهل يلزمه ربما أن يخاف من أن يذهب هالكاً ذاك الخاطئ الذي تقدم له ذاتها أم القاضي عينها لأن تكون أماً له وشفيعةً ومحاميةً عنه، أو هل أنكِ أنتِ يا مريم الملقبة عدلاً بأم الرحمة يمكن أن تأنفى من أن تتضرعي لدى أبنكِ الإلهي الذي هو القاضي والديان، من أجل أبنٍ آخر من أولادكِ الذي هو الخاطئ الملتجئ اليكِ، أممكنٌ هو لك أن ترفضي أن تعتني في خير نفسٍ مفتداةٍ بدم أبنكِ، أو أنكِ لا تدخلين من أجلها واسطةً عند الفادي نفسه الذي لأجل ذلك مات على عود الصليب أي ليخلص الخطأة، كلا، أنكِ لن ترفضي هذا العمل بل أنكِ بحبٍ كليٍ تقدمين ذاتكِ لأن تصلي من أجل كل أولئك الذين يسرعون الى كنف وقايتكِ، عالمةً أن ذاك الإله الأزلي الذي أقام أبنه الوحيد وسيطاً فيما بينه وبين الإنسان، فهو تعالى نفسه قد أقامكِ وسيطةٍ فيما بين القاضي والمذنب: فمن ثم يعطف القديس برنردوس خطابه نحو الخاطئ قائلاً: أنك مهما كنت أيها الأثيم غارقاً في بحر حمأة الرذائل، ومنغمساً شايخاً في الملكات ارديئة، فلا تقطع رجاك بل أشكر سيدك الذي لرغبته في أن يستعمل معك الرحمة، فليس فقط أعطاك أبنه نفسه شفيعاً بك لديه، بل أيضاً لكي يهبك شجاعةً وطمأنينةً أفضل وعلةً أكيدةً للرجا فقد دبر لك وسيطةً مقتدرةً على أن تستمد لك بواسطة صلواتها من أجلك كل ما هي تريده لك، فاذاً قم مسرعاً وأمضِ الى مريم مستغيثاً بها وهكذا تعود خالصاً ناجياً:* * نموذج * † صلاة † † |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
* فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: فأنعطفي بنظركِ الرؤوف نحونا: وفيه يبرهن بأن مريم البتول هي بجملتها نظرٌ للتوجع من أجلنا نحن الأشقياء لكي تعيننا.* وهذا الأمر قد أوضحه بكفايةٍ مخلصنا يسوع المسيح بنفسه بما أوحاه لآمته القديسة بريجيتا التي يوماً ما سمعته تعالى يخاطب والدته المجيدة قائلاً لها: أطلبي مني يا أمي كل ما تشتهينه: (الأمر الذي على الدوام يصنعه عز وجل مسروراً في أن يرضي قلب هذه الأم المحبوبة منه في الغاية بتكميله كل ما هي تطلبه) ولكن ترى ما الذي ألتمسته مريم من أبنها الإلهي بعد سؤاله إياها كما تقدم القول، فالقديسة بريجيتا نفسها سمعت مريم تطلب منه تعالى هذا الشيء بقولها له: يا أبني أنكَ أنتَ قد أقمتني بصفة أم الرحمة وبوظيفة شفيعة عن البائسين وملجأً للخطأة، والأن تقول لي ماذا أشتهي منكَ، فأنا أطلب إليك أن تصنع الرحمة مع المحتاجين. فمن ثم يقول القديس بوناونتورا مخاطباً والدة الإله هكذا: أنكِ يا مريم أنتِ بهذا المقدار ممتلئةٌ من الرحمة، وحريصةٌ على أن تسعفي المساكين، حتى أنه يبان كأنه ليس لكِ أهتمامٌ آخر. سوى أن تكرمي على المساكين وترحمي البائسين وتشاهدي الأشقياء مكللين بالرحمة: ومن حيث أنه فيما بين جميع المساكين الفقراء توجد الخطأة في أول رتبة من الشقاوة والتعاسة فمريم (كقول بيدا المكرم في تفسيره الاصحاح الأول من بشارة القديس لوقا) تستمر على الدوام متوسلةً لدى أبنها من أجلهم.* بل أن هذه السيدة منذ كانت عائشةً على الأرض حسبما كتب القديس أيرونيموس (في رسالته الى البتول أوسطوكيوس) قد كان قلبها كلي الأنعطاف والحب نحو البشر، بنوع أن توجعها وغمها من أجل مصيبة الغير لم يكن يشعر بهما صاحب المصيبة عينه نظيرها: وقد أظهرت حقائق ذلك واضحاً في حادث عرس قانا الجليل (كما أشرنا عن هذا الأمر في الفصول السابقة): حيث أنه اذ نقص الخمر عن أرباب الوليمة، فلأشفاقها عليهم من دون أن يلتمس أحدٌ منها أسعافاً قد باشرت وظيفة معزيةٍ مملؤةٍ من الحنو في قضاء أحتياجهم، كما يورد القديس برنردينوس السياني، وبمجرد توجعها لذنيك العروس والعروسة قد أستمدت من ابنها الإلهي فعل تلك الآية التي بها أحال المياه الى خمرٍ جيدٍ.* ثم أن القديس بطرس داميانوس يخاطب هذه البتول المجيدة هكذا قائلاً: أفهل أنكِ لأجل كونكِ أرتقيتِ الى مرتبة ملكة السماوات قد نسيتينا نحن الأذلاء المساكين، كلا، لا يمكن هذا الفكر في عقل أحدٍ أصلاً، لأنه أمرٌ غير لائقٍ هو أن قلباً هذه صفة رأفته وحنوه كما هو قلب مريم الكلية الرحمة، يتناسى شقاء حال أناسٍ مملؤين من الفقر والمسكنة نظيرنا، ومن ثم ليس له مدخل عند هذه السيدة المثل الدارج وهو: أن الكرمات تغير الصفات. لأن هذا المثل هو جارٍ بالعمل فيما بين أهل العالم الذين اذا أرتقى أحدهم الى مقامٍ ما شريفٍ، فيمتلئ تغطرساً مستوعباً من الكبرياء ويتناسى بالكلية أصدقاءه الأولين الفقراء، وأما مريم فبخلاف ذلك أنها تبتهج بحال كونها أرتقت الى مرتبةٍ تستطيع بها بأبلغ نوعٍ وبأكثر سخاءٍ وبأشد أستطاعةٍ أن تسعف المحتاجين. الأمر الذي اذ كان يتأمله القديس بوناونتورا، قد خصص هذه البتول المجيد بالكلمات التي قالها بأعاز لراعواث وهي: بارك الرب عليكِ يا أبنتي لصنعكِ الأخير أفضل من صنيعكِ الأول: (راعوث ص3ع10) مريداً أن يبين بهذا الأمر ما شرحه هو نفسه فيما بعد، أي أنه من حيث أن قلب مريم وهي عائشةٌ في العالم قد كان بهذا المقدار مملؤاً من الرأفة نحو المحتاجين، فهو الآن أعظم من ذلك أشفاقاً في حال كونها سلطانة السماء، ثم أن القديس يورد البرهان عن ذلك بقوله: أن هذه الأم الإلهية تظهر الآن حقائق رحمتها الفضلى متعاظمةً بكثرة النعم الفائقة الإحصاء التي تستمدها لنا، لأنها الآن تعرف أفضل معرفةً حال شقائنا وشدة أحتياجنا، وكما أن أشعة الشمس تسمو متفاضلةً على أشعة القمر، فهكذا رحمة مريم الآن اذ هي في السماء تسمو متفاضلةً على رحمتها التي كانت لها نحونا قبلاً في مدة حياتها على الأرض، فمن هو الذي يحيى في العالم ولا يتمتع بأشراق نور الشمس، ومثله من هو الذي لا يلمع فوق رأسه ضياء رحمة مريم.* https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg فلأجل ذلك قيل عن هذه السعيدة: انها منتخبةٌ كالشمس: (نشيد ص6ع9) لأنه لا يوجد أحدٌ في العالم مستثنى من حرارة هذه الشمس، كما يقول عنها القديس بوناونتورا: ان ليس أحدٌ يختفي من سخونتها. وهذا عينه أوحت به القديسة أنيسا من السماء للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أن سلطانتنا التي هي الآن متحدةٌ بأبنها في السماء، لا يمكنها أن تنسى صلاحها الخاص بها، ومن ثم تستعمل هي خيريتها مع كل أحدٍ حتى مع الخطأة الأكثر شراً والأشد نفاقاً بنوع أنه، كما أن الشمس تنير الأجرام السماوية والأرضية معاً، فهكذا لا يوجد أحدٌ في العالم لا يشترك بعذوبة قلب مريم متمتعاً بواسطتها بالرحمة الإلهية: (أن كان هو يلتمس ذلك) ففي بلاد فالانصا قد كان موجوداً أنسانٌ ما خاطٍ جداً، الذي ليأسه من الخلاص ولزعمه أن يهرب من حكومة العدل المتوجب عليه قد أعتمد على أن يتبع مذهب الهاجريين، ففي ذهابه نحو المينا ليسافر بحراً أجتاز من أمام كنيسةٍ كان يعظ فيها الأب أيرونيموس لويس اليسوعي في شأن الرحمة الإلهية، فالرجل المومى اليه اذ أستمع تلك العظة قد رجع الى الله بالتوبة، وأعترف بخطاياه عند الأب أيرونيموس المذكور، فهذا الأب لأنذهاله من حال الغيير العجيب الذي حصل عليه ذاك الخاطئ التائب. قد سأله مستفهماً أن كان هو معتاداً على أفعال عبادة ما مقبولةٍ لدى الله، ومن أجلها قد وهبه تعالى النعمة الخصوصية الفعالة رحمةً مجانيةً. فأجابه الرجل بأنه لم يكن يصنع شيئاً أخر سوى أنه يومياً كان يلتجي الى مريم العذراء طالباً منها أن لا تهمله، ثم أن هذا الأب الواعظ عينه قد وجد هناك في البيمارستان رجلاً كان له خمسة وخمسون سنةً ما أعترف بخطاياه قط. ولم يكن يمارس شيئاً آخر من أفعال الديانة والعبادة سوى أنه كل مرةٍ كان يشاهد أيقونةً ما لوالدة الإله، فكان يلتمس منها الا تدعه أن يموت في حال الخطيئة المميتة، وهو ذاته أخبر بأعترافه، بأنه مرةً ما اذ وجد هو مع عدوٍ كان له يتضاربان بالسيوف، ففي المعركة قد أقتدر عليه عدوه وأخذ منه سيفه وبالتالي حصل لا محالة في خطر أن يقتل من عدوه، فحينئذٍ هتف هو نحو والدة الإله قائلاً" أواه أني الآن أنا عدت مقتولاً وهكذا أمضي هالكاً، فيا أم الخطأة عينيني. فعندما قال هذا قد رأى ذاته من دون أن يعلم كيف قد أخذ من المكان الذي كان هو فيه الى محلٍ بعيدٍ أمين للغاية من عدوه، وبعد هذا أعترف أعترفاً عاماً ومات مقتبلاً الأسرار المقدسة. أما القديس برنردوس فيقول: أن مريم قد أقامت ذاتها كلاً للكل في كل شيءٍ، وتفتح باب رحمتها لكل واحدٍ لكي يدخل الجميع في هذا الباب وكلٌ يجد ما يلائمه، فالأسير يصادف أنقاذه من الأسر، والسقيم الشفاء، والمحزون التعزية، والخاطئ الغفران، والله المجد، وهكذا اذ أن مريم هي الشمس فلا يوجد من يختفي من سخونتها: لأنه من تراه يكون على الأرض، يهتف القديس بوناونتورا، ولا يحب هذه الملكة الكلية الحب، فهي أبهى من الشمس جمالاً، وأطيب من الشهد حلاوةً، وهي كنزٌ من الصلاح، وموضوعٌ لحب الجميع، والكل يشعرون بعذوبة معاملها. فأنا أحييكِ بالسلام يا سيدتي وأمي بل قلبي الخاص ونفسي، فسامحيني يا مريم أن كنت أقول لكِ أني أحبكِ، لأني أن كنت أنا لست أهلاً لأن أحبكِ فأنتِ لن تزالي أهلاً لأن تحبى مني.* ثم أنه يورد في الرأس 53 من كتاب4 من سيرة حياة القديسة جالتروده ما أوحي به لهذه القديسة بأنه حينما تقال من المؤمنين هذه الكلمات نحو والدة الإله وهي: فأصغي اذاً إلينا يا شفيعتنا وأنعطفي بنظركِ الرؤوف نحونا. فلا تقدر هذه السيدة أن لا تنعطف لأجابة من يتوسل إليها بهذه الصلاة: فأي نعم أن عظمة رحمتكِ قد أملأت الأرض كلها (يقول القديس برنردوس) أيتها السيدة: ولهذا كتب القديس بوناونتورا قائلاً: أن هذه الأم الشديدة الحب هي متعطشة بأشواقٍ قلبيةٍ لأن تصنع الخير مع الجميع، حتى أنه يقال عنها بالصواب أنها تهان ليس فقط من أولئك الذين يفترون عليها بألفاظٍ نفاقيةٍ ذاتياً (كما يفعله البعض الذين هم ذووا نفوسٍ سيئةٍ لا سيما المتملكة فيهم رذيلة اللعب تحت مكسب وخسارة الذين مراتٍ كثيرةً من شدة يأسهم يجدفون على هذه السيدة المجيدة) بل أيضاً تهان من أولئك الذين لا يتوسلون إليها طالبين منها نعمةً ما، ولهذا يخاطبها القديس أيدابارتوس قائلاً: أنكِ أنتِ تعلمينا أيتها السيدة أن نرجوا منكِ أنعاماً تفوق أستحقاقاتنا، لأنكِ لا تكفين على الدوام من أن توزعي علينا نعماً متزايدةً جداً جداً عما يمكن نحن أن نستحقه.* فالنبي أشعيا قد سبق متنبئاً بأنه بواسطة السر العظيم المتضمن أفتداء الجنس البشري كان يلزم أن يهيأ لنا نحن الأشقياء المحاربين كرسيٌ الرحمة بقوله: ويستعد بالرحمة الكرسي ويجلس عليه حقاً في مسكن داود حاكماً وطالباً للحكم ويجازي سريعاً ما هو في العدل: (أشعيا ص16ع5) فمن هو هذا الكرسي. فيجيب القديس بوناونتورا قائلاً: أن هذا الكرسي هو مريم التي فيها يجد الجميع أبراراً وأشراراً الرحمة والشجاعة. لأنه كما أن السيد هو كلي الرحمة، فهكذا السيدة هي كلية الرأفة والحنو، وكمثل الأبن هي أمه سيدتنا لا ينكران رحمتهما على أحدٍ من الملتجئين إليهما: ومن ثم يقول الأنبا غواريكوس مصيراً يسوع أن يخاطب والدته هكذا: أنني أضع فيكِ يا أمي كرسي مملكتي في الوقت الذي فيه بواسطتكٍ أنا أصنع الرحمة واهب النعم التي تطلب مني. فأنتِ قد اعطيتيني الكون الإنساني من دمائكِ، وأنا أعطيكِ الكون الإلهي، أي الأقتدار على كل شيءٍ. الأمر الذي بواسطته تستطيعين أن تسعفي مخلصةً كل من تريدين أن يخلص.* فيوماً ما حينما كانت القديسة جالتروده تتلو هذه الكلمات وهي: فأنعطفي بنظركِ الرأوف نحونا: قد شاهدت مريم البتول الكلية القداسة حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي، حيث أومت بيدها للقديسة الى عيني أبنها يسوع قائلةً لها: أن هاتين هما العينان المملؤتان رحمةً ورأفةً اللتان أنا أقدر أن اعطفهما لخلاص كل أولئك الذين يستغيثون بي: ثم أن مرةً ما كان أحد الخطأة ماثلاً أمام أيقونة والدة الإله في أحد الأمكنة ومتوسلاً إليها بدموعٍ حارةٍ بأن تستمد له من الله غفران خطاياه، فشاهد هذه الأم الحنونة ألتفتت نحو أبنها الكائن في حضنها قائلةً له: يا أبني هل أن دموع هذا الخاطئ تمضي خائبةً. وحينئذِ سمع الخاطئ جواب يسوع لأمه بقوله: قد غفرت له.* فكيف يمكن أن يخيب ضائعاً من يلتجئ الى هذه الأم الصالحة، بعد أن أبنها الإله بالذات قد وعد بأن يصنع حباً بها الرحمة بقدر ما تريده، هي مع كل أولئك الذين يبادرون إليها طالبين الأسعاف، فهذا الأمر قد أوحى به الرب للقديسة بريجيتا اذ صيرها أن تسمع هذه الكلمات المقالة منه لأمه مريم هكذا:"- أنني أهبكِ يا أمي العزيزة من سلطان قدرتي على كل شيءٍ أن تغفري الخطايا لجميع الأثمة الذين بحسن عبادةٍ يلتجئون إليكِ مستغيثين برحمتكِ، وذلك بأي نوعٍ أنتِ تريدين ويرضيكِ". ومن ثم اذ كان يتأمل الأنبا آدم بارسانيوس في عظم الرأفة التي لهذه الأم الإلهية نحونا، هتف نحوها قائلاً: يا أم الرحمة أن عظمة أقتداركِ هي موازيةٌ لعظمة رحمتكِ، لأنكِ بمقدار ما أنتِ مستطيعةٌ على أن تستمدي الغفران، فبمقدار ذلك أنتِ رحومةٌ في أن تهبيه. لأنكِ، كيف يمكن أن لا تتوجعي مشفقةً على الأشقياء المساكين أنتِ التي هي أم الرحمة؟" وهل يمكن الا تقدري أن تعينيهم أنتِ التي هي أم الإله ىالقادر على كل شيءٍ، كلا، بل أنكِ أنتِ بالسهولة عينها التي بها تدركين جيداً وتعرفين حسناً حال شقاوتنا نحن البائسين، فبها نفسها أنتِ تنالين لنا من الله كل ما تريدين.* وهنا يهتف الأنبا روبارتوس نحو هذه السيدة قائلاً: تمتعي اذاً أيتها الملكة العظيمة بمجد أبنكِ في العلاء وأشبعي من هذا المجد، وأرتضي بأن ترسلي إلينا نحن عبيدكِ وأولادكِ المساكين الكائنين ههنا أسفلاً الفضلات التي تزيد عنكِ، متنازلةً لهذا الصنيع ليس كأنه لنا به أستحقاقٌ ما نحن الأثمة، بل رحمةً منكِ وأشفاقاً علينا لنشترك بهذه الفضلات.* ثم اذا أتفق لنا أن كثرة خطايانا تسوقنا الى ضعف الرجاء بالغفران، فليقل كل منا نحو هذه السيدة مع غوليالموس الباريسي هكذا: لا توردي أيتها الملكة المجيدة خطاياي ضدي، لأني أنا أورد رأفتكِ ضد هذه الخطايا، ولا يكن أصلاً أن يقال أن مآثمي تستطيع أن تقاوم في المحاكمة رحمتكِ التي هي أقوى منها أقتداراً بما لا يحد على أن تكتسب لي الغفران، أكثر مما تقدر خطاياي على أن توجب عليَّ الهلاك.* * نموذج* أنه يوجد مدوناً في الرأس الحادي عشر من القسم الأول من تاريخ الرهبنة الكبوجية أنه كان في مدينة البندقية رجلٌ وظيفته محاماة الدعاوي في المحاكم. شهيرالأسم جداً الا أنه بكثرة الغشوش والأختلاسات الخفية ضد العدل قد صار مثرياً بغنى واسع وبالتالي كان يعيش بأطلاق العنان لشهواته بسيرةٍ رديئةٍ للغاية وربما لم يعد باقياً فيه من أفعال الديانة سوى أنه كان معتاداً على أن يتلو يومياً صلاةً ما خصوصيةً تكريماً لوالدة الإله. ومع ذلك قد وجدت هذه العبادة الضعيفة فيه كافيةً لأن تنقذه برحمة هذه الأم الصالحة من الموت الأبدي. وتم ذلك على النوع اآتي أيراده: وهو أن الرجل المومى اليه لحسن حظه قد أكتسب معرفةً وصداقةً مع الأب الكبوجي متى باسوس ومن ثم قد توسل بلجاجة الى هذه الأب في أن يأتي اليه يوماً ما يغتدي معه في بيته. فالأب المذكور قد أرتضى أخيراً أجابةً لتوسلاته المتكررة. وذهب عند الرجل الذي حالما رآه في بيته قال له: أنني قبل كل سيءٍ أريد أن أريك أيها الأب موضوعاً ربما قط لم تشاهده في حياتكَ، وهو أنه يوجد عندي سعدانٌ يخدمني في البيت بنوع أفضل من أنسانٍ فهيمٍ، لأنه يغسل لي الكؤوس على المائدة وينقل الصحون للأكل ويفتح لي الباب ويغلقه. فأجابه الأب متى بقوله: تأمل يا أخي في أنه ربما لا يكون هذا السعدان حيواناً محصناً بل شيئاً آخر مزاداً عليه. فكيفما كان الأمر أحضره الى ههنا: فبدأ الرجل يستدعي السعدان مثل عادته وبأسمه، فلم يأتِ، واذ فتشوا عليه في كل مكانٍ من الدار، قد وجدوه أخيراً مختفياً تحت السرير في مكانٍ أرضيٍ من أسفل البيت، الا أنهم ماكانوا يقدرون أن يخرجوه من تحت السرير. فأخيراً قام الأب متى من محله ومضى مع الرجل الى حيثما كان السعدان مختفياً، وعند وصوله اليه قال له بمحضر الجميع: أني آمرك أيها الوحش الجهنمي بأن تخرج خارجاً، وأحتم عليك من قبل الله بأن تخبرنا عن ذاتك من أنت: فالسعدان أجابه بأنه هو الشيطان وبأنه أنما كان مقيماً في ذاك البيت منتظراً الرجل محامي الدعاوى العائش بالخطيئة، حتى أنه متى أهمل في يومٍ ما تلاوة تلك الصلاة التي كان هو يكرم بها والدة الإله، فحالاً بموجب الأذن الذي وهب له من الله يثب عليه فيخنقه ويأخذ نفسه الى جهنم!فلما سمع الرجل هذا الكلام أمتلأ خوفاً وأنطرح على قدمي الأب متى طالباً الأغاثة، فهذا الأب البار قد شجعه بكفايةٍ، ثم التفت نحو الشيطان قائلاً له: أني آمرك بسلطان الرب بأن تخرج من هذا البيت من دون أن تصنع ضرراً ما بالكلية، ولكنني أسمح لك بأن تنقب أحد حيطان الدار علامةً لتأكيد خروجك وأبتعادك من هنا: فحالما قال هذا واذا بالشيطان قد فتح في الحائط نافذةً كبيرةً بزلزلةٍ مهولةٍ وخرج، وقد شاء الله أن يبقى ذكر هذا الحادث زمناً مديداً. وذلك لأنه كل مرةٍ كانوا يريدون أن يسدوا تلك النافذة بموادٍ ما فكانت تستمر مفتوحةً. الى أن وضعوا أخيراً بمشورة الأب متى عينه رخامةً منقوشةٌ عليها صورة ملاكٍ، أما الرجل محامي الدعاوى فقد رجع الى الله تائباً ونؤمل أنه يكون أستمر ثابتاً على التوبة الى الموت. † صلاة † فأحداهما هي أنكِ تستمدين لي من الله أن أكون أميناً في حقه تعالى بنوع أن لا أغيظه فيما بعد أصلاً، وثانيتهما هي أن أحبه عز وجل في سائر أيام حياتي الباقية بمقدار ما أغظته فيما مضى آمين † |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الثامن: فأرينا بعد هذا المنفى - كتاب مريم البتول
https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg الفصل الثامن * في شأن ما يلاحظ هذه الكلمات وهي: فأرينا بعد هذا المنفى* *يسوع ثمرة بطنكِ المباركة* *وفيه ثلاثة أجزاء* † الجزء الأول † * في أن مريم البتول تنجي المتعبدين لها من جهنم* أنه لمن المستحيل أن يمضي هالكاً في الجحيم من يكون متعبداً لمريم بأمانةٍ ويكرمها ويلتجئ إليها. فربما أن هذه القضية تظهر للبعض في بدء ملاحظتهم إياها أنها متفاوتة الحدود الواجبة. غير أني أتوسل الى من يقول ذلك عنها بألا يحكم عليها بالشجب قبل أن يقرأ ما أنا مزمعٌ أن أبرهنه بالمحاماة عنها، فالقول أن من كان للعذراء عبداً لن يدركه الهلاك أبداً. لا ينبغي أن يفهم به عن أولئك الذين يطمعون بأستنادهم على تعبدهم لمريم لكي يستهونوا بفعل الخطايا بأقل خوفٍ، ولذلك يوجد البعض الذين ظلماً وعدواناً يتلاومون على نوعٍ ما ضد تعظيم شأن رحمة مريم نحو الخطأة قائلين: أن هؤلاء الأثمة عند سماعهم ذلك يستخدمونه بيسماً لكي يتزايدوا في أفعال الخطايا: على أنه لا شك في أن عباداً جهلةً هذه صفتهم يستحقون لأجل طمعهم الجسور بالنوع المذكور عقاباً لا رحمةً، فاذاً أنما يفهم بالمتعبدين لمريم أولئك الذين برغبةٍ حقيقيةٍ في أن يصلحوا ذواتهم ويغيروا سيرتهم، يكرمونها بحسن تدينٍ أمينين ويلتجئون إليها مستغيثين. فعن هؤلاء أقول أنه لمن المستحيل أدبياً أن يدركهم الهلاك الأبدي. فأنا أجد أن هذه القضية هي مقالةٌ من الأب كراسات أيضاً، وقبل هذا الأب هي مقولةٌ من المعلم فاغا في الكتاب المسمى اللاهوت المريمي، ومن العلامة ماتدونسا ثم من لاهوتيين آخرين غيرهم. ولكي يعرف جيداً أن هؤلاء العلماء لم يوردوا هذه القضية بطريق العرض فلننظرن ما الذي قاله في هذا الشأن القديسون والمعلمون في بيعة الله، الا أني أرغب من القارئ أن لا يستغرب إيرادي أن كنت أستشهد أراء كتبةٍ مختلفين يقولون شيئاً واحداً هو هو نفسه، لأني قصدت بذلك أن أدون ههنا أقوالهم كلها لكي أبين، كيف أن الكتبة الكنائسين قد أتفقوا برأيٍ واحدٍ عند أيرادهم هذه القضية في مصنفاتٍ مختلفةٍ.* فيقول القديس أنسلموس: انه كما أن من ليس هو حسن التعبد لمريم، ولا تحامي هي عنه لا يمكن له أن يفوز بالخلاص، فهكذا لمن المستحيل أن يهلك من يلتجئ الى هذه البتول القديسة وهي تقتبله في حمايتها بحبٍ: وهذا القول يورده القديس أنطونينوس بكلماتٍ تماثله قائلاً: أنه كما أن أمراً من المستحيل هو أن يفوز بالخلاص من تعرب مريم عنه عيني رحمتها معرضةً عنه، فبالضرورة ينتج أن أولئك الذين مريم تلاحظهم بعين رأفتها، وتحامي هي عنهم يحصلون على الخلاص ويتمتعون بالمجد. فاذاً هذا القديس يضيف الى القول السابق ذكره أن المتعبدين لمريم بالضرورة يخلصون.* فليعتبرون جيداً الجزء الأول من القضية الموردة من القديسين المقدم ذكرهما أولئك الذين يحتسبون التعبد لمريم فضلةً زائدةً، أو أنهم بعد أبتدائهم بالعبادة لها يهملونها كسلاً وتهاوناً. وليرهبوا مرتعدين من هذا الوعيد المخوف وهو أنه غير ممكنٍ أن يفوز بالخلاص أولئك الذين لا تحامي عنهم مريم الأم الإلهية، وهذا يورده آخرون أيضاً نظير الطوباوي ألبرتوس الكبير القائل: أن كل الذين ليسوا عبيداً لكِ يا مريم يهلكون جميعاً. والقديس بوناونتورا يقول: أن من يهمل تعبده لمريم البتول فيموت في خطيئته. وقال هو نفسه في مكانٍ آخر: أن من لا يلتجئ إليكِ أيتها السيدة فلا يبلغ الى الفردوس السماوي، بل أن هذا القديس الجليل قد أتصل الى أن يقول: أنه ليس فقط لا يخلص أولئك الذين تغرب مريم عنهم نظرها معرضةً. لكن أيضاً لا يوجد رجاءٌ لخلاصهم: وقبل هؤلاء القديسين قد كان أورد هذه القضية القديس أغناتيوس الرسولي الشهيد بتعليمه: في أنه لا يمكن خلاص أحدٍ من الخطأة الا بواسطة مريم البتول المثلثة القداسة. التي بضد ذلك هي تخلص بواسطة شفاعاتها ذات الرأفة كثيرين من أولئك الذين بموجب العدل الإلهي كان يلزم أن يهلكوا. فقد يوجد البعض الذين يضعون صعوباتٍ ما في تصديق أن هذه الكلمات هي حقاً للقديس أغناتيوس المذكور. أما الأب كراسات فقلما يكون يبرهن في أن القديس يوحنا فم الذهب أسعمل هو ذاته هذا القول، ويوجد ذلك مكرراً من الأنبا جالانسه أيضاً، ثم بهذا المعنى تخصص الكنيسة المقدسة بمريم تلك الكلمات المدونة في سفر الأمثال (أ ص8ع36) وهي: أن جميع الذين يمكتوني يحبون الموت: أي الذين يمقتوني ولا يحبوني فيجتلبون لذواتهم الموت ويحبونه. لأن ريكاردوس الذي من سان لورانسوس في تفسيره كلمات سفر الأمثال (ا ص31ع14) وهي: فصارت كمركب تاجرٍ: يقول أن كل أولئك الذين هم خارج المركب المذكور يغرقون في بحر هذا العالم: حتى أن أيكولامباديوس الأراتيكي نفسه كان يعتبر علامةً أكيدةً للرذل الأبدي قلة العبادة الموجودة في البعض لمريم والدة الإله اذ أنه يقول هكذا: أنه لا يقالن أصلاً عني أني مضاد لمريم التي أعتبر أن من يضادها يكون حاصلاً على علامةٍ أكيدةٍ في عقله بأنه هو من المرذولين. وبضد ذلك تقول مريم: من أطاعني لا يخزى: (ابن سيراخ ص24ع30) ومن يلتجئ اليَّ ويستمع ما أقوله له لن يمضي هالكاً: ولهذا يقول نحوها القديس بوناونتورا: أن الذي يهتم في أن يكرمكِ أيتها السيدة فيكون بعيداً من أن يدركه الهلاك. ويقول القديس أيلاريوس: أن هذا عينه يصح ولئن كان مكرم العذراء قد أغاظ الله كثيراً فيما مضى.* فمن ثم يبذل الشيطان كل مجهوده مع الخطأة لكي يصيرهم بعد أن يكونوا أضاعوا نعمة الله بالأثم أن يفقدوا عبادتهم لمريم أيضاً. فأمنا ساره حينما رأت أسماعيل أبن جاهر المصرية يلعب مع أسحاق أبنها فخوفاً من أن الأول يعلم الثاني عوائد رديئةً قالت لرجلها أبراهيم أبينا: أخرج هذه الأمة وأبنها: (تكوين ص25ع10) وأنما لم تكتف ساره بأخراج أسماعيل وحده من بيتها، بل أرادت أخراج أمه أيضاً معه. لتأملها أن أسماعيل لو كان يخرج هو وحده خارجاً وتبقى أمه في البيت فمن المعلوم أنه لكان يستمر يتردد هو الى هناك ليشاهد أمه، وهكذا لما كان يزول سبب العشرة فيما بينه وبين أبنها أسحق، فمثل ذلك الشيطان لا يكتفي بأن يشاهد النفس تطرد عنها يسوع بفعل الخطيئة، بل يريد منها أن تطرد أمه مريم أيضاً بترك العبادة لها، لأنه يخاف من أن الأم بواسطة شفاعتها ترجع الأبن معها الى تلك النفس، وخوفه هذا هو في محله. لأن الأب العلامة باجيوكالى يقول: أن من هو أمينٌ بمواظبته على تكريم والدة الإله فمن دون أعاقةٍ يقتبل عنده هذا الإله راجعاً اليه بواسطة أمه مريم. ولذلك بكل حقٍ يسمي القديس أفرام السرياني التعبد لمريم: صك العتق ومصحف الحرية. أي أنه بواسطتها لا يعود المتعبد لها مأسوراً بعد من الجحيم ولا يمضي اليه هالكاً، كما أنه أي القديس أفرام نفسه يسمي مريم: المحامية عن الهالكين. وبالحقيقة أن يكن صادقاً كما هو حقاً كذلك ما يقوله القديس برنردوس وهو: أن مريم لا تقدر أن تنقص لا في أقتدارها ولا في أرادتها عن أن تخلصنا: وأنما لا ينقض أقتدارها عن تخليصنا لأنه لمن المستحيل على الأطلاق أن تضرعاتها لدى الله لا تفوز بالقبول التام، حسبما يقول القديس أنطونينوس: أنه لمن المستحيل مطلقاً أن طلبات والدة الإله تمضي خائبةً من القبول. وقال القديس برنردوس عينه: أن طلبات هذه الأم الإلهية لا يمكن أصلاً أن لا تستجاب أو أن تذهب سداً، بل أنها تستمد كل ما تشاء ثم ولا تنقص أرادتها عن أن تخلصنا، لأنها هي أمنا وتشتهي تخليصنا أوفر أشتهاءً منا نحن أنفسنا، فأن كان ذلك كذلك اذاً كيف هو ممكنٌ حدوث هذا الأمر، وهو أن أنساناً ما أميناً في عبادته لمريم يمضي هالكاً، لأنه أن يكن هذا الإنسان خاطئاً ولكنه ذو أرادةةٍ على أصلاح سيرته بالتوبة، وذو ثباتٍ على الألتجاء الى هذه الأم الصالحة، فيخصها أن تستمد هي له النور الذي به يخرج عن حاله السيئة. وتنال له التوجع القلبي على خطاياه والثبات على عمل الصلاح وأخيراً الميتة الصالحة. لأنه ترى أية أمٍ يمكنها بسهولةٍ ان تخلص أبنها من الموت بمجرد توسلها لدى القاضي في أن يمنحه نعمة العتق من حكومة الموت المبرزة ضده. وهي تتأخر عن أن تصنع ذلك. أفهل نحن نستطيع أن نفتكر هذا الفكر فضلاً عن أن نقبله، وهو أن مريم التي هي الأم الأشد حباً والأكثر أشفاقاً من كل الأمهات نحو المتعبدين لها، فمع أنها تقدر أن تخلص نفس من هو أبنها من الموت الأبدي، وتستطيع أن تفعل ذلك بكل سهولةٍ وهي لا تصنعه.* فيا لحسن حظنا أيها القارئ الحبيب أن كنا نشعر في ذواتنا أن الله قد منحنا الحب لسلطانة السماء هذه. ووهبنا التعبد الأمين لها الأمر الذي من أجله يلزمنا أن نشكره عز وجل شكراً دائماً. على أنه كما يقول القديس يوحنا الدمشقي أن الله لا يهب هذه النعمة الا لأولئك الذين هو يريد خلاصهم بأرادةٍ خصوصيةٍ، وهذه هي كلمات القديس المذكور الجليلة التي بها ينعش رجاه ورجانا وهي:" أن كنت أنا أضع رجائي فيكِ يا والدة الإله فأكون مخلصاً. واذ ما كنت تحت كنف حمايتكِ فلا أخاف من شيءٍ أصلاً، لأن الكيان في التعبد لكِ هو نفس أمتلاك الأسلحة الضرورية للخلاص، التي لا يمنحها الله الا لأولئك الذين هو تعالى يريدهم خالصين. ولهذا كان يسلم عليها المعلم أرازموس قائلاً: السلام عليكِ يا مخيفة الجحيم ويا رجاء المسيحيين لأن الأتكال عليكِ هو تأكيد نوال الخلاص.* فمن ثم أمرٌ محزنٌ جداً للشيطان أن يشاهد نفساً ما مواظبةً واجبات العبادة لهذه الأم الإلهية، فيقرأ في سيرة حياة الأب ألفونسوس الافارس الكلي التعبد لمريم، أنه اذ كان هو مرةً ما ممارساً صلواته وشعر بذاته مجرباً بقلقٍ من أفكار ضد العفة محركة ضده من الشيطان ليخزيه بها، فقال له حينئذٍ هذا العدو الجهنمي هكذا: أترك أنت عبادتك هذه لمريم وأنا أكف عنك من التجارب.* ثم أن الآب الأزلي قد أوحى الى القديسة كاترينا السيانية، كما هو مورد من بلوسيوس، بأنه تعالى من قبل جودة خيرية صلاحه قد وهب مريم، أكراماً لأبنه الوحيد المولود منها بالجسد، بأنه ولا واحدٌ من الذين يستغيثون بشفاعاتها، ولو كان خاطئاً يمضي مأخزذاً غنيمةً للجحيم. حتى أن النبي والملك داود كان يتوسل في أن تنقذ نفسه من الجحيم لأجل الحب الذي كان في قلبه وقتئذٍ نحو مريم العتيدة أن تولد في العالم. اذ يقول: يا رب أحببت جمال بيتك وموضع محله مجدك فلا تهلك مع الكفرة نفسي ولا مع رجال الدماء حياتي: (مزمور 26ع8) لأن مريم هي بيت الرب الذي شيده عز وجل لذاته على الأرض ليسكن فيه بين الناس واجداً فيها راحته بتجسده منها. حسبما هو مدون عنها في سفر الأمثال: أن الحكمة أبتنت لها بيتاً: (ص9ع1) فمن ثم يقولالقديس أغناطيوس الرسولي الشهيد: أن من يكون مهتماً في العبادة لمريم العذراء لا يمضي هالكاً: والقديس بوناونتورا يثبت ذلك بقوله نحو هذه البتول المجيدة هكذا: أن المغرمين بحبكِ أيتها السيدة يتمتعون في هذه الحياة بسلامٍ عظيمٍ، وفي العالم العتيد لا يصادفون الموت الى الأبد: ثم أن بلوسيوس الحسن التعبد يؤكد لنا: بأنه لا حدث قط ولا يحدث أصلاً أن أنساناً متعبداً لمريم بأتضاعٍ ونشاطٍ يذهب هالكاً في الأبدية.* فكم وكم من الخطأة لكانوا هلكوا مؤبداً، أو لكانوا لبثوا مصرين على آثامهم من دون توبةٍ، لولا تكون دخلت مريم وسيطةً عنهم لدى أبنها الإلهي مستمدةً لهم منه الرحمة. فهكذا يقول المعلم توما الكامبيسي وهذا هو رأي لاهوتيين كثيري العدد لا سيما القديس توما شمس المدارس. وهو أن والدة الإله قد وقفت بقوة شفاعاتها لدى الله حكومة الهلاك المبرزة على كثيرين من أولئك الذين ماتوا في حال الخطيئة المميتة. مكتسبةً لهم نعمة الرجوع الى الحياة ليمارسوا أفعال التوبة ويخلصوا بها. ثم يوردون في هذا الشأن جملة حوادث هذه صفتها محررة من مؤرخين مدققين جداً، ففيما بين النموذجات الأخرى المثبتة هذه القضية نورد هنا ما دونه فلوداردوس الذي كان عائشاً نحو الجيل التاسع. فهذا العلامة يخبرنا في تاريخه عن شماس أنجيلي أسمه أدالمانوس، الذي اذ كان أعتبر أنه مات فحينما أخذت جثته الى القبر لتدفن، قد رجعت روحه اليه فعاش وأخبر بأنه شاهد مكان جهنم حيث حكم عليه العدل الإلهي بالخلود هناك، ولكن لأجل تضرعات البتول المجيدة والدة الإله من أجله قد أرجع الى العالم كي يمارس واجبات التوبة عن خطاياه.* وكذلك سوريوس يورد في الرأس الخامس والثلاثين من كتابه الأول: أن أنساناً مدنياً رومانياً أسمه أندراوس قد مات غير تائب، وأن مريم قد أستمدت له من الله أن يرجع الى الحياة حيث يمكنه أن يكتسب الغفران:* ويخبر بالبارتوس (في العدد الأول من القسم الثاني من كتاب الثاني عشر على البتول الطوباوية) بأنه في أزمنته حينما كان مجتازاً الملك سيجيزموندوس بعسكره في جبال الألب قد سمع صوتاً من جثةٍ كانت مطروحةً في الأرض فانيةً لم يبق منها سوى العظام، وكان ذاك الميت يطلب معلم أعتراف قائلاً: أنه لأجل كونه هو أحد المتعبدين لمريم والدة الإله، فحينما كان خادماً في الجندية ومات، قد أستمدت هي له من الله النعمة في أنه يستمر باقياً بالنفس مع تلك الجثة الى أن يعةترف بخطاياه، وهكذا اذ جاء اليه الكهنة وسمع أعترافه فحينئذٍ مات.* فهذه النموذجات وغيرها لا يلزم أن تستخدم لكي تشجع أحداً ما من الجسورين على أن يعيش في حال الخطيئة تحت الرجاء في أن مريم العذراء تخلصه من جهنم ولئن أدركه الموت وهو في حال الخطيئة، لأنه كما أن من يطرح ذاته في بئرٍ عميقةٍ تحت الأمل في أن مريم تحفظه من الموت، حسبما صنعت ذلك بعض الأحيان مع غيره، يحسب أحمق عديم العقل! فهل من حماقةٌ أعظم وجهالةٌ أشد ألقاء الإنسان ذاته في خطر، فيموت في حال الخطيئة تحت الأمل في أن البتول الطوباوية تخلصه من جهنم، بل أنما تفيد هذه النموذجات لأن تنعش رجانا عند تأملنا في أنه أن كانت شفاعات هذه الأم الإلهية، قد أستطاعت أن تخلص من الجحيم أيضاً أولئك الذين ماتوا في حال الخطيئة، فكم بأولى حجةٍ تحفظ من الذهاب الى جهنم أولئك الذين وهم في الحياة يلتجئون إليها بنية أن يصلحوا ذواتهم ويغيروا سيرتهم الردية ويخدموا هذه السيدة بأمانةٍ.* فلنقل اذاً نحوها مع القديس جرمانوس (في عظته على وضع زنارها): ترى ما عساه أن يكون لنا يا أمنا العزيزة نحن الذين نعم أننا خطأة، ولكننا نريد أن ننقي ذواتنا من الأثم ونبادر إليكِ أنتِ التي هي حياة المسيحيين: فنحن يا سيدتنا نسمع القديس أنسلموس قائلاً: أنه لا يمضي هالكاً ذاك الذي أنتِ تصلين من أجله مرةً واحدةً فقط: فاذاً صلي من أجلنا ونحن نعود ناجين من جهنم. ثم أن ريكاردوس الذي من سان فيقطر يقول: ترى من يمكنه (حينما أحضر في الديوان الإلهي ولا يكون القاضي على صالحي) أن يخبرني بأني حصلت في دعواى على أن تكوني أنتِ يا أم الرحمة محاميةً عني. والطوباوي أريكوس صوزونه قد كان يعلن جهاراً أنه وضع نفسه في يدي مريم البتول، وكان يقول أنه أن كان القاضي يوجد معتمداً على أن يحكم عليه بالهلاك، فهو كان يريد أن الحكومة عليه تدخل الى يد مريم، مترجياً هو بأنه اذا تسلم الحكم لتلك اليدين المملؤتين سخاءً وأشفاقاً يدي مريم البتول، فمن دون أرتيابٍ هي حينئذٍ توقف الحكومة: فهذا الأمر عينه أقوله أنا أيضاً يا ملكتي الكلية القداسة وأرجو أن يكون لي، ولذلك أريد أن أكرر لديكِ الهتاف دائماً مع القديس بوناونتورا قائلاً: عليكِ يا سيدتس توكلت فلا أخزى الى الأبد. فأنا أيتها السيدة قد وضعت كل رجائي فيكِ مؤملاً أن لا أرى ذاتي ضائعاً، بل أفوز بالخلاص في السماء حيث أسبحكِ وأحبكِ الى الأبد.* * نموذجٌ * أنه قد كان في أحدى مدن أقليم فياندرا شابان حديثان في السن يدرسان العلوم، ولكن عوضاً عن أنهما يهتمان وقتئذٍ في أكتساب العلوم قد كانا يبيحان ذاتيهما لكلنوعٍ من رذلتي الشراهة والدنس، فاذ وجدا ليلةً ما من تلك الليالي المدنسة منهما بالقبائح في بيت أرمأةٍ خاطيةٍ لأفعال الأثم، فأحدهما الذي كان أسمهريكاردوس بعد ساعاتٍ من الليل قد رجع الى مكان سكناه. وأما رفيقه فبقي عند تلك الأمرأة الدنسة، فعندما دخل ريكاردوس الى مخدعه لينام قد فكر بأنه في ذاك اليوم لم يكن صلى تلك المرات السلام الملائكي حسب عادته التي بها يومياً كان يتلوها عبادةً منه لمريم العذراء، فأي نعم أن النوم كان حينئذٍ متغلباً عليه وبالتالي كان يستصعب تلاوتها في ذاك الوقت، ولكن لم يرد أن يتركها مطلقاً بل أغتصب ذاته وقالها، ولئن كان بقليل من العبادة وكأن نصف نائمٍ، ثم أتكأ على سريره راقداً، فبعد برهةٍ وفيما هو يغط في النوم سمع باب بيته يقرع بشدةِ، وحالاً من دون أن يفتح الباب قد شاهد رفيقه الشاب داخلاً إليه بصورةٍ مخيفةٍ من شدة البشاعة، واذ سأله من أنت، قد أجابه قائلاً: أما عدت تعرفني من أنا: فقال له ريكاردوس: وكيف أنك قد أستحلت الى هذه البشاعة حتى يبان كأنك شيطان: فحينئذٍ ذاك التعيس تنفس الصعداء صارخاً: أواه الويل لي، فأنا قد هلكت في جهنم: فسأله ريكاردوس: وكيف تم ذلك: فأجابه الشخص بقوله: أعلم أنه حينما خرجت أنا بعدك من بيت تلك الأمرأة الدنسة. قد وثب عليَّ الشيطان فخنقني وبقي جسدي طريحاً في الطريق ونفسي حكم عليها بالهلاك، ثم أعلم أيضاً أن هذا العقاب الذي حل بي قد كان معداً لك أنت أيضاً، الا أن الطوباوية مريم البتول لأجل الكرامة القليلة التي أنت صنعتها لها، بتلاوتك السلام الملائكي المرات المعتاد على تلاوتها، قد أنقذتك من هذا العقاب، فسعيدٌ أنت أن كنت تستفيد من هذا التنبيه الذي أرسلتني والدة الإله لأن أنبهك به. قال هذا ثم كشف رداءه وأظهر لريكاردوس اللهيب المحيط به والأفاعي والعقارب التي كانت تلسعه وهكذا غاب من أمامه. فوقتئذٍ ريكاردوس أنطرح على الأرض مدرفاً من عينيه تياراتٍ من الدموع مقدماً الشكر الواجب لوالدة الإله التي خلصته من الهلاك. وفيما كان يفتكر عازماً على الطريقة التي بها يغير سيرته ويصلحها قد سمع ناقوس دير الرهبان الفرنسيسكانيين يقرع لأجل "صلاة الفجر". فقال حينئذٍ لذاته: أن الله يدعوني الى هذا الدير لكي أصنع توبةً عن خطاياي: فنهض في تلك الساعة عينها ومضى الى الدير متوسلاً لأولئك الآباء بأن يقبلوه عندهم، الا أنهم لمعرفتهم به وبفساد سيرته قد كانوا يماتعون قبوله، غير أنه قد أخبرهم بالحادث جميعه بدموعٍ سخيةٍ، ومن حيث أن أثنين منهم خرجا حالاً وذهبا الى الطريق وشاهدا جثة ذاك الشاب التعيس ملقاةً على الأرض مخنوقةً مسودةً نظير الفحم، فبعد أن رجعا وأخبرا بالحقيقة قد قبل ريكاردوس في الدير، وأبتدأ بعيشةٍ فاضلةٍ. وفيما بعد ذهب الى بلاد الهند ليكرز بالإيمان ومنها مضى الى بلاد الجامبون، وهناك حصل أخيراً على الحظ السعيد والنعمة العظيمة بأن يموت شهيداً من أجل الإيمان بالمسيح محروقاً حياً. (كما هو مدون في تأليف ألفونسوس أندرادا)* † صلاة † يا مريم أمي العزيزة ترى في أي عمقٍ من الشرور لقد كنت أنا حاصلاً الآن، لولا أن يدكِ المملؤة حنواً وأشفاقاً تحفظني مراتٍ كثيرةً من هوة الهلاك، بل بأبلغ من ذلك كم من السنين مرت عليَّ الى يومنا هذا، وأنا في قعر الجحيم هالكاً، لو لم تنجيني من جهنم، لأن خطاياي الثقيلة لكانت تقودني الى هناك والعدل الإلهي لكان حكم عليَّ بالخلود فيها. والشياطين لكانوا بفرحٍ يتممون الحكومة لولا تخلصيني منها، وقد صنعت ذلك من دون أن أكون أنا ألتمسته منكِ. وهكذا أنقذتيني من غير أن أتوسل إليكِ يا أمي الرأوفة، فبماذا يمكنني أن أكافئكِ عن نعمٍ بهذا المقدار عظيمةٍ صنعتيها معي يا منقذتي، وعن حبٍ هذا حده قد أحببتيني به، فأنتِ قد أنتصرتِ أخيراً على قساوة قلبي وأجتذبتيني لأن أحبكِ ولأن أثق بكِ راجياً، وبعد ذلك في كم وكم من الخطايا لكنت سقطت لولا أنكِ مراتٍ عديدةً تعينيني بيدكِ المعينة في الأخطار التي أنا وجدت فيها وتحفظيني من السقوط. فداومي عنايتكِ في خلاصي من الجحيم يا أمي الجليلة ويا رجائي الوطيد ويا حياتي، بل الأعز من حياتي نفسها. وقبلاً أنقذيني من الخطايا التي يمكن أن أسقط بها، ولا تسمحي بأن أشتمكِ لاعناً في جهنم، لأني أحبكِ يا سيدتي المستحقة كل محبةٍ، فهل يمكن أن يحتمل صلاحكِ أن تشاهدي أحد عبيدكِ الذي يحبكِ هالكاً. فأنا أرجوكِ بأن تستمدي لي الا أكون بعد الآن كافراً بجميلكِ عليَّ، ولا خائناً في حق إلهي الذي حباً بكِ قد وهبني نعماً هكذا عديدةً وعظيمةً، فماذا تخبريني يا مريم أهل أنني عتيدٌ أن أخلص أمهل أني أمضي هالكاً. فأي نعم أني سأهلك أن كنت أبتعد عنكِ مهملاً، ولكن من هو الذي يطيق أن ينفصل عن حبكِ، وكيف يمكنني أن أنسى المحبة التي أحببتيني بها، فأنتِ بعد الله هي موضوع حب نفسي، بل لا أقدر أن أعيش من دون أن أحبك، لأني مغرم القلب والنفس فيكِ وأرجو أن أحبكِ دائماً في الزمن الحاضر والمستقبل وفي كل الأبدية، أيتها الخليقة الأعظم جمالاً والأكثر قداسةً والأوفر عذوبةً وحلاوةً، والموضوع الأفضل ما يكون في العالم بأسره مستحقاً أن يحب آمين.* † https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg † الجزء الثاني † * في أن مريم البتول تسعف أنفس المتعبدين لها بعد الموت في المطهر* أنهم بالحقيقة لسعيدون جداً هم عباد هذه الأم الكلية الرأفة، لأنهم يسعفون ويعانون منها ليس في هذا العالم فقط بل في المطهر أيضاً يفوزون بمساعدتها لهم وبتعزيتها إياهم. ومن حيث أن الأنفس في المطهر هن أكثر أحتياجاً الى الأسعاف، لأنهن يوجدن هناك متكبداتٍ عذاباتٍ شديدةً جداً من دون أن يقدرن على أن يسعفن ذواتهن بذواتهن فبأبلغ من ذلك تتلألأ مفاعيل شفقة أم الرحمة نحوهن بأجتهادها في أعانتهم. فيقول القديس برنردينوس السياني: أن الكلية القداسة مريم لها سلطةٌ وسلطانٌ مطلقٌ في ذاك الحبس المطهري المحبوسة فيه الأنفس اللواتي هن عروسات يسوع المسيح. على أن تسعفهن وأن تخلصهن أيضاً من تلك العذابات:* فنظراً الى أسعاف مريم هذه الأنفس فالقديس برنردينوس عينه اذ يخصص بمريم تلك الكلمات المدونة في حكمة أبن سيراخ وهي: في أمواج البحر مشيت: (ص24ع8) يقول: أن عذابات المطهر تسمى أمواجاً لأنها عذباتٌ عابرةٌ وقتيةٌ خلافاً لعذبات جهنم الثابتة الأبدية، وأنما تدعى عذابات المطهر أمواج البحر، لأنها مرةٌ جداً كمياه البحر، فالأنفس المتعبدة لمريم اذ يكن مملؤاتٍ من الحزن جداً فيما بين أمواج تلك العذبات المرة فهذه السيدة تزورهن مراتٍ كثيرةً وتسعفهن: وهنا يقول نوفارينوس: هوذا البرهان الذي يوضح كم يجب أن يعتبر ويحب التعبد لمريم السيدة الصالحة. لأنها لا تعرف أن تنسي تلك الأنفس المتعبدة لها، ولا تهمل أن تساعدهن حينما يتعذبن في ذاك اللهيب. على أنه ولئن كانت هذه السيدة تسعف بوجه العموم كل الأنفس الكائنة في المطهر، الا أنها مع ذلك تسعف أنفس أولئك الذين في هذا العالم كانوا متعبدين لها عبادةً خصوصيةً أسعافاً خصوصياً.* فهذه البتول المجيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أني أنا أمٌ لكل الأنفس الكائنة في المطهر، ففي الوقت الذي فيه هن يتعذبن بشدةٍ بكل تلك العذابات المتوجبة على الخطايا المفعولة منهن في العالم، ففيه أنا في كل ساعةٍ أخففها عنهن طالما هن هناك بواسطة صلواتي من أجلهن. ثم أن هذه الأم الشفوقة لا تأنف من أنها تأتي بذاتها بعض الأحيان الى ذلك السجن المقدس لكي تزور الأنفس بناتها وتعزيهن. كما جاء عنها القول في حكمة أبن سيراخ (ص24ع8): أني دخلت سالكةً في عمق الغمر: حيث أن القديس بوناونتورا يخصص الكلمات المذكورة بوالدة الإله مضيفاً إليها قوله عن لسانها: أنا دخلت في عمق ذاك الغمر أي المطهر لكي أسعف بحضوري هناك تلك الأنفس البارة: أما القديس فينجانسوس فرارى فيقول: أن مريم هي مفيدةٌ للأنفس الكائنة في المطهر. لأنهن يحصلن بواسطتها على الأسعاف الكلي. فيا لعظمة حنو هذه البتول القديسة الكلية الأشفاق نحو تلك الأنفس المتكبدات العذابات في المطهر، اللواتي هن على الدوام يشعرن بمفاعيل المعونات والأسعافات التي تمارسها هي نحوهن.* لأنه أية تعزيةٍ لهن في حال ضيقتهن سوى مريم وأسعافها لهن اذ هي أم الرحمة، فالقديسة بريجيتا يوماً ما سمعت يسوع المسيح مخاطباً والدته هكذا: أنكِ يا أمي أنت هي أم الرحمة وأنتِ هي تعزية الأنفس الكائنة في المطهر. بل أن البتول الطوباوية عينها قالت للقديسة بريجيتا: انه كما أن المريض الفقير المطروح على الفراش مسكيناً يكون مملؤاً من الحزن لمشاهدته ذاته متروكاً مهملاً، الا أنه يحصل على تعزيةٍ وافرةٍ عندما يسمع كلمةً ما تنذر بأسعافه، فهكذا تلك الأنفس المطهرية يشعرن بتعزيةٍ جزيلةٍ بمجرد سماعهن ذكر أسمي. فاذاً مجرد ذكر أسم رميم (الذي هو أسم رجاءٍ وخلاص) يسبب للأنفس المسجونة في المطهر تعزيةً وافرةً عندما تلفظه بأفواههن بناتها هؤلاء المحبوبات منها. أما نوفارينوس فيقول: أن هذه الأم المملؤة من الحب عندما تسمع الأنفس المطهرية يستغثن بأسمها، تضاعف هي تضرعاتها لدى الله الذي أجابةً لمطلوبها يترأف عليهن بالأسعاف، نظير النداء المنحدر من السماء ليبرد عنهن سعير تلك النيران الملتهبة.* غير أن مريم العذراء لتظهر عنايتها نحو أنفس المتعبدين لها ليس فقط في تعزيتهن وأسعافهن في مدة أقامتهن في المطهر، بل في أنقاذهن أيضاً من ذلك السجن بواسطة شفاعتها. ففي يوم صعود هذه القديسة والدة الإله المجيد من الأرض الى السماء جميع الأنفس اللواتي كن وقتئذٍ في المطهر خلصن منطلقاتٍ معها الى السعادة البدية، كما كتب العلامة جرسون بقوله: أن سجن المطهر في ذلك اليوم حصل فارغاً من الأنفس التي كانت فيه.* ويثبت ذلك نوفارينوس مبرهناً عنه بأقوال كتبةٍ كنائسيين كثيرين معتبرين جداً وهو: أن والدة الإله في حين أنتقالها من الأرض الى السماء ألتمست من أبنها الإلهي هذه النعمة، وهي أن تخلص جميع الأنفس الكائنة في ذلك اليوم مسجونةً في المطهر وتقودهن صحبتها الى النعيم: فيقول جرسون: أن البتول المجيدة من ذلك النهار أخذت سلطان التملك على هذه الخصوصية الممنوحة لها من الله وهي أن تخلص من المطهر أنفس المتعبدين لها: وهذا يؤكده لنا تأكيداً مطلقاً القديس برنردينوس السياني بقوله: أن البتول الطوباوية هي حاصلة على هذه السلطة والتفويض المطلق، وهو أنها بواسطة تضرعاتها، وكذلك بتخصيصها أستحقاقاتها الذاتية أسعافاً للأنفس المطهرية، لا سيما أنفس المتعبدين لها، تخلصهن من تلك العذابات: وهذا عينه يقوله نوفارينوس معتبراً أنه لأجل أستحقاقات والدة الإله الخصوصية ليس فقط تعود العذابات المطهرية لطيفةً عذبةً على تلك الأنفس، بل أيضاً تجعلها مختصرةً بزمنٍ أقل من المرسوم عليهن، لأنها بتوسلاتها من أجلهن تنقص عنهن زمن العذابات ليخلص بسرعةٍ.* ثم أن القديس بطرس داميانوس يخبرنا عن أمرأةٍ أسمها ماروتسا، بأنها قد ظهرت لأشبينتها بعد موتها وقالت لها، أنها في يوم عيد صعود مريم البتول الى السماء قد خلصت هي من عذابات المطهر، جملةً مع أنفسٍ كثيرة تفوق عدداً على جميع الشعب الروماني، حيث أنطلقن كلهن الى السماء. وكذلك يقول القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن والدة الإله في كل يومٍ من يومي هذين العيدين السنويين أي الميلاد والقيامة تنحدر بذاتها الى المطهر مرافقةً من أجواقٍ ملائكيةٍ كثيرةٍ وتخلص من السجن المطهري أنفساً عديدةً. ثم أن نوفارينوس يبرهن في أن هذه الطوباوية تصنع ذلك في كل يوم عيدٍ من أعيادها هي أيضاً الأحتفالية السنوية.* وما عدا هذا لشهيرٌ ومعروفٌ بكفايةٍ هو الوعد الذي وعدت به السيدة المجيدة للبابا يوحنا الثاني والعشرين، الذي ظهرت هي له وأمرته بأن يعلن لجميع أولئك الذين يحملون على ذواتهم ثوبها المسمى ثوب سيدة الكرمل، أن أنفسهم يخلصن من المطهر في يوم السبت الأول الذي يأتي بعد موتهم: فالحبر الأعظم المذكور كما يورد الأب كراسات قد أشهر ذلك وأعلنه لجميع المؤمنين في منشوره الباباوي الذي أبرزه في هذا الشأن، وقد أثبت المنشور المومى إليه الباباوات ألكسندروس الخامس، وأكليمنضوس الثامن وبيوس الخامس، وغريغوريوس الثالث عشر، وبولس الخامس، الذي سنة 1612 أبرز منشوراً وبه أعلن قائلاً: أن الشعب المسيحي يستطيع أن يعتقد بحسن عبادةٍ بأن البتول الطوباوية تسعف بشفاعاتها المتواصلة وبأستحقاقاتها الذاتية وبحمايتها الخصوصية بعد الموت وخاصةً في يوم السبت (المكرس لعبادتها من الكنيسة) أنفس الأخوة المشتركين بأخوية سيدة ثوب الكرمل، الذين تنفصل أنفسهم عن أجسادهم من هذه الحياة وهم في حال نعمة الله ويكون هؤلاء الأخوة. حملوا على ذواتهم ثوبها بحفظ واجبات فضيلة الطهارة بقدر واجب ألتزمات دعوتهم الخصوصية، ويكونون تلوا الفرض المختص بهذه السيدة، واذا لم يكونوا أستطاعوا تلاوة هذا الفرض فيكونون حفظوا الصيامات االكنائسية، وأمتنعوا عن أكل اللحم نهار الأربعاء، ما عدا يوم عيد الميلاد: ثم في خدمة الفرض الأحتفالي المختص بعيد سيدة الكرمل يقرأ هكذا: أنه يعتقد الأعتقاد التقوى بأن البتول القديسة تعزي بحبٍ والديٍ في المطهر أنفس المشتركين بهذه الأخوية، وأنها من دون أعاقةٍ تخلصهن بواسطة شفاعاتها من تلك العذابات، وتقودهن الى الوطن السماوي. (كما هو مدون تحت اليوم السادس عشر من شهر تموز في عيد سيدة الكرمل) فكيف لا نستطيع نحن أيضاً أن كنا متعبدين لهذه الأم الصالحة أن نرجوا لذواتنا النعم والأسعافات المقدم ذكرها. وكيف لا نقدر أن نؤمل أننا بعد موتنا نذهب الى السماء من دون الدخول الى المطهر، مترجين نوال هذه النعمة لأجل خدمتنا والدة الإله وعبادتنا لها بحبٍ خاص، كما أن والدة الإله أرسلت الراهب أبونضوس الى الطوباوي غوديفرادوس قائلةً له: أمض فقل للأخ غوديفرادوس أنه أن كان يتقدم نامياً في الفضيلة، سيكون مختصاً بأبني وبي أنا أيضاً، وحينما تخرج نفسه من جسده فأنا أصيرها أن لا تمضى الى المطهر بل أني أخذها أنا وأقدمها أمام أبني.* فأن كنا اذاً نريد أن نسعف الأنفس المطهرية فلنجتهدن في ان نتوسل الى والدة الإله من أجلهن في صلواتنا كافةً المقدمة منا في أسعافهن، مخصصين إياهن بنوعٍ متميزٍ بصلوة المسبحة الوردية المقدسة، التي تجلب لهن أسعافاً عظيماً حسبما يبان من النموذج اآتي إيراده.* * نموذجٌ * أن الأب أوسابيوس نيارامبارك يخبرنا (في الرأس 29 من الكتاب4 على الأنتصارات المريمية) بأنه كانت في مدينة أراغونا أبنةٌ فتاة أسمها ألكسندرا، التي اذكانت شريفة الأصل وجميلةً جداً في الخلقة فتعلق نحوها بنوعٍ ممتاز عن الآخرين حب أثنين من الشبان بشدةٍ، ولأجل الغيرة التي أتقدت حرارتها فيما بين هذين الشابين أحدهما ضد الآخر من جرى حبهما الزائد لتلك الفتاة قد تضاربا بالأسلحة والأثنان سقطا على الأرض مقتولين. فحينئذٍ أقرباء هذين الشابين لشدة حزنهم على فقدهما وثبوا على الفتاة ألكسندرا عينها، فقتلوها لأجل أنها صارت علةً لموت ذنيك التعيسين، ثم قطعوا رأسها وطرحوه في بئرٍ عميقةٍ، فبعد أيامٍ من ذلك اذ كان القديس عبد الأحد ماراً بالقرب من البئر، فبألهام خصوصي من الله قد دنا من البئر عينها وقال: ألكسندرا أخرجي خارجاً: واذا بالرأس المقطوع صعد من البئر ولبث على حافتها متوسلاً للقديس بأن يستمع أعترافها، فالقديس أستمع أعتراف ألكسندرا ونقل القربان الأقدس وناولها إياه زوادةً أخيرةً بمحضر الشعب الغفير، الذي تقاطر الى هناك من كل ناحيةٍ من المدينة لمشاهدة هذا العجب. وبعد ذلك القديس طلب من ألكسندرا أن تخبره كيف ولأية حجةٍ هي نالت من الله هذه النعمة، فأجابته بأنها حينما أماتها القاتلون وقطعوا رأسها قد كانت هي حاصلةً في حال الخطيئة المميتة، ولكن والدة الإله الكلية القداسة مكافأةً لعبادتها لها بتلاوتها المسبحة الوردية قد حفظتها في الحياة. فقد أستمر رأس ألكسندرا حياً عند حافة تلك البئر مدة يومين مشاهداً من جميع الذين كانوا يأتون الى هناك. وبعد ذلك ذهبت نفسها الى المطهر. غير أنها عقيب خمسة عشر يوماً قد ظهرت للقديس عبد الأحد جميلةً متلألئةً بالضياء نظير كوكبٍ مشعشعٍ وقالت له: أن الأسعاف الأخص الذي يحصل للأنفس المطهرية في تلك العذابات هو تلاوة المسبحة الوردية من أجلهن، وأن هذه الأنفس اذ يخلصن من المطهر بمفعول صلاة الوردية، فحالما يبلغن الى السماء يمارسن تقدمة التوسلات لله من أجل أولئك الذين يكونون أسعفوهن بتقدمتهم لأجلهن هذه الصلاة الكلية الفاعلية على تخليصهن من المطهر: قالت هذا ثم صعدت أمام عيني القديس الى السماء متهللةً بفرحٍ لا يوصف لتتمتع بالسعادة الطوباوية.* † صلاة † يا سلطانة السماوات والأرض يا أم مخلص العالم مريم المجيدة. أيتها المخلوقة الأعظم والأسمى والأجمل والأحب من كل المخلوقات، أي نعم أن كثيرين على الأرض لا يحبونكِ ولا يعرفونكِ، ولكن توجد ألوفٌ وربواتٌ وكراتٌ ومليوناتٌ فائقة الأحصاء من الملائكة ومن الطوباويين في السماء يحبونكِ ويسبحونكِ دائماً، ثم في هذه الأرض أيضاً كم وكم من الأنفس السعيدة تلتهب أتقاداً في نيران حبها إياكِ، وتعيش مغرمةً في صلاحكِ! فليتني أحبكِ أنا أيضاً يا سيدتي المحبوبة في الغاية، وأكون دائماً في أتمام خدمتي إياكِ وفي مديحكِ وتكريمكِ، وفي الأجتهاد بأن تكوني محبوبةً من الجميع. أنتِ قد صيرتِ الإله نفسه متعلقاً بحب جمال نفسكِ حتى أنكِ، لكي أقول هكذا، قد أجتذبتيه من حضن أبيه الأزلي الى أحشائكِ الكلي الطهر متجسداً من دمائكِ وصائراً أبناً حقيقياً لكِ، أفهل أنني أنا الدودة الحقيرة لا ألتهب حباً بكِ، أي نعم يا أمي الكلية الحلاوة أنا أيضاً أريد أن أحبكِ حباً شديداً. وأقصد أن أفعل كل ما أقدر عليه لكي أجعل الآخرين أيضاً أن يحبوكِ. فأقبلي اذاً يا مريم شوقي المتقد نحو حبكِ وساعديني على أن أضعه بالعمل، فأنا أعلم أن المغرمين بحبكِ هم مقبولون لدى عيني إلهكِ، لأنه تعالى بعد الشيء المختص بمجده لا يرتاح الى شيءٍ آخر بمقدار أرتياحه الى أن تكوني ممجدةً مكرمةً محبوبةً من الجميع، فأنا أرجو منكِ أيتها السيدة كل التوفيقات والسعادات. فيخصكِ أن تستمدي لي غفران خطاياي كلها، ونعمة الثبات على الخير. وأن تساعديني في ساعة موتي. وبعد ذلك أن تخلصيني من العذابات المطهرية. وأخيراً أن تقوديني الى الفردوس السماوي، فهذه الأشياء يترجاها منكِ محبونكِ ولا يخيبون من أملهم، فأرجوها منكِ أنا أيضاً الذي أحبكِ حباً شديداً فوق كل شيءٍ بعد حبي لله آمين. † https://upload.chjoy.com/uploads/165944534994321.jpg † الجزء الثالث † * في أن مريم العذراء تقود عبيدها الى الفردوس السماوي * فيا لها من علامةٍ جليلةٍ للأنتخاب الى المجد هي الحاصل عليها عبيد مريم البتول بتعبدهم لها. على أن الكنيسة المقدسة تخصص بهذه الأم الإلهية الكلمات المدونة في سفر حكمة أبن سيراخ (ص24ع11) وهي: قد طلبت في جميع هؤلاء راحةً وأنا في ميراث الرب أحل ساكنةً: فيقول الكردينال أوغون في تفسيره هذا النص: طوباوي هو ذاك الذي يجد مريم البتول المثلثة الغبطة راحةً في بيته، فمريم لأجل أنها تحب الجميع، تهتم في أن العبادة لها تنتشر عند الجميع. ولكن كثيرون أما أنهم لا يقبلون هذه العبادة، وأما أنهم لا يحفظونها، فمغبوطٌ هو الذي يقتبلها ويحفظها: ويضيف الى ذلك الرجل العلامة باجيوكالى هذا التفسير أيضاً وهو: أن قولها وأنا في ميراث الرب أحل ساكنةً، أنما هو أنها تسكن في من هم ميراث الرب المنتخبون، لأن العبادة لمريم البتول أنما تحل ساكنةً في جميع أولئك الذين هم ميراث الرب، أي الذين سيكونون في السماء ساكنين يسبحونه تعالى الى الأبد. ثم أن الطوباوية والدة الإله تتبع كلماتها السابقة بهذه اللاحقة قائلةً: عند ذلك أمرني خالق الجميع والذي خلقني أستراح في مسكني وقال لي، أسكني في أل يعقوب ورثي في إسرائيل وفي مختاري أجعلي أصولكِ: (ص24ع12). فتريد أن تعني بقولها هذا معلنةً "أن خالقي قد تنازل لأن يأتي فيستريح ساكناً في أحشائي، وقد أراد مني أن أحل قاطنةً في قلوب جميع المختارين (الذين جاء رسمهم في شخص يعقوب وهم ميراث هذه البتول) وقد رسم أن في جميع المنتخبين للمجد تتأصل عبادتي ويتأسس فيهم الرجاء والحب نحوي.* فكم وكم من الطوباويين الكائنين الآن في السماء لما كانوا وجدوا هناك لولا تكون أقادتهم الى تلك السعادة مريم بقوة شفاعاتها المقتدرة، لأن الكردينال أوغون يجعل هذه السيدة متكلمةً عن ذاتها بما جاء في العدد السادس من الاصحاح 24عينه من حكمة أبن سيراخ وهو: وأنا جعلت أن يشرق في السماء ضوءٌ باقٍ: أي أنني قد صيرت أن يتلألأ مشرقاً في السماوات عددٌ وافرٌ من المصابيح الأبدية، بمقدار ما هو عدد عبيدي الحسني العبادة نحوي. ومن ثم يتبع الكردينال المذكور كلامه بقوله: لأن قديسين كثيرين هو الآن في السموات الذين لكانوا عدموا أن يوجدوا فيها، لولا تكون مريم أوصلتهم الى هناك بمفعول شفاعاتها: ويقول القديس بوناونتورا: أن باب السماء يفتح لكل أولئك الذين يحسنون رجاهم بثقةٍ في شفاعات مريم. لكي يقبلوا في السعادة الأبدية. ولذلك سمى القديس أفرام السرياني العبادة نحو هذه الأم الإلهية أفتتاح أبواب الفردوس. وكذلك بلوسيوس المتعبد اذ يخاطب والدة الإله يقول هكذا: أنها قد سلمت ليدكِ أيتها السيدة مفاتيح الملك الطوباوي وخزائنه: ولهذا يلزمنا أن نتوسل الى هذه السيدة على الدوام مكررين نحوها كلمات القديس أمبروسيوس وهي: أفتحي لنا يا مريم أبواب الملكوت، لأنكِ أنتِ حافظةٌ بيدكِ مفاتيحه. بل أنكِ نفسكِ هي باب الملكوت، كما تدعوكِ الكنيسة المقدسة في طلباتها هاتفةً: يا باب السماء صلي لأجلنا:* ولهذه العبادة تسمي الكنيسة المقدسة هذه الأم العظيمة: نجمة البحر: لأنه (حسبما يقول القديس توما اللاهوتي في كتيبه الثامن): كما أن المسافرين في البحر يستدلون على المينا المقصود وصولهم اليه من قبل نجمة البحر، فهكذا المسيحيون هم مقادون ومرشدون في بحر هذا العالم للبلوغ الى مينا الخلاص وللدخول الى الفردوس بواسطة مريم البتول:* وكذلك من هذا القبيل يسمي القديس بطرس داميانوس والدة الإله: سلم السماء، لأنه بواسطتها قد أنحدر الله من السماوات الى الأرض لكي يستحق البشريون بواسطتها أن يصعدوا من الأرض الى السماء. ثم يقول القديس أنسطاسيوس مخاطباً هذه البتول الطوباوية هكذا: أنكِ لأجل هذه الغاية عينها أنتِ أيتها السيدة قد صيرتِ ممتلئةً نعمةً، وهي لكي تكوني لنا طريقاً لبلوغنا الى الخلاص. ومصعداً لأرتقائنا الى الوطن السماوي. ومن ثم القديس برنردوس يلقب مريم: بالمركبة الناقلة من الأرض الى السماء والقديس يوحنا جاوماترا أيضاً يسميها كذلك قائلاً لها: السلام عليكِ أيتها المركبة الكلية الشرف التي بواسطتها تنقل عبادكِ من الأرض الى الفردوس السماوي: ولهذا يهتف نحوها القديس بوناونتورا صارخاً: أنهم لطوباويون هم أولئك الذين يعرفونكِ يا والدة الإله. اذ أن المعرفة بكِ هي المحجة التي يبلغ السائرون فيها الى الحياة العديمة الموت، وإذاعة فضائلكِ هي السبيل للوصول الى الخلاص الأبدي.* ففي تاريخ الرهبنة الفرنسيسكانية (ك1 ق1 رأس35) يوجد مدوناً عن الراهب لاوُن: أنه شاهد مرةً ما سلماً حمراء كان واقفاً عليها يسوع المسيح. ونظر سلماً أخرى بيضاء كانت واقفةً فوقها أمه تعالى البتول القديسة، ثم نظر أن كثيرين كانوا يبتدئون أن يصعدوا على السلم الحمراء، ولكن بعد ذلك كانوا يسقطون من عليها الى الأرض مراتٍ مترادفةً كثيرةً، بمقدار المرات التي بها كانوا يحاولون أن يصعدوا إليها، ولهذا وجد من حرضهم على الذهاب نحو السلم البيضاء ليصعدوا فوقها، فشاهدهم هو من ثم أنهم مضوا إليها وبكل سهولةٍ أرتقوا صاعدين عليها، اذ أن والدة الإله نفسها كانت تمد يدها فتمسكهم وتسندهم، وبهذا النوع كانوا يبلغون أمينين الى الفردوس السماوي! فيسأل هنا القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس قائلاً: من هو الذي يخلص، ومن يبلغ الى الملكوت السماوي، (وهو ذاته يجاوب على سؤاله بقوله): أن أولئك الذين تهتم من أجلهم أم الرحمة هذه بتضرعاتها، هم الذين يخلصون ويبلغون الى الملك السماوي آمنين، وهذا الأمر عينه تثبته مريم نفسها بقولها: بي تتملك الملوك: (أمثال ص8ع15) أي بواسطة شفاعاتي تملك الأنفس أولاً في هذه الحياة الزائلة على الأرض، بتسلطهم على آلامهم وشهواتهم كمنتصرين غالبين، وبعد ذلك ينطلقون الى السماء ليملكوا أبدياً حيث يصيرون جميعاً ملوكاً (كما يقول القديس أوغوسطينوس). وبالأجمال أن مريم الطوباوية. كقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس، هي سيدة الفردوس السماوي، لأنها هناك تأمر حسبما تريد وبما تشاء وتدخل إليه من تريدهم. ولهذا يخصص هو بها كلمات أبن سيراخ (ص24 ع15) وهي: وكان أمري نافذاً في أورشليم، ولذلك من دون ريبٍ أنا أمر بما أشاء وأدخل الى هناك من أريد. ومن حيث أنها هي والدة رب الملكوت السماوي فبالصواب والعدل هي سيدة الفردوس حسبما يقول روبارتوس.* ثم أن هذه الأم الإلهية قد نالت لنا بواسطة صلواتها المقتدرة وأسعافاتها الفعالة الملك السماوي، أن كنا لا نضع من قلبنا مانعاً ما لأمتلاكه، كما يقول القديس أنطونينوس. ومن ثم أن الإنسان الذي يخدم هذه السيدة وهي تتشفع من أجله، فهو حاصلٌ على وثيقةٍ أكيدةٍ في نوال الفردوس، كأنه حقاً هو كائنٌ فيه (حسبما يورد الأنبا غواريكوس) ويضيف الى ذلك القديس يوحنا الدمشقي بقوله: أن الخدمة لمريم المجيدة والكيان من عدد عبيد بلاطها، هو سيمة الشرف الأعظم الذي يمكننا أن نحصل عليه، لأن الخدمة لملكة السماء هي أمتلاك السماء، والعيشة تحت أوامرها هي أعظم من التسلط الملوكي. وبضد ذلك أن الذين لا يخدمونها لا يخلصون، من حيث أن الذين هم معدومون أسعافات هذه الأم العظيمة، هم مهملون متروكون من معونات أبنها ومن مساعدة أهل البلاط السماوي بأسرهم.* فلتكن على الدوام مسبحةً خيرية صلاح إلهنا الغير المتناهية، لأنه رتب راسماً وأقام مريداً في السماوات شفيعةً لنا مريم الطوباوية، حتى أنها بحسب كونها والدة للقاضي الديان وأماً للرحمة، تتعاطى معاطاةً فعالة بواسطة شفاعاتها ومحاماتها دعوى خلاصنا الأبدي. وهذا هو تعليم القديس برنردوس، ويقول الأب يعقوب الراهب العلامة فيما بين الآباء اليونانيين: أن الله قد جعل مريم نظير جسر للخلاص الذي أذا ما أجتزنا فوقه ناجين من أمواج بحر هذا العالم، فنقدر أن نبلغ الى المينا المغبوط الذي منه ندخل الى الفردوس السماوي: ولذلك يهتف اقديس بوناونتورا قائلاً: أسمعوا يا معشر الشعوب فأنتم الذين تشتهون أمتلاك الفردوس الأبدي، أخدموا مريم وكرموها فتصادفون الحياة السرمدية من دون ريبٍ.* فلا ينبغي لأحدٍ مطلقاً أن ييأس من نوال السعادة الأبدية حتى ولو كان هو من عدد الذين قد أستحقوا جهنم بخطاياهم. لأن هؤلاء أنفسهم اذا أخذوا أن يخدموا مريم بأمانةٍ فلا يفقدون خلاصهم. ثم يقول القديس جرمانوس مخاطباً العذراء هكذا: ترى كم وكم من الخطأة قد أهتموا في أن يجدوا الله بواسطتكِ يا مريم وقد أدركوه وخلصوا: أما ريكاردوس الذي من سان لورانسوس فيتأمل فيما هو مدون في الأبوكاليبسي (ص12ع1) وهو: أن القديس يوحنا الأنجيلي قد شاهد هذه الأمرأة الكلية القداسة، مكللةً على رأسها بأكليلٍ مركبٍ من أثنتي عشر كوكباً: وبضد ذلك أن سفر النشيد (ص4ع8) يوضح هذه العروسة الإلهية مكللةً من وحوشٍ ضاريةٍ أسودٍ ونمورةٍ اذ يخاطبها عروسها الإلهي قائلاً: تعالي يا عروستي من لبنان، هلمي من لبنان تجئين فتتكللين من صير الأسود ومن جبال النمورة: فكيف اذاً ينبغي أن يفهم هذا. فيجيب ريكاردوس عينه: بأن هؤلاء الوحوش الضارية هم الخطأة الذين بواسطة شفاعات مريم من أجلهم وبمساعدتها إياهم يستحيلون الى نجومٍ سماويةٍ وكواكب أبديةٍ. وهؤلاء يليقون أن يكونوا أكليلاً لهامة ملكة الرحمة هذه أفضل لياقةً من أن تتوج هي بكواكب السماء المادية كلها: ثم أن عبدة الرب الأخت الراهبة سيرافينا البتول التي من كابري. اذ كانت يوماً ما تتوسل الى الطوباوية مريم العذراء في الأيام المتقدمة على عيد أنتقالها الى السماء (كما يقرأ في سيرة حياة هذه الراهبة) قد ألتمست منها أن تستمد من الله نعمة التوبة لألف واحدٍ من الخطأة، ولكن لما بدأت تخاف من أن تكون طلبتها تزايدت عن الحدود، قد ظهرت لها العذراء المجيدة وهذبت فيها هذا الخوف الباطل قائلةً لها: لماذا تخشين، أهل أنني ربما لا أستطيع أن أنال من أبني نعمة الخلاص لألف واحدٍ من الخطأة، فهوذا أني قد أستمديت لكِ تمام الطلبة: قالت هذا وأخذتها بالروح الى السماء وهناك أرتها عدداً فائق الإحصاء من الأنفس الأثيمة اللواتي كن أستحقين جهنم بخطاياهن. وبعد ذلك بواسطة شفاعات هذه الأم الإلهية قد نالوا الخلاص وبدأن يتمتعن بالسعادة الأبدية.* فأي نعم أنه لا يوجد إنسانٌ أصلاً طالما هو في قيد الحياة الزمنية يقدر أن يكون متأكداً تأكيداً مطلقاً خلاصه الأبدي العتيد، كما كتب: لن يعرف الإنسان أن كان هو مستوجباً المحبة أم البغضة، كل شيءٍ محفوظٍ للمستقبل غير يقين: (سفر الجامعه ص9ع1) ولكن مع ذلك فالنبي داود طلب من الله قائلاً: يا رب من يسكن في مسكنك أو من يحل في جبل قدسك: (مزمور 15ع1) فيجيب القديس بوناونتورا في تفسيره هذا النص مخاطباً الأثمة بقوله: يا معشر الخطأة فلنتبع أثر خطوات مريم، ولننطرح على قدميها المغبوطين، ولا نتركها أن لم تباركنا هي. لأن بركتها إيانا تؤكد لنا نوال الملكوت. ويقول القديس أنسلموس: أنه يكفينا أيتها البتول السيدة أنكِ تريدين أن تخلصينا، لأنه حينئذٍ لا يمكن لنا أن لا نكون خالصين. ويضيف الى ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن الأنفس المحامى عنهن من مريم يخلصن بالضرورة ومن دون كل ريبٍ.* فبالصواب اذاً يقول القديس أيدالفونسوس: أن البتول الكلية القداسة قد سبقت وتنبأت عن ذاتها بقولها: فها منذ الآن يعطيني الطوبى سائر الأجيال: (لوقا 1ع48) لأن جميع المختارين ينالون بواسطتها الطوبى الأبدية: أما القديس متوديوس فيخاطب هذه المباركة في النساء قائلاً نحوها: أنكِ أنتِ هي أيتها الأم العظيمة أبتداء سعادتنا، ووسطها، ونهايتها، فالبداية لأنكِ تستمدين لنا نحن الخطأة نعمة غفران مآثمنا. والوسط لأنكِ تنالين لنا نعمة الثبات على الخير. والنهاية لأنكِ أخيراً تستمدين لنا نعمة البلوغ الى الفردوس والدخول الى السعادة الأبدية: فبواسطتكِ أيتها السيدة قد فتح باب السماء يقول نحوها القديس برنردوس، وبكِ فرغ الجحيم وبوساطتكِ قد اخصب الفردوس، وبالأجمال أنه بكِ قد أعطيت الحياة الأبدية لعددٍ فائق الإحصاء من الأشقياء الذين كانوا مستحقين الموت السرمدي:* الا أن الأمر الذي يشجعنا بأبلغ من كل ما سواه على أن نوطد رجانا متأكدين نوال الفردوس، هو الوعد الجميل الذي وعدتِ به هذه الأم الطوباوية لكل أولئك الذين يكرمونها، لا سيما الذين يجتهدون بواسطة أقوالهم ونموذجاتهم الصالحة في أن يجعلوها معروفةً ومكرمةً من الآخرين أيضاً. وهذا الوعد هو المدون في حكمة أبن سيراخ (ص24ع30) بقولها: أن الذين يعملون بي لا يخطئون. ومن شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية. فمن ثم يهتف القديس يوناونتورا قائلاً: أنهم لسعيدون هم بالحقيقة أولئك الذين يحصلون على أنعطاف مريم نحوهم محاميةً عنهم، لأن الطوباويين في السماء يعدون هؤلاء رفاقهم العتيدين من دون ريبٍ، اذ أن من يحمل على ذاته علامة تعبده لمريم يكون أسمه مدوناً في مصحف الحياة. ماذا يفيد التعب والقلق في الفحص عن الأحكام والآراء المدروسة. وهل أن الأنتخاب الى المجد يصدر قبل سابق النظر الى الأستحقاقات الخصوصية أم بعد تأمل هذه الأستحقاقات!" هل أن أسماءنا هي مكتوبةٌ في سفر الحياة أم لا؟ فنحن أن كنا عبيداً حقيقيين لمريم والدة الإله وفائزين بحمايتها، فمن دون أشكالٍ بل بكل تأكيدٍ أسماؤنا هي مسجلة في مصحف الحياة، لأنه كما يقول القديس يوحنا الدمشقي: أن الله لا يمنح نعمة العبادة نحو والدته القديسة الا لأولئك الذين يريدهم مخلصين: ويبان أن هذا هو مطابقٌ لما أعلنه عز وجل واضحاً بواسطة رسوله القديس يوحنا في سفر الجليان قائلاً: أن الذي يغلب... أنا أكتب عليه أسم إلهي وأسم المدينة الجديدة التي لإلهي: (أبوكاليبسي ص3ع12) أي أن الذي يكون غالباً ومخلصاً يحمل على قلبه مكتوباً أسم مدينة الله، فمن هي مدينة الله هذه الا مريم حسبما يفسر القديس غريغوريوس الكبير في شرحه كلمات النبي داود هذه: أنه قد قيلت فيكِ المسبحات يا مدينة الله: (مزمور86ع3) فيمكننا حسناً أن نقول اذاً مع القديس بولس الرسول: لكن أساس الله الوطيد قد وقف ثابتاً وعليه هذا الختم، أن الرب قد عرف الذين له: (تيموتاوس ثانية ص2ع19) فالذي يكون عليه هذا الختم أي عبادته لمريم قد عرفه الرب أنه له وخاصته، ولذلك كتب القديس برنردوس قائلاً: أن التعبد لوالدة الإله هو ختمٌ وعلامةٌ كلية التأكيد لنوال الخلاص الأبدي: ثم أن الطوباوي الانوس اذ يتكلم بخصوص السلام الملائكي يقول: أن كل من يكرم البتول مراتٍ كثيرةً بتلاوة السلام الملائكي، يحوي في ذاته علامةً عظيمةً لأنتخابه الى المجد. ويقول هو عينه في محلٍ آخر: أنه يفوز بذلك أولئك أيضاً الذين يثابرون بثبات على تلاوة المسبحة الوردية المقدسة يومياً. وبأبلغ من هذا يورد الأب نيارامبارك قائلاً: أن عبيد والدة الإله هم ذووا أختصاصاتٍ أكثر وأفضل، ليس في مدة حياتهم فقط في هذا العالم، بل أنهم في السماء أيضاً سيكونون مكرمين بنوعٍ متميزٍ جداً عن الآخرين، ومتردين بحللٍ شريفةٍ تعلنهم واضحاً أنهم حواص ملكة السماء وأهل بلاطها كما قيل عنهم: أن أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضعفةً: (أمثال ص31ع21)* فالقديسة مريم مادلينا داباتسي قد شاهدت في وسط البحر مركباً حاوياً ضمنه عبيدمريم العذراء أجمعين، ورأت هذه السيدة ماسكةً في يدها دفة تدبير المركب، ومهتمة في أن تقود هؤلاء الركاب كافةً بكل طمأنينةٍ وتأكيدٍ الى مينا الخلاص، وقد حصلت القديسة المذكورة على تفسير هذه الرؤيا وهو: أن كل أولئك الذين يعيشون في الحيوة الحاضرة تحت حماية والدة الإله، خم ناجون من غرق الخطيئة في بحر هذا العالم الجزيل الأخطار، وفائزون بالنجاة من الهلاك، لأنهم يقادون بمعوناتها وحمايتها بنوعٍ أمينٍ الى مينا الفردوس السماوي. فلنجتهد اذاً في أن نصعد الى هذا المركب المغبوط الذي هو كنف حماية أم الرحمة. وفيه نكون مطمئنين على البلوغ الى الغبطة الأبدية، اذ أن الكنيسة المقدسة ترتل في تسابيحها قائلةً نحو هذه السيدة هكذا: أن كل أولئك العتيدين أن يشتركوا في النعيم الأبدي، هم ساكنون فيكِ أيتها القديسة والدة الإله، لأنهم يحيون تحت كنف حمايتكِ.* * نموذج * أن كيساريوس يخبرنا (في الرأس3 من كتابه7) عن توما أحد الرهبان الجيستاررجيانسيين أنه كان حاراً جداً في العبادة لوالدة الإله، وكان يشتهي أن تزوره هي مرةً ما، ولذلك كان يتوسل إليها على الدوام في أن تهبه هذه النعمة. فليلةً ما اذ قد خرج الى بستان الدير، وكان يتفرس في السماء ويتنهد بتحسراتٍ قلبيةٍ متقدةٍ بحرارة الشوق لمشاهدة سيدته، واذا به ينظر منحدرةً من السماء أمرأةً كلية الجمال متلألئةً بالضياء قد جاءت اليه وسألته قائلةً له: أتحب يا توما أن تسمع صوت ترتيلي: فأجابها: أي نعم أني أرغب ذلك: فحينئذٍ تلك البتول رتلت بنغمةٍ كلية العذوبة بعض تراتيل، التي عند سماعها أضحى الراهب توما البار يظن ذاته كأنه في الفردوس السماوي، فلما أنتهى الترتيل غابت هي عنه وتركت أشواقه متقدةً لأن يعرف من كانت هبي بالحقيقة. ففيما هو غائصٌ في تلك الأفكار واذا ببتولةٍ أخرى ذات جمالٍ عظيم كالأولى قد جاءت أمامه ونظير تلك أسمعته صوت ترتيلها، فهو لعدم أستطاعته أن يمسك ذاته عن أن يعرف من كانت هي تلك البتول، قد سألها عن أسمها، وهي أجابته قائلةً: أن البتول التي جاءت إليك قبلي هي القديسة كاترينا، وأما أنا فأسمي أنيسا، وكلتانا بتولان شهيدتان ليسوع المسيح، قد أرسلتنا إليك سيدتنا لكي نعزيك، فأشكر هذه الأم الإلهية وأستعد متأهباً لأقتبال نعمةٍ أعظم: قالت له هذا وأغربت عنه، فالراهب بقي تحت الرجاء العظيم في أن يشاهد ملكته المحبوبة، ولم يخب هو من أمله، لأنه بعد ذلك ببرهةٍ قد رأى أشراق ضياءٍ عظيمٍ أبرق وأستوعب منه قلبه أبهاجاً كلي العذوبة. واذا بوالدة الإله قد ظهرت له من باطن ذلك الضياء محاطةً من أجواقٍ من الملائكة. وهي ذات جمالٍ فائق بما لا يحد ولا يوصف على جمال تلك البتولتين اللتين ظهرتا له قبلاً، ثم قالت له: أنني قد أقتبلت منك يا عبدي وأبني العزيز، التعبد الذي خدمتني به، وأستجبت صلواتك، فأنت قد أشتهيت أن تراني، وهوذا أنا جئت اليك وأريد أن أسمعك أنا أيضاً ترتيلي: قالت هذا وبدأت ترتل، فقد كان أبتهاج قلب توما بهذا المقدار عظيماً حتى أنه غاب عن حواسه. وسقط على الأرض منكباً وبقي هكذا. فلما قرع ناقوس الصلاة السحرية وأجتمعت الرهبان حسب عادتهم في الخورص ولم يجدوا فيما بينهم توما أخذوا يفتشون عليه في قلايته وفي أمكنةٍ أخرى الى أن وجدوه أخيراً في البستان مطروحاً على الحضيض كمائتٍ، فأقاموه وأدخلوه داخلاً، واذ رجع الى ذاته قد حتم عليه الرئيس بأمر الطاعة المقدسة بأن يخبرهم بجميع ما حدث له. فحينئذٍ لأضطراره من قبل أمر الطاعة قد أخبرهم بكل ما رآه وسمعه وبما أنعمت عليه به هذه الأم الإلهية.* † صلاة † يا سلطانة الفردوس السماوي أم الحب المقدس أنكِ اذ كنتِ فيما بين المخلوقات كلها أنتِ هي المحبوبة من الله أكثر حباً، كما أنكِ أنتِ هي المحبة إياه الأولى أشد حباً، أرتضي بأن يحبكِ هذا الخاطئ الحقير أيضاً الأكثر كفراناً بالجميل والأشد شقاءً منجميع أهل الأرض، الذي عند مشاهدته ذاته معتوقاً من الهلاك الجهنمي بواسطتكِ، ومن دون أستحقاقٍ منه منعماً عليه منكِ أنعاماتٍ هكذا عظيمة، فقد أشتعل قلبه غراماً بمحبة صلاحكِ وقد وضع فيكِ رجاه كله، فأنا هو هذا الخاطئ ومن ثم أحبكِ يا سيدتي وأتمنى أن يكون حبي إياكِ أكثر مما أحبكِ به القديسون الأشد غراماً بمحبتكِ. وأشتهي من كل قلبي لو أكون قادراً على أن أجعل كل البشر الذين لا يعرفونكِ أن يفهموا جيداً كم أنتِ مستحقة المحبة. لكي يكرمكِ الجميع ويحبكِ الكل، بل أني أرغب أن أموت من أجل حبكِ بمحاماتي عن دوام بتوليتكِ، وعن حال كونكِ والدة الإله حقاً، وعن الحبل بكِ البريء من دنس الخطيئة الأصلية، هذا أن كان يحتاج الأمر لأن أقدم حياتي فداءً بالمحاماة عن خصوصياتكِ هذه ذات الأعتبار والقيمة، فأقبلي مني يا أمي العزيزة المحبوبة عواطف تعلقي القلبي بكِ، ولا تسمحي بأن أحد عبيدكِ الذي يحبكِ يكون عدواً لإلهكِ المحبوب منكِ بهذا المقدار العظيم. فالويل لي لأني في وقتٍ ما كنت كذلك حينما أهنت سيدي. الا أنني وقتئذٍ لم أكن أحبكِ يا مريم وكنت قليلاً أهتم في أن أكون محبوباً منكِ، أما الآن فأنا لا أتمنى شيئاً بعد نعمة الله أكثر من أن أحبكِ وأن أحصل منكِ محبوباً. ثم ولا يضعف رجائي في ذلك من قبل خطاياي الماضية، اذ أنني أعلم جيداً أنكِ سيدةٌ كلية الحنو والرأفة، ولا تأنفين من أن تحبي الأشد شقاوةً فيما بين الخطأة أيضاً الذين يحبونكِ، بل أنكِ لا تدعين أن يسمو أحدٌ بحبه على حبكِ، فأنا أريد أن آتي الى الفردوس لأحبكِ هناك أيتها الملكة الجليلة، لأني حينما أبلغ لأن أضبط قدميكِ فأعرف أفضل معرفةً كم أنتِ مستحقةً من المحبة، وكم صنعتِ من العناية الى أنكِ خلصتيني. ولهذا أحبكِ هناك أشد حباً طول أزمنة الأبدية من دون خوفٍ أصلاً من أن أعدم هذا الحب أو أنتزح عنه، فأنا أرجو يا مريم رجاءً أكيداً أن أفوز بالخلاص بوساطتكِ. ومن ثم أسألكِ أن تصلي من أجلي لدى أبنكِ يسوع ولا أريد أكثر من ذلك. على الدوام مرتلاً، يا مريم رجائي أن خلاصي هو متعلقٌ بكِ. آمين. † |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
* فيما يلاحظ هذه الكلمة وهي: يا شفوقة يا رؤوفة:* * وفيه يبرهن عن كم هي عظيمة شفقة والدة الإله ورأفتها* وبالأجمال أن أشفاق والدة الإله ورأفتها هي هكذا عظيمة: حتى أن أحشاءها الرأوفة، كما يقول الأنبا غواريكوس، لا تعرف أن تمكث برهةً ما من دون أن تفيض نحونا مجاري حنوها. وتبيح لنا أثمار أشفاقها: والقديس برنردوس يهتف قائلاً: أهل يمكن أن يجري فائضاً من يبنبوع الرأفة شيءٌ آخر غير الرأفة. ولهذا لقبت هي بالزيتونة، كما قيل عنها: أنا مثل الزيتون الجميل في البقاع: (أبن سيراخ ص24ع19) فكما أنه من الزيتزن لا يخرج شيءٌ آخر الا الزيت (الذي هو رسم الرحمة) هكذا من يدي مريم لا يخرج شيءٌ آخر الا النعم والمراحم: ولذلك بكل عدلٍ (يقول المكرم لويس دابونته) يليق أن تسمى مريم: أم الزيت: اذ أنها هي أم الرحمة. فإذا ما ألتجأنا نحن الى هذه الأم طالبين منها زيت رأفتها فلا نخاف من أنها يمكن أن تنكره علينا، كما نكرت أعطاء الزيت الخمس العذارى الحكيمات للخمس الجاهلات قائلات لهن: ليس لنا ما يكفينا وإياكن: (متى ص25ع9)، كلا، بل أن هذه السيدة هي غنيةٌ بزيت المراحم، كما ينبه القديس بوناونتورا، ولذلك تدعوها الكنيسة المقدسة: عذراء كلية الحكمة: لكي نفهم من ثم (حسبما يقول أوغون الذي من سان فيتوره) أن مريم هي بهذا المقدار ممتلئةٌ نعمةً وأشفاقاً، حتى أنها تقدر أن تسعف الجميع بسخاء رأفتها من دون أن تفرغ كنوز غناها.* ولكني أسأل مستفهماً لماذا يقال في النص المتقدم ذكره: أنا مثل الزيتون الجميل في البقاع، ولا تقول بالأحرى: أنا زيتونةٌ ضمن بستانٍ أو كرمٍ مسيجٍ بالجدران محفوظةٌ داخل السياج، لا في البقاع الشائبة للخطف؟ فيجيب الكردينال أوغون في تفسيره هذا النص: أن هذه الزيتونة أنما هي في البقاع ليمكن لكل أحدٍ بسهولةٍ أن يشاهدها، ومن دون مانعٍ يدنو منها ليستمد علاجاً لأحتياجاته: ويثبت هذا التفسير الجليل القديس أنطونينوس بقوله: أنه حينما تكون زيتونةٌ ما مغروسةً في الحقل خارج الحيطان والسياج، فيستطيع كل أحدٍ من غير حاجزٍ أن يذهب اليها ويقطف أثمارها. ولهذا أن الجميع يقدرون أن يلتجئوا الى مريم أبراراً وأشراراً ليستمدوا زيت رحمتها: فكم وكم من الأحكام الأنتقامية المعطاة من العدل الإلهي ضد الخطأة قد عرفت هذه البتول الكلية القداسة أن تنال بواسطة تضرعاتها عدم وضعها بالعمل، مخلصةً منها الأشرار الذين ألتجأوا اليها مستغيثين بها. ويقول توما الكامبيسي: أي ملجأ أكثر أمناً نستطيع نحن أن نجد خارجاً عن حضن مريم وأحشائها المملؤة رأفةً، لأنه هناك يجد الفقير أسعافه، والمريض علاجه، والحزين تعزيته. والمرتاب أقناعه، والمشكك هدؤه بالمشورة الصالحة، والمهمل أعانته، والمحتاج كفاية.* فيا لتعاستنا لولا نكون حاصلين على أم الرحمة هذه المتهتمة والمعينة دائماً في أسعافنا وسد عوزنا في شدائدنا وشقاوتنا. على أن الروح القدس يقول بفم أبن سيراخ (ص36ع27): أنه حيث لا توجد الأمرأة ينوح الفقير: فالقديس يوحنا الدمشقي يبرهن أن هذه الأمرأة هي مريم البتول، وحيث لا توجد هي فيضام الجميع لأن الله أراد أن النعم كلها تتوزع باسطة تضرعاتها لديه. فاذا نقص وجودها فلا ريب بنقصان الرجاء عن نوال الرحمة، كما أوحى الرب للقديسة بريجيتا بقوله: حيث لم توجد صلوات مريم بالتضرعات فلا رجاء لنوال الرحمة.* ولكن أهل أننا نخاف من أن هذه الأم الحنونة لا تنظر الى شقاوتنا ولا تتوجع لنا، كلا، بل أنها هي تلاحظ وترثي لنا من أجلها أكثر مما نحن أنفسنا نلاحظها ونتوجع من جرائها. فيقول القديس أنطونينوس: من هو ذاك الذي فيما بين القديسين كافةً يشفق علينا ويحنو مترأفاً وينعطف متريثاً لحالنا نظير مريم: وحسبما يورد ريكاردوس الذي من سان فيتوره بقوله: أن مريم حيثما تشاهد الشدائد، وأينما تنظر المسكنة والشقاء، فلا تقدر أن تهملها من دون أن تسعف الكائنين فيها! ويثبت ذلك العلامة ماندوتسا مخاطباً والدة الإله هكذا: أنكِ أيتها البتول المباركة توزعين بيدٍ طلقةٍ سخيةٍ مراحمكِ أينما لاحظتِ الأحتياج والضرورة ملمةً بنا. فأمنا هذه الصالحة لا تكف أصلاً عن ممارسة ما هو متعلقٌ بوظيفتها في توزيع المراحم، كما تعلن هي نفسها عدم أنتقاصها، بل دوام خدمتها هذه الرحومة بقولها هكذا: أنني الى الدهر المزمع لا أنقص، لقد خدمت أمامه في القبة الطاهرة: (أبن سيراخ ص24ع14) فيشرح هذه الكلمات الكردينال أوغون بأن مريم تقول: أنني الى حد نهاية العالم لا أهمل أبداً أن أعتني بأسعاف البشر في شدائدهم، ولا أتغافل أصلاً عن التضرعات من أجل الخطأة لكي ينالوا الخلاص ناجين من الشقاء الأبدي.* فقد كتب المؤرخ سفاطونيوس عن الملك تيطس قيصر، أنه بهذا المقدار كان منصّباً بأنعطافٍ وشوقٍ لأن يمنح النعم للذين كانوا يلتمسونها منه، حتى أنه كان يقول عن ذاك اليوم الذي لم يكن فيه يتقدم لديه أحدٌ ما في طلب نعمةٍ من النعم: أنه يومٌ ضائعٌ ونهارٌ فاقد الثمر لي. لأني أجتزته من غير أن أسعف فيه أحداً بنعمةٍ ما: فتيطس ربما كان يقول ذلك بروح المجد الباطل وبقصد أن يكتسب لذاته ريادة مديح الشعوب. وأعتبارهم جودة صفاته أحرى مما بروحٍ صادقٍ لمحبة القريب، وأما ملكتنا مريم فلو أتفق أن يمر يومٌ ما من دون أن تلتمس منها نعمةٌ ما، أو من غير أن تهب هي فيه رحمةً ما، فلكانت تقول ذلك لهذه العلة وحدها، وهي لكونها أنما هي ممتلئةً من الحب الصادق نحو البشر، ومن الشوق الأكيد الى أن تصنع معنا الخير: بنوع أنها كما يقول القديس برنردينوس البوسطى. توجد هي شائقةً ومتعطشة لأن تهبنا النعم. أفضل شوقاً وتعطشاً منا نحن أنفسنا لأقتبال هذه النعم، ولذلك كل مرةٍ نحن نلتجئ اليها فنجدها دائماً مملؤة اليدين من المراحم ومن المواهب السخية التي تريد أن تمنحنا إياها.* فأمنا رفقا أنما كانت رسما لأمنا البتول المجيدة، فرفقا حينما طلب منها غلام أبراهيم أن تسقيه قليلاً من الماء الذي كان في الجرة التي هي أملأتها من العين، فليس أنها أسرعت اليه هو فقط ووضعت الجرة على ساعدها وأسقته قائلةً له: أشرب يا سيدي: بل أنها بعد أن شرب قالت له أيضاً: أنني أستقي ماءً للجمال التي معك حتى تشرب كلها: وهكذا أفرغت الماء في المستقى. وأعجلت راجعةً الى البئر ثانيةً وأملأت فأسقت جميع الجمال (سفر التكوين ص24ع18 الخ) فمن ثم يلتفت القديس برنردوس الحسن التعبد لمريم البتول مخاطباً إياها هكذا: أنكِ أيتها السيدة رأوفةٌ وأكثر سخاءً من رفقا. ولذلك أنت لا تكفين بأن توزعي نعم رحمتكِ الغير المحدودة على غلمان أبراهيم فقط، المفهوم بهم عبيد الرب الأمناء في خدمته تعالى، بل أنكِ تهبين هذه النعم للجمال أيضاً التي هي رسمٌ للخطأة، وكما أن رفقا قد أعطت أكثر مما طلب منها، فعلى هذه الصورة أنتِ تهبين أكثر من الشيء الذي يلتمس منكِ: ثم يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن سخاء مريم يشابه سخاء أبنها الإلهي الذي يعطي دائماً أكثر مما يطلب منه، ولهذا يقول عنه القديس بولس الرسول أنه مستغنٍ في جميع المستغيثين به: (روميه ص10ع12) أي هو غنيٌ بالنعم نحو جميع الذين يلتجئون اليه بالصلوات، ولهذا يقول نحو البتول المجيدة أحد العلماء العباد هكذا: صلي من أجلي أنتِ يا سيدتي، لأنكِ تطلبين لي النعم بأعظم عبادةٍ مما أنا أعرف أن أصنع، وأنتِ تنالين من الله نعماً ومواهب أعظم وأوفر من تلك التي أنا أستطيع أن ألتمسها.* فالقديسان الرسولان يعقوب ويوحنا عندما شاهدا أن أهل قرية السمرة لم يريدوا أن يقبلوا يسوع عندهم، قد أحتدا بالغيرة قائلين: يا رب أتريد أن نقول فتنحدر نارٌ من السماء وتفنيهم، فألتفت هو ونهرهما قائلاً لستما تعرفان أي روحٍ أنتما: (لوقا ص9ع52 ألخ) فكأنه تعالى يقول لهما: أنني بهذا المقدار أنا رحومٌ رأوفٌ شفوقٌ عذبٌ حتى أني نزلت من السماء لكي أخلص الخطأة لا لكي أعاقبهم، وأنتما تريدان أن تشاهداهم هالكين، فماذا تقولان عن نارٍ وعن أنتقامٍ، أسكتا ولا تتكلما بعد في أمر عقابٍ وقصاصٍ لأن هذا ليس هو روحي. فمن حيث أن روح مريم العذراء بجملته هو شبيهٌ بروح أبنها فلا نقدر أن نرتاب في أنها هي بكليتها متعطشةٌ بأنعطافٍ لأن تصنع الرحمة، لأنها (كما أوحت للقديسة بريجيتا) قد دعيت أم الرحمة، بل أن رحمة الله عينها قد صنعتها هكذا شفوقةً حنونةً عطوفةً حلوةً رأوفةً نحو الجميع، ولذلك قد شاهدها القديس يوحنا في جليانه ملتحفةً بالشمس. كما يقول في سفر الأبوكاليبسي (ص12ع1): وظهرت آيةٌ عظيمةٌ في السماء أمرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس: ففيما يلاحظ هذه الكلمات يخاطب القديس برنردوس والدة الإله قائلاً: أنكِ أيتها السيدة قد ألبستِ الشمس أي كلمة الله جسداً إنسانياً، الا أنه تعالى قد ألبسكِ هو رحمته وأقتداره.* http://www.peregabriel.com/gm/albums.../normal_GG.jpg فبهذا المقدار اذاً هي حنونةٌ متعطفةٌ شفوقةٌ هذه الملكلة (يقول القديس برنردوس عينه) حتى أنها حينما ترى أحد الخطأة مهما كان، ملتجئاً إليها ومستغيثاً برحمتها. فلا تتوقف هي فاحصةً عن أستحقاقاته أو عدمها أي أن كان يستحق هو أن يستجاب مطلوبه أم لا، بل أنها تستجيب الجميع وتقبل طلباتهم من دون أستثناءٍ. ولأجل ذلك يلاحظ مبرهناً القديس أيدالبارتوس بقوله: أن مريم قد دعيت: جميلةً مثل القمر: (نشيد ص6ع9) على أنه كما أن القمر لأجل قربه من كرة الأرض ينير أولئك السكان في قطب الأرض السفلي الذين لا تظهر لهم الشمس الا أزمنةً قليلةً في دور السنة. فهكذا مريم تسعف الخطأة الأكثر شقاءٍ والأشد أحتياحاً والأوفر أعداماً للأستحقاقات: ثم أن القمر ولئن كان يتخذ أنواره من الشمس فمع ذلك مفعولاته تكمل بأكثر سرعةٍ من الشمس، لأن الشيء الذي تعمله الشمس في مدة سنةٍ يعمله القمر في مدة شهرٍ (كما يقول المعلم يوحنا ديمينان في تكلمه عن الفلك في الرأس 3من الكتاب 1) ومن ثم يورد القديس أنسلموس: بأننا بعض الأحيان نستمد النجاة بواسطة أستغاثتنا بمريم بأكثر سرعةٍ مما نستمدها بأستغاثتنا بيسوع: ولهذا يحرضنا أوغون الذي من سان فيتورة على: أنه اذا أتفق لنا أن كثرة خطايانا تسبب لنا الخوف من أن ندنوا من الله ملتجئين اليه، لأنه تعالى ذو عزةٍ متناهيةٍ قد أهينت منا بأفعال الآثام، فلا نبغي لنا حينئذِ أن تتوقف عن أن نبادر بالأستغاثة نحو مريم، لأننا لا يمكن أن نجد فيها شيئاً ما يخيفنا. لأنه أي نعم أنها هي كلية القداسة بريةٌ من العيب سلطانة العالم، وهي نفسها والدة للإله عظيمة الجلالة، الا أنها هي من لحمنا ودمنا وهي أبنة آدم نظيرنا.* وبالأجمال يقول القديس برنردوس: أن كل شيءٍ يختص بمريم، هو مملؤٌ من النعم والمراحم. لأنها هي بحسب كونها أم الرأفة. قد صيرت ذاتها كلاً للكل. وبحسبما هي موعبةٌ من الحب الشديد نحو الجميع، قد أقتبلت أن تصير مديونةً للأبرار والأشرار معاً بصنيع الرحمة معهم. ولهذا هي تفتح للكل أحضان رحمتها حتى يتمتع بذلك الجميع. كما أن الشيطان. كقول القديس بطرس الرسول: يجول حول البشر زائراً كالأسد يلتمس من يبتلعه: (بطرس أولى ص5ع8) فهكذا بالضد مريم تجول مفتشةً من دون أنقطاعٍ على أن تعطي الحيوة والخلاص لمن تقدر هي أن تصنع معه ذلك. حسبما يورد ريكاردوس البوسطي.* ثم يلزمنا أن نعرف جيداً أن أقتدار والدة الإله في المحاماة عنا هو أعظم جداً مما نستطيع نحن أن ندركه بعقولنا. كما يقول القديس جرمانوس. فمؤلف الكتاب المدعو بوماريوس يسأل كمستفهمٍ. عن كيف أن ذاك الرب الذي كان في الناموس القديم بهذا المقدار صارماً في أطلاق القصاصات والعقابات عاجلاً. فالآن هو تعالى عينه يستعمل المراحم مع الأثمة الأكثر خطأً من أولئك القدماء، ثم يجيب هو نفسه عن ذلك قائلاً: أن الله يفعل الأن هذه المراحم كلها حباً بمريم وتكريماً لأستحقاقاتها: والقديس فولجانسيوس يقول:" أنه لقد كان العالم من دون ريب أنقلب حاصلاً في الأندثار الكلي، لولا تكون مريم مسندةً إياه بقوة شفاعاتها". الا أننا نقدر أن نذهب مطمئنين أمام الله (يتبع القول القديس أرنولدوس كارنونانسه) وأن نترجا مؤملين نوال كل خيرٍ اذ أننا حاصلون على الأبن الإلهي وسيطاً بنا لدى أبيه الأزلي، وعلى الأم الإلهية وسيطةً بنا لدى هذا الأبن السرمدي. فكيف يمكن أن الآب لا يستمع طلبات الأبن الذي يظهر لديه الجراحات التي ألم هو بها من أجل خلاص الخطأة. وكيف هو من المحتمل أن الأبن لا يستجيب تضرعات الأم عندما تظهر هي لديه ثدييها اللذين بهما أقاتته بالحليب مغذيةً. أما القديس بطرس الذهبي النطق فيورد عبارةً جليلةً بقوله عن العذراء المجيدة هكذا: أنه اذ قدمت لله هذه الجارية البتول أحشاها الفائقة الطهر نظير فندقٍ سكن فيه تعالى في مجيئه الى العالم. فلذلك هي تطلب منه عز وجل بمنزلة أجرةٍ عن سكناه فيها. السلام للعالم والخلاص للخطأة الميؤوسين والحياة للموتى.* فكم هو عظيمٌ عدد الذين أستحقوا أن يحكم عليهم بالهلاك (يقول الأنبا جالاس) من أولئك الذين فازوا بالخلاص، لولا تدركهم مراحم مريم العذراء لأنها أنما هي كنز الله وخازنة جميع النعم ومن ثم أن خلاصنا هو متعلقٌ بها وكائنٌ بين يديها: فلنبادر اذاً دائماً الى أم الرأفة هذه ونترجى خلاصنا بكل تأكيدٍ بواسطة شفاعاتها. اذ أنها (كما يشجعنا على الثقة بها برنردينوس البوسطي) هي خلاصنا وحياتنا ورجانا ومشيرتنا وملجانا ومعونتنا: ويقول القديس أنطونينوس: أن مريم هي ذاك العرش، أي عرش النعمة الذي يحرضنا الرسول الإلهي على أن نتقدم اليه بثقةٍ لنستمد الرحمة الإلهية، مع كل المعونات الضرورية لخلاصنا، كما يقول في سالته الى العبرانيين (ص4ع16) هكذا: فلنتقدم بدالةٍ الى عرش النعمة لنأخذ نعمةً ونجد رحمةً لمعونةٍ نستفرصها: ولهذا القديسة كاترينا السيانية تسمي والدة الإله: موزعة المراحم الإلهية.* فلنختتم القول بتلك الكلمات العذبة المملؤة حلاوةً التي يخاطب بها القديس برنردوس هذه الأم الرأوفة هاتفاً: أنكِ يا مريم أنتِ حليمةٌ نحو الأشقياء رأوفةٌ نحو المستغيثين بكِ، عذبةٌ حلوةٌ مع محبينكِ، شفوقةٌ مع التائبين. حنونةٌ مع الساعين في نجاحهم لطيفةٌ مع الكاملين. فأنتِ توضحين ذاتكِ رأوفةً بأستنقاذكِ إيانا من العقابات، وشفوقةً بتوزيعكِ علينا النعم، وحلوةً لذيذةً بأيهابكِ ذاتكِ لكل من يطلبكِ.* * نموذج * † صلاة † † † يا حمامة الروح القدس، † أنتِ شفيعة العالم، وموزعة النعم والمواهب. † |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: يا مريم الحلوة اللذيذة:* *وفيه: يبرهن كم هو عذبٌ حلاوةً وطيبٌ لذةً أسم مريم. * *في مدة الحياة وفي ساعة الموت* أن الإسم العظيم الذي خصصت به والدة الإله أي مريم لم يخترع من أحدٍ في الأرض. ولا أبدعه عقلٌ ما إنساني، حسبما حدث ويحدث في أختراع الأسماء الأخرى المستعملة من البشر، بل أن هذا الإسم قد جاء من السماء ورسم بأمرٍ إلهيٍ خاص، كما يشهد القديسون أيرونيموس وأبيفانيوس وأنطونينوس وغيرهم كثيرون. ثم أن ريكاردوس الذي من سان لورانسوس يقول: أن إسمكِ يا مريم الجليل المحبوب قد خرج من كنز اللاهوت الى خارجٍ. لأن الثالوث الأقدس بجملته قد أعطاكِ هذا الإسم. الذي بعد أسم أبنكِ الإلهي يسمو متراساً على الأسماء كلها، وزينه بمعنى الجلالة والأقتدار، مريداً أن يكرمه الجميع منحنين عند التلفظ به من السماويين والأرضيين حتى الجحيم نفسه: ولكن فيما بين الأشياء الأخرى الجليلة التي بها زين الرب أسم مريم هو العذوبة الكلية الحلاوة، التي بها يشعر عباد هذه السيدة عند تلفظهم به في مدو حياتهم وساعة موتهم كما يأتي الشرح.* فنظراً الى عذوبة هذا الإسم عند المتعبدين لمريم في مدة حياتهم يقول القديس أونوريوس السائح: أن أسم مريم هو مملؤٌ من العذوبة الإلهية! بنوع أن أنطونيوس البدواني المجيد يتحقق في أسم مريم العذوبة نفسها، التي يلاحظها القديس برنردوس في أسم يسوع، لأن هذا القديس أي برنردوس يقول عن أسم يسوع: أنه هو أبتهاجٌ للقلب وشهد العسل للفم وعذب الصوت للأذن: وهذا عينه يقوله القديس أنطونيوس البدواني عن أسم مريم. فقد ذكر في سيرة حيوة الطوباوي الأب يوفيناله أنجينا أسقف سالوتسو، انه حينما كان يسمي مريم، كان يشعر بحلاوةٍ حسيةٍ بهذا المقدار عظيمةٍ، حتى أنه كان يمص شفتيه كمدهونتين بالشهد. ويقرأ عن أمرأةٍ في بلاد كولونيا أنها قالت يوماً ما للأسقف مرسيليوس، أنها كل مرةٍ كانت تلفظ أسم مريم فكانت تستطعم في فمها بحلاوةٍ أكثر من العسل، واذ بدأ الأسقف المذكور أن يتلفظ بهذا الإسم فهو نفسه صار يشعر بتلك الحلاوة. ثم أنه قد يستدل من كلمات سفر النشيد الآتي إيرادها، أن الملائكة عند صعود والدة الإله الى السماء قد سألوا ثلاث مراتٍ عن إسمها بقولهم: من هي هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخورٍ: (ص3ع6): من هي هذه المستشرفة كمطلع الصبح: (ص6ع9): من هي هذه الصاعدة من البرية مدللة مستندة على حبيبها: (ص8ع5) فهنا يستفهم ريكاردوس الذي من سان لورانسوس بقوله: لماذا الملائكة يسألون مراتٍ مترادفةً عن أسم هذه السيدة والسلطانة المجيدة مع كونه هو معروفاً منهم: ثم يجيب هو نفسه عن ذلك قائلاً: أن أسم مريم هو مملؤٌ من العذوبة والحلاوة لدى الملائكة أنفسهم، حتى أنهم كرروا السؤال تواتراً ليسمعوا بالجواب ذكر أسمها ملفوظاً به على سماعهم.* ولكن أنا لا أتكلم هنا عن الحلاوة الحسية المختصة بهذا الإسم المجيد. لأن هذه العذوبة الحسية لا تعطى عموماً للجميع. بل أتكلم عن حلاوةٍ خلاصيةٍ مسببة الطمأنينة والشجاعة والقوة. التي بوجه العموم يستفيدها من ذكر أسم مريم كل أولئك الذين يتلفظون به بروح الديانة وحسن العبادة. فاذ يتكلم عن ذلك الأنبا فرانكونه يقول: أنه بعد أسم يسوع المقدس فأسم مريم هو غنيٌ بالخيرات بهذا المقدار، حتى أنه في السماء وعلى الأرض لا يرعد أسمٌ آخر سواه، منه تحصل أنفس العباد على نعمةٍ ودالةٍ ورجاءٍ وطمأنينةٍ وافرةٍ لأن أسم مريم يحوي ضمنه نوعاً من الجاذبية للحب. ومن الحلاوة المنعشة الفؤاد. ومن موضوعاتٍ إلهيةٍ، حتى أنه حسبما يليق أن تشعر به قلوب محبينها يحرك فيهم عطراً زكي العرف عذب النشر. وأما الأمر العجيب المختص بهذا الإسم العظيم فهو أنه اذا ما سمع مقولاً مراتٍ لا تحصى عدداً من محبين هذه السيدة الشريفة. فدائماً هم يصغون لسماعه كأنه جديدٌ. اذ أنهم يشعرون بالعذوبة عينها كل مرةٍ يسمعون نغمة التلفظ به. والطوباوي أنريكوس صوزونه أيضاً بتكلمه عن هذه العذوبة يقول: أنه عند سماعه تسمية مريم. كان يشعر بذاته متوطداً في الرجاء بهذا المقدار، حتى أنه فيما بين سيمات الأبتهاج القلبي وحرارة الحب مع الدموع الهاطلة من عينيه حين تلفظه بهذا الإسم المجيد المحبوب، كان يشتهي أن قلبه يخرج من مركزه الى فمه. لأن أسم مريم الكلي الحلاوة كان نظير شهد العسل ينحل في أقصى جوارح نفسه، ولذلك يهتف نحو والدة الإله صارخاً: يا له من أسمٍ كلي القداسة. فترى ماذا تكونين أنتِ يا مريم في ذاتكِ أن كان أسمكِ وحده هو هكذا موضوعٌ للحب والأنعطاف القلبي ومملؤٌ من النعم.* ومن ثم يلتفت القديس برنردوس نحو أمه المغرم هو بمحبتها قائلاً لها: يا مريم البتول الكلية القداسة، يا عظيمةً يا رأوفةً يا مستحقةً كل التسابيح وسائر التقريظات ومجموع المدائح، أن أسمكِ هو عذبٌ حلوٌ محبوبٌ بنوعٍ هذا حده، حتى أنه لا يمكن أن يسمى ملفوظاً به من أحدٍ من دون أن يشتعل في قلبه لهيب نار الحب نحو الله ونحوكِ، بل بأكثر من ذلك أنه يكفي لأسمكِ أن يستحضر بأزاء عقل أحدٍ من محبينكِ. لكي يضرم فيه زيادة المحبة لكِ والتعزية له: ويقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أنه أن كان المال يعزي الفقراء لأنه يزيح عنهم شقاهم، فكم بأبلغ من ذلك يعزينا نحن البائسين أسمكِ يا مريم، اذ أنه أفضل جداً من خيرات الأرض ينعش قلوبنا ويزيح شدائدنا ويخفف عنا ثقل مشقات هذه الحياة.* وبالأجمال أن أسمكِ يا والدة الإله موعبٌ بجملته من النعم والبركات الإلهية، حسبما يخاطبكِ القديس متوديوس، بنوع أنه، كشهادة القديس بوناونتورا، لا يستطاع أن يلفظ أسمكِ من أحدٍ بالعبادة الواجبة من غير أن يجلب له نعمةً ما. ويقول أيديوطا: فليؤت بإنسانٍ ممن تصلبت قلوبهم كالجلمود، وممن قد يئسوا من الرجاء فاذا كان هذه الإنسان يسميكِ يا بتولاً كلية رأفتها، فإسمكٍ هو ذو قوةٍ مقتدرةٍ تستطيع أن تلين صلابة ذاك القلب، لأنكِ أنتِ هي تلك التي تشجعين الخطأة على الثقة، وتنعشين في قلوبهم الرجاء الوطيد بنوال الغفران وبأكتساب النعمة: ثم أن القديس أمبروسيوس يهتف قائلاً: أن أسمكِ الكلية حلاوته يا مريم هو مسحةٌ ذات عرفٍ زكيٍ تجلب نشر رائحة النعمة الإلهية. ولذلك يتضرع هذا القديس نحو الأم الإلهية قائلاً: فلتنحدر اذاً الى أنفسنا هذه المسحة الخلاصية. أي كأنه يقول هكذا: أيتها السيدة صيرينا أن نتذكر مراتٍ مترادفةً في أن نلفظ أسمكِ بحبٍ ودالة. من حيث أن تسميتكِ على هذه الصورة هي علامةٌ توضح أما أننا ممتلكون نعمة الله، وأما أننا من دون أبطاءٍ نكتسبها جديداً بعد فقدها، ولذلك يكون ذكر أسمكِ عربوناً لنا في أكتسابنا إياها.* أما لاندولفوس الذي من ساسونيا فيقول: أن التذكر في أسمكِ يا مريم يعزي المحزونين، ويرد الى السلوك في محجة الخلاص الأمينة أولئك الذين خرجوا عنها تائهين، ويشجع الخطأة لكيلا يهملوا ذواتهم أن يسقطوا في خطية قطع الرجاء من الخلاص. وقال الأب بالبارتوس: أنه كما أن يسوع المسيح قد أشفى العالم كله من شروره ودثاره بواسطة الخمس جراحات التي أحتملها بجسده المقدس، فهكذا مريم بواسطة أسمها المثلثة قداسته المركب من خمسة أحرفٍ (كما هو باليوناني واللاتيني) تجلب يومياً الغفران للخطأة عن مآثمهم:.* ومن ثم قد شبه أسم مريم المقدس في سفر النشيد بالزيت اذ يقال: أن أسمكِ دهنٌ مهراق لهذا أحبتكِ الشباب: (ص1ع2) فيفسر هذا النص الطوباوي الانوس: بأنه كما أن الدهن يشفي السقماء ويبعث رائحةً زكيةً، ويضرم اللهيب. فكذلك أسم مريم يشفي الخطأة من أسقامهم الروحية، وينعش القلوب، ويضرم فيها نار الحب الإلهي. ولهذا يحرض ريكاردوس الذي من سان لورانسوس الخطأة مشجعاً إياهم على أن يبادروا الى الأستغاثة بهذا الإسم العظيم، لأن به كفاءةً لأن يبرئهم من أدواء عزائهم الرديئة كافةً، اذ أنه لا يوجد مرضٌ بهذا المقدار عضالٌ حتى أنه لا يشفى من قوة أسم مريم المجيد.* وبضد ذلك، كما يبرهن توما الكامبيسي: أن الشياطين يخافون مرتعدين من سلطانة السماء بنوعٍ هذه صفته. حتى أنهم بمجرد ذكر أسمها العظيم يهربون من أمام ذاك الذي يلفظه بفمه كالهرب من لهيب نارٍ متأججةٍ. ثم أن البتول المجيدة هي عينها أوحت للقديسة بريجيتا بأنه لا يوجد في هذا العالم خاطئٍ ما بارد القلب بالكلية من محبة الله، ويستغيث بأسمها مع قصده على الرجوع الى الله بالتوبة، من دون أن يبتعد عنه الشيطان حالاً: كما أنها أثبتت ذلك مرةً أخرى بقولها للقديسة المذكورة: أن الشياطين جميعاً يهابون أسمها ويخافونه ويحترمونه بنوع أنهم حالما يستموعونه ملفوظاً فيهملون تلك الأنفس التي يكونون مقيدينها بمخاليبهم ويهربون عنها.* وكما أن الملائكة الأشرار يبتعدون عن الخطأة الذين يستغيثون بأسم مريم. فهكذا بالعكس يقترب الملائكة الأبرار بأبلغ نوعٍ نحو أنفس أولئك الذي يستدعون لمعونتهم هذا الإسم بعبادةٍ، كقول والدة الإله عينها بالوحي للقديسة بريجيتا (حسبما هو مدون عند ديونيسيوس كارتوزويانوس) ويشهد القديس جرمانوس: بأنه نظير ما أن التنفس هو علامة وجود الحياة. فكذلك تكرار أسم مريم مراتٍ مترادفةً هو علامةً تشير أما الى أن النفس هي حيةٌ بالنعمة الإلهية. وأما أنها من غير تأخيرٍ تحيى ثانيةً بأكتساب نعمة التقديس، لأن هذا الإسم المقتدر له قوةٌ على أن يستمد المعونة والحياة لمن يستغيث به بحسن تدينٍ: وبالأجمال أن هذا الإسم العجيب هو نظير البرج الشاهق الحصين الذي اذ يحتمي فيه الخاطئ فينجو من الموت. من حيث أن هذا البرج السماوي المنيع يحمي الخطأة بأمنٍ ويخلصهم ولئن وجدوا من الميؤوسين: (هذا ما يقوله ريكاردوس الذي من سان لورانسوس).* ثم أن هذا البرج الحصين ليس فقط ينجي الخطأة من أن يحل بهم العقاب، بل أيضاً يحمي ضمنه الأبرار من وثبات الجحيم ضدهم. كما يورد ريكاردوس عينه مبرهناً: بأنه بعد أسم يسوع لا يوجد أسمٌ آخر يحوي المعونات القوية. ويجلب للبشر الأشفية العجيبة بمقدار ما هو أسم مريم المجيد. لا سيما لأنه أمرٌ معروفٌ عند الجميع بما أن التجربة تحققه، هو أن المتعبدين لمريم يجدون في أسمها المقدس قوةً عظيمةً لإبادة التجارب الدنسة، ومن ثم يتفلسف المعلم المذكور عينه عند تفسيره هذه الكلمات المدونة من القديس لوقا الأنجيلي (ص1ع27) وهي: وأسم العذراء مريم: اذ يقول: أن هاتين اللفظتين أي عذراء ومريم الموردتين من الأنجيلي البشير متحدتين معاً من دون أفتراق أحدهما عن الأخرى. توضحان لنا هذا الأمر وهو أن أسم هذه البتول الكلية الطهارة لا ينبغي أن يكون منفصلاً أصلاً عن العفة. ولذلك يقول القديس بطرس الذهبي نطقه: أن أسم مريم هو دليل الطهارة والعفة: مريداً أن يعني بهذا أن ذاك المسيحي الذي يكون تجرب بأفكارٍ ضد العفة، وحصل مرتاباً، هل أنه قبلها أو أستلذ بها أم لا. فأن كان يعرف ذاته أنه حين التجربة ذكر أسم مريم مستغيثاً بمعونتها فهذا هو دليلٌ أكيدٌ على أنه لم يتدنس بزلةٍ ضد العفة في تلك التجربة.* فلأجل ذلك ينبغي لنا أن نتمسك بمشورة القديس برنردوس القائل: أفتكر يا هذا في مريم، وأستغث بها في حين الأخطار والشدائد والأرتيابات، ولا تبعدن مريم لا عن فمك ولا عن قلبك. وكان هذا القديس يقول: فلنفتكر في مريم حين حصولنا في أي خطرٍ كان من شأنه أن يورطنا في خسران النعمة الإلهية، ولنستغث بأسمها جملةً مع أستغاثتنا بأسم يسوع، لأن هذين الأسمين يستعملان دائماً متحدين أحدهما مع الآخر. وليستمرا بأتصالٍ في قلوبنا وفي أفواهنا من دون أن يفارقانا زمناً مستطيلاً، لأن لهذين الأسمين الكلية قداستهما قوةً عظيمةً لأن يحفظانا من السقوط بالخطيئة. ولأن يجعلانا ظافرين بكل التجارب: فالنعم الموعود بها من يسوع المسيح لأولئك الذين يكرمون أسم مريم هي جليلةٌ ساميةٌ، لأنه اذ كان تعالى نفسه متكلماً مع والدته المجيدة قد صير القديسة بريجيتا أن تفهم حسناً في الوحي، أن كل من يستغيث بأسم مريم بثقةٍ ورجاءٍ وبعزمٍ على أصلاح سيرته، يفوز ب 3 أنعامات خصوصية وهي: التوجع الكامل على خطاياه، والوفاء عنها، ثم التقوى المؤدية الى الكمال المسيحي، وبعد ذلك أخيراً ينال السعادة الأبدية. لأنه يضيف الى هذا المخلص نفسه في الوحي بقوله: أن كلماتكِ يا أمي هي عزيزةٌ لدي ومحبوبةٌ مني جداً حتى أني لا أقدر أن أنكر عليكِ إيهاب شيءٍ مما تطلبينه. أما القديس أفرام السرياني فقد أتصل الى أن يقول: أن أسم مريم هو مفتاح باب السماء لذاك الذي يتلفظ به بحسن عبادةٍ. ولهذا بالصواب يلقب القديس بوناونتورا مريم البتول: بأنها خلاص المستغيثين بأسمها أجمعين. كأن مجرد الأستغاثة بهذا الإسم المجيد يستمد لهم نوال الخلاص الأبدي. كما أن العلامة أيديوطا يثبت: أن الأستغاثة بأسم مريم المقدس تقود الى أكتساب نعمةٍ فائقةٍ في السخاء والفاعلية في هذه الحياة، والى نوال مجدٍ سامٍ في الدهر العتيد.* وأما توما الكامبيسي فيختتم كلامه في هذا المعنى مع القارئين قائلاً لهم: فأن كنتم يا أخوتي ترغبون اذاً أن تصادفوا التعزية في أية شدةٍ وتجربةٍ تصيبكم، فبادروا بالألتجاء الى مريم البتول، وأستغيثوا بأسمها وكرموها وسلموا ذواتكم لعنايتها، فأفرحوا مع مريم، وأبكوا معها، وأمشوا برفقتها، ومعها فتشوا على يسوع. وأخيراً أهتموا في أن تعيشوا مع يسوع ومريم جملةً، وفي أن تموتوا بين أيدهما. فاذا فعلتم ذلك فلا ريب في أنكم تتقدمون دائماً ناجحين في طريق الرب، لأن مريم بكل طيبة خاطرٍ تتوسل من أجلكم لدى أبنها الإلهي الذي خلواً من أشكالٍ يستجيب طلبات هذه الأم المجيدة.* فاذاً عذبٌ هو جداً في هذه الحياة وكلي الحلاوة في قلوب عبيد مريم وفي أفواههم ذكر أسمها المقدس، لأجل النعم العزيزة التي تكسبهم إياها أستغاثتهم به حسبما لاحظنا آنفاً. ولكن هذا الأسم يعود لديهم أكثر عذوبةً وحلاوةً عند ساعة موتهم، لأجل فوزهم بميتةٍ مقدسةٍ مملؤةٍ من التعزية بأستغاثتهم حينئذٍ به. فالأب سارتوريوس كابوتوس اليسوعي يحرض جميع أولئك الذين يوجدون حاضرين عند المدنفين من الموت، على أن يذكروهم بأسم مريم مستدعينه بأفواههم مراتٍ مترادفةً مبرهناً بأن أسم الحيوة هذا الموعب من الرجاء، اذاً لفظ به بمجرد اللفظ ساعة الموت فيكفي لأن يبدد الأعداء الجهنميين، ولأن يشجع المنازعين ويعينهم في جميع شدائدهم الأخيرة. وكذلك القديس كاميلوس دالاليس قد ترك لرهبانه وصيةً وكيدةً، في أنهم حين مساعدتهم المنازعين يذكرونهم مراتٍ كثرةً بأسم يسوع وأسم مريم، حسبما هو نفسه قد استعمل ذلك دائماً مع الآخرين وأخيراً بكل حلاوةٍ وعذوبةٍ أستخدمه في ذاته ساعة أنتقاله من هذه الحياة. اذ أنه (بموجب ما هو مدون في سيرة حياته) كان في تلك الساعات الأخيرة يتلفظ بهذين الأسمين المحبوبين منه في الغاية بخشوعٍ هذا حده، حتى أن السامعين كانوا يلتهبون حباً نحوهما، وبعد ذلك اذ كانت عيناه محدقتين بأيقونتهما المقدسة والصليب في يده على صدره، قد أغرب نظره مغلقاً إياه ورقد مائتاً كنائمٍ ببهجةٍ وتعزيةٍ لا يمكن وصفهما بكفايةٍ. هذا بعد أن كانت كلماته الأخيرة التي أغلق شفتيه بها، ألفاظ أستغاثته بهذين الأسمين المجيدين يسوع ومريم الكلية حلاوتهما. ثم يقول توما الكامبيسي: أن هذه الصلاة الوجيزة المتضمنة كلمتين فقط وهما يسوع ومريم: أستغاثةً بهما، فبمقدار ما هي ساهلةٌ أن تحفظ غيباً، فبأكثر من ذلك هي حلوةٌ في تأملها وعذبةٌ في تلفظها ومقتدرةٌ معاً لأن تحمي المستغيث بها من هجمات أعداء خلاصنا.* أما القديس بوناونتورا فيقول: مغبوطٌ هو ذاك الذي يحب أسمكِ المملوء حلاوةً يا مريم والدة الإله، لأن أسمكِ هو هكذا مجيدٌ وعجيبٌ حتى أن كل أولئك الذين يستدعونه ذاكرينه بأفواههم أستغاثةً به عند ساعة موتهم، فلا يعود يلم بهم خوفٌ ما من هجمات الأعداء كافةً.* فيا لسعادة من يحصل على الحظ الطوباوي في أن يموت نظير ما رقد بالرب الأب فولجانسيوس الراهب الكبوجي الذي من أسكولى. لأنه قد مات وهو مرتلٍ هذه الكلمات بأبتهاجٍ هاتفاً: يا مريم يا مريم يا من هي أعظم جمال يفهم، أريد الذهاب معكِ وها أنا برفقتكِ. أو نظير مارقد بالرب الطوباوي أريكوس الراهب الجيستارجيانسي (الموردة بأعمال حياته في تاريخ رهبنته تحت سنة 1159) الذي آخر كلمةٍ أغلق فمه عليها مائتاً كانت أسم مريم. فلنصل اذاً أيها القارئ الحبيب متضرعين لدى الله في أن يهبنا هذه النعمة وهي أن تكون كلمتنا الأخيرة ساعة موتنا التلفظ بأسم مريم الحلو، كما كان يشتهي راغباً القديس جرمانوس، ويلتمسه طالباً بقوله: يا لها من ميتةٍ حلوةٍ ورقودٍ أمينٍ تلك الميتة وذاك الرقود المرافقان والمحميان من الأستغاثة بأسم مريم الخلاصي، الذي لا يمنح الله قوماً أن يستغيثوا به ساعة موتهم. الا أولئك الذين هو تعالى يريدهم أن يخلصوا بأرادةٍ خصوصيةٍ.* فأنا أحبكِ كثيراً يا سيدتي وأمي. ولأجل محبتي إياكِ أحب أسمكِ المقدس أيضاً. قاصداً بعزمٍ أكيدٍ وراجياً بمعونتكِ أن أستغيث به دائماً في مدة حياتي وفي ساعة موتي. فلنختتم اذاً الإيراد بتلك الصلاة الخشوعية التي للقديس بوناونتورا قائلاً كلٌ منا: أيتها السيدة المباركة لأجل مجد أسمكِ أحضري أنتِ لتستقبلي نفسي بعد خروجها من هذا العالم، وأنتِ أعتنقيها بيديكِ... فلا تأنفي يا مريم من أن تأتي لتعزيها بحضوركِ المملوء حلاوةً، بل كوني لها سلماً ومحجةً وصراطاً مستقيماً تبلغ به الى السماء، مستمدةً لها من أبنكِ نعمة الغفران والراحة الأبدية (كما يلتمس منكِ القديس المذكور عينه مختتماً قوله هكذا) يا مريم شفيعتنا أنه يخصكِ ان تحامي عن عبيدكِ، وأن تتخذي على ذاتكِ دعوى خلاصهم أمام منبر أبنكِ يسوع المسيح الديان الإلهي.* * نموذجٌ * أن الأب روه في تكلمه عن السبوت، والأب ليراوس في تأليفه الملقب بالتريضاجيون المريمي يخبران، بأنه في بلد غالدريا قد حدث سنة 1655 أن أبنةً ما أسمها مريم قد كانت أرسلت من عمها الى مدينة نيماغا، لتشتري من هناك من السوق المتجرية التي كانت تصير في يومٍ معلومٍ بعض مصالح لازمة. محتماً عليها بأن تبيت تلك الليلة في بيت عمتها القاطنة في المدينة المذكورة. فالجارية قد أطاعت إرادة عمها، ولكنها اذ مضت الى هناك وأنطلقت مساءً الى بيت عمتها، فهذه قد طردتها بجفاوةٍ ولم تقبلها عندها. فمن ثم أضطرت الفتاة لأن تاخذ بالرجوع عند عمها مسافرةً في الطريق ليلاً، ولكنها من شدة غيظها من عمتها قد أستدعت الشيطان بحماقةٍ. وهذا العدو الجهنمي قد ظهر لها حالاً بصورة رجلٍ واعداً إياها بأن يساعدها، بحيث أن توافقه في قضيةٍ واحدةٍ. فالأبنة الميؤوسة أجابته بأنها تعمل كل شيءٍ يريده منها. أما هو فقال لها: أنا لا أطلب منكِ شيئاً آخر سوى أنكِ منذ الآن فصاعداً لا عدت ترسمين ذاتكِ بأشارة الصليب، وأن تغيري أسمكِ: فأجابته الشقية بقولها: أنه نظراً الى رسم الصليب فأنا أبطله ولا أستعمله بعد، وأما نظراً الى أسمي مريم فهذا لأنه عزيزٌ جداً على قلبي لا أريد أن أغيره. فقال لها الشيطان: ولا أنا أعينكِ. فبعد مجادلةٍ ومقاومةٍ كثيرةٍ قد أتفقا أخيراً على هذا، وهو أن الفتاة تحفظ لذاتها أول حرفٍ فقط من أسم مريم وهكذا تدعى بهذا الحرف وهو الميم. فأنطلقا جملةً الى مدينة أنفارسا، وهناك مكثت هذه المنكودة الحظ مدة ست سنوات عائشةً بسيرةٍ ممقوتةٍ مملؤةٍ من القبائح، حتى أنها أضحت حجر عثرةٍ وصخرة شكٍ للجميع مع رفيقها إبليس اللعين. فيوماً ما قالت ميم لهذا العدو الجهنمي أنها كانت تشتهي أن تنظر مكان مولدها غالدريا، فالشيطان ولئن ظهر في الأول ممانعاً لطلبها هذا، قد أضطر أخيراً للأرتضاء به ولذلك سافرا من مدينة أنفارسا واذ جاءا الى مدينة نيماغا قد وجدا هناك في مكان المفترج المشاع مباشراً أحتفال مشهدٍ يتضمن جانباً من قصة حياة مريم البتول الكلية القداسة، فميم لما نظرت الأحتفال قد تحركت من قبل العبادة القليلة التي لم تكن ذالةً منها بالكلية نحو والدة الإله وبدأت تبكي، فالشيطان أخذ يحرضها على الخروج من ذاك المكان بقوله لها: ما لنا والأقامة ههنا، أهل يلزمنا أن نصنع مرسحاً خصوصياً. أخرجي من هنا: ومن ثم مسكها بيدها مغتصباً إياها على الخروج. الا أنها لم ترد أن تطاوعه ولهذا اذ رأى ذاته مغلوباً منها وعرف أنها فلتت من يده، فكيداً ورجزاً قد حملها الى الفضاء وطرحها في وسط ذاك المحفل، فحينئذٍ هي أخبرت الحاضرين بقصتها، ثم أنطلقت عند الكاهن لتعترف بخطاياها، الا أنه أي الخوري قد أرسلها الى أسقف كولونيا ليتبصر بأمرها، وهذا الأسقف قد أعرض واقعة الحال للحبر الروماني الذي أمر بأحضارها إليه، وهو نفسه سمع أعترافها ووضع عليها القانون للتوبة أن تحمل دائماً ثلاثة أطواقٍ من حديد، الأول في عنقها والثاني في يدها اليمين والثالث في يدها الشمال، فمريم هذه التائبة أرتضت بذلك، وحينما جاءت الى ماستريك قد دخلت الى دير الراهبات التائبات حيث عاشة أربع عشرة سنةً بأفعال توبةٍ شاقةٍ. وأخيراً اذ نهضت يوماً ما صباحاً من فراشها قد رأت الثلاثة الأطواق الحديد من ذاتها مكسورةً ومطروحةً من عنقها ومن يديها، وبعد ذلك بمدة سنتين قد توفيت بميتةٍ صالحةٍ بصيت القداسة. ودفنت مع الأطواق الحديد نفسها التي بها من حال كونها أسيرةً للجحيم قد تحررت وصارت أسيرة الفردوس بشفاعة والدة الإله سميتها التي أعتقتها وخلصتها.* خاتمة القسم الأول *تتضمن بعض صلواتٍ خشوعيةٍ مؤلفةٍ ومستعملةٍ من بعض* * القديسين تكريماً لوالدة الإله* أننا لقد أضفنا الى هذا القسم الأول الصلوات المشار إليها، ليس لأجل تلاوتها فقط مستعملةً كصلواتٍ، بل أيضاً لكي يفهم أتفاق الرأي العام الموجود فيما بين القديسين، نظراً الى عظم رحمة والدة الإله. ونظراً الى سمو أقتدارها، ثم نظراً الى الرجاء العظيم والثقة الوطيدة التي كانت لهؤلاء القديسين في هذه السيدة راسخةً ومؤسسةً على مفعول حمايتها *المنيعة* |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
المـقـالـة الأولى أعياد العذراء السبعة السنوية الفصل الأول * الأصلية وكيف أنه لائقٌ جداً بالثلاثة الأقانيم الإلهية أن * * يسبقوا ويحفظوا مريم البتول ناجيةً من دنس خطيئة * * آدم وحواء: وفيه ثلاثة أجزاء * † الجزء الأول † * في كم هو لائقٌ هذا الحفظ بأقنوم الله الآب* فلنتكلم الآن عن هذه اللياقة المختصة بالله الآب الذي هو الأقنوم الأول من الثالوث الأقدس قائلين: أنه لأمرٌ لائقٌ جداً بالآب الأزلي أن يحفظ مريم البتول ناجيةً من دنس الخطيئة الأصلية، لأن هذه العذراء هي أبنته تعالى، بل هي أبنته البكر. كما كتب عنها: أنما أنا خرجت من فم العلي بكراً قبل جميع المخلوقات: (أبن سيراخ ص24 ع5) لأن مفسري الكتاب المقدس، والآباء القديسين بل الكنيسة الجامعة نفسها، خاصةً في عيد الحبل بمريم البريء من الدنس قد خصصت كلمات هذا النص الإلهي بوالدة الإله هذه الدائمة بكارتها. على أن مريم العذراء هي أبنةٌ بكرٌ لله. أما من قبيل كونها أختيرت منتخبةً جملةً مع أبنها يسوع المسيح بالمراسيم الأزلية قبل المخلوقات كلها، كما يعلّم ذلك المدارسيون السكوتيستيون، وأما أنها هي أبنةٌ بكرٌ لله بالنعمة بحسب كونها أعدت مختارةً أماً حقيقيةً لفادي الجنس البشري، بعد أن الله سبق وعرف الخطيئة العتيدة حدوثها، كما يعلّم المدارسيون التوماويون. الا أن هؤلاء وأوالئك على حدٍ سواء يتفقون برأيٍ واحدٍ في أن يسموا هذه البتول المجيدة أبنةً لله البكر، الأمر الذي هو مملؤٌ من اللياقة. أنها أي مريم العذراء لا تكون وجدت أصلاً أسيرةً للوسيفوروس، بل دائماً أن تكون حصلت ممتلكةً من الله وحده خالقها، حسبما تقول هي عن نفسها: أن الرب أقتناني بدأً لطرقه قبل أن يصنع شيئاً من البدء: (أمثال ص8ع22) ومن ثم بالصواب قد دعيت هذه البتول من القديس ديونيسيوس البطريرك الأسكندري: أنها وحدها هي أبنةٌ وحيدةٌ للحياة، خلافاً لبقية الأنفس اللواتي يولدن بالخطيئة بناتٍ للموت.* وما عدا ذلك أنه قد لاق في الغاية أن الآب الأزلي يخلق هذه الأبنة في حال نعمته، لأنه عز وجل قد أقامها منتخباً إياها بصفة مصلحة للعالم الهالك، ووسيطة للصلح والسلام فيما بينه تعالى وبين البشر. حسبما يلقبها بذلك الآباء القديسون، خاصةً القديس يوحنا الدمشقي (في ميمره الأول على ميلادها) اذ يقول نحوها هكذا: أنكِ لقد ولدتِ أيتها البتول المباركة، لتستخدمي صائرةً خلاصاً لسكان الأرض كلها: ولذلك يعلم القديس برنردوس قائلاً: أن سفينة نوح كانت رسما لمريم العذراء لأنه كما أن البشر قد خلصوا من الغرق العرمرمي بواسطة تلك السفينة، فهكذا نحن خلصنا من غرق الخطيئة بواسطة مريم، غير أن الفرق الكائن فيما بين الرسم والحقيقة هو أنه بواسطة السفينة النوحية قد خلص نفرٌ يسيرٌ (أي ثمانية أشخاص فقط) وأما بواسطة مريم فقد خلص الجنس البشري بأسره، ولذلك يسميها القديس أثاناسيوس الكبير أنها هي حواء الجديدة أم الحياة. لأن حواء الأولى قد وجدت هي أم الموت، وأما البتول المجيدة فهي أم الحياة. والقديس ثاوفانوس أسقف نيقية يتفوه نحوها هاتفاً: السلام عليكِ يا مصلحة حزن حواء المنقذة إياها من الغموم. والقديس باسيليوس الكبير يصرخ إليها قائلاً: السلام عليكِ يا وسيطة الصلح فيما بين الله والبشر. والقديس أفرام السرياني يهتف نحوها بقوله: السلام عليكِ يا مصالحة العالم بأسره مع خالقه.* فأمرٌ واضحٌ هو أن من يدخل وسيطاً فيما للصلح، لا ينبغي أن توجد فيما بينه وبين االمهان من الفريق المهين أدنى عداوةٍ. وبأكثر من ذلك يلزمه أن يكون ناجياً من الأشتراك بجريرة الأهانة عينها. لأنه كما يقول القديس غريغوريوس الكبير: أنه لكي يستعطف خاطر القاضي ويهدئ غضبه لا يحب أن يمضي إليه وسيطاً بذلك، رجلٌ يكون عدواً له، والا فعوضاً عن أكتساب رضوان القاضي وأجتلابه الى الصفح يشتد بالأكثر رجزه ضد المذنب. ولهذا اذ كان يلزم أن مريم تدخل وسيطةً للصلح فيما بين الله والبشر، فبكل الوجوه واللياقة كان يلزمها أن لا توجد هي أيضاً مدنسةً بالخطيئة، ولا تظهر أمامه تعالى مشابةً بالعداوة له عز وجل، بل كان يقتضي أن توجد بكليتها صديقةً له بريئة من الذنب، ناجية من دنس المعصية.* ثم بأبلغ من ذلك، لاق واجباً أن الله يسبق ويحفظ هذه البتول من تبعة الخطيئة الجدية، لأنه جلت قدوسيته قد كان أعدها مختاراً إياها لأن تسحق رأس الحية الجهنمية، التي لكونها خدعت أبوينا الأولين، فقد سببت بسقطتهما الموت للجنس البشري جميعه. كما يظهر مما قاله الحق بالذات، اذ أبرز الحكومة ضد هذه الحية الخبيثة بقوله لها: وأضعن العداوة بينكِ وبين الأمرأة. وبين نسلكِ ونسلها وهي تسحق رأسكِ: (تكوين ص3ع15) فأن كانت مريم اذاً هي تلك الأمرأة الشجاعة التي أوجدها الله في العالم لتنتصر على لوسيفوروس، فبالحقيقة لم يكن لائقاً أن تكون هي قبلاً وجدت مغلوبةً من هذا العدو الجهنمي حاصلةً تحت أسره، بل بالأحرى قد كان بالصواب أن توجد هي بريئةً من دنس كل خطيئةٍ، وناجيةً من أية ولايةٍ كانت للعدو الجحيمي عليها، فأي نعم أن لوسيفوروس المتعجرف قد أجتهد في أن يدنس نفس هذه البتول الكلية الطهارة، بالنوع الذي به قد كان دنس بسمه القتال أنفس جميع البشر. ولكن فليكن دائماً مسبحاً وممجداً صلاح الله الذي سبق لأجل ذلك وأملأ هذه النفس المباركة نعماً هكذا عظيمةً، حتى أنها اذ أستمرت ناجيةً من تبعة المعصية، وسالمةً من دنس كل خطيئةٍ. فقد أستطاعت على هذه الصورة أن تحارب الحية الجهنمية المتكبرة وتغلبها منتصرةً عليها، كما يقول القديس أوغوسطينوس: ( أو ذاك المنسوب له تفسير سفر التكوين): أنه اذ كان الشيطان هو رأس الخطيئة الأصلية، فمريم قد سحقته لأجل أن الخطيئة لم تجد في نفسها النقية مدخلاً، وهي وجدت بريئةً من كل دنسٍ. ثم كما يقول القديس بوناونتورا واضحاً: أنه قد كان واجباً أن مريم البتول الطوباوية المزيحة عنا العار والأهانة تنتصر على الشيطان، بحسب كونها لم تحصل تحت حوزته بنوعٍ من الأنواع أصلاً.* الا أنه بوجهٍ أخص من كل الأوجه – لائق أولاً وبدأً بالآب الأزلي أن يصير أبنته هذه خاليةً بالكلية من دنس خطيئة آدم، من هذا القبيل خاصةً، وهو من كونه أنتخبها وميزها وأعدها لأن تكون أماً بالجسد لأبنه الإلهي الوحيد. ولذلك يقول نحوها القديس برنردينوس السياني: أنكِ قد أنتخبتِ مرسومةً في عقل الله قبل الخلائق كلها، لكي تعطي أنتِ الكون الإنساني لله عينه: فاذاً قلما يكون لأجل هذه الغاية اذا لم تكن غاياتٌ أخرى غيرها. أي لكي يكرم الله الآب أبنه الذي هو إلهٌ مساوٍ له، فكان من الصواب أنه تعالى يخلق والدة أبنه هذه بريئة من كل دنسٍ وعيبٍ. فيقول المعلم الملائكي القديس توما: أن كل الأشياء التي رسمت مختصةً بالله، يلزمها أن تكون مقدسةً نقيةً طاهرةً ناجيةً من كل دنسٍ أم وصمةٍ أو عيبٍ. ومن ثم عندما كان هيأ داود الملك تلك المواد العظيمة من الجواهر والذهب والفضة والنحاس وكل ما كان يلزم لتشييد هيكل الله في أورشليم بنوعٍ لائقٍ بالرب قال: لأن هذا البنيان العظيم ليس هو لإنسانٍ بل لله رب العالمين: (سفر الأيام الأول ص29ع1) فكم اذاً بأبلغ من ذلك يلزمنا أن نعتقد بالصواب في أن خالق الكون الأعظم، حينما هيأ لأبنه الإلهي عينه أماً، قد لزم الأمر أن يجملها عز وجل بجميع تلك النعم الأثمن والأسمى، لكي تكون مسكناً لائقاً بإلهٍ. ويثبت هذا القول نفسه الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس، بل أن الكنيسة المقدسة عينها تحقق لنا ذلك بشهادتها في أن الله قد هيأ نفس البتول الطوباوية وجسدها، وأعدهما ليكونا منزلاً لائقاً في الأرض لأبنه الوحيد. اذ يقول في صلواتها نحو الله الآب هكذا: أيها الإله الأزلي القادر على كل شيءٍ، يا من هيأت نفس العذراء الأم المجيدة وجسدها بنوعٍ يليق لسكنى أبنكَ، كما أن روحكَ القدوس قد شارككَ في هذا الأستعداد:* فأمرٌ معلومٌ هو أن كرامة الأولاد الأولى وشرفهم الأول هو أتلادهم من والدين شرفا، كما هو مكتوبٌ: أن فخر الأولاد أباؤهم: (أمثال ص17ع6) ولذلك فالأحتقار الذي يلم بأولئك الأولاد من قبيل أنهم لم يملكوا خيراتٍ أرضيةٍ أو علوماً، هو محتملٌ في العالم بأكثر سهولةٍ من الأحتقار الملم بأولئك المولودين مولداً ذا عيبٍ وأهانةٍ. لأن الأبن الفقير يمكنه أن يكتسب بأتعابه وجهده الغنى ويصير مثرياً من الموجودات، وكذلك الأبن العاري من العلوم يمكنه درسها وأكتسابها ولو بعد حينٍ، وأما المولود من سلالةٍ دنيةٍ أو معابةٍ، فأمرٌ كلي الصعوبة هو أن يمكنه البلوغ الى مراتب الشرف. واذا أتفق له أن يحصل على ذلك فدائماً يبقى تحت الخوف من أن أحداً يعيره بدناءة أصله، أو بشائبة مولده، أم بعيب سلالته. فكيف اذاً يمكننا أن نتصور أمراً مستطاعاً لائقاً أن الله الآب، اذ هو قادرٌ أن يجعل أبنه أن يولد متجسداً من أمٍ شريفةٍ بشرفٍ حقيفيٍ. وهو حفظه إياها ناجيةً من دنس الخطيئة بنعمةٍ خصوصيةٍ منه، ولم يرد أن يفعل ذلك، بل شاء أنه يتجسد من أمٍ معابةٍ بجريرة الأثم والمعصية، سامحاً بأن لوسيفوروس يستطيع أن يعيره بأنه ولد من أمٍ حصلت في وقتٍ ما أسيرةً تحت حوزته الجهنمية عدوةً لله، لا لعمري أن الله الآب لم يسمح بذلك قط، لكنه سبق ودبر ما يليق بكرامة أبنه الوحيد، مصيراً أن تكون والدة هذا الإبن الإلهي مستثناةً محفوظةً بريئة من العيب، وناجية من دنس المعصية الأصلية، لتوجد بكليتها أماً لائقةً لأبنٍ هذه صفته. فهكذا تشهد لنا الكنيسة اليونانية في المينولوجيون في فرض اليوم الخامس والعشرين من شهر آذار قائلةً: أن العناية الإلهية قد صنعت البتول الكلية القداسة بتدبيرٍ خصوصيٍ كاملةً، من قبل أن تبتدئ هي بالحياة. نقيةً طاهرةً بريئةً من العيب، بنوع أنها تكون بكليتها لائقةً ومستحقةً أن تصير للمسيح أماً.* فرأيٌ عامٌ فيما بين اللاهوتيين متفقٌ عليه من جميعهم هو أنه لم يكن منح قط لأحدى المخلوقات نوعٌ ما من المواهب، الا وقد وجدت الطوباوية مريم البتول غنيةً بذاك النوع نفسه مما نالته من الله، فهكذا يقول القديس برنردوس: أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن الشيء الذي منح لبعض البشر لا يمكن أن يكون نكر أعطاؤه لبتولةٍ هكذا عظيمةٍ: ويقول القديس توما الفيلانوفي: أنه لم يكن منح أصلاً شيءٌ ما من المواهب لأحدٍ من القديسين. الا وقد تلألأ بنوعٍ متفاضلٍ سامٍ جداً في شخص مريم البتول منذ الدقيقة الأولى من حياتها.* ومن حيث أنه أمرٌ حقيقيٌ هو أنه فيما بين والدة الإله وبين عبيد الإله يوجد فرقٌ لا يحد، كقول القديس يوحنا الدمشقي الذائع الصيت: أنه لتباعدٌ غير متناهٍ كائنٌ فيما بين عبيد الله وبين أمه تعالى: فأمرٌ صادقٌ هو أن يحتسب بالحقيقة أن الله قد منح أنعاماتٍ وأختصاصاتٍ ساميةً جداً لوالدته بالجسد، متفاضلةً جداً عن تلك التي منحها لعبيده، وهذا هو تعليم القديس توما اللاهوتي القائل: أنها لأعظم وأجل في كل نوعٍ، ومتميزةٌ جداً هي النعم والأختصاصات الممنوحة لوالدة الإله، وفائقةٌ في الغاية عن تلك الممنوحة لعبيده عز وجل: فاذا أفترضنا ذلك حقيقةً فيبرهن عنه القديس أنسلموس المحامي العظيم عن الحبل البريء من الدنس بوالدة الإله اذ يقول هكذا:" أهل أن حكمة الله لم تستطع أن تهيئ لأبنه الإلهي مسكناً طاهراً نقياً بحفظها هذا المسكن بريئاً من كل دنسٍ ملتحقٍ بالطبيعة الإنسانية، أو هل أن الله الذي أستطاع أن يحفظ الملائكة في السماء غير معابين ولا مدنسين بجريرة الأثم، في حين سقوط عددٍ عظيمٍ من الأرواح الشريرة، وما قدر مع ذلك أن يحفظ والدة أبنه التي هي سلطانة الملائكة من تبعة سقطة البشر العامة". ثم أني أضيف الى ذلك قائلاً هل أن الله قد أستطاع أن يعطي النعمة لحواء أمنا الأولى بأن تأتي الى العالم بريئةً من العيب والدنس في حال البر الأصلي، وبعد ذلك ما قدر تعالى أن يعطي النعمة لمريم العذراء.* كلا، أن الله قد أستطاع أن يصنع هذا حسناً وقد فعله حقاً. اذ أن الصواب والعقل النطقي يوجبانه بكل لياقةٍ، كما يقول القديس أنسلموس عينه هكذا:" أن تلك البتول التي قد أعدها الله لأن يعطيها أبنه الإلهي نفسه أبناً لها، قد صيرها مزينةً بنقاوةٍ هذا حدها، حتى أنها ليس فقط تفوق بطهارتها على البشر جميعاً وعلى الملائكة كافةً، بل أيضاً أن تكون هي الأعظم بعد الله فيما يمكن للفهم أن يدركه". وبأكثر أيضاحٍ من ذلك يقول القديس يوحنا الدمشقي: أن الله قد حفظ مريم البتول وجسدها بحسبما كان يليق بها أن تقتبل في أحشائها الإله متجسداً، على أنه من حيث أن الله قدوسٌ هو ميستريح في القديسين.* ومن ثم قد أستطاع حسناً أن يتفوه الآب الأزلي نحو أبنته هذه المحبوبة منه قائلاً: كسوسنٍ بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات، (نشيد ص2ع2) أي أنكِ يا أبنتي لكائنةٌ أنتِ فيما بين جميع بناتي الأخرات كزهرة الزنبق بين الأشواك. لأن تلك البنات كلهن مدنساتٌ بجريرة المعصية وبتبعة الخطيئة، وأما أنتِ فوجدتِ دائماً بريئةً من الدنس ناجيةً من العيب صديقةً حبيبةً لي كقرينةٍ طاهرةٍ.* † † الجزء الثاني † * في أنه لائقٌ بالأقنوم الثاني الذي هو الأبن أن يسبق ويحفظ* * مريم العذراء من دنس الخطيئة الأصلية، بحسبما هي أمه* وهذا هو موافقٌ لما كتبه الرسول الإلهي بقوله: أن مثل هذا لائقٌ أن يكون لنا رئيس كهنةٍ باراً لا شر فيه ولا دنس، منفصلاً عن الخطأة وصائراً أعلى من السموات: (عبرانيين ص7ع26) فعن هذا النص يقول أحد العلماء البارعين: أنه على موجب تعليم القديس بولس: لائق وواجب أن فادينا يكون منفصلاً ليس عن الخطايا فقط. بل عن الخطأة أيضاً: كما يفسر ذلك القديس توما اللاهوتي قائلاً: قد كان واجباً به تعالى الذي، أنما جاء الى العالم ليرفع خطيئة العالم أن يكون منفصلاً من الخطأة، نظراً الى الذنب الذي حصل آدم تحت تبعته. فاذاً كيف لكان يمكن أن يصدق القول عن يسوع المسيح أنه منفصلٌ عن الخطأة، لو كان أتخذ له أماً قد وجدت مدنسةً بجريرة الخطيئة الأصلية.* ثم أن القديس أمبروسيوس يقول: أن المسيح قد أختار لذاته هذا الأناء ليس من الأرض بل من السماء، لكي ينحدر بواسطته من السماء الى الأرض، وقد كرسه لذاته هيكلاً طاهراً مقدساً. مريداً بذلك هذا القديس أن يشير عن كلمات الرسول الإلهي وهي: أن الإنسان الأول من الأرض ترابي والإنسان الثاني الرب من السماء: (قرنتيه أولى ص15ع47) وأنما يسمي القديس أمبروسيوس هذه الأم الإلهية إناءً سماوياً، لا كأنها لم تكن هي من الأرض بحسب طبيعتها: كما حلم الأراتقة. بل هي سماوية بالنعمة، لأنها هي فائقةٌ على الملائكة السماويين بالقداسة والطهارة. حسبما كان يليق بإله المجد الذي أعدها لأن يسكن فيها متجسداً من أحشائها. كما أوحى القديس يوحنا المعمدان للقديسة بريجيتا بقوله لها: أنه لم يكن لائقاً بملك المجد أن يسكن قاطناً، الا في الأناء الكلي النقاوة، والمنتخب منه قبل الملكية والبشر أجمعين. وليضف الى ذلك ما أعلنه الآب الأزلي نفسه بالوحي لهذه القديسة وهو: أن مريم قد كانت إناءً نقياً وليس بنقيٍ، وهي نقيةٌ لأنها جميلةٌ بكليتها، وليست بنقيةٍ لأنها ولدت من والدين مدنسين بالخطيئة الأصلية، ولكن قد حبل بها غير مدنسةٍ بالخطيئة الجدية، لكي يولد منها أبني من غير خطيئةٍ: فينبغي هنا أن نلاحظ هذه الكلمات الأخيرة، أي حبل بها من دون خطيئةٍ، لتلد الأبن الإلهي خارجاً عن خطيئةٍ، لا كأنه كان ممكناً أن أبن الله يولد بالخطيئة، بل كيلا يحصل مهاناً من قبيل كونه ولد من أمٍ وجدت وقتاً ما مدنسةً بالخطيئة الأصلية أسيرةً للعدو الجهنمي.* فالروح القدس يقول: أن كرامة المرء هي كرامة أبيه، وقباحة الأبن هي الأب بلا كرامةٍ: ( ابن سيراخ ص3ع13) ولهذا كتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن يسوع المسيح قد حفظ جسد مريم البتول والدته بريئاً من الفاساد بعد موتها، لأنه لكان الأمر راجعاً لأعانته تعالى، لو كان أعترى الفساد والنتن لحمان جسد هذه السيدة البتولي، الذي منه هو كان لبس الناسوت. فاذاً أن يكن أمراً مهيناً ليسوع المسيح أن يولد من أمٍ ذات جسدٍ لم يكن محفوظاً من فساد النتانة بعد الموت، فكم لكانت الأهانة له عز وجل أعظم، لو أنه ولد من أمٍ كانت نفسها تدنست بنتانة فساد الخطيئة الأصلية. ثم ما عدا ذلك أنه لشيءٌ حقيقيٌ هو أن جسد يسوع المسيح هو من جسد مريم البتول بعينه، ولذلك يقول القديس أوغوسطينوس: أن لحمان جسد المخلص قد أستمرت بعد قيامته من الموت أيضاً هي هي نفسها التي كان هو لبسها من جسد والدته العذراء. ومن ثم يقول القديس أرنولدوس كارنوتانسه: أن جسد يسوع وجسد مريم هما جسدٌ واحدٌ، ولذلك أنا أعتبر أن مجد أبن الله مع مجد والدته ليسا هما مجداً مشتركاً فقط، بل مجدٌ هو هو بعينه: فاذاً من حيث أن ذلك هو شيءٌ حقيقيٌ. فلو كان الحبل بالطوباوية مريم البتول قد تم بحال دنس الخطيئة الأصلية، فلئن لم يكن أبنها الإلهي أتخذ عنها ومنها هذا الدنس لذاته أصلاً، فمع ذلك لكان التحق به تعالى على الدوام نوعٌ ما من العيب، لأتخاذه لذاته لحماناً ناسوتيةً قد كانت وقتاً ما مدنسةً بنفس أمه الملتحق بها دنس الخطيئة الجدية، والصائرة إناءً قبيحاً. والخاضعة لولاية لوسيفوروس.* فمريم الطوباوية هي ليست أماً فقط للمخلص. بل هي أمٌ لائقةٌ أيضاً ومستحقةٌ له عز وجل، كما يسميها الآباء القديسين كافةً. فيقول نحوها القديس برنردوس: أنكِ أنتِ وحدكِ وجدتِ أهلاً ومستحقةً لأن يسكن في حجرتكِ البتولية ملكَ الملوك، الذي قبل أن يقطن فيكِ قد سبق وأعدكِ لذاته. ويقول القديس توما الفيلانوفي: أن مريم البتول من قبل الحبل الإلهي وجدت موضوعاً قابلاً بلياقةٍ لأن تصير أماً لله. بل أن الكنيسة المقدسة نفسها تشهد لنا في إحدى صلواتها: بأن البتول القديسة قد أستحقت أن تكون أماً ليسوع المسيح: وفي هذا الشأن كتب القديس توما اللاهوتي قائلاً: أن مريم ليس من ذاتها أستطاعت أن تستحق تجسد الكلمة الإلهي من أحشائها، بل أنها بقوة النعمة الإلهية قد أستحقت هذا الكمال الذي جعلها أهلاً ومستحقةً لأن تكون أماً لائقةً لإلهٍ: وكذلك يقول القديس بطرس داميانوس: انها لأجل سمو قداستها الفريدة من قبل نعمة الله قد أستحقة أن تعتبر أهلاً لأن تقتبل الله في أحشائها.* فاذا تبرهن كما تقدم القول، أن مريم البتول قد وجدت أماً مستحقةً وأهلاً لله، فأية درجةٍ ساميةٍ من الفضيلة والكمال لائقة بها (كما يقول القديس توما الفيلانوفي) ثم أن المعلم الملائكي نفسه يورد قائلاً: أن الله حينما يختار أحداً الى دعوةٍ أو مرتبةٍ ما، فهو تعالى يصيره موضوعاً قابلاً لذلك بلياقةٍ. ومن ثم اذ أنه عز وجل قد أختار مريم أماً له، فبالحقيقة قد صيرها بواسطة نعمته موضوعاً لائقاً مستحقاً لهذا المقام، ولذلك هذه البتول القديسة لم تسقط قط بخطيئةٍ فعليةٍ، حتى ولا بخطيئةٍ عرضيةٍ، والا لما كانت وجدت هي أماً أهلاً ولائقةً ليسوع المسيح، لأن عيب هذه الأم وعدم أستحقاقها لكان يلتحق بأبنها أيضاً، لحصوله على أمٍ خاطئةٍ. فأن كان اذاً أفتراض سقوط مريم البتول بخطيئةٍ واحدةٍ عرضيةٍ، التي لا تعدم النفس نعمة التقديس، لكان يجعلها أماً غير لائقةٍ ولا أهلاً لله، فكم بأعظم من ذلك لما كانت وجدت أهلاً لأن تصير أماً له جلت قدوسيته، لو كانت نفسها تدنست بالخطيئة الأصلية المهلكة، التي كانت صيرتها عدوةً لله وأسيرةً للشيطان، ولهذا قال القديس أوغوسطينوس في تلك الحكومة الشائعة الذكر وهي: أنه حينما يأتي الخطاب عن مريم العذراء، فلم يود أن يؤتى بذكر شيءٍ يمكن أن يتضمن زلةً ما من الزلات، أو نقصاً ما من النقائص، لأجل كرامة ذاك الرب الذي هي أستحقته أبناً لها، وبواسطته قد فازت بالنعمة التي بها أنتصرت على الخطيئة من كل جهاتها.* فمن ثم يلزمنا أن نعتبر أمراً حقيقياً صادقاً أن كلمة الله المتجسد قد أنتخب لذاته أماً لائقةً به. بنوع أنه لا يلحقه من جرائها أدنى خجالةٍ. كما يبرهن القديس بطرس داميانوس، وحسبما يورد القديس بروكلوس قائلاً: أن الرب قد سكن في تلك الأحشاء التي هو تعالى خلقها بريئةً من العيب. فمخلصنا لم يكن يغتاظ أصلاً من تسمية اليهود إياه. بنية أن يحتقروه: أبن مريم: كأنه أبن أمرأةٍ فقيرةٍ بقولهم: أليس أن أمه تسمى مريم: (متى ص13ع55) فهذا لم يسبب له تعالى عاراً، لأنه جاء الى الأرض ليعطي نموذج التواضع والصبر، ولكن من دون ريبٍ لقد كان بضد ذلك حصل له هوانٌ وسبب له العار، لو أمكن للشيطان وملائكته أن يقولوا عنه: أليس هذا هو المولود من مريم التي في وقتٍ ما وجدت مدنسةً بالخطيئة، وكانت حاصلةً أسيرةً لنا تحت حوزتنا: فلقد كان أمراً غير لائقٍ بالمخلص، لو كان يولد من أمرأةٍ مسقومةٍ بنقصٍ جسديٍ يعيبها ويبشع صورتها، أم أنها تكون معتراةً من الشيطان بجسدها، ولكن كم لكان عظم الأهانة له، لو أنه ولد من أمرأةٍ كانت حيناً ما قبيحة النفس ببشاعة الخطيئة الجدية، ومعتراة نفسها من لوسيفوروس المستولي عليها.* فغير ممكنٍ أن هذا الإله الذي هو الحكمة بالذات الا يعرف أن يهيئ لذاته في الأرض ذاك البيت اللائق لسكناه الذي كان هو مزمعاً أن يقطن فيه. والحال أنه قد كتب: أن الحكمو أبتنت لها بيتاً ودعمته بسبعة أعمدة: (أمثال ص9ع1) ولقد قدس العلي مسكنه، الله في وسطها فلن تتزعزع، يعينها الله من الغداة: (مزمور 46ع6) أي أن الله من الغداة المعبر عنه في بدء حياة مريم، قد أعانها وقدسها مسكناً له، ليعدها أماً لائقةً لذاته لأنه لم يكن ممكناً ولا لائقاً بإلهٍ كلي القداسة الا يختار لذاته بيتاً مقدساً ليسكن فيه، كما يقول المرتل نحو الله: لبيتكَ ينبغي التقديس يا رب الى طول الأيام: (مزمور93ع5) والحال أن الباري تعالى يعلن واضحاً أنه لن يدخل هو الى نفسٍ معابةٍ، ولن يقطن في جسدٍ مجرم بجريرة الأثم، اذ يقول: لأن النفس الرديئة صناعتها لن تدخل الحكمة عليها، ولن تسكن في جسمٍ غريمٍ للخطايا: (حكمة ص1ع4) فكيف اذاً نقدر نحن أن نفتكر في أن أبن الله قد أختار أن يسكن في نفس مريم البتول وفي جسدها، قبل أن يكون حفظها ناجيةً من كل شائبةٍ وعيبٍ صادرٍ عن دنس الخطيئة، وقبل أن يكون قدسها. فالقديس توما اللاهوتي يقول: أن كلمة الآب الأزلي قد سكن ليس في نفس مريم فقط، بل في مستودعها وفي أحشاء جسدها أيضاً: ولذلك ترتل الكنيسة المقدسة بقولها: أنك لم تأنف أيها السيد من أن تقطن في بطن البتولة. على أنه لقد كان أمراً تأنف منه الطبيعة الإلهية أنه تعالى يتجسد متأنساً في أحشاء القديسة أنيسا مثلاً، أو في مستودع القديسة جالتروده، أو في بطن القديسة تريزيا، لأن هؤلاء ولئن كن قديساتٍ بتولاتٍ طاهراتٍ، الا أنهن مع ذلك في وقتٍ ما كن مدنساتٍ بالخطيئة الأصلية التي هن أتلدن بها، ولكن لم يأنف عز وجل من أن يتأنس في أحشاء مريم البتول، لأن هذه العذراء المجيدة المحبوبة قد وجدت دائماً بريئةً من الدنس، وخائبةً من أدنى شائبةً أو عيبٍ صادرٍ عن الخطيئة، وقط لم تدخل تحت حوزة الحية الجهنمية ولا هنيةً زهيدةً من الزمان. ولهذا كتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن أبن الله لم يصنع لذاته بيتاً آخر أشرف من والدته مريم، التي قط لم تكن خضعت لأعدائه ولا تعرت من زينتها: وبالخلاف يقول القديس كيرللس الأسكندري (في العدد السادس من أعمال المجمع الأفسسي):" من سمع أن أحد علماء المهندسين، بعدما كان يشيد لذاته بيتاً خاصاً، فيعطي فيه حق التملك والأستيلاء عليه أولاً وبدءاً لعدوه الألد". ولهذا يقول القديس متوديوس: أن ذاك الرب الذي أمرنا بوصيته بأن نكرم والدينا، لم يرد تعالى اذ تجسد متأنساً أن يهمل تكميل هذه الوصية، بل أنه أعطى والدته كل نوعٍ من الكرامة والنعمة. ولذلك يبرهن القديس أوغوسطينوس، بأنه يلزم بالحقيقة أن يعتقد في أن يسوع المسيح قد حفظ من الفساد جسد أمه مريم بعد موتها، كما سبق القول، لأنه اذا لم يكن يصنع هذا لما كان حفظ حقاً الشريعة المرسومة منه التي، كما أنها تأمر بتكريم الوالدين، كذلك تنهي عن أهانتهم.* فكم لكان نقص يسوع في تكريم والدته، لو أنه لم يكن حفظها من تبعة خطيئة آدم، فيقول الأب توما أرجانتينا أحد رهبان قانون القديس أوغوسطينوس: أنه يرتكب الخطأ من دون ريبٍ ذاك الأبن الذي، مع مقدرته على أن يحفظ والدته من دنس الخطيئة الأصلية لا يريد أن يفعل ذلك. فالشيء الذي يحسب علينا خطيئةً يلزم أن يعتقد أنه لم يكن ملائماً لكرامة أبن الله أن يفعله، أي أن يهمل خلقه والدته بريئةً من العيب، مع مقدرته على خلقها كذلك: كلا، أنه تعالى لم يهمل أن يصنع ذلك، حسبما يهتف العلامة جرسون قائلاً نحو مخلصنا هكذا: أنك اذا أردت أيها الملك السماوي أن تختار أماً لذاتك فكان يلزمك بالحقيقة أن تكرمها، والحال أنه لكان أمراً واضحاً جداً أنك لم تكن أكملت بالصواب هذه الشريعة، لو أنك تكون سمحت بأن دنس الخطيئة الأصلية الرجس يلتحق بتلك التي كان يلزمها أن توجد مسكناً للنقاوة بجملتها. وما عدا ذلك أنه أمرٌ واضحٌ هو ما يقوله القديس برنردينوس السياني: ان الأبن الإلهي جاء الى العالم لينقذ بنوعٍ أخص مريم العذراء فضلاً عن سائر الجنس البشري. ومن حيث أنه كتعليم القديس أوغوسطينوس يوجد نوعان بهما يتم الأنقاذ: فأحدهما هو أنهاض ذاك الذي يكون سقط، وثانيهما هو تدبير طريقةٍ بها يحفظ هو من أن يسقط. ومن دون ريبٍ أن النوع الثاني هو الأشرف (كما يقول القديس أنطونينوس) لأنه بذلك تصير النجاة من الضرر ومن العيب اللذين دائماً يلتحقان بنفس من يسقط بخطيئةٍ. فمن ثم بهذا النوع الثاني الأشرف والأليق بمن هي والدة الإله ينبغي واجباً أن يعتقد في أن مريم قد أنقذت. اذ أن القديس بوناونتورا في عظته الثانية على نياح والدة الإله ( العظة التي هي بالحقيقة له كما يبرهن العلامة فراسان) يقول هكذا: أنه يلزم أن يعتقد بأنه في نوع التقديس الجديد المختص بالحبل بهذه السيدة، فالروح القدس في الدقيقة الأولى حررها معتقاً من تبعة الخطيئة الأصلية (لا كأنها وجدت مدنسةً بها وهو بررها منها، بل أنه جعلها الا تتدنس بها) وهكذا بنعمةٍ حصوصيةٍ حفظها منها: وقد كتب في هذا الشأن الكردينال كوزانوس عباراتٍ جليلة بقوله: أن الآخرين قد فازوا بالمسيح مخلصاً إياهم من الخطيئة التي قد فعلت، وأما مريم البتول فقد فازت بهذا المخلص منجياً إياها من أن تلتحق بها جريرة الخطيئة مطلقاً.* وبالأجمال أختتاماً لهذا الجزء يقول أوغون الذي من سان فيتورة: أنه من الثمرة تعرف الشجرة. فأن كان الخاروف حمل الله قد وجد دائماً بريئاً من العيب، فيلزم أن تكون والدته كذلك دائماً بريئةً من العيب: ومن ثم يتفوه نحوها هذا العلامة نفسه قائلاً: يا لكِ من أمٍ مستحقةٍ إبنٍ مستحقٍ (مريداً أن يبين المعنى بأن مريم العذراء وحدها وجدت أهلاً ولائقةً أن تصير أماً لإبن إلهي هذه صفة عظمته وقداسته. الذي هو وحده أستحق أماً هذا حد نقاوتها وطهارتها التي هي هذه البتول المجيدة): يا لكِ من مستأهلةٍ لمستأهلٍ، وجميلةٍ لجميلٍ، وساميةٍ لسامٍ: فلنقل اذاً نحو هذه السيدة العظيمة (مع القديس أيدالفونسوس) هكذا: يا مريم رضعي خالقكِ، أغدي باللبن ذاك الذي صنعكِ، وقد جملكِ بهذا الحد من النقاوة والكمال، حتى أنكِ أستحقيتِ أن يتخذ هو منكِ الطبيعة الإنسانية:* † الجزء الثالث † في أنه أن كان لائقٌ بالله الآب أن يحفظ مريم البتول بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، بحسبما هي أبنته،ولائقٌ بالله الأبن أن يصنع معها ذلك، بحسبما هي أمه... ولائقٌ أيضاً بالله الروح القدس أن يفعل * معها هذا بحسبما هي عروسته.* فاذاً لو كان ممكناً أن يعطى من الله أحد المصورين أن الأمرأة التي هو يصور صورتها حسبما يريد، جميلةً كانت أو شنيعةً، فهذه نفسها ستكون له عروسةً شرعيةً، فترى كم من الجهد والعناية لكان يبذل هذا المصور في أن يجعل تلك الصورة بهيةً جميلةً فائقةً على كل ما سواها. فمن يمكنه اذاً أن يقول، أن الروح القدس لم يصنع نظير ذلك مع مريم البتول. أي أنه تعالى مع كونه قادراً على خلقها بتلك النقاوة وجمال النفس الفائق البهاء. لتكون عروسةً له، فلم يخلقها هكذا، كلا، أنه عز وجل قد خلقها بريئةً من الدنس لأنه هكذا كان يليق به أن يصنع وكذلك حقاً صنع. حسبما يشهد هو نفسه الحق بالذات في مديحه هذه المخلوقة الجليلة قائلاً نحوها: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ (نشيد ص4ع7) فهذه الكلمات تفهم بالحصر عن مريم العذراء. كقول القديسين أيدالفونسوس وتوما اللاهوتي، كما يورد كورنيليوس الحجري في تفسيره هذا النص، بل أن القديسين برنردينوس السياني، ولورانسوس يوستينياني يبرهنان على أن الكلمات المذكورة قيلت عن مريم العذراء حين الحبل بها البريء من الدنس. ومن ثم يخاطب هذه السيدة أيديوطا العلامة قائلاً: أنتِ كلكِ جميلةٌ أيتها البتول الكلية المجد، أي ليس بالتجزيء أنتِ جميلةٌ بل بكليتكِ، وليس فيكِ عيبٌ لا من دنس الخطيئة المميتة، ولا من تبعة الخطيئة العرضية ولا من جريرة الخطيئة الأصلية.* والى هذا المعنى نفسه قد أشار الروح القدس حينما دعا عروسته هذه بستاناً مغلقاً بقوله: أن أختي العروسة هي بستانٌ مغلقٌ جنةٌ مقفلةٌ عينٌ مختومةٌ: (نشيد ص4ع12) فيقول القديس أيرونيموس:" أن مريم هي بالحصر هذا البستان المغلق، وهذه العين المختومة، لأن الأعداء ما أستطاعوا قط أن يدخلوا إليها ليهينوها. بل أنها قد أنحفظت على الدوام غير مثلومةٍ ولا معابةٍ، بأستمرارها دائماً قديسةً نفساً وجسماً معاً". ونظير ذلك قال القديس برنردوس مخاطباً هذه السيدة المجيدة في تفسيره النص المقدم ذكره هكذا: انتِ هي هذا البستان المغلق، لأن أيدي الخطأة لم تدخل إليكِ لتسلب منك شيئاً.* ثم اننا نعلم أن هذا العروس الإلهي قد أحب عروسته مريم أشد حباً مما أحب به القديسين كافةً جملةً مع الملائكة. كما يبرهن الأب سوارس مع القديس لورانسوس يوستينياني وغيرهما. فهو تعالى منذ البدء قد أحبها وشرفها وكرمها، كما يرتل داود النبي بقوله: الذي أساسه في الجبال المقدسة، الرب أحب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب... إنسانٌ ولد فيها وهو العلي الذي أسسها: (مزمور 87ع1 ثم ع5) فلا ريب في أن هذه الكلمات كلها تعلن أن مريم كانت قديسةً منذ الحبل بها. وهذا نفسه تعنيه أوقال الروح القدس من أجلها في أمكنةٍ أخرى فيقول عز وجل هكذا:" بناتٌ كثيراتٌ صنعن قوةً، كثيراتٌ أمتلكن غناءً. كثيراتٌ وجدن شرفاً وأماءً، وأنتِ فقتِ عليهن وأرتفعتِ مستعليةً على جميعهن: (أمثال ص31ع29) فأن كانت مريم فاقت وأرتفعت على الجميع بغنى النعمة، فاذاً قد فازت منذ خلقتها بالبر الأصلي. كما كان حصل على ذلك آدم والملائكة. ثم يقول تعالى: أن الملكات هن ستون، والسريات هن ثمانون، والشواب لا عدد لكثرتهن، وأما حمامتي وكاملتي (بل أنه يقرأ في النص العبراني كاملتي البريئة من الدنس) فهي واحدةٌ، هي وحيدةٌ لأمها، هي منتخبةٌ لوالدتها: (نشيد ص6ع7) فالأنفس البارة كافةً هن بناتٌ للنعمة الإلهية، وأما مريم فهي فيما بينهن الحمامة النقية الخالية من مرارة الخطيئة، وهي الكاملة البريئة من دنس المعصية الجدية، وهي الوحيدة التي حبل بها في حال النعمة.* ولذلك زعيم الملائكة جبرائيل قد وجد هذه البتول ممتلئةً نعمةً قبل أن تكون بعد صارت أماً لله. ولهذه العلة نفسها حياها بالسلام قائلاً لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً. فعن هذه الكلمات كتب صفرونيوس هكذا: أن النعمة تعطى للقديسين الآخرين بالتبعيض والتجزيء، وأما للبتول القديسة فقد أعطيت النعمة كلها، بنوع أنه كما يقول القديس توما اللاهوتي: أن النعمة قد صيرت قديسةً لا نفس مريم العذراء فقط، بل لحمان جسدها أيضاً، حتى أنها أستطاعت هي بعد ذلك أن تلبس الكلمة الأزلي من هذه اللحمان المقدسة جسداً: فهذه الأقوال كلها تقودنا أن نستنتج ونفهم جيداً، أن البتول مريم قد أغنيت من عروسها الروح القدس في حين الحبل بها بالنعمة الإلهية ممتلئةً منها، كما يبرهن بطرس جالانسه:" بأنه في هذه الأم وجد ملوء النعمة مجموعاً، لأنها منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها قد أفيضت عليها النعمة كلها من قبل فعل أنسكاب الروح القدس". ولذلك يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله قد أنتخب سريعاً هذه البتول، وسبق الروح القدس وأختارها عاجلاً كمختطفٍ: مريداً بهذا القول أن يشير عن السرعة التي بها الروح القدس حين الحبل بهذه العذراء، قد سبق مختصاً إياها لذاته عروسةً قبل أن يدنو منها لوسيفوروس بتدنسٍ ما.* فأنا أريد أخيراً أن أختتم الفصل الحاضر (الذي قد أمتدت فيه الإيرادات بأكثر مما سواه، من حيث أن جميعيتنا الحقيرة الصغيرة قد أتخذت البتول الكلية القداسة محاميةً عنها بالحصر تحت صفة الحبل بها البريء من الدنس) وأني أنهي هذا الجزء الثالث نفسه، بإيرادي بقدر ما يمكنني من الأختصار، العلل والأسباب التي صيرتني مقتنعاً كل الأقتناع، كما أنها هي كافيةٌ لأن تلزم كل أحدٍ بالأقتناع في هذا الرأي الحاوي ما هو الأفضل في العبادة الحسنة لهذه السيدة المجيدة. وفي تكريمها الواجب الراجه لمجدها السامي، بالأعتقاد في أنه حبل بها نقية ناجيةً من دنس الخطيئة الأصلية.* على أنه يوجد علماءٌ كثيرون وهم غالاتينوس، الكردينال كوزانوس، دابونته، سالاسار، كاتارينوس، نوفارينوس، فيفا، دالوغوس، أجيديوس. ريكاردوس، وغيرهم جزيلوا العدد الذين تمسكوا بهذا الرأي أيضاً محامين عنه بقوةٍ، وهو أنه لم يلتحق بالعذراء المجيدة حتى ولا الدين الناتج عن الخطيئة الأصلية، فهذا الرأي يمكن أثباته كثيراً، لأنه أن كان أمراً حقيقياً هو أنه ضمن أرادة الأب الأول آدم قد كانت موجودةً بالتضمن أرادة جميع البشر. بحسب كون هذا الأب هو رأس الطبيعة البشرية، كما يرتأي أمكانية ذلك المعلمان غونات وهابارت مع آخرين غيرهما، مستندين على كلمات القديس الرسول بولس القائل: أن جميع الناس أخطأوا فيه: (رومانيين ص5ع12) أي بواسطة آدم. فممكنٌ هو أيضاً أن مريم البتول لم تدخل تحت طائلة الدين الصادر عن معصية آدم، من قبيل أن الله قد ميزها كثيراً عن عموم البشر بالنعم الخصوصية. ومن ثم ينبغي أن يعتقد بحسن تدينٍ أن الله لم يشأ أن تكون أرادة مريم العذراء محتويةً ضمن أرادة آدم.* فهذا الرأي أنما هو رأيٌ ممكنٌ أثباته لا غير، وأنا أتبعه من أجل أنه ذو مجد أفضل لسيدتي، ولكنني أعتبر أكيداً حقيقياً ذاك الرأي القائم في أنه لم تلتحق قط بهذه السيدة المجيدة خطيئة آدم، الأمر الذي تمسك به اللاهوتيون الآتي ذكرهم وأعتبروه حقيقياً، بل أعتقدوا به أنه قضيةٌ مناهزةٌ أن تكون محددةً من الكنيسة الجامعة بأنها من الإيمان، وهم الكردينال أيفاراردوس، دوفاليوس، راينالدوس، لوسادا، فيفا، وغيرهم كثيرون. وهنا أترك جانباً، الأوحية التي صارت توطيداً لهذا الرأي، لا سيما تلك التي حصلت عليها القديسة بريجيتا المثبتة من الكردينال طوراكراماتا، ومن أربعة أحبار رومانيين، كما يقرأ في أمكنةٍ مختلفةٍ من الكتاب السادس من هذه الأوحية، الا أنه لا يمكن لي أصلاً أن أترك إيراد بعض الأقوال، التي توجد فيها واضحةً أحكام الآباء القديسين المؤيدة هذا الرأي، لكي يظهر للقارئ كيف أنهم قد أتفقوا جميعاً في أثبات هذه الموهبة الخصوصية، الراجعة لتكريم الأم البتول الإلهية. فالقديس أمبروسيوس يقول مناجياً الله هكذا: أقبلني لا من سارة بل من مريم، حتى أن هذه التي أنت تقبلني لأجلها تكون بتولاً غير مفسودةٍ. ولكن بتولاً بنعمة الله بريئةً من كل دنسٍ ناتجٍ عن الخطيئة. والمعلم أوريجانوس اذ يتكلم عن مريم العذراء يقول: أن هذه البتول ما تدنست قط من نفخة الحية السمية. وقال القديس أفرام السرياني: أن مريم هي بريئةٌ من العيب، وخاليةٌ من الدنس، وناجيةٌ من جريرة أية خطيئةٍ كانت على الأطلاق. والقديس أوغوسطينوس في تفسيره السلام الملائكي كتب قائلاً: أن زعيم الملائكة جبرائيل بواسطة هذه الكلمات وهي: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً، قد أوضح بالتمام (لاحظ أيها القارئ لفظة بالتمام) أن رجز الحكومة الأولى المبرزة ضد حواء قد تلاشى، وقد أستردت البركة بملؤ النعمة. ويقول القديس أيرونيموس: أن العذراء مريم ما وجدت قط في الظلام، بل صودفت دائماً في النور: ثم أن القديس كبريانوس (أم المنسوبة له هذه العبارة أياً كان) يقول: أن العدل لم يكن يحتمل أن ذاك الأناء المنتخب يوجد مدنساً من قبل الأهانة العامة، لأن الأناء المذكور (أي مريم) هو مختلفٌ جداً جداً عنا نحن الآخرين، لأن هذه البتول قد أشتركت معنا بالطبيعة لا بالخطيئة. وقال القديس أمفيلوكيوس: أن ذاك الذي خلق البتول الأولى حواء بريئةً من العيب والدنس، فهو خلق هذه البتول الثانية بريئةً من العيب وخاليةً من دنس الخطيئة. وكتب صفرونيوس: أنه يقال عن البتول مريم أنها بريئةٌ من الدنس، لأنها لم تكن قط فسدت بنوع من الأنواع: والقديس أيدالفونسوس يقول: أن مريم قد وجدت بريئة من تبعة الخطيئة الأصلية: وقال القديس يوحنا الدمشقي: أن الحية لم تجد لها مدخلاً الى هذا الفردوس الذي هو مريم: ويقول القديس بطرس داميانوس: أن جسد العذراء المجيدة هو متسلسلٌ من آدم، ولكنها هي لم تتدنس بجريرة آدم. وقال القديس برونونه: أن هذه الأرض، أي البتول مريم هي غير مفسودةٍ، لأن فيها بركة الرب، وهي ناجيةٌ من عدوة سم كل خطيئةٍ على الأطلاق. ويقول القديس بوناونتورا: أن سيدتنا قد وجدت ممتلئةً نعمةً متقدمةً على تقديسها، نعمةً حافظةً إياها من طاعون سم الخطيئة الأصلية. وكتب القديس برنردينوس السياني قائلاً: أنه لا يمكن أن يصدق هذا وهو أن أبن الله أراد أن يولد من البتولة، ويأخذ من جسدها ناسوتاً مدنساً بجريرة الخطيئة الجدية. وقال القديس لورانسوس يوستينياني: أن مريم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها وجدت حاصلةً على البركات السابقة. والعلامة أيديوطا في تفسيره كلمات المبشر القائل: أنكِ يا مريم قد وجدتِ نعمةً: يخاطب هذه البتول قائلاً: أنكِ قد وجدت نعمةً خصوصيةً أيتها العذراء الكلية الحلاوة، نعمةً قد حفظتكِ ناجيةٍ من دنس الخطيئة الأصلية: وهذا نفسه يقوله معلمون آخرون كثيرون جداً.* غير أن سببين خاصين يحققان لنا صدق هذا الرأي ويوطدان لنا هذه الحقيقة ذات الديانة الحسنة بنوعٍ أخص، فأحدهما هو أتفاق مذهب المؤمنين بوجه العموم على هذه الحقيقة، فيشهد الأب أجيلايوس بأن جمعيات الرهبنات كافةً قد أتبعوا هذا الرأي، أما رهبنة القديس عبد الأحد، فهذه عينها (كما يقول أحد العلماء المتأخرين) ولئن كانت تحوي أثنين وتسعين معلماً قد كتبوا ضد هذا الرأي، فمع ذلك في الوقت عينه حوت مايةً وستة وثلاثين معلماً قد أتبعوا رأينا ضد أولئك، ولكن الأمر الذي ينبغي أن يزيدنا تأكيداً فوق ذلك جميعه في هذا الرأي والحقيقة ذات حسن الديانة، فهو أضافة رأي البابا ألكسندروس السابع الى رأي جميع المؤمنين الكاثوليكيين، والمصرح في رسالته الرسولية المبدوة: أعتناء جميع الكنائس: المبرزة سنة 1661 حيث يقول فيها (ما عدا الأشياء الأخرى) هذه الكلمات وهي: أنه قد تضاعفت كثيراً هذه العبادة الحسنة نحو والدة الإله... فعلى هذه الصورة المدارسيون قد أعتنقوا هذا الرأي الصالح، وقد درج على نوعٍ ما عند جميع الكاثوليكيين". وبالحقيقة أن هذه القضية قد أعضدت وحومي عنها بقوةٍ من علماء المدارس الشهيرة نظير مدرسة سربونا، ومدرسة الكالا، ومدرسة سالاماناكا، ومدرسة كوامبريا، ومدرسة كولونيا، ومدرسة ماغونتسا، ومدرسة نابولي، ومدارس أخر غيرها كثيرة، وفي هذه المدارس كل من يحصل على صك شهادة الدرس، يلزم ذاته بقوة الحلف بأن يحامي دائماً عن الحبل بمريم العذراء البريء من دنس الخطيئة الأصلية. فأتفاق رأي المؤمنين العام على هذه القضية المذكورة، يستخدم من العلامة بيطافيوس في أثباته إياها، وعن برهان هذا الرأي العام قد كتب السيد الجليل فيما بين العلماء الأسقف يوليوس طورني: بأنه لا يمكن أن لا يغلب منه كل أحدٍ: على أنه أمرٌ حقيقيٌ، اذ لم يكن سوى برهان أتفاق رأي المؤمنين العام، هو الذي صير أكيدةً قضية تقديس مريم العذراء في أحشاء والدتها القديسة حنه، وقضية صعودها الى السماء بالنفس والجسد. لماذا اذاً أتفاق رأي المؤمنين على أنه حبل بهذه الأم الإلهية بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية. لا يصيرنا متأكيدين هذه القضية نظير القضيتين المقدم ذكرهما.* أما السبب الثاني الذي يحقق لنا بنوع أبلغ وأقوى من السبب الأول صدق هذه القضية، ويجعلنا متأكدين أن مريم العذراء قد حبل بها بريئةً من تبعة المعصية الأصلية، فهو تعيين الكنيسة الجامعة عيداً خصوصياً يحتفل به لتكريم الحبل بها البريء من الدنس. فعن هذا السبب أنا ألاحظ من الجهة الواحدة أن الكنيسة تكرم بهذا العيد الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفس هذه العذراء المجيدة، وأتحدت بجسدها المتكون في أحشاء والدتها، حسبما يعلن ذلك واضحاً البابا ألكسندروس السابع في منشوره الرسولي السابق ذكره الذي به يقول:" أن الكنيسة تقدم للعذراء المجيدة في عيد الحبل بها البريء من الدنس، تلك العبادة عينها التي تكرمها بها كلمات الرأي، أو الحقيقة التي نحن في صددها". أي أنه منذ الدقيقة الأولى التي خلقت بها نفس البتول قد وجدت بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، ومن الجهة الثانية ألاحظ فاهماً ومتأكداً، أن الكنيسة الجامعة لا يمكنها أن تكرم بعبادةٍ أحتفاليةٍ ذات عيدٍ مشتهرٍ شيئاً لم يكن بكليته مقدساً، حسبما يبرهن القديس لاون الكبير الحبر الروماني، ومثله القديس أوسابيوس البابا القائل: أن الإيمان الكاثوليكي قد حفظ دائماً في السدة الرسولية بريئاً من العيب: وكما يعلم اللاهوتيون أجمعون جملةً مع القديس أوغوسطينوس، وكذلك القديس برنردوس والقديس توما اللاهوتي الذي يستخدم هذا البرهان نفسه. أي أحتفال الكنيسة بعيد ميلاد والدة الإله، ليثبت أنها أي العذراء المجيدة قد تقدست قبل أن تولد. وهذه هي كلماته: أن الكنيسة تحتفل بعيد ميلاد الطوباوية مريم البتول، ومن حيث أن الكنيسة لا تعيد الا لشيءٍ مقدسٍ، فمن ثم أستنتج أن الطوباوية العذراء قد تقدست في أحشاء والدتها قبل أن تولد. فاذاً أن كانت قضيةً حقيقيةً هي ما يقول هذا المعلم الملائكي، أي أن والدة الإله قد تقدست في أحشاء والدتها، لأجل أن الكنيسة تحتفل بعيدٍ خصوصيٍ لميلاد هذه العذراء، فلماذا نحن لا نتمسك بأنها حقيقةٌ هي هذه القضية أيضاً، وهي أن مريم البتول قد حبل بها بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، منذ البرهة الأولى من حياتها في حين خلقها، بل أننا عالمون أن الكنيسة تحتفل الآن بعيد الحبل بها البريء من الدنس بالمعنى المحامى عنه من ذوي هذا الرأي الحسن الديانة.* ثم أثباتاً لهذه الخصوصية الجليلة التي فازت بها الطوباوية مريم البتول. بأن يحبل بها خلواً من تبعة المعصبة الجدية، فمعلومةٌ هي عند الجميع النعم العجيبة الفائقة الأحصاء التي تنازل الله لأن يصنعها على نوعٍ ما يومياً في جميع مملكة نابولي خاصةً. بواسطة الصور المطبوعة فيها أيقونة والدة الإله ذات الحبل بها البريء من الدنس، وأنا لقد كنت أستطيع أنأورد أخبار حوادث كثيرةٍ من ذلك قد جرت عن أيدي آباء جمعيتنا عينها، ولكنني أكتفي بتحرير حادثتين فقط منها وهما الآتي ذكرهما.* * نموذجٌ * متى تريدين أن تأخذيني لأعترف، لأني أنا مستعدٌ، فأمرأته من شدة الفرح طفقت تبكي عند مشاهدتها هذا التغيير السريع العجيب، وبالحقيقة أن الرجل قد ذهب في صباح تلك الليلة عينها الى كنيستنا لهذه الغاية، واذ سأله ذاك الأب نفسه كم كان له من الزمن من غير أعترافٍ، فأجابه أنه منذ مدة ثمانية ةعشرين سنة لم يكن تقدم الى منبر سر التوبة، فأعطف عليه الأب الخطاب قائلاً: وكيف أنك الآن في هذا الصباح باكراً حضرت لتعترف: فقال له: أعلم أيها الأب أني كنت مصراً على عدم التوبة، غير أن زوجتي في الليلة البارحة قد اعطتني صورة الحبل بالعذراء بلا دنس، وحالما أخذتها بيدي شعرت بتغييرٍ كلي في قلبي بهذا المقدار، حتى أنه كانت تظهر لي مدة كل ساعةٍ من هذه الليلة مستطيلةً كأنها سنون عديدة. منتظراً أشراق الفجر لكي آتي وأعترف بخطاياي: وحقاً أنه قد أعترف أعترافاً جيداً بنموذج صالح، وغير سيرة حياته الماضية، وواظب أزمنةً مديدةً على الأعتراف بتكاثرٍ عند ذاك الأب عينه.* ثم في مكانٍ آخر من أبرشية سالارنو، في الوقت الذي فيه كنا نحن في تلك الأبرشية نمارس خدمة الرسالة المقدسة، قد كان هناك إنسانٌ حاصلة فيما بينه وبين شخصٍ آخر عداوةٌ شيطانية في أقصى حدود البغضة، فأحد آباء جمعيتنا قد تكلم مع ذاك الإنسان في أن يصفح غافراً لعدوه. أما هو فأجاب وقال له: أهل أنك رأيتني مرةً ما أيها الأب حاضراً في الكنيسة لأستماع مواعظكم. فأجابه: كلا، فقال له: اذاً لأجل هذه الغاية أنا ما حضرت قط لأسمع الوعظ عندكم، لأني أعرف ذاتي أني هالكٌ. ولكنني لا أريد شيئاً آخر سوى أن آخذ الثأر من عدوي: فالأب المومى اليه قد تعب كثيراً في أقناعه. ولكن سدى. فلما رآه بهذا المقدار مصراً على عدم التوبة حتى أن الكلام كله كان يمضي ضائعاً قال له أخيراً: خذ صورة حبل العذراء بلا دنس هذه: ففي الأبتداء أجاب وقال: ترى مالي وهذه الصورة: ولكن أخذها بعد ذلك من الأب. واذا به حالاً كأنه قط لم يكن أنكر الصفح قبلاً. سأل ذاك الأب قائلاً: هل أن أبوتك المكرمة تريد مني شيئاً آخر غير الترك والغفران لعدوي، فهوذا أنا مستعدٌ لأن أتتم ذلك: وهكذا أتفق معه على المجيء إليه لهذه الغاية في الصباح المقبل، غير أنه حينما جاء إليه في الغداة، فمن جديد تقلب روحه عن قصده الصالح. ولم يكن يرد أن يصنع شيئاً مما صار عليه الأتفاق، فحينئذٍ الأب المنوه عنه قد سلمه صورةً أخرى من صور الحبل بالعذراء بلا دنس، فلم يرد أن يقبلها أولاً. ولكنه حياءٍ وبعد الجهد قد أخذها، الا أنه منذ البرهة الأولى قال: هيا بنا، لأني أريد نهاية هذه القضية، أين هو ماستروداتي عدوي: وحالاً صنع معه الصلح وغفر له وتقدم الى منبر التوبة معترفاً بخطاياه.* † صلاة † فدعيني أمدحكِ أنا أيضاً حسبما مدحكِ إلهكِ قائلاً: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: يا حمامةً كلية النقاوة بيضاء بجملتكِ، جميلة بكليتكِ. صديقة الله دائماً. فيا مريم البريئة من الدنس الخالية من العيب الكلية الحلاوة، الموضوع الكلي الحب. فلأنكِ أنتِ بهذا المقدار جميلةٌ في عيني سيدكِ. لا تأنفي من أن تنظري بطرفكِ الشفوق الرحيم الى جراحات نفسي المتخنة المستكرهة. بل أنظري اليَّ وأرحميني وأشفيني. فيا حجر مغناطيس القلوب أجتذبي إليكِ قلبي أنا أيضاً الذليل، فأنتِ التي منذ الدقيقة الأولى من حياتكِ قد وجدتِ نقيةً وظهرتِ طاهرةً جميلةً أمام الله. أشفقي عليَّ أنا الذي ليس فقط ولدت بالخطيئة، بل أني بعد المعمودية أيضاً قد دنست من جديد نفسي بالمآثم. فذاك الإله الآب الذي أنتخبكِ أبنةً له، والإله الأبن الذي أختاركِ أماً له، والإله الروح القدس الذي أختصكِ عروسةً له. ولأجل ذلك قد حفظكِ الثالوث الأقدس بريئةً من كل دنسٍ. وميزكِ بحبٍ متقدم على مخلوقاته كلها، فأية نعمةٍ يمكن أن ينكر عليكِ. اذاً يلزمكِ أن تخلصيني أيتها البتول البريئة من العيب، فأنا أقول لكِ ما كان يقوله نحوكِ القديس فيلبس نيري: أجعليني أن أفتكر بكِ دائماً، وأنتِ لا تنسيني، ولكن تظهر لي إعاقتي عن الحضور لأشاهد جمالكِ السماوي كأنها مدة ألف سنة، حيث أراكِ في الفردوس، لكي أحبكِ أشد حباً، وأسبحكِ يا أمي ويا ملكتي، ويا حبيبتي الكلية البهاء والحلاوة والنقاوة البريئة من كل عيبٍ آمين.* † الفصل الثاني * فيما يخص عيد ميلاد العذراء المجيدة، حيث يبرهن أن مريم ولدت* * قديسةً عظيمةً، وأنها وجدت أمينةً عظيمةً فيما نالته من الله.* * فيه حزءان* * أنما أنا خرجت من فم العلي بكراً، قبل جميع المخلوقات (سيراخ 24/5) * * فليكن مسبحاً على الدوام من كل البريئة، الحبل بمريم البريء من دنس الخطيئة الأصلية. صفحة 656 * † الجزء الأول † في كم هي عظيمة النعمة الأولى التي بها أغنى الله مريم البتول* أولاً: في كم كانت عظيمةً النعمة الأولى التي بها أغناها الله. ثانياً: في كم كانت عظيمةً الأمانة التي هي حالاً جاوبت بها على هذه النعمة لله.* فاذ نتكلم الآن عن الشيء الأول، تاركين الشيء الثاني للجزء الآخر فنقول، أنه لأمرٌ حقيقيٌ هو أن نفس مريم العذراء قد كانت هي النفس الأجمل فيما خلقه الله، بل الأبلغ من ذلك هو أنه بعد صنيع سر تجسد كلمة الله، قد وجدت نفس مريم هي الصنيع الأعظم، والأكثر لياقةً بالإله القادر على كل شيءٍ، فيما صنعه في هذا العالم، ولذلك يسميها القديس بطرس داميانوس: أنها هي العمل الذي الله وحده يسمو عليه. فمن ثم أن النعمة الإلهية لم تنحدر فوقمريم نقطةً فنقطةً، كما أنحدرت على القديسين الآخرين، بل نزلت عليها: مثل الندى على الجزة ومثل القطر القاطر على الأرض: حسبما سبق وتنبأ عنها داود الملك (مزمور 72ع6) فقد كانت نفس مريم نظير الجزة التي قد أستوعبت قطر نعمة الله كله الذي أنحدر عليها، من دون أن تضيع منه نقطةٌ واحدةٌ، كما يقول عنها، القديس باسيليوس الكبير: أن البتول القديسة قد أجتذبت إليها نعمة الروح القدس كلها وأستوعبت منها: ولذلك هي تقول عن ذاتها بواسطة الحكيم أبن سيراخ (ص24ع16): وفي جمهور القديسين هو مقامي: أي كما يفسر ذلك القديس بوناونتورا قائلاً عن لسانها: أن جميع ما يملكه القديسون كافةً مفرقاً وبنوع التجزيء، فأنا أملكه كله ملواً وبوجه الأتساع المطلق. أما القديس فينجانسوس فراري، فاذ يتكلم بالخصوص عن سمو قداسة هذه البتول قبل أتلادها يقول: أنها قد فاقت بالقداسة على الملائكة القديسين أجمعين.* فالنعمة التي حصلت عليها العذراء المجيدة قد كانت درجتها أسمى وأعظم، ليس فقط من درجة النعمة التي فاز بها كلٌ من القديسين بمفرده، بل هي أيضاً أعظم من النعم كلها التي حصل عليها القديسون كافةً، جملةً مع الملائكة الطوباويين، كما يبرهن عن ذلك مقنعاً بأثباتاتٍ راهنةٍ الأب العلامة فرنسيس بيبا اليسوعي، في تأليفه الجليل الملقب: عظمة يسوع ومريم. وهناك يورد أن هذه القضية المجيدة في تكريم ملكتنا العظيمة، هي الأن عامةٌ وأكيدةٌ فيما بين اللاهوتيين المحدثين (نظير ما هي مصرحةٌ ومبرهنةٌ من كارتاجانا، وسوارس، وسبينالي، وراكوبيتوس وغوارا، ومن آخرين كثيرين الذين قد فحصوها فحصاً مدارسياً مدققاً، الأمر الذي لم يصنعه هكذا القدماء) ثم يخبر بأبلغ من ذلك بأن هذه الأم الإلهية قد أرسلت من قلبها الأب مرتينوس غوتياراز الى الأب سوارس لكي يشكره على أسمها، لأجل أنه بحرارةٍ قويةٍ حامى عن هذه القضية الكلية الأمكان، كما يشهد أيضاً الأب السنيري بأنه قد حومي عنها فيما بعد من أتفاق رأي أهل مدرسة سالاماناكا العام.* فأن كان اذاً هذا الرأي أو القضية هي هكذا عامةً وأكيدةً، فكذلك القضية الأخرى هي ممكنةٌ جداً، أي أن مريم العذراء منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها البريء من الدنس، قد حصلت على هذه النعمة السامية الفائقة درجتها علواً. على النعمة التي فاز بها القديسون والملائكة كلهم معاً. وعن هذا الأمر يحامي بقوةٍ الأب سوارس عينه، وقد تمسك هو به تابعاً للأب سبينالي وللأب راكوبيتوس وللأب كولومباره، ولكن ما عدا قوة رأي اللاهوتيين في هذا الشأن يوجد سببان آخران وعلتان قويتان غير مغلوبتين بهما تتأيد القضية المذكورة ثابتةً، فالعلة الأولى هي لأجل أن الله قد أختار مريم البتول أماً للكلمة الإلهي، ومن ثم يقول الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أنه من حيث أن هذه العذراء المجيدة قد أختيرت الى رتبةٍ فائقةٍ على جميع المخلوقات، لأن مقام هذه المرتبة أي كونها والدة الإله، هو على نوعٍ ما (كما يورد الأب سوارس) مختصٌ بالأتحاد الأقنومي. فلهذا بالصواب قد أعطيت هي منذ بدء حياتها مواهب ذات رتبةٍ خصوصيةٍ ساميةٍ على المجميع، بنوع أن سمو هذه النعم يفوق بما لا يحد على كل المواهب والنعم الممنوحة لسائر المخلوقات الأخرى، وبالحقيقة أنه لأمرٌ خالٍ من كل أرتيابٍ هو أنه في الوقت عينه الذي فيه بموجب المراسيم الإلهية الأزلية، قد تحدد أمر تجسد كلمة الله الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، ففيه نفسه قد تحددت وتعينت له الأم التي كان يبتغي أن يتأنس منها، ويظهر من أحشائها لابساً جسداً. وهذه الأم هي حبيبتنا مريم المولودة طفلةً من القديسين يواكيم وحنة. فالمعلم الملائكي القديس توما يعلم قائلاً: أن الله يمنح لكل إنسانٍ النعمة الملائمة والمصاقبة للدعوة أ والمرتبة أم الوظيفة التي هو تعالى يكون عينها له وخصصه بها. بل أن القديس بولس الرسول قد علم بذلك قبل القديس توما بقوله: يا أخوة أن لنا مثل هذه الثقة بالمسيح عند الله... بل كفايتنا هي من الله الذي جعلنا كفوئين أن نكون خادمين الموثق الجديد: ( قرنتيه ثانية ص3ع5) مبيناً لنا بهذا النص أن الرسل قد أقتبلوا من الله المواهب الملائمة والكافية لأتمام واجبات الخدمة الرسولية. التي كان عز وجل أختارهم إليها. ثم يضيف الى ذلك القديس برنردينوس السياني بقوله: أنه حينما يكون إنسانٌ أنتخب من الله الى دعوةٍ ما، فيقتبل منه تعالى لا التهيئ والأستعداد فقط الضروري لتلك الدعوة، بل المواهب أيضاً التي هو يحتاج إليها لأن يقوم حسناً في واجباتها بلياقةٍ. فاذاً أن كانت مريم البتول قد أختيرت منتخبةً لأن تكون أماً لله. فكان من اللائق والمتوجب حسناً أن الله يزينها منذ الدقيقة الأولى من حياتها بنعمةٍ غير محدودةٍ. وبرتبةٍ عاليةٍ على رتبة النعم الممنوحة منه تعالى للقديسين الآخرين كافةً. وللملائكة أجمعين، اذ يلزم أن النعمة تصاقب مجاوبةً، وتكون ملائمةً لحال الدعوة أو المقام والوظيفة الكلية السمو التي قد رفعها الله إليها. حسبما يبرهن اللاهوتيين أجمعون، جملةً مع القديس توما شمس المدارس الذي يقول:" أن البتول مريم قد انتخبت لتكون أماً لله، فلا ريب ولا أشكال في أن الله قد وهبها النعمة التي تجعلها موضوعاً قابلاً وذات كفايةٍ لهذه الدعوة، بنوع أنها قبل أن تكون صارت أماً لله قد تزينت بقداسةٍ كاملةٍ، حتى أنها صارت أهلاً لهذه الدعوة العظيمة والمقام الفائق سموه". ثم أن هذا القديس عينه قال: أنه لأجل ذلك قد سميت مريم ممتلئةً نعمةً، لا من جهة النعمة عينها، لأنها هي أي مريم ما قبلت النعمة العظمى ذاتياً الممكن الحصول عليها، كما أنها لم تكن عظمى ذاتياً النعمة الملكية التي وجدت في يسوع المسيح نفسه. أي بنوعٍ أن القوة الإلهية لم تعد تقدر أن تزيد هذه النعمة العظمى ذاتياً نمواً جديداً حتى تبلغ بها الى أقتدارٍ مطلقٍ، ولكن قد كانت هذه النعمة في يسوع المسيح مجاوبةً بكفايةٍ ومصاقبةً بلياقةٍ للغاية التي بها كان ناسوته تعالى مدبراً ومساساً من الحكمة الإلهية، أي أتحاد الكون الإنساني وبالأقنوم الإلهي: على أنه كما يعلم القديس المذكور نفسه قائلاً: أن القدرة الإلهي هي هكذا عظيمةٌ، حتى أنها مهما تهب مانحةً، فدائماً توجد مقتدرةً على أن تعطى من جديد، ومهما كانت القوة الطبيعية في الخليقة نظراً الى الأقتبال محدودةً، بنوع أنه يمكن أستيعابها وأملاؤها بالتمام، فمع ذلك أن هذه القوة الطبيعية للأقتبال الخاضعة للإرادة الإلهية هي غير محدودةٍ، فالباري تعالى هو دائماً قادرٌ على أن يملأها بالأكثر اذ يصيرها أن تقبل من جديد نعمةً جديدةً بعدما يكون قبلاً أملأها، ولهذا (اذ نرجع الى موضوعنا) يقول هذا المعلم الملائكي: أن البتول الطوباوية ولئن لم تكن ممتلئةً نعمةً نظراً الى النعمة ذاتها، فمع ذلك يقال عنها ممتلئةً نعمةً نظراً الى ذات مريم، لأنها حصلت على نعمةٍ عظيمةٍ غير محدودةٍ مصاقبةٍ وملائمةٍ ومجاوبةٍ وكافيةٍ لرتبتها ومقامها ودعوتها الغير المحدودة، بنوع أن هذه النعمة العظيمة قد صيرتها أهلاً لأن تكون أماً لله. ومن ثم يضيف الى ذلك بناديكتوس فرناندار قائلاً: أن القياس الذي بموجبه يمكننا أن نفهم ما هو مقدار عظمة النعمة التي نالتها مريم البتول من الله، أنما هو حال الدعوة والمرتبة التي هي أختيرت إليها، أي حال كونها أم الله:* فاذاً بالصواب يعلن النبي والملك داود أن أساسات مدينة الله هذه هي فوق الجبال المقدسة قائلاً: الذي أساسه في الجبال المقدسة: (مزمور 87ع1) أي أن أساس حيوة مريم وأبتداء وجودها في العالم، كان يلزم أن يوجد أسمى وأعلى قداسةً من حيوة القديسين الآخرين كافةً الذين شاخوا في البر، ثم أن النبي يتبع كلامه بقوله: الرب أحب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب. ويبرهن هو نفسه السبب معلناً: لأن إنساناً ولد فيها وهو العلي الذي أسسها. أي لأن الله قد كان مزمعاً أن يصير إنساناً من المستودع البتولي الذي لهذه المدينة صهيون التي هي مريم العذراء ولهذا كان من الواجب أنه تعالى يهب هذه البتول، منذ الدقيقة الأولى التي فيها هو خلقها نعمةً مصاقبةً للدعوة والمقام والرتبة التي هو أختارها إليها، وهي أن تكون والدةً لإلهٍ هكذا كلي الكمال.* ثم أن النبي أشعيا يريد أن يشير الى هذا نفسه بقوله: لأنه سيكون في آخر الأيام جبل الرب ظاهراً، وبيت الله على قمم الجبال ويستعلي فوق أعلى التلال، ويجيء إليه كل الأمم ويسير إليه شعوبٌ كثيرة: (ص2ع2) مبادرين الى مريم البتول التي هي بيت الرب، ليستمدوا بواسطتها المراحم الإلهية. فالقديس غريغوريوس الكبير يفسر النص المذكور قائلاً: أن هذا الجبل بالحقيقة هو في قمة الجبال، لأن علو مقام مريم يتلألأ سمواً فوق جميع القديسين. ويقول القديس يوحنا الدمشقي: ان مريم هي الجبل الذي سر الله أن يختاره حجرةً لسكناه فيها: فلهذا قد دعيت هذه السيدة شجرة السرو. ولكن سرو جبل صهيون. وسميت بالأرز، ولكن أرز لبنان. ولقبت بالزيتونة، ولكن زيتونة جميلة، وكنيت بالمنتخبة ولكن منتخبة كالشمس، لأنه (يقول القديس بطرس داميانوس: كما أن الشمس تفضل بأشراقها وتفوق بأنوارها على الكواكب والنجوم بهذا المقدار، حتى أن هذه الأجرام لا تعود تشاهد حينما تظهر الشمس. فكذلك البتول العظيمة والأم الإلهية تفضل بقداستها وتفوق بها على أستحقاقات أهل البلاط السماوي أجمعين. بنوع أنه، حسبما يقول بكل فصاحةٍ القديس برنردوس: أن مريم قد كانت هكذا ساميةً في القداسة حتى أنه لم يكن يوجد لله من هي لائقةٌ أن تصير له أماً بالبشرة الا هذه البتول المجيدة. ولم يكن يوجد من هو لائقٌ أن يصير لها أبناً الا الإله الكلي كماله.* وأما العلة الثانية التي من أجلها يثبت أن البتول القديسة منذ الدقيقة الأولى من حياتها، وجدت أكثر قداسةً من جميع القديسين معاً، فهي الوظيفة العظيمة التي أنتخبت هي إليها بأن تكون وسيطةً للبشر عند الله. الوظيفة التي تحددت لها منذ البدء. ومن ثم أحتاج الأمر الى أنها تكون منذ البدء حاصلةً على مقدارٍ عظيمٍ من النعمة تفوق به على البشر كافةً اذا وجدوا معاً. فأمر واضح هو كيف أن الآباء القديسين واللاهوتيين أجمعين يعطون مريم العذراء هذا اللقب، وهو وسيطة في البشر عند الله، لأجل أنها بواسطة شفاعتها المقتدرة وأستحقاقها العظيم الإضافي الى الرجاء في رأفة الله، قد استمدت الخلاص للجميع، معتنيةً للعالم الهالك بنوال الخير العظيم الصادر عن سر الأفتداء، وأنما يقال عن أستحقاقها أنه إضافي الى الرجاء في رأفة الله، لأن يسوع المسيح وحده هو وسيطنا بطريق العدل وبقوة أستحقاقاته الذاتية. الموازية ما كان يحق للوفاء عن خطايا البشر، حسبما تعلم بذلك المدارس، اذ أنه تعالى قد قدم أستحقاقاته لله أبيه الأزلي الذي قبلها من أجل خلاصنا. وبالخلاف أن مريم هي وسيطتنا بطريق النعمة وبمجرد شفاعاتها فينا. وبأستحقاقاتها الإضافية، اذ أنها قدمتها لله الرأوف، كما يقول اللاهوتييون مع القديس برنردوس من أجل خلاص البشر كافةً، وأن الله منةً ونعمةً منه قد قبلها مع أستحقاقات يسوع المسيح. ولذلك يقول أرنولدوس كارنوفانسه: أن مريم قد حصلت في أمر خلاصنا على مفعولٍ واحدٍ مع المسيح أبنها. ويقول ريكاردوس الذي من سان فيتوره: أن مريم قد أشتهت خلاص الجميع وأعتنت في نواله لهم وأكسبتهم إياه بل أن الخلاص حصل للجميع بواسطتها. وبالتالي أن كل خيرٍ وكل موهبةٍ مختصة بالحياة الأبدية، مما ناله من الله كل واحدٍ من القديسين، فبواسطة مريم قد توزع ذلك عليهم وفازوا به.* فهذا هو الشيء الذي تريد منا الكنيسة المقدسة أن نفهمه حينما هي تكرم البتول الطوباوية بتخصيصها بها الكلمات المدونة في حكمة أبن سيراخ (ص 24ع25) وهي:" فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ، فيَّ أنا كل رجاء حيوةٍ وفضيلةٍ". فلفظة مسلكٍ تعني أن بواسطة مريم تتوزع النعم كافةً على عابري طريق هذه الحياة. ولفظة حقٍ توضح أن بواسطة هذه السيدة يعطى النور لمعرفة الحق. ولفظة حيوةٍ تعلن أننا نرجوا أن ننال بوساطة هذه الأم الإلهية حياة النعمة ما دمنا قاطنين في الأرض، والمجد السماوي بعد ذلك في الحياة الأبدية. ولفظة فضيلةٍ تبرهن أننا بواسطة شفيعتنا هذه نستمد أقتناء الفضائل، لا سيما الثلاث الفضائل الإلهية التي هي أساس فضائل القديسين. فتقول هذه السيدة في الاصحاح المذكور عينه (ع24): أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والمعرفة والرجاء المقدس: لأن وسيطتنا هذه عند الله بقوة شفاعاتها فينا تستمد لنا نحن المتعبدين لها مواهب الحب الإلهي، والخوف المقدس، والنور السماوي، والرجاء الأمين، والطمأنينة المقدسة. ومن ذلك يستنتج القديس برنردوس أن تعليم الكنيسة الجامعة هو، أن مريم هي واسيطةٌ عامةٌ لخلاصنا، اذ يقول: عظم يا هذا اللتي وجدت النعمة، وسيطة الخلاص، مصلحة الدهور، لأن الكنيسة هكذا ترتل عنها، وقد علمتني أنأرتل أنا أيضاً من أجلها هذه الأشياء عينها. فلأجل ذلك يعلن القديس صفرونيوس البطريرك الأورشليمي قائلاً: أن زعيم الملائكة جبرائيل أنما تفوه نحو البتول الطوباوية هاتفاً: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً. لأنه قد أعطى للآخرين مقدارٌ من النعمة محدودٌ، وأما لمريم فقد أعطيت النعمة كلها بملؤها كاملةً. وهذا قد تم لكي تستطيع هي فيما بعد بهذا النوع أن تكون بواجب الأستيهال وسيطةً فيما بين الله والبشر! حسبما يورد هذه الألفاظ عينها القديس باسيليوس الكبير، والا اذا لم تكن البتول الكلية القداسة حصلت على ملوء النعمة الإلهية، فكيف كان يمكنها أن توجد هي سلم الفردوس، وشفيعة العالم، والوسيطة الحقيقية فيما بين الإله والبشر. كما يقول هذه الكلمات نفسها القديس لورنسوس يوستينياني في عظته على عيد البشارة.* فهوذا السبب والعلة الثانية قد توضحت فوق الكفاية، على أنه أن كانت مريم الطوباوية قد أقيمت منذ بدء حياتها بحسب كونها أماً للمخلص العام، بوظيفة وسيطةٍ في البشر أجمعين. وبالتالي وسيطة في القديسين أيضاً، فكان لازماً أنها منذ البدء تحصل هي على نعمةٍ متفاضلةٍ فائقةٍ سمواً، على جميع النعم التي فاز بها القديسون كلهم معاً، وأن توجد محبوبةً من الله وعزيزةً لديه بنوع يعلو تفوقاً على البشر كافةً، ليس مفرقاً بل مجملاً أيضاً. والا فكيف كان مستطاعاً لها أن تتشفع فيهم جميعاً لديه تعالى. لأن لكي يقدر إنسانٌ ما أن يستمد بشفاعاته من أحد الملوك النعمة والمواهب لرعايا هذا الملك بأسرهم الخاضعين لولايته، فيلزم بضرورةٍ مطلقة أن يكون الشفيع المومى إليه عزيزاً على قلب ذاك الملك، ومحبوباً منه بنوعٍ أفضل من جميع أولئك الرعايا. ولذلك يستنتج القديس أنسلموس قائلاً: أن مريم قد أستحقت بكل لياقةٍ أن تصير مصلحةً للعالم الهالك.لأجل أنها كانت هي الأكثر قداسةً من الجميع والأعظم طهارةً من المخلوقات كلها.* ولقائلٍ ان يقول أن مريم البتول اذاً هي وسيطة عند الله في البشر فمسلمٌ. ولكن كيف يمكن أن يقال عنها أنها هي وسيطة في الملائكة أيضاً. فلاهوتيون كثيرون يبرهنون في أن يسوع المسيح قد أستحق مكتسباً للملائكة أيضاً نعمة الثبات في البر. ومن ثم كما أن يسوع المسيح على هذه الصورة وجد هو وسيطاً في الملائكة أيضاً. بوساطة الأستحقاق الذاتي الموازي الوفاء فهكذا مريم هي وسيطتهم بوساطة الأستحقاق الإضافي بالرجاء في رأفة الله. لأنها بقوة تضرعاتها وصلواتها قد أعجلت مجيء المسيح الى العالم، وقد أستحقت قلما يكون أستحقاق الرجاء في المراحم الإلهية أن تكون هي أماً للمسيح. وأكتسبت أن تملأ من الأنفس المخلصة بسر التجسد كراسي الملائكة الساقطين الفارغة، فاذاً قد ربحت للملائكة القديسين قلما يكون هذا المجد العرضي. ولذلك كتب ريكاردوس الذي من سان فيتوره قائلاً: أن الخليقة الواحدة والخليقة الأخرى، أي الملائكة والبشر قد خلصوا بواسطة هذه السيدة، وبها قد أصطلحت طبيعة الملائكة. وتصالحت مع الله الطبيعة الإنسانية. والقديس أنسلموس كان قبل هذا المعلم قال: أن الأشياء كلها قد دعيت الى الحال الأولى التي كانت حاصلةً عليها قبلاً، وأصلحت بواسطة هذه البتول القديسة. فلهذا أن مريم الطوباوية المولودة طفلةً سماويةً، قد أقتبلت من الله منذ الدقيقة الأولى من حياتها نعمةً أعظم من جميع النعم التي فاز بها القديسون أجمعون جملةً، وذلك بحسب كونها أختيرت وتعينت أماً لمخلص العالم، وبحسبما أقيمت بوظيفة وسيطة العالم عند الله، فكم كان اذاً مشهداً جليلاً شهياً مجيداً لأهل السماء والأرض حال بهاء نفس هذه الطفلة القديسة ولئن كانت بعد مسجونةً في مستودع والدتها القديسة حنه. فهي كانت المخلوقة المحبوبة لدى عيني الله أكثر حباً من سائر المخلوقات. لأنها قد حصلت ممتلئةً نعمةً، ومنذ ذاك الوقت كان يمكنها أن تفتخر قائلةً عن ذاتها: أنني منذ حداثتي أرضيت الله. وقد كانت معاً في الوقت عينه هي المخلوقة المحبة لله أكثر حباً من الخلائق بأسرها، التي لحد ذاك الوقت كانت ظهرت في الوجود، بنوع أنه لو أتفق لهذه الطفلة القديسة أن تخرج مولودةً من أحشاء أمها في الدقيقة الأولى التي بها تكونت هي في مستودعها بريئةً من الدنس، لكانت هي جاءت الى العالم حاصلةً على أعظم غنى بالأستحقاقات وأسمى قداسةً من جميع الأبرار والقديسين جملةً. فلنتأمل اذاً في كم كانت أستحقاقات هذه الطفلة المجيدة أعظم من ذلك حينما ولدت من أمها، بعد أن كانت في مدة التسعة الأشهر التي فيها أستمرت محبوسةً في جوف والدتها، وأكتسبت أستحقاقاتٍ جديدةً. وليكن هذا كافياً فيما يلاحظ الجزء الأول الحاضر المختص بالموضوع الأول في شأن النعمة الأولى العظيمة التي نالتها هذه السيدة في الدقيقة التي بها حبل بها بريئةً من الدنس.* † الجزء الثاني † * في كم كانت عظيمةً الأمانة التي بها مريم البتول جاوبت* * حالاً على النعمة الإلهية التي نالتها ساعيةً معها.* فمن ثم منذ هذه البرهة الأولى من حياتها قد وجدت هي عارفةً جميل المحسن إليها، وأبتدأت حالاً بأن تصنع كل ما كان ممكناً لها صنيعه، متاجرةً من ذاك الحين بوزنات النعمة السامية التي وهبة لها. ممارسةً كل شيءٍ بقصد أن ترضي الله، وتسر الصلاح الإلهي. وقد أحبته تعالى منذ بدء حياتها، وداومت بأتصالٍ على حبه فوق كل شيءٍ بمقدار أستطاعتها وبكل قواها. في مدة تلك التسعة الأشهر التي فيها أستمرت قبل أتلادها في جوف أمها، غير تاركة ولا مهملة دقيقةً واحدةً أن تمر من دون أن تضاعف حبها له تعالى، وأتحادها به بعواطف المحبة المتقدة كالنار. فقد كانت هذه القديسة من دون كل ريب بريئةً معتوقةً ناجيةً من جريرة الخطيئة الأصلية. وبالتالي ناجيةً أيضاً من كل أنعطافٍ وتعلقٍ نحو الأشياء الأرضية. ومن أية حركةٍ غير مرتبة، ومن كل تشويش عقلي، ومن جميع أنفعالات الحواس، مما يمكن أن يصدها عن أن تتقدم على الدوام في زيادة الحب لله. وقد كانت قواها وحواسها أيضاً متفقةً مع روحها الطاهرة بالأتجاه والأنعطاف نحو العلي. ولهذا اذ كانت نفسها الجميلة محلولةً من كل مانعٍ، فمن غير توقفٍ كانت دائماً تطير الى الله، وتحبه من دون أنقطاع، وتنمو على الدوام في محبته، ولهذا قد دعيت هي نفسها: شجرة الدلب المرتفعة مغروسةً على شط الماء: (أبن سيراخ ص24ع19) لأنها قد كانت هي غرسة يمين العلي الشريفة التي نمت على الدوام مستقيةً من مجاري النعمة الإلهية، ولذلك قالت هي عن ذاتها: أنا مثل الجفنة أثمرت رائحةً طيبةً، وأنواري أثمار البهاء والمجد: (أبن سيراخ ص24ع23) وأنما شبهت ذاتها بالجفنة ليس فقط لأجل الحال المتضعة التي كانت هي بها لدى أعين الناس، بل أيضاً لأجل أنه كما أن الكرمة تنمو وتمتد على الدوام. ولذلك يقال بالمثل: أن الكرمة لا ينتهي نموها: اذ أن الغروس الأخرى كأشجار الليمون والتوت والتفاح وأمثالها تنمو مرتفعةً وممتدةً الى حدٍ أعتياديٍ لا تتجاوزه. وأما الجفنة فتمتد دائماً ناميةً وتعلو أغصانها بمقدار علو الشجرة التي تكون هي أي الكرمة ملتقةً عليها ومستندةً فوقها. فهكذا مريم البتول الكلية قداستها قد أمتدت على الدوام ناميةً في الكمال. ولذلك يهتف نحوها القديس غريغوريوس العجائبي مسلماً عليها بقوله: أفرحي أيتها الكرمة الحية النامية على الدوام: وقد كانت هذه السيدة متحدةً بالله دائماً ومستندةً عليه بحسب كونه تعالى مسندها الوحيد. ومن ثم يتكلم عنها الروح القدس قائلاً: من هي هذه الصاعدة من البرية مدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) فالقديس أمبروسيوس يقول في تفسيره هذا النص: من هي هذه التي لمرافقتها الكلمة الإلهي الأزلي، تنمو ممتدةً وصاعدةً نظير الكرمة المستندة على شجرةٍ عالية جداً والملتفة عليها.* فكثيرون من العلماء اللاهوتيين البارعين الرصينين يقولون أن تلك النفس المكتسبة قوة ملكة الفضيلة متأصلةً فيها، فطالما هي تجاوب بأمانةِ ساعيةً مع النعم الحالية الفعلية التي يمنحها الله إياها. فيمكنها دائماً أن تبرز فعلاً بالعزم والنية موازياً لملكة الفضيلة تلك المكتسبة منها، بنوع أنها في كل المرات تربح لذاتها أستحقاقاً جديداً مضاعفاً موازياً لمجموع الأستحقاقات كلها التي تكون هي قبلاً أكتسبتها، فهذا النمو العظيم قد أعطى (كما يعلم اللاهوتيون المومى إليهم) للملائكة في الحال التي هم مستسيرون بها، فأن كان منح للملائكة هذا الإيهاب والنعمة فمن تراه يستطيع أنكاره على الأم الإلهية في مدة حياتها على الأرض. وبنوع أخص في الزمن الذي هي فيه أستمرت مسجونةً في أحشاء أمها، حيث أنها بكل تأكيدٍ قد كانت حينئذٍ أمينةً على حفظ النعمة الإلهية مجاوبةً عليها بأبلغ نوع من الملائكة أنفسهم. فهذه الطفلة القديسة اذ قد أمكنها وأكتسبت في الزمن المشار إليه جميعه، وفي كل دقيقة منه أضعاف تلك النعمة السامية في العظمة التي نالتها من الله منذ البرهة الأولى من حياتها. لأن سعيها مع هذه النعمة كان بكل قواها وبسائر أنواع الكمال في كل دقيقةٍ. بنوع أنها أن كانت في الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفسها قد فازت من النعمة الإلهية بمقدارٍ مثلاً يوازي ألف درجة من هذه النعمة، ففي الدقيقة الثانية قد أكتسبتها مضاعفة أي ألفين درحة، وفي الدقيقة الثالثة أربعة ألف، وفي الرابعة ثمانية ألف، وفي الخامسة ستة عشر ألفاً، وفي السادسة أثنين وثلاثين ألفاً. وهلم جرا الى يومٍ كاملٍ والى شهرٍ بتمامه وأخيراً الى تسعة أشهرٍ، مضاعفةً فيها هذه النعم والأستحقاقات بالنوع المذكور، فاذاً حينما أتلدت من أحشاء أمها كم وجدت هي غنيةً بخزائن النعم والأستحقاقات الفائقة الأدراك.* فلنفرح اذاً متهللين مع حبيبتنا هذه الطفلة المجيدة. التي ولدت في العالم من أمها بهذا المقدار ساميةً في القداسة، محبوبةً في عيني الله، ممتلئةً من النعم الغنية. ولنبتهج ليس من أجلها هي فقط بل من أجل ذواتنا نحن أيضاً. لأنها هي قد جاءت الى العالم ممتلئةً نعمةً ليس من أجل مجدها الذاتي فقط بل من أجل خيرنا نحن أيضاً. فالقديس توما اللاهوتي يتأمل في كتيبه الرابع، في أن مريم العذراء المثلثة القداسة قد كانت بثلاثة أنواع ممتلئةً نعمةً، فهي بالنوع االأول كانت ممتلئةً نعمةً في نفسها الجميلة، التي منذ بدء خلقتها كانت بجملتها مختصةً بالله. وبالنوع الثاني كانت ممتلئةً نعمةً بجسدها، حتى أنها أستحقت أن تنسج من لحمانها الفائقة الطهارة سداءً تلبس منه جسداً لكلمة الله الأزلي المتجسد من دمائها، وبالنوع الثالث كانت ممتلئةً نعمةً لأجل الخير العام، لكي يستطيع البشريون أجمعون أن يستفيدوا الخير لذواتهم بواسطتها ومنها. ثم يضيف الى كلامه هذا، القديس المذكور قائلاً: أن البعض من القديسين قد نالوا من الله مقداراً وافراً من النعم، كافيةً ليس لخلاصهم هم فقط، بل لخلاص غيرهم أيضاً من البشر، ولكن لا لخلاص البشر أجمعين، الا أنه ليسوع المسيح فادينا، ولمريم العذراء شفيعتنا قد أعطيت نعمةٌ هذه صفتها لخلاص كل البشر. ومن ثم أن ما كتبه القديس يوحنا الإنجيلي عن يسوع المسيح بقوله: زمن أمتلائه نحن كلنا أخذنا: (ص1ع16) فهذا نفسه يقوله القديسون بالنسبة الى مريم العذراء، فالقديس توما الفيلانوفي كتب قائلاً: أن البتول المجيدة هي ممتلئةً نعمةً. ومن ملوء هذه النعمة أستوعب الكون. بنوع أنه يقول القديس أنسلموس: أنه لا يوجد أحدٌ مطلقاً لا يشترك بنعمة مريم، لأنه من هو الذي يوجد في العالم ولا يشترك بها حاصلاً على مريم رأوفةً حنونةً شفوقةً من أجله ولا توزع هي عليه مفاعيل رحمتها: الا أننا نلتزم بأن نفهم جيداً أننا أنما نقتبل نحن النعمة من يسوع بحسبما هو تعالى مصدرها وفاعلها بقوته الإلهية الذاتية. وأما من مريم فنقتبل النعمة بحسبما هي وسيطةٌ بنا لديه عز وجل، وهكذا نحن ننال النعمة من يسوع المسيح بحسب كونه فادينا ومخلصنا. وأما من مريم فبحسب كونها شفيعةً بنا أمامه تعالى، ونفوز بهذه النعمة من يسوع بحسبما هو الينبوع، ومن مريم بحسبما هي المجرى. ولذلك كتب القديس برنردوس: أن الله قد أقام مريم قناةً تجري إلينا بواسطتها مياه مراحمه التي يريد جلت خيرية صلاحه أن يوزعها على البشر. ولذلك قد صيرها ممتلئةً نعمةً لكي يشترك من أمتلائها كل أحدٍ بالجزء الذي أعطى له أن يفوز به: وهنا القديس المذكور يحرض الجميع على أن يتأملوا، في كيف أن الله يريد منا أن نكرم هذه البتول العظيمة بمحبةٍ ساميةٍ، من حيث أنه سبحانه قد أدخر فيها خزائن خيراته بأجمعها. حتى أن كل ما نحن نناله من الرجاء ومن النعمة ومن الخلاص. فنشكر من أجله بأسره ملكتنا الكلية الحب نحونا، اذ أن كل شيءٍ أنما يأتينا ويتصل إلينا من يدها وبواسطة شفاعاتها بنا. فالويل اذاً لتلك النفس التي تسد عن ذاتها مجرى النعم هذا، بأهمالها مطلقاً الألتجاء الى مريم المجيدة. فسفر يهوديت (ص7ع6) يوضح لنا: أن أليفانا حينما كان يطوف البلد بالقرب من مدينة بيت فالو قد شاهد عين الماء الجاري الى المدينة من ناحية الجنوب، فأمر غلمانه بأن يقطعوا المجرى: فهذا الأمر نفسه يصنعه الشيطان حينما يريد أن يستولي على نفسٍ ما. وهو أنه يجتهد في أن يصيرها أن تهمل عبادتها لمريم الكلية القداسة. لأنه اذا ما قطع عن تلك النفس هذا المجرى فهي تفقد بسهولةٍ أشراق النور السماوي، ثم خوف الله المقدس، وأخيراً الخلاص الأبدي، فليقرأ النموذج الآتي إيراده ليعرف كم هو عظيم أشفاق قلب هذه الأم الإلهية، وكم هو وافر الخراب الروحي الذي يلم بمن يقطع عن ذاته هذه القناة الروحية بأهماله التعبد لوالدة الإله ملكة السماء والأرض.* * نموذج * † صلاة † † الفصل الثالث يقول الرب الإله: أن الملكات هن ستون، والسريات ثمانون، والمغبوطين، لا عدد لكثرتهن، أما حمامتي وكاملتي، فواحدة هي. (نشيد 6/7) *فيما يلاحظ عيد دخول القديسة والدة الإله الى هيكل الرب* *في أورشليم، حيث قدمت هذه الفتاة الجليلة ذاتها لله بسرعةٍ* *وتأهبٍ خالٍ من كل أبطاءٍ. وبتقدمةٍ كاملةٍ كليةٍ من دون أن* تبقي لذاتها شيئاً خاصاً بها. *وفيه جزءان* † الجزء الأول † * في سرعة تقدمة مريم البتول ذاتها لله.* فمريم منذ الدقيقة الأولى من حياتها قد تقدست في أحشاء والدتها (في البرهة الأبتدائية من الحبل بها البريئ من دنس الخطيئة الأصلية) وقد حصلت منذ تلك الدقيقة على المعرفة الكاملة، لكي تبتدئ من ذلك الحين أن تكتسب الأستحقاقات، حسبما يعلم بهذا اللاهوتيون جملةً مع الأب سوارس القائل: أنه من حيث أن النوع الأكمل المستعمل من الله بتقديسه نفساً ما هو أنه تعالى يقدسها لأجل الأستحقاق الذاتي، كموجب تعايم القديس توما اللاهوتي. فهكذا يلزم أن يعتقد بأن مريم قد تقدست بهذا النوع: لأنه أن كانت هذه الموهبة وهذا الأختصاص قد أعطيا للملائكة ولآدم في حين خلقه. حسبما يبرهن المعلم الملائكي فبأبلغ من ذلك ينبغي لنا أن يعتقد أن الله قد وهبها نعماً أعظم وأجل مما وهبه لجميع مخلوقاته، لأجل أنه تنازل لأن يختارها أماً له بالجسد. كما يعلم القديس توما نفسه بقوله عنها: أنه لأجل أن المسيح أخذ منها الناسوت فقد وهبها أعظم نعمة، حتى أضحت ممتلئةً نعمةً. ويقول من ثم الأب سوارس أن مريم من قبيل كونها أماً فهي مستولية (على نوعٍ ما) على جميع المواهب المختصة بأبنها. وكما أن يسوع المسيح لأجل أتحاده الأقنومي وقيامه بأقنوم الكلمة الأزلي قد كان له ملؤ النعم كلها ذاتياً، فهكذا لأجل سمو كون مريم والدة لله قد وجد حسناً وصواباً به تعالى، أنه يلتزم من قبل دينٍ طبيعيٍ بحسب كونه متأنساً منها، أن يمنحها نعمةً عظمى فائقةً على جميع النعم التي وهبها لملائكته ولقديسيه الآخرين.* فاذاً مريم منذ بداية حياتها المقدسة في مستودع والدتها قد عرفت الله معرفةً هكذا ساميةً، حتى أنه لم يكن ممكناً للسانٍ ما أن يشرح بكفايةٍ، كم أتصل عقلها لأن ينفذ غائصاً فيه تعالى منذ الدقيقة الأولى التي فيها عرفته عز وجل: (حسبما قال الملاك للقديسة بريجيتا) فمن ثم منذ ذاك الوقت مريم قدمت ذاتها بجملتها لسيدها حينما حازت منه أشراق النور الأول الذي به أنار عقلها لمعرفته، وكرست نفسها وجسدها بكليتهما لحبه ولخدمته. (حسبما أتبع كلامه السابق ملاك الرب في خطابه مع القديسة بريجيتا بهذه الكلمات قائلاً): أن ملكتنا منذ ذاك الوقت قد أعتمدت حالاً على أن تضحي أرادتها لله، مع حبها له بجملته في مدة حياتها كلها، بنوع أنه لا يستطيع أحدٌ أن يدرك عظم الخضوع الذي به هي أخضعت أرادتها حينئذٍ لأقتبال كل تلك الأشياء الراجعة لمرضاته ومسرته عز وجل:* ولكن حينما فهمت بعد ذلك هذه الفتاة البريئة من العيب، أن والديها القديس يواكيم والقديسة حنه ق كانا وعدا بنذرٍ خصوصي لله بأن يقدماها مكرسةً له تعالى، كما يبرهن عن ذلك علماء كثيرون بقولهم: أنهما قد وعدا الله بأنهما اذا نالا من كرمه ولداً ما فهما كانا يقدمانه مكرساً لخدمته عز وجل في هيكله بأورشليم، وهكذا اذ كانت عادةٌ جاريةٌ عند اليهود أن يضعوا بناتهم محصوناتٍ داخل القلالي الكائنة ضمن أروقة الهيكل الأورشليمي، لكي يتربين هناك تربيةً صالحةً، حسبما يحقق ذلك الكردينال بارونيوس، والمؤرخ نيكيفوروس، والعلامة جادانوس، والأب سوارس، جملةً مع يوسيفوس المؤرخ العبراني، ومع القديسين يوحنا الدمشقي، وجاورجيوس النيكوميدي، وأنسلموس، وأمبروسيوس، بل كما يظهر واضحاً من سفر المكابيين الثاني (ص3ع19) اذ يقال: أن العذارى الحبيسات أيضاً كن يجرين الى حونيا وأخراتٍ الى الحيطان وأخراتٍ كن ينظرن من الطاقات وجميعهن كن يتضرعن رافعات اليدين الى السماء، وذلك حينما جاء الى أورشليم أيليودوروس أول وزراء سالوكيوس فيلوباطوره ملك سوريا بأمرٍ منه، لكي يأخذ من هيكل الرب خزنة المال المحفوظ فيه. فاذاً اذ عرفت العذراء المجيدة من والديها حقيقة نذرهما المقدم ذكره، فلما كان لها من العمر ثلاث سنواتٍ، كما يشهد القديسان جرمانوس وأبيفانيوس (القائل في عظته على مديحها أنها قربت لله في الهيكل في السنة الثالثة من حياتها) ففي هذا السن الذي فيه بأبلغ مما سواه يوجد الأطفال تعلقٌ كلي بوالديهم وأقربائهم، ويحتاجون فيه الى السياسة والعناية الوافرة قد أرادت هي أن تكرس ذاتها لله بأحتفالٍ مشتهر، بدخولها في هيكل الرب، الأمر الذي هي نفسها توسلت به الى والديها في سرعة تتمتهما نذرهما السابق، وهنا كما يقول غريغوريوس نيصص: أن أمها القديس حنه لم تتأخر أصلاً عن أن تقودها الى هيكل الرب وتقدمها لله:* فالقديس يواكيم والقديسة حنه على هذه الصورة أعتمدا على أن يضحيا لله بسخاءٍ أعز ما كان لديهما، بل أخص أجزاء قلبيهما وأكرم ما وجد لهما في الأرض، أي طفلتهما المحبوبة منهما. ولذلك سافرا بها من مدينة الناصرة الى مدينة أورشليم حامليها تارةً هو وتارةً هي على ذراعي كلٍ منهما، لأنها لم تكن تستطيع بعد على المشي مسافة ثمانين ميلاً، كما هي المسافة الكائنة فيما بين هاتين المدينتين. حسبما يحقق ذلك الذين يعرفون هذه الطريق، وقد رافقهما في هذه السفر البعض من أقربائها، الا أن أجواقاً كثيرة من الملائكة كانوا صحبتهما (كقول القديس جاورجيوس النيكوميدي) يكرمون بكل أحترام هذه الملكة المنطلقة الى بيت الرب. كما جاء البيان عن ذلك في العدد الأول من الاصحاح السابع من سفر النشيد بهذه الكلمات وهي: ماذا ترى في السولامية الا صفوف العساكر، ما أحسن خطواتكِ في أحذيتكِ يا بنت الرئيس: فهؤلاء الأجواق الملائكية كانوا يقولون نحوها (مرتلين كما كان من الواجب) ما أحسن خطواتكِ التي أنتِ تسيرين بها لكي تقدمي ذاتكِ لله، أيتها الأبنة العظيمة لرئسنا السماوي والمحبوبة منه في الغاية، بل أنه كقول برنردينوس البوسطي: أن الباري تعالى نفسه في ذاك اليوم قد سر مع أهل بلاطه السماوي كفي عيدٍ مشاع. عند مشاهدته عروسته هذه مقدمةٍ له في هيكله الأرضي، لأنه عز وجل لم يكن قط شاهد فيما بين الأشخاص الذين كانوا يقدمون له ذواتهم أحداً. لا أكثر قداسةً منها، ولا محبوبةً لديه أشد حباً نظيرها: ولذلك كان القديس جرمانوس يقول نحوها هاتفاً: أذهبي يا ملكة العالم يا والدة الإلة مسرورةً، وأمضي فرحةً الى بيت الرب. لتنتظري أتيان الروح القدس الذي يصيركِ أناً للكلمة الأزلي.* فعندما بلغ هؤلاء كلهم الى مدينة أورشليم كأهل بلاطٍ حول هذه الطفلة الملوكية، فهي من دون تأخيرٍ أخذت تقبل أيدي والديها جاثيةً. طالبةً منهما البركة، وحالاً دخلت هيكل الرب صاعدةً على الخمس عشرة درجةً التي كانت للهيكل (كما يقول أرياس مونتانوس نقلاً عن يوسيفوس المؤرخ اليهودي) من غير أن تلتفت ناظرةً الى والديها وأقاربها، وبلغت أمام كاهن العلي زخريا (حسبما يشهد القديس جرمانوس) وحينئذٍ اذ أنها رفضت كل ما هو في العالم، وجميع ما يعد به تابعيه من الخيرات فكرست ذاتها لله خالقها ضحية حية.* فالغراب حينما أرسل من سفينة نوح، أنطلق ثم أستقر فوق جيف الموتى يرتعي من اللحوم المنتنة، وبخلاف ذلك حينما أرسلت الحمامة من السفينة، فطارت وعادت إليها من دون أن تستقر في مكانٍ (سفر التكوين ص8ع1) فهكذا أن كثيرين قد أرسلوا من الله الى هذا العالم، وهم بتعاسةٍ أستقروا يرعون أنفسهم بخيراته الزائلة، الا أن الحمامة السماوية مريم لم تكن على هذه الصورة، بل أنها قد عرفت جيداً أن رجانا الوحيد، وخيرنا المحض الفريد، وحبنا النقي الشديد، يلزم أن يكون في الله وحده. وقد فهمت حسناً أن العالم هو مملؤٌ من الأخطار، وأن ذاك الذي يهمل الدنيا بأكثر سرعةٍ، يكون معتوقاً حراً من أشراكها. فمن ثم رغبت هي حسناً أن تهرب منها منذ نعومة أظفارها، منفردةً حبيسةً في أمكنة هيكل الرب المقدس، حيث كان يمكنها بأفضل نوع أن تسمع صوت الله، وأن تحبه وتكرمه وتعبده. وبذلك قد صيرت ذاتها من بداية أعمالها مقبولةٌ لديه تعالى محبوبةً منه، حسبما تقول الكنيسة عن لسانها هكذا (في فرض اليوم الخامس من شهر آب): أفرحوا معي يا جميع المحبين الرب، لأني منذ حداثتي قد أرضيت العلي الذي سر بي: ولهذا قد مثلت البتول المجيدة بالقمر، لأنه كما أن القمر يتمم مجرى دورانه بأكثر سرعةٍ من باقي الكواكب والأجرام السماوية، فكذلك مريم بأوفر سرعةٍ من جميع القديسين بلغت الى قمة الكمال بتقدمتها ذاتها لله من دون إعاقةٍ، بل بسرعةٍ كلية منذ بداية حياتها.* † الجزء الثاني † * في أن مريم العذراء قدمت ذاتها لله تقدمةً كاملةً من دون أن* * تبقي لنفسها شيئاً ما خاصاً بها.* وهنا ينبغي لنا أن نتأمل كم كانت قداسة سيرة حياة مريم عظيمةً في بيت الرب، نظير الفجر الذي ينمو أشراقه حتى أن يبلغ الى ضياء النهار، فمن تراه يمكنه أن يصف كيف كانت فضائلها تزداد يوماً فيوماً أشراقاً ونمواً، ويتلألأ جمال حبها، ونقاوة أحتشامها، وعمق تواضعها، وصرامة صمتها، وشدة أماتتها، وعظم دعتها، وعذوبة وداعتها. فيقول القديس يوحنا الدمشقي: أن هذه الزيتونة الجميلة اذ أنغرست في أرض بيت الرب، وأسقيت من الروح القدس، فأضحت مسكناً للفضائل كلها: ويقول (في عظته على ميلادها): أن وجه هذه البتولة القديسة كان مملؤاً من الأحتشام، ونفسها مؤسسةً في التواضع، وكلماتها موعبةً عذوبةً ومحبةً صادرةً عن ترتيب باطن. ثم يبرهن عن كيف أنها قد أبعدت أفكارها عن جميع الأشياء الأرضية، معتنقةً كل الفضائل، فاذاً من حيث أنها مارست واجبات الكمال على هذه الصورة، فأستحقت بزمنٍ وجيزٍ أن تصير هيكلاً لائقاً بالله.* وكذلك القديس أنسلموس يتكلم عن كيفية عيشة هذه الفتاة الجليلة في هيكل الرب قائلاً: أن مريم كانت هناك هادئةً عذبةً لطيفةً لينةً، قليلة التكلم، حافظة هندام أثوابها بالأحتشام. بعيدة مطلقاً عن الضحك، عادمة أن تقلق أو تضطرب من شيء، مواظبة على الصلوات بأنعطاف كلي، مثابرةً على قراءة النصوص الإلهية، ممارسةً الأصوام ومجتهدة في أتقان كل الفضائل. ثم أن القديس أيرونيموس يورد عن سيرتها في الهيكل أشياء أخرى ذات تدقيقٍ أوفر بقوله: أن العذراء المجيدة كانت مرتبة حياتها في هيكل الرب على هذه الصورة، وهي أنها منذ الصباح الى الساعة الثالثة كانت تداوم على الصلوات، ومن الساعة الثالثة الى التاسعة كانت تباشر أعمالاً خدميةً بيديها، ومن الساعة التاسعة الى ما بعد كانت تعود الى ممارسة الصلوات، التي لم تكن تنتزح عنها الا حينما كان ملاك الرب يأتيها بالطعام، حسب العادة، وكانت تجتهد في أن تكون هي الأولى في المجيء الى صلاة السهرات الليلية، وفي حفظ الصيامات، وأن تكون هي الأوفر تدقيقاً في تكميل شريعة الله، والأشد تعمقاً في التواضع، والأكثر كمالاً في الفضائل كلها، ولم يكن أحدٌ قط يراها مغتاظةً مغمومةً محتدةً في الخلق، وكلماتها كافةً كانت موعبةً حلاوةً وعذوبةً، ولم يكن ينقص ذكر أسم الله من لسانها:* ثم أن هذه القديسة والدة الإله المجيدة هي نفسها قد أوحت للطوباوية أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس، في دير سكوناوجيا، بأنه حينما تركها في هيكل الرب أبواها، قد عزمت هي على أن تتخذ الله وحده أباً لها، مراتٍ مترادفةً كانت تفتكر في كيف يمكنها أن تجد ما به ترضيه تعالى وتسره بأفضل نوع، وقد اعتمدت على أن تكرس له عذريتها الدائمة، وبالا تمتلك شيئاً ما على الأرض، وأن تهب لله أرادتها بجملتها، وأنها فيما بين الوصايا الإلهية بنوع أخص كانت تكرر التأمل في تلك الوصية الآمرة بأن يحب الرب الإله من كل القلب. وأنها في ساعة نصف الليل كانت تمضي أمام هيكل الله مصليةً بتوسلاتٍ حارة لديه تعالى، في أن يمنحها أن تحفظ بالتمام وصاياه، وفي أن ترتضي بأن يصير أن تولد في العالم أم المسيح المخلص المنتظر. وكانت تتضرع لمراحمه في أن يحفظ لها عينيها الى حينما تشاهد بهما أم المسيح، ولسانها لكي تمدحها به، ويديها ورجليها لكي تخدمها بها، وركبتيها لكي تسجد بهما لأبن الله الطفل الكائن في أشائها حين حبلها به. غير أن البارة أليصابات عندما سمعت هذه الكلمات من العذراء المجيدة قالت لها: أفما كنتِ أيتها السيدة ممتلئةً نعمةً وفضائل: فأجابتها الطوباوية بقولها:" أعلمي أني كنت أعتد ذاتي الأكثر ذلاً وحقارةً، والعديمة الأستيهال بالكلية للنعمة الإلهية، ولذلك كنت ألتمس بأتضاعٍ منه عز وجل أن يهبني النعمة والفضيلة". وأخيراً لكي نقتنع باحتياجنا المطلق جميعاً لأن نتوسل لله في أن يمنحنا النعم الضرورية لنا، قد أردفت قولها لها: أتظنين أنتِ يا إبنتي قد نلت أنا من الله النعم والفضائل من دون تعبٍ، فأعلمي أني لم أفز من الرب بنعمةٍ ما كمرغوبي من غير أتعابٍ عظيمة، وصلواتٍ متصلة، وأشواقٍ متقدة، ودموعٍ غزيرة، وأماتاتٍ شاقة.* غير أنه بأبلغ من ذلك يجب أن يصير التأمل فيما أوحى به للقديسة بريجيتا عن الفضائل والرياضات والأعمال التقوية السامية التي مارستها مريم الطوباوية في مدة حداثتها، كما يظهر من كلماتها الآتي إيرادها التي قيلت للقديسة المذكورة وهي:" أن مريم البتول منذ طفولتها وجدت ممتلئةً من الروح القدس، وبحسبما كانت تنمو في العمر فبحسبه كانت النعمة تنمو فيها متزايدةً، ومنذ ذاك السن الطفولي قد وطدت هي عزمها على أن تحب الله من كل قلبها، بنوع أنه ما كان يصدر على الأطلاق، لا في أعمالها ولا في كلماتها شيء ما يمكن أن يغيظه تعالى، ولذلك قد أحتقرت خيرات الأرض كلها ورذلتها، وكانت تعطي الفقراء الصدقة بمقدار أستطاعتها، وفي مأكولها كانت بهذا المقدار قنوعةً، حتى أنها لم تكن تقتات سوى بتلك الأشياء البسيطة الضرورية التي لا بد منها لقيام الحياة، واذ فهمت فيما بعد من تلاوتها الكتاب المقدس أن الإله القادر على كل شيءٍ نفسه، كان مزمعاً أن يظهر في العالم متجسداً مولوداً من بتولةٍ ليخلص العالم، فقد ألتهب قلبها مشتعلاً بنار الحب الإلهي، أتقاداً هذا حده، بنوع أنها لم تعد تشتهي شيئاً آخر أو تفتكر في موضوعٍ ما سوى في الله وحده، وفيه عز وجل كانت قائمةً لذتها وتعزيتها القصوى، وكانت تهرب من المخاطبات والأحاديث حتى مع والديها ذاتهما، لكيلا تفصلها مفاوضاتها مع البشر عن التفكر الدائم بالله، وكانت عواطفها ومرغوباتها وأشواقها مضطرمةً بزيادةٍ كلية نحو هذا الموضوع، وهو أن توجد هي في الحياة على الأرض، حينما كان مزمعاً أن يظهر في العالم المسيح المنتظر، ليمكنها أن تتعبد لتلك البتول العتيدة أن تلده من أحشائها، وتخدمها كجاريةٍ لها، لأجل أنها تكون أستحقت أن تصير له تعالى أماً.* فيا له من حبٍ هكذا متقدٍ في قلب الله نحو هذه الطفلة المثلثة قداستها حتى أنها عطفت قلب الكلمة الأزلي لأن يسبق الزمن المحدود منه لتجسده، وأن يأتي الى العالم قبل الزمان آخذاً منها جسداً، لأنها في الوقت الذي فيه لم تكن هي من عمق تواضعها تحتسب ذاتها أهلاً حتى ولا أن تصير جاريةً لوالدة الإله، ففيه عينه قد أختارها الله هي ذاتها أن تكون تلك الأم الإلهية التي منها يظهر المسيح. وهكذا بواسطة عرف فضائلها، وبقوة صلواتها المتقدرة قد أجتذبت أبن الله من السماء الى مستودعها البتولي. ولذلك قد دعيت هذه العروسة الطاهرة من عروسها الإلهي يمامةً بقوله: صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12) وأنما لقبت هي منه عز وجل باليمامة ليس فقط من كونها نظير اليمامة قد أحبت دائماً الأنفراد والتوحد، عائشةً في هذا العالم كأنها في القفر البعيد عن الناس، بل أيضاً، كما أن اليمامة تجول على الدوام طائرةً في الحقول والكروم مناغيةً بصوتٍ خشوعي كمترثية. فهكذا مريم كانت من دون أنقطاعٍ في هيكل الرب تتنهد مترثيةً وتندب متوجعةً حال شقاوة العالم الهالك بالخطيئة. وتلتمس من الله سرعة مجيء الفادي المنتظر قدومه مخلصاً للعالم. فبكم من الحراة والأتضاع كانت هي أمام هيكل الله تكرر بعواطف الحب التضرعات لديه تعالى، والتنهدات المستعملة قبلها من الأنبياء والقديسين، في ألتماس أرسال المخلص الى العالم. كم من مرةٍ كانت تهتف نحو الرب قائلةً كلمات النبي أشعيا وهي: أرسل يا رب الحمل المسلط على الأرض من صخرة البرية الى جبل بنت صهيون: (ص16ع1): سحي نداءً أيتها السموات من فوق والغيوم فلتمطر الصديق: (ص45ع8): ليت السموات تنشق وتنزل يا رب: (ص64ع1).* وبالأجمال أن هذه الفتاة الإلهية قد وجدت أمام الله موضوع مسرته ورضاه الكلي، عند مشاهدته إياها متراقيةً يوماً فيوماً على درج الكمال الأكثر سمواً، متجهةً نحو قمته العالية في الغاية نظير عامود دخان مؤلفاً من أطيب روائح الفضائل الزكية العرف. حسبما أشار عنها الروح القدس نفسه بهذه الكلمات وهي: من هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخور من طيوبٍ ومرٍ وكندر ومن جميع ذرائر العطار: (نشيد ص3ع6) فيقول صفرونيوس: أن هذه الفتاة القديسة قد كانت بالحقيقة نظير البستان المختص بالله، المملؤ من التنعمات، لأنه كان يوجد فيه جميع أنواع الزهور وطيب نشر الفضائل كلها. ويثبت ذلك القديس يوحنا فم الذهب قائلاً:" أن الله لأجل هذه العلة أنتخب مريم أماً له بالجسد في الأرض، أي لأجل أنه تعالى لم يجد على الأرض بتولةً، لا أكثر منها قداسةً، ولا أسمى منها كمالاً، ولم يصادف محلاً أعظم لياقةً وأكثر أهلاً ليسكن فيه، من مستودعها البتولي الكلي الطهارة والقداسة". ويؤيد ذلك القديس برنردوس بقوله: أنه لم يوجد على الأرض مكانٌ لسكنى الإله الكلمة. أوفر لياقةً وأكثر أهلاً من مستودع العذراء مريم الدائمة بتوليته. ويقول القديس أنطونينوس: أنه يازم أن تكون الطوباوية مريم البتول وجدت ممتلكةً درجاتٍ سامية جداً من الكمال، بنوع أنها فاقت بها متعاليةً سمواً على كمال جميع المخلوقات، حتى أنها لأجل ذلك أنتخبت وتعينت أماً لله على الأرض.* فاذاً بالنوع الذي به مريم المثلثة قداستها في سن ثلاث سنين من عمرها قدمت ذاتها لله في هيكله الناموسي من دون أبطاءٍ، ومن غير أن تبقي لذاتها شيئاً خاصاً بها. فبهذا النوع نحن اليوم ينبغي لنا أن نقدم ذواتنا أمام هذه السيدة عاجلاً، ومن دون أنقسام قلوبنا، متوسلين إليها بأن تقدمنا هي نفسها لله الذي لا يأنف من أن يقبلنا، عندما يرانا مقدمين إليه بواسطتها وعن يدها، هي التي كانت الهيكل الحي للروح القدس، وموضوع تنعم الرب سيدها، والأم المنتخبة للكلمة الأزلي. وهكذا نحن نرجوا واثقين بهذه السيدة العظيمة والكلية الأحسان، في أنها تكافئ بحبٍ وافرٍ الكرامة والتعبد الذي يتقدم لها من عبيدها، كما يبان من النموذج الآتي إيراده.* * نموذج * † صلاة † فعينيني أنتِ أيتها الأم الرحيمة بواسطة شفاعتكِ المقتدرة. مستمدةً لي من أبنكِ يسوع نعمة الثبات، والقوة في أن أكون أميناً في خدمتكِ الى الموت. حتى اذا ما أحسنت تعبدي لكِ في هذه الحياة. يمكنني أن آتي الى الفردوس السماوي لأمدحكِ †الى الأبد آمين† † الفصل الرابع * فيما يلاحظ عيد بشارة البتول المجيدة بالحبل الإلهي، حيث* * يبرهن عن عمق تواضع هذه السيدة الكلي، وعلو الرفعة* * السامية التي عظمها الله بها في سر التجسد* * وفيه جزءان* † الجزء الأول † *في أن مريم البتول لم يمكنها أن تواضع ذاتها أكثر أتضاعاً* * مما أتضعت به حين تجسد الكلمة الأزلي منها.* فاذ تكلم الرب في سفر النشيد (ص1ع12) مشيراً الى عظم تواضع هذه البتول القديسة قال تعالى هكذا: أنه اذ كان الملك في مضجعه النردين الذي لي أفاح نسيم طيبه. فالقديس أنطونينوس في تفسيره هذا النص الإلهي يقول: أن نصبة شجر النردين التي هي صغيرة واطية ذليلةً، كانت رسماً لعمق تواضع مريم التي فاحت رائحة طيبها، وأرتفع نسيم عرفها الزكي حتى السماء وأجتذب من حضن الآب الأزلي الى مستودعها البتولي الكلمة أبن الله: فعلى هذه الصورة رائحة طيب تواضع هذه العذراء المجيدة، قد أجتذبت الرب لأن يختارها أماً له عندما شاء أن يتأنس ليفدي العالم. غير أنه عز وجل لكي يمجد هذه الأم الإلهية ويزيد أستحقاقاتها، لم يرد أن يصير هو لها أبناً من دون أن يأخذ قبلاً رضاها بذلك، كما يقول الأنبا غولياموس في تسبحته الثالثة: أن الرب لم يشأ أن يأخذ من هذه العذراء جسداً ألم تعطيه إياه هي برضاها. فمن ثم حينما كانت البتول المملؤة تواضعاً جالسةً في بيتها الحقير في حال الفقر، مصليةً بأشد حرارةٍ متنهدةً من سويداء قلبها، ملتمسةً من الله أن يرسل سريعاً الى العالم المخلص المنتظر المشوق إليه، حسبما أوحي للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس، فحينئذٍ أنحدر زعيم الملائكة جبرائيل من القناطر العلوية، الى بيت هذه العذراء النقية ليخبرها بهذا الأمر العظيم من قبل الله، واذ مثل أمامها قد قال لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ مباركةٌ أنتِ في النساء: (لوقا ص1ع28) وكأنه برهن لها قائلاً: السلام عليكِ أيتها العذراء الممتلئة نعمةً. لأنكِ قد وجدت دائماً غنيةً بالنعم فوق جميع القديسين والقديسات، أفرحي الرب معكِ، لأنكِ متعمقةٌ بالتواضع، فأنتِ مباركةٌ فيما بين النساء، لأن النساء كلهن قد حصلن في اللعنة الصادرة عن الخطيئة، وأما أنتِ فلأنكِ أنتخبتِ أماً للمبارك فقد بوركتِ منذ البدء وعتيدة أن تكوني على الدوام مباركةً معتوقةً بريئةً من كل زلةٍ وعيبٍ ودنسٍ.* فما الذي أجابت به هذه البتول النقية عندما سمعت كلام المدح والنعت والتقريظ بالنوع المتقدم ذكره، أنها لم تجب بشيء عن هذا، بل أنها أضطربت من ذاك الكلام، وفكرت ما هذا السلام، ولكن لماذا هي أضطربت، أهل خوفاً من الخداع. أم حياءً من دخول رئيس الملائكة إليها بصورة رجلٍ، كما فسر ذلك بعض العلماء، كلا، بل أن نص كلمات الإنجيل عن هذا التبشير هو واضح اذ يقال: فلما سمعت أضطربت من كلامه: كما ينبه أوسابيوس الأميساني، بأن الإنجيل لم يقل أنها أضطربت من منظره بل من كلامه، فاذاً أنما كان قلقها وأضطرابها جميعه صادراً من قبل عمق تواضعها، عندما سمعت ألفاظ ذاك المديح البعيد بجملته عن روح أتضاعها. وعن أحتسابها ذاتها كلا شيء ومن ثم بمقدار ما كانت تسمع من جبرائيل ألفاظ الرفعة والتقريظ، فبأكثر من ذلك كانت هي تخفض نفسها وتحقر ذاتها متأملةً في كونها عدماً لا تستحق أدنى مديح. فهنا يتأمل القديس برنردينوس قائلاً: أنه لو كان الملاك يقول لها أنها هي أعظم الخاطئات الموجودات في العالم، لما كان حصل عندها من هذا القول تعجب بالكلية ولكنها عندما سمعت منه ألفاظ ذاك المديح السامي قد أستوعبت قلقاً وأضطراباً: فاذاً أنما أضطربت هذه البتول لأجل أنها اذ كانت مملؤةً من التواضع العميق. فلم تكن تطيق أستماع أية كلمات كانت راجعةً لمدحتها. وكل رغبتها وأشواقها كانت في أن خالقها وحده الذي هو علة المواهب، وأصل جميع الخيرات والنعم يوجد ممدوحاً معظماً مباركاً مسبحاً، كما أوضحت ذلك هي نفسها فيما أوحت به للقديسة بريجيتا بتكلمها معها عن زمن تجسد أبن الله منها قائلةً: أني لم أكن أريد أن أمدح أنا بل الله وحده أصل المواهب وخالق كل شيء:* ولكنني أقول أن الطوباوية مريم البتول قد كانت، لتعمقها في قراءة نصوص الكتاب المقدس، وأقوال الأنبياء تعرف حسناً قلما يكون، أن زمان مجيء المسيح الى العالم قد كان دنا، وأن أسابيع دانيال قد كانت ناهزت النهاية، وأن قضيب ملك يهوذا قد كان أنتقل الى يد هيرودس الرجل الغريب عن قبيلة هذا السبط، وأن بتولةً ما كان ينبغي لها أن تحبل بالمسيح وتصير أمه، ولكن عندما سمعت هي من زعيم الملائكة ألفاظ نعوتٍ لم تكن واجبةً الا لمن هي والدة الإله، وهو كان يخصصها بها نفسها هي، فهل أنه ربما جاء في فكرها حينئذٍ أنه من يعلم أنها هي تكون تلك التي أختارها الله لهذه الدعوة. لا لعمري، أن عمق تواضعها لم يكن يحضر في عقلها تصوراً هذه صفته، بل أن كلمات ذاك المديح لم تفعل فيها شيئاً آخر سوى دخول الخوف العظيم على قلبها بهذا المقدار، حتى أنها حسبما يقول القديس بطرس الذهبي النطق: كما أن المسيح مخلصنا قد أراد أن يظهر له في بستان الزيتون ملاكٌ ليشجعه ويقويه. فهكذا لزم الأمر أن جبرائيل لملاحظته شدة الخوف الذي أعترى قلب هذه الفتاة من قبل سلامه وكلامه لها أن يأخذ في أن يشجعها ويقويها بقوله لها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرتِ بنعمةٍ أمام الله: وكأنه يريد بذلك قائلاً: لا تجزعي ولا يأخذكِ أنذهالٌ من قبل ما نعتكِ أنا به نعتاً عظيماً، لأنكِ اذا كنتِ أنتِ عند ذاتكِ هكذا حقيرةً تعتدين شخصكِ أدنى ما يوجد في البشر، فالله الذي يرفع المتواضعين قد أهلكِ مستحقةً أن تجدي النعمة التي أضاعها البشريون كافةً، ولذلك قد حفظكِ تعالى سالمةً ناجيةً بريئة من الدنس العام الذي ألتحق ببني آدم أجمعين، ومن ثم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بكِ قد زينكِ بنعمةٍ عظمى فائقة على كل النعم، التي حازها من الله القديسون الآخرون كلهم، ولهذا الآن قد رقاكِ الى مقام والدةٍ له. وها أنتِ تحبلين وتلدين أبناً وتدعين أسمه يسوع: فهنا القديس برنردوس يقول: ماذا تنتظرين يا مريم، هوذا الملاك يريد أن يسمع منكِ الجواب، ولكن نحن بأبلغ من الملاك ننتظر جوابكِ، لأنه حكم علينا كافةً بالموت، فها أن ثمن خلاصنا وقيمة نجاتنا قد فوضت إليكِ وخيرتِ بها، وهي أن كلمة الله أزمع أن يتجسد منكِ متأنساً، فأن كنتِ تقبلينه أبناً لكِ فنحن حالاً نصير معتوقين من حكومة الموت. فسيدنا نفسه بمقدار ما أنه أحب جمالكِ حباً شديداً، فبمقدار ذلك ينتظر رضاكِ الذي حدد هو عز وجل أن به توجد علة خلاص العالم: (بل يضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس قائلاً): فاذاً أعجلي أيتها السيدة باعطاء الجواب من دون تأخيرٍ. ولا تجعلي أن خلاص العالم يعاق أمره، لأن فداء الدنيا ونجاة الكون هي الآن متوقفة على رضاكِ.* فهوذا أن البتول المجيدة قد أعطت الجواب لرئيس الملائكة بقولها له: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولكَ: فيا له من جوابٍ هو الأعظم حسناً، والأعمق أتضاعاً. والأكثر فطنةً، من كل ما تستطيع البشر كافةً والملائكة أجمعون بحكمتهم كلها أن يخترعوه، اذا كانوا أجتمعوا معاً وأستمروا عدةً من السنين يدرسون ليرتبوه بهذه الكلمات، يا له من جوابٍ ذي أقتدارٍ قد أوعب السماء تهليلاً، وجلب لسكان الأرض بحراً ذاخراً من النعم والمواهب التي لا تحد ولا تحصى، يا له من جوابٍ حالما خرج من فم البتول الكلية القداسة، قد أجتذب من حضن الآب الأزلي أبنه الوحيد الحبيب الى أحشائها الفائق الطهر متأنساً من دمائها النقية. على أنه في الدقيقة عينها التي فيها هذه العذراء المجيدة قالت: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولكَ: ففيها نفسها: الكلمة صار جسداً وحل فينا: وأبن الله صار أبن مريم أيضاً. فهنا القديس توما الفيلانوفي يهتف صارخاً: يا لعظم أفتدار لفظة فليكن، يا لها من لفظة فعالةٍ، يا لها من لفظة تستحق منا فوق كل لفظةٍ تكريماً عظيماً، لأنه بواسطة لفظة فليكن الأخرى المتكررة من الله بقوله فليكن الضوء، فليكن جلدٌ فيما بين الماء والماء فليكن فليكن ألخ قد خلق تعالى السموات والأرض، وأما بهذه اللفظة المقولة من العذراء مريم: فليكن لي كقولكَ: قد صار الله إنساناً مثلنا:* ولكن من دون أن نبتعد عن الموضوع الذي نحن في صدده. فلنتأمل في عمق التواضع الذي لا قرار له. المعلن في هذا الجواب المعطى من مريم العذراء لزعيم الملائكة. فهي وقتئذٍ قد عرفت جيداً مستنيرةً من الله كم كانت عظيمةً المرتبة والدعوة التي أختارها إليها تعالى بأن تكون والدةً له، لا سيما لأن ألفاظ المبشر رئيس الملائكة المقولة منه لم تكن ذات أشتباه، بأنها هي هي تلك البتول السعيدة المنتخبة من الرب لتجسد كلمة الله منها، فمع ذلك جميعه هي لم تتقدم الى ما قدام معتبرةً ذاتها شيئاً. ولم تلبث قط مستلذةً بأرتفاعها الى هذا المقام الأسمى، بل اذ شرعت من جهةٍ أولى تتأمل في دناءتها وعدمها، ومن جهةٍ أخرى في سمو عظمة جلالة الله خالقها الذي تنازل لأن يختارها أماً له. فقد أعتبرت ذاتها حسناً أنها لم تكن أهلاً لذلك، ولا مستحقةً لهذه الكرامة، غير أنها لم ترد أصلاً أن تقاوم أرادته الإلهية، فلهذا اذ ألتزمت بأن تعطي الجواب. فماذا صنعت وفي أي شيء أفتكرت، أنها قد أنخفضت كأنها متلاشية بجملتها في عمق الأتضاع، وفي الوقت ذاته قد أشتعلت بنيران الشوق لأن تتحد بالله أعظم أتحاداً، فأهملت ذاتها بكليتها بخضوع تام لمشيئته تعالى، وأجابت قائلةً:" ها أنا أمةٌ للرب". هوذا العبدة الأسيرة لخالقها الملتزمة بأن تصنع ما يأمرها به سيدها، وكأنها تقول بذلك، أنه أن كان الله يريد أن ينتخبني أماً له، أنا التي لا أملك شيئاً خاصاً بي، وجميع ما عندي أنما هو خاصته تقدس أسمه موهوبٌ لي منه. فمن ثم من يمكنه أن يفتكر بأنه عز وجل قد أختارني لهذا المقام من أجل أستحقاقي، أنا التي أنما أمةٌ للرب، فأي أستحقاقٍ تستطيع أن تملكه من هي عبدةٌ أمةٌ جاريةٌ أسيرةٌ لأن تصير أماً لسيدها ومولاها، فأنا أمةٌ للرب، وبالتالي فليكن المديح كله لصلاح الرب ولخيرية جوده، ولا تمدح الأمة الأسيرة، لأن هذا جميعه هو مفعول صلاح الله، بأنه رمق بنظره الرحيم خليقةً ذليلةً، متواضعةً نظيري، ليجعلها كبيرةً عظيمةً بهذا المقدار.* فهنا يهتف الأنبا غواريكوس صارخاً:" يا له من تواضعٍ عميقٍ قد صير مريم البتول المتضعة به صغيرةً حقيرةً دنيةً عند ذاتها، ولكن عظيمةً جليلةً مكرمةً في عيني الله، وجعلها في نفسها ذليلةً كلا شيء، وأما عند ذاك الرب الغير المحدود الذي العالم لم يعرفه فمستأهلة مكرمة ذات أستحقاقٍ كلي". الا أن كلمات هتاف القديس برنردوس في هذا الموضوع هي أحلى وأكرم بقوله في عظته الرابعة على أنتقال الطوباوية مريم البتول الى السماء هكذا:" كيف أمكنكِ أيتها السيدة أن تجمعي في قلبكِ أتضاعاً بهذا المقدار عميقاً، بأحتقاركِ ذاتكِ وبأعتدادكِ إياها كالعدم، جملةً مع طهارةٍ ونقاوةٍ وبرارةٍ فائقة الوصف، ثم مع كمالٍ ونعم ومواهب سامية على كل ما سواها ممتلكةً إياها بغنى عظيم، فمن أين ومن أي قبيل قد أصلت فيكِ أيتها البتول الطوباوية تواضعاً هذه صفته قراره العميق، في الوقت الذي فيه أنتِ حاصلةٌ على مرتبةٍ كلية السمو، عارفةً مقدار الرفعة العظيمة والوظيفة الفائق جلالها التي رقاكِ الله إليها. فلوسيفوروس حينما كان شاهد ذاته مزيناً بجمالٍ فائقٍ قد أشتهى قاصداً أن يرفع كرسيه فوق الكواكب، ويصير شبيهاً بالله، كما يقول عنه أشعيا النبي (ص14ع13) هكذا: أنت قلت في قلبك أصعد الى السماء وفوق كواكب الله أرفع كرسيَّ... وأكون شبيهاً بالعلي: فلو أن هذا الروح المتكبر كان يجد ذاته حاصلةً على تلك الصفات والأختصاصات والمرتبة والوظيفة والرفعة التي حصلت عليها البتول المجيدة، فكم لكان قال وأدعى وأشتهى. فلم يكن روح هذه القديسة الا بالضد أي بمقدار ما رأت نفسها مرتفعةً فائزة بهذا جميعه، فبأكثر من ذلك كانت تواضع ذاتها محتقرةً إياها. ومن ثم يختتم القديس برنردوس خطابه قائلاً: أنكِ أنتِ أيتها السيدة لأجل تواضعكِ هذا الجميل قد أستحقيتِ حسناً وصواباً أن ينظر الله إليكِ نظراً ذا حبٍ فريدٍ في نوعه. وصرت أهلاً لأن تكتسبي قلب ملككِ الى محبة جمالكِ. وفزتِ بأن تعطفي بواسطة نشر طيب أتضاعكِ الزكي الرائحة أبن الآب الأزلي الكائن سعيداً في حضن أبيه في راحته الأبدية، وأن تجتذبيه من القناطر العلوية الى مستودعكِ البتولي الكلي الطهر والنقاوة". وهنا يقول العلامة برنردينوس البوسطي: "أن مريم العذراء قد أكتسبت بجوابها لرئيس الملائكة قائلاةً: ها أنا أمةٌ للرب:" أستحقاقاً لم يكن للمخلوقات كلها معاً ممكناً أن تكتسبه بجميع أعمالها الصالحة مهما كانت عظيمة.* فهذا هو أمرٌ حقيقيٌ (يقول القديس برنردوس في ميمره الأول) على أنه ولئن كانت هذه العذراء قد أهلت ذاتها بواسطة بتوليتها ونقاوتها، لأن تكون عزيزةً مقبولةً لدى الله، فمع ذلك قد صيرت نفسها بواسطة التواضع أهلاً بمقدار ما هو ممكنٌ لخليقة أن تجعل ذاتها مستحقةً لأن تنتخب أماً لخالقها". ويثبت هذا الأمر القديس أيرونيموس بقوله: أن الله أنما أختار مرمي أماً له لأجل عمق تواضعها، أفضل مما لأجل سائر فضائلها الأخرى السامية: بل أن هذه البتول المجيدة هي نفسها قد أوضحت ذلك في الوحي للقديسة بريجيتا قائلةً: من أين أمكنني أنا أن أستحق نعمةً هذه صفتها، وهي أن أصير أماً لسيدي وربي، الا من هذا القبيل، وهو من معرفتي ذاتي أنني كلا شيء عديمة كل أستحقاق وهكذا غصت في عمق التواضع: كما قد كانت هي عينها أعلنت ذلك في تسبحتها المملؤة تواضعاً اذ هتفت قائلةً: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع أمته... لأنه صنع معي عظائم: (لوقا ص1ع47) وهنا القديس لورانسوس يوستينياني ينبه: بأن العذراء المجيدة لم تقل في تسبحتها أن الله نظر الى بتوليتها والى برارة نفسها، بل الى تواضعها: ثم أن القديس فرنسيس سالس يبرهن بقوله: أن مريم الكلية قداستها لم تقصد بكلماتها المقدم ذكرها أن تمدح فضيلة تواضعها، بل أرادات أن توضح حقاً أن الله قد نظر الى كونها عدماً، وكلا شيء، وبمجرد صلاحه وخيرية رحمته شاء أن يرفعها الى مقامٍ هذا سموه، وأن يصنع معها العظائم.* وبالأجمال يقول القديس أوغوسطينوس: أن تواضع مريم العذراء قد وجد نظير السلم التي فيها قد تنازل الرب لأن ينحدر من السماء الى الأرض متأنساً في أحشائها. ويؤيد ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن أتضاع مريم البتول قد كان هو الأستعداد الأخص والأكمل والأقرب لصيرورتها والدةً لله. ويشير بهذا الى ما كان النبي أشعيا سبق وتفوه به قائلاً: يخرج قضيبٌ من أصل يسىَّ وتصعد زهرةٌ من أصله. فعن هذا النص يتفلسف الطوباوي ألبارتوس الكبير بقوله: أن الزهرة الإلهية أي أبن الله الوحيد قد كان يلزمه حسب نبؤة أشعيا أن ينبت صاعداً، لا من رأس القضيب الخارج من نسل يسىَّ، ولا من أحد فروعه، بل من أصله وشلشه، ليعلن بالحصر عمق أتضاع والدته: وكذلك يفسر هذا النص الأنبا جلانسه قائلاً: أن الزهرة المذكورة كان يلزمها أن تفرخ من عمق القضيب وأصله الواطي وليس من رأسه: ولذلك قال الله لأبنته هذه المحبوبة منه: ردي عينيكِ من مقابلتي فهما قد طيراني: (نشيد ص6ع4) فهنا يقول القديس أوغوسطينوس: ترى من أين طيرته مقلتاها الا من حضن الله أبيه الى مستودعها البتولي. وفي هذا الشأن يتكلم المفسر العلامة فارنانداس قائلاً: أن مقلتي مريم العذراء المملؤتين تواضعاً اللتين بهما قد نظرت ملاحظةً العظمة الإلهية، في الوقت عينه الذي فيه لم تفتر أصلاً من النظر الى ذاتها ذليلةً كأنها عدمٌ، فقد فعلتا في قلب الله حركة أنعطافٍ كأنها أغتصابية بهذا المقدار حتى أنهما أجتذبتاه من كرسي جلاله الى أحشائها الطاهرة. ويقول الأنبا فرنكوني: أنه بهذا المعنى نفسه ينبغي أن يفهم المديح الذي به كرم الروح القدس عروسته هذه واصفاً جمالها، بأنها حاصلة على مقلتين نقيتين وديعتين متواضعتين كالحمامة بقوله: ها أنتِ جميلةٌ يا قرينتي، ها أنتِ حسنة، عيناكِ كحمامتين (نشيد ص4ع1) لأن مريم البتول اذ كانت تنظر الى الله بعين ساذجة نقية متضعة كحمامةٍ طاهرة، قد جذبته الى أن يحبها بهذا المقدار كمغرم في جمال نفسها حتى أنه برباطات الحب أرتضى أن يقيد ذاته محبوساً في مستودعها الأعذر.* فلنختتم اذاً هذا الجزء قائلين: أن مريم من ثم لم تقدر أن تواضع ذاتها في سر التجسد بأكثر مما تواضعت به. ولننظر الآن في الجزء الآتي كيف أن الله بتصييره إياها أماً له، لم يقدر أن يرفعها بأكثر مما رقاها.* † الجزء الثاني † * في أن الله لم يقدر أن يرفع مريم العذراء رفعةً أكثر سمواً* * مما رفعها إليه في سر التجسد الإلهي* ثم أن القديس توما الفيلانوفي يقول هكذا: أن هذا الأمر يرفع من الوسط علةً تعجب بعض القائلين:" لماذا أن القديسين الإنجليين قد وجدوا أسخياء في تحريرهم المديح الوافر عن شخص القديس يوحنا المعمدان وعن شخص المجدلية، فقد وجدوا بعد ذلك شحيحين في كتابتهم المديح والصفات المختصة بشرف مريم البتول": فماذا تريد يا هذا أن تفهم من الإنجيليين عن عظمة هذه العذراء المجيدة وعن صفاتها الكلية السمو أكثر مما دونوه عنها. فينبغي أن يكفيك ما قالوه في مديحها عند كتابتهم عنها أنها أم يسوع، وأنها هي والدة هذا الإله، فمن حيث أنهم في تسجيلهم صفتها ومرتبتها هذه قد دونوا عنها، وشهدوا من أجلها بمجموع المدائح وبسائر التعظيمات وبكل التفخيمات. فلم يعد بعد ذلك لازماً أن يشرحوا عنها مفصلاً خصوصياتها وصفاتها الأخرى فرداً فرداً، بعد أن جمعوا كل شيء في صفتها هذه العظمى. ثم يضيف الى ذلك القديس أنسلموس قائلاً:" كيف لا، والحال أن القول عن مريم العذراء هذا فقط، وهو أنها والدة الإله. فيعلو متسامياً ويفوق متزايداً على كل أرتفاعٍ وعلوٍ وعظمةٍ يمكن التفوه بها، أو الأفتكار فيها بالعقل من بعد الله". وهكذا بطرس جالانسه يتبع هذه الكلمات بقوله: أنك يا هذا بتسميتك مريم العذراء سلطانة السموات، أو سيدة الملائكة، أم بأية صفةٍ أخرى ذات شرفٍ وكرامةٍ مهما كانت عظيمةً، مما تريد أنت أن تكرم بها سيدتنا المجيدة، فلا تستطيع أن تبلغ الى أن تمدحها بما يساوي تسميتك إياها بهذه الصفة فقط، وهي والدة الإله:* فالسبب والبرهان في ذلك هما واضحان. لأنه كما يعلم القديس توما اللاهوتي قائلاً: أن الشيء بمقدار ما أنه يدنو من مركزه وأصله وقطبه مقترباً منه، فبمقدار ذلك يكتسب منه كمالاً، ولهذا اذ كانت مريم البتول هي الخليقة الأكثر دنواً وأقتراباً الى الله، فقد أخذت عنه تعالى ونالت منه نعمةً وكمالاً وعظمةً، أكثر مما أخذت عنه المخلوقات الأخرى كلها: ثم أن الأب سوارس يستنتج عن ذلك الحجة الراهنة التي لأجلها قد وجدت المرتبة الوالدية لله هي المرتبة الفائقة سمواً على كل مرتبةٍ أخرى مطلقاً في المخلوقات بأجمعها، وهي من حيث أن هذه المرتبة هي متوقفة ومؤسسة على نوعٍ ما بالأتحاد بأقنومٍ إلهي، الذي بالضرورة هي مضافة إليه. ومن ثم يضيف الى ذلك القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس بقوله:" أنه من بعد الأتحاد الأقنومي الذي به أتحد كلمة الله بالناسوت المأخوذ من مريم العذراء فلا يوجد شيء من الأشياء أكثر قرباً لله من تلك التي هي والدة الإله". ويعلم القديس توما بقوله: أن هذا هو الأتحاد الأسمى والأعظم الذي يمكن لخليقة ما أن تتحد به مع الله. والطوباوي ألبارتوس الكبير يوضح قائلاً: أن الكيان والدةً لله هو المرتبة الفضلى الغير المتوسطة بعد مرتبة الألوهية. وبالتالي أن مريم البتول لا تقدر أن تتحد بالله أكثر أتحاداً مما فازت به بصيرورتها والدة الإلة، الا أن ترتقي الى مرتبة الإلوهية عينها:* ويثبت ذلك القديس برنردينوس بقوله: أن البتول القديسة لكي تصير والدةً للإله، قد أحتاجت لأن ترتقي الى مرتبة التساوي على نوعٍ ما بالأقانيم الإلهية. بأيهاب الله إياها نعماً هي على نوعٍ ما غير متناهية: ومن حيث أن الأولاد يحتسبون على نوع أدبي شيئاً واحداً مع والديهم. حتى أن خيرات الجهة الواحدة وكراماتها هي مشاعة للجهة الأخرى، فلأجل هذا اذاً يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله يوجد متحداً مع خلائقه على أربعة أنواع، فأتحاده مع مريم البتول هو أتحاد ذاتي، لأنه تعالى هو نظيرها وهي نظيره (في الناسوت): فمن ثم يهتف هذا القديس تلك الكلمات الجليلة قائلاً: فلتصمت هنا كل الخليقة وترتعد وبالكاد يمكنها أن تتجاسر على أن تنظر ملاحظةً مرتبةً هكذا عظيمةً فائقة الأدراك، وهي أن الله يسكن في البتولة ومعها يحوي جوهر طبيعةٍ واحدةٍ هي ذاتها. ولهذا يقول القديس توما اللاهوتي: أنه من حيث أن مريم قد صارت والدةً لله فلسبب أتحادها الشديد بخيرٍ محض، هكذا متناهٍ، قد أقتبلت مرتبةً على نوعٍ ما هي غير متناهية: بل أن الأب سوارس يسمي هذه المرتبة غير متناهيةٍ في نوعها، حسبما كتب عن ذلك مبرهناً. على أن مرتبة كون العذراء مريم والدةً لله هي المرتبة العظمى الفائقة على كل ما سواها، مما هو ممكنٌ أن ترتقي إليه خليقة ما محضة. اذ أن القديس توما اللاهوتي نفسه يورد عن ذلك قائلاً: أنه كما أن ناسوت يسوع المسيح ولئن كان ممكناً له أن يقتبل من الله نعمة ملكية أعظم (اذ أن النعمة الملكية: وهذا هو السبب: هي موهبة مخلوقة، فيلزم أن نقر بأن جوهرها هو محدود، لأنه يوجد مقدار محدود من الأستيعاب لكلٍ من الخلوقات. وهذا المقدار المحدود لا يثني حقوق القدرة الإلهية، عن وسعها أن تبدع خليقةً أخرى ذات أتساعٍ أعظم...) فمع ذلك نظراً الى الأتحاد بالأقنوم الإلهي فلم يقدر أن يقتبل شرفاً أعظم. لأن القدرة الإلهية ولئن كانت تستطيع أن تخلق شيئاً ما أعظم وأجود من النعمة المكلية، التي وجدت في المسيح، فمع ذلك لن تقدر أن تصنع شيئاً متجهاً الى ما هو أعظم من الأتحاد الأقنومي الكائن فيما بين الآب والأبن الوحيد، وبالعكس هو أن البتول الطوباوية لم تكن موضوعاً قابلاً لأن ترتقي الى مرتبة أعظم مما رفعها الله إليه، وهي صيرورتها أماً لله، لأنه من حيث أنها هي والدة الإله، فهي حاصلة على مقامٍ هو غير متناهٍ على نوعٍ ما، وفائزة به من الخير المحض الغير المتناهي الذي هو الله. ولذلك لم تكن هي قابلةً لأن تحصل على شيء أجود من هذا: ثم أن القديس توما الفيلانوفي قد قال نظير ذلك هكذا: أنه بالحقيقة أن من هي أمٌ للغير المتناهي، فهي حاصلة على مقامٍ هو غير متناهٍ على نوعٍ ما: وقال القديس برنردينوس: أن الحال التي إليها رفع الله البتول بتصييره إياها أماً له قد كان هو المقام الأعظم والحال العظمى. فاذاً لم يكن قادراً أن يرفعها أكثر من ذلك. ويثبت هذا ألبارتوس الكبير الطوباوي بقوله: أن الرب بأنتخابه المغبوطة مريم البتول الى رتبة والدةٍ له، قد أعطاها موهبةً عظمى لا يمكن إيهاب أعظم منها لخليقةٍ محضة، ولا هو ممكن أن يعطى أعظم منها:* ومن ثم كتب القديس بوناونتورا تلك القضية الشائعة الذكر وهي: أن الله لقادرٌ أن يخلق عالماً أكبر من عالمنا هذا، وسماءً أكثر أتساعاً من السماء التي فوقنا، ولكنه لا يقدر أن يرفع خليقةً بسيطةً الى رتبةٍ أعظم من أنه يجعلها أن تصير والدةً له: الا أن البتول مريم الكلية القداسة هي نفسها قد أوضحت ذلك أفضل إيضاحاً من هذه الأقوال. بما تفوهت به هاتفةً: أن الله صنع معي عظائم، القوي والقدوس أسمه: (لوقا ص1ع49) وأن سئل، لماذا هذه الأم الإلهية لم تورد مفصلاً ما هي تلك العظائم التي صنعها الله معها، فيجيب عن ذلك القديس توما الفيلانوفي قائلاً: أن البتول لم تفسر ما هي تلك العظائم، من أجل أنها بهذا المقدار هي عظائم سامية عن الوصف والأدراك، حتى أنه لا يمكن تفسيرها وتعدادها أو شرحها كما ينبغي:* فاذاً بالصواب قال القديس برنردوس: أن الله لأجل هذه العذراء التي كانت عتيدةً أن تصير أماً له تعالى بالجسد، قد خلق العالم بأسره. والقديس بوناونتورا يقول: أن العالم يحفظ تحت أرادة البتول الكلي طهرها: مشيراً بذلك الى كلمات سفر الأمثال وهي: أنا التي كنت عنده ناظمةً كل شيء: لأن الكنيسة المقدسة تخصص هذه الكلمات بالعذراء المجيدة، ثم يضيف الى ذلك القديس برنردينوس بقوله: أن الله لأجل حبه مريم البتول لم يلاشِ من الوجود الإنسان بعد خطيئة آدم: ولهذا بكل صوابٍ ترتل الكنيسة عن هذه الأم العذراء (في فرض عيد نياحها) أنها أختارت النصيب الأفضل في القسمة. على أن هذه البتول المجيدة ليس فقط أختارت من الأشياء الأفضل والأجود، بل أنها قد أنتخبت من الأشياء الأجود والأحسن النصيب والقسمة الأفضل والأجود فيها. اذ أن الرب قد شرفها بالشرف الأسمى، ورفعها الى أعلى درجة من العظمة في النعم كلها، وفي المواهب بوجه العموم والخصوص الممنوحة منه تعالى لسائر المخلوقات، وهذا كله هو نتائج تصييره إياها أماً له بالجسد (كما يبرهن الطوباوي ألبارتوس الكبير في تفسيره بشارة لوقا ع13). لأنه قد وجدت هذه البتول طفلةً بالجسد، ولكن في هذا السن كانت مالكةً برارة الأطفال لا نقص معرفتهم، اذ أنها منذ البرهة الأولى من حياتها فازت بموهبة المعرفة التامة. قد وجدت هي عذراء وبقيت كذلك دائماً. ولكن من دون أن يلتحق بها عار العقرية. قد صارت أماً ولكن معاً قد حفظت كنز البتولية. قد كانت جميلةً بل كلية الجمال في الخلقة، كما يحقق ذلك ريكاردوس الذي من سان فيتوره. والقديس جاورجيوس النيكوميدي، والقديس ديونيسيوس الأريوباجيتا قاضي علماء أثينا الذي (بموجب رأي كثيرين) اذ حصل على الحظ السعيد بأن يتمتع بمشاهدة هذه العذراء الفائقة في الحسن مرةً واحدةً فقال: أنه لولا أن الإيمان يرشده الى أن مريم البتول هي خليقة، لكان هو سجد لها وعبدها كإلهٍ: بل أن الرب نفسه قد أوحى للقديسة بريجيتا بأن جمال والدته الطبيعي، قد فاق جمال البشر أجمعين والملائكة بأسرهم، اذ أنه تعالى صير هذه البارة بريجيتا أن تسمعه مخاطباً والدته هكذا:" أن جمالكِ قد فاق على جمال الملائكة كافةً والمخلوقات كلها". ولكن جمال هذه العذراء العظيم لم يكن يضر نفس من كان يشاهدها، لأن بهاءها الفائق كان يلاشي في ناظريها مبدداً كل أنعطافٍ دنسٍ، بل كان يحرك فيهم أفكاراً بكليتها طاهرةً، كما يشهد القديس أمبروسيوس قائلاً: أن النعمة التي كانت حاصلةً عليها مريم هي بهذا المقدار عظيمة. حتى أنها ليس فقط حظيت فيها البتولية الطاهرة، بل كانت تبرز مفعولها في الآخرين أيضاً الذين كانوا يشاهدونها، واهبةً إياهم التأمل في موضوع كمال هذه الفضيلة السامية: ويثبت ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله: أن نعمة التقديس ليس فقط قد أبادت في العذراء المجيدة كل حركةٍ مضادة الطهارة أو غير جائزة، بل قد بلغت مفعولها في الآخرين أيضاً. ومن ثم ولئن كانت هي فائقةً جمالاً في جسدها، فمع ذلك لم يكن يتحرك بمشاهديها أدنى أنعطاف ألمي صادر عن الشهوة: ولهذا هي سميت: مراً وميروناً طارداً رائحة الفساد: كما تدعوها الكنيسة المقدسة بتخصيصها إياها بهذه الكلمات وهي: مثل المر المختار فاح مني رائحةٌ طيبةٌ (ابن سيراخ ص24ع20). وقد كانت هي مهتمة في الأعمال الخدمية، ولكن من دون أن تصدها هذه أم تبعدها عن الأتحاد الدائم بالله. وفي تأملاتها وغوصها في الثاوريا مع الله لم تكن تتهاون في أتمام واجبات الأمور الزمنية، ولا فيما يخص أفعال محبة القريب الواجبة. وقد ماتت حقاً بالجسد، ولكن من دون أن تشعر بمرارة الموت ومن غير أن يلتحق بجسدها الفساد* فلنختتم اذاً القول بأن هذه الأم الإلهية هي بنوعٍ غير متناهٍ متميزة وطواً وأنخفاضاً عن الجوهر الإلهي، ولكنها بنوعٍ غير محدود هي سامية متفوقة على المخلوقات كلها. ومن حيث أنه غير ممكن مطلقاً أن يوجد أبنٌ أشرف وأفضل وأعظم من يسوع المسيح، فغير ممكن أيضاً أن توجد أمٌ أشرف وأفضل وأعظم من مريم العذراء وهذا ينبغي أن يفيد عباد هذه الملكة الجليلة ليس فقط لكي يفرحوا قلبياً لأجل عظمتها وتفوق جلال مرتبتها. بل أيضاً لكي ينمو فيهم حسن الرجاء والأتكال على شفاعاتها وحمايتها المقتدرة: لأنها بحسب كونها والدة الإله (يقول الأب سوارس) فلها على نوعٍ ما السلطة والتولي على مواهبه تعالى. لكي تهبها مستمدةً منه لأولئك الذين هي تتوسل لديه عز وجل من أجلهم: كما أن القديس جرمانوس يقول من جهةٍ أخرى، أن الله لا يمكنه أن يقبل تضرعات هذه الأم، اذ أنه لا يقدر هو أن لا يعرفها أماً حقيقيةً له بريئةً من العيب والدنس. فهكذا يخاطبها هذا القديس قائلاً: أنتِ التي قد حصلتِ على السلطان الوالدي عند الله فتستمدين نعمة المصالحة لأولئك أنفسهم الذين أخطأوا خطأً يفوق الأفراط، لأنه تعالى لا يمكنه أن لا يستجيب طلباتكِ، اذ أنه يعاملكِ كأمٍ حقيقيةٍ له بريئةٍ من الدنس في كل الأشياء. فمن ثم لا ينقصكِ يا والدة الإله وأمنا الرحيمة، لا الأقتدار على أن تعينينا، ولا الأرادة في أن تسعيفينا: (كما يقول القديس برنردوس) وهكذا أقول نحوكِ ما قاله الأنبا جالانسه عبدكِ: أن الله قد خلقكِ ليس لأجل ذاته هو فقط، بل أنه أعطاكِ للملائكة أيضاً مصلحةً. وللبشر كذلك محاميةً ومنقذةً، وللشياطين أنفسهم غالبةً منتصرةً مبيدةً، لأننا بواسطتكِ نحن نكتسب جديداً النعمة الإلهية المفقودة منا، وبواسطتكِ عدونا أيضاً يغلب مقهوراً:* فأن كنا نرغب أن نرضي هذه الأم الإلهية فعلينا بأن نكرمها متواتراً بتلاوة السلام الملائكي العزيز لديها، لأنها ظهرت هي مرةً للقديسة ماتيلده وقالت لها، أنه لا يمكن لأحدٍ أن يكرمها بأفضل نوعٍ مقبول عندها، من أن يحييها بالسلام الذي حياها به زعيم الملائكة جبرائيل، واذا ما داومنا على ذلك بحسن عبادةٍ فنكتسب منه لأنفسنا نعماً وافرةً خصوصيةً، بشفاعة أم الرحمة هذه، كما يبان من النموذج الآتي إيراده.* * نموذج * غير أن هذا القائد القليل الفطنة بعد ذلك بستة أشهرٍ أعتمد على أن يذهب عند تلك الأمرأة مفتقداً إياها، لينظر أن كانت هي أيضاً تابت عن خطاياها وأصلحت سيرتها أم لا. الا أنه حينما بلغ الى باب بيتها، وأثر أن يدخل إليه (الأمر الذي بالحقيقة كان خطراً عليه جداً للسقوط جديداً مع تلك الأمرأة، بالدنس الذي كان مارسه هو معها قبلاً أزمنةً مديدةً) واذا بيد غير منظورة قد منعته من الدخول الى الدار مرجعةً إياه الى الوراء. وشاهد ذاته على الفور بعيداً من باب تلك الدار مسافة طول الطريق كلها. ووجد نفسه أمام باب بيته الخصوصي، وحينئذٍ قد عرف بنورٍ واضحٍ أن والدة الإله هي التي أنقذته من خطر السقوط جديداً بالأثم. فمن هنا يفهم جلياً كم هي سريعة هذه الأم الإلهية سيدتنا ليس فقط في أن تخرجنا من حال الخطيئة، اذا نحن ألتجأنا إليها بهذه النية والقصد بأصلاح ذواتنا. بل أنها تنجينا من الخطر أيضاً الذي يلم بنا، لكيلا نسقط جديداً في الأثم.* † صلاة † بأستحقاقات يسوع المسيح أبنكِ، وبواسطة شفاعتكِ من أجلنا، فنقدر أن نأتي يوماً ما الى السماء حيث لا يعود علينا خطرٌ ما في شأن خلاصنا، وهناك نسبح أبنكِ ونمدحكِ * الى أبد الدهور آمـين* † الفصل الخامس *فيما يلاحظ تذكار زيارة والدة الإله عند نسيبتها القديسة أليصابات،* *حيث يبرهن عن هذه البتول أنها هي خازنة جميع النعم الإلهية.* * وأن من يلتجئ إليها يلزمه أن يطمئن بنواله النعم التي يرغبها.* *وفيه جزءان* † الجزء الأول † * في أن من يروم أن يفوز بنعمةٍ ما فيلزمه أن يلتجئ الى مريم العذراء* فالبتول الكلية القداسة بعد أن سمعت من زعيم الملائكة جبرائيل، أن نسيبتها أليصابات كانت هي أيضاً حبلى بأبنٍ على شيخوختها، وهذا القول كان في الشهر السادس من حبل تلك المدعوة عاقراً. فقد عرفت بنورٍ خاص من قبل اروح القدس، أن كلمة الآب الأزلي المتجسد في أحشائها أبناً لها، قد كان يريد أن يبتدئ في أن يعلن للعالم عنى مراحمه، بتلك النعم الأولى التي كان هو يشاء أن يوزعها على عيلة الكاهن زخريا، فلهذا من دون تأخيرٍ: قامت مريم في تلك الأيام وذهبت مسرعةً الى الجبل الى مدينة يهوذا، ودخلت الى بيت زخريا وسلمت على أليصابات: (لوقا ص1ع39) مع أنها في هذا السفر أحتاجت الى أن تنتزح عن هذوها في أنفرادها المحبوب منها، الذي فيه كانت تمارس تأملاتها في الحقائق الأبدية، ولكن لأجل أن المحبة المقدسة تحتمل كل شيء ولا تعرف أن تتكاسل في عملها، كما يتكلم في هذا الشأن القديس أمبروسيوس قائلاً: أن نعمة الروح القدس لا تعرف أن تستعمل الإعاقة في تكميل مقصودها: فلذلك العذراء المجيدة الحديثة ألسن، واللطيفة المزاج لم تتوقف عن أن تعاني سفراً مضنكاً، بذهابها السريع من الناصرة الى مدينة يهوذا، متحركةً من قبل المحبة التي لا تقوى عليها صعوبةٌ، ومنجذبةً من قبل نعمة الروح القدس. وحالما بلغت الى بيت زخريا فسبقت هي أولاً بالتحية وسلمت على أليصابات، حسبما يلاحظ ذلك القديس أمبروسيوس عينه، ولكن زيارتها هذه لم تكن نظير زيارات أهل العالم التي غالباً تقوم بأحتفالاتٍ خارجية وبغاياتٍ كاذبة، بل أن زيارة الطوباوية مريم البتول قد جلبت لأهل ذلك البيت كنزاً من النعم، لأنه حال دخولها إليه قد أمتلأت القديسة أليصابات من الروح القدس، والطفل يوحنا الذي كان في مستودعها قد أنحل من وثاق الخطيئة الأصلية وتقدس بنعمة الله. لذلك قد أعطى هو العلامة الحسية بحركةٍ غير أعتيادية مبتهجاً في جوف أمه، مريداً بهذا أن يعلن حقيقة النعمة التي فاز بها من الله بواسطة مريم البتول، حسبما أوضحت ذلك القديسة أليصابات نفسها بقولها لهذه السيدة: هوذا لما صار صوت سلامكِ في مسمعي، أرتكض الجنين بأبتهاجٍ في بطني: فمن ثم كما يلاحظ العلامة برنردينوس البوسطي، أنه بقوة سلام مريم قد أقتبل يوحنا في مستودع أمه بأبتهاجٍ نعمة الروح الإلهي الذي قدسه وبرره.* فأن كانت اذاً نواجم أثمار سر الفداء هذه قد توزعت في العالم بيد مريم الطوباوية، وهي وجدت القناة التي بواسطتها قد جرت نعمة التقديس ليوحنا الجنين في أحشاء والدته. ونعمة الأمتلاء من الروح القدس للبارة أليصابات، ونعمة روح النبؤة للكاهن زخريا والد السابق، وبركاتٌ أخرى كثيرة قد استوعب منها ذاك البيت، وهذه هي النعم الأولى التي نعرفها أنها أعطيت في الأرض من الكلمة الأزلي بعد تأنسه. فاذاً عادلٌ جداً هو الإيقان من دون ريبٍ، في أن الله منذ ذلك الحين قد أقام مريم البتول وعينها بصفة قناةٍ أو مجرى عام للنعم، كما يسميها القديس برنردوس. وبواسطة هذه القناة قد جرت وتجرى إلينا بعد ذلك كل النعم الأخرى. التي يريد الرب أن يوزعها علينا. حسبما برهنا عن هذه القضية في الفصل الخامس من القسم الأول من مؤلفنا الحاضر.* فاذاً بالصواب قد دعيت هذه الأم القديسة: خزنة النعم الإلهية وخازنتها وموزعتها: كما يسميها الأنبا جلانسه المكرم بقوله: أنها هي خزنة الله وخازنة أنعامه: والقديس بطرس داميانوس يدعوها: خزنة النعم الإلهية. والطوباوي ألبارتوس الكبير يسميها: خازنة يسوع المسيح. والقديس برنردينوس يلقبها: بموزعة النعم والمواهب. وأحد العلماء اليونانيين المورد من بيطافيوس ينعتها: بأنها خزنة الخيرات كلها. والقديس غريغوريوس العجائبي يقول: أنه كتب عن البتول مريم أنها ممتلئةٌ نعمةً، من حيث أن كنز النعم قد أذخر فيها كداخل خزنةٍ. وقال ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن الله قد أستودع في مريم كضمن الأهراء المختصة برحمته جميع المواهب والنعم، ومن هذا الكنز يغني هو عبيده. ثم أن القديس بوناونتورا بتكلمه عن المثل المورد من سيدنا يسوع المسيح بقوله: يشبه ملكوت السموات كنزاً مخفياً في حقلٍ وجده إنسانٌ فخبأه، ومن فرحه مضى فباع كل شيءٍ له وأشترى ذلك الحقل: (متى ص3ع4) يقول:أن هذا الحقل أنما هو مريم سلطانتنا المخبئ فيها كنز الله الذي هو يسوع المسيح، ومع هذا الكنز الإلهي يوجد ينبوع النعم كلها. وقبلاً قد كان أثبت هذه الحقيقة القديس برنردوس بقوله: أن جميع النعم التي يريد الرب أن يوزعها علينا قد وضعها تعالى في يد مريم، لكي نعرف أن كل ما نحن نقتبله من الخيرات فأنما نفوز به بواسطتها ونعطاه عن يدها: بل أن هذه الأم الإلهية عينها تؤكد لنا ذلك قائلةً: فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ: (ابن سيراخ ص24ع25) أي أن جميع نعم الخيرات الحقيقية التي يمكنكم أنتم يا معشر البشر أن ترغبوها وتشتهوها في مدة حياتكم، فهذه كلها تجدونها فيَّ. ولذلك يقول نحو هذه السيدة القديس بطرس داميانوس: أي نعم أننا نعلم حسناً يا أمنا ورجانا أن خزائن المراحم الإلهية وكنوزها كلها توجد تحت يدكِ. وقبل هذا الجليل كان القديس أيدالفونسوس اوضح ذلك بأكثر أعلان اذ قال مخاطباً هذه السيدة هكذا: أن جميع النعم التي رسم الله وحدد أن يمنحها للبشر، فعين تعالى أن يوزعها كلها عليهم عن يدكِ أيتها السيدة، ولذلك قد سلم إليكِ عز وجل خزائن النعم جميعها: ومن ثم يستنتج القديس جرمانوس قائلاً نحوها: فاذاً لا توجد يا مريم نعمةٌ ما من النعم تعطى لأحدٍ الا بواسطتكِ وعن يدكِ.* أما الطوباوي ألبارتوس الكبير. فاذ يتكلم مفسراً ألفاظ زعيم الملائكة جبرائيل بقوله للدائمة بتوليتها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرتِ بنعمةٍ أمام الله (لوقا ص1ع30) يضيف الى ذلك هذه العبارة الجليلة قائلاً: فأنتِ يا مريم لم تختطفي النعمة كما أختطفها لوسيفوروس، ولا أضعتيها كما أضاعها آدم، ولا أشتريتيها كما كان يرغب أن يشتريها بالأموال سيمون الساحر، لكنكِ قد وجدتيها وظفرتِ بها لأجل أنكِ فتشتِ عليها ورغبتيها، فقد وجدتِ النعمة الغير المخلوقة التي هي الله نفسه المتأنس منكِ صائراً أبناً لكِ. ومع هذه النعمة الغير المخلوقة قد ظفرتِ بجميع الخيرات المخلوقة: ثم أن القديس بطرس خريسولوغوس يثبت ذلك بقوله: أن هذه الأم العظيمة قد ظفرت بالنعمة ووجدتها، لكي تجلب بعد هذا لكل البشريين الخلاص الأبدي، فمريم قد وجدت نعمةً طافحةً يمكنها بها أن تخلص كل واحدٍ.* يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: بحسبما أن الله قد خلق الشمس لكي تنير الأرض، فهكذا تعالى قد خلق مريم لكي يوزع بواسطتها على العالم مراحمه كلها. ويضيف الى ذلك القديس برنردينوس قائلاً: انه من حينما صيرت مريم البتول والدةً لله المخلص قد أكتسبت على نوعٍ ما التولي على كل النعم:* فلنختتم اذاً هذا الجزء بما قاله ريكاردوس المار ذكره، وهو أننا أن كنا نريد أن ننال نعمةً ما فلنلتجِ الى مريم التي لا تقدر أن لا تستمد لعبيدها كل ما تطلبه لهم، لأنها قد ظفرت هي بالنعمة الإلهية، ودائماً تظفر بها اذ يقول: أننا أن كنا نرغب أن نصادف نعمةً ما، فلنفتش على تلك التي وجدت النعمة، لأنها هي قد وجدتها دائماً، ولا يمكن أن لا تحصل عليها. وهذا هو موافق لما قاله القديس برنردوس هكذا: فلنطلب النعمة بواسطة مريم، لأنها تجد الذي تطلبه، ولا يمكن أن لا تحصل عليه. فأن كنا اذاً نرغب نوال نعمةٍ ما، فيلزمنا أن نمضي الى خازنة النعم وموزعتها. لأن هذه هي أرادة معطي كل خير العلي. كما يحقق لنا ذلك القديس برنردوس عينه قائلاً: لأن هذه هي أرادة ذاك الذي شاء أن نحصل نحن على كل شيءٍ بواسطة مريم، أي أن النعم كلها أنما تتوزع بواسطة مريم العذراء وعن يدها: فمن المعلوم أن قوله كلها لا يستثني نعمةً ما منها، ولكن من حيث أنه لكي ينال أحدٌ النعمة التي يرغبها فيلزم بالضرورة أن يكون موجوداً فيه الرجاء والثقة في نوالها. فلنأت الى التكلم عن ذلك في الجزء الآخر.* † الجزء الثاني † * في كم يلزمنا أن نثق مطمئنين في نوال النعم التي نطلبها* * بواسطة ألتجائنا الى مريم العذراء* ثم أن هذا القديس نفسه أي برنردوس يجتاز بخطابه قائلاً: لماذا أن رئيس الملائكة جبرائيل بعد أن عرف أن مريم كانت موعبةً من النعم. ولهذا هو عينه سلم عليها قائلاً: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ. فمع ذلك قال لها: أن الروح القدس يحل فيكِ وقوة العلي تظللكِ. لكي تمتلئ من النعمة بأوفر زيادة، فأن كانت هي من ذي قبل ممتلئةً نعمةً، فما الذي كان يمكنها فوق أستعابها من النعمة أن تأخذه من أتيان الروح القدس عليها من النعم الجديدة. فالقديس المذكور عينه يجيب عن ذلك قائلاً: أن مريم قد كانت قبلاً ممتلئةً نعمةً. الا أن اروح القدس قد حل عليها وأفاض فيها زيادة النعم فوق ملوئها لأجل خيرنا نحن البشر. لكي نفوز نحن الأشقياء المساكين من زيادة أمتلاء هذه البتول من النعم بما نحتاج إليه، ولذلك قد لقبت مريم وشبهت بالقمر الذي يقال عنه: أنه ممتلئ لذاته ولغيره.* فأمنا هذه الرحيمة تقول عن ذاتها:" من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من عن الرب: (أمثال ص8ع35) أي مغبوطٌ هو من يصادفني بألتجائه إليَّ، لأنه بواسطتي يجد الحياة ويفوز بها بسهولةٍ، لأنه كما أن أمراً سهلاً هو أن يجد أحدٌ الماء في ينبوعه وحوضه ويأخذ منه بمقدار ما يشتهي، فهكذا هو سهلٌ وجود النعم ومصادفتها والظفر بها، ونوال الخلاص الأبدي بواسطة الألتجاء الى مريم." فأحد الأبرار كان يقول: أنه لأجل نوال النعمة يكفي طلبها من والدة الإله. كما أن القديس برنردوس يقول:" أنه لأجل ذلك قبل أن تولد مريم العذراء في الدنيا، كان ينقص العالم سخاء النعم العظيمة التي الآن هو مملؤٌ منها، أي من حيث أنه كان ناقصاً وجد هذه القناة المشتهاة التي هي والدة الإله. فاذاً اذ نحن الآن حاصلون على هذا المجرى الذي هو أم الرحمة الإلهية. فأية نعمة نحن نلتمسها منها بألتجائنا إليها ونخاف من أن لا ننالها. فالقديس يوحنا الدمشقي يصيرها أن تتكلم عن ذاتها قائلةً: أنا هي مدينة الملجأ لكل أولئك الذين يبادرون نحوي محتمين بي، فتعالوا اذاً يا أولادي إليَّ لتنالوا النعم بأوفر سخاءٍ مما أنتم تفتكرون وتأملون.* فأي نعم أنه يحدث لكثيرين ذاك الشيء الذي عرفته الراهبة مريم فيلاني، بواسطة رؤيا سماوية، حيث شاهدت هي مرةً ما والدة الإله بصورة ينبوع ماءٍ عظيمٍ متدفقٍ بغزارةٍ، وأن كثيرين كانوا يدنون من هذا الينبوع ويستقون لذواتهم مياه نعمٍ وافرة جداً، الا أنه ماذا كان يحدث بعد ذلك. فقد نظرت هذه الراهبة البارة أن أولئك الذين كانوا يأتون الى الينبوع، بأوعيةٍ سالمةٍ صحيحةٍ وبها يستقون منه الماء، فكانت مياه النعم تحفظ لهم في أوعيتهم سالمةً فيما بعد أيضاً فائزين بأمتلاكهم تلك النعم. وأما أولئك الذين كانوا يقبلون الى العين بأوعيةٍ مشققةٍ، أي الخطأة المثقلون برباطات الأثم، فأي نعم أنهم هم أيضاً كانوا يملاءون أوعيتهم من نعم هذا الينبوع. ولكن من دون أبطاءٍ كانوا يفقدونها جديداً. فالشيء الحقيقي هو أن البشر يقتبلون يومياً بواسطة مريم البتول نعماً فائقة الإحصاء ويفوز بذلك الناس العديمون المعروف والناكرون الجميل أيضاً والخطأة الأكثر شقاوةً. فيقول القديس أوغوسطينوس مخاطباً والدة الإله هكذا: أننا نحن الأشقياء قد ورثنا الرحمة بواسطتكِ، ونحن الناكرين الجميل حزنا بكِ النعمة، ونحن الخطأة فزنا بكِ بالغفران، ونحن الحقيرين الأذلاء قد حصلنا بكِ على الأشياء العالية، ونحن الأرضيين قد نلنا بكِ الملكوت، ونحن المائتين قد فزنا بكِ بالحياة، ونحن الغرباء بكِ حصلنا على الوطن". فلننعش اذاً فينا يا معشر المتعبدين لمريم الرجاء والثقة والطمأنينة نحوها متزايدةً يوماً فيوماً في قلوبنا. ولنفتكر بأتصالٍ بنوعٍ خاصٍ في هاتين الصفتين الجليلتين الحاصلة عليهما هذه الأم الإلهية، وهما الرغبة المستحرة بأشتياقٍ لأن تصنع معنا الخير، والمقدرة التي لها عند أبنها على أن تستمد منه كل شيء تطلبه، فلكي تفهم الرغبة التي لها في أن تسعف الجميع وتفيدهم، يكفي أن يصير التأمل في سر العيد الحاضر المختص بتذكرة زيارتها عند نسيبتها القديسة أليصابات. على أن المسافة الكائنة فيما بين مدينة الناصرة حيث كانت ساكنةً هذه البتول الكلية القداسة، وبين المدينة التي كانت تسكنها القديسة أليصابات، وهي مدينة حبرون على رأي الكردينال بارونيوس وغيره من الكتبة (والقديس لوقا الإنجيلي يسميها مدينة يهوذا) هي مسافة ذات تسع وستين ميلاً. كما يؤكد ذلك الأب يوسف الراهب الكرملي، وبيدا، وبروكاردوس ومع ذلك هذه الفتاة الحديثة السن واللطيفة الجسم لم تتأخر عن أن تباشر حالاً هذا السفر المتعب جداً، فما الذي حركها لصنيعه، أنه بلا شكٍ لم يكن شيئاً آخر الا الحب المتقد فيها على الدوام بقلبٍ كلي الأنعطاف، لأن تمارس منذ ذلك الوقت وظيفتها التي هي: موزعة النعم: حسبما يتكلم عن ذلك القديس أمبروسيوس في تفسيره الاصحاح الأول من بشارة لوقا قائلاً: أن مريم البتول لم تذهب من الناصرة الى مدينة يهوذا لكي تتحقق صدق ما قاله لها زعيم الملائكة جبرائيل عن حبل أليصابات، بل أنها لأبتهاجها في أن تصنع الخير مع تلك العيلة. فقد أسرعت فرحةً بذهابها لأن تفعل الصلاح مع الآخرين. متحركةً بجملتها الى ذلك من قبل المحبة المتقدة في قلبها نحو القريب: ولذلك ينبغي أن تلاحظ عبارة الإنجيل المدونة عن سفر هذه الأم الرأوفة وهي: أن مريم قامت وذهبت مسرعةً الى الجبل: وبخلاف ذلك اذ يخبر الإنجيل عن رجوعها فلا يورد شيئاً من الأسراع. بل بنوع البساطة يقول: أن مريم مكثت عند أليصابات نحو ثلاثة أشهرٍ وعادت الى منزلها: (لوقا ص1ع56) ثم أن القديس بوناونتورا يتكلم هكذا قائلاً: فأية غايةٍ أخرى كانت تغتصب والدة الإله لأن تسرع ذاهبةً لتزور بيت أهل المعمدان. الا رغبتها في أن تصنع الخير مع تلك العيلة المكرمة:* فمن المعلوم أن مريم العذراء بعد أرتقائها الى السماء لم تدع أن يفتر فيها هذا الحب نحو البشر بل أنه هناك قد تضاعف فيها نامياً، لأنها قد عرفت أفضل معرفة كم هي أحتياجاتنا القصوى. ومن ثم هي الآن نحونا ذات أشفاقٍ أعظم، لتفهمها جيداً حال شقائنا، فقد كتب برنردينوس البوسطي: أن مريم تريد راغبةً بشوقٍ أن تفعل معنا الخير أكثر من رغبتنا نحن أن نناله منها بنوع أنه، كما يقول القديس بوناونتورا: ان والدة الإله تحتسب ذاتها مهانةً من أولئك الذين لا يلتجئون إليها طالبين النعم لأن هذه هي رغبة العذراء المجيدة (كما يقول أيديوطا) أي أنها تروم أن تغني الجميع بالنعم. ولكنها بنوعٍ فائقٍ في السخاء ترغب أن تغني المتعبدين لها:* ولذلك يقول أيديوطا عينه: أن من يجد مريم فيجد كل خيرٍ: ويضيف الى هذا قوله: أن كل أحدٍ يمكنه أن يجدها، ولئن كان هو الخاطئ الأكثر أثماً من أهل العالم بأسره، لأنها اذ هي كلية الحنو والأشفاق فلا تطرد أحداً من أولئك الذين يبادرون نحوها مستغيثين بها. وتوما الكامبيسي يجعلها متكلمةً هكذا: أنني أنا نفسي أدعو الجميع لأن يلتجئوا إليَّ وأنتظرهم كافةً، وأرغب حضورهم إليَّ جميعاً، ولا أزدري بأحدٍ من الخطأة مهما كان عديم الأستحقاق، متى أستغاث بي وطلبني لمعونته: ويقول ريكاردوس: أن كل من يمضي نحو مريم ملتمساً نوال النعم فيجدها على الدوام مستعدةً راغبةً مشتهيةً أن تسعفه بها وتستمد له كل النعم المفيدة لخلاصه الأبدي بواسطة شفاعاتها المقتدرة.* وقولي شفاعاتها المقتدرة يعني الصفة الثانية التي يلزمها أن توطد رجانا بزيادةٍ وثقتنا بطمأنينةٍ. في أنها تستمد من الله كل شيء تطلبه منه في خير المتعبدين لها. فيقول القديس بوناونتورا: تأمل يا هذا بالحصر في زيارة الطوباوية مريم عند القديسة أليصابات، في كم حصلت كلمات هذه السيدة على القوة العظيمة لأن تبرز مفعولها. لأنها بمجرد كلماتها وصوتها قد أوعبت من نعمة الروح القدس في الوقت عينه أليصابات والجنين في بطنها، كما يوضح الإنجيلي بقوله: وكان لما سمعت أليصابات سلام مريم تحرك الجنين بأبتهاج في بطنها وأمتلأت أليصابات من الروح القدس: (لوقا ص1ع41) فأنظر كم هي عظيمة قوة صوت مريم ومفعول كلماتها المقدسة. حيث أنها حالما تلفظت بها قد منحت نعمة الروح القدس: ثم يقول ثاوفيلوس الأسكندري: " أن يسوع المسيح يسر جداً حينما تتضرع إليه مريم والداته من أجلنا. لأن جميع النعم التي يمنحناها تعالى حينئذٍ لأجل توسلات مريم، لا يعتدها موهوبةً لنا بمقدار ما يعتبرها أنها معطاة منه لأمه هذه عينها". فلاحظ هنا كلماته المذكورة بقوله عن يسوع المسيح: أنه يعتبر تلك النعم ممنوحةً منه لأمه عينها. على أنه كما يقول القديس جرمانوس: أن يسوع المسيح لا يقدر أن لا يستجيب مريم في كل شيء تطلبه منه، مريداً بذلك على نوعٍ ما أن يطيعها خاضعاً لها بحسب كونها والدته، لأن تضرعات هذه الأم الإلهية لها نوعٌ من الولاية لدى أبنها. ومن ثم هي تستمد منه الغفران للخطأة الأكثر أثماً الذين يلتجئون إليها.* وهذا الأمر يتحقق بأبلغ البيان، كما ينبه القديس يوحنا فم الذهب، من الحادث الذي تم في عرس قانا الجليل. وهو أنه حينما قالت هذه الأم الرأوفة ليسوع عن أصحاب وليمة العرس. أن ليس عندهم بعد خمرٌ. فأجابها قائلاً: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: (يوحنا ص2ع4) فلئن لم يكن حينئذٍ جاء الزمن الذي فيه كان ينبغي للمسيح أن يبتدئ بصنيع العجائب، كما يبرهن الذهبي فمه نفسه. ومثله تاوفيلاكطوس فمع ذلك (يقول هذا العسجدي الفم) أن المخلص طاعةً منه لإرادة أمه قد صنع الأعجوبة التي هي طلبتها منه. اذ أحال الماء الى خمر:* " فلنتقدم اذاً بدالةٍ الى عرش النعمة (كما يحرضنا الرسول عبرانيين ص4ع16) لندرك الرحمة ونجد النعمة عوناً لنا في زمانٍ واجبٍ: فعرش النعمة هو الطوباوية مريم البتول، يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: فأن كنا اذاً نرغب نوال نعمةٍ ما فلنذهب نحو عرش النعمة الذي هو مريم، ولكن فلنتقدم الى هذا العرش بدالةٍ أي برجاءٍ وطيد في أن مطلوبنا يستجاب بتأكيدٍ، لأننا حاصلون على شفاعة هذه الأم الإلهية التي تنال من ابنها كل ما تطلبه منه. ولهذا أكرر كلمات القديس برنردوس: أننا أن أردنا أن نجد نعمةً فنجدها بواسطة مريم: مشيراً بذلك الى ما قالته البتول الكلية القداسة هي نفسها للقديسة ماتيلده: أنه اذ كان الروح القدس قد أملأ هذه السيدة من عذوبته كلها. فصيرها عزيزةً على قلبه تعالى ومحبوبةً منه بهذا المقدار. حتى أن كل من ألتمس منه عز وجل بواسطتها النعم التي يرغبها فينالها من دون ريب:* ثم أن كنا نصدق القضية المشتهرة عن القديس أنسلموس بقوله: أنه يتفق بعض الأحيان أن ننال الخلاص بأستغاثتنا بأسم مريم بأكثر سرعةٍ مما نناله اذا أستغثنا بأسم يسوع: فكذلك (كما يقول القديس نفسه) يتفق بعض الأحيان أن نفوز بالنعم بألتجائنا الى والدة الإله بأكثر سرعةٍ من نوالها إياها اذا ألتجأنا الى مخلصنا يسوع المسيح نفسه، لا كأنه تعالى ليس هو ينبوع النعم كلها ومولاها المطلق، بل من قبيل أننا حينما نبادر بالأستغاثة نحو هذه الأم الإلهية، التي هي حينئذٍ تتوسل لدى أبنها يسوع من أجلنا، فبأكثر سرعةٍ تستمد لنا منه النعم التي نلتمسها. اذ أن تضرعاتها لديه هي تضرعات أمٍ، ولها قوة أكثر من توسلاتنا الغير المتوسطة أمامه. فاذاً ينبغي لنا أن لا نبارح قدمي خازنة النعم هذه قائلين لها مع القديس يوحنا الدمشقي: أفتحي لنا باب التحنن يا والدة الإله المباركة، لأننا بأتكالنا عليكِ لا نخيب وبكِ نخلص من كل المحن، لأنكِ أنتِ خلاصٌ لجنس المسيحيين". واذا ما ألتجأنا الى هذه السيدة، فالأفضل هو أن نتوسل إليها بأن تستمد لنا من الله تلك النعم. التي تعلم هي أنها أكثر ملائمةً وأفادةً لخلاصنا، نظير ما كان يصنع الراهب الدومينيكاني راجينالدوس. حسبما هو مدون في الرأس الخامس من الكتاب الأول من تاريخ هذه الرهبنة. فيوماً ما كان عبد مريم هذا مريضاً، وكان يطلب منها الصحة الجسدية. فظهرت له سيدته هذه المجيدة مرأفقةً من القديستين كيكيليا وكاترينا، وقالت له بعذوبةٍ كلية: يا أبني ماذا تريد أن أصنع من أجلك: فالراهب المذكور عند سماعه منها هذه الكلمات قد حصل مبهوتاً لا يعلم ماذا يجاوب، فحينئذٍ الواحدة من القديستين المقدم ذكرهما شارت عليه بقولها له هكذا: أتعرف ماذا تصنع يا راجينالدوس، فأنت لا تطلب منها شيئاً معيناً، بل سلم ذاتك بجملتها بين يديها تسليماً تاماً، لأن هذه السيدة تعلم هي أن تصنع معك تلك النعمة بأفضل نوع مما أنت تعرف أن تطلبها منها: فهكذا فعل المريض ومريم وقتئذٍ أستمدت له نعمة الشفاء من مرضه.* ولكن اذا نحن أردنا أن نفوز بأن تزورنا ملكة السموات بزيارتها السعيدة، فيفيدنا كثيراً أننا نحن أيضاً نزورها مراتٍ مترادفةً بذهابنا أمام بعض أيقوناتها المقدسة. فليقرأ النموذج الآتي تسطيره، لكي يفهم بكم من المواهب الخصوصية تكافئ سلطانة العالمين الذين يزورون أيقوناتها بحسن عبادة.* * نموذج * † صلاة † فتضرعي اذاً من أجلي يا مريم حبيبتي. وأوصي بي أنبكِ الإلهي ولأنكِ أفضل مني تعرفين شقاوتي وأحتياجاتي فليس لي ما أقوله لكِ أكثر. بل أرحميني لأني مسكينٌ جاهلٌ لا أعلم ماذا ألتمس من النعم المفيدة لي والمحتاج أنا إليها. فأنتِ يا أمي وسلطانتي الكلية الحلاوة ألتمسي لي من أبنكِ تلك النعم التي تعرفين أنها أكثر إفادةً لي. وأوفر ضرورةً لخلاص نفسي. فأنا أسلم ذاتي بجملتها في يديكِ. وأتوسل للعزة الإلهية بأستحقاقات مخلصي أن تهبني النعم التي أنتِ تطلبينها في شأني. فأطلبي من أجلي أيتها البتول الكلية الطوبى ذاك الشيء الذي تعرفين أنه أجود لي. لأن صلواتكِ لا يمكن أن ترد خائبةً، لأنها صلوات أمٍ نحو أبنها الذي يحبها حباً شديداً، ويسر بأن يصنع كل ما تطلبه منه، لكي يكرمكِ بذلك كرامةً أعظم، ويظهر لكِ في القت عينه سمو درجات الحب الذي يحبكِ به، فقد أتفقنا على ذلك يا سيدتي، وأنا أحيى واثقاً بكِ، وأنتِ يخصكِ أن تفتكري في أمر خلاصي آمين.* † الفصل السادس * فيما يلاحظ عيد تطهير البتول الكلي طهرها، أي تقدمة أبنها يسوع المسيح الى الهيكل بعد أربعين يوماً من ميلاده وفيه يبرهن عن عظمة القربان الذي صنعته هذه السيدة في مثل اليوم الحاضر لله، بتقدمتها له حياة أبنها.* فالآب الأزلي قد كان حدد راسماً أن يخلص الإنسان الهالك بالخطيئة وينقذه من الموت الأبدي، ولكن من حيث أنه جلت حكمته كان يريد في الوقت عينه أن عدله الإلهي لا يبقى خائباً من الوفاء المحق له ضرورةً، فلذلك اذ لم يوفر في هذا الأمر المهم عنايةً، حتى ولا حياة أبنه الوحيد المتجسد لأجل خلاص البشر، فأراد تعالى أن هذا الأبن يفي بكل صرامةٍ العقاب الذي أستحقته البشر، كما يقول الأنبا المصطفى: أن الله لم يشفق على أبنه بعينه بل بذله عن جميعنا: (رومانيين ص8ع32) فقد أرسله اذاً الى العالم لأجل هذه الغاية متأنساً، وعين أماً له البتول مريم الطوباوية، ولكن لأنه عز وجل لم يرد أن أبنه الإلهي يصير ابناً لهذه العذراء قبل أن تعطى هي رضاها الصريح بذلك. فهكذا لم يشأ تعالى أن هذا الأبن يقدم ذاته وحياته ضحيةً من غير أن ترافقه أرادة والدته ورضاها، حتى يكون على هذا النوع قلب مريم العذراء مقدماً ضحيةً لله جملةً مع تقدمة حياة ابنها يسوع. فالقديس توما اللاهوتي يعلم: بأن للأمهات من قبل صفتهن الوالدية حقاً وولايةً على أولادهن: فاذاً من حيث أن يسوع قد كان في ذاته باراً. ولم يكن مستحقاً أدنى عقابٍ لأجل ذنبٍ خصوصي الذي قط لم يلتحق به. فقد يبان لائقاً أن لا يكون تعينً هو لأن يقدم ذبيحةً على عود الصليب من أجل خطايا العالم من دون رضا أمه، الذي به تقدمه هي طوعاً وأختيارياً للموت.* ولكن ولئن كانت مريم البتول من حين صيرورتها أماً ليسوع المسيح. قد أعطت رضاها بموته، فمع ذلك أراد الرب أن هذه الأم الإلهية تقدم لديه تعالى في مثل هذا اليوم في الهيكل الأورشليمي ذاتها ضحيةً كاملةً، بطقسٍ أحتفالي خارج، وذلك بتقدمتها الأحتفالية له حياة أبنها الحبيب غفراناً عن خطايا العالم ووفاءً لعدله الإلهي. ولهذا يسمي القديس أبيفانيوس هذه البتول القديسة: العذراء الكاهنة المقدمة الضحية. فالآن ينبغي لنا أن نتأمل في كم وجد ثمن هذه الضحية لدى مريم عظيماً. من قبل الألم الذي شعرت به باطناً، وكم هو مقدار الشجاعة وسمو فضيلة الصبر التي بها مارست هي هذه الضحية، بأمضائها حكومة الموت ضد أبنها الحبيب كأنه بخط يدها.* فهوذا مريم تبادر نحو مدينة أورشليم بأسراعٍ لتكمل تقدمة أبنها قرباناً. حاملةً على ذراعيها الحمل المهيأ للذبيحة، حيث دخلت الى هيكل الرب، ودنت من المذبح مملؤةً من الأحتشام والتواضع وحسن العبادة، مقدمةً للعلي بكرها المحبوب في الغاية، وفي الوقت عينه قد جاء الى هناك القديس سمعان الشيخ، الذي كان حصل من الله على الوعد بألا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الرب المنتظر، فهذا البار اذ أقتبل من يدي البتول طفلها الإلهي. وأستنار من قبل الروح القدس، فأخبر هذه الأم عن عظمة ثمن ذاك القربان المقدم لله منها، لأنه كان يلزمها أن تضحي نفسها جملةً مع أبنها. فهنا القديس توما الفيلانوفي اذ يتأمل في كيفية حال الشيخ البار سمعان، عند ألتزامه بأن يعلن للعذراء المجيدة تلك الحكومة المرة ضدها. يقول هكذا: أن هذا الشيخ عند ذلك القلق وسكت، ولكن مريم كأنها كانت تقول نحوه لماذا أنت يا سمعان مضطربٌ، في الوقت الذي أنت فيه حاصلٌ على تعزيةٍ عظيمةٍ بمشاهدتك تمام ما وعدت به. فمن ثم أجابها هو قائلاً: أيتها السيدة الشريفة أني كنت أتمنى الا أخبركِ بقضيةٍ مغمةٍ مملؤةٍ من المرارة، ولكن من حيث أن الله يريد مني أن أعلنها لديكِ، لأجل أزياد أجركِ وأستحقاقاتكِ ، فأسمعي ما أقوله لكِ، وهو أن هذا الطفل الذي الآن يجلب لكِ مقداراً لا حد له من الأبتهاج والمسرة، وذلك بكل صوابٍ، أواه أنه هو نفسه يوماً ما عتيد أن يجلب لكِ الحزن الأشد مرارةً، الذي ما تجرعه قط أنسانٌ في العالم، وهذا سيكون حينما أنتِ تشاهدين أبنكِ هذا نفسه مضطهداً من كل نوعٍ من الشعوب، مطروحاً في الأرض كأحقر العبيد وكآخر الناس، مهزأ به غاية الأستهزاء. وأخيراً أمام عينيكِ سيمات مشجوباً موت العار، ثم أعلمي أيضاً أنه بعد موته عتيد أن يموت من أجله عددٌ عظيمٌ من الشهداء فيما بين العذابات القاسية، ولكن اذا كان أستشهادهم المر مزمعاً أن يتم بأجسادهم، فأستشهادكِ أنتِ أيتها الأم الإلهية عتيد أن يصير بنفسكِ وقلبكِ.* أي نعم أن أستشهاد هذه البتول المجيدة كان عتيداً أن يتم في قلبها، بواسطة التوجع والحزن المر على أبنها الحبيب الوحيد، وهذا هو السيف الذي كان عتيداً أن يحوز في نفسها قاطعاً فاصلاً مفقداً إياها الأبن الكلي الحب لديها. وهذه هي ألفاظ نبؤة الشيخ سمعان القائل لمريم أمه: ها هوذا هذا موضوع لسقوط وقيام كثيرين في أسرائيل. ولعلامة تخالفٍ، وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ، لتظهر أفكارٌ من قلوبٍ كثيرين: (لوقا ص2ع34) فيقول القديس أيرونيموس أن البتول الكلية القداسة قد كانت أستنارت من الكتاب الإلهي، وعرفت مقدار الآلام التي كان يلزم أن يحتملها أبنها المخلص في مدة حياته، وبأبلغ من ذلك في حين موته. على أنها كانت تفهم جيداً من أقوال الأنبياء أنه كان ينبغي له أن يسلم بخيانةٍ من أحد المختصين به، كقول داود النبي: أن إنسان سلامي الذي وثقت به الذي أكل خبزي ورفع عليَّ عقبه: (مزمور 41ع10) وأنه سيهمل متروكاً من تلاميذه. بموجب نبؤة زخريا هكذا (ص13ع7): قال رب الجنود أضرب الراعي فتتبدد الخراف: وكانت تعرف حسناً الأهانات التي كان يلزمه أن يتكبدها. واللطم والبصاق والأستهزاء المزمع أن يلم به من الشعوب. كقول أشعيا النبي: أنا لست أعصي ولا أجاوب. قد بذلت ظهري للسياط. وخدي لل لطمات. وما رددت وجهي من خزي البصاق عليه: (ص50ع5) قد كانت تعلم أنه كان عتيداً أن يصير هو عاراً فيما بين الأمم وهزاءاً للناظرين ورذالةً في الشعب، حسبما تنبأ عنه داود قائلاً (مزمور22ع7): أنا دودة ولست أنساناً، عارٌ للبشر ورذلةٌ في الشعب: وكما قال عنه أرميا (مراثي ص3ع30): يعطي الخد لمن يلطمه، يشبع من العار: وكانت عارفةٌ أن لحمانه المقدسة كانت عتيدةً عند نهاية حياته أن تتناثر بالجلد، كقول أشعيا النبي: هو جرح لأجل تجاوزنا الشريعة، وتوجع بسبب خطايانا: (ص53ع5) بنوعٍ أن جسده كان يلزم أن يعود فاقد الصورة حاصلاً كجسم إنسانٍ أبرص كله جراحاتٌ. حتى أن عظامه نفسها تصير منظورةً مجردةً. كقول النبيين أشعيا وداود هكذا: ليس له منظرٌ ولا جمال... ونحن حسبناه كأبرص: وأحصوا جميع عظامي: وكانت تعرف أنه كان يلزم أن يديه ورجليه تتبجن مسمرةً كقول المرتل: ثقبوا يدي ورجلي: (مزمور22ع18) وأنه مزمعٌ أن يحصى فيما بين الأشرار. كقول أشعيا النبي: أنه حسب مع العادمين الشريعة ( ص53ع12) وأخيراً كانت عارفةً بأنه كان عتيداً أن يموت مطعوناً بحربةٍ على الضليب. كقول زخريا النبي: وينظرون إليَّ أنا الذي طعنوه: (ص12ع10).* فأي نعم أن هذه الأشياء بوجه العموم كانت معروفةً عند البتول الكلية القداسة، ولكن عندما قال لها سمعان الشيخ: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ: فحينئذٍ (حسبما أوحى الرب للقديسة تقلا) قد أنكشفت لديها ظروف آلام أبنها مفصلاً، والأوجاع الباطنية والخارجة التي كانت مزمعةً أن تحيق به حين آلامه، وهي أي العذراء المجيدة قد أرتضت بذلك جميعه، وبثبات عزمٍ وشجاعةٍ تذهل عقول الملائكة قبلت حكومة الموت على أبنها الوحيد. موتاً هكذا شنيعاً وذا آلامٍ مرةٍ قابلةً: أيها الآب الأزلي أنك اذ كنت هكذا تريد، فلتكن مشيئتك لا مشيئتي، وأنا أتحد أرادتي مع أرادتك المقدسة، وأضحي لديك أبني هذا، وأرتضي بأن يعدم الحياة لأجل مجدك، ولأجل خلاص العالم، ومعه أنا أقرب لك ضحية قلبي أيضاً فليجز فيه سيف الحزن والوجع حينما تشاء يا إلهي، ويكفيني أنك تعود ممجداً وراضياً، ليس كمشيئتي بل كمشيئتك". فيا لها من محبةٍ لا قياس لها، ويا لها من شجاعةٍ لا مثيل لها، ويا له من أنتصارٍ يذهل العقول، ويا لها من غلبةٍ تستحق مؤبداً مديح السماويين والأرضيين.* فمن هذا القبيل والدة الإله حين آلام أبنها قد وجدت ساكتةً، ولم تتكلم شيئاً ضد المثالب الضالة التي منيَ هو بها، بل لم تهتم في أنقاذه عند بيلاطس الذي كان عرف برائته مريداً أطلاقه. ولكنها ظهرت في ذلك المحفل فقط عند جبل الجلجلة لكي تشترك بتقدمة ذبيحته العظيمة هناك، اذ أنها قد رافقته منذ أبتداء صلبه، ولم تفارقه الى أن تمم الذبيحة ومات على الصليب، كقول البشير: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: وهذا كله فعلته لتكمل الضحية التي كانت سبقت وقدمتها لله، من يوم تقدمتها يسوع له تعالى في الهيكل.* فلكي يستطيع أحدٌ أن يدرك عظم الجهاد الذي تكبده هذه الأم الإلهية ضد ذاتها في أمر قربان أبنها وتقدمتها إياه ضحيةً وكم كان علقم مرارة الألم الذي هي تجرعته في شربها هذه الكأس. فينبغي ضرورةً أن يدرك قبلاً مقدار الحب الذي به كانت هي تحب هذا الأبن الوحيد. فنحن بوجه العموم نعلم أن المحبة الوالدية الكائنة في الأمهات عموماً نحو أولادهن، تصيرهن عند موتهم أو فقدانهم أن ينسين بالكلية نقائصهم بأسرها، وخصالهم الرديئة وبشاعة خلقة بعضهم بل الأهانات والأفتراء الذي يكون التحق بهن من البعض منهم. وبالأجمال يشعرون بالوجع والحزن على فقدهم كأنهم مزينون بالكمالات بأجمعها. هذا مع أن حب هؤلاء الأمهات لأولادهن المشار إليهم هو حبٌ مقسومٌ فيما بينهم وبين أولادهن الآخرين، أو فيما بينهم وبين موضوعاتٍ أخرى من الأشياء المجلوقة. أما البتول القديسة فليس لها الا أبنٌ طبيعي واحدٌ فقط، وهو كلي الجمال وسامٍ في البهاء على أولاد آدم كافةً، وهو موضع الحب الكلي، لأنه حاوٍ كل الصفات الموجبة حبه. وهو مطيعٌ وديعٌ عذبٌ بارٌ قدوسٌ، مالكٌ على كل الفضائل الفائقة سمواً، ويكفي القول عنه أنه متأنسٌ، ثم أن الحب الذي لهذه الم الإلهية نحوه تعالى لم يكن مقسوماً فيما بينه وبين موضوعاتٍ أخرى، بل أنها وضعت حبها بجملته في هذا الأبن الوحيد، ولم يكن عندها خوفٌ من أن تفرط بحبه الزائد المتفاوت الحدود، اذا تركت لذاتها العنان بتعلق قلبها الشديد به. لأنه في الوقت عينه الذي فيه هو أبنها، ففيه نفسه هو إلهها المستحق أن يحب فوق كل شيءٍ حباً غير متناهٍ. فأبنٌ هذه صفاته قد وجد هو هو عينه الضحية التي هذه الأم ألتزمت بأن تقدمها أختيارياً للموت.* فلينظر كل واحدٍ متأملاً في كم أحتملت مريم العذراء في ذاتها وبأية شجاعةٍ قد أتصفت بتقدمتها أبنها هذا الحبيب محرقةً حيةً، ليموت على الصليب موت العار. فهذه هي الأم الأعظم سعادةً فيما بين الأمهات كلهن. من حيث أنها أختيرت والدةً لله، ولكنها في الوقت ذاته هي الأم المستحقة أكثر من سائر الأمهات التوجع من أجلها. لأنها أختبرت في ذاتها مرائر الألام بنوعٍ لم يحدث قط، ولا هو ممكنٌ أن يحدث لأمٍ سواها. لأنها من حينما حصلت على هذا الأبن. فأنما فازت هي به محكوماً عليه بأن يموت فيما بين الآلام الأشد قساوةً. فترى أيت أمٍ تقبل لها أبناً ذاك الذي قد أعد معيناً لأن يموت موت الخزي والعار أمام عينيها. فمريم وحدها قد أقتبلت أن تتبنى بهذا الأبن تحت شرطٍ هكذا شديد المرارة، وفائق الأحتمال طبيعياً، وليس فقط أنها قبلت هذا الشرط، بل أيضاً هي نفسها في مثل هذا اليوم قدمت أبنها بيديها، قرباناً معداً لذبيحةٍ دمويةٍ مزمعة أن تضحى على الصليب اللعدل الإلهي. فيقول القديس بوناونتورا: أن الطوباوية مريم البتول لقد كانت بأوفر رضا أقتبلت على ذاتها الآلام والموت المرسوم على أبنها أحتماله. ولكنها طاعةً منها لله قد صنعت التقدمة العظيمة، مضحيةً حيوة أبنها الإلهية المحبوبة منها بهذا المقدار، منتصرةً بألمٍ لا يوصف على مفاعيل أنعطافات حبها الوالدي الشديد: ومن ثم في هذه التقدمة قد صنعت هي أمراً أعظم جداً. بأغتصابها ذاتها وبصبرها على التوجع بشجاعةٍ، مما لو كانت تقدم ذاتها هي نفسها لأحتمال جميع ما كان مرسوماً على أبنها أن يتحمله، فهي بفعلها هذا سمت متعاليةً على جميع ما أحتمله فيما بعد الشهداء كلهم. لأن الشهداء أنما قدموا لله حياتهم الذاتية، أما مريم فقدمت له تعالى حيوة أبنها الذي كانت تحبه وتعتبره أفضل من حياتها بما لا يحد ولا يوصف.* ثم أن تقدمة البتول المجيدة لم تنته عند هذا الحد، بل ههنا هي بدايتها، لأن هذه الأم الإلهية منذ تلك الساعة الى نهاية حيوة أبنها، قد كانت على الدوام تشاهج بإزاءٍ عيني عقلها جميع الآلام والموت المزمع هذا الأبن الإلهي أن يتكبده. وبالتالي بمقدار ما كانت يوماً فيوماً تختبر جديداً في حبيبها يسوع موضوعاتٍ للحب ولتعلق القلب به. فبأكثر من ذلك كان يزداد في فؤادها ألم الحزن بتذكرها ما كان عتيداً أن يحدث له عند نهاية حياته.* أواه أيتها الأم المحزونة. أنكِ لو تكونين وجدت أقل حباً لأبنكِ، أو لو كان هذا الأبن وجد مستحقاً أقل حباً. أم لو أنه كان أحبكِ أقل حباً. فلكان توجعكِ وآلامكِ وجدا أقل مرارةً وعذاباً، بتقدمتكِ حيوة هذا الأبن ضحيةً للموت على الصليب. ولكن لا وجدتِ ولا هو ممكنٌ أن توجد أمٌّ أحبت أبنها بمقدار حبكِ يسوع أبنكِ. لأنه لا وجد قط ولا هو ممكنٌ أن يوجد أبنٌ محبوبٌ ومستحق أن يحب نظير أبنكِ. ولا نظير حبه إياكِ الشديد. أترى لو أمكننا أن نشاهد جمال وجه هذا الطفل الإلهي، وجلالة هيبته ألقد كنا أرتضينا بأن نقدمه ضحيةً من أجل خلاصنا. أما أنتِ يا مريم التي هي أمه المتعلقة بحبه بهذا المقدار كما يستحق. فكيف أستطعتِ أن تقدمي ذبيحةً من أجل خلاص البشر هذا الأبن البار، ضحيةً للموت فيما بين أوجاعٍ فائقة الأدراك، وبميتةٍ لم يحدث مثلها قد لأحدٍ من المجرمين.* أواه كم كانت مرائر الحزن تجرح قلب هذه الأم الرأوفة منذ ذلك اليوم فصاعداً، أي مدة حياة يسوع المسيح على الأرض. بتذكرها على الدوام، وبتصورها أمام عينيها الآلام والأهانات التي كان البشر عتيدين أن يعاملوا بها هذا الابن الإلهي. فالحب الوالدي كان دائماً يصور لديها يسوع غائصاً في بحر الحزن في بستان الزيتون، قاطراً من جسده عرقٌ دمويّ، مجلوداً في دار بيلاطس، ممزقاً جسمه من شدة الضرب، مكللاً بأكليل الشوك، متردياً بثوب الأرجوان للأستهزاء. وأخيراً معلقاً على خشبة العار فيما بين لصين على جبل الجلجلة. فهوذا أيتها الأم (كان يقول نحوها الحب) الأبن الحبيب البار الذي أنتِ تقدمينه ضحيةً ليحتمل أعظم آلاماً هذه صفتها وشدة مرارتها. فترى ماذا يفيدكِ أن تهربي به الى مصر لتخلصيه من يدي هيرودس، وتحفظيه لميتةٍ ذات حزنٍ أعظم وآلامٍ أمر.* فاذاً مريم ليس في هيكل أورشليم فقط قدمت أبنها ضحيةً لله أبيه، بل أنها قدمته قرباناً متصلاً متكرراً على الدوام مدة حياته كلها. لأن هذه السيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا: بأن سيف الحزن والوجع الذي أخبرها عنه سمعان الشيخ لم يفارق قلبها قط، طالما هي بقيت في الأرض الى حينما أرتقت الى السماء. ثم يقول نحوها القديس أنسلموس: أنه لا يمكنني يا سيدتي أن أصدق، أنكِ مع وجودكِ في حزنٍ ومرارة قلبٍ هكذا شديدةٍ، أستطعتِ أن تعيشي على الأرض دقيقةً واحدةً، لولا أن الله نفسه الذي يهب الحياة يحفظكِ بقوته الإلهية: الا أن القديس برنردوس يشهد لنا عن مرارة الحزن الذي تجرعته هذه البتول، حين تقدمتها أبنها لله في الهيكل الناموسي بقوله: أنها كانت تعيش مائتةً في كل دقيقةٍ، لأنه في كل دقيقةٍ كان يعتريها وجع موت أبنها يسوع الحبيب، الوجع الذي هو أشد قساوةً من أية ميتةٍ كانت.* فبالصواب هذه الأم الإلهية، لأجل ما أكتسبته من الأستحقاق العظيم، بواسطة هذا القربان الكريم الذي قدمته لله من أجل خلاص العالم، قد دعيت من القديس أوغوسطينوس: مصلحة الجنس البشري. ومن القديس أبيفانيوس: فادية المأسورين: ومن القديس أيدالفنسوس: مقومة العالم الهالك. ومن القديس جرمانوس: أصلاح تهشمنا وشقائنا. ومن القديس أمبروسيوس: أم المؤمنين أجمعين. ومن القديس أوغوسطينوس نفسه: أم جميع الأحياء. ومن القديس أندراوس الأقريطشي:"أم الحيوة". على أنه، كما يقول أرنولدوس كارنوطانسه: أنه في موت يسوع قد أتحدت مريم أمه أرادتها مع أرادة أبنها هذا الإلهي، بنوع أنهما كليهما قدما ذبيحةً واحدةً هي نفسها. ولهذا كما الأبن كذلك الأم قد باشرا عمل الفداء وأستمدا الخلاص للبشر. فيسوع أكتسب لنا الخلاص بواسطة وفائه عن خطايانا. ومريم بواسطة أستمدادها لنا تخصيص هذا الوفاء ومن ثم كتب الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أنه يمكن أن تسمي هذه الأم أفلهية: مخلصة العالم: لأنها بواسطة الآلام التي هي تكبدتها بتوجعها من أجل أبنها (الذي هي أختيارها قدمته ذبيحةً للعدل الإلهي) قد أستحقت للبشر أن يشتركوا بعد ذلك بأثمار الفداء.* فمن حيث أن البتول المجيدة اذاً لأجل أستحقاقات آلامها وتوجعها، وما تكبدته بتقدمة أبنها قرباناً لله أكتسبت صفة كونها أماً لجميع المفتدين. فأمرٌ عادلٌ هو الأعتقاد بأنه بواسطتها هي وحدها يعطى لهم حليب النعم الإلهية. التي هي أثمار أستحقاقات يسوع المسيح. ثم الوسائط المبلغة الى الحياة الأبدية. وهذا يوافق لما يقوله القديس برنردوس: أن الله قد وضع في يد مريم كل ثمن فدائنا: فبهذه الكلمات يعلمنا القديس المذكور أنه بواسطة تضرعات البتول الطوباوية. تتخصص الأنفس بأستحقاقات المخلص. في الوقت الذي فيه تتوزع عن يدي هذه الأم الإلهية النعم التي أنما هي قيمة أستحقاقات يسوع المسيح.* لأنه أن كان الله بهذا المقدا أرتضى مسروراً بتقدمة أبينا أبراهيم. التي بها أطاع صوته تعالى ليقدم له أبنه أسحق ضحيةً. حتى أنه عز وجل ألزم ذاته بأن يكثر نسل أبراهيم كنجوم السماء. كما هو مكتوبٌ: بذاتي حلفت يقول الرب. لأجل أنك عملت هذا العمل وما شفقت من أجلي على أبنك الحبيب. بالحقيقة لأباركنك تبريكاً. ولأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء، وكالرمل الذي عند شاطئ البحر. ويرث نسلك مدن أعدائه، وتتبارك بنسلك كافة أمم الأرض عوض ما سمعت صوتي: (سفر التكوين ص22ع16 ألخ) فيلزمنا بكل تأكيدٍ أن نصدق. بأن القربان الأعظم والأكمل والأشرف. الذي قدمته لله هذه الأم العظيمة بتضحيتها أبنها يسوع. قد وجد لديه سبحانه أكثر قبولاً. وسر به أوفر سروراً من قربان أبراهيم. ولذلك قد اعطاها جلت عدالته. أن بواسطة تضرعاتها يتكاثر عدد المنتخبين. أي نسل أولادها السعيد الذي هي تحامي عنه متشفعةً بالمتعبدين لها.* فالقديس سمعان الشيخ قد نال الوعد من الله بألا يذوق الموت ألم يعاين مسيح الرب. كما يقول عنه القديس لوقا الإنجيلي (ص2ع26): أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب: الا أن هذا البار لم يفز بهذه النعمة من دون واسطة مريم البتول. لأنه لم يجد مسيح الرب يسوع الا فيما بين ساعدي أمه هذه العذراء، ولهذا من يريد أن يجد يسوع. فلا يحصل عليه الا بواسطة مريم. فلنذهبن اذاً نحو هذه الأم الإلهية أن كنا نريد أن نجد يسوع. ولنبادرن إليها برجاءٍ وطيدٍ واملٍ أكيدٍ. فقد أوضحت العذراء المجيدة لعبدتها برودانتسيا نازاينوني، أن كل سنةٍ في هذا اليوم الثاني من شهر شباط المختص بعيد تطهيرها، يمنح الله نعمةً ذات رحمةٍ عظيمةٍ لواحدٍ من الخطأة، فمن يعلم أن هذا الخاطئ السعيد يكون واحداً منا نحن في هذا اليوم. فأن تكن خطايانا عظيمةً، فأعظم منها هو أقتدار مريم، لأن أبنها الإلهي لا يعرف أن ينكر شيئاً مما تطلبه منه هذه الأم العزيزة لديه، كما يقول القديس برنردوس. وأن كان يسوع هو غضبان علينا، فمريم حالاً تهدئ غضبه وتعطفه الى الرضوان نحونا. فيخبرنا المؤرخ بلوطاركوس بأن أنتيباطروس كتب الى الملك ألكسندروس الكبير رسالةً مستطيلةً ضد أوليمبيا أمه. فلما قرأ الرسالة ألكسندروس قال: أن أنتيباطروس لا يعلم أن دمعةً صغيرةً تقطر من عيني أمي تكفي لأن تمحي عدداً فائق الإحصاء من الرسالات المملؤة شكاواتٍ. فهكذا يمكننا أن نتصور في عقولنا أن يسوع يرد الجواب للشيطان عدونا عن جميع الشكايات التي يقدمها ضدنا، حينما تتوسل مريم الى هذا الأبن افلهي من أجلنا ويقول: أن لوسيفوروس لا يعلم أن تضرعاً واحداً مقدماً لي من أمي من أجل خاطٍ ما، يكفي لأن يجعلني أن أنسى جميع الأهانات التي هو أغاظني بها. وهذ يتضح من النموذج الآتي تحريره.* * نموذج* †صلاة † فأنا أشتهي يا سلطانتي أقتداءً بنموذجكِ أن أقرب لله في هذا اليوم قلبي المسكين، ولكني أخاف من أنه تعالى يرذله عند مشاهدته إياه هكذا دنساً متمرغاً في حماة الأباطيل. غير أنه اذا أنتِ قدمتيه له تعالى فلا يرفضه. لأن التقدمات التي تتقرب إليه عز وجل عن يديكِ الكلية طهارتهما. فهو يقبلها كلها مرتضياً بها، فمن ثم أتقدم إليكِ في هذا النهار يا مريم أنا الشقي، وأهبكِ ذاتي بجملتها، فأنتِ قدميني كشيء مختص بكِ لدى الآب الأزلي جملةً مع أبنكِ يسوع، وتوسلي إليه بأستحقاقات أبنه الإلهي وحباً بكِ، بأن يقبلني خاصته. فلا تهمليني يا أمي الكلية الحلاوة، بحق المحبة التي بها تحبين أبنكٍ الذي ضحيتيه قرباناً من أجلي. لكن عينيني دائماً. ولا تسمحي بأني يوماً ما أفقد بخطاياي هذا الأبن الإلهي، الذي أنتِ بأوجاعٍ هكذا مرةٍ قدمتيه ضحيةً على خشبة الصليب من أجل خلاصي. بل قولي أني عبدكِ أنا وأني قد ألقيت عليكِ كل رجائي. وبالأجمال قولي له أنكِ تريدين خلاصي، لأنه تعالى بكل تأكيدٍ يقبل ذلك آمين.* † الفصل السابع * فيما يلاحظ عيد نياح سيدتنا والدة الإله. وفيه يبرهن عن * كم كان موتها كريماً، أولاً: لأجل الأشياء التي رافقته. ثانياً: لأجل النوع الذي به حدث. وفيه جزءان † الجزء الأول † * في كم هو كريمٌ موت هذه السيدة لأجل الأشياء الجليلة التي رافقته* فأمرٌ واضح هو أن الموت أنما هو عقاب الخطيئة، ولهذا يبان أن والدة الإله لم تكن خاضعةً لشريعة هذا العقاب، ولا كان يلزمها أن تتكبد شيئاً من تعاسة أولاد آدم عينها. من حيث أنها وجدت دائماً بريئةً من كل شائبة دنسٍ أو خطيئةٍ مطلقاً، وعلى الدوام كانت قديسةً بكليتها. ولكن لأجل أن الله أراد أن تكون هذه الأم الإلهية شبيهةً بأبنها يسوع في كل الأحوال. فأذ كان هذا الأبن قد مات حقيقةً فكان يجب أنها هي أيضاً تموت حقيقةً، مريداً بذلك تعالى أن يعطي الأبرار نموذجاً مختصاً بالميتة الكريمة لديه المعدة لهم. ولهذا رسم بأن تموت هذه الطوباوية ولكن ميتةً حلوةً بكليتها. سعيدةً بجميع ظروفها. مرافقةً من حوادث جليلة جداً.* فأعتيادياً أن الموضوعات التي تصير الموت مراً هي ثلاثةٌ، أي تعلق القلب في الأشياء الأرضية، وتوبيخ الضمير من أجل الخطايا المفعولة. وعدم معرفة حقيقة الحكومة العتيدة أن تبرز على النفس بعد أنفصالها من الجسد أن كان بالخلاص أو بالهلاك. فميتة القديسة والدة الإله قد كانت منفصلةً بالكلية عن هذه الموضوعات بجملتها. ومرافقةً من ثلاثة أشياء جليلة تجعلها كريمةً جداً، عذبةً في الغاية، سعيدةً بكل ظروفها. فهي ماتت غير متعلقة القلب بشيء من الأشياء الأرضية مطلقاً. كما عاشت جميع أيام حياتها، ورقدت بسلام ضميرٍ مملؤٍ هدواً لنجاتها من أدنى خيال خطيئةٍ، وتنيحت بمعرفةٍ أكيدةٍ بأنها كانت منتقلةً الى السماء لتملك مع أبنها سرمداً.* فأولاً:أنه لا ريب ولا أشكال في أن تعلق القلب بخيرات الأرض يصير الموت مراً بزيادةٍ. كما يقول الروح القدس: ما أشد مرارة ذكرك أيها الموت على الرجل المستريح في أمواله: (أبن سيراخ ص41ع1) ولكن من حيث أن القديسين يموتون غير متعلقي القلب بشيءٍ من الموجودات الأرضية. فالموت لديهم ليس هو مراً. بل عذبٌ محبوبٌ كريمٌ. وحسبما يفسر القديس برنردوس لفظة موتٍ كريمٍ، أي أنه يستحق أن يشترى بأثمن ما يوجد من الأشياء الكريمة. فقد كتب في سفر الأبوكاليبسي: طوبى للموتى الذين يموتون بالرب" (ص14ع13) فمن هم هؤلاء الذين يموتون، مع أنهم يسمون موتى. أي ماتوا قبلاً، فبالحصر هن الأنفس السعيدة اللواتي ينتقلن من هذه الحياة الى الأبدية، بعد أن يكن متن قبلاً عن جميع الأشياء الأرضية. اذ أنهن قد وجدن في الله وحده كل خيرٍ لهن. نظير ما كان وجد القديس فرنسيس أسيزي الذي كان يقول: أن إلهي هو كل شيءٍ لي: ولكن ترى أية نفسٍ أمكن أن توجد بعيدةً عن حب الأشياء الأرضية بأبلغ نوع. ومتحدةً بالله أشد اتحاداً من نفس مريم العذراء الكلي جمالها. فهي كانت منفصلةً بكليتها عن التعلق بالأقرباء، بعد أنها منذ السنة الثالثة من عمرها، السن الذي به توجد الأطفال أشد تعلقاً بأقربائهم، وبأوفر أحتياج للمساعدة منهم. قد تركت هي والديها وأنسباءها، ودخلت الى هيكل الرب بكل هدوٍ وسرورٍ، بعيدةً عن كل واحد بالأنفراد. لتهتم بالتردد المتصل مع الله وحده. منفصلة القلب عن محبة الملابس. مكتفيةً بأن تعيش فقيرةً على الدوام، بعيدةً عن حب الكرامات، مختارةً عيشة التواضع والأحتقار، ولئن كان يحق لها أن تسمى سلطانةً، لأجل تسلسلها من نسل ملوك يهوذا. وقد أوحت هذه الأم الإلهية عينها للراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس الطوباوية أليصابات، بأنها حينما دخلت هيكل الرب. قد عزمت على أن لا تعرف لها أباً آخر، ولا أن تحب خيراً آخر سوى الله وحده.* ثم أن القديس يوحنا الرسول قد شاهد رسم البتول المجيدة في تلك الأمرأة التي رآها ملتحفةً بالشمس دائسةً على القمر، حسبما كتب لنا بقوله: وظهرت آيةٌ عظيمة في السماء أمرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس، والقمر تحت رجليها، وعلى رأسها أكليلٌ من أثني عشر كوكباً: (أبوكاليبسي ص12ع1) فالمفسرون يفهمون موضحين بالقمر خيرات هذه الأرض. التي هي عابرةٌ زائلةٌ ناقصةٌ نظير القمر. فهذه الخيرات الأرضية كافةً لم تحوها مريم قط في قلبها. بل دائماً أحتقرتها تحت رجليها عائشةً في الأرض نظير اليمامة المحبة التوحد والأنفراد، من دون أن يوجد فيها تعلقٌ ما نحو شيء من الموجودات الزمنية. كما قيل عنها: أن صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12): من هي هذه الصاعدة من القفر: (نشيد ص3ع6) حسبما يفسر روبارتوس بقوله نحو العذراء، كذلك أنتِ صعدتِ من القفر حيث أنكِ حاصلة على النفس المحبة الأنفراد: فاذاً من حيث أن هذه البتول المجيدة قد عاشت على الأرض منفصلة القلب بالكلية من محبة الأشياء الأرضية، ومتحدةً بجملتها في الله وحده. فلم يوجد الموت لديها مراً، بل عذباً جداً محبوباً عزيزاً مرغوباً منها. لأنه كان ينقلها من الأرض الى السماء حيث يمكنها بأفضل نوعٍ وبأشد أرتباطٍ أن تتحد مع الله الى الأبد.* ثانياً: أن ما يجعل موت الأبرار كريماً هو سلام الضمير وهدؤه. فالآثام المصنوعة في مدة الحيوة أنما هي ذلك الدود الذي يقرض قلوب الخطأة المساكين، ويحزن أفيدتهم حين موتهم، لدنوهم من الساعة التي فيها يلزمهم أن يحضروا في ديوان الله. فهؤلاء يوجدون محاطين في تلك الساعة من مجموع خطاياهم، التي تصرخ حولهم مخيفة إياهم، كقول القديس برنردوس: أننا نحن أعمالك فلا نفارقك: فوالدة الإله بالحقيقة لم تكن حين موتها متعوبةً من قبل ضميرها بشيء يوبخها. لأنها وجدت دائماً قديسةً بارةً خاليةً من العيب، معتوقةً من خيال أثمٍ، ومن كل شائبة خطيئةٍ، لا أصليةٍ ولا فعلية، وعنها قيل: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: (نشيد ص4ع7) لأنها مذ حصلت على المعرفة والتمييز، أي منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها البريء من الدنس في أحشاء والدتها القديسة حنه، الى حين نياحها، قد أحبت الله متزايدةً يوماً فيوماً في أضطرام قلبها بمحبته تعالى، وفي الفضائل والكمال مدة حياتها كلها. ولم تكن أشواقها ومرغوباتها وعواطفها شيئاً آخر سوى الأتجاه نحو الله والأتحاد به، والأرتياح إليه والى مجده، من دون أن تفه بكلمةٍ، أو تصنع عملاً، أم تتحرك حركةً، أو تنظر نظرةً، أم تستنشق نفساً، لا يكون راجعاً لله ولمجده، ومن غير أن تنفصل خطوةً ما عن محبته عز وجل، فيا له من أنتقالٍ سعيدٍ طوباوي، لأن فضائل هذه القديسة التي بموجبها مارست هي أفعالها في مدة حياتها. قد أحاطت حينئذٍ فراشها الطاهر أي فضيلة إيمانها الثابت الراسخ، ورجاها بالله الوطيد الأمين، وصبرها الجميل الفريد فيما بين أوجاع الحزن وآلامه القاسية. وأتضاعها العميق فيما بين أختصاصاتٍ ومواهب كلية السمو. وأحتشامها العظيم. ثم وداعتها وأنسها وداعتها ورأفتها وحنوها وأشفاقها على الأنفس، وغيرتها على المجد الإلهي. وفوق الجميع حبها الكامل نحو الله. وتسليمها ذاتها التام للمشيئة الربانية. وبالإجمال كل ما قعلته من القداسة والصلاح والبر. فهذا جميعه كان محيطاً بها. وكأنه يقول نحوها بلسان حاله: أننا نحن أعمالكِ فلا نفارقكِ: أي أننا نحن الفضائل التي أنتِ يا سيدتنا مارستينا، فأنما نحن هن بنات قلبكِ الجميل. فأنتِ الآن تتركين هذه الأرض الحقيرة. أما نحن فلا نريد أن نترككِ، بل أننا نذهب معكِ الى السماء لكي نكون حولكِ كخدام المجد والشرف في الفردوس. أنتِ التي تجلسين هناك سلطانةً بواسطتنا فوق جميع الملائكة والبشر أجمعين.* ثالثاً:أن الشيء الذي يجعل الموت حلواً محبوباً هو تأكيد أمر خلاص النفس الأبدي. فالموت يسمى عبوراً، أجتيازاً، أنتقالاً، وذلك لأننا بواسطته نعبر مجتازين ونمر منتقلين من حياةٍ وجيزةٍ الى حيوةٍ أبديةٍ. فاذاً كما أنه عظيمٌ هو خوف أولئك الذين يدنون من الموت حاصلين على الأرتياب في أمر خلاصهم، ويدخلون في أبواب المنون ليس من دون خوفٍ صوابي من أنهم يعبرون به الى موتٍ أبدي، فهكذا بضد ذلك عظيمٌ هو فرح القديسين الذين ينهون حياتهم حاصلين على رجاءٍ ليس بضعيفٍ في أنهم أنما ينتقلون من هذه الأرض لكي يمتلكوا الله الى الأبد. فأحدى الراهبات ذوات قانون القديسة تريزيا، حينما أخبرها الطبيب في حال مرضها الأخير بأن أرتحالها من الدنيا قد دنا. فعند سماعها منه هذه الخبرية قد أستوعبت فرحاً وتهليلاً فائق وصفهما، وهتفت نحو الطبيب قائلةً: أيها السيد أنك قد أتيتني بهذه البشارة العظيمة، ولا تطلب مني هديةً لائقةً من أجلها: والقديس لورانسوس سوستينياني اذ أقترب من ساعة الموت، وسمع خدامه يبكون حول فراشه قال لهم: أن كنتم تريدون أن تبكوا، فأمضوا الى أمكنةٍ أخرى، وأما أن كنتم تريدون أن تلبثوا عندي ههنا، فيلزمكم أن تسروا فرحين معي، كما أني أبتهج عند نظري أفتتاح أبواب الفردوس لكي أذهب وأتحد بإلهي. وهكذا القديسان بطرس دالكانترا ولويس غونزاغا وكثيرون غيرهما. قد أظهروا علامات البهجة والتهليل عند سماعهم من الأطباء خبرية دنوهم من الموت، هذا مع أن هؤلاء كلهم لم يكونوا فائزين بعلمٍ سماوي أكيدٍ عن أنهم كانوا في حال النعمة الإلهية حقاً. ولم يكونوا متأكيدين حقيقة قداستهم بالنوع الذي به كانت المجيدة مريم البتول متأكدةً ذلك. فاذاً ترى أي أبتهاجٍ وحبورٍ ومسرةٍ وتهليلٍ شعرت به هذه السيدة حين دنوها من الموت، في الوقت الذي هي فيه كانت كلية التأكيد بأنها حاصلةٌ في حال نعمة الله. لا سيما بعد أن كان أكد لها ذلك زعيم الملائكة جبرائيل أنها ممتلئةً نعمةً. وأنها ممتلكة الله بقوله لها: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً أفرحي الرب معكِ... وقد وجدتِ نعمةً وظفرتِ بها أمام الله: (لوقا ص1ع28) بل أنها هي عينها كانت تعلم كم هو أشتعال قلبها بنار الحب الإلهي بنوع أنها (كما يقول برنردينوس البوسطي) قد حازت من الله موهبة حبٍ خاص لم يعط لأحدٍ من القديسين الآخرين، به قد كانت تحبه تعالى حباً فعالاً في كل دقيقةٍ من حياتها بأضطرامٍ شديدٍ هذا حده حتى أنه على رأي القديس برنردوس قد كان ضرورياً لها فعل أعجوبةٍ متصلة. ليمكنها أن تعيش على الأرض ولا تموت من شدة ألتهاب قلبها بهذا الحب الفائق الأدراك.* فعن هذه السيدة العظيمة قد كتب: من هي هذه الصاعدة من العطار: (نشيد ص3ع6) ففضيلة أماتتها الكلية التي قد شبهت بالمر. وصلواتها الحارة التي مثلت بالبخور، وسائر فضائلها الأخرى المقدسة وحبها الكامل لله، قد كانت بمنزلة نارٍ تحرق فؤادها، وتبعث عنها عاموداً من دخان البخور صاعداً نحو السماء معبقاً من كل ناحيةٍ يبعث نشر طيبها الزكي على الدوام. كما كتب عنها روبارتوس بقوله نحوها: أنكِ أيتها الطوباوية مريم أنتِ نظير عامود الدخان المذكور ترسلين نحو الإله العلي رائحةً كلية الزكاوة: وكذلك قال أوسطاكيوس بعباراتٍ أبلغ هاتفاً: أن العذراء المجيدة هي غصن بخورٍ، محترقة داخلاً كمحرقةٍ ملتهبةٍ بنار الحب الإلهي، حيث ينبعث عنها الى خارجٍ طيب رائحةٍ زكية العرف بما لا يوصف. فحسبما عاشت هذه السيدة المغرمة بحب إلهها، كذلك ماتت. وكما أن الحب الإلهي هو الذي حفظها في الحيوة، فهو عينه الذي أماتها. لأن موت هذه الأم الإلهية. كما يقول القديسون والعلماء كافةً، لم يكن مسبباً من قبل مرضٍ طبيعي، بل أنما صدر من قبل حبها الشديد لله. وفيما بين هؤلاء قال القديس أيدالفونسوس أن الطوباوية مريم البتول، أما أنه لم يكن لازماً لها أن تموت بل أن تستمر على الدوام حيةً، وأما أنه كان يلزمها أن تموت من مجرد شدة حبها لله: (فاذاً سهم الحب أماتها).* † الجزء الثاني † * في النوع الذي به تمت وفاة البتول المجيدة* فالكتبة الكنائسيون كادرانوس ونيكيفوروس وسمعان ميتافراسته أخبروا بأن الرب أرسل قبل أيامٍ وجيزةٍ من وفاة هذه السيدة، رئيس ملائكته جبرائيل عينه الذي كان بشرها، بأنها هي تلك الأمرأة المباركة في النساء التي أختارها الإله أماً له، واذ أمتثل أمامها قال لها:" يا سيدتي وملكتي أن الله قد أقتبل مرغوباتكِ وأشواقكِ، وقد أرسلني لأقول لكِ ان تتأهبي لتتركي الأرض، لأنه تعالى يريد أن تكوني معه في السماء، فهلمي اذاً لتأخذي التملك على مملكتكِ، في الوقت الذي فيه أنا وسائر القديسين سكان الملكوت ننتظر حضوركِ متشوقين لمشاهدتكِ". فترى ماذا صنعت هذه البتول المملؤة تواضعاً عند سماعها بشارةً هكذا سعيدةً، سوى أن تغوص بأبلغ نوعٍ في أعماق تواضعها، وأن تكرر للملاك الجواب عينه الذي كانت أعطته إياه حينما بشرها قبلاً بالحبل الإلهي قائلةً له من جديد: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولك، على أن الرب بمجرد صلاحه وجوده، قد أختارني أماً له. والآن يدعوني الى السماء أنا التي لم أكن مستحقةً، لا ذاك المقام العظيم، ولا هذا الشرف الوسيم. ولكن من حيث أنه عز وجل يريد أن يظهر فيَّ ونحوي سخأه الغير المتناهي. فها أنا أمةٌ له، فلتكن مكتملةً بي دائماً مفاعيل أرادة إلهي وسيدي.* فبعد أن أقتبلت البتول المجيدة هذا التنبيه قد أخبرت به القديس يوحنا الأنجيلي، الذي بسهولةٍ يمكننا أن نتصور بعقولنا كم كانت هذه الخبرية لديه مرةً. اذ أنه كان في مدةٍ ليست بوجيزةٍ من السنين قد تمتع بصفة أبنٍ خاص لهذه الأم الكلية القداسة، فائزاً بمخاطباتها وبعيشته معها، ثم أنها قد زارت من جديد الأماكن المقدسة لا سيما جبل الجلجلة حيث كان أبنها أسلم روحه على خشبة الصليب، وأنفردت في بيتها الحقير متأهبةً للموت. وفي بحر تلك الأيام كانت الملائكة يترددون إليها مسلمين عليها ومعزينها بسرورٍ لا يوصف، عند معرفتهم أنه بعد قليلٍ من الزمان قد كانوا مزمعين أن يشاهدوا ملكتهم هذه مكللةً في السماء. فكثيرون من الكتبة الكنائسين (نظير القديس أندراوس الأقريطشي في خطبته على نياحها. والقديس يوحنا الدمشقي في ميمره على رقودها، وأفتيميوس) أخبروا بأن الرسل القديسين كافةً، وجانباً من تلاميذ الرب بأعجوبةٍ إلهيةٍ قد ألتئموا من أقطار الأرض قبل نياح هذه السيدة الى أورشليم. ووجدوا داخل بيتها، وانها عندما شاهدت أولادها هؤلاء الأعزاء مجتمعين حولها قد خاطبتهم هكذا قائلةً:: أن أبني قد تركني ههنا عندكم لأجل مساعدتكم يا أعزائي وحباً بكم، أما الآن فالإيمان المقدس قد أنتشر في العالم، وأثمار الزرع الإلهي قد نمت متكاثرةً، ولهذا اذ رأى سيدي أن حضوري في الأرض لم يعد ضرورياً، فشفق عليَّ لمرارة أبتعادي عنه. وأستجاب لكثرة عواطفي وأشواقي نحو الخروج من هذه الحيوة، لكي أمضي الى السماء وأتمتع بالنظر إليه، فواظبوا اذاً أنتم على التعب من أجل مجده تعالى. فأنا أن فارقتكم بالجسد فلا أفارقكم بالروح، لأن حبي إياكم العظيم هو في قلبي ودائماً سيكون معي. وهوذا أنا منطلقةٌ الى الفردوس السماوي لكي أصلي من أجلكم". فمن يمكنه أن يصف مقدار الحزن المرافق من هطل الدموع والندب الذي حصل عند هؤلاء الرسل القديسين وتلاميذ الرب. حينما فهموا أنه بعد زمنٍ وجيزٍ كان يلزمهم أن يفارقوا أمهم هذه الرحيمة. فمن ثم بسكب العبرات قالوا لها هكذا: فاذاً تريدين أيتها البتول أن تتركينا. فأي نعم أن هذه الأرض ليست هي مكاناً لائقاً بكِ، ولا نحن مستحقون أن نتمتع برفقة والدة الإله التي هي أنتِ، ولكن أفتكري في أنكِ امنا أنتِ. وقد كنت لحد الأن معلمتنا ومرشدتنا في حل المشاكل والأبهامات، ومعينتنا ومشجعتنا فيما بين الأضطهادات، فكيف الآن تهملينا وحدنا من دون مساعدتكِ لنا المنيعة نحن المحاطين من أعداءٍ أقوياء وكثيرين، والمحاربين من جهاتٍ مختلفةٍ. فقد كنا قبلاً فقدنا من على الأرض معلمنا وأبانا يسوع الذي صعد الى السماء وبقيتِ تعزيتنا الوحيدة قائمةً مدة هذا الزمان في شخصكِ يا أمنا العزيزة. فكيف أنتِ أيضاً تريدين الآن أن تتركينا يتامى، من دون أبٍ ومن غير أمٍ، فيا سيدتنا نتوسل إليكِ أما بأن تمكثي فيما بيننا. وأما بأن تأخذينا معكِ: (هذا ما كتبه القديس يوحنا الدمشقي في ميمره على نياحها) فهنا البتول المجيدة قالت لهم بعذوبةٍ: كلا. يا أولادي الأحباء أن هذه ليست هي أرادة الله. فأرتضوا اذاً بما رسمه عز وجل عليَّ وعليكم. لأنه يخصكم أن تستمروا أيضاً في الأرض لتجاهدوا من أجل مجد المخلص. ولكي تتمموا أكتساب تيجان نصرتكم الأبدية، فأنا لا أفارقكم مهملةً إياكم بل لكي أساعدكم وأسعفكم وأعينكم بأفضل نوعٍ بواسطة تضرعاتي من أجلكم أمام الله في السماء فأمكثوا هادين راضين، وأنا أوصيكم بالكنيسة المقدسة، وأستودعكم الأنفس المفتداة، وهذه لتكن لكم وصيتي الأخيرة الوادعية، فأحفظوها أن كنتم تحبوني، أي أتبعوا من أجل خلاص الأنفس، ومن أجل مجد أبني، لأننا يوماً ما عتيدون أن نجتمع كلنا من جديد في السماء، وحينئذٍ لا يعود يحدث فيما بيننا فراقٌ ما أصلاً.* ثم بعد ذلك قد توسلت إليهم بأن يدفنوا جسدها بعد موتها. وهكذا باركتهم ورسمت على القديس يوحنا الأنجيلي، كما يورد القديس يوحنا الدمشقي، بأن يعطي عقيب نياحها ثوبيها اللذين كانت تلبسهما، الى أبنتين بتوليتين كانتا خدمتاها مدةً من الزمان، (كما هو مدون من المؤرخ نيكيفوروس وغيره) وبعد هذا الخطاب قد أتكأت بكل أحتشامٍ على سريرها الحقير، منتظرةً بأشواقٍ دنو الموت منها. ومعاً ملاقاةٌ ختنها الإلهي المزمع بعد هنيئةٍ أن يأتي ليأخذها صحبته الى الملك الطوباوي. وهوذا أنها قد أمتلأت باطناً تعزيةً فائقة الوصف وغير مألوفةٍ من الفرح والتهليل، وحينئذٍ اذ رأتها الرسل ناهزت مفارقتهم، فجميعاً جثوا على الأرض حول فراشها نادبين فقدها ساكبين الدموع، ومنهم من كان يقبل قدميها الطاهرتين، ومنهم من كان يلتمس بركتها الخصوصية، ومنهم من كان يتوسل إليها في أمر أحتياج خصوصي، شاعرين كلهم بسهام الحزن الذي صمى أفيدتهم. لفراقهم هذه الأم الإلهية من دون أمل أن يشاهدوها فيما بعد في الأرض مدة حياتهم. وأما هي فكانت موعبةً أشفاقاً عليهم، معزيةً إياهم بعذوبة ألفاظها، موعدةً بمساعدتهم، مباركةً هذا ومشجعةً ذاك، وموصيةً الآخرين، ومحرضةً الجميع على الأجتهاد في أكتساب الأنفس الى الإيمان. واخيراً أستدعت القديس بطرس بحسب كونه هامة الرسل ورأس الكنيسة ونائب أبنها على الأرض، وأوصته بنوعٍ خاص في أنتشار الإيمان، موعدةً إياه بحمايتها الخصوصية في السماء. وكذلك خاطبت القديس يوحنا الأنجيلي الذي بأشد مرارةٍ من الجميع كان مجروحاً على فقدها، متذكرةً هذه السيدة مقدار الحب الذي به خدمها هذا التلميذ الحبيب. في كل السنين التي عاشت بها على الأرض بعد موت أبنها، قائلةً له بمحبةٍ والديةٍ: أنني أشكرك يا يوحنا خاصتي على كل ما صنعته معي. فكن مطمأناً يا أبني بأني لا أكون ناكرة الجميل نحوك، فأن كنت الآن أفارقك فأنا ماضيةً لأن أصلي من أجلك، فأمكث بسلامٍ هادئاً في هذه الحياة، الى حينما يشاهد بعضنا بعضاً جديداً في السماء حيث أنتظرك فلا يبرح في فكرك أن تستغيث بي في جميع أحتياجاتك، وأنا أعينك ولا أنساك أصلاً يا ولدي الحبيب. الذي الآن أنا أباركك. فعش بسلامٍ وها أنا أستودعك لله.* قالت هذا وقد كان أقترب مجيء الدقيقة التي بها أزمعت هي أن تفارق الحيوة الزمنية، لأن الحب الإلهي بواسطة شهائب حرارته المغبوطة قد جذب عن هذه الأم المثلثة القداسة خارجاً الأرواح الحيونانية. ونظير طير العقاب السماوي كانت هي تفنى بنار المحبة، وقد أقبلت طغمات الملائكة من السماء الى ذلك المسكن السعيد، كأنهم صفوف عساكر مستعدون لمرافقة ملكتهم بزفة الأنتصار. أما هي فكانت تعزيتها تزداد عذوبةً عند مشاهدتها إياهم محيطين بها، ولكن لا تعزيةً كاملةً، اذ أنها لم تكن تشاهد بعد أبنها فيما بينهم، ولذلك كانت تقول نحوهم كلمات النشيد: يا بنات أورشليم أستحلفكن اذا وجدتن حبيبي، فأخبرنه بأني من المحبة ضعيفة: (ص5ع8) فأنتم يا ملائكة السماء القديسين سكان أورشليم العليى، أنما تأتون إليَّ أجواقاً أجواقاً لكي تعزوني، وحقاً أنكم بحضوركم تجلبون لي المسرة والأبتهاج، ولذلك أشكر فضل معروفكم، ولكن جمهوركم لا يوعبني من البهجة الكاملة والتعزية التامة، لأني لا أشاهد أبني الذي هو تعزيتي الوحيدة، فأرجعوا الى السماء أن كنتم تحبوني، وقولوا لحبيبي أنني من شدة المحبة أنا ضعيفة، وصرت عادمة القوة. فاذاً قولوا له من قبلي أن يأتي سريعاً لأني هوذا أموت من شدة أشواقي إليه.* غير أن رب المجد في هذا الغضون قد جاء ليأخذ والدته المباركة الى ملكوته الطوباوي. فقد أوحي الى القديسة أليصابات الراهبة، بأن يسوع المسيح قد ظهر لأمه الكلية القداسة قبل نياحها حاملاً بيده الصليب المقدس. لكي يوضح المجد الخصوصي الذي أختصه بواسطة سر الفداء، اذ أنه بموته قد أكتسب تلك المخلوقة العظيمة التي كان يلزمها أن تكرمه في الدهور الأبدية أكثر أكراماً من الملائكة كافةً والبشر أجمعين. ثم أن القديس يوحنا الدمشقي يورد، أن مخلصنا نفسه قد ناول القربان الأقدس لوالدته زوادةً أخيرةً قائلاً لها بعواطف الحب: خذي يا أمي فكلي من يدي جسدي هذا الذي أنتِ أعطيتينيه: وبأن مريم البتول عندما أقتبلت هذه المرة الأخيرة جسد المسيح أبنها بعواطف حبٍ أعظم. قالت له فيما بين أنفاسها النهاية: يا أبني في يديك أنا أستودع روحي، وأسلم بيدك هذه النفس التي خلقتها بخيرية صلاحك منذ الدقيقة الأولى من حياتها غنيةً بنعمٍ هكذا سامية. بل بأختصاصٍ فريد في الغاية أنت سبقت وحفظتها من دنس الخطيئة الأصلية. وأستودعك جسدي الذي أنت تنازلت الى أن تتأنس منه آخذاً لحماً ودماً من جوهره، ثم أني أوصيك أيضاً في أولادي هؤلاء (مشيرةً الى الرسل والتلاميذ الذين كانوا حاضرين عندها) ولأنهم الآن مملؤون من الحزن لسبب أنفصالي عنهم، فأنت عزهم، لأنك تحبهم أكثر مما أنا أحبهم، وباركهم وأعطيهم عونك ليصنعوا العظائم من أجل مجدك.* فاذاً عندما أشرفت نفس الطوباوية مريم البتول على الأنفصال من جسدها. قد سمع في المسكن الذي كانت هي متكئةً فيه أصوات آلات الطرب الفائقة الوصف. كما يقول القديس أيرونيموس. ثم حسبما أوحى للقديسة بريجيتا قد أشرقت في البيت أنوارٌ سماويةٌ عظيمةٌ. فالرسل عندما سمعوا تلك النغمات وشاهدوا الأنوار الفائقة الأدراك قد عرفوا أنها دنت دقيقة أنفصال نفس سيدتنا المجيدة من جسدها، ومن ثم ضاعفوا تضرعاتهم بسكب الدموع، وكلهم رفعوا أيديهم وأصواتهم قائلين: يا أمنا المنطلقة الى السماء تاركةً إيانا على الأرض، باركينا البركة الأخيرة، ولا تنسينا نحن المساكين. وأما هي فجالت بنظرها نحو جميعهم كأنها تودعهم كافةً وقالت لهم: أني أستودعكم لله وأبارككم. فلا ترتابوا، لأني لا أنساكم أبداً: وحينئذٍ جاء إليها الموت، ولكن لا بالسواد والحزن كما يأتي نحو البشر. بل بالفرح والأشراق. غير أنه ما عسانا أن نقول موتاً وأي موتٍ، بل قد جاء إليها الحب الإلهي، وهو لا سواه قطع خيط حياتها الزمنية. فهي المنارة التي قبل أن تنطفئ قد أبرقت بلميع ضياها الأخير برقاً عظيماً ثم انطفت. وهي الفراشة الإلهية الجميلة التي اذ دعاها أبنها إليه. قد دنت من مصباح نوره وأحترقت بلهيب حبه الغير المتناهي، وفيما بين عواطف تنهداتها قد أنفصلت عن الجسد نفسها المغبوطة، وأنحلت تلك الحمامة الكلية النقاوة من رباطات الجسم. وطارت متراقيةً الى الأخدار السماوية، حيث ملكت وتملك سلطانةً على جميع المخلوقات الى أبد الآبدين.* فهوذا مريم البتول هي في السماوات العليي تنظر إلينا نحن أولادها القاطنين في وادي البكاء، مشفقةً علينا وموعدةً إيانا بالمعونات أن كنا نريد ذلك. فلنتوسل إليها دائماً بأن تستمد لنا بأستحقاقات موتها السعيد ميتةً صالحةً، وأن تنال لنا منه تعالى أن كان ذلك يسره أن يكون موتنا في يوم سبتٍ اليوم المكرس لعبادتها، أو في يومٍ من الأيام المتقدمة على أعيادها السنوية أو المتأخرة عنها، كما قد وهبت هي هذه النعمة المستمدة من الله لكثيرين من المتعبدين لها، لا سيما للقديس سطانيسلاوس كوتكا من الرهبنة اليسوعية. الذي نالت له أن يموت يوم عيد نياحها. كما هو مدون من الأب بارتولي في سيرة حيوة القديس المذكور.* * نموذج * † صلاة † † الفصل الثامن أنهضي يا عزيزتي، تعالي يـا جميلتي، هلمي يا حمامتي، فها الشتاء قد عبر. (نشيد 2/10) * في شأن عيد أنتقال سيدتنا والدة الإله نفسه. وفيه يبرهن عن كم كان * *مجيداً هذا الأنتقال، وكم وجد عظيماً العرش السماوي * *الذي هي أرتقت إليه* وفيه جزءان.* † الجزء الأول † * في كم كان مجيداً الأنتصار الذي به أنتقلت البتول* * الكلية القداسة من الأرض الى السماء* فالطغمات الملائكية بعد أن شاهدوا أن مخلصنا قد كان أكمل عمل الفداء وخلص الجنس البشري بموته، فكانوا يتشوقون لأن يفوزوا بمشاهدة ناسوته المتحد مع لاهوته مالكاً في السموات، ومن ثم كانوا يهتفون نحوه بالكلمات الداودية: قم يا رب الى راحتك أنت وتابوت قدسك: (مزمور132ع8) أي أنك أنت يا رب اذ أفتديت البشر، فقم وهلم الى ملكوتك معنا، وأصحب معك التابوت الحي المختص بتقديسك أي والدتك التابوت المختار منك الذي أنت قدسته بسكناك فيه. فهكذا القديس برنردينوس يجعل الملائكة مخاطبين الله بقولهم نحوه: "فلتصعد أمك أيضاً الى السماء مريم الكلية القداسة التي أنت قدستها حين حبلها بك." فأراد الرب أخيراً أن يسر سكان السماء هؤلاء ويتمم مرغوبات أشواقهم، بأستدعائه أمه الدائمة بتوليتها الى السماء. ولكن أن كان هو عز وجل قد شاء أن يحتفل بأدخال تابوت العهد الى مدينة داود أحتفالاتٍ عظيمةً، كما هو مكتوبٌ في الاصحاح السادس من سفر الملوك الثاني: أن داود وجميع بني أسرائيل، كانوا يصعدون تابوت عهد الرب بتضريب التهليل وصوت البوق. فقد رسم تعالى بأن يحتفل بأعظم من ذلك في صعود تابوته الحي أي والدته المجيدة الى السماء. فالنبي إيليا قد صعد الى السموات بواسطة مركبةٍ ناريةٍ التي (حسبما يبرهن المفسرون) لم تكن شيئاً آخر سوى جوقٍ من الملائكة قد رفعوه عن الأرض مخطتفين إياه الى العلو: ولكن لأجل رفعكِ أنتِ من الأرض الى السماء (يقول نحو هذه السيدة الأنبا روبارتوس) لم يكن كافياً جوقٌ من الملائكة، بل أن ملك الملائكة نفسه قد جاء إليكِ ليرفعكِ الى السماء، مرافقاً من أهل بلاطه السماوي بأسرهم.* والقديس برنردينوس السياني هو نفسه يرتأي ذلك بقوله: ان يسوع المسيح لكي يكرم أنتصار مريم والدته، فهو تعالى عينه جاء من السماء الى ملاقاتها، وأخذها صحبته الى الأخدار الملكوتية. ولهذا يقول القديس أنسلموس:" أن المخلص قد أراد أن يصعد هو أولاً الى السماء قبل أن ترتقي إليها أمه، وذلك ليس فقط لكي يهيء هناك عرشاً لائقاً بهذه الملكة. بل أيضاً حتى يصير دخولها فيما بعد الى السماء ذا مجدٍ أعظم بحضوره الى ملاقاتها هو عينه، وبرفقته الأرواح الطوباويون أجمعون". ومن ثم القديس بطرس داميانوس اذ كان يتأمل في عظته أنتقال هذه الأم الإلهية الى الفردوس السماوي قد قال:" أننا نلاحظ أن صعود مريم العذراء الى السماء هو ذو مجدٍ أعظم من صعود يسوع المسيح، لأجل هذا السبب، وهو لأنه في صعود مخلصنا قد جاءت الملائكة فقط لملاقاته ولمرافقته. وأما الطوباوية والدة الإله فقد أرتقت الى السماء بمجدٍ هكذا سامٍ، حيث أن إله المجد نفسه قد استقبلها ورافقها. جملة مع المليكة كافةً والقديسين أجمعين بزفةٍ إلهيةٍ." ولهذا الأنبا غواريكوس يجعل الكلمة الأزلي قائلاً هكذا: أنني قد نزلت من السماء الى الأرض لكي أصنع ما به أمجد أبي الأزلي، ولكن بعد ذلك لكي أكرم أمي مريم وأمجدها قد أنحدرت مرةً ثانيةً من السماء حتى يمكنني هكذا أن أستقبلها بذاتي وأرافقها بحضوري الشخصي الى الفردوس في السموات.* فلنمض اذاً متأملين بعقولنا كيف جاء المخلص لملاقاة والدته، وحالما رآها قال نحوها معزياً: أنهضي يا قرينتي وتعالي يا جميلتي وهلمي يا حمامتي، فها الشتاء قد عبر والمطر ذهب وصار الى ذاته: (نشيد ص2ع10) فقومي يا أمي يا عزيزتي يا جميلتي الحمامة النقية، أتركي وادي الدموع هذا الذي هو الأرض حيث تكبدتِ أتعاباً وأحزاناً عظيمةً من أجلي وحباً بي. يا عروستي تعالي من لبنان هلمي من لبنان تجئين فتتكللين: (نشيد ص4ع8) فهلمي بنفسكِ وجسدكِ معاً لتتمتعي بمكافأة حياتكِ المقدسة، ومن حيث أنكِ قد تألمتِ كثيراً في الأرض فأنا قد اعددت لكِ مجداً أعظم بما لا يحد في السماء، فتعالي لتجلسي في العرش بالقرب مني. هلمي لتأخذي الأكليل الذي أتوجكِ به سلطانةً على العالمين.* فهوذا مريم الكلي قدسها تترك الأرض مفارقةً إياها. ولكنها عند تذكرها مقدار النعم التي حازتها من الرب في هذه الأرض. فتنظر إليها بعلامات الحب والأشفاق والرحمة، تاركةً فيها جميع أولادها المساكين فيما بين الأحزان والشدائد والأخطار. وهوذا يسوع أبنها يسندها بيده حيث رفعها الى الجو، وأجتاز بها من أبواب السحب، وعلا بها فوق الكواكب والنجوم. ودنا بها من أبواب الفردوس. فمن عادة الملوك أنهم حينما ينطلقون ليأخذوا التملك على أحدى المدن فلا يدخلون من بابها، بل أما أنهم يصيرون أن يهدم بابها ليدخلوا منه من دون أن تعلو فوق رأسهم عتبته العليي، وأما أنهم يجعلون أجتيازهم بمماشي خشبية من فوق باب المدينة إليها. ومن ثم كما أن الملائكة حينما دخل يسوع المسيح الى السماء هتفوا قائلين: أرفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وأرتفعي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد: (مزمور 24ع9) فهكذا عندما بلغت مريم البتول الى الفردوس لتأخذ التولي سلطانةً على السماوات والأرض، فالملائكة المرافقون إياها هتفوا نحو الملائكة المتقدمين أمامها: ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وأرتفعي أيتها الأبواب الدهرية لتدخل ملكة المجد.* فهوذا مريم المجيدة قد دخلت الوطن الطوباوي، ولكن عند أجتيازها إليه فاذ شاهدتها الطغمات النورانية المنتظرتها هناك، هكذا متصفةً بالجمال والمجد. سألوا الملائكة الآخرين القادمين صحبتها. كما يتأمل المعلم أوريجانوس قائلين: من يه هذه الصاعدة من البرية مدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) فمن هي هذه المخلوقة الفائقة البهاء والكمال المقبلة من قفر الأرض، المكان المملؤ من الأشواك والقرطب. لكنها صاعدةٌ هكذا غنيةً بالفضائل ومتلألئةً بالنقاوة، مستندةً على سيدها العزيز وحبيبها الوحيد الذي قد تنازل هو عينه لأن يستقبلها، ويرافقها بشرفٍ وأكرام هذا حدهما. فأجابهم هؤلاء الأرواح الطوباويين المحيطون بها بقولهم: أتسألون من هذه، والحال أنها هي أم ملكنا وهي سلطانتنا المباركة في النساء الممتلئةً نعمةً، قديسة القديسين، حبيبة الله البريئة من العيب والدنس، الحمامة الفائقة جمالاً على المخلوقات كلها. فمن ثم جميع الأرواح السماوية معاً طفقوا يسبحونها ويباركونها ويمدحونها، بأفضل مما مدح العبرانيون يهوديت الجليلة بقولهم: أنتِ هي شرف أورشليم وعز أسرائيل ومدحة شعبنا: (يهوديت ص15ع10) فأنتِ هي اذاً يا ملكتنا وسيدتنا مجد الفردوس وبهجة وطننا. أنت هي شرفنا كلنا. فسعيدٌ هو قدومكِ إلينا، ولتكوني مباركةٍ سرمداً، فها هو ملككِ الذي تملكين فيه، وها نحن بأجمعنا عبيدٌ لكِ وخاضعون تحت سلطانكِ ومستعدين لطاعة أوامركِ.* ثم بعد ذلك أقبل نحو هذه الملكة السماوية القديسون أجمعون الموجودون هناك يومئذٍ، يسلمون عليها كسلطانتهم. وكذلك القديسات البتولات كافةً تقدمن إليها واذ: أبصرتها هؤلاء البنات فأعطينها الطوبى ومجدنها: (نشيد ص6ع8) قائلاتٍ لها: أننا نحن أيضاً يا سيدتنا سلطاناتٌ في هذه المملكة، وأما أنتِ فهي ملكتنا بأجمعنا، لأنكِ أنتِ كنتِ الأولى التي أعطتنا النموذج العظيم في أن نكرس بتوليتنا لله، الأمر الذي من أجله نحن نشكركِ نبارككِ. وبعد هذا جاء المعترفون والأبرار ليحيوها بالسلام كمعلمتهم، لأنهم منها أتخذوا تمثال الكمال ونموذجات الفضائل الجميلة بواسطة سيرة حياتها المملؤة قداسةً. وهكذا أقبل مصاف الشهداء ليسلموا عليها كملكتهم، لأنها بثباتها العظيم على أحتمال آلام أبنها الإلهي قد علمتهم الشجاعة. وبصلواتها وأستحقاقاتها قد أستمدت لهم نعمة الأستشهاد التي بها سفكوا دمائهم من أجل الإيمان. وقد جاء أيضاً القديس يعقوب الكبير الذي هو وحده من مصاف الأثني عشر رسولاً كان حينئذٍ في السماء وقدم لها الشكر نيابةً عن باقي أخوته الرسل عما ساعدتهم به وشجعتهم عليه وأرشدتهم إليه. طالما كانت معهم على الأرض. ثم تقدم إليها الأنبياء القديسون قائلين لها: أيتها العظيمة سيدتنا أنتِ هي موضوع نبؤاتنا التي سبقنا وأخبرنا بها عن أتيان المسيح منكِ: ثم تقدم إليها رؤساء الآباء قائلين لها: أنتِ اذاً كنتِ رجانا الذي منذ أزمنةٍ هكذا مستطيلةٍ ننتظره وأشواقنا كانت متقدةً نحوكِ: الا أنه فيما بين هؤلاء وقبلهم كافةً قد دنا منها أبونا آدم مع أمنا حواء قائلين لها: نعماً يا أبنتنا العزيزة فأنتِ قد أصلحتِ الضرر الذي نحن سببناه للجنس البشري. وأستمديتِ للعالم تلك البركة التي نحن فقدناها بمعصيتنا. وقد خلصنا نحن بواسطتكِ، فلتكوني دائما مباركةً.* وهكذا جاء القديس سمعان الشيخ ليقبل قدميها. مذكراً إياها بذلك اليوم الذي فيه هو كان أقتبل في هيكل الرب من يديها يسوع المسيح طفلاً. وأقبل القديس زخريا مع القديسة أليصابات وكررا لها جديداً تقدمة الشكر، على تلك الزيارة التي كانت صنعتها لهما في بيتهما بأتضاعٍ وحبٍ ساميين، وعما نلاه من النعم العظيمة بتلك الزيارة المقدسة. وبأبلغ من ذلك تقدم يشكرها القديس يوحنا المعمدان على كونه تقدس في أحشاء أمه بمجرد صوت سلامها. ولكن من يمكنه أن يصف مقدار فرح القديس يواكيم والقديسة حنه والديها. عندما أقبلا نحوها يباركانها بذاك الحب والأنعطاف الوالدي قائلين:" يا لسعادتنا ويا لشرف حظنا يا أبنتنا الحبيبة على الغبظة التي فزنا بها بأن نحصل على أبنةٍ هذه صفتها. فأنتِ الآن هي سيدتنا وملكتنا لأنكِ أم إلهنا، فهكذا نعتبركِ وكذلك نسجد لكِ". غير أن الحب والأنعطاف والتهليل والمسرة التي بها جاء إليها القديس يوسف خطيبها. من يستطيع أن يصفها عند مشاهدته عروسته هذه المجيدة بلغت الى الفردوس بتلك العظمة والجلالة سلطانةً على العالمين، وبأية كلماتٍ خشوعيةٍ كان يقول لها: يا خطيبتي وسيدتي بأي نوعٍ يمكنني أن أشكر إلهي وأسبحه وأمدحه على ما أنعم به عليَّ نعمةً هذا سمو مقدارها، بأن أكون خطيباً لكِ أنتِ التي هي والدته الحقيقية، فبواسطتكِ أنا أستحقيت أن أخدم يسوع كلمة الله على الأرض في زمن طفوليته وحداثته، وأن أحمله مراتٍ كثيرةً على ذراعي. وأن أنال منه نعماً خصوصيةً عظيمةً، فلتكن مباركةً تلك الأوقات التي أنا أصرفتها في حياتي خادماً له تعالى ولكِ أنتِ أيتها العروسة السامية في القداسة. فها هوذا يسوع حبيبنا، الذي ليس هو الآن متكياً في مذود البهائم في مغارة بيت لحم كما شاهدناه هناك حين أتلاده منكِ، ولا هو عائشاً فقيراً كما عاش معنا ضمن الدكان في الناصرة، ولا هو معلقاً على الصليب حسبما مات موت العار على جبل الجلجلة في أورشليم من أجل خلاص البشر، بل هو جالسٌ من عن يمين الله الآب ملكاً على السموات والأرض، وها نحن يا سيدتي وملكتي مستمران معه من دون خطر أن نفترق منه بعد، بل نقبل قدميه ونسبحه ونباركه الى أبد الآبدين.* ثم أنه حينما جاءت الملائكة كافةً ليسلموا على سلطانتهم. فهي شكرتهم على مساعدتهم إياها لما كانت على الأرض، بنوعٍ خاص شكرت زعيمهم القديس جبرائيل على البشارة التي كان أتاها بها بسر الحبل الإلهي، والبشارة التي جلبت لها السعادات كلها بصيرورتها والدة الله. الا أن البتول المجيدة المتواضعة قد جثت ساجدةً للعزة الإلهية، غائصةً في عمق أتضاعها وفي معرفتها ذاتها أنها كالعدم، وقدمت له عز وجل الشكر الواجب على جميع النعم السامية التي أفاضها عليها. لا سيما أنتخابه إياها أماً للكلمة الأزلي، وذلك بمجرد خيرية صلاحه ورأفته. وهنا الذي يستطيع أن يدرك فيمكنه أن يفهم بأية عواطف حبٍ إلهي، قد بارك الثالوث الأقدس هذه المخلوقة المحبوبة منه تعالى حباً لا حد له، وبأية كرامةٍ أقتبل الآب الأزلي أبنته هذه العزيزة، والأبن الإلهي أمه هذه الجليلة، والروح القدس عروسته هذه الفائقة في البهاء والنقاوة. وهكذا قد توجها الآب مفوضاً لها القدرة، والأبن واهباً إياها الحكمة، والروح القدس مفيضاً عليها الحب، ومن ثم الثلاثة الأقانيم الإلهية أقاموا لها عرشاً عن يمين أبنها، وكللوها سلطانةً مطلقةً على السموات والأرض، وأمروا الملائكة والمخلوقات كلها بأن يعرفوها سلطانتهم الحقيقية وتحت هذه الصفة يخدمونها ويطيعونها.* † الجزء الثاني † من هي الطالعة من البرية، مدللة، مستندة على حبيبها (نشيد8/5) قد قيلة فيكِ المسبحات يا مدينة الله (مزمور 87/3) لوجهكِ يصلي كل أغنياء الشعب (مزمور 45/13) *في كم هو عظيمٌ العرش والمرتبة التي أقيمت * *فيها هذه البتول المجيدة في السماء* فيقول القديس برنردوس: أن كان لمن المستحيل أن قلباً بشرياً يدرك تلك الأشياء المعدة في السماء، لأولئك الذين يحبون الله على الأرض، مما لا سمعت به أذنٌ، ولا شاهدته عينٌ، ولا خطر على قلب إنسانٍ، كما يعلم الرسول الإلهي: فمن يمكنه أن يدرك اذاً عظمة المجد الذي أعده تعالى لوالدته الحقيقية، التي قد أحبته على الأرض حباً أشد جداً مما أحبه به البشر كلهم، بل منذ الدقيقة الأولى من حياتها قد أحبته أكثر مما أحبه به البشريون والملائكة معاً أجمعون، فاذاً لأجل أن مريم اذ كانت على الأرض قد أحبت الله أشد حباً مما أحبه به الملائكة كافةً فبالصواب ترتل الكنيسة عنها (في فرض عيدها الحاضر): بأن الله قد رفعها في السماء فوق طغماتهم أجمعين: أي نعم قد رفعها تعالى فوق الملائكة (يقول الأنبا غوليالموس) بنوع أنها لم تعد ترى أحداً يعلوها سوى أبنها يسوع الذي هو أبن الله الوحيد:.*ثم أن العلامةجرسون يقول: أنه اذ كانت المصافات الملائكية وطغماتهم تقسم بوجه العموم الى ثلاثة مراتب، حسبما يعلم القديس توما اللاهوتي، جملةً مع القديس ديونيسيوس. فمريم قد أقيمت برتبةٍ خصوصيةٍ في السماء أشرف وأعظم وأمجد من الثلاثة المراتب كلها، وأضحت هي في المرتبة الثانية بعد الله. ويضيف الى ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن السيدة تتميز من عبيدها سمواً لا قياس ولا تمثيل له، وكذلك من دون قياسٍ ولا تمثيل والدة الإله هي أعظم قدراً وسمواً من الملائكة كافةً: ولكي يفهم هذا يكفي أن يعرف ماذا يقول النبي والملك داود (مزمور 45ع9) هكذا: قامت الملكة من عن يمينكَ مشتملةً بثوبٍ مذهبٍ موشى: كما يفسر القديس أثناسيوس: بأن هذه الكلمات النبوية قيلت بالحصر عن جلوس مريم البتول ملكةً من عن يمين أبنها في البلاط السماوي:* أما القديس أيدالفونسوس فيقول: أن أفعال البر التي مارستها العذراء المجيدة في مدة حياتها على الأرض. فهي من دون ريبٍ أعمالٌ تفوق بأستحقاقاتها أمام الله على استحقاقات أعمال القديسين الصالحة كلهم، تفوقاً لا حد لعلوه ولا قياس لأدراكه، ولذلك لا يمكن وصف المكافأة والمجد الذي هي أستحقته في السماء، ولا يستطاع أدراكه: على أنه كان هو أمراً صادقاً (كما هو بالحقيقة) قول الأنا الصطفي: أن الله يجازي كل إنسانٍ حسب أعماله: (رومانيين ص2ع6) فصادقٌ هو وكلي: التأكيد (يقول القديس توما اللاهوتي) أن البتول الكلي قدسها التي يفوق أستحقاقها على أستحقاق البشر أجمعين والملائكة بأسرهم، قد لزم أرتفاعها فوق جميع المراتب السماوية. وبالأجمال يضيف الى ذلك القديس برنردوس قائلاً: فلتعتبر النعمة التي حصلت عليها والدة الإله في الأرض بنوع أختصاصٍ فريدٍ، وبموجب قياس هذه النعمة فليعتبر سمو المجد والمكافأة التي هي حصلت عليها في السماء.* فمجد مريم البتول (يقول أحد العلماء الأب كولومبياري) هو مجدٌ تامٌ، مجدٌ كاملٌ، وهو مختلفٌ عن المجد الحاصل عليه القديسون الآخرون في الملكوت: (فهذه الملاحظة هي حسنةٌ) على أنه أي نعم حقٌ هو أن كلاً من القديسين يتمتع في السماء بسلامٍ تامٍ، وبراحةٍ ونعيمٍ كاملٍ. ولكن مع ذلك أمرٌ حقيقي هو، أنه ولا واحدٌ منهم يتمتع بذاك المجد الأعظم، الذي لكان يمكنه أن يفوز هو به في السعادة الأبدية، لو كان خدم الله على الأرض بأعظم أمانةٍ، وأحبه أشد حباً مما خدمه وأحبه في مدة حياته. فمن ثم ولئن كان لطوباويون في السماء لا يشتهون راغبين أن يملكوا مجداً أعظم مما قد حصل كلٌ منهم عليه. بل أنهم جميعاً هم راضون بما قد فازوا به، فمع ذلك يوجد الموضوع لأشتهاء شيءٌ أعظم، يكون هذا ممكناً. ثم كذلك حقٌ هو أن الخطايا المفعولة على الأرض من بعض هؤلاء القديسين قبل تبريرهم منها، لا يمكن أن توجب لهم عنها عقاباً ما في النعيم الأبدي، ولا يعاقب الزمان الضائع منهم على الأرض، أي الذي لم يكتسبوا فيه أستحقاقاً ما. ولكن مع هذا فأمرٌ صادقٌ هو لا يستطاع أنكاره، أن الخير الأوفر أو أعمال البر الأعظم الممارسة على الأرض من البعض منهم، تسبب لهؤلاء فرحاً أعظم وتعزيةً أكمل. ومثل ذلك يحدث للذين حفظوا بر المعمودية غير مدنسٍ، ولم يضيعوا من الزمن شيئاً سدى بدون أعمالٍ ذات أستحقاقٍ. أما مريم البتول فلا ترغب ولا يمكنها أن تشتهي نوال شيءٍ أعظم، اذ أن الظروف المشار إليها لم تلتحق بها أصلاً. على أن القديس أوغوسطينوس يقول: ترى من من القديسين الكائنين في السماء اذا سئل أن كان هو صنع خطيئةً ما على الأرض فيقدر أن يجيب، لا، ما عدا مريم البتول فقط التي هي وحدها تستطيع أن تجيب، كلا، لأنه كما حدد المجمع المسكوني التريدنتيني، المقدس (في القانون 13من الجلسة 6): أن مريم العذراء لم ترتكب أصلاً خطيئةً ما على الأطلاق، حتى ولا أصغر النقائص. على أن هذه السيدة المجيدة ليس فقط لم تفقد قط نعمة التقديس، ولم تضعفها أصلاً، بل أيضاً لم تترك هذه النعمة الإلهية بطالةً من العمل، ولم تمارس مطلقاً عملاً ما لم يكن ذا أسحقاقٍ، ولا تكلمت قط كلمةً، ولا قبلت فكراً ما، ولا تركت من أنفاسها شيئاً من دون أن توجه ذلك جميعه لمجد الله الأعظم. وبالأجمال أنها لم تفتر بالكلية، ولا توخرت هنيئةً من الزمان خلواً من الأنعطاف نحو الله والألتجاء إليه. وبالتالي لم تخسر شيئاً ما خسارة الكسل والتهاون، بل دائماً سعت مع نعمة الله بكلية قواها وأستططاعتها. وأحبته عز وجل بكل ما أمكنها أن تحبه، وبذلك تقدر أن تقول نحوه الآن في السماء: يا سيدي أن كنت أنا ما أحببتك بمقدار ما أنت تستحق، فقلما يكون أحببتك بمقدار ما أسطتعت أنا أن أحبك.* ثم أن النعم الإلهية قد اعطيت للقديسين بأنواعٍ مختلفةٍ، كما يقول رسول الأمم القديس بولس: أن المواهب والنعم هي متميزة: ومن ثم اذ كان كلٌ منهم قد سعى مع النعمة التي أعطيت له. فقد ظهر هو معتبراً في فضيلةٍ ما بنوعٍ متميز عما سواها. فمنهم من تلألأ في أكتساب الأنفس وأقتادها الى الخلاص. ومنهم أشرق في سيرة النسك وأفعال الأماتات الشاقة جداً. ومنهم من لمع في أحتمال التعاذيب المبرحة. ومنهم من تسامى في الثاوريا والغوص في الأمور السماوية. ولذلك تقول الكنيسة المقدسة في أحتفالها بعيد كل من هؤلاء القديسين: أنه لا شبيه له: وانه كموجب الأستحقاقات يتميز القديسون بعضهم عن بعضٍ بالمجد في السماء، لأن نجماً يفضل على نجمٍ في البهاء: (قرنتيه أولى ص15ع41) فالرسل يتميزون عن الشهداء والأبرار والمعترفون عن البتولات. والذين حفظوا بر المعمودية عن الذين قد أخطأوا وصنعوا توبةً، فأما البتول مريم المثلثة القداسة، فمن حيث أنها وجدت ممتلئةً من النعم كلها. فقد ظهرت في كل الفضائل أسمى من كل من القديسين في فضيلته التي تلألأ هو بها، وأكمل من فضائلهم كافةً. فهي وجدت رسولةً أعظم من الرسل. وسلطانةً للشهداء لكونها تألمت أكثر منهم جميعاً. ومقداماً وقائدةً للبتولين والعذارى. ونموذجاً وقدوةً للمتحدين بسر الزواج، ومارست هي في ذاتها أنواع الأماتات وبالأجمال قد جمعت في قلبها الفضائل كلها بأعلى درجاتها، متساميةً بكلٍ منها على أسمى فضيلةٍ بلغ إليها كلٌ من القديسين. ولذلك قيل عنها: قامت الملكة من عن يمينك مشتملةً بثوبٍ مذهبٍ موشى: (مزمور 45ع10) لأن كل النعم وجميع الفضائل وسائر الأستحقاقات التي تزينت بها الأبرار والقديسون، فقد وجدت مجموعةً في شخص هذه الملكة. كما يخاطبها الأنبا جالانسه قائلاً: أن أختصاصات القديسين أجمعين قد أنجمعت فيكِ بجملتها:* ومن ثم يقول القديس باسيليوس الكبير: أنه كما أن نور الشمس يفوق ضياءً على أنوار الكواكب والنجوم كافةً، فهكذا مجد هذه الأم الإلهية يعلو متسامياً على مجد الطوباويين كلهم: ويضيف الى ذلك القديس بطرس داميانوس بقوله: كما أن أنوار القمر والكواكب والنجوم تغيب مضمحلةً، كأن هذه الأجرام تفقد كونها من الوجود حينما تظهر الشمس مشرقةً، فهكذا مجد مريم العذراء يفوق على مجد جميع الملائكة وسائر البشر حتى كأن هؤلاء لا يعود لهم ظهورٌ في السماء. ولأجل ذلك كتب القديس برنردينوس السياني بأتفاق رأي مع القديس برنردوس قائلاً: أن الطوباويين يشتركون في جزءٍ من المجد الإلهي، أما البتول مريم فقد أغنيت بالمجد بنوعٍ خاص بهذا المقدار، حتى يبان أنه لمن المستحيل أن خليقةً ما يمكنها أن تتحد مع الله أشد أتحاداً، مما فازت بالأتحاد معه تعالى هذه العذراء المجيدة: ويضاف الى هذا ما حرره الطوباوي ألبارتوس الكبير بقوله: أن ملكتنا السعيدة تشاهد الله وتتمتع بالتأمل فيه بأكثر قربٍ، بنوعٍ فائقٍ عادم القياس على ما يتمتع بالنظر إليه الأرواح السماويون بأجمعهم: بل أن القديس برنردينوس السياني عينه يقول: أنه كما أن سائر الكواكب أو الأجرام السماوية الأخرى تستمد الضياء من الشمس، فهكذا جميع الطوباويين يكتسبون مجداً أعظم ونعيماً متفاضلاً بواسطة مشاهدتهم مريم البتول في مجدها: ويقول في عظته على نياحها: أن هذه العذراء المغبوطة حينما أرتقت الى السماء ضاعفت نعيم سكانه أجمعين. وقد كتب القديس بطرس داميانوس: أنه لا يوجد عند الطوباويين في السماء مجدٌ أعظم بعد الله. من أنهم يتمتعون بالنظر الى هذه الملكة الكلية الجمال: ويقول القديس بوناونتورا: أن مجدنا الأعطم ونعيمنا الألذ بعد الله هو في مريم البتول:* فلنفرح اذاً مبتهجين مع مريم لأجل سمو العرش وعلو المرتبة التي رفعها الله إليها في السماء ولنسر فرحين مع ذواتنا، لأن أمنا هذه اذ تركتنا على الأرض بأرتقائها الى الملكوت منفصلةً عنا بالجسد، فلم تتركنا من حبها ولم تنفضل عنا بأنعطافاتها نحونا. بل بالأحرى لكونها الآن في السموات أكثر قرباً الى الله، وأشد أتحاداً به تعالى، فتعلم بأفضل نوعٍ حال شقائنا، ومن هناك تتشفق علينا أوفر أشفاقاً، وتقدر بأسهل طريقة أن تسعفنا وتعيننا. ومن ثم يخاطبها القديس بطرس داميانوس قائلاً: أهل أنكِ أيتها العذراء المغبوطة نسيتينا نحن البائسين المضنوكين لأجل أنكِ أرتفعتِ في السموات الى مقامٍ هكذا عظيمٍ، كلا، والعوذ بالله من التفكر بذلك، لأن قلباً هذه صفة رأفته وحنوه نظير قلبكِ، لا يقدر أن لا يشفق على شقائنا والا يحنو علينا. ويقول القديس بوناونتورا: أنه أن كان بهذا المقدار وجدت عظيمةً رأفة هذه السيدة نحونا حينما كانت هي عائشةً على الأرض، فحنوها الآن هو أعظم من ذلك في حال كونها متملكةً في السموات.* فلنخصص ذواتنا اذاً لخدمة هذه الملكة. ولننعش فينا روح عبادتنا لها وتكريمنا وحبنا إياها بمقدار ما يمكننا: لأنها ليست هي نظير المسلطين والملوك الآخرين (يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس) الذين يثقلون على رعاياهم حمل إيفاء الأموال والخراجات والخسائر، بل أن ملكتنا هذه تغني عبيدها وخدامها بالنعم والأستحقاقات والمكافأة. ولنصل إليها متضرعين مع الأنبا غواريكوس بقوله لها: أنكِ يا أم الرحمة أنتِ جالسةٌ بالقرب من الله سلطانةً للعالم على عرشٍ هكذا سامٍ، فأشبعي حسناً من مجد أبنكِ يسوع. وأرسلي إلينا نحن عبيدكِ الفتات الذي يزيد عنكِ، فأنتِ انما تتنعمين على مائدة الرب، ونحن المساكين نوجد تحت هذه المائدة ههنا في الأرض نظير كلابٍ صغيرة حقيرة، نطلب منكِ الرأفة والشفقة، فأرحمينا وترأفي علينا يا أم الرحمة.* * نموذج * † صلاة † † |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة الثانية شرح أحزان والدة الإله، بوجه العموم والخصوص الفصل الأول * فيما يلاحظ أحزان هذه العذراء المجيدة بوجه العموم تحت صفة* * كونها سلطانة الشهداء، لأجل أن أستشهادها وجد أطول* * وأشد من أستشهادهم كافةً.* * وفيه جزءان* † الجزء الأول † * في أن أستشهاد مريم البتول وجد أكثر أستطالةً من * * أستشهادات جميع الشهداء* ترى من هو ذاك الإنسان الحاصل على قلبٍ قاسٍ كالجلمود، حتى أنه لا يتوجع متخشعاً عند أستماعه إيراد حادثٍ مملؤٍ من الغم، مستحق الندب والبكاء الحادث الذي حصل وقتاً ما في هذا العالم وهو أنه كانت على الأرض أمرأةٌ شريفةٌ قديسةٌ، لم يكن لها الا أبنٌ وحيدٌ، وهذا الأبن كان هو الموضوع المستحق أعظم المحبات الممكن تصوره في العقل، باراً جميلاً حاوياً كل الفضائل، مغرماً بالحب الشديد نحو هذه الوالدة، بنوع أنه قط لم يكن أغاظها بأدنى شيءٍ. بل كان دائماً يحترمها بوقارٍ، ويطيعها بتكريمٍ، ويكمل مشيئتها بكل حقائق الحب، ولذلك قد وضعت هي فيه جميع أميالها وعواطفها وحبها على الأرض. فماذا جرى بعد ذلك، فقد حدث أن هذا الأبن لأجل روح الحسد الذي أستوعبت منه قلوب أعدائه، قد اشتكوا عليه كذباً وعدواناً أمام القاضي، الذي ولئن كان عرف براءته وأشهرها معترفاً بها، فمع ذلك لكيلا يغيظ هو أولئك الأعداء قد حكم على هذا الأبن البريء من الذنب بالموت ذي العار والخزي، بالنوع المطلوب من الأعداء أنفسهم، ومن ثم هذه الأم المسكينة أحتملت الحزن الشديد المسبب لها من قبل مشاهدتها أبنها البار المحبوب منها بهذا المقدار، يقتل ظلماً في سن شبوبيته بميتةٍ بربريةٍ كلية القساوة! أعدموه ــ الحياة أمام عينيها، فيما بين العذابات الأشد أوجاعاً، وأماتوه موت الخزي والعار. فماذا تقولون يا ذوي الأنفس الحنونة اللينة، أما أن هذا الحادث هو مستحق التوجع والشفقة، وأما أن هذه الوالدة الحزينة هي مستأهلة أن يرثى لها ويشفق عليها. فأنتم تفهمون جيداً عمن أشير أنا بهذا الحادث. أي أن الأبن الذي حكم عليه بالموت وقتل بالنوع المقدم إيراده، هو مخلصنا يسوع المسيح الموضوع المستأهل كل محبة، والأم التي تكبدت الأحزان والآلام بما أشرنا عنه، هي والدة الإله مريم الطوباوية، التي حباً بنا وبخلاصنا قد أرتضت بأن تشاهد أبنها هذا الحبيب مقدماً ذبيحةً للعدل الإلهي بأيدي البشر القساة القلوب. فاذاً الأوجاع والأحزان التي ذاقتها من أجلنا هذه الأم الإلهية بمرارةٍ تفضل على مرائر ألف ميتةٍ، تستحق منا التوجع والترثي ومعرفة الجميل. وأن كان لا يوجد لنا شيءٌ آخر نكافئ به حبها إيانا هذا الشديد، فقلما يكون نأخذ في هذا اليوم بالتأمل برهةً من الزمان، في شدة الحزن والتوجع والألم الذي تكبدته هذه العذراء، ومن قبل ذلك صارت هي سلطانة الشهداء، اذ أن أوجاع أستشهادها قد فاقت على عذابات الشهداء كافةً. أولاً: بما أن هذا الأستشهاد وجد زمنه أكثر أستطالةً من أزمنة عذابات الشهداء. الأمر الملاحظ في الجزء الحاضر. ثانياً: لأنه قد وجد هو الأستشهاد الأشد أوجاعاً من عذاباتهم كلها الأمر الملاحظ في الجزء الآخر.* فكما أن يسوع المسيح سمي: سلطان الأوجاع، وملك الشهداء لأجل أنه في مدة حياته قد أحتمل آلاماً أشد مما أحتمله الشهداء أجمعون، فهكذا بكل عدلٍ تدعى مريم البتول: سلطانة الشهداء لأنها أستحقت هذا اللقب بأحتمالها أستشهاداً أعظم من كل ما سواه بعد ذاك المحتمل من أبنها مخلصنا. فاذاً بالصواب يسميها العلامة ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: شهيدة الشهداء: ويمكن أن يقال عنها ما قاله أشعيا النبي: يكللكِ الله بالضيق تكليلاً: (ص22ع18) أي أن الأكليل الذي تتوجت به هذه السيدة سلطانةً للشهداء قد كان أكليل الضيق والأوجاع عينها التي فاقت على عذابات الشهداء كلهم اذا أنجمعت معاً. فأما عن كون مريم العذراء وجدت شهيدةً حقيقيةً، فهذا لا ريب فيه ولا أشكال، ويبرهن عنه بأثباتٍ العلماء كارتوزيانوس وبالبارتوس وكاتارينوس وآخرون غيرهم. على أنه لحكمٌ عامٌ هو أنه يكفي لحقيقة الأستشهاد أن يحتمل الشهيد عذاباً وألماً كافياً لأن يعدمه الحياة الجسدية، ولئن لم يكن هو يموت من مجرد هذا العذاب، فهكذا القديس يوحنا الأنجيلي قد كرم من الكنيسة الجامعة بصفة شهيد ولئن لم يكن مات هذا الرسول ضمن خلقين الزيت المغلي، حينما هو وضع فيها بأمر الملك دوميتسيانوس، بل خرج من تلك الخلقين أشد قوةً من ذي قبل (كما هو مدون تحت اليوم السادس من شهر أيار في كتاب الفرض الروماني) ويقول القديس توما اللاهوتي: أنه يكفي لأكتساب مجد الأستشهاد أن الإنسان يطيع في أن يقدم ذاته لحد الموت: فمريم وجدت شهيدةً لا مماتةً بواسطة الحديد، بل بشدة أوجاع القلب: كما يقول عنها القديس برنردوس، أي أن كان جسدها الطاهر لم يجرح من الجلادين، فقد طعن قلبها المبارك بسهام أوجاع آلام أبنها، وهذه الأوجاع قد وجدت كافيةً لأن تسبب لها لا موتاً واحداً فقط، بل ألف ميتةٍ أيضاً، ومن ثم أن مريم قد صارت ليس شهيدةً حقيقيةً فقط، بل أيضاً أن أستشهادها الأليم قد فاق على أستشهادات جميع الشهداء، لأجل أستطالة زمنه، لأنه يمكن القول أن حياتها بأسرها قد وجدت أستشهاداً متصلاً من دون أنقطاعٍ.* فكما أن آلام سيدنا يسوع المسيح قد أبتدأت معه منذ أتلاده على الأرض، حسبما يقول القديس برنردوس: أن المسيح قد ولد ومعه ولدت آلام الصليب: فهكذا مريم التي هي شبيهة بأبنها في كل شيءٍ. قد أحتملت أستشهادها مدة حياتها كلها. فأسم مريم فيما بين التفاسير التي يعنيها يفسر: بحر المرارة: كما يبرهن الطوباوي ألبارتوس الكبير. ولذلك يخصص بهذه البتول ما قاله أرميا النبي في العدد الثالث عشر من الاصحاح الثاني من مراثيه وهو: يا بتول أبنة صهيون أن أنكساركِ هو عظيمٌ كالبحر فمن يعالجكِ: لأنه كما أن مياه البحر كلها هي مرةً مالحةً، فهكذا هي حياة مريم البتول قد وجدت دائماً مملؤةً من المرائر، لأجل أن آلام مخلصنا كانت على الدوام بأزاء عقلها مصورةً، فلا يمكن لأحدٍ أن يرتاب في أن هذه السيدة قد أستنارت من الروح القدس أكثر أستنارةً من الأنبياء كلهم. وكانت هي تعلم أفضل علماً منهم حقيقة ما دونوه عن المسيح في أقوالهم النبوية. فهكذا قال الملاك للقديسة بريجيتا، كما أنه قال لها في محلٍ آخر: أن البتول المجيدة اذ كانت تعرف كم هو مقدار الآلام التي كان مزمعاً الكلمة المتجسد أن يتكبدها من أجل خلاص الجنس البشري، فمن قبل أن تصير هي أمه كانت تتصور آلامه وتتوجع من أجل الميتة البربرية المعدة له، ليس من أجل خطاياه، اذ لا خطيئة فيه، وعلى هذه الصورة منذ ذاك الوقت أبتدأ زمن أستشهادها:* فهذا التوجع والآلام قد أزدادت مرارةً وقوةً بما لا يحد عندما صارت هذه البتول أماً للكلمة المتجسد، لأنها حينئذٍ عند تأملها في جميع ما كان عتيداً هذا الأبن المحبوب منها أن يتألم به. فهي أحتملت بهذا التصور المتصل عذاب أستشهادٍ متصلٍ مدى حياتها، ولذلك يقول نحوها الأنبا روبارتوس: أنكِ اذ كنتِ سبقتِ وعرفتِ آلام أبنكِ العتيدة صيرورتها بعد زمنٍ طويلٍ من معرفتكِ بها. فوجد لذلك أستشهادكِ في تكبدكِ مرارتها مستطيلاً: وهذا بالحصر ما تفسره الرؤيا التي شاهدتها القديسة بريجيتا في مدينة رومية، في كنيسة القديسة مريم الكبرى، حيث ظهرت لها البتول الطوباوية وبرفقتها القديس سمعان الشيخ، مع ملاكٍ كان حاملاً بيده سيفاً طويلاً جداً، مصبوغاً بالدم، مشيراً به الى الحزن والآلام الشديدة المرارة والمستطيلة معاً، التي أجتازت في نفس هذه الأم الإلهية طول أيام حياتها. ولذلك الأنبا روبارتوس يجعل هذه السيدة متكلمةً هكذا: أيتها الأنفس المفتداة، يا بناتي العزيزات لا تتوجعن من أجلي لما تكبدته في تلك الساعة فقط، التي فيها شاهدت أبني يموت فيما بين العذابات أمام عيني. لأن سيف الحزن والوجع الذي سبق سمعان وأخبرني عنه. قد أجتاز في نفسي مدة حياتي كلها. ومن ثم حينما كنت أرضع أبني الحبيب. وأدفئه في حجري وبين ذراعي. فدائماً كنت أشاهد الميتة المرة التي كانت تنتظره. فتأملن كم هي شدة التوجع. وكم هو مستطيلٌ زمان هذه الآلام التي أنا أحتملتها.* ولهذا بكل صوابٍ يمكن للعذراء المجيدة أن تقول عن ذاتها ما قاله النبي والملك داود: أن حياتي قد فنيت بالأوجاع وعمري بالتنهد: (مزمور 31ع10): لأنني أنا للضرب مستعدٌ ووجعي مقابلي في كل حين: (مزمور 380ع17): فقد أصرفت حياتي كلها بالأوجاع والدموع. من حيث أن حزني وتوجعي الصادرين من تذكري في آلام أبني الحبيب وموته. ولم يبرحا قط من أمام عيني، بل دائماً كنت أشاهد أنواع آلامه، وكيفية ميتته التي يوماً ما كان هو مزمعاً أن يتكبدها: فهذه الأم الإلهية قد أوحت الى القديسة بريجيتا: بأنها قد استمرت تشعر حتى بعد قيامة أبنها من بين الأموات وصعوده الى السموات، بمرارة آلامه وموته في قلبها باقي الزمن الذي عاشت هي فيه على الأرض. سواءٌ كانت تمارس أعمالها، أو تأكل أم تصنع شيئاً آخر الى حين نياحها: ولهذا كتب طاولاروس: بأن مريم البتول قد أجتازت زمن حياتها بأسره في توجعٍ متصلٍ. لأنه لم يكن يهجس في قلبها شيءٌ من قبيل الآلام سوى الغم والحزن:* ولهذا فأستطالة الزمان المعتاد أن يصرف من المحزونين في الأنفراج. وفي تمويه الحزن ونسيان موضوعه، لم يفد البتول القديسة لتخفيف أوجاعها، بل بالعكس أن أستطالة الزمن كانت لديها علةً لأزدياد التوجع والحزن، لأن نمو أبنها يسوع في القامة والعمر، فبمقدار ما كان ينمى فيها تعلق قلبها به من الجهة الواحدة، لمشاهدتها فيه موضوعاتٍ جديدةً للحب والكمال وحسن الصفات، فبأكثر من ذلك من الجهة الأخرى، لتقدمه نحو زمن الآلام ولدنوه من أيام الحكومة عليه بالموت البربري كان ينمى فيها شدة الحزن والتوجع من أجله لفقدانها إياه من على الأرض. وحسبما أخبر ملاك الرب في الرؤيا للقديسة بريجيتا:" أنه كما أن الوردة تظهر نابتةً فيما بين الأشواك، فكذلك والدة الإله كانت تتقدم بالسنين فيما بين الأوجاع. ونظير ما أن الوردة في نموها تنمو معها الأشواك المحيطة بها، فهكذا وردة الرب المختارة هذه بمقدار ما كانت هي تنمو في العمر، فبأكثر من ذلك كانت تنمو معها أشواك آلامها وأحزانها لتزيدها وجعاً وغماً". فاذ تأملنا لحد ههنا في أستطالة زمن أحزان هذه السيدة فلنأتِ الى *الجزء الثاني لنتأمل عظم هذه الأحزان.* † الجزء الثاني † * في أن أستشهاد مريم البتول هو أشد أوجاعاً من عذابات الشهداء كلهم* فمريم العذراء دعيت سلطانة الشهداء ليس فقط من كون زمن أستشهادها في أحتمال الآلام وجد أطول من أزمنة عذابات الشهداء بل أيضاً من كون أوجاعها وآلامها قد وجدت أشد وأعظم من أوجاع الشهداء وآلامهم كافةً. على أنه ترى من يمكنه أن يقايس مقدار هذه الأوجاع. ويعرف حقيقتها وشدتها وعظمتها. فالنبي أرميا يشير الى أنه لا يقدر أن يجد من يمثل هو به أوجاع هذه الأم وأحزانها، لأنه يقول: بمن أشبهكِ، أو بمن أمثلكِ يا بنت أورشليم. من أقايس عليكِ وأعزيكِ، يا بتول أبنة صهيون فأن أنكساركٍ هو عظيمٌ كالبحر فمن يعالجكِ: (مراثي ص2ع13) ولذلك اذ فسر هذا النص الكردينال أوغون فكتب قائلاً نحو هذه البتول المجيدة هكذا: أنه كما أن مرارة مياه البحر تفوق في شدتها على مرائر الأشياء المرة كلها. فعلى هذا المثال أن أوجاعكِ أيتها العذراء المباركة قد فاقت في شدتها على الأوجاع الأخرى بأسرها: ولهذا يقول القديس أنسلموس: أنه لولا يكون الله بأعجوبةٍ خصوصيةٍ حفظ حياة مريم البتول. لكان وجع قلبها كافياً لأن يميتها في كل دقيقةٍ من دقائق حياتها: وأما القديس برنردينوس السياني فقد أتصل الى أن يقول: أن أوجاع مريم قد كانت بهذا المقدار عظيمةً. حتى أنه لو أمكن تفريقها موزعةً على البشر كلهم. لكانت كافيةً لأن تميتهم كافةً بكل سرعةٍ.* الا أننا ههنا نتأمل الأسباب التي من أجلها وجد أستشهاد هذه الأم الإلهية أعظم من أستشهاد كل الذين سفكوا دماؤهم من أجل الإيمان بالمسيح. فليعتبر. أولاً:أن الشهداء أنما أحتملوا العذابات في أجسادهم بواسطة النار أو الحديد وغيرهما. أما مريم فأحتملت عذاب أستشهادها باطناً في نفسها. حسبما سبق القديس سمعان الشيخ وقال لها: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ: (لوقا ص2ع35) وكأنه يريد بقوله هذا أن يعلن لها هكذا مخاطباً: أيتها البتول المثلثة القداسة أن جميع الشهداء أنما عتيدون في أجسادهم أن يتكبدوا أوجاع الحديد، وأما أنتِ فأستشهادكِ أنما هو باطنٌ، لأن سيف الحزن مزمع أن يحوز في نفسكِ وتحيق الأوجاع بقلبكِ مع آلام أبنكِ يسوع: فاذاً بمقدار ما أن النفس هي أشرف من الجسد فبمقدار ذلك كان أستشهاد مريم بنفسها أعظم من أستشهاد الشهداء بأجسادهم. كما أوحى مخلصنا عينه للقديسة كاترينا السيانية بقوله لها: أنه فيما بين الأستشهاد بالأجساد، وبين الأستشهاد بالأنفس يوجد فرق لا قياس لعظمته: ومن ثم يقول الأنبا القديس أرنولدوس كارنوتانسه: أن من أتفق له أن يوجد حاضراً في جبل الجلجلة ليشاهد ذبيحة الحمل البريء من العيب، حينما هو مات على خشبة الصليب. لقد كان لاحظ هناك مذبحين عظيمين. أحدهما في قلب يسوع، وثانيهما في قلب مريم. حيث أنه في زمنٍ واحدٍ نفسه الذي فيه كان الأبن يضحي قرباناً بالتوجع القلبي:* ثانياً:يقول القديس أنطونينوس: أن الشهداء الآخرين قد تعذبوا بواسطة ذبيحة حياتهم الذاتية. واما البتول البطوباوية فتعذبت بواسطة ذبيحة حياة أبنها الذي كانت هي تحبه أشد حباً بما لا يحد من حياتها الذاتية. ولهذا ليس فقط قد تكبدت هي بنفسها كل الأوجاع التي تكبدها أبنها في جسده. بل أيضاً قد سبب لقلبها نظرها بعينيها تعاذيب أبنها أوجاعاً أعظم مما لو كانت هي نفسها أحتملت تلك التعاذيب في جسدها عينه. فعن القول أن مريم العذراء قد تكبدت في قلبها جميع العذابات التي شاهدت هي أبنها الحبيب يسوع معذباً بها. لا يمكن أن يوجد ريبٌ أو أشكالٌ. فكل أحدٍ يفهم أن عذاب الأبناء هو نفس عذاب أمهاتهم. اذا كن حاضراتٍ وناظراتٍ مباشرة ذاك العذاب. فالقديس أوغوسطينوس اذ كان يتأمل في الأوجاع التي أحتملتها القديسة (صالومي) أم السبعة شهداء المكابيين بمشاهدتها العذابات التي كانت أولادها هؤلاء يتكبدونها قال: أنها اذ كانت تنظر أوجاع أولادها قد تألمت هي بالأوجاع كلها، لأنها كانت تحبهم كلهم. وبالتالي كانت هي تتعذب في عينيها بجميع العذابات التي هم كانوا يتعذبون بها في أجسادهم. فهكذا حدث لوالدة الإله، أي أن جميع تلك العذابات من الجلد وأكليل الشوك، والمسامير، والصليب التي تعذبت بها لحمان يسوع الطاهرة. فهذه كلها دخلت حينئذٍ في قلب مريم لتكمل بواسطتها أستشهادها، كما كتب القديس أماداوس قائلاً: أن هذه العذابات التي دخلت على جسد يسوع هي نفسها دخلت على قلب مريم: بنوع أنه (حسبما قال القديس لورانسوس يوستينياني) قد أضحى قلب هذه الأم بمنزلة مرآةٍ للأوجاع التي أحتملها أبنها، وبهذه المرآة كانت تنظر اللطمات والبصاق والجراحات وسائر العذابات التي تألم بها يسوع. ثم أن القديس بوناونتورا يتأمل: في أن جميع تلك الجراحات التي كانت مفرقةً في جسد يسوع كله، فهذه بأسرها وجدت مجموعةً معاً في قلب مريم.* فاذاً قد تكبدت هذه البتول لأجل أوجاع أبنها وآلامه محتملةً في قلبها الشديد الحب أنواع تلك الآلام! أي الجلد، التكليل بالشوك، الأهانات، التعييرات، المسامير، الصليب، كأنها هي نفسها جلدت، كللت، أهينت، عيرت، سمرت، صلبت، ولهذا اذ يتصور القديس بوناونتورا عينه حال وجود هذه الأم الإلهية في جبل الجلجلة حاضرةً موت أبنها، فيخاطبها كمستفهمٍ قائلاً: أيتها السيدة أخبريني أين كنتِ حينئذٍ واقفةً، أهل أنكِ وجدتِ قريبةً فقط من صليب يسوع، كلا بل أنني أقول الأجود أنكِ كنتِ مرفوعةً على الصليب عينه، ومسمرةً مصلوبةً مع أبنكِ نفسه. أما ريكاردوس فالى كلمات النبي أشعيا المدونة في العدد الثالث من الاصحاح 63 من نبؤته المقالة منه عن لسان مخلصنا وهي: دست المعصرة وحدي ومن الأمم ليس معي رجلٌ: يضيف هو هذه الكلمات قائلاً: أنك بالصواب تقول أيها السيد أنه في عمل أفتداء الجنس البشري أنت وحدك دست المعصرة متألماً، ولم يكن معك رجلً يتوجع من أجلك بكفايةٍ. ولكن توجد أمرأةٌ وهي أمك التي مقدار ما أنت أحتملت في جسدك، فهي مقدار ذلك تكبدت في قلبها.* الا أن هذه الأقوال كلها هي شيءٌ زهيدٌ جداً بالنسبة الى حقيقة ما تألمت به العذراء المجيدة، من حيث أنها (كما قلت آنفاً) قد تكبدت هي بالنظر الى عذابات يسوع آلاماً وأوجاعاً أشد مرارةً من آلام يسوع وأوجاعه عينها، لو كانت هي أحتملتها في جسدها بدلاً منه. فالعلامة أيرازموس كتب في تكلمه بوجه العموم عن الوالدين بقوله عنهم: أنهم يشعرون في ذواتهم بالأوجاع التي تتعذب بها أولادهم. أشد آلاماً مما يشعرون بأوجاعهم الذاتية: الا أن هذا ليس بحقيقي دائماً ولا في كل الوالدين. أما في مريم البتول فقد تحقق ذلك بكل تأكيدٍ. لأجل أن هذه الأم المجيدة كانت تحب أبنها الإلهي حباً أعظم بما لا يحد، ولا يمكن وصفه من حبها ذاتها، بل من حبها ألف حياةٍ لو كانت لها. ولذلك بكل صدقٍ يشهد لنا القديس أماداوس: بأن هذه الوالدة المحزونة اذ كانت تشاهد المنظر المرثى له، الذي به أبنها يسوع الحبيب كان يحتمل العذابات، فهي قد تعذبت أكثر جداً مما لو كانت هي نفسها تحتمل في جسمها آلام هذا الأبن كلها: فالبرهان هو واضحٌ من حيث أنه كما يقول القديس برنردوس: أن النفس توجد مستقرةً ومتحدةً في الموضوع المحبوب منها أتحاداً أشد جداً من كيانها في الجسد الذي هي تحييه: بل أن مخلصنا عينه قبل هذا القديس قال: أنه حيثما يكون كنزكم فهناك يكون قلبكم: (لوقا ص12ع34) فاذاً من حيث أن هذه البتول كانت بقوة الحب تحيى بيسوع بنوعٍ أفضل مما كانت تحيى في ذاتها، فمن دون ريبٍ أنها تكبدت من الآلام، لأجل موت حبيبها هذا، أوجاعاً أشد وعذاباً أعظم مما لو كانت هي نفسها تمات فيما بين أمر عذابات العالم، ميتةً ذات قساوةٍ أشد من كل ما يمكن أختراعه من التعذيبات.* ثالثاً:أن السبب الذي قد صير عذاب أستشهاد والدة الإله أعظم من عذابات الشهداء كلهم بما لا حد له ولا قرار، هو أنها قد تألمت هي كثيراً، ومن دون أدنى تعزيةٍ. فأي نعم أن الشهداء كانوا يشعرون بالعذابات التي كان المضطهدون القساة يذيقونهم إياها، ولكن حبهم ليسوع كان يصير عذبةً حلوةً مراير تلك الأمتحانات. بل كان يجعلها محبوبةً منهم. فالقديس فينجانسوس في أستشهاده تكبد عذاباتٍ وافرةً كلية القساوة، من الزيار والجلد، وسلخ الجلد والتمشيط بالأظفار الحديد، والحريق بالمشاهيب. ولكن يقول عنه القديس أوغوسطينوس: أن آخر كان يتعذب هكذا، وآخر كان يتكلم بفصاحةٍ: لأن هذا الشهيد وهو فيما بين عذاباتٍ هذه صفتها كان يخاطب المغتصب بشجاعةٍ وفصاحةٍ، وبأحتقار عظيمٍ لتلك التعاذيب، حتى أنه أستبان أن فنجانسوس واحداً كان يعذب. وفينجانسوس آخر كان يتكلم، ومن هنا يظهر واضحاً كم كان الله بعواطف حبه العذبة، يشجع هذا الشهيد ويقويه على أحتمال تلك النكال المرة. وهكذا القديس بونيفاسيوس الشهيد كان يقاسي شدائد الأمتحانات، بتمزيق لحمان جسده بالمخالب الحديد، وبأدخال القضيب الرفيع تحت أظافره، وبصب الرصاص المذاب في فمه. أما الشهيد ففيما بين هذه العذابات لم يكن يشبع من تكرار الشكر لله هاتفاً: أشكرك شكراً دائماً أيها الرب يسوع المسيح. وكذلك القديسان مرقص ومركلوس اذ كانا يتكبدان عذابات الأستشهاد، مسمرين بأرجلهما على قائمةٍ من خشبٍ، والمغتصب كان يقول لهما: أيها الشقيان تأملا حالكما هذه التعيسة. وخلصا ذاتيكما من هذا العذاب بالطاعة. فهما أجاباه قائلين: عن أية عذابات أنت تتكلم، فهذه هي أشياء مضحكةٌ، لأننا نحن ما شعرنا قط بلذةٍ ولا تنعمنا أصلاً على مائدةٍ، بمقدار ما نلذ ونتنعم الآن في هذه الوليمة، التي فيها نحتمل الأوجاع بالتذاذٍ عظيمٍ حباً بيسوع المسيح. ومثلهما القديس المجيد في الشهداء رئيس الشمامسة لافرنتيوس حينما كان يشوى على المصبع الحديد فوق جمرات النار: قد وجد حينئذٍ (يقول القديس البابا لاون في خطبته على عيد هذا القديس) أعظم قوةً لهيب الحب الباطن في قلبه لله ليعزي نفسه، وأشد حرارةً من لهيب النار المادية الخارجة التي كانت تحرق جسده. وقد فاز بالقوة والشجاعة في تلك الحال بنوع أنه أتصل الى أن يستهزئ بالمغتصب قائلاً له: هوذا لحماني قد أشويت حسناً وأنتهي شيها من الجانب الواحد، فأن كنت تريد أن تأكل منها فأقلبها على الجانب الآخر وكل. ولكن كيف أمكن لهذا الشهيد في أحتماله تلك الميتة المستطيلة بعذابٍ هذه صفة شدته أن يتهلل مبتهجاً، فيجيب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن هذا المعظم في الشهداء قد سكر بخمرة الحب الإلهي، حتى أنه لم يعد يشعر لا بالعذابات ولا بالموت:* فاذاً أن الشهداء بمقدار أشتداد حبهم ليسوع، فبمقدار ذلك كانت تحلو لديهم العذابات من أجله. حتى كأنهم لم يعودوا يشعروا بها. وكان الموت يصير لديهم عذباً حلواً. وكان مجرد تصورهم مرائر آلام إلهٍ متجسدٍ على الصليب يخفف عنهم مرائر تعاذيبهم معزياً إياهم. ولكن أهل أن حب سيدتنا مريم البتول ليسوع، قد كان على هذه الصورة يعزيها ويخفف عنها مرائر الأوجاع، لا لعمري، بل أن أبنها الحبيب يسوع الذي كان هو يتألم، فهو نفسه كان علة أحزانها وآلامها، وأن الحب الشديد الذي كان قلبها به مغرماً نحوه تعالى، فهو عينه كان الجلاد الوحيد الكلي قساوة المعذب إياها. لأن كل أستشهاد هذه الأم الإلهية كان قائماً في مشاهدتها عذابات أبنها المحبوب منها بهذا المقدار، والبريء من كل خيال ذنبٍ. بل البراءة بالذات، الذي كان يتألم آلاماً فائقة الوصف. وبالتالي أنها بمقدار أزدياد حبها إياه حباً هكذا عظيماً، فبمقدار ذلك كانت شدة أوجاعها وأحزانها تتعاظم من دون أدنى تعزيةٍ: فأنكساركِ هو عظيمٌ كالبحر يا بتول أبنة صهيون فمن يعالجكِ. أواه يا سلطانة السموات والأرض، أن المحبة قد صيرت الشهداء الآخرين أن ينسوا عذابتهم، لخفتها عنهم من قبل الحب الذي كان يشفي جرحاتهم، وأما أنتِ فمن يعالجكِ ويجلي لديكِ بحر المرائر والحزن العظيم. ومن يشفي جراحاتكِ المتخنة الكلية الأوجاع، المجروح بها قلبكِ. لأن ذاك الأبن الحبيب عينه الذي كان يمكنه أن يفرح غمكِ ويعزيكِ فهو كان بآلامه العلة الوحيدة لأوجاعكِ. والحب الذي أنتِ ملتهبةٌ به نحوه فهو نفسه الذي كان يصور مجموع أستشهادكِ. ولهذا يقول العلامة دياز: أنه قد جرت العادة في أن المصورين عندما يصورون أيقونات الشهداء ففي كلٍ منها يرسمون مع الشهيد صورة تلك الآلة التي بها كمل أستشهاده، مثلاً السيف مع القديس بولس، الصليب مع القديس أندراوس، المصبع الحديد مع القديس لافرنتيوس وهلم جراً. فأما العذراء مريم فيصورن آلة أستشهادها المسيح عينه ميتاً متكئاً على ركبتيها، لأن حبها الشديد إياه كان لها آلة الأستشهاد. أما القديس برنردوس فبألفاظٍ وجيزةٍ يثبت جميع ما قلته لحد الآن، اذ أنه كتب هكذا قائلاً: أنه في الأستشهادات الأخرى عظم الحب الشديد يخفف مرائر العذابات، أما البتول الطوباوية فبمقدار ما كان حبها له تعالى أشد ألتهاباً. فبأكثر من ذلك كانت أوجاعها أعظم قساوةً ومرارةً، وهو الذي صير أستشهادها أوفر تألماً وأمر توجعاً.* فأمرٌ حقيقي هو أنه بقياس المحبة التي توجد في قلب إنسانٍ ما نحو موضوعٍ ما، يقاس حزنه وغمه على فقد ذاك الموضوع، وهكذا يوجد قياس شدة توجعه على خسرانه إياه، مقدار شدة غرامه في حبه الزائد نحوه. ومن ثم أن فقد الإنسان أخاه الطبيعي بالموت يحزن قلبه أشد حزناً، مما يحدث له من الغم على فقده أحد الحيوانات، كالفرس وغيرها. وكذلك يتوجع الأب على موت أبنه أعظم توجعاً مما على موت أحد أصدقائه. ولهذا يقول كورنيليوس الحجري: أنه لكي يفهم كم كان مقدار توجع مريم البتول على موت أبنها يسوع، يلزم أن يفهم مقدار الحب التي هي كانت تحبه به تعالى. ولكن من يمكنه أن يعرف قياس هذا الحب الذي هي كانت مغرمةً به نحو أبنها (يقول الطوباوي أماداوس) حيث أن حبها إياه بالنوع الواحد وبالنوع الآخر قد أجمعا معاً في قلبها كشيءٍ واحدٍ، أي الحب الفائق الطبيعة الذي به كانت هي تحبه عز وجل بحسبما هو إلهها، ثم الحب الطبيعي الذي به كان قلبها متعلقاً بمحبته بحسب كونه أبنها". فاذاً هذان النوعان من الحب قد أجتمعا واحداً في قلبها. ولكن بهذا المقدار وجد هذا الحب المضعف عظيماً فائق الحد والقياس، حتى أن غوليالموس الباريسي يقول:" أن الطوباوية مريم العذراء قد أحبت أبنها وإلهها يسوع بمقدار ما أمكن للنوع الإنساني أن يكون قابلاً لأن يحب، أي أن خليقةً محضةً لم تقدر أن تكون موضوعاً قابلاً لأن تحب أكثر من ذلك". ولهذا كتب ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أنه كما ان حب مريم ليسوع ما وجد قط ولن يوجد أبداً أعظم منه، فلا وجد ولن يوجد أصلاً وجعٌ أعظم من وجعها من قبل آلامه وموته، ومن حيث أن حبها إياه تعالى كان عديم الحد ولا قرار له، فعديم الحد ولا قرار له كان وجعها بفقدها إياه بالموت. وقال الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه حيثما يكون الحب أشد. فهناك يوجد التوجع أعظم.* ولهذا فلنتصور أن مريم اذ كانت واقفةً تحت صليب يسوع على جبل الجلجلة، فبكل عدلٍ وصوابٍ كان يمكنها أن تخصص ذاتها بكلمات أرميا النبي وهي: يا عابري الطريق أنظروا وتأملوا هل رأيتم وجعاً مثل وجعي: (مراثي ص1ع12) أي يا معشر المجتازين على الأرض أيام حياتكم ولا تفتكرون بي ولا تتوجعون من أجلي. قفوا قليلاً متأملين فيَّ أنا التي الآن أشاهد أمام عيني مدنفاً على الموت، في بحرٍ من الآلام هذا الأبن الحبيب، وأنظروا هل يوجد فيما بين جميع الحزانى والمتألمين أحدٌ أوجاعه تشابه أوجاعي. فهنا يرد الجواب القديس بوناونتورا قائلاً: كلا، أيتها الأم المملؤة أحزاناً أنه لا يمكن أن يوجد من الأرض وجعٌ مرٌ قاسٍ مثل وجعكِ، لأنه لا يمكن وجود أبنٍ عزيزٍ حبيبٍ على الأطلاق نظير أبنكِ. ويضيف الى ذلك القديس لورانسوس يوستينياني بقوله: أنه حقاً لم يكن وجد قط في العالم أبنٌ موضوعٌ للحب الشديد نظير يسوع، ولا أمٌ مغرمةٌ بالحب الكلي نحو أبنها مثل مريم. فأن كان اذاً ما صودف على الأرض حبٌ هكذا عظيمٌ يشابه حب هذه الأم الإلهية لأبنها، فكيف يستطاع أن يصادف وجعٌ شديد القساوة يماثل وجعها ويشابهه.* ومن ثم القديس أيدالفونسوس لم يرتب في أن يقول: أنه لقليلٌ هو أن يورد عن مريم البتول أن آلامها قد فاقت على عذابات الشهداء كلهم، حتى ولو أفترضت أوجاعهم متحدةً معاً بجملتها. ويضيف الى ذلك القديس أنسلموس بقوله: أن التعاذيب الأشد مرارةً ووجعاً التي بها عذب الشهداء القديسون بأعظم قساوةٍ، قد وجدت خفيفةً وكلا شيء بالنسبة الى أستشهاد البتول المجيدة. وكتب القديس باسيليوس الكبير قائلاً: أنه كما أن الشمس تفوق بأنوارها على سائر الكواكب والنجوم، فهكذا مريم العذراء قد فاقت بآلامها على مرارة أوجاع الشهداء الآخرين أجمعين. من العلماء العباد (وهو الأب بينامونته) يبرهن بعبارةٍ جليلةٍ عما أشرنا إليه قائلاً: أن أوجاع مريم البتول قد كانت بهذا المقدار شديدةً وعظيمةً، حتى أن هذه الأم الحنونة وحدها وجدت حين آلام أبنها بهذه الأوجاع كافيةً ومقتدرةً على أن تتوجع بألمٍ كافٍ على موت إلهٍ متأنسٍ.* ولكن ههنا يلتفت القديس بوناونتورا نحو هذه السيدة المجيدة قائلاً كمستفهم هكذا: أخبريني يا سيدتي لماذا أنتِ أردتِ أن تذهبي الى جبل الجلجلة، لتقدمي أنتِ أيضاً ذاتكِ ذبيحةً. أهل أنه ربما لم يكن كافياً لأفتدائنا أن إلهاً يموت من أجلنا على الصليب بالجسد، ولذلك رغبتِ أن تصلبي معه أنتِ أيضاً والدته: الجواب، أنه لأمرٌ كلي الوضوح هو أن موت يسوع المسيح وجد كافياً ليس لخلاص هذا العالم كله فقط، بل لخلاص عوالم غير متناهٍ عددها أيضاً، الا أن هذه الأم الصالحة قد أرادت لأجل الحب الشديد الذي تحبنا به، أن تفيد أمر خلاصنا هي أيضاً بواسطة أستحقاقات الأوجاع التي تكبدتها هي وقدمتها لله على جبل الجلجلة. ولذلك يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه كما أننا ممنونون وملتزمون بالمعروف نحو يسوع المسيح، لأجل آلامه التي تكبدها حباً بنا. فهكذا نحن ممنونون وملتزمون بمعرفة الجميل نحو مريم العذراء لأجل الأستشهاد الذي هي أرادت بموت أبنها أن تحتمله من تلقاء مشيئتها لأجل خلاصنا.* وأنما قلت من تلقاء ذاتها: لأن أمنا هذه الكلية الأشفاق نحونا (كما أوحى ملاك الرب للقديسة بريجيتا) "قد أرتضت بأن تحتمل بالأحرى العذابات كلها، من أن تشاهد الأنفس غير مفتداة باقيةً مهملةً في حال الخسران القديم". فهذا الموضوع يمكن أن يقال عنه أنه كان هو التعزية الوحيدة التي هي شعرت بها في حين غرقها في بحر تلك الآلام العظيمة الشديدة المرائر، المسببة لها من آلام أبنها، أي ملاحظتها أنه بواسطة آلامه المقدسة قد أفتدى العالم الهالك، وفاز البشريون بالصلح مع الله بعد أن كانوا أعداءً له تعالى: (حسبما يقول سمعان الكاسياني).* فحبٌ هكذا عظيمٌ من والدة الإله نحونا يستحق منا معرفة الجميل نحوها، وقلما يكون ينبغي لنا أن نكافئ جميلها بتأملنا في أوجاعها وآلامها. وبتوجعنا من أجلها، لأن هذه السيدة قد تشكت للقديسة بريجيتا من أن قليلين جداً هم أولئك الذين يفتكرون بأوجاعها، والأكثرين يعيشون متناسين هذا الموضوع. ولذلك أوصت هي هذه القديسة بأن تتذكر أحزانها. فلكي يفهم كم هو أمرٌ مقبولٌ لدى هذه الأم الإلهية التفكر مراتٍ كثيرةً في آلامها وأوجاعها. يكفي أن يعرف هذا الحادث فقط، وهو أنها أي والدة الإله قد ظهرت سنة 1239 للسبعة الأشخاص المتعبدين لها، الذين هم مؤسسوا الجمعية الملقبة: برهبنة عبيد مريم: وكان ظهورها لهم بثوبٍ أسود، وأوضحت لهم أنه أن كانوا يريدون أن يكتسبوا رضاها ومسرتها، فيلزمهم أن يتأملوا متواتراً في أحزانها وأوجاعها. وأعلنت لهم أرادتها في أنهم تذكرةً لآلامها يتردون من ذلك الوقت فصاعداً بالثوب الأسود الذي شاهدوها متشحةً به (كما هو مدون في الرأس 14من الكتاب1 من تاريخ الرهبنة المذكورة) ثم أن مخلصنا يسوع المسيح نفسه قد أوحى للقديسة فارونيكا البيناسكية قائلاً لها هكذا: أعلمي يا أبنتي أنه مقبولٌ لدي جداً ذرف الدموع من عبيدي حين تأملهم بآلامي، ولكنني لأجل حبي والدتي حباً لا حد له. فأكثر قبولاً لدي هو التأمل في أحزانها وأوجاعها التي هي أحتملتها حين موتي، من التذكر بآلامي أنا عينها: (كما يوجد مدوناً في مجموع البولانديستي تحت اليوم الثالث عشر من كانون الثاني).* ومن ثم عظيمةٌ هي النعم والمواهب الموعود بها من فادينا يسوع، لأولئك الذين يتأملون متواتراً في أوجاع والدته، محسنين العبادة نحو هذا الموضوع. فقد كتب العلامة بالبارتوس بأنه أوحى الى القديسة أليصابات الراهبة، بأن القديس يوحنا الأنجيلي بعد أن كانت الطوباوية مريم البتول صعدت الى السماء قد كانت أشواقه متقدةً لأن يشاهدها مرةً ما، فهذه النعمة قد أعطيت له، وهكذا قد ظهرت له هذه الأم المحبوبة منه حباً عظيماً، وقد ظهر صحبتها يسوع المسيح أيضاً. وقد فهم هذا القديس أن المجيدة مريم البتول كانت تطلب من أبنها نعماً ما خصوصيةً للمتعبدين لآلامها وأوجاعها، وأنه تعالى قد وعدها بأن يهبهم أربع نعم خاصةً متقدمةً. فالأولى: هي أن من يستغيث بهذه الأم الإلهية بأستحقاقات أوجاعها. فقبل موته يكتسب نعمة أن يصنع التوبة الحقيقية على جميع خطاياه. والثانية: هي أنه عز وجل يحفظ هؤلاء العابدين في حين شدائدهم وتجاربهم التي تلم بهم، لا سيما في ساعة الموت. والثالثة: هي أنه يرسم في قلوبهم مطبوعةً تذكرة آلامه وتعد لهم المكافأة الغنية في السماء. والرابعة: هي أنه تعالى يضع هؤلاء العباد في يد مريم عينها لكي تتصرف هي بهم حسبما تشاء وتريد. وأن تستمد لهم كل النعم التي ترغبها لهم، وأثباتاً لذلك فلنلاحظ في النموذج الآتي ذكره كم تفيد للخلاص الأبدي العبادة نحو البتول المتألمة.* * نموذج * أنه يوجد مدوناً في الرأس 97 من الكتاب 6من سيرة حياة القديسة بريجيتا، أنه كان رجلٌ ما الذي بمقدار ما وجد أصله شريفاً ومولده ذا نسبٍ منيفٍ، فبمقدار ذلك كان هو شريراً رديء السيرة، حتى أنه أتصل الى أن يسلم ذاته بأشتراطٍ واضحٍ أسيراً للشيطان. وقد خدمه في هذه العبودية مدة ستين سنة بأتصالٍ. عائشاً بسيرةٍ يمكن لكل واحدٍ بسهولةٍ أن يتصور كم كانت رداوتها، بعيداً على الدوام عن أقتبال الأسرار المقدسة. فهذا الأمير قد دنا أخيراً من الموت، ولكن لكي يستعمل معه الله رحمته الغير المتناهية قد أمر تعالى القديسة بريجيتا بأن تقول لمعلم أعترافها، أن يمضي فيزور هذا الأمير في بيته، وأن يحرضه ناصحاً على الأعتراف بخطاياه، فالكاهن المشار إليه ذهب عند الأمير وتمم واجبات رسالته. الا أن الأمير أجابه بأنه لم يكن هو محتاجاً الى أعترافٍ، لأنه كان يعترف متواتراً. فذهب إليه معلم الأعتراف مرةً ثانيةً، ولكن من دون فائدةٍ، لأن ذاك التعيس أسير الجحيم أستمر مصراً على عدم أرادته أن يعترف. فمخلصنا أوحى للقديسة بريجيتا جديداً آمراً بأن يمضي الكاهن إليه مرةً أخرى. فذهب عنده خادم الله المرة الثالثة وأخبره بما أوحى به تعالى للبارة بريجيتا، وبأنه لأجل هذه الغاية هو حضر إليه ثلاثة مراتٍ، لأن الرب هكذا كان أمره مريداً أن يستعمل معه رحمته الإلهية. فلما سمع المريض هذا القول قد تخشع وبدأ يبكي، ولكنه صرخ هاتقاً: كيف يمكن أن تغفر لي خطاياي بعد أني خدمت الشيطان مدة ستين سنة أسيراً له، وحملت نفسي أوساقاً عظيمةً من الخطايا والآثام القبيحة. فأجابه الأب المرشد مشجعاً إياه بقوله: لا ترتاب يا أبني، فأن كنت أنت تندم على هذه الخطايا كلها تائباً، فأنا من قبل الله أعدك بغفرانها. فحينئذٍ أبتدأ المريض أن يثق بالله وقال للكاهن: يا أبتي أنا كنت أعتد ذاتي هالكاً بالكلية ومن ثم قطعت رجائي من الخلاص، ولكني الآن أنا أشعر بالندامة على خطاياي، وهذا يشجعني على أن أرجو غفرانها من الله، فممن حيث أنه عز وجل لم يهملني بعد، فأنا أريد أن أعترف بمآثمي. وبالحقيقة أنه في ذلك اليوم أعترف أربع مراتٍ بخشوعٍ وتوجعٍ حقيقيٍ على خطاياه. وبعد هذا تناول القربان الأقدس. وفي اليوم السادس مات بعلامات الندامة الصادقة وحسن التسليم للأرادة الإلهية ميتةً صالحةً. فبعد موته قد أوحى مخلصنا للقديسة بريجيتا مخبراً إياها بأن ذاك الخاطئ فاز بالخلاص الأبدي. ولكنه بعد لم يزل في المطهر، وأن خلاصه قد تم بواسطة شفاعة والدته المجيدة مريم البتول. لأجل أن ذاك الأمير ولئن كان عائشاً بسيرةٍ هذا عظم شرها، فمع ذلك قد حفظ عبادته نحو أوجاع هذه السيدو. وكان يتذكرها بتوجعٍ ويتأملها بغمٍ وحزنٍ.* † صلاة † يا سلطانة الشهداء أمي المحزونة بل سلطانة الأوجاع، فأنتِ قد بكيتِ بهذا المقدار على أبنكِ الذي مات لأجل خلاصي، ولكن ماذا تفيدني دموعكِ أن كنت أنا أمضي هالكاً. فبأستحقاقات أحزانكِ وأوجاعكِ اذاً أستمدي لي توجعاً حقيقياً على خطاياي، وأصلاحاً كاملاً لسيرتي. مع أنعطافٍ دائمٍ وتوجعٍ متصلٍ، بتذكري آلام أبنكِ يسوع المسيح وأحزانكِ. ومن حيث أن أبنكِ الذي هو البراءة بالذات، وأنتِ البريئة من كل زلةٍ قد احتملتما آلاماً هكذا عظيمةً من أجلي، فأمنحاني أنا المذنب المستحق جهنم أن أتألم أنا أيضاً محتملاً شيئاً ما أجلكما وحباً بكما: فيا أيتها السيدة (أني أقول نحوكِ ما قاله القديس بوناونتورا) أن كنت أنا أغظتكِ فأجرحي بالعدل قلبي. وأن كنت أنا خدمتكِ فأطلب الآن المكافأة بأن تطعنيه، لأنه شيءٌ مرذولٌ مكروهٌ هو أن يشاهد يسوع مجروحاً وأنتِ مجروحةً معه، وأنا أبقى سالماً من الجراحات. واخيراً أتوسل إليكِ يا أمي بحق الحزن والآلام التي تكبدتيها عند مشاهدتكِ أبنكِ فيما بين عذاباتٍ هكذا قاسية، محنياً رأسه ومائتاً على الصليب، أن تستمدي لي ميتةً صالحةً. فلا تهملين حينئذٍ يا شفيعة الخطأة نفسي المحزونة والمتضايقة في وقت ذاك الرحيل من الدنيا، خاليةً من معونتكِ في حين أنطلاقها نحو الأبدية. ومن حيث أنه يمكن أن يحدث لي وقتئذٍ أن أفقد الصوت والتكلم، ولا أعود أستطيع أن أستغيث بفمي بأسم أبنكِ الحبيب وبأسمكِ، مع أنه هو تعالى وأنتِ أيضاً كلاكما رجائي الوحيد. فلهذا منذ الساعة الحاضرة أنا أستغيث بأسمه عز وجل وبأسمكِ. بأن تعيناني في تلك الساعة الضيقة، وهكذا أقول: يا يسوع ويا مريم *أنني أستودعكما نفسي مسلماً.* † تنبيه (1) أننا اذ كنا في الفصل الأول المنتهي تكلمنا عن أوجاع مريم البتول وأحزانها بوجه العموم، فالآن لزم أن نتكلم عن كلٍ من أحزانها *السبعة بوجه الخصوص، في الفصول السبعة الآتية.* تنبيه (2) أن الذي تكون فيه عبادةٌ مرغوبةٌ منه في أن يتلو المسبحة المختصة بأحزان والدة الإله، فيراها مدونةً في الجزء الأول من الباب السابع من كتاب الرياضة اليومية الذي طبعناه في مطبعة مجمع أنتشار الإيمان المقدس عينها. وهي تأليف الطوباوي المصنف هذا الكتاب نفسه. إفـرحي أيتهـا السماوات والسـاكـنـون فـيهـا ويـلٌ لساكني الأرض والبحر لأن إبلـيس نزل إليكما وبـه غضب عظيم، لأنـه عـالم أنه زمناً قليلاً بقي له. (رؤيا 12/12) † الفصل الثاني * في موضوع حزن مريم العذراء الأول: الصادر عن نبؤة القديس* * سمعان الشيخ. التي سبق هو وأخبرها بها* أن كلاً من البشر يولد لكي يبكي في وادي الدموع هذا، وكلاً منهم يعيش ملتزماً بأن يحتمل الشدائد والأحزان التي تداهمه على نوعٍ ما كل يومٍ. ولكن ترى كم لكانت حياة الإنسان أشد مرارةً وأوفر حزناً، لو أمكنه أن يعرف حقيقة تلك الشرور والشدائد المقبلة العتيدة أن تلم به. فيقول سينكا الفيلسوف (في رسالته 98): أنه لتعيسٌ في الغاية هو ذاك الإنسان الذي يقدر أن يعلم بتأكيدٍ الشرور المزمعة أن تحيق به في أيام حياته الآتية: وحقاً أن الرب يصنع معنا رحمةً عظيمةً في أنه لا يظهر لنا ما هي الصلبان العتيدون نحن أن نحملها، حتى اذا كان يلزمنا أن نتألم بها، فلا يدركنا التوجع الا مرةً واحدةً حين حلول الشدة فقط. غير أن الله لم يستعمل هذه الملاحظة الرأوفة مع مريم البتول التي (لأنه عز وجل كان يريد أن يجعلها سلطانة الأوجاع، وأن تكون شبيهةً بأبنها في كل الأشياء) قد حصلت على معرفة الآلام التي كانت عتيدةً هي أن تتألم بها. وهكذا وجدت على الدوام مشاهدةً إياها أمام عينيها، ومتألمةً من دون أنقطاعٍ بملاحظتها العذابات كلها. التي كان مزمعاً أبنها الحبيب يسوع أن يحتملها ويموت بها على خشبة الصليب. على أن القديس سمعان الشيخ حينما أقتبل من هذه الأم الإلهية على ساعديه طفلها يسوع، سبق وأخبرها بالأضطهادات والمضادات العتيدة أن تلم به بقوله لها: ها هوذا هذا موضوعٌ لسقوط وقيام كثيرين في أسرائيل ولعلامة تخالفٍ. وأنه من هذا القبيل عتيدٌ أن يطعن قلبها بسيف الأحزان قائلاً: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ، لتظهر أفكارٌ من قلوب كثيرين: (لوقا ص2ع34).* فالبتول والدة الإله عينها أوحت للقديسة ماتيلده قائلةً لها:" أنها حالما سمعت من البار سمعان هذا التنبيه، قد أنقلبت فيها المسرات كلها الى الحزن والتوجع. لأنه، كما أوحى للقديسة تريزيا أيضاً: ولئن كانت هذه الأم الإلهية عارفةً حسناً من ذي قبل بالقربان الذي كان يلزمها أن تقدم به أبنها ذبيحةً لله أبيه. من أجل خلاص العالم. فمع ذلك قد عرفت من كلمات البار سمعان بأكثر إيضاحٍ. وبوجه الخصوص كيفية الآلام الشديدة، والميتة الكلية القساوة التي كانت تنتظر أبنها الحبيب. وفهمت جيداً كيف أن المقاومات والأضطهادات من كل ناحيةٍ كانت عتيدةً أن تقوم ضده، كما قد تم. لأنه تعالى قد أهين نظراً الى تعاليمه كأنه مجدفٌ، لأجل قوله عن نفسه أنه ابن الله، كما صرخ قيافا المنافق قائلاً: أنه قد جدف ما حاجتنا الى شهودٍ: وهكذا حكموا بأنه مستوجب الموت (متى ص26ع65) وقد أفترى على كرامته وأعتباره، لأنه قد كان شريف المولد من أصلٍ ملوكي. فأحتقر كفلاحٍ وقيل عنه: أليس هذا هو أبن النجار: (متى ص13ع55) وقد عومل كجاهل العلوم مع أنه هو الحكمة بالذات. وقيل عنه: كيف يحسن هذا الكتب ولم يتعلم: (يوحنا ص7ع15) وأهين كنبي كذاب، لأنهم غطوا وجهه ولطموه قائلين: تنبأ لنا من هو الذي لطمك: (لوقا ص22ع64) وقد عومل كمجنون اذ قالوا عنه: أن به شيطاناً وقد جن فما أستماعكم له: (يوحنا ص10ع20) وقد أحتسب كسكري وحنجراني وخليل الأشرار كما كتب: جاء أبن البشر يأكل ويشرب فقلتم هذا إنسانٌ أكولٌ شروب الخمر محب العشارين والخطأة: (لوقا ص7ع34) وقد قرف كسامري أراتيكي وكساحر بقولهم: أنه باركون الشياطين يخرج الشياطين: (متى ص9ع34) وكمعترى من الشيطان بقولهم له: ألسنا نقول حسناً أنك سامريٌ وبك شيطانٌ: (يوحنا ص8ع48) وبالأجمال قد عومل كرجلٍ شريرٍ مفضوح الصيت حتى أنه لم يكن لازماً للحكم عليه بالموت أن يقام عليه فحصٌ. كما قال اليهود لبيلاطس: أنه لولا يكون هذا فاعل رديء لما كنا أسلمناه إليك: (يوحنا ص18ع30) وقد قهرت نفسه من قبيل أنه توسل الى أبيه الأزلي بقوله: يا أبتاه أن كان يستطاع فلتعبر عني هذه الكأس الا أشربها: (متى ص26ع39) ولم يقبل الآب توسله هذا، لأنه أراد أن عدله الإلهي يستوفي ما يخصه، بل أهمله لمفاعيل الحزن والأكتئاب، ولتأثيرات الخوف والقلق. حتى أنه من شدة آلامه الباطنة وحزنه القلبي العظيم وجزعه قال: أن نفسي هي حزينةٌ حتى الموت: (متى ص26ع38) وبلغ به حده هذا التألم الباطن حتى أتصل الى أن عرق دماً. وأخيراً قد أضطهد وعذب في جسده كله عضواً فعضواً من جميع أعضاء جسمه المقدسة، لا سيما في رأسه ووجهه ويديه ورجليه. حتى أنه مات من شدة العذابات موت الخزي والعار على خشبة الصليب.* فداود الملك وهو فيما بين تنعمات المجد الملوكي كلها، والعظمات والكرامات التي بلغ إليها قد أستوعب حزناً وقلقاً. ولم يعد يجد راحةً ولا سلاماً ولا تعزيةً، عندما أخبره النبي ناتان بأن أبنه كان عتيداً أن يموت بقوله له: فالأبن الذي ولد لك موتاً يموت: (ملوك ثاني ص12ع14) ومن ثم أخذ يبكي ويصوم وينام على الأرض لربما أن الله يعفي له عن هذا الأبن. أما مريم البتول فبكل هدوءٍ وسلامٍ أقتبلت خبرية الميتة التي أبنها الحبيب كان مزمعاً أن يتكبدها، وبذاك الروح السلامي الهادئ عاشت محتملةً مرائر هذه الحكومة. ولكن أية آلامٍ باطنيةٍ شديدةٍ قد تعذبت بها جوارح قلبها على الدوام من هذا القبيل. عندما كانت تنظر بعينيها ذاك الأبن المحبوب في الغاية، وتسمع بأذنيها كلمات الحيوة التي كانت تخرج من فمه، وتلاحظ صفاته الجليلة وفضائله السامية وتصرفاته المملؤة قداسةً. فأب الآباء أبراهيم قد تكبد مرارة الحزن في مدة تلك الثلاثة الأيام. التي بها بعد أن أمر من الله بأن يذبح أبنه أسحاق قرباناً له تعالى كان سائراً به الى الجبل المكان المعين لهذه الذبيحة. ولكن أواه أن مريم قد تكبدت مرائر الحزن على أبنها لا مدة ثلاثة أيامٍ نظير أبراهيم، بل مدة ثلاثة وثلاثين سنةً. الا أني ماذا أقول نظير ابراهيم. والحال أن أوجاعها وآلامها قد كانت أعظم من حزنه بمقدار ما أن أبنها الإلهي هو موضوع الحب أكثر من أبن أبراهيم. فهذه الأم الإلهية عينها قد أوحت الى القديسة بريجيتا قائلةً: أنني حينما كنت عائشةً على الأرض، ما كنت أستمر مدة ساعةٍ واحدةٍ، بها لم يكن هذا الحزن والأوجاع الشديدة تطعن قلبي. لأني حينما كنت أنظر أبني، أم أحله من اللفائف وأرجع فأقمطه، أم أشاهد يديه ورجليه، فحينئذٍ كانت تمتلئ نفسي أوجاعاً كأنها جديدة، وتكرر في جوارحي رشق سهام الآلام. لأني كنت أتصور في عقلي بأي نوعٍ هو كان يلزمه أن يصلب: أما الأنبا روبارتوس، فاذ كان يتأمل في والدة الإله حاملةً على ذراعيها أبنها الحبيب مرضعةً إياه. فكان يقول عن لسانها كلمات نشيد الأنشاد وهي: اذ الملك في مضجعه النردين الذي لي أفاح نسيم طيبه. رباط مر حبيبي هو لي يستوطن فيما بين ثديي: (ص1ع12) ثم يجعلها أن تخاطب أبنها هكذا: آواه يا ولدي أنني أضمك الى صدري فيما بين ذراعي، لأنك محبوبٌ مني في الغاية القصوى. ولكن بمقدار ما أنت ولدي عزيزٌ على هذه الصورة، فبأكثر من ذلك أنت تضحى لدي كرباطٍ مرٍ، أي كحزمة المرائر والأوجاع كلها، عند تفكري في آلامك العتيدة: ويقول القديس برنردينوس: أن مريم البتول كانت عند مشاهدتها طفلها الإلهي تتأمل في أن قوة القديسين وبرجهم الحصين كان يلزمه أن يحصل منازعاً مدنفاً على الموت. وأن جمال الفردوس السماوي ونعيمه كان عتيداً أن ينظر لا جمال له ولا صورة، بل تشاهد صورته مهانةً. وأن سيد العالم ورب الكائنات كان مزمعاً أن يربط مقيداً كمجرمٍ. وأن خالق البرايا بأسرها كان عتيداً أن يلطم ويجلد. وأن قاضي القضاة وديان العالمين كان مزمعاً أن يحاكم ويقضى عليه بالموت. وأن مجد السماوات وزينتها كان عتيداً أن يحتقر ويهان. وأن سلطان السلاطين وملك الملوك كان مزمعاً أن يكلل بأكليلٍ من شوكٍ. وأن يعامل بالأستهزاء كأنه ملكً للسخرية.* ثم أن الأب أنجالغرافه يبرهن في أنه قد أوحى الى القديسة بريجيتا عينها، بأن العذراء المجيدة المملؤة حزناً اذ كانت تعلم جيداً كم كان عتيداً أبنها يسوع أن يحتمل في آلامه. فكل مرةٍ كانت هي تلبسه قميصه، كانت تفتكر بأنه يوماً ما كان مزمعاً أن ينزع عنه هذا القميص ليسمر هو على الصليب عارياً. وعند مشاهدتها يديه ورجليه المقدسة كانت تتصور في عقلها المسامير المعدة لثقب تلك اليدين والرجلين. ومن ثم قالت هذه الأم الإلهية للقديسة المذكورة: أنني في الأوقات المشار إليها كنت أذرف الدموع من عيني بغزارةٍ. وكان قلبي يستوعب من الأوجاع والأحزان الشديدة.* فالأنجيل المقدس يقول عن مخلصنا: أن يسوع كان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس: (لوقا ص3ع53) أي أن هذا الفتى الإلهي كان ينمو في الحكمة والنعمة عند الناس نظراً الى رأيهم به وظنهم فيه. وأما عند الله (حيث أنه كما يفسر ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله) أن أعماله كلها لكانت وجدت ذات أستحقاقٍ ينمو متزايداً. وذات ثمنٍ تتضاعف قيمته، لولا يكون منذ الأبتداء حصل مستوعباً من ملوء النعمة الكاملة، لعلة أتحاده الأقنومي الذي به تقنم ناسوته بأقنوم لاهوته. فاذاً أن كان يسوع وجد في أعين الناس يسمو أعتباره، وتنمو كرامته، ويتزايد حبه منهم حسب مشاهدتهم إياه. فكم بأعظم من ذلك كان ينمو أعتباره وحبه عند والدته المجيدة. ولكن آواه، أنه بمقدار ما كان يتكاثر حبها نحوه وأعتبارها إياه. قد كان ينمو أضعافاً حزنها وتوجعها. من حيث أنها كانت مزمعةً أن تفقده بميتةٍ مرعبةٍ من أشد العذابات. وبمقدار ما كان يقرب زمن تلك الآلام والموت، فبأكثر من ذلك كان سيف الحزن السابق الأيعاز عنه من سمعان الشيخ. يحوز طاعناً قلب هذه الأم المغرمة بحب أبنها. ويجدد فيها الأوجاع بأوفر مرارةٍ. حسبما أوحى ملاك الرب للقديسة بريجيتا قائلاً: أنه بحسبما كان يدنو زمان آلام يسوع المسيح مقترباً، فبحسبه كان يزداد وجع أمه العذراء مرارةً وأحزانها شدةً.* فأن كان اذاً يسوع الذي هو ملكنا وأمه الكلية القداسة. لم يرفضا أن يتألما حباً بنا مدة حياتهما كلها على الأرض، ويتكبدا توجعاً وتعذيباً هذه صفة مرارتهما. فليس بالصواب نحن نشكوا متمرمرين أن كنا نتكبد شدةً ما وقتيةً. فيوماً ما ظهر في الرؤيا فادينا يسوع المسيح للراهبة مادلينا التي من قانون القديس عبد الأحد، في الوقت الذي فيه هذه البارة كانت منذ زمنٍ مديدٍ متكبدةً آلام الشدة. وقد شجعها عز وجل على أن تستمر هي معه على الصليب محتملةً ذاك التوجع الذي كان يعذبها. فهذه الراهبة عند ذلك تشكت لديه تعالى قائلةً: يا سيدي أنت أحتملت الآلام على الصليب مدة ثلاثة ساعاتٍ فقط، وأما أنا فمنذ عدةٍ من السنين أذوق الوجع متألمةً بهذا الصليب: فحينئذٍ أجابها فادينا قائلاً: مهلاً يا جاهلة ماذا تقولين، فأنا منذ الدقيقة الأولى من الحبل بي قد تكبدت في قلبي بأتصالٍ الآلام، التي ألمت بها في جسدي حين موتي على خشبة الصليب: فاذاً عندما نحن أيضاً نحتمل شدةً ما ويتفق لنا أن نشكوا من جرائها. فلنتصور بعقولنا أن يسوع المسيح ووالدته الكلية القداسة يقولان لنا الكلمات المقدم ذكرها.* * نموذج* أن الأب روفيليونه اليسوعي كتب (في الرأس4من القسم 2من كتابه الملقب بباقة الورد) مخبراً عن أحد الشبان بأنه كان من عادته أن يزور بعبادةٍ يومياً إحدى أيقونات والدة الإله، التي كانت مصورةً تحت صفة أحزانها، مطعونةً في قلبها بسبعة سهامٍ. فليلةً ما هذا الشاب سقط بتعاسةٍ بفعل خطيئةٍ مميتة، ففي الصباح المقبل اذ مضى هو ليزور الأيقونة المشار إليها، فقد شاهد السهام في قلب العذراء المجيدة لا سبعةً فقط بل ثمانيةً، فحينما هو أنذهل من ذلك وكان يتأمل ليعرف السبب، واذا بصوتٍ يقول له، أن خطيئته التي أرتكبها هو في تلك الليلة هي التي سببت السهم الثامن لقلب والدة الإله. فمن ثم قد تخشع الشاب وندم متأسفاً على ذنبه. وحالاً ذهب الى منبر الذمة فأعترف بخطاياه. وهكذا بصلوات شفيعته الرحيمة أكتسب جديداً النعمة المفقودة منه بالأثم.* † صلاة † آواه يا أمي المباركة أنه لا سهمٌ واحدٌ فقط، بل سهامٌ كثيرةٌ بعدد كثرة خطاياي قد أضيفت الى قلبكِ على سبعة سهام أحزانكِ الأصلية. فليس لكِ أيتها السيدة البارة البريئة من كل ذنب. بل لي أنا الأثيم تحق الآلام والعذابات الواجبة لكثرة ذنوبي ومآثمي. ولكن من حيث أنكِ قد أردتِ أختيارياً أن تحتملي هذا المقدار من التألم لأجلي، فأستمدي لي بأستحقاقاتكِ توجعاً شديدا ًعلى خطاياي، وصبراً جميلاً به أحتمل شدائد هذه الحيوة ومصائبها، التي هي دائماً أخف جداً مما كنت أستحق أنا الذي مراتٍ عديدةً قد أستأهلت الهلاك في جهنم الى أبد الآبدية *آمين* † الفصل الثالث * في الموضوع الثاني لحزن مريم البتول. وهو هربها بطفلها * * الإلهي يسوع الى مدينة مصر* فكما أن الغزالة المرشوقة من الصياد بسهمٍ نافدٍ في جسمها. فالى أينما هربت في الجبال والبراري يوجد السهم المجروحة هي به صحبتها. فهكذا الأم الإلهية مريم العذراء بعد النبؤة التي تنبأ بها عيلها سمعان الشيخ، ومن قلبها رشقت بالسهم المحزن الذي هو سيف الآلام في قلبها. حسبما لاحظنا في الفصل السابق. فقد أصبحت معها على الدوام هذا السيف الجارح، بتفكرها أينما مضت بآلام أبنها الحبيب العتيدة. فالعلامة هايلغرينوس في تفسيره كلمات سفر النشيد وهي: أن رأسكِ كجبل الكرمل وشعر رأسكِ كبرفير الملك مربوط في ضفائره: (ص7ع5) يقول: أن شعر رأس مريم البتول هذا المربوط. أنما هو أفكارها وتصوراتها المتصلة بآلام أبنها يسوع التي كانت على الدوام تحضر بأزاء عينيها الدم (المعبر عنه بالبرفير الأحمر اللون) الذي يوماً ما كان عتيداً أن يجري من جراحاته تعالى: فمن ثم أن هذا الأبن الإلهي عينه قد كان لوالدته نظير السهم في قلبها الذي بمقدار ما كان ينمو فيه الحب نحوه. فبأكثر من ذلك كان يخرج بالوجع والحزن على كونها مزمعةً أن تفقده بميتةٍ شديدة العذابات. فلنأتِ الآن الى التأمل بسيف الحزن الثاني الذي جرح قلب هذه السيدة من قبل الأضطهاد الذي حركه ضد أبنها هيرودس الملك. ومن جرائه ألتزمت هي بالهرب به الى مصر.* فهيرودس عندما سمع أن المسيح المنتظر أتيانه الى العالم قد كان ولد، فأستحوذ عليه الخوف بحماقةٍ من أن هذا المسيح كان عتيداً أن يأخذ منه المملكة. فلهذا اذ يوبخ القديس فولجانسيوس حماقة هيرودس يقول نحوه هكذا: أن الملك الذي قد ولد في بيت لحم لم يأتِ ليترأس ويملك بواسطة الأسلحة والمعركات، بل أنه بنوع مذهلٍ عجيبٍ أتى ليخضع الكل له بواسطة موته عنهم. فاذاً هيرودس كان ينتظر رجوع ملوك الفرس المجوس القديسين إليه، ليفهم منهم أين ولد المسيح. وهكذا يمكنه بزعمه أن يبيد حياته، ولكن اذ خاب أمله منهم، أي لما رأى سخرية المجوس به غضب جداً وأمر بقتل كل صبيان بيت لحم وكل تخومها من أبن سنتين فما دون. فلأجل ذلك: ترءى ملاك الرب للقديس يوسف في الحلم قائلاً قم فخذ الصبي وأمه وأهرب الى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه: (متى ص2ع13) فحسب رأي العلامة جرسون يورد أن القديس يوسف حالما سمع من الملاك هذه الكلمات، أخبر بها مريم العذراء من دون توقفٍ. وهي قامت معه في تلك الليلة عينها آخذةً طفلها الحبيب على ذراعيها. وهربوا كافةً في الليلة نفسها. كما يبان من كلمات الأنجيل التابعة وهي: فقام يوسف وأخذ الصبي وأمه ليلاً وذهب الى مصر: (متى ص2ع14) فالطوباوي ألبارتوس الكبير يلاحظ كأن مريم حينئذٍ هتفت صارخةً: أواه يا ربي أهل أنه يلتزم اذاً بأن يهرب من البشر ذاك الذي أتى لخلاص البشر: ووقتئذٍ عرفت هذه السيدة أن نبؤة سمعان الشيخ قد أبتدأت أن تتحقق بالعملية نظراً الى أبنها أي قوله: ها هوذا هذا موضوعٌ لعلامة تخالف: لأنها رأت أنه حالما ولد أبنها قد تحرك التخالف والأضطهاد ضده وكان يطلب ليمات. فيقول القديس يوحنا فم الذهب: ترى كم كان أليماً الحزن والتوجع الذي ألم بقلب هذه الأم الإلهية، عندما سمعت التنبيه بألتزامها بالذهاب هي وأبنها الى المنفى القاسي، وذلك حينما قيل لها أهربي من عند أقربائكِ ومعارفكِ الى بلاد الغرباء ومن هيكل أورشليم الى معابد الأصنام والشياطين. فأية شدةٍ ومصيبةٍ أعظم من هذه، وهي أن طفلاً مولوداً منذ زمنٍ وجيز متعلقاً بعنق والدته. يلتزم بالهرب مع أمه نفسها الفقيرة المعوزة من كل شيءٍ.* ثم أن كل أحدٍ يمكنه بسهولةٍ أن يتصور بعقله كم تكبدت مريم العذراء من المشقات في سفرٍ هكذا عسرٍ، فمسافة الطريق من اليهودية الى مصر هي شاسعةٌ بالكفاية. لأن الخبيرين بها عموماً مع الرجل الشهير بيرادا يرتاءون بأن هذه المسافة هي أربعماية ميلاً. ولذلك يبان أن هذه العيلة المقدسة أستمرت نحو ثلاثين يوماً معانيةً هذا السفر. ثم أن الطريق كانت. حسبما يكتب عنها القديس بوناونتورا. وعرةً متعبةً مملؤةً من الصعوبات. غير مستعملة الا من القليلين. مجهولة المسلك ذات أحراشٍ في بعض أجزائها. مهملةً من الناس. وقد كان زمن هذا السفر في فصل الشتاء وبالتالي أشد صعوبةً. ولا بد من أن تكون صادفتهم الأمطار والبرد، وربما الثلج مع الأهوية، وتعكيس الطريق والوحل. ولم يكن وقتئذٍ عمر البتول المجيدة أكثر من خمس عشرة سنةً. فتاة لطيفة الجسم غير معتادة على اسفارٍ ومشقاتٍ وأتعابٍ وأضاماتٍ هذه صفتها. ولم تكن معها أمرأةٌ تخدمها أو تساعدها. كما يقول القديس بطرس الذهبي النطق: بأن هذه السيدة مع القديس يوسف قد صنعا هذا السفر خلواً من خادمٍ أو جاريةٍ بل هما كانا السيد والسيدة. والخادم والخادمة: فيا له من منظرٍ محزنٍ أن تشاهد هذه الفتاة البتول الغضة الجسم، مع طفلها الإلهي المولود منذ زمنٍ وجيزٍ، محمولاً على ذراعيها هاربةً به في القفر. فالقديس بوناونتورا يسأل كمستفهمٍ بقوله:" ماذا كانوا يأكلون في هذه المسافة، وأين كانوا يبيتون ليلاً، ومن هو الذي كان يأويهم". فمن المعلوم أنهما كانا يقتاتان، أما من الخبز اليابس الذي ربما أخذه زوادةً القديس يوسف. وأما من الخبز الذي كانا في الطريق يحصلانه من التسول. وأين كانا يبيتان مع الطفل الحبيب في سفرٍ هذه حاله (لا سيما في مسافة المايتين ميلاً في القفر القريب من مصر الخالي من البيوت ومن المنازل. كما يخبر الأنام المختبرون الحيقية) الا تحت الجو على الرمل، أو في ستر بعض الأشجار البرية مخضعين لأنفعالات الأهوية، وتحت خطر مجيء اللصوص عليهم. أم هجوم الوحوش المفترسة المتكاثرة في أراضي مصر. أواه أن من كان يشاهد هؤلاء الثلاثة الأشخاص الذين هم أعظم ما يوجد في العالم. فترى ماذا كان يعتدهم في تلك الحال سوى ثلاثة أشخاص شحادين تائهين مرذولين.* ثم أنه على رأي بروكاردوس وجانسانيوس، أن والدة الإله مع طفلها وخطيبها قد سكنت بعد وصولها الى بلاد مصر، في أرضٍ تدعى ماطوريا. ولئن كان القديس أنسلموس يبرهن على أنها قطنت في مدينة الشمس أيليوبولى. التي كانت تسمى قبلاً مانفي، والآن تدعى القاهرة. وهنا يلزم أن يصير التأمل في حال الفقر الكلي الذي به عاشت هذه العيلة المقدسة. مدة السبع السنوات التي أستمرت فيها هناك قاطنةً، كما يرتأي القديسان أنطونينوس وتوما اللاهوتي وغيرهما. فقد كانوا في تلك البلدة مجهولين من كل أحدٍ. لا مدخول لهم ولا عندهم مالٌ، خالين من الأقرباء والأنسباء هناك. وبالجهد كانوا يقدرون أن يقيتوا ذواتهم بما كانوا يكتسبونه بأتعاب أيديهم المضنكة بحالٍ فقريةٍ في الغاية. فقد كتب القديس باسيليوس الكبير قائلاً: أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن هذه العيلة المقدسة قد كانوا هناك يحصلون قوتهم الضروري بأعراقهم وكدهم وأتعابهم المتصلة: وقد أضاف الى ذلك العلامة لاندولفوس الساسوني قوله (الأمر المعزي للفقراء): أن البتول مريم كانت عائشةً هناك بفقرٍ كلي هذا حده. حتى أنه بعض الأحيان لم تكن توجد عندها كسرةٌ من الخبز. لتعطيها لأبنها يسوع حينما كان يطلبها منها مضطراً من شدة جوعه:* فلما مات هيرودس واذا بملاك الرب تراءى للقديس يوسف في الحلم بمصر قائلاً: قم فخذ الصبي وأمه وأذهب الى أرض أسرائيل. فقد مات طالبوا نفس الصبي: (متى ص2ع19) فالقديس بوناونتورا في تكلمه عن رجوع هذه العيلة من مصر الى اليهودية. كان يتأمل صعوباتٍ أكثر من سفرهم الأول. وأن أحزاناً وأتعاباً وأضاماتٍ أشد قد ألمت بالبتول المجيدة. وهي تكبدتها بمرارةٍ. على أن الطفل يسوع كان له حينئذٍ من العمر نحو سبع سنواتٍ. وفي هذا السن (يقول القديس المذكور) لأجل كبر جسمه لم يعد ساهلاً حمله على الذراع، ولأنه بعد حدث جداً في العمر فلم يكن يمكنه المشي في سفرٍ كذا مستطيل:* فلنتأمل اذاً في أن يسوع ومريم قد وجدا هكذا غربين جايلين في الأرض كهاربين متسولين. يعلمنا بأنه يلزمنا نحن أيضاً أن نعيش في العالم كغرباء وعابرين طريق. من دون أن تكون قلوبنا متعلقةً بمحبة خيرات هذه الأرض، وبما يقدمه لنا العالم لأنه سريعاً يلزمنا أن نترك ههنا كل شيءٍ وننطلق الى الأبدية. كما يقول الرسول الإلهي: أن ليس لنا ههنا مدينةً ثابتةً. لكننا نلتمس العتيدة: (عبرانيين ص13ع14) ويضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس قائلاً: أننا مسافرون غرباء، اليوم نشاهد ههنا وغداً ننتقل الى الأبدية: ثم أن التأمل المار ذكره يعلمنا أيضاً أن نعتنق الصلبان. لأنه لا يمكن أن يعيش أحدٌ في هذا العالم من دون صليبٍ. فلأجل هذه الغاية قد أختطفت بالروح الطوباوية فارونيكا التي من جيناسكو وهي أحدى راهبات قانون القديس أوغوسطينوس. لمرافقة هذه العيلة المقدسة في سفرهم الى مصر. فبعد نهاية هذا السفر قالت الأم الإلهية مريم لهذه البارة:" أرأيتِ يا أبنتي بكم من المشقات والأضامات والأتعاب بلغنا الى هذا البلد. فأعلمي الأن أنه ليس أحدٌ يفوز بنوال نعمةٍ ما من غير أن يتألم". فمن يريد اذاً أن يشعر بشدائد هذه الحياة وبمرائرها أقل أشعاراً، فعليه بأن يأخذ صحبته يسوع ومريم: قم فخذ الصبي وأمه: لأن من يحوي في قلبه هذا الأبن الإهي مع أمه فتعود لديه الآلام كلها خفيفةً بل حلوةً عزيزةً. فلنحببهما اذاً ولنعز الطوباوية مريم بحملنا داخل قلوبنا أبنها هذا الحبيب، الذي لم يزل حتى يومنا هذا مضطهداً من البشر بواسطة خطاياهم المتصلة.* * نموذج * أن البتول الكلية القداسة قد ظهرت يوماً ما للطوباوية كولاتا الراهبة، التي من قانون القديس فرنسيس مقدمةً أمامها صينية كان يوجد عليها الطفل يسوع مهشم الجسم أرباً أرباً. ثم قالت لها: هكذا تعامل الخطأة أبني على الدوام مجددين له الموت ولي الأوجاع، فصلي من أجلهم لكي يرجعوا إليه تعالى بالتوبة. ثم فلتضف الى ذلك الرؤيا الأخرى التي حصلت عليها الراهبة يونا المكرمة. التي هي أيضاً من قانون القديس فرنسيس. فهذه البارة اذ كانت يوماً ما آخذةً بالتأمل في حال الأضطهاد المحرك من هيرودس ضد الطفل يسوع. قد سمعت ضجةً وأضطراباً مزعجاً نظير هجوم جنودٍ كثيرين راكضين في أثر إنسانٍ ما بأسلحتهم. وبعد ذلك شاهدت طفلاً كلي الجمال هارباً من أيديهم عادم التنفس من شدة ركضه وخوفه. فأقبل نحوها قائلاً لها: يا يونا خاصتي ساعديني وخبيئيني عندكِ. أنا يسوع الناصري الهارب من أيدي الخطأة الذين يريدون أن يقتلوني مضطهدين إياي نظير هيرودس. فأنتِ خلصيني.* † صلاة † فاذاً بعد أن مات أبنكِ الحبيب يا مريم المجيدة بأيدي البشر الذين أضطهدوه من حين مولده الى ساعة موته، فالى الآن لم يكفوا عن أضطهادهم إياه بواسطة خطاياهم بأتصالٍ، كافرين بالجميل ومجددين لكِ الأحزان أيتها الأم المتألمة. أواه أن أحد هؤلاء هو أنا الشقي، فيا أمي الكلية الحلاوة أستمدي لي دموعاً غزيرةً لكي أبكي على عدم معروفي ونكراني الجميل لحدٍ كذا. ثم بأستحقاقات الآلام التي تكبدتيها في سفركِ الى مصر ساعديني بمعونتكِ في حال سفري الممارس مني الآن نحو الأبدية، حتى يمكنني أخيراً أن آتي الى السماء كي أحب يسوع مخلصي المضطهد، حباً دائماً * في بلدة الطوباويين آمين* † الفصل الرابع في الموضوع الثالث لحزن مريم البتول، وهو فقدانها أبنها الإلهي * في مدينة أورشليم. حينما كان له من العمر أثنتا عشرة سنةً* فقد كتب القديس يعقوب الرسول أن كمالنا يتوقف على فضيلة الصبر بقوله: يا أخوتي أحتسبوا كل فرحٍ اذا سقطتم في محنٍ متلونة. عالمين أن مختبر إيمانكم يفعل صبراً. والصبر فليكن له عملٌ كاملٌ، لتكونوا كاملين وتامين غير ناقصين في شيءٍ: (يعقوب جامعه ص1ع2) فمن حيث أن الله قد أعطانا مريم البتول نموذجاً للكمال. فلزم أنه يملأها من التألم ليمكننا أن نتأمل صبرها العظيم ونقتدي به. ففيما بين أعظم الأحزان والأوجاع التي تكبدتها هذه السيدة في مدة حياتها هو التألم الذي الآن نأخذ بالتكلم عنه. أي حينما أضاعت هي أبنها في هيكل أورشليم. فأمرٌ معلومٌ هو أن الإنسان الذي يولد من بطن أمه أعمى. فيشعر قليلاً بالغم على كونه فاقداً مشاهدة نور النهار. وأما ذاك الذي بعد أختباره مشاهدة النور قد فقد بصره، فهذا يتكبد بالحقيقة حزناً عظيماً على خسرانه إياه. فعلى هذه الصورة أن الأنفس التعيسة اللواتي هن كفيفات البصر روحياً من قبل وحل خيرات هذه الأرض، وقليلاً عرفن الله. فقليلاً أيضاً يحزنهن عدم وجودهن إياه. ولكن بضد ذلك أن من يكون أستنار ذهنه بالضياء السموي. وبأستحضاره أمام عينيه الخير الأعظم. فأواه كم يحصل عنده من الحزن والتألم عندما يرى ذاته معدوماً هذه المشاهدة الكلية اللذة. فلنتأمل الآن كم كان لدى مريم البتول قاسياً هذا السهم. أي سيفالحزن الثالث الذي جرح فؤادها، حينما فقدت يسوع في مدينة أورشليم مدة ثلاثة أيام. بعد أنها كانت أعتادت أن تشاهده دائماً. وتتمتع بلذة النظر إليه الشهي في الغاية.* فالقديس لوقا الإنجيلي يخبرنا في العدد الحادي والأربعين وما يتلوه من الأصحاح الثاني من بشارته عن هذا الحادث قائلاً: وكانت مريم ويوسف يمضيان في كل سنةٍ الى أورشليم في عيد الفصح. فلما تمت ليسوع أثنتا عشرة سنةً صعدا الى أورشليم كعادة العيد. فلما كملت الأيام ليعودوا تخلف عنهم يسوع الصبي في أورشليم. ولم يعلم يوسف وأمه. وكانا يظنان أنه مع السائرين في الطريق، فجاءا مسيرة يومٍ وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف، ولما لم يجداه رجعا الى أورشليم يطلبانه. فكان بعد ثلاثة أيامٍ وجداه في الهيكل جالساً في وسط العلماء يسمع منهم ويسألهم، وكان كل من يسمعه يبهت من فهمه وأجوبته. فلما أبصراه بهتا، فقالت له أمه يا أبني ما هذا الذي صنعت بنا هكذا، ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين. فلنتأمل اذاً في كم كان شديداً الحزن والتوجع اللذان أختبرت مفعولهما في ذاتها هذه الأم المكتئبة، في مدة تلك الثلاثة الأيام التي فيها كانت تجول في كل موضعٍ مفتشةً على أبنها الحبيب. هاتفةً مع عروسة النشيد: أرأيتم من أحبته نفسي: (نشيد ص3ع3) لأنها كانت تفحص عنه عند كل أحدٍ من دون أن تعلم عنه خبراً ما. أواه بكم من الحزن والندب والغم كانت حاصلةً هذه السيدة المتعوبة من الجري ههنا وهناك ومن الفحص والتفتيش على حبيبها ولم تجده. وبكم من التوجع الأعظم والأمر والأشد مما أحاق بروبيل بكر يعقوب، عندما رجع الى الجب ولم يرى فيه أخاه يوسف، ومن ثم خرق ثيابه ومضى الى أخوتهن قائلاً لهم: الصبي ليس هو في الجب، وأنا الى أين أذهب: (سفر التكوين ص37ع30) فكانت هي تندب ذاتها قائلةً: أن أبني يسوع هو فاقد ولا أعلم أين هو، ولا عدت أعرف ماذا أصنع لأجده. ولكن الى أين أذهب أنا من دون أن يكون معي كنزي: ولهذا كانت هي تبكي في مدة تلك الثلاثة الأيام مكررةً كلمات النبي والملك داود بقولها: صارت لي دموعي خبزاً النهار والليل اذ قيل لي كل يومٍ أين إلهيكِ: (مزمور 42ع3) ولهذا كتب بالصواب بالبارتوس بقوله: أن هذه الأم الحزينة لم تذق لذة الوسن في تلك الثلاث الليالي، ولم تعرف ما هو النوم، بل كانت دائماً تنوح باكيةً وتصلي لله متضرعةً في أن يجعلها أن تجد أبنها الحبيب المفقود منها: ومراتٍ مترادفةً كانت تكرر نحو هذا الأبن هتاف عروسة النشيد قائلةً: أخبرني يا من أحبته نفسي أين ترعى أين تضجع في وقت الظهيرة. لكيلا أطوف جايلةً وراء قطعان أصحابك: (نشيد ص1ع7) فخبرني يا أبني أين أنت حتى لا عدت أجول تائهةً في كل مكانٍ أطلبك من دون فائدةٍ:* ثم أنه وجد من قال أن هذا الحزن الذي تكبدته مريم العذراء ليس فقط يلزم أن يحصى في عدد أحزانها الشديدة التي هي ذاقت مرائرها في مدة حياتها. بل أيضاً ينبغي أن يعتبر أنه هو الحزن الأعظم والأمر من سائر أحزانها الأخرى. وهذا القول ليس هو خالياً من البراهين وهي: أولاً: أن هذه الأم الإلهية في أحزانها الأخرى كانت حاصلةً على يسوع رفيقاً لها. فأي نعم أنها تألمت عند سماعها من سمعان الشيخ في الهيكل نبؤته عن سيف الحزن المزمع أن يحوز في نفسها. وكذلك تألمت في هربها الى مصر. ولكن دائماً كان يسوع معها. وأما في هذا الحزن فكانت تتألم بعيدةً عن هذا الأبن الحبيب. غير عارفةٍ أين كان موجوداً. هاتفةً بدموعٍ: أن نور عيني لم يبقى معي: (مزمور 38ع10) أواه أن حبيبي يسوع نور مقلتي يعيش بعيداً مني ولا أعلم أين هو: فالمعلم أوريجانوس يقول: أنه لأجل شدة الحب الذي به كان قلب هذه الأم القديسة مغرماً بمحبة أبنها. قد تكبدت آلاماً عظيمةً في مدة فقدانها إياه. أمر وأشد وأعظم من الآلام التي تكبدها أحد الشهداء مهما كان حين أنفصال نفسه من جسده: فترى كم كانت تظهر لدى هذه البتول مستطيلةً مدة تلك الثلاثة الأيام. كأنها ثلاثة أجيال. مملؤةً من المرائر من دون أن يقدر أحدٌ أن يعزيها، لأنها كانت تهتف مع النبي أرميا قائلةً: لذلك أنا باكيةٌ وعيني تنبع المياه لأن المعزي أبتعد مني: (مراثي ص1ع16) وكذلك كانت تكرر كلمات طوبيا البار بقولها: من أين يكون لي الفرح وأنا قاعدة في الظلام وما أبصر ضوء السماء (طوبيا ص5ع11). ثانياً:أن البتول مريم كانت في حصولها بالأحزان الأخرى عارفةً أسبابها وغاياتها. أي عمل أفتداء الجنس البشري، ومراسيم المشيئة الإلهية. وأما في هذا الحادث فلم تكن تعلم سبب فقدانها أبنها وأبتعاده عنها. فيقول المعلم لاسبارجيوس، أن هذه الأم المحزونة كانت حينئذٍ تتوجع بمشادهتها أن يسوع كان منفصلاً عنها بعيدا، لأجل أن فضيلة أتضاعها العميق كان يجعلها أن تظن ذاتها غير مستحقةٍ أن توجد بعد قريبةً من أبنها لكي تخدمه في هذه الأرض، وتهتم في حفظ كنزٍ بهذا المقدار فائق على كل ثمنٍ". وربما كانت تفتكر في قلبها قائلةً باطناً. من يعلم أن ذلك حل بي من قبيل أني لم أكن لحد الآن خدمته تعالى حسناً وبالنوع المتوجب عليَّ. أو ربما أنه أهملني تاركاً إياي لأجل تكاسلٍ ما صدر مني في خدمته. فالمعلم أوريجانوس كتب عنهما أي عن مريم ويوسف: أنهما طلباه لخوفهما من أنه يكون اهملهما: فأمرٌ حقيقي هو أنه لا يوجد للنفس المحبة لله تألمٌ أعظم، من الخوف الذي يشتملها من أن تكون أغاظت الله. وهذا السبب الذي من أجله مريم لم تشك في حزنٍ ما من أحزانها سوى في هذا الحزن الذي به عاتبت أبنها الحبيب بعذوبةٍ بعد أن وجدته قائلةً: يا أبني ما هذا الذي صنعت بنا هكذا. ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين: (لوقا ص2ع48) فبهذه الكلمات لم تقصد هي أن توبخ يسوع، كما جدف بعص الأراتقة، بل أرادت هذا الشيء فقط وهو أن تبين له التألم الذي هي تكبدته في ذاتها من قبل أبتعاده عنها، لشدة الحب الذي هي كانت تحبه به. ولذلك يقول الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن كلماتها هذه لم تكن ذات تأنيبٍ وتوبيخٍ بل ذات معاتبةٍ ناجمةٍ عن عظم الحب:* وبالأجمال أن سيف هذا الحزن قد كان جارحاً مؤلماً لقلب البتول المجيدة بمقدارٍ كذا عظيمٍ. حتى أن الطوباوية بانافانوتا اذ كانت يوماً ما متشوقةً لأن ترافق هذه الأم المحزونة مشتركةً بحزنها هذا الثالث. وملتمسةً بتضرعاتٍ أن تنال منها هذه النعمة. فعندما فازت هي بأن تظهر لها والدة الإله جملةً مع طفلها الإلهي الفائق في الجمال. وكانت هي أي بانافانوتا متمتعةً بالنظر الى هذا الطفل الكلي جماله فعلى الفور غاب عنها وفقدت النظر إليه. فمن ثم شعرت هي بحزنٍ هكذا فعالٍ حتى أنها ألتجأت الى الأم الإلهية متوسلةً بزفراتٍ وافرةٍ بالا تدعها أن تموت من شدة التألم. فالبتول القديسة ظهرت لها ثانيةً بعد ثلاثة أيامٍ وقالت لها: أعلمي يا أبنتي أن حزنكِ وتوجع قلبكِ هذا لم يكن سوى شيءٍ جزئيٍ جداً بالنسبة الى ما تألمت أنا به حينما ضاع مني أبني.* فتوجع مريم العذراء هذا يلزم أن يستخدم بالوجه الأول نموذج شجاعةً وتقويةٍ لجميع الأنفس الحاصلة في حال اليبس الروحي، عادماتٍ تلك التعزية واللذة التي كن وقتاً ما تمتعن بها بعذوبة حضور الرب معهن. فأي نعم أن هؤلاء الأنام يبكون على فقدهم تعزيةً هذه صفتها. ولكن بكاهم يكون بسلام قلبٍ وبهدوء ضميرٍ، كما كانت تبكي مريم البتول لبعد أبنها عنها. وعلى هذه الصورة ينبغي لهم أن يتشجعوا ولا يخافوا من أنهم بذلك يكونون فقدوا النعمة الإلهية. على أن الرب قد أوحى للقديسة تريزيا قائلاً: أنه لا يمكن لأحدٍ أن يمضي هالكاً من دون أن يعرف علة هلاكه. ولا يدخل على أحدٍ الغش أو الخداع ما لم يرد هو أن يغش أو يخدع: فاذا أتفق أن الرب يغيب من أمام عيني أحدى الأنفس التي تحبه تعالى، فليس لأجل ذلك يكون هو عز وجل أبتعد عن قلبها، اذ أنه جلت حكمته يختفي بعض الأحيان عن هذه النفس، لكي تفتش هي عليه بأوفر نشاطٍ وبأشد حرارةٍ في الحب. لأن من يريد أن يجد يسوع فيلزمه أن يطلبه بأجتهادٍ. ولكن لا فيما بين تنعمات العالم ومسراته بل فيما بين الصلبان والأماتات، نظير ما طلبته مريم البتول مفتشةً عليه. كما قالت له: ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين: فعلى هذه الصورة يلزمنا أن نطلب يسوع. كما كتب المعلم أوريجانوس.* وما عدا ذلك أنه يلزمنا أن لا نسعى في طلب خيرٍ آخر في هذا العالم خارجاً عن يسوع. على أن أيوب البار لم يكن تعيساً حينما فقد في هذه الأرض كل ما كان له، من المال، والموجودات، والأولاد، والكرامات، وصحة الجسم. حتى أنه أتصل الى أن ينحدر عن كرسيه الى مزبلةٍ جالساً تحت الجو. ولكن من حيث أنه كان لم يزل حاصلاً على الله معه. فكان هو في تلك الحال عينها سعيداً. ولهذا اذ يتكلم عنه القديس أوغوسطينوس فيقول: أن أيوب قد خسر ما قد كان الله أعطاه إياه، ولكنه في الوقت نفسه كان حاصلاً على الله عينه معه: غير أنهن تعيساتٌ بالحقيقة وشقياتٌ تلك الأنفس اللواتي خسرن الله بالذات، فأن كانت العذراء المجيدة قد بكت مدة ثلاثة أيامٍ على أبتعاد يسوع عنها، فبكم من الأزمنة المستطيلة يلزم الخطأة أن يبكوا على خسرانهم النعمة الإلهية. وعنهم قال الله: لا أنتم شعبي ولا أنا لكم: (هوشع ص1ع9) لأن الأثيم يفصل ذاته بالخطيئة عن الله. كقوله تعالى: أن أثامكم فرقت بينكم وبين إلهكم وخطاياكم أخفت وجهه عنكم لكيلا يسمع: (أشعيا ص59ع2) ومن هذا القبيل يصدر أنهم أي الخطأة اذا كانوا ممتلكين خيرات الأرض كلها، في الوقت الذي هم فيه فاقدون الله، وفي عينه تضحى لديهم الأشياء بأسرها على الأرض أيضاً دخاناً وعذاباتٍ، كما أعترف بذلك سليمان الحكيم بقوله: أنني عرفت في جميع الصنائع المصنوعة تحت الشمس، فاذا هي كلها باطلةٌ وعناية الروح: (جامعة ص1ع14): الا أن المصيبة العظمى لذوي الأنفس العميى. يقول القديس أوغوسطينوس: هي أنهم اذا فقدوا بقرةً ما، فأنهم يسعون في طلبها غير متغافلين عن التفتيش عليها. وأن ضلت لهم غنمةٌ ما فلا يتركون من جهدهم جهداً في الفحص عنها ليجدوها. واذا ضاع لهم بهيمةً فلا تحصل لهم راحةً ألم يصادفوها. ولكنهم حينما يخسرون الخير الأعظم الذي هو الله فيستمرون آكلين شاربين مرتاحين منشرحين: وهكذا لا يفتحون أعينهم الا في جهنم.* * نموذج * أنه يوجد مدوناً في الرسائل السنوية المختصة بالرهبنة اليسوعية عن شابٍ ما من بلاد الهند هذا الحادث. وهو أنه اذ عزم هذا الشاب على أرتكاب خطيئة مميتة، وبالعزم المذكور أخذ بالخروج من مكان سكناه، فسمع صوتاً يقول له: قف ثابتاً حيث أنت: واذ ألتفت الى ورائه قد شاهد أيقونة والدة الإله المحزونة التي كانت هناك بتمثال مجسم. واذا بها أخرجت من قلبها أحد السبعة حراب. وقالت له هكذا: خذ بيدك عاجلاً مني هذه الحربة. وأطعن بها قلبي. أحرى من أنك تجرح قلب أبني بأرتكابك هذه الخطيئة: فحالما سمع الشاب هذه الكلمات أنطرح على الأرض باكياً بشهيقٍ نادماً بتوجعٍ شديدٍ طالباً من الله ومن البتول القديسة غفران ذنبه. وقد نال ذلك.* † صلاة † أيتها العذراء المباركة لماذا تحزنين بهذا المقدار على ضيعان أبنكِ وتطلبينه بتوجعٍ هكذا شديدٍ، أفهل لأنكِ لم تكوني تعلمين أين كان موجوداً،كلا، بل كنتِ تشعرين بأنه لم يزل كائناً في قلبكِ. أما تعرفين أنه كان يرعى فيما بين السوسن والزنبق. والحال أنتِ قلتِ: أن حبيبي لي وأنا له. الذي يرعى السوسن: (نشيد ص2ع16) فأفكاركِ وعواطفكِ هذه كلها هي متواضعةٌ طاهرةٌ نقيةٌ مقدسةٌ. وهي زهور السوسن والزنبق التي تستدعي عروسكِ الإلهي ليسكن فيكِ. أواه يا مريم المجيدة أنتِ تطلبين بكل رغبةٍ أن تجدي يسوع الذي لا تحبين أحداً غيره. فأتركيني أن أطلبه أنا وغيري من الخطأة الكثير عددهم الذين لا يحبونه تعالى. وبواسطة أغاظتهم إياه قد فقدوه، فيا أمي المحبوبة جداً أن كان أبنكِ لحد الآن، لأجل ذنبي الخصوصي لم يوجد بعد في نفسي، فأنتِ أجعليني أن أجده. فأنا أعلم جيداً أنه عز وجل يوجد عند من يطلبه، لأنه مكتوبٌ: أن الرب هو طيبٌ للمتوكلين عليه للنفس التي تطلبه: (مراثي أرميا ص3ع25) ولكن أنتِ أجعليني أن أطلبه بالنوع الذي به يلزمني أن أطلبه، لأنكِ أنتِ هي الباب الذي بواسطته الجميع يجدون يسوع. فاذاً بكِ أرجو أن أجده أنا أيضاً من دون أن أفقده مرةً أخرى آمين.* † الفصل الخامس في الموضوع الرابع المختص بحزن والدة الإله، وهو مقابلتها أبنها * ماضياً ليموت مصلوباً على جبل الجلجلة* أن القديس برنردينوس يقول:" أنه لكي يمكن أن يستحضر موضوع الحزن العظيم الذي شعرت به مريم البتول حين فقدانها أبنها الحبيب بالموت، فيلزم أن يصير التأمل في شدة الحب الذي كان قلب هذه الأم العذراء مغرماً به نحو أبنها". فالأمهات كلهن يشعرن بالعذابات التي يتألم بها بنوهن كأنها عذاباتهن أنفسها. ولذلك حينما تضرعت الأمرأة الكنعانية الى مخلصنا بأن ينقذ أبنتها المعذبة من الشيطان قالت له: أرحمني يا رب يا أبن داود فأن أبنتي يعذبها الشيطان: (متى ص15ع22) ولم تقل له أرحم أبنتي. ولكن ترى أية أمٍ أحبت أبناً لها بمقدار ما أحبت مريم أبنها يسوع، فهو تعالى كان ولدها الوحيد، وهي ربته بأتعابٍ وأنصابٍ ومشقاتٍ فائقة الوصف. وهو أبنٌ موضوعٌ للحب الكلي وشديد الحب نحوها. وفي الوقت الذي فيه هو أبنها ففيه عينه هو إلهها. الذي اذ كان أنما جاء الى الأرض ليشعل لهيب نار الحب المقدس. كما أعلن ذلك هو عينه بقوله: أتيت لألقي ناراً على الأرض ولا أريد الا أضطرامها: (لوقا ص12ع49) فترى كم كان لهيب هذه النار التي أضرمها بشدةٍ عظيمةٍ في قلب والدته النقي الفارغ من كل أنعطاف نحو الأشياء الأرضية. فالبتول المجيدة عينها قالت في الوحي للقديسة بريجيتا:" أن قلبي وقلب أبني بالحب كانا واحداً. فالحريق الذي أضطرم في لب هذه العذراء المباركة كان مؤلفاً من موضوعات حبها نحوه تعالى بحسب كونها له عبدةً وأماً، وبحسب كونه لها أبناً وإلهاً. وبكلٍ من هذه الموضوعات كان قلبها يلتهب حباً به. الا أن هذا الحريق قد أستحال فيها حين آلام أبنها الى بحرٍ زاخر متموجٍ بالأحزان والأوجاع الغير المدركة. ومن ثم كتب القديس برنردينوس قائلاً:" أن أوجاع العالم بأسره وأحزانه كلها، اذا أجتمعت معاً، فلا يمكنها أن تصور في ذاتها حقيقة الحزن والوجع الذي تكبدته العذراء المجيدة". وهذا هو أمرٌ صادقٌ، لأنه كما قال القديس لورانسوس يوستينياني: بمقدار عظمة الأنعطاف والحب الذي به تعلق قلب هذه الأم الإلهية بمحبة هذا الإبن فبأكثر من ذلك تألمت هي متوجعةً عند مشاهدتها إياه متألماً، خاصةً حينما صادفته حاملاً صليبه مجذوباً الى جبل الجلجلة ليمات بموجب الحكومة المبرزة ضده: وهذا هو سيف الحزن الرابع المختص الفصل الحاضر بالتأمل فيه.* فقد أوحت هذه البتول المجيدة للقديسة بريجيتا بأنه حينما كان أقترب زمن آلام الرب، لم تكن عيناها على نوعٍ ما تنشفان من الدموع المتصلة، بتذكرها في أنه قريباً كان يلزمها أن تفقد أبنها الحبيب من هذه الأرض، وأنه من قبل الخوف الذي كان يشتملها عند تفكرها بالمشهد المزمع حدوثه بموت يسوع، كان العرق البار يقطر من أعضاء جسمها كافةً. فهوذا أخيراً قد بلغ الزمن المرسوم لهذا العمل العظيم، وجاء يسوع عند والدته لكي يودعها ويمضي الى الموت. فالقديس بوناونتورا اذ كان يتأمل فيما صنعته حينئذٍ العذراء في تلك الليلة، قد خاطبها هكذا قائلاً:" أنكِ لقد أجزتِ تلك الليلة من دون رقادٍ بالكلية، وفي الوقت الذي فيه الآخرون كانوا نائمين فأنتِ أستمريتِ ساهرةً". فلما صار الصباح كان تلاميذ الرب الواحد بعد الآخر يأتون عند هذه الأم الإلهية المحزونة، وكلٌ منهم كان يخبر عما يكون شاهده أو سمع به. ولكن من المعلوم أن جميع هذه الأخبار كانت محزنةً. ووقتئذٍ قد كملت عن هذه السيدة حقيقة كلمات أرميا النبي بقوله: باكيةٌ بكت في الليل ودموعها على خديها ليس من يعزيها من جميع أحبائها: (مراثي ص1ع2) فاذاً البعص كانوا يأتون بأخبار الأهانات التي عومل بها يسوع في دار قيافا، وغيرهم بخبرية الأحتقار الذي أحتقره به هيرودس مع جنده. ثم جاء أخيراً القديس يوحنا الرسول (لأني أترك جانباً باقي الملاحظات لكي أصل من دون أسهابٍ الى الموضوع المقصود) وأعلمها بأن بيلاطس الفاقد كل عدالةٍ قد حكم على يسوع ظلماً بأن يموت مصلوباً وأنما قلت عن بيلاطس فاقد كل عدالةٍ أو بالحري كلي الظلم، لأن القديس لاون الكبير يقول عنه:" أنه أبرز الحكومة بالموت ضده وهو نفسه، أي بيلاطس أعترف مشهراً براءته، وأعلن أنه لم يجد فيه علةً تستوجب الموت". فاذاً قال لهذه السيدة القديس يوحنا الحبيب: أيتها الأم المملؤة أحزاناً أن الحكومة بالموت قد أعطيت ضد أبنكِ، وهوذا الجند قد حملوه صليبه على عاتقه وخرجوا به من دار الولاية ذاهبين نحو جبل الجلجلة ليصلبوه هناك. (كما أن هذا الإنجيلي دون ذلك هو نفسه فيما بعد بقوله: فحينئذٍ بيلاطس أسلمه إليهم ليصلبوه، فأخذوا يسوع وخرجوا به وهو حامل صليبه وجاءوا به الى موضع يسمى الجمجمة وبالعبرانية يسمى الجلجلة: (يوحنا ص19ع16) فأن كنتِ اذاً تريدين أن تنظريه وتودعيه المرة الأخيرة، تعالي لكي نذهب الى أحدى الطرقات المزمع أن يجتاز هو منها عابراً.* فخرجت مريم البتول صحبة القديس يوحنا من البيت الذي كانت مقيمةً فيه، واذ شاهدت في الطريق نقط الدم الواضحة قد أستدلت منها على أن الجند كانوا أجتازوا بيسوع من هناك الى ما قدام. فهكذا أوحت هذه السيدة للقديسة بريجيتا قائلةً:" أنني قد عرفت أن أبني قد كان مر من تلك الطريق وجاز عند نظري أثره من قبل أنصباغ الطريق بدمه". فالقديس بوناونتورا يقول: أن الأم الإلهية الموعبة حزناً، عند علمها أن يسوع كان أجتاز من تلك الطريق، فهي أسرعت من طريقٍ أخرى قليلة المسافة وسبقت ووقفت عند رأس المسلك لملاقاة أبنها الحبيب المتألم المزمع أن يمر من هناك". فيا لها من والدةٍ متوجعةٍ في لجة الأحزان، ويا له من ابنٍ غارقٍ في بحر الآلام: يقول القديس برنردوس: ففي مدة وقوفها هناك ترى كم سمعت من اليهود الذين كانوا يعرفونها، من التكلم بالأهانة والأفتراء ضد أبنها الحبيب، وربما ضدها هي أيضاً. ولكن أواه كم كان سهم الحزن جارحاً قلب هذه الأم عند مشاهدتها خدام الشريعة مارين من هناك قبل يسوع، بالمسامير والمطارق والحبال وسائر الأشياء المقتضية لأتمام حكومة الموت. وكيف صارت حالها حينما سمعت المنادي أمام أبنها الحبيب يعلن مشهراً كالعادة مضمون الحكومة المبرزة بالموت ضد يسوع. ولكن بعد أن أجتازوا بآلات الصلب ومر المنادي وخدام الشريعة هوذا أمام عيني هذه الأم المحزونة مجتازاً ذاك الشاب المكتسى جسمه من الرأس الى القدمين من الجراحات القاطرة الدماء من كل ناحيةٍ من جسده، وعلى هامته حزمةٌ من الشوك. وصليب ذو خشبتين محمولٌ على منكبيه. فنظرت إليه، أواه يا له من منظرٍ محزنٍ يفتت الأكباد، وكأنها لم تعرفه. كما قال عنه أشعيا النبي: ورأيناه ولم يكن منظرٌ ولا جمالٌ مهاناً وآخر الرجال، رجل الأوجاع مجرباً بالأمراض وكان وجهه مكتوماً ومرذولاً... ونحن أحتسبناه كأبرص ومضروباً من الله: (ص53ع2) لأن الجراحات الموجودة في جسمه. والدماء المسفوكة منها قد صيرته كأبرص مضروبٍ بالقروح. الا أن الحب أخيراً قد حقق لهذه الأم أن ذاك الإنسان هو يسوع أبنها بعينه. فوأسفاه واحسرتاه كم كان شديداً سهم الحزن الذي طعن قلبها فيما بين الحب والخوف معاً (كما يقول القديس بطرس دالكانتارا في تأملاته) لأن الحب من الجهة الواحدة كان يجتذبها لأن تتفرس في وجه حبيبها يسوع لتراه جيداً، والخوف من الجهة الثانية كان يصدها عن مشاهدة منظرٍ كافٍ لأن يميتها من شدة الحزن. ولكن أخيراً قد نزع يسوع عن عينيه الدم الجامد الذي كان يمنع نظره (كما أوحى للقديسة بريجيتا) وشاهد والدته جيداً وهي شاهدته. أواه يا لها من مشاهدةٍ قد جرحت بسهامها هاتين النفسين الجميلتين. فمرغريتا أبنه توما موروس عندما رأت أباها ماراً في الطريق مجذوباً الى القتل، فلم تقدر أن تقول له سوى هاتين الكلمتين: يا أبي يا أبي: ثم سقطت في الأرض غائبةً عن حواسها كمائتةٍ، أما مريم فحينما شاهدت أبنها في تلك الحال ذاهباً الى جبل الجلجلة ليصلب فلم تغب عن حواسها، لأنه لم يكن لائقاً بهذه الأم الإلهية أن تفقد الأنتباه والمعرفة. حسبما قال الأب سوارس، ولا ماتت من شدة الحزن، لأن الله كان يحفظها لأحتمال آلامٍ أمر، ولكن ولئن لم تمت فمع ذلك قد ألم بها حزنٌ كافٍ لأن يميتها ألف ميتةٍ.* فيقول القديس أنسلموس أن مريم حينئذٍ أقتربت من يسوع مريدةً أن تعانقه، الا أن خدام الشريعة صدوها عن ذلك بأهانةٍ وعنفٍ وأغتصبوا يسوع على المشي مجتازين به، ووقتئذٍ هذه الأم أتبعته لاحقةً. أواه أيتها البتول القديسة الى أين تذهبين، أهل الى جبل الجلجلة. ولكن أيمكنكِ أن تثقي بذاتكِ في أنكِ تقدرين أن تشاهدي معلقاً على الصليب ذاك الذي هو حياتكِ. كما قيل في تنبيه الأشتراع: وتكون حياتك كالمعلقة قدامك: (ص28ع66) فالقديس لورانسوس يوستينياني في تأملاته يخاطب هذه السيدة كأن أبنها يسوع يقول لها حينئذٍ هكذا: يا أمي لماذا تقتربين مني والى اين تريدين أن تذهبي، فأن كنتِ تأتين برفقتي الى حيث أنا ماضٍ فتتعذبين بشدة عذاباتي عينها. وأنا أتألم بآلامكِ نفسها. ولكن ولئن كانت هي عارفةً أن ذهابها معه ومشاهدتها إياه يموت على الصليب كانت مزمعةً أن تسبب لها آلاماً فائقة الوصف. فمع ذلك لم ترد أن تفارق موضوع حبها الوحيد، بل أن أبنها كان يسير أمامها وهي كانت تتبعه لتصلب معه. كما يقول عنها غوليالموس: أن مريم حملت صليبها وأتبعت يسوع لتصلب هي أيضاً معه. فقد كتب القديس يوحنا فم الذهب قائلاً: أننا نوجد متحننين على الحيوانات أيضاً، وهذا هو شيء حقيقي، لأننا اذا رأينا مثلاً أسدةً تجري وراء شبلها المأخوذ من الصيادين للقتل، فلئن كانت هي وحشاً مفترساً مبغوضاً منا فمع ذلك مشاهدتنا إياها متألمةً في تلك الحال تحركنا الى التوجع من أجلها، أفما نحزن اذاً متوجعين عند تأملنا والدة الإله النعجة الطاهرة تابعةً أبنها الحمل البريء من العيب مجذوباً للذبح: فلنشاركها بأحزانها اذاً متألمين معها، ولنجتهد في أن نتبع أبنها وإياها لاحقينهما نحن أيضاً حاملين بصبر ذاك الصليب الذي يفتقد الرب كلاً منا به. فالقديس يوحنا فم الذهب يسأل كمستفهمٍ: لماذا سيدنا يسوع المسيح في جميع آلامه الأخرى أراد أن يكون وحده من دون أن يسعفه أحدٌ بشيء، وأما في حمله الصليب شاء أن سمعان القانوي يعينه في حمله: وهو نفسه يجيب عن سؤاله قائلاً: أنما ذلك هو من كون صليب المسيح وحده لا يفيدك يا هذا من دون أن تحمل أنت أيضاً صليبك: فاذاً لا يكفينا للخلاص صليب يسوع أن كنا نحن لا نحمل الى ساعة موتنا الصلبان التي يريد الله أن نحملها بحسن تسليم الإرادة.* * نموذج * أن مخلصنا ظهر مرةً ما للبارة ديوميرا الراهبة التي من فيورنسا وقال لها:" أفتكري بي وحبيني، وأنا أفتكر بكِ وأحبكِ: وفي الوقت ذاته قدم تعالى لهذه الراهبة باقةً من الزهور جملةً مع صليبٍ، مشيراً بذلك الى أن تعزيات القديسين في هذا العالم، ينبغي أن ترافق على الدوام بالصليب، الذي من شأنه أن يتحد الأنفس بالله". ثم أن الطوباوي أيرونيموس أميليانوس الذي كان قبلاً جندياً مملؤاً من الرذائل. فهذا اذ وقع في أيدي الأعداء وقيد منهم أسيراً في أحد الأبراج، فتحرك من قبل هذه التجربة مستنيراً باطناً بالضياء السماوي الى أن يتوب عن شروره ويصلح سيرته، ومن ثم أخذ بالتضرعات الى والدة الإله الكلية القداسة في أن تعينه. وحينئذٍ بشفاعات هذه السيدة قد أبتدأ بالسير في طريق القداسة، حتى أنه أستحق فيما بعد أن يكشف له الله بالرؤيا المكان السعيد المهيئ له في السماء... وصار بعد ذلك مؤسساً للرهبنة الصوماسكية. وأخيراً رقد بالرب بميتةٍ مقدسةٍ. ومنذ مدةٍ ليست مستطيلة قد أحصي قانونياً من الكنيسة المقدسة في عدد الطوباويين.* † صلاة † يا أمي المحزونة أنني أتوسل إليكِ بحق التألم الشديد الذي تكبدتيه عند مشاهدتكِ أبنكِ يسوع الحبيب مساقاٌ الى الموت، بأن تستمدي لي من الله نعمةً، وهي أن أحتمل أنا أيضاً بتسليم الأرادة وبصبرٍ تام، كل الصلبان التي يرسلها لي الباري تعالى. فالطوبى لي أن كنت أنا كذلك أحمل صليبي وأرافقكِ حتى الموت، فأنتِ البارة وأبنكِ المنزه عن كل زلةٍ قد ارتضيتما بأن تحملا صليباً بهذا المقدار ثقيلاً، فهل أني أنا الأثيم الذي مراتٍ عديدةً أستحقيت الجحيم أرفض أن أحمل صليبي. فمنكِ أرجو أيتها البتول البريئة من العيب أن تعينيني لكي أحتمل بصبرٍ الصلبان التي يرسلها لي الله آمين.* † الفصل السادس * في الموضوع الخامس لحزن مريم البتول. وهو موت أبنها * * الحبيب يسوع المسيح أمام عينيها * فها هوذا نحن الآن نلاحظ بأنذهالٍ نوعاً جديداً من الأستشهاد، وهو أن أماً تلتزم بأن تشاهد بأزاء عينيها يموت بحكمٍ ظالم فيما بين العذابات البربرية الشديدة القساوة أبنها البار المحبوب منها فوق كل شيءٍ. فعن هذا الأستشهاد لا يلزم أن نقول شيئاً آخر سوى الكلمات التي دونها عنه القديس يوحنا الأنجيلي نفسه قائلاً: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: (19ع25) فأنظر يا هذا. البتول المجيدة واقفةً بالقرب من صليب أبنها الحبيب ملاحظةً إياه في حال النزاع مدنفاً على الموت، وبعد ذلك أفتكر أن كان يوجد وجعٌ مثل وجعها. ولهذا فلنتصور ذواتنا حاضرين في جبل الجلجلة، ولنأخذ الآن بالتأمل في سيف الحزن الخامس الذي طعن قلب هذه الأم المحزونة، وهو مشاهدتها موت أبنها يسوع على الصليب.* فحينما بلغ فادينا يسوع (في الحال التي لاحظناه بها في الفصل السابق) الى جبل الجلجلة، فالجلادون نزعوا عنه ثيابه، وسمروه عارياً على الصليب بيديه ورجليه المقدسة بمسامير لا رأس لها. أي مقطوع حدها الرفيع، كما يقول القديس برنردوس. وذلك لكي تعذبه أشد عذاباً بأنغراسها الأغتصابي في يديه ورجليه. وبهد أن رفعوا الصليب ونصبوه قائماً في الأرض، قد تركوا يسوع معلقاً عليه في تلك الحال ليموت هكذا. فالصالبون قد أهملوه على هذه الصورة وأما والدته البتول فلم تفارقه، بل أنها أقتربت أكثر قرباً من صليبه لتحضر موته. كما أخبرت هي نفسها للقديسة بريجيتا في الوحي قائلةً: أنني ما فارقت أبني يسوع، بل كنت واقفةً بالقرب من صليبه: الا أن القديس بوناونتورا يخاطب هذه السيدة بقوله: ماذا كان يفيدكِ يا سيدتي ذهابكِ الى جبل الجلجلة لتموتي أمام أبنكِ. فقد كان يلزم أن يمنعكِ عن المضي الى هناك الخجل، لأن العار والخزي الملمين بهذا الأبن فهما ملتحقان بكِ أنتِ أيضاً اذ أنكِ أمه. أو قلما يكون تصوركِ أثماً هكذا شنيعاً نفاقياً، وهو أن إلهاً متجسداً يصلب بأيدي خليقته نفسها. كان يلزم أن يمنعكِ عن مشاهدته: غير أن القديس المذكور عينه يرد الجواب عن ذلك قائلاً: أن قلبكِ لم يكن يعتبر هذا الأمر خزياً ومكروهاً، بل مؤلماً: أواه أن قلبكِ حينئذٍ لم يدعكِ أن تفتكري في وجعكِ وتألمكِ بل في أوجاع أبنكِ وآلامه وموته. ولهذا أردت أن تحضري أنتِ نفسكِ تحت صليبه. قلما يكون لكي تتوجعي من أجله: فأنتِ هي الأم الحقيقية والمحبة الصادقة (يقول نحوكِ الأنبا غوليالموس) اذ أنه ولا الخوف من أنكِ تموتين أمكنه أن يفصلكِ عن أبنكِ الحبيب: فيا له من مشهدٍ موعبٍ من الأحزان والأوجاع الباطنة، فيه كان ينظر هذا الأبن الإلهي منازعاً على الصليب، وفي الوقت عينه كانت تشاهد هذه الأم البتول تحت صليبه منازعةً هي أيضاً، لتكبدها في ذاتها الآلام عينها التي كان أبنها يتعذب بها. فقد أخبرت في الوحي للقديسة بريجيتا هذه الأم الإلهية عينها عن الحال التي شاهدت هي بها أبنها في تلك الساعة على الصليب قائلةً هكذا: فقد كان أبني الحبيب على الصليب متعوباً في الغاية مترادف التنفس بأنزعاجٍ، منازعاً مقارباً للموت، وكانت تشاهد مقلتاه غائرتين في جورتيهما، وعيناه نصف مطبوقتين، وشفتاه مرتخيتين، وفمه مفتوحاً، ووجنتاه بلونٍ أصفر. ولحمانهما ملتصقةً بأسنانه، وحنكاه يابسين، وأنفه كفي حال الموت، ووجهه مقطباً كئيباً، ورأسه كان يلاحظ منحنياً نحو صدره، وشعره أسود مصبوغاً بالدم، وبطنه لاصقاً بظهره. وذرعاه وساقاه موترةً بأشدادٍ. وسائر أعضاء جسده مملؤةً جراحاتٍ قاطرةً الدماء.* فعذابات يسوع هذه كلها قد كانت هي عذابات مريم أيضاً والدته. كقول القديس أيرونيموس: أن جميع الجراحات التي كانت في جسم يسوع فهذه وجدت في قلب مريم: ومن ثم يقول القديس يوحنا فم الذهب: أن من أمكنه أن يكون حاضراً حينئذٍ عند جبل الجلجلة فقد كان يستطيع أن يشاهد هناك مذبحين مقدماً على كل منهما القربان العظيم، فأحدهما في قلب يسوع وثانيهما في قلب مريم والدته: الا أنه يظهر لي أكثر ملائماً ما يعتبره القديس بوناونتورا مذبحاً واحداً مقدماً فوقه القربانان معاً، وهو مذبح الصليب المقدس الذي عليه جملةً مع الذبيحة التي بها قدم فوقه الأبن ذاته ضحيةً كحملٍ لا عيب فيه، قد ضحت ذاتها هذه الأم الإلهية أيضاً، ولذلك يخاطبها القديس المذكور عينه متسائلاً بقوله لها: يا سيدتي مريم أين أنتِ كائنةٌ، أهل تحت الصليب. أواه أنه بأكثر صوابٍ وعدالةٍ ينبغي أن أقول أنكِ كائنةٌ فوق الصليب عينه، لكي تقدمي ذاتكِ ذبيحةً. مصلوبةً جملةً مع أبنكِ يسوع. وهكذا يثبت ذلك القديس أوغوسطينوس بقوله: أن الصليب والمسامير كانت للأبن ولأمه معاً، لأنه اذ صلب المسيح فصلبت أمه أيضاً معه. وهذا لا ريب فيه، لأن القديس برنردوس يبرهن قائلاً: أن الشيء الذي كانت تفعله المسامير في جسد يسوع فهذا نفسه كان يفعله الحب في قلب مريم. بنوع أنه في الوقت عينه الذي فيه كان الأبن يضحي جسده محرقةً على الصليب، ففيه كانت أمه تضحي نفسها محرقةً معه: (كما كتب القديس برنردينوس).* فالأمهات أعتيادياً يهربن من الأمكنة التي فيها يكون أولادهن منازعين، لكيلا يشاهدن بأعينهن موتهم، ولكن اذا وجدت أمٌ ما مضطرةً لأن تلبث عند أبنها ساعة موته، فتهتم هي بأن تصنع له كل ما يمكنها أن تسعفه به مخففةً عنه آلام النزاع مجتهدةً في أن تصلح له سريره وفراشه ليكون مرتاحاً في أتكائه، مداومةً على أن تسقيه الأشياء المرطبة المبردة، وبهذا النوع يمكنها أن تجد هي تعزيةً ما في هذه الخدمة تسكن عنها أحزانها المرة. أواه أيتها الأم المملؤة أوجاعاً مريم الأشد تألماً وحزناً من الأمهات كلهن. فأي نعم أنه رسم عليكِ أن تحضري عند أبنكِ ساعة موته تحت صليبه، ولكن لم تعط لكِ الأستطاعة على أن تسعفيه بشيءٍ ما من الأشياء مطلقاً. لأنه قد سمعت هذه الأم المحزونة أبنها يسوع قائلاً: أنا عطشان: ولكن لم يسمح لها بأن تقدم له قليلاً من الماء ليطفئ به حرارة عطشه الشديد. بل كما يلاحظ القديس فيجانسوس فراري أنها أجابته قائلةً: ليس يوجد عندي يا ولدي من الماء سوى دموعي. ثم أنها كانت تشاهد حبيبها يسوع فوق فراش الصليب معلقاً بيديه ورجليه بثلاثة مسامير متعوباً جداً. ومن ثم كانت تشتهي أن تعانقه بين يديها ليمكنه أن يجد قليلاً من الراحة، أم أن يعطى لها أن تأخذه في حضنها ليموت على ركبتيها، ولكن لم تكن تحصل على ذلك (كما كتب القديس برنردوس) وكانت تلاحظ جيداً كيف أن يسوع الغائص في بحر الآلام والأحزان كان يطلب تعزيةً ما ولم يجد، حسبما قد كان هو تعالى سبق وقال بفم نبيه أشعيا: دست المعصرة وحدي... كما نظرت حولي ولم يكن معينٌ وطلبت فلم يكن ناصرٌ: (ص63ع3و5) ولكن ترى من كان يريد أن يعزيه من البشر الذين أضحوا كلهم أعداءً له، لأنه وهو على الصليب كان بعضهم يجدف عليه بنوعٍ، وبعضهم بنوعٍ آخر، كما كتب القديس متى الإنجيلي بقوله: وكان المجتازون به يجدفون عليه، ويحركون رؤسهم قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيامٍ خلص نفسك أن كنت أبن الله وأنزل عن الصليب. وهكذا رؤساء الكهنة مع الكتبة والشيوخ كانوا يهزأون به ويقولون، خلص آخرين ولم يقدر أن يخلص نفسه، أن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصلييب: (متى ص27ع39ألخ) بل أن والدة الإله أخبرت القديسة بريجيتا بأكثر من ذلك قائلةً لها في الوحي: أنني سمعت البعض يقولون عن أبني أنه كان لصاً. وغيرهم أنه كان خداعاً، وآخرون قالوا أنه لم يكن أحدٌ مستحقاً للموت نظيره، وهذه الأقوال كلها قد أضحت لدي سيوفاً جديدةً تقطع قلبي:* الا أن الشيء الذي أحزن قلب هذه الأم الإلهية أشد حزناً، وأوعبها من مرارة التألم والتوجع بأبلغ نوع من كل ما سواه، هو سماعها أبنها الحبيب متشكياً من أن أباه الأزلي عينه قد كان أهمله، بنوع أن: يسوع صرخ بصوتٍ عظيمٍ قائلاً إيلي إيلي لما صافختاني: الذي تأويله إلهي إلهي لماذا تركتني: (متى ص27ع46) فهذه الكلمات قد جرحت فؤاد مريم البتول جرحاً هكذا عظيماً، حتى أنه، حسبما أوحت هي للقديسة بريجيتا لم يكن يبرح من فكرها ذكر تلك الكلمات مدة باقي أيام حياتها. فاذاً قد كانت هذه الأم السابحة في بحر الأحزان تشاهد أبنها من كل الجهات معذباً متألماً متروكاً، وكانت تجتهد في أن تسعفه بشيءٍ ما ولكن لم يكن ممكناً لها. والأبلغ من ذلك هو أنها كانت تلاحظ حسناً أن وجودها أمام عيني أبنها في تلك الحال، كان يسبب له آلاماً خصوصيةً مزادةً على آلامه. فمن ثم كتب القديس برنردوس قائلاً: أن التألم الذي كان يوعب قلب مريم مرارةً، فهذا عينه كان يفجع قلب يسوع ويطعنه بالحزن. ويقول في محلٍ آخر: أن المسيح وهو على الصليب قد تألم من قبل حزنه وتوجعه على والدته أشد تألماً من عذاباته كلها. فهكذا يتكلم هذا القديس عن لسان البتول قائلاً: أنا كنت واقفةً بالقرب من صليب أبني ناظرةً إليه، وهو كان ناظراً إليَّ، ولكنه كان يتألم من أجلي أكثر تألمه من قبل أوجاعه. وقال أيضاً عن هذه السيدة: أن مريم كانت واقفةً قربةً من صليب أبنها يسوع عادمة الصوت من شدة الحزن، وكانت عائشةً في الحياة منازعةً كمدنفةٍ على الموت، ولكنها اذ لم تقدر أن تموت فبقيت حيةً منازعةً. وقد كتب العلامة باسيوس بأن فادينا نفسه ظهر مرةً ما للطوباوية باتيسطا فارانا التي من مدينة كامارينو وقال لها:" أنه بهذا المقدار كان هو يشعر بأنفعالات الحزن والتألم من قبل مشاهدته من على الصليب والدته واقفةً بالقرب منه في تلك الحال المرثى لها، حتى أن تلك المشاهدة جعلته أن يموت فاقد التعزية". فهذه الكلمات أثرت كثيراً في قلب الطوباوية المذكورة المستنيرة من الله لأن تعرف حقيقة آلام يسوع من هذا القبيل، حتى أنها هتفت متوسلةً إليه تعالى بقولها: يا سيدي لا تعد تقول لي شيئاً عن حزنك هذا، لأني لا أستطيع بعد أحتمالاً.* أما سمعان داكاسيا فيقول:" أن الأنام الذين كانوا يشاهدون حينئذٍ مريم في تلك الحال صامتةً، فكانوا ينذهلون من سكوتها وعدم تشكيها بكلمةٍ ما في أوقات آلامها هذه الفائقة الأحتمال. ولكن اذا كانت هي وقتئذٍ ساكتةً بفمها فلم تكن صامتةً في قلبها. لأنها في تلك الأوقات ما صنعت هي شيئاً آخر سوى تقدمتها بتكرارٍ لدى العدل الإلهي حياة أبنها من أجل خلاصنا". ولهذا نحن نعلم أنها قد أكتسبت هي بأستحقاقات أوجاعها وأحزانها المشار إليها صفة: مشاركة في عمل خلاصنا: أي في أن نولد جديداً في حياة النعمة. وبالتالي نحن هم أولاد أوجاعها. ويقول لاسبارجيوس: أن المسيح اذ قد أراد أن يقيم والدته أماً لنا فجعلها أن تكون مشاركةً في عمل أفتدائنا، لأنه كان يلزمها أن تلدنا بنين لها تحت صليب يسوع. فاذاً يمكنني أن أقول أنه أن كانت هذه الأم الإلهية وهي غائصة في بحر مرائر تلك الأحزان صادفت تعزيةً ما. فهذه التعزية الوحيدة أنما كانت قائمةً في تذكرها بأنها بواسطة أحزانها وآلامها المشار إليها كانت تفيدنا في أمر خلاصنا الأبدي. كما أوحى مخلصنا عينه للقديسة بريجيتا بقوله: أن مريم والدتي أنما صارت أماً لأهل السماء والأرض لأجل توجعها وحبها. وبالحقيقة أن الكلمات الأخيرة التي قالها مخلصنا لوالدته وهو على الصليب مودعاً إياها قبل أن يموت، قد كانت تسليمه إياها أولاداً لها في شخص تلميذه القديس يوحنا، وهذا كان منه بمنزلة وصيته الأخيرة التي بها ترك لأمه تذكرةً وميراثاً أن نكون نحن أولادها وهي أمنا بقوله لها: يا أمرأة ها أبنكِ: (يوحنا ص19ع26) وهكذا منذ تلك الساعة أبتدأت مريم العذراء أن تمارس نحونا وظيفة أمٍ صالحةٍ. على أن القديس بطرس داميانوس يشهد بأن اللص الجيد أنما ندم على خطاياه، وأعترف بلاهوت فادينا قائلاً له: أذكرني يا رب اذا أتيت في ملكوتك: وهكذا فاز بالخلاص الأبدي وذلك من قبل تضرعات هذه الأم الإلهية من أجله، لأنه على موجب رأي بعض الكتبة الكنائسيين أن هذا اللص حين سفر والدة الإله مع طفلها وخطيبها الى مصر، قد كان في الطريق صنع معها معروفاً، بل أن هذه السيدة الرأوفة قد مارست دائماً وظيفة أمٍ نحو الجميع من ذلك الحين فصاعداً بدون أنقطاع، كما تمارس هذا الأمر الآن وفي المستقبل أيضاً.* * نموذج * أن شاباً ما من سكان مدينة باروجيا قد كان أتفق مع الشيطان بموجب صكٍ أمضاه بخط يده بقلمٍ مغمسٍ بدمه على أن يسلمه نفسه، أن كان الشيطان يجعله مقتدراً على أن يفعل خطيئةً مميتةً كان هو يرغب أرتكابها ولم يكن قادراً. فلما أكمل هذا الشاب التعيس تلك الخطيئة فالشيطان أراد منه أن يضع بالعمل ما وعده به في ذاك الصك، ولذلك أقتاد هو الشاب الى حافة بئرٍ عميقةٍ، وطلب منه أن يطرح ذاته فيها ليموت مختفياً وهو يأخذ نفسه، متهدداً إياه بأنه ألم يفعل ذلك من تلقاء ذاته فهو كان مزمعاً أن يجذبه الى جهنم بالنفس وبالجسد. فهذا الشاب المنكود الحظ اذ ظن بذاته أنه لا مناص له من يد إبليس، قد صعد على فم البئر ليطرح بنفسه فيها. ولكن خوفه من الموت وقفه ومن ثم قال للشيطان أنه لا شجاعة له على ذلك، بل أنه هو أي الشيطان يدفعه ليسقط في البئر أن كان يريده أن يموت. فقد كان الشاب لابساً ثوب السيدة المحزونة ولهذا قال له الشيطان: أرفع عنك هذا الثوب وأنا حينئذٍ أدفعك لتنطرح في البئر: فلما لاحظ الشاب جيداً أنه بواسطة ذاك الثوب المكرس الخاص بأحزان والدة الإله كان حاصلاً على الحماية من هذه الأم الرأوفة، الى ذاك الوقت، فلم يرد أن ينزعه من عنقه، ولهذا بعد مجادلة ومخاصمة كثيرة صدرت فيما بينه وبين الشيطان ألتزم هذا العدو الجهنمي بأن يترك الشاب ويمضي خازياً. وهكذا ذاك الخاطئ أسرع الى الكنيسة ليقدم الشكر للسيدة المحزونة على النعمة التي فاز بها بشفاعاتها. وقد تاب عن خطاياه ونذر أن يقدم لهيكلها أيقونةً حاويةً أمر نجاته. كما تمم ذلك، والأيقونة هي موجودة في كنيسة السيدة المدعوة الجديدة في مدينة باروجيا عينها تذكرةً لأحسان والدة الإله.* † صلاة † أواه أيتها الأم المتألمة أشد آلاماً وأحزاناً وأوجاعاً من الأمهات كلهن. فاذاً قد مات أبنكِ الحبيب الذي بهذا المقدار كنتِ تحبينه ويحبكِ. فأبكي بالصواب عليه لأنه يستحق ذلك، ولكن ترى من يمكنه أن يعزيكِ عن فقده، فشيءٌ واحدٌ يستطيع على تعزيتكِ وهو تفكركِ في أن يسوع بموته قد قهر الجحيم وأنتصر عليه غالباً، وفتح للبشر أبواب الفردوس السماوي الذي كان مغلقاً دونهم، وهكذا قد اكتسب نفوساً غير محصى عددها. وقد ملك وهو على الصليب مستولياً على قلوبٍ لا حد لكثرتها من أولئك الذين غلبوا من مفاعيل حبه إياهم فيخدمونه تعالى بأمانةٍ، فلا تأنفي يا مريم سيدتي من أنكِ تقبليني بالقرب منكِ لأبكي معكِ، لأن الصواب يقضي مني أن أبكي أكثر منكِ، لأجل أني أغظت إلهي مراتٍ عديدةً. فيا أم الرحمة أنا أرجو غفران خطاياي أولاً بأستحقاقات موت مخلصي يسوع المسيح، وبعد ذلك بأستحقاقات أحزانكِ التي قد تكبدتيها حين آلامه. ومعاً أرجو نوال الخلاص الأبدي آمين.* † الفصل السابع * طعن* فيما يلاحظ الموضوع السادس لحزن العذراء والدة الإله، وهو* جنب يسوع المسيح بالحربة. وتنزيله من على الصليب.* يا عابري الطريق أنظروا وتأملوا هل رأيتم وجعاً مثل وجعي، (مراثي أرميا ص1ع12) فيا أيتها الأنام المتعبدون للبتول القديسة المحزونة أسمعوا ماذا تقول هي نحوكم اليوم:" يا أبنائي الأعزاء أنا لا أريد منكم أن تهتموا في تعزيتي، كلا، لأن قلبي لم يعد بعد موضوعاً قابلاً لأن يحصل (ما دمت في الأرض) على تعزيةٍ ما، بعد موت أبني الحبيب يسوع. فأن كنتم اذاً تريدون أن ترضوني فأنا لا أريد منكم الا هذا الشيء، وهو أنكم تلتفتون نحوي وتتأملون فيَّ لتنظروا هل يوجد في العالم وجعٌ مثل وجعي، عند مشاهدتي مخطوفاً مني بعذاباتٍ كلية القساوة ذاك الذي كان هو موضوع حبي كله". ولكن أيتها السيدة أن كنتِ لا تريدين أن تتعزي، وما زلتِ متعطشةً لأقتبال أحزانٍ أخرى. فأنا أقول لكِ أنه ولا بموت ابنكِ قد انتهت أحزانكِ. لأن سيفاً آخر مزمعٌ أن يلج في نفسكِ بعد موته، وهو مشاهدتكِ واحداً من الجند يطعن جنب حبيبكِ بحربةٍ طعنةً بربريةً. ثم بعد ذلك تقتبلين بين يديكِ وفي حضنكِ جسد أبنكِ بعد تنزيله من على الصليب. وها نحن نأخذ الآن بالتأمل في الموضوع السادس لأحزان هذه الأم الإلهية. الأمر الموجب التأمل حسناً والدموع الحارة. فإلى هنا يبان أن أوجاع هذه السيدة قد جاءت رويداً رويداً واحداً فواحداً. وأما في هذا الموضوع السادس فكأن الأحزان بأسرها قد داهمتها معاً.* فأمرٌ خالٍ من الأرتياب هو أنه يكفي القول لأمٍ ما أن أبنها قد مات لأن يلتهب قلبها بنار حبه. ويطعن بسهم فقده. ولهذا قد أعتاد البعض لكي يخففوا نوعاً أحزان الأمهات الفاقدات أولادهن بالموت. أن يأتوا أمامهن بذكر تلك الأشياء التي كان بنوهن سببوا لهن بها (اذ كانوا أحياء) الغيظ أو الأهانة. ولكن اذا أردت أنا أن أتبع نحوكِ أيتها السيدة هذه الطريقة عينها لتخفيف حزنكٍ. فأي حادثٍ يمكنني أن أجده لأذكركِ في أن أبنكِ قد أغاظكِ به كلا، لأن هذا الأبن الإلهي قد أحبكِ دائماً وأطاعكِ مطلقاً وكرمكِ على الدوام. ولذلك من يستطيع أن يصف أحزانكِ وآلامكِ على فقده سواكِ أنتِ التي أختبرتِ مفعولها في ذاتكِ. فيقول أحد الكتبة العباد: أنه بعدما مات فادينا على خشبة الصليب فالعواطف الأولى التي مارستها مريم البتول قد كانت أن ترافق بالروح نفس أبنها الكلية القداسة مقدمةً إياها لدى الآب الأزلي، وكأنها كانت تقول له:" إلهي أنني أقدم لك نفس أبنك وأبني البريئة من العيب التي قد أطاعتك حتى الموت. فأنت أقبلها بين يديك. وها هوذا عدلك الإلهي قد أستوفى ما يحق له. وأرادتك المقدسة قد أكتملت. وقد أنتهت الذبيحة العظيمة المقربة لأجل مجدك الأبدي: ثم ألتفتت نحو جسد أبنها المائت هاتفةً: أيتها الجراحات ذات الحب المضطرم أنني أسجد لكِ وأهنئكِ، لأنه بواسطتكِ قد أعطى الخلاص للعالم، فأنتِ مزمعةٌ أن تبقي مفتوحةً في جسم أبني الحبيب لكي تكوني ملجأً منيعاً لجميع أولئك الذين يبادرون نحوكِ محتمين فيكِ، لأنه كم وكم من البشر هم عتيدون أن يقتبلوا بواسطتكِ غفران خطاياهم. وبكِ تلتهب قلوبهم بمحبة الخير الأعظم".* أما اليهود فاذ أرادوا الا يكدر فرح ذاك السبت العظيم الواقع في عيد الفصح. قد رغبوا تنزيل جسد يسوع من على الصليب، ولكن لأنهم لم يكونوا يستطيعوا أن ينزلوا أجساد المصلوبين قبل أن تكون أنفصلت عنها الأنفس بالموت. فلهذا جاء الجند ومعهم عصي حادة فكسروا ساقي اللص الأول وساقي اللص الآخر ليموتا سرعةً. وأما مريم البتول فكانت واقفةً هناك تبكي على موت حبيبها يسوع. وحالما شاهدت الجنود جاءوا بالأسلحة وكسروا ساقات اللصين متحهين ضد جسد أبنها أيضاً. ففي الأبتداء أستوعبت منهم خوفاً. ولكن بعد ذلك، يقول القديس بوناونتورا، قد تفوهت نحوهم هكذا قائلةً: واحسرتاه أن أبني قد مات فأعدلوا عن أن تفترئوا عليه أكثر . وتغاضوا عن أنكم تسببون لي أنا أمه المسكينة آلاماً أمر: الا أنه وفيما كانت هي تخاطبهم بهذا الكلام الصوابي. واذا بها شاهدت واحداً من الجند قد دنا من جسد يسوع. وبقوةً شديدةٍ طعنه في جنبه بالحربة التي كانت بيده. وللوقت خرج من ذاك الجنب الأقدس المفتوح على هذه الصورة بطعن الحربة دمٌ وماءٌ (يوحنا ص19ع34) ففي هذه الطعنة ومن جرائها قد أرتج جسد يسوع مع صليبه. وأنقسم قلبه المقدس. كما أوحى للقديسة بريجيتا. وأنما خرج من جنبه المطعون دمٌ وماءٌ، لأنه لم يكن باقياً في جسده تعالى شيء من دمه كله سوى تلك النقط القليلة التي أستمرت مخزونةً في قلبه. فهو أراد أن تهرق هذه أيضاً من أجلنا ويخرج في أثرها الماء ليشير إلينا بأنه لم يعد عنده دمٌ يقدمه عنا. فيقول لاسبارجيوس العابد: أن الأهانة والأفتراء الصادرين عن هذه الطعنة بالحربة قد ألحقتا بيسوع، وأما الوجع والتألم المختصان بها فألتحقا بقلب مريم. ثم أن الآباء القديسين يرتاءون بأن هذه الطعنة هي حقيقة ذاك السيف الذي قال عنه البار سمعان الشيخ لوالدة الإله متنبئاً بأنه كان عتيداً أن يحوز في نفسها. السيف الذي لم يكن من الحديد بل من مرارة الحزن الذي طعنت به نفسها المباركة الموجودة على الدوام ساكنةً بالحب داخل قلب أبنها المطعون بهذه الحربة. وفيما بين الآخرين الذين فسروا ذلك على هذه الصورة هو القديس برنردوس القائل (في مراثيه على العذراء): أن الحربة التي طعن بها جنب يسوع قد جازت في نفس مريم التي لم تستطع أن تفارق هذا القلب المطعون. كما كان سبق لها الإيعاز بذاك السيف الذي كان عتيداً أن يحوز في نفسها: بل أن العذراء المجيدة عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً: أنه حينما كانت الحربة تجذب خارجاً من قلب أبني كان يظهر رأسها مغموساً بالدم. ووقتئذٍ كان يبان أن قلبي أنطعن مفتوحاً عند نظري قلب أبني الحبيب مطعوناً بها:.* حتى أن الملاك أخبر القديسة بريجيتا في الوحي: بأن أوجاع مريم البتول من قبل هذه الطعنة كانت بهذا المقدار شديدةً مؤلمةً، بنوع أنها بأعجوبةٍ إلهيةٍ لم تمت هي وقتئذٍ من مرارة التوجع: ثم أنه كان يوجد لهذه السيدة في حين أوجاعها الأخرى من يخففها عنها نوعاً وهو يسوع حياً متشفقاً عليها. أما في الوجع المذكور فلم يكن معها هذا المعزي الذي قد مات:.* ومن حيث أن هذه الأم الإلهية كانت تخاف بالصواب من أن أعداء أبنها يمارسون ضد جسده الطاهر أهاناتٍ أخرى ذات أفتراءٍ نفاقي. فقد توسلت الى يوسف الرامي في أن يلتمس من بيلاطس أن ينزل هذا الجسد من على الصليب، حتى يمكنها قلما يكون بعد موت حبيبها أن تحفظ جسمه ناجياً من الأهانة والأفتراء الممكن أن يلتحقا به جديداً. فمن ثم أنطلق يوسف عند بيلاطس، وأعرض لديه حال الأحزان والأوجاع الملمة بقلب هذه الأم المتألمة على ابنها، وكيف كانت هي تشتهي أن تنال تنزيل جسده عن الصليب. وحسب رأي القديس أنسلموس أن بيلاطس حينئذٍ قد أخذته الشفقة على أمٍ هذه صفتها، ورثي لها، آذناً ليوسف بأن ينزل جسد أبنها عن الصليب. ويدفنه حيثما يشاء. وهذا الأذن قد وضع بالعمل وهكذا أنزلوا جسم المخلص من الخشبة. أواه أيتها البتول الكلية القداسة. هوذا العالم رد إليكِ أبنكِ الذي كنتِ بحبٍ هكذا عظيمٍ أعطيتيه إياه: ولكن واحسرتاه (تقول مريم للعالم) بأية حالٍ أنت ترده لي: أن حبيبي أبيض أشقر منتخب من بين ربواتٍ: (نشيد ص5ع10) فأنا سلمتك أبني كلي البياض أحمر اللون، وأنت ترجعه إليَّ الآن لا بلونه بل مسوداً مصبوغاً بالدماء معدوماً من قبل الجراحات المكتسية بها أعضاء جسده. أنا دفعته إليك قريداً في جماله وحسنه وأنت ترده لي فاقد الصورة وعديم الجمال. فهو كان يجتذب القلوب الى الغرام بحبه بمجرد النظر الى بهاء طلعته. والآن تكره العيون أن ترمقه لسوء حاله. فيقول القديس بوناونتورا: أواه كم من السهام الأليمة قد رشقت قلب هذه الأم المحزونة، وكم من السيوف أجتازت في نفسها، حينما أحضر لديها جسد يسوع منزلاً من على الصليب. فيكفي التأمل في الحزن الذي يلم أعتيادياً بكلٍ من الأمهات عندما تشاهد جسد أبنها ميتاً. فقد أوحى الى القديسة بريجيتا بأنه في حين تنزيل جسد يسوع من الصليب قد أستعملت ثلاثة سلالم. وأن التلاميذ قد صعدوا عليها فأقتلعوا أولاً المسامير من يدي الجسم الطاهر ومن رجليه، وسلموها بيد والدته (كما كتب سمعان ميتافراسته) وبعد ذلك البعض منهم كان ماسكاً الجسد من فوق وبعضهم من أسفل، وهكذا أنزلوه من الخشبة. أما برنردينوس البوسطي فيلاحظ متأملاً كيف أن هذه الأم الموعبة من مرائر الحزن أقبلت نحو التلاميذ لتعانق جسد حبيبها المحمول منهم. رافعةً يديها منتصبةً على رؤوس أصابع رجليها لمساعدتهم، وكيف أنها بعد أخذها إياه في حضنها وسندته على ركبتيها جالسةً تحت صليبه. محدقةً بنظرها في جسمه، متأملةً في فمه المفتوح، وعينيه المعتمتين، ولحمانه الممزقة المملؤة جراحاتٍ، وعظامه المجردة، ثم كيف أنها رفعت أكليل الشوك المغروس في رأسه متأملةً في الثقوبة الموجودة في هامته المقدسة من تلك الأشواك ناظرةً الى يديه ورجليه المثقوبة من المسامير وقائلةً:" واحسرتاه يا أبني ونور عيني الى أية حالٍ أوصلتك محبتك العظيمة للبشر، فترى أي شرٍ صنعت أنت معهم حتى أنهم عاملوك بهذه القساوة. فأنت كنت معي أباً لي وأخاً وعروساً، وأنت حبيبي وتنعمي ومجدي وكل شيءٍ كنت املكه. فأنظر إليَّ يا أبني بما أنا فيه من الأحزان والأوجاع وأرمقني بنظرك معزياً إياي. ولكن أواه أنت ما عدت تشاهدني، فأعطيني كلمةً يا كلمة الله وعزني بلفظةٍ واحدةٍ، وأويلاه أنت ما عدت تفه بكلمةٍ لأنك قد مت". ثم بعد ذلك يلاحظها برنردينوس المذكور ملتفتةً نحو آلات آلامه قائلةً نحوها: أيتها الأشواك القاسية، والمسامير والحربة الجارحة المؤلمة، كيف أمكنكِ أن تعذبي بهذا المقدار خالقكِ. ولكن أنتم يا معشر الخطأة أنتم هم الذين عاملتم أبني هذه المعاملة السيئة المرثى لها.* أي نعم أن مريم العذراء هكذا كانت تتشكى بالصواب منا حينئذٍ الا أنه لو أمكنها أن تكون هي الآن موضوعاً قابلاً لأن تحزن وتتألم. فترى أي شيء لكانت تتكبد منا عند مشاهدتها إيانا نحن البشر. بعد أن صلب أبنها عنا ومات من أجلنا نجدد ثانيةً صلبه وموته بفعلنا الخطايا والآثام التي هو تألم من جرائها ومات ليفي عنها. فاذاً يليق بنا ويلزمنا الا نحزن بعد قلب هذه الأم الموجوعة. واذا كنا فيما مضى نحن أيضاً سببنا لها التألم بمآثمنا، فلنصنعن الآن ما تقوله هي لنا عن لسان النبي أشعيا هاتفةً نحونا: أرجعوا أيها الفجار الى القلب: (ص46ع8) أي أرجعوا أيها الخطأة الى قلب أبني يسوع المجروح، وعودوا إليه تائبين وهو يقتبلكم محتضناً. فأهربوا منه بحسب كونه قاضياً وأرجعوا إليه بحسب كونه فادياً. أهربوا من المحكمة القضائية الى منبر الصليب: (كما يقول عن لسانها الأنبا غواريكوس) ثم أن هذه السيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا بأنها حين أقتبالها جسد يسوع من على الصليب في حضنها، قد أغلقت هي بيدها عينيه. ولكنها لم تقدر أن تجمع ذراعيه وتضمهما الى صدره. مريداً مخلصنا أن يشير إلينا بأنه يرغب أن ذراعيه تستمراه مفتوحتين ليعتنق بهما جميع الخطأة التائبين الراجعين إليه تعالى من كل قلوبهم: فيا أيها العالم (تقول هذه السيدة المتألمة مع حزقيال النبي ص16ع8) قد مررت بك واذا حينك حين الأحباء. فهوذا أبني قد مات ليخلصك يا أيها العالم. فليس هو حينك بعد الآن حين الخوف والجزع، بل حين الحب والأنحباب، حين الأنعطاف بالحب الحقيقي نحو من أظهر لك حقائق حبه إياك بأحتماله حباً بك هذا المقدار من الآلام الشديدة: فيا أيها الخطأة، يقول القديس برنردوس، أن قلب المسيح قد جرح جرحاً حسياً ظاهراً، حتى عندما تعاينوا هذا الجرح المنظور تفطنوا بجرح المحبة الغير المنظور التي هو أحبكم بها: وهنا تختتم والدة الإله خطابها الذي عن لسانها يقوله العلامة أيديوطا بهذه الكلمات وهي: ان كان أبني قد أرتضى بأن يفتح جنبه بطعن الحربة لكي يعطيك قلبه أيها الإنسان، فعادلٌ وصوابي هو أنك تعطيه أنت قلبك واهباً إياه له: ويقول أوبارتينوس الذي من كازاله: أن كنتم يا أولاد مريم البتول تريدون أرادةً ثابتةً أن تجدوا مكاناً في قلب يسوع، فأمضوا جملةً مع هذه السيدة وهي تستمد لكم هذه النعمة:* * نموذج * قد أخبر التلميذ (في كتابه الملقب برحمة مريم البتول) عن أحد الخطأة الأشقياء الذي فيما بين مآثمه الأخرى الشنيعة كان قتل أباه وأخاه الطبيعيين. فهذا يوماً ما دخل في زمن الصيام الكبير الى أحدى الكنائس وأستمع هناك من الكاروز عظةً مختصةً بسمو المراحم الإلهية. ومن ثم تقدم من تلقاء ذاته الى منبر الأعتراف مقراً بخطاياه، فلما أستمع منه معلم الأعتراف تلك الكبائر المملؤة شناعةً ونفاقاً، قد أرسله الى أمام أحد الهياكل المختصة بوالدة الإله المتألمة، ليتوسل إليها هناك في أن تستمد له من الله تألماً قلبياً وتوجعاً حقيقياً على تلك الخطايا وتنال له نعمة غفرانها. فهذا الخاطئ أطاع الأمر وذهب أمام الهيكل االمشار إليه وأبتدأ أن يتضرع بحرارةٍ لهذه الأم الرأوفة. الا أنه في الحال سقط هو على الأرض مائتاً، ففي الصباح التالي حينما كان الكاهن يطلب من الشعب الحاضر أن يتوسلوا لله من أجل نياح نفس ذاك الإنسان المتوفي بموت الفجأة، واذا بحمامةٍ كلية البياض دخلت الى الكنيسة طائرةً وطرحت عند قدمي الكاهن المومى إليه الورقة التي كانت هي ماسكتها برجليها، فأخذ الكاهن الورقة ففتحها ورأى مكتوبةً فيها هذه الكلمات وهي: أن نفس هذا الراقد حالما خرجت من جسدها قد دخلت من دون مانع الى الملكوت السموي. وأما أنت فواظب على كرزك فيما يختص بعظم المراحم الإلهية. فيا لأقتدار العذراء المتألمة على أكتساب الندامة للخطأة.* † صلاة † أيتها البتول المتألمة يا ذات النفس العظيمة في الفضائل والشجاعة في الأوجاع أيضاً. أنه اذ كانت هذه وتلك أي الفضائل والأوجاع أنما تتولد فيكِ عن لهيب نار ذاك الحب الذي به تحبين الله. لأن قلبكِ لا يعرف أن يحب شيئاً غيره تعالى، فأرحميني يا أمي أنا الذي ما أحببت الله بل أني أغظته مراتٍ هكذا عديدةً، الا أن أحزانكِ تعطيني رجاءً عظيماً في نوال غفران خطاياي، غير أن هذا لا يكفيني. فأنا أريد أن أحب سيدي، فمن هو الذي يمكنه أن يستمد لي منه عز وجل هذه النعمة نظيركِ أنتِ التي هي أم المحبة الجميلة. آهاً لي يا مريم فأنتِ من عادتكِ أن تعزي الجميع بمنح المواهب فعزيني اذاً أنا أيضاً آمين.* † الفصل الثامن * في الموضوع السابع والأخير المختص بحزن البتول مريم. وهو دفن* * جسد أبنها الحبيب يسوع في القبر* أنه لا ريب ولا شك في أنه حينما تكون أمٌ ما حاضرةً عند أبنها الطبيعي حين نزاعه الأخير وموته، فتشعر هي في ذاتها بتلك الأوجاع عينها التي يتكبدها أبنها. الا أنه بعد أن يكون الأبن المعذب قد مات وأخذ ليدفن، وتوجد أمه المحزونة ملتزمةً بمفارقته، فيا له من ألمٍ شديدٍ يحيق بها حينئذٍ عند تفكرها بأنها ما عادت تقدر أن تشاهد ولدها مرةً اخرى. فهذا هو السيف الأخير من السبعة سهام الحزن التي جازت في نفس والدة الإله الكلية القداسة، الذي الآن نأخذ بالتأمل فيه، وهو ما تألمت به هذه البتول حينما ألتزمت. بعد أن حضرت صلب أبنها، وأحتضنته مائتاً، بأن تتركه أخيراً في القبر. وهكذا ينقطع أملها من أن تشاهده مرةً أخرى على الأرض.* الا أننا لكي نتأمل جيداً في هذا الموضوع الأخير. فلنرجع بالعقل الى جبل الجلجلة لنشاهد هناك هذه الأم المملؤة أوجاعاً لم تزل محتضنةً على ركبتيها جسد أبنها يسوع المائت. وكأنها تقول نحوه كلمات أيوب البار هاتفةً يا أبني: قد صرت لي قاسياً: (أيوب ص30ع21) أي نعم أن الأمر هو كذلك. لأن أعضاء جسدك الجميلة كلها، وحسنك، ولطافتك، ونعمتك، وفضائلك، وتصرفاتك الجليلة ذات الحب، وسائر علامات المحبة الخصوصية التي أظهرتها نحوي، والنعم والمواهب الفريدة، والأختصاصات الفائقة الشرف التي منحتنيها. فهذه كلها قد استحالت بالنسبة إليَّ سهاماً جارحةً تطعن قلبي مسببةً لي أحزاناً وأوجاعاً لا يمكن وصفها. بنوع أنها بمقدار ما ألهبت فيَّ قبلاً نيران الحب نحوك فبأكثر من ذلك الآن تصيرني أن أشعر بمرارة الحزن على كوني فقدتك. أواه يا أبني الحبيب أنني بخسراني إياك قد خسرت كل شيء: فأنت هو الإله الحقيقي المولود مني ( يقول القديس برنردوس عن لسانها في مراثيه لأحزانها) وأنت لي أبٌ، وفي الوقت عينه أنت لي أبنٌ وعروسٌ معاً. وأنت لي نفسٌ وحيوةٌ، فأنا الآن يتيمةٌ من الأب وأملةٌ من العروس وفاقدة الأبن. واذ أني خسرتك أنت يا أبني فقد خسرت بك كل شيء.* فهكذا كانت مريم تندب أوجاعها وترثي حبيبها يسوع معانقةً جسده الطاهر. الا أن التلاميذ القديسين لخوفهم الصوابي من أن هذه الأم المطعونة بسهام الحزن المفرط تموت مع أبنها الإلهي من شدة الحزن، قد أجتهدوا في أن يأخذوا جسده من حضنها بكل أسراعٍ. ويأتوا به ليدفنوه. وهكذا بأغتصابٍ أحتراميٍ أحتالوا بأخذه من بين ذراعيها. واذ حنطوه بالمر ولفوه بالسباني التي أراد تعالى أن تنطبع بها صورته، ليتركها في العالم تذكرةً لدفنه، كما تشاهد الى الآن محفوظةً في مدينة طورين، فهكذا حمل التلاميذ هذا الجسد الكلي القداسة وساروا به نحو القبر، حيث كانت طغمات الملائكة مرافقةً هذا الباعوث جملةً مع النسوة البارات ومع والدة الإله الغائصة في بحر الأحزان. ولما دنوا من المغارة المعد فيها القبر أنزلوه هناك، ولكن لقد كان أمراً محبوباً في الغاية لدى هذه السيدة أن تدفن حيةً هي أيضاً مع جسد أبنها، لو كان ذلك ممكناً لها، حسبما أوحت هي نفسها للقديسة بريجيتا. الا أن العزة الإلهية لم تكن تشاء ذلك. ثم على رأي الكردينال بارونيوس أن هذه الأم المتألمة قد دخلت معهم مغارة القبر. وبعد أن وضعوا هناك جسد المخلص وتركوا معه المسامير وأكليل الشوك، فحينئذٍ هؤلاء التلاميذ ألتفتوا نحو والدة الإله قائلين لها:" أيتها السيدة، أنه يلزمنا أن نغلق القبر، فنرجوكِ بأن يكون عندكِ أحتمالٌ وترتضي بأن تشاهدي جسد أبنكِ هذه المرة الأخيرة وتتنحي". فمن ثم يلزم أن تكون هذه الأم الحزينة تفوهت نحو أبنها قائلةً: فاذاً يا ولدي الحبيب أنا ما عدت أشاهدك مرةً أخرى، فأقبل كلمة الوداع مني أنا أمك. وأقتبل مني قلبي الذي أتركه مدفوناً معك، فقد كتب القديس فولجانسوس قائلاً: أن مريم البتول كانت تشتهي بكل عزمها وأرادتها أن تترك نفسها مدفونةً مع جسد المسيح أبنها. بل أن هذه السيدة عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أنه يمكن أن يقال حقاً وصدقاً أن قلبين وجدا مدفونين في قبر أبني وهما قلبه وقلبي معاً.* فأخيراً التلاميذ دحرجوا حجراً كبيراً به أغلقوا القبر على جسد يسوع الكنز الذي لا يوجد كنزٌ يعادل قيمته. لا في السماء ولا في الأرض. فقبل أن نفارق هذا القبر المقدس يليق بنا أن نكتب على حجره هذه الكلمات وهي: أن مريم تترك في هذا القبر قلبها مدفوناً مع يسوع. لأن يسوع هو كنزها الوجيد. وذلك سنداً على قوله تعالى: أنه حيثما يكون كنزكم فهناك يكون أيضاً قلبكم: (لوقا ص12ع34) أما نحن فترى أين ندع قلوبنا مدفونةً، ربما في المخلوقات في الوحل. ولكن لماذا لم تكن مدفونةً في يسوع الذي ولئن كان صعد الى السماء فمع ذلك أراد أن يبقى في القربان الأقدس، لا ميتاً بل حياً لهذه الغاية وهي لتكون فيه قلوبنا وهو يملك عليها. فلنعود نحو والدة الإله. اذ يقول القديس بوناونتورا: انها أي مريم البتول لم تشاء أن تفارق حجر القبر قبل أن تباركها قائلةً: أيتها الصخرة السعيدة التي الآن تغلقين مدفوناً داخلكِ ذاك الذي أغلق عليه في مستودعي مدة تسعة أشهرٍ، فأنا أبارككِ وأحسد سعادتكٍ، وأترككِ أن تحرسي لي أبني هذا الذي هو خيري بجملته وحبي الأعظم. ثم ألتفتت نحو الاب الأزلي وقالت: أنني أستودعك أيها الآب القدوس أبنك هذا الذي هو أبني أنا أيضاً. وهكذا ودعت القبر وما ضمنه وأنطلقت راجعةً الى بيتها. فيقول القديس برنردوس:" أن جميع الذين كانوا في الطريق يشاهدون مريم العذراء راجعةً في تلك الحال المرثى لها، فلم يكونوا يقدروا أن يمسكوا ذواتهم عن البكاء بمرارةٍ. وأن النسوة البارات والتلاميذ القديسين قد كان بكاءهم وخزنهم على مريم أشد من بكاهم وحزنهم على يسوع سيدهم".* ثم أن القديس بوناونتورا يرتأي بأن أخوات مريم العذراء أي قريباتها قد غطينها بأزارٍ أسود ورجعن بها من المقبرة. وأنه في مرورهن كافةً من عند جبل الجلجلة. حيث كان الصليب بعد مغروساً في الأرض مبتلاً بدم يسوع، فوالدته هذه المتألمة قد كانت هي أول من سجد لهذا العود الخلاصي قائلةً نحوه: أنني أقبلك أيها الصليب المقدس وأسجد لك، لأنك الآن لم تعد خشبة اللعنة بل عود الحب ومذبح الرحمة المكرس بدم الحمل الإلهي الذي قدم هو عليك ذبيحةً لأجل خلاص العالم.* وقد فارقت الصليب وعادت الى منزلها الذي لما بلغت إليه أخذت تجول بنظرها فيه ههنا وهناك من دون أن ترى حبيبها يسوع، بل عوضاً عنه كانت تتصور أمام عينيها أعمال حياته كلها المملؤة محاسن وقداسة، ومعاً أعمال آلامه جميعها التي أحتملها ومات بها. فهناك طفقت تتذكر المعانقات التي كانت تعانقه بها طفلاً في بيت لحم، والمفاوضات التي خاطبها بها وتكلمت هي معه مدة سنين هكذا عديدة في دكان النجارة في مدينة الناصرة وفي أمكنةٍ أخرى، وتتفكر بعواطف الحب المتبادلة منها إليه ومنه نحوها، وبنظراته ذات المحبة، وبكلمات الحياة التي كانت تخرج من فمه الإلهي. ثم بعد ذلك كانت تحضر بأزائها تلك الأشياء كلها التي شاهدتها في النهار عينه مما يختص بآلامه وموته وتنزيله عن الصليب ودفنه. متأملةً في آلات عذاباته من المسامير وأكليل الشوك والحربة وغيرها. وفي جراحات جسده المتخنة. وفي عظامه المجردة وفمه المفتوح وعينيه المعتمتين. أواه كم كانت تلك الليلة موعبةً من الغموم والأحزان الشديدة الملمة بهذه الأم المضنكة من التعب والتألم. وقد كانت حينا بعد حين تلتفت نحو القديس يوحنا الرسول قائلةً بحزنٍ: آهاً لي يا يوحنا أين هو معلمك. وبعده كانت تسأل المجدلية متنهدةً بقولها: أخبريني يا أبنتي مريم أين هو المحبوب منكِ: واحسرتاه من هو الذي خطفه منا. وهكذا كانت تبكي هي وكل الحاضرين بكاءً مراً. وأنتِ يا نفسي أما تبكين، تباً لكِ. فألتفتِ اذاً نحو مريم المتألمة وقولي لها مع القديس بوناونتورا: أنكِ من دون ريبٍ يا سيدتي أنتِ بريئةٌ من الذنب. وأنا هو بالحقيقة الأثيم في ذلك: ثم تضرعي إليها في أنها قلما يكون تجعلكِ أن تبكي معها، فهي تبكي من شدة الحب وأنتِ أبكي توجعاً على خطاياكِ، وأن ما بكيتِ على هذه الصورة فتستطعين أن تفوزي بحظ الآتي عنه القول في النموذج التابع.* * نموذج * أخبر الأب أنجالغرافه (في خطبته على وداع عيد الميلاد) عن أحد الرهبان. بأنه كان معذباً من سجس ضميره بقلقٍ عظيمٍ كاد مراتٍ كثيرةً أن يقضي به الى اليأس من الخلاص، ولكن من حيث أنه كان كلي العبادة نحو والدة الإله المتألمة، فلم يكن يغفل عن الألتجاء إليها دائماً في أوقات المنازعات الروحية التي بها كانت نفسه تناهز الموت بقطع الرجاء، وعندما كان يأخذ بالتأمل في أحزان هذه الأم الإلهية فكان يتقوى وينجو من تجربة الوسوسة. فأخيراً مرض هو مرض الموت، وحينئذٍ الشيطان بأبلغ نوع جعل يحاربه بالوسواس مجتذباً إياه الى قطع الرجاء من رحمة الله ومن خلاصه الأبدي. فاذ رأته والدة الإله في حالٍ يرثى لها شفقت عليه وظهرت له وخاطبته مشجعةً إياه بقولها:" يا أبني لماذا أنت تخاف وتحزن بهذا المقدار، أنت الذي مراتٍ كثيرةً قد تأملت في أحزاني وأوجاعي وبذلك عزيتني جداً. فقم مسرعاً لأن أبني الإلهي أرسلني لأعزيك، وأنهض فرحاً وهلم معي الى الفردوس السماوي". فحالما سمع الراهب العابد هذه الكلمات أستوعب فرحاً وسروراً وتعزيةً وثقةً ورجاءً عظيماً، وفي الحال، بكل هدوءٍ وسلامٍ رقد بالرب مائتاً.* † صلاة † أنني لا أريد أن أترككِ تبكين وحدكِ يا أمي المتألمة، بل أقصد أن أرافقكِ بدموعي، فأنا أطلب منكِ اليوم هذه النعمة وهي أن تستمدي لي أن أحفظ على الدوام ذكر آلام سيدي يسوع المسيح في عقلي وقلبي. وأن أكون حسن العبادة نحو هذه الآلام المقدسة، لكي أصرف الأيام الباقية من حياتي بالبكاء على أوجاعه تعالى بالجسد وأوجاعكِ! فأنا أرجو أن تكون هذه الآلام عتيدةً أن تمنحني في ساعة موتي طمأنينةً وقوةً، لكيلا اقطع رجائي عند تأملي كثرة الأهانات التي أغظت بها سيدي، وتهبني غفران خطاياي ونعمة الثبات في البر والحياة الأبدية التي أرجو أن أبلغ إليها، وهناك أفرح معكِ وأسبح مراحم إلهي الغير المتناهية.* فالقديس برنردوس يقول مخاطباً إياكِ يا أمي البتول المجيدة هكذا: أيتها السيدة يا من تختطفين قلوب البشر بعذوبة حلاوتكِ، أما أنكِ أختطفتِ قلبي أنا أيضاً. فمتى تريدينه لي يا خاطفة القلوب، ولهذا أنتِ أهتمي به ودبريه مع قلبكِ، وضعيه في جنب أبنكِ، وحينئذٍ أنا أملك الشيء الذي أبتغيه، لأنكِ أنتِ هي رجاؤنا. آمين.* † |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة الثالثة أخص فضائل والدة الإله المـقـدمـة * في موضوع هذه المقالة* أن القديس أوغوسطينوس يقول: أنه لأجل أكتساب حماية القديسين ومساعدتهم بأكثر تأكيدٍ وبأوفر سخاءٍ، يجب أن يصير الأقتداء بهم، لأنهم اذ يشاهدوننا ممارسين بالعمل الفضائل التي هم مارسوها في أزمنة حياتهم على الأرض. فحينئذٍ يتحركون بأكثر أنعطافٍ الى أن يتوسلون لله من أجلنا: فسلطانة القديسين وشفيعتنا الأولى والمتقدمة على الجميع سيدتنا والدة الإله، تريد من تلك النفس التي قد أنتشلتها هي من يد لوسيفوروس وأتحدتها بالله، أن تقتفي أثر نموذجاتها، والا فلن يمكنها أن تغنيها بالنعم والمواهب حسب مرغوبها، اذا رأتها مضادةً لها في سيرتها وأعمالها، ومن ثم هذه البتول المجيدة تعطي الطوبى لأولئك الذين يجتهدون في أن يقتدوا بفضائلها قائلةً: يا أولادي أسمعوني، طوبى للذين يحفظون طرقي: (أمثال ص8ع32) فمن يحب شخصاً ما، أما أنه يوجد شبيهاً به، وأما أنه يجتهد في أن يتشبه به. كحسب المثل الشهير الذي يقال به: أن الحب أما أنه يوجد في المماثلة، وأما أنه يجذب إليها: ولهذا يحرضنا القديس أيرونيموس قائلاً: أنه أن كنا نحب مريم العذراء فيلزمنا أن نهتم في أن نماثلها في الفضائل، لأن هذا هو التكريم الأعظم والعبادة الفضلى التي نستطيع أن نقدمها لها: ويقول ريكاردوس: أن أولئك الذين هم أولاد مريم الحقيقيون المقتدرون أن يسموا ذواتهم كذلك، فأنما هم الذين يجتهدون في أن يعيشوا حسب عيشها على الأرض: فأجتهد اذاً يا من أنت أبنٌ لمريم (يقول القديس برنردوس) في أن تقتدي بها، أن كنت ترغب أسعافها إياك. لأنها حينما ترى ذاتها مكرمةً منك كأمٍ، فتعاملك وتعينك كولدها.* فنظراً الى فضائل هذه السيدة الخصوصية فلئن كنا نقرأ عنها كلماتٍ وجيزةً مدونةً في الإنجيل المقدس. فمع ذلك اذ يقال عنها فيه أنها ممتلئةٌ نعمةٌ. فهذا يعلن لنا واضحاً أنها كانت حاصلةً على كل الفضائل بدرجاتٍ كلية السمو. بنوع أنه، كما يقول عنها القديس توما اللاهوتي (في كتيبه الثامن): أن كلاً من القديسين الآخرين قد تلألأ بفضيلةٍ ما خصوصيةٍ وبها سما على البقية وأما البتول الطوباوية فقد تلألأت في الفضائل كلها بدرجاتٍ ساميةٍ، وقد أعطيت هي لنا نموذجاً في جميع الفضائل: وكذلك يقول القديس أمبروسيوس: أن والدة الإله قد وجدت هكذا كاملةً. بنوع أن سيرة حياتها كانت تحوي الآداب والفضائل بأسرها. فلتكن مرسومةً في عقولكم بتولية مريم. وأعمال حياتها التي تلألأت فيها الفضائل، فمنها خذوا نموذج السيرة. وماذا يلزمكم أن تهذبوه فيكم وما الذي تهربون منه. وأي شيء تتبعونه: ثم من حيث أن فضيلة التواضع، حسب تعليم الآباء القديسين كافةً هي الحجر الأول في أساس الفضائل كلها، فلهذا نأخذ أولاً وبدءاً بالتأمل في كم وجدت عميقةً جداً فضيلة تواضع العذراء المجيدة.* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل الأول عندي الغنى والمجد والعظمة، والذين يبكرون إليَّ يجدونني (أمثال 8/17) يقول اروح القدس: يا أختي العروسة، جرحتي قلبي بإحدى عينيكِ. (نشيد4/9) * في الأتضاع العميق الذي أتصفت به والدة الإله* أن القديس برنردوس يقول: أن التواضع هو أساس أبتناء الفضائل: وهذا بكل صوابٍ. لأنه من دون التواضع لا يمكن أن توجد فضيلةٌ ما حقيقية في نفس إنسانٍ ما أصلاً. فالأتضاع اذ يمتلك فمعه تمتلك الفضائل بأسرها، واذ يهرب المرء فتهرب معه الفضائل كلها. ومن ثم كتب القديس فرنسيس سالس للطوباوية يوفانا شيناتال الراهبة قائلاً: أن الله بهذا المقدار يحب فضيلة التواضع. حتى أنه تعالى أينما يراها موجودةً يبادر نحوها بأسراع: فهذه الفضيلة الجليلة الجميلة الضرورية قد كانت فيما مضى مجهولةً في العالم. ولكن قد جاء أبن الله عينه الى الأرض لكي يوطدها ويعلم بها بواسطة نموذجه، وأراد منا أن نجتهد في أقتفاء أثره بنوع خاص في هذه الفضيلة بقوله لنا: تعلموا مني فأني وديعٌ ومتواضع القلب: (متى ص11ع29) ومن حيث أن مريم العذراء قد كانت هي التلميذة الأولى ليسوع، ووجدت هي الأكمل والأعظم فيما بين تلاميذه في الفضائل كلها. فهكذا كانت فضيلة تواضعها الأساسية عميقةً في الغاية، ومن أجل هذه الفضيلة التي تلألأت هي بها بنوعٍ فريدٍ قد استحقت أن ترفع فوق المخلوقات بأسرها. وقد أوحى الى القديسة ماتيلده: بأن الفضيلة الأولى التي وضعتها بالعمل هذه البتول المجيدة منذ طفوليتها قد كانت فضيلة الأتضاع.* فأول فعل من أفعال تواضع القلب أنما هو أن الإنسان يعتبر ذاته دنياً حقيراً، ولذلك قد أحتسبت ذاتها مريم البتول بهذا المقدار كلا شيء.كما أوحى للقديسة ماتيلده عينها، حتى أنها ولئن كانت تشاهد نفسها غنيةً بالنعم والمواهب والصفات، فمع ذلك قط لم تفضل ذاتها على أحدٍ مطلقاً: فالأنبا روبارتوس في تفسيره كلمات العدد 9من الاصحاح4 من سفر النشيد وهي هذه: أيتها العروسة أختي جرحتِ قلبي، جرحتِ قلبي بإحدى عينيكِ وبشعر عنقكِ: يقول: أن شعر عنق هذه العروسة الذي جرح قلب الله أنما هو تواضع مريم العذراء عروسته الإلهية: فأتضاع هذه السيدة لم يكن يلزمها بأن تحتسب ذاتها خاطئةً، لأن التواضع هو حقٌ كما تقول القديسة تريزيا. والحال أن والدة الإله كانت تعرف نفسها جيداً أنها قط لم تغظ الله بزلةٍ ما. فاذاً لم يكن يمكنها أن تكذب بقولها عن ذاتها أنها خاطئةٌ، بل ولا كان قائماً تواضعها في الا تعترف بأنها أقتبلت من الله نعماً أعظم من جميع النعم التي أعطيت لسائر الخلائق. لأن القلب المتواضع يعرف حسناً المواهب التي نالها من الرب بطريقةٍ أختصاصية. لكي يواضع نفسه بأبلغ نوع. وأنما كانت اذاً فضيلة أتضاعها قائمةً في أنها بمقدار ما كانت هذه الأم الإلهية حاصلةً على نورٍ أعظم في أن تعلم حقائق عظمة إلهها الغير المتناهية. وسمو غنى صلاحه الغير المدرك. فبأكثر من ذلك كانت تعرف حقيقة دناءتها وصغرها عند ذاتها، ولذلك كانت تتواضع أكثر من الجميع قائلةً مع عروسة النشيد: لا تنظروا إليَّ سوداء لأن الشمس غيرت لوني: (نشيد ص1ع6) أما القديس برنردوس فيعلن هذه الكلمات هكذا: أني أضحيت سوداء لأقتراب الشمس مني: وهذا بالصواب، لأن القديس برنردينوس يقول: أن البتول القديسة كانت حاصلةً بأتصالٍ على معرفة حالية عن عظمة العزة الإلهية، وعن دناءة ذاتها كأنها عدم وكلا شيء بالكلية: وكانت بذلك تشبه جاريةً مسكينةً متسولةً قد وهب لها ثوب أرجوان كثير الثمن، التي اذا ما تردت به أمام من أنعم به عليها فلا تتكبر مفتخرةً. بل تزداد تواضعاً بأزاء المحسن إليها كل مرةٍ تشاهده، لأنها حينئذٍ تتذكر جيداً فقرها ومسكنتها. فهكذا مريم العذراء بمقدار ما كانت ترى ذاتها غنيةً بالمواهب الممنوحة لها من الله فبأكثر من ذلك كانت تتضع في ذاتها. متذكرةً أن تلك النعم والأختصاصات كلها أنما هي مواهب الله وعطاياه: ومن ثم قالت هي نفسها في الوحي للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس: أنني كنت أحتسب ذاتي بنوع أكيد أني كلية الأحتقار والدناءة. واني لم أكن مستحقةً نعمة الله: ولهذا قال القديس برنردينوس: أنه ما وجدت خليقةٌ قط في العالم أرتفعت الى مقامٍ كلي السمو كما أرتفعت مريم، من حيث أنه لم توجد خليقةٌ ما أصلاً شبيهةً لها في التواضع العميق.* ثم ما عدا ذلك أنه لفعل أتضاعٍ حقيقي هو أن الإنسان لا يكشف للغير المواهب السماوية التي نالها. فالبتول المجيدة أرادت أن تخفي عن القديس يوسف خطيبها، حال كونها أختيرت من العزة الإلهية لأن تكون والدةً للإله. أو أنها قلما يكون لم ترد أن تكشف له ذلك مع أنها كانت محتاجةً لأن تخبره به، لكي تخلصه قلما يكون من قلق أفكاره بالأرتيابات الحاصلة عنده وقتئذٍ في أمر حبلها. وبالتالي كان يمكنه أن يشك في طهارتها، أو لترفع عنه سبب التوسوس كما كان بالحقيقة هذا القديس حاصلاً في حربٍ مع أفكاره. اذ أنه من جهةٍ أولى لم يكن يرتاب أصلاً في طهارة خطيبته المجيدة ونقاوة بتوليتها. ومن جهةٍ أخرى قد كان يجهل سر حبلها وعلته، فلهذا: هم بتخليتها سراً: (متى ص1ع19) أي أعتمد على أن يهرب عنها سراً، ولقد كان تمم أعتماده هذا بالعمل، لولا يكون ظهر له ملاك الرب بعد ذلك وأخبره بأن حبلها كان من الروح القدس.* وكذلك أن التواضع يرفض قبول المدائح التي يقرظ هو بها من الغير. ويخصص المديح والمجد لله وحده. فهوذا مريم قد أضطربت عند سماعها زعيم الملائكة جبرائيل قائلاً لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ مباركةٌ أنتِ في النساء: (لوقا ص1ع28) وحينما قالت لها القديسة أليصابات: مباركةٌ أنتِ في النساء، فمن أين لي مثل هذا أن تأتي أم ربي إليَّ... طوبى لتلك التي آمنت ليكون لها ما كلمت به من قبل الرب: (لوقا ص1ع42ع43ع45) أما هذه البتول فاذ كانت تنسب ذلك جميعه لله. قد أجابتها بتلك التسبحة المملؤة أتضاعاً قائلةً: تعظم نفسي للرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع أمته: (لوقا ص1ع47ع48) وكأنها بهذا كانت تقول: أما أنتِ يا أليصابات فتمدحيني، وأما أنا فأمدح الرب الذي له وحده يجب المديح. وانتِ تتعجبين من مجيئي إليكِ، وأما أنا فأنذهل من الجودة الإلهية التي بها وحدها تبتهج روحي. أنتِ تعطيني الطوبى لأجل أني آمنت بما قيل لي من قبل الرب. وأما أنا فأسبح إلهي الذي أراد أن يرفع عدمي ويكرم دناءتي ناظراً الى تواضع أمته: ولهذا أوحت العذراء نفسها للقديسة بريجيتا بقولها لها: فلماذا اذاً أنا أتضعت بهذا المقدار وأستحقيت نعماً هكذا عظيمةً. الا من قبيل كوني قد تفكرت وعرفت أنه لم يكن لي شيءٌ من قبل ذاتي، ولم أكن عند نفسي شيئاً، فلهذا ما أردت قط مديحي أنا. بل مديح ذاك المعطي والمانح وحده: ومن ثم يقول القديس أوغوسطينوس اذ يتكلم عن أتضاع مريم البتول هكذا: يا له من تواضعٍ طوباوي بالحقيقة، لأن هذا التواضع ولد للبشر الإله متجسداً، وفتح لهم الفردوس، وخلص أنفسهم من جهنم:* وأيضاً أنها لمن حقائق الأتضاع هي خدمة المرء غيره. فهذه السيدة لم تأنف من أن تمضي عند القديسة أليصابات وتخدمها مدة ثلاثة أشهرٍ. ولذلك قال القديس برنردوس: أن أليصابات أنذهلت من مجيئ الطوباوية مريم إليها. ولكن الأنذهال الأعظم هو من كون هذه السيدة لم تأتِ لتُخدَم بل لتخدُم:* ثم أن المتواضعين يوجدون منفردين عن الكثرة. ويختارون لذواتهم أحقر الأمكنة. ولهذا اذ يتأمل القديس برنردوس في كيف أن هذه الأم الإلهية حينما أرادت أن تتكلم مع أبنها يسوع، لما كان هو يعلم في أحد الأمكنة، فلم تتقدم إليه أمام الناس داخلةً من تلقاء ذاتها الى المكان الجالس هو فيه وقتئذٍ، بل مكثت في الخارج وأرسلت تخبره برغبتها أن تراه لتخاطبه. (متى ص12ع46) فيقول هو أي القديس برنردوس:" أن مريم كانت واقفةً في الخارج، لئلا تقطع مجرى الوعظ لأجل أحترامها الوالدي، ومن غير أن تدخل الى البيت الذي فيه كان أبنها يكرز". وهكذا حينما كانت هي موجودةً في الغرفة الصهيونية بعد قيامة أبنها ممن بين الأموات قد أختارت المكان الأخير، كما كتب القديس لوقا الإنجيلي بقوله: وحين دخلوها صعدوا الى الغرفة التي كانوا بها مقيمين بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلبس وتوما وبرتولماوس ومتى ويعقوب بن حلفا وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب هؤلاء كلهم كانوا مثابرين معاً على الصلاة والأبتهال مع النساء ومريم أم يسوع: (أبركسيس ص1ع13) فأحد العلماء يكتب بالصواب بأن القديس لوقا لم يكن يجهل أستحقاق والدة الإله، حتى أنه ما ذكر أسمها الا في آخر أسماء الجميع، بل لأنها كانت حقاً جالسةً في آخر الكل. وهو أي القديس لوقا كتب أسماءهم بموجب الرتبة التي بها كانوا جالسين في الغرفة فلذلك دون أسمها بعد كلهم، لأنها كانت آخذةً المكان الأخير، والا لكان من دون ريبٍ ذكر أسمها قبل الجميع لأجل أستحقاقها. ولهذا قال القديس برنردوس: أن الأستحقاق صير الأخيرة أولى. لأجل أنها صيرت ذاتها أخيرةً، مع أنه كان يخصها أن تكون هي الأولى:* ثم أن المتواضعين يحبون الأحتقار. ولهذا لم يقرأ في الإنجيل عن مريم البتول أنها ظهرت في أورشليم نهار الأحد المتقدم على آلام أبنها. الذي هو في ذلك اليوم دخل هذه المدينة تلك الدخلة الأحتفالية، وأقتبل من الشعوب الكرامات كملكٍ، بل بضد ذلك في حين موت أبنها ميتة العار. لم تأنف من أن تظهر هي حينئذٍ علانيةً على جبل الجلجلة، محتملةً خزي المعيرة في أنها كانت هي أماً لذاك المحكوم عليه بالموت كمجرمٍ مع اللصوص. ومن ثم قالت هذه السيدة عينها للقديسة بريجيتا في الوحي:" ترى أي شيءٍ أكثر أهانةً وأحتقاراً من أني أسمى حمقاء فاقدة العقل، وأن أكون محتاجةً معوزةً من كل شيءٍ، وأن أعتقد بذاتي أني فاقدة الأستحقاقات أكثر من الجميع، فتواضعي كانت هذه صفته يا أبنتي. وهذا كان نعيمي وفرحي وكل أرادتي التي بها لم أكن أفتكر بشيءٍ آخر سوى في أن أرضي أبني". ثم أن الراهبة باولا المكرمة التي من فولينو قد أختطفت مرةً ما بالروح غائصةً بالتأمل في تواضع مريم العذراء، حيث حصلت على معرفة ذلك بنورٍ سماوي. فلما أخبرت بعد هذا معلم أعترافها عنه منذهلةً من عظم أتضاع هذه البتول فكانت تقول له هكذا: كم هو عظيمٌ تواضع مريم العذراء يا أبتي فيا له من أتضاعٍ فريدٍ، لأنه لا يوجد في العالم كله أدنى درجة من التواضع بالنسبة الى أتضاع هذه السيدة المجيدة. ومرةً ما قد أظهر الرب للقديسة بريجيتا في الرؤيا أمرأتين شريفتين، فأحدهما كانت مزينةً بملابس فاخرةٍ مرتفعة العنق ذات جبروتٍ باطلٍ، وعنها قال الرب للقديسة:" أن هذه هي الكبرياء وأما الأخرى التي أنتِ تشاهدينها برأسٍ منخفضٍ، لطيفة الخطاب، عذبة الكلام مع الجميع، محترمة إياهم، وهي مع الله وحده بعقلها، وتعتبر ذاتها كلا شيء، فهذه هي الأتضاع وتسمى مريم". وبذلك أراد الرب أن يوضح لنا أن والدته الطوباوية بهذا المقدار كانت متضعةً، حتى أنها صارت هي الأتضاع نفسه.* فلا ريب ولا أشكال في أنه نظراً الى طبيعتنا الإنسانية المفسودة بالخطيئة. ربما لا توجد فضيلةٌ يعسر علينا وضعها بالعمل بأتقانٍ أكثر من فضيلة الأتضاع، كما يقول القديس غريغوريوس نيصص. ولكن لا مناص لنا منها، لأننا لا نستطيع أن نكون أولاداً حقيقيين لمريم البتول أن لم نكن متواضعين. ولذلك يقول القديس برنردوس:" فأن كنتَ يا هذا لا تقدر أن تماثل بتولية العذراء المتواضعة، فماثلن قلما يكون تواضع هذه البتول". لا سيما لأن هذه الأم الإلهية ترفض المتكبرين ولا تحب الا المتواضعين كقولها: من كان صغيراً فلينجح إليَّ: وقال ريكاردوس: أن مريم تحمينا تحت بيرق التواضع: وهذا عينه أوضحته البتول المجيدة نفسها للقديسة بريجيتا قائلةً لها: فاذاً أنتِ أيضاً يا أبنتي هلمي وأستظلي تحت ذيل برفيري الذي هو برفير تواضعي: ثم قالت لها أيضاً:" أن التأمل في أتضاعي هو وشاحٌ جليلٌ جميلٌ، ولكن من حييث أن مجرد تفكر الإنسان في الوشاح لا يدفئه، من دون أن يلتف هو بالوشاح عينه ليستدفئ، فهكذا لا يفيد مجرد التفكر في تواضعي من دون ممارسة هذه الفضيلة بالعمل، فاذاً ألبسي يا أبنتي هذا الوشاح". فبالحقيقة أن الأنفس المتواضعة هي عزيزةٌ جداً على قلب هذه السيدة، وعن ذلك كتب القديس برنردوس قائلاً: أن البتول القديسة تعرف جيداً الذين يحبونها، وهي تحبهم، مستعدةٌ لأسعاف الذين يستغيثون بها، خاصةً أولئك الذين تلاحظهم مقتدين بنموذجات فضيلتي عفتها وتواضعها العظيمتين: ولهذا يحرض القديس المذكور محبين مريم كافةً على أن يكونوا متضعين بقوله: تمسكوا بهذه الفضيلة أن كنتم تحبون مريم: فالأنبا مارينوس أو مرتينوس اليسوعي قد كان حباً بالبتول المتواضعة يكنس الدير الذي كان هو قاطناً فيه، ويغسل أمكنة الحماة من أوساخها. فلأجل ذلك ظهرت له يوماً ما هذه الأم الإلهية (كما يورد الأب نيارامبارك في كتاب حياته) وكأنها قدمت له الشكر على هذا العمل قائلةً له: أنها لعزيزةٌ لدي جداً تصرفات تواضعكَ هذه المصنوعة منكَ حباً بي:* فاذاً أنا لا يمكنني يا ملكتي أن أكون أبناً حقيقياً لكِ، ألم أكن متواضعاً. ولكن أما تنظرين أن خطاياي بعد أن صيرتني ناكر الجميل نحو سيدي، قد جعلتني متكبراً أيضاً. أواه يا أمي فأنتِ داوي سقمي، وأستمدي لي بأستحقاقات تواضعكِ النعمة في أن أصير متضعاً، وهكذا أعود أبناً لكِ آمين.* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل الثاني * في فضيلة محبة العذراء مريم والدة الإله نحو الله* أن القديس أنسلموس كتب قائلاً: أنه حيثما توجد طهارةٌ عظمى فهناك تصادف محبةٌ أسمى: وهكذا بمقدار ما يوجد القلب طاهراً نقياً فارغاً من حب الذات، فبأكثر من ذلك يوجد مملؤاً من المحبة لله. فمريم البتول الكلية الطهارة والقداسة، لأجل أنها كانت متضعةً بكليتها، وفارغة القلب من حب الذات، قد وجدت من هذا القبيل موعبةً من المحبة الإلهية، حتى أنها فاقت بالحب له تعالى على جميع البشر والملائكة أيضاً، كما قال القديس برنردينوس: أن حبها لأبنها قد سما على حب سائر المخلوقات له عز وجل: ولذلك بالصواب قد سماها القديس فرنسيس سالس: سلطانة الحب: فالرب قد أمر الإنسان بأن يحبه من كل قلبه بقوله: حب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك: (متى ص22 ع37) الا أن هذه الوصية ستوضع بالعمل من البشر بالتمام والكمال لا في هذه الأرض بل في السماء، حسبما يقول القديس توما اللاهوتي. غير أن الطوباوي ألبارتوس الكبير يلاحظ ذلك قائلاً: أنه لكان على نوعٍ ما أمراً غير لائقٍ بالله أنه سبحانه يضع وصيةً لا يوجد ولا واحد من البشر ههنا يمكنه أن يتممها بالكمال، لولا أن هذه الأم الإلهية تكون هي أكملت حفظ الوصية المذكورة تماماً وبكل أجزائها: وهذا القول يوطده ريكاردوس الذي من سان فيتورة هكذا: أن أم عمانوئيل مخلصنا قد كانت كاملةً بالتمام في كل الفضائل، لأنه ترى من هو ذاك الذي حفظ الوصية الأولى تماماً، وهي أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك الا تلك التي قد أرتسم في قلبها الحب الإلهي. وأتقد بهذا المقدار، حتى أنه لم يوجد فيها شيء بالكلية مما يثلم هذه الوصية: ويقول القديس برنردوس: أن الحب الإلهي قد جرح نفس مريم البتول نافذاً في كل قواها بهذا المقدار، حتى أنه لم يعد يوجد ولا جزءٌ من أجزاء كيانها الا وأنجرح بالحب. ومن ثم قد أكملت هي هذه الوصية الإلهية تماماً، ولذلك أمكن لعروسة النشيد هذه أن تقول: حبيبي لي وأنا له: (نشيد ص2ع16) ولهذا كتب ريكاردوس قائلاً: أن السيرافيم أنفسهم كانوا يقدرون أن ينحدروا من السماء الى الأرض لكي يتعلموا من قلب مريم العذراء الطريقة التي بها يحبون الله:* فالقديس يوحنا الرسول كتب قائلاً: أن الله محبةٌ هو: (أولى ص4ع8) فهذا الإله قد جاء الى العالم لكي يقد في الجميع لهيب نار حبه الإلهي، ولكن ولا قلبٌ من قلوب البشر كلها قد أشتعلت فيه مشاهيب هذه النار المقدسة نظير قلب والدته تعالى. لأنه من حيث أن هذا القلب البتولي كان بجملته، فارغاً بكليته من الأنعطافات نحو الأشياء الأرضية. فقد أضحى معداً مهيأ لأن يلتهب كله بنار الحب المغبوطة. كما قال القديس أيرونيموس: أن البتول المجيدة قد أتقدت كلها بنار الحب الإلهي، لأنه لم يكن يوجد في قلبها أنعطافٌ ما نحو الأشياء الزمنية، بل وجد دائماً لبها ملتهباً بعواطف هذا الحب السماوي: ولهذا صار قلبها مشتعلاً بجملته كاللهيب. وعنها قيل: أن المحبة معتزمةٌ كالموت وسرجها سرج نارٍ ولهيبٍ. مياه كثيرة لم تستطع أن تطفئ المحبة والأنهار لا تغرقها: (نشيد ص8ع7) وكما يفسر ذلك القديس أنسلموس بقوله: أن ناراً كانت تتقد في قلبها باطناً. وكانت هي من خارج تضيء كالسرج بضياء الفضائل كلها: فاذاً حينما كانت والدة الإله على الأرض حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي. كان يمكن حسناً وبالصواب أن تسمى: ناراً حاملةً ناراً. ولئن كان الفيلسوف أيبوقراط بمعنى آخر قال هذه الكلمات عن أمرأةٍ نظرها مجتازةً من أمامه حاملةً في يدها مجمرة النار متقدةً. على أن القديس أيدالفونسوس يقول: أن الروح القدس قد ألهب بحرارة الحب الإلهي مريم البتول بكليتها. نظير ما أن النار تحمي ضمنها الحديد. وهكذا كان يظهر فيها لهيب نار هذا الروح البارقليط حتى أنها لم تعد تشعر هي في ذاتها بشيء آخر الا بشهائب نار الحب الإلهي متقدةً في نفسها وقلبها: وقال القديس توما الفيلانوفي: أن العليقة التي رآها موسى ملتهبةً بالنار كلها من دون أن تحترق، كانت رسماً لقلب البتول والدة الإله: ولذلك هذه السيدة بالصواب شوهدت من الرسول الحبيب يوحنا في جليانه ملتحفةً بالشمس (أبوكاليبسي ص12ع1): لأنها بهذا المقدار كانت هي متحدةً بالله بشدة الحب (كما يقول القديس برنردوس مفسراً كلمات الأبوكاليبسي المومى إليها) حتى أنه يبان أن خليقةً بسيطةً لا يمكنها أن تتحد به تعالى أتحاداً أشد من هذا الأتحاد. فاذاً بالصواب مثلت هذه البتول المجيدة بالأمرأة الملتحفة بالشمس، اذ أنها تغمرت في أقصى عمق الحكمة الإلهية بأكثر مما يمكن تصديقه، بنوع أنها أستبانت غائصةً في ذاك النور الغير المقترب منه، بمقدار ما توجد الخليقة موضوعاً قابلاً لذلك. خلواً من الأتحاد الأقنومي بالله: ثم أن القديس بوناونتورا يشهد لنا بقوله: أن هذه الأم الإلهية لم تجرب قط من الأركون الجهنمي، لأنه كما أن الدبان والدبابير تهرب من لهيب نارٍ متأججةٍ عظيمة، فهكذا الشياطين كانوا مطرودين عن قلب هذه الطوباوية المتأجج بلهيب نار الحب الإلهي. ولذلك لم تجسر الأرواح النجسة حتى ولا على الأقتراب من قلبها ليجربوها: وكذلك يقول ريكاردوس: أن البتول المجيدة وجدت مخفيةً لأركون الظلام. بنوع أنه لم يمكنه أن يدنو منها بتجربةٍ ما، لأهتيابه من لهيب نار الحب نحو الله المتقدة في قلبها. بل أن والدة الإله نفسها أوحت للقديسة بريجيتا: بأنها اذ كانت هي في العالم، لم يكن لها لا فكرٌ آخر ولا شوقٌ ما، ولا لذةٌ أخرى، سوى الله: ولهذا كتب عنها الأب سوارس: أن نفسها المباركة اذ كانت دائماً في مدة حياتها على الأرض مرتفعةً الى العلاء في الثاوريا نحو الله. غائصةً بالتأمل فيه تعالى. فمن ثم أفعال الحب ونوافله وعواطفه كانت مفعولةً منها بعددٍ فائق الأحصاء ثم أنه قد أسرني ما كتبه برنردينوس البوسطي قائلاً: أن مريم البتول بأختصاصٍ مريدٍ موهوبٍ لها من الله. كانت تحبه عز وجل بفعل حبٍ واحدٍ حاليٍ فعالٍ متصلٍ، أحرى مما بأفعالٍ مترادفةٍ متكررةٍ كما يفعل القديسون الآخرون: وقال القديس بطرس داميانوس: أن العذراء المجيدة هي شبه النسر كانت عيناها محدقةً على الدوام في الشمس الإلهية بنوع أنه لا أعمالها الخصوصية المتعلقة بأحتياجات الحياة الزمنية. كانت تمنعها عن أفعال الحب لله. ولا الحب الإلهي كان يصدها عن ممارسة تلك الأعمال. ولهذا يقول القديس جرمانوس: أن مذبح الغفران الذي فيه كانت متقدةً النار الدائمة من دون أن تخمد أو تنطفئ لا نهاراً ولا ليلاً قد كان رسما لمريم العذراء.* بل أن النوم الطبيعي نفسه لم يكن يمنع هذه السيدة المجيدة عن أفعال الحب نحو الله، بمحبتها إياه تعالى حين رقادها عينه. لأنه أن كانت هذه الموهبة الأختصاصية قد أعطيت لآدم وحواء في حين خلقتهما، أي في حال البر الأصلي، كما يشهد القديس أوغوسطينوس بقوله: أن أبوينا الأولين كانا سعيدين على حدٍ سواء كما في حال يقظتهما كذلك في حين نومهما. فمن المعلوم الأكيد خلواً من أرتيابٍ لم تكن تنكر الخصوصية المذكورة على هذه الأم الإلهية. حسبما يحامي عن أختصاصها بها الأب سوارس، والأنبا روبارتوس جملةً مع القديس برنردينوس، ومع القديس أمبروسيوس القائل: أن نفس البتول مريم كانت تستمر ساهرةً متيقظةً حينما كان جسدها يأخذ الراحة بالنوم: وبهذا قد تصادق محققاً ما سبق وقاله عنها الحكيم: وذاقت جيداً أن تعمل فلا ينطفئ طول الليل سراجها: (أمثال ص31ع18) أي نعم أن الأمر هو كذلك: لأنه حينما كان جسد هذه القديسة المغبوط يأخذ بالنوم الخفيف قليلاً من الراحة الضرورية لحياتها، فكانت نفسها السعيدة (يقول القديس برنردينوس) حينئذٍ متحدةً بالله. ولهذا قد كانت هي في حين رقادها بأبلغ نوع من الكمال متأملةً فيه تعالى بأسلوبٍ أفضل من أن يمارس هذا التأمل من يكون في حال اليقظة". وهكذا كان يمكن بالصواب لهذه السيدة أن تقول مع عروسة النشيد: أنا نائمةٌ وقلبي ساهرٌ: (نشيد ص5ع2): فهكذا أنا كنت سعيدةً في حال نومي بمقدار ما كنت سعيدة في حين يقظتي: (كما يقول عنها الأب سوارس) وبالأجمال كتب القديس برنردينوس قائلاً: أن مريم العذراء في مدة حياتها على الأرض كانت بأتصالٍ من دون أنقطاعٍ تحب الله دائماً: بل أضاف الى ذلك بقوله: أنها لم تفعل قط الا تلك الأشياء التي تكون هي سبقت وعرفت أن بها كانت ترضي الله وتسره. وأنها أحبته تعالى بمقدار ما أعتبرت ذاتها ملتزمةً بحبه: بنوع أنه (كما كتب الأنبا ألبارتوس الكبير) يمكن جيداً أن يقال عنها أنها قد أمتلأت من الحب الشديد لله بهذا المقدار، حتى أنه لم يعد ممكناً على نوعٍ ما أن توجد خليقةٌ بسيطةٌ في الأرض موضوعاً قابلاً لأن تستوعب حباً أكثر من ذلك: ولهذا قال القديس توما الفيلانوفي: أن البتول المغبوطة بواسطة فضيلة محبتها لله المتقدة في الغاية. قد صيرت ذاتها بهذا المقدار جميلةً في عينيه تعالى. ومحبوبةً منه كثيراً، حتى أنه عز وجل أنجذب من حبها لأن ينحدر من السماء الى مستودعها متأنساً. ولذلك يهتف القديس برنردينوس قائلاً: هوذا أن فتاةً بتولاً قد جرحت قلب الله حباً بفضيلتها، وعطفته الى حبها الشديد:* فاذاً من حيث أن العذراء المجيدة تحب إلهها حباً هذا حده وصفته، فأمرٌ أكيدٌ هو أنها لا تطلب راغبةً من المتعبدين لها شيئاً آخر بمقدار ما تريد منهم أن يحبوه تعالى بكل ما يمكنهم. فهكذا قالت هذه السيدة للطوباوية أنجلا التي من مدينة فولينو في يومٍ ما حينما تناولت أنجلا القربان الأقدس، مخاطبةً إياها بهذه الكلمات وهي:" كوني مباركةً من أبني يا أنجلا، وأجتهدي في أن تحبينه بكل أستطاعتكِ". وقالت للقديسة بريجيتا:" أن كنتِ يا أبنتي تريدين أن تتحدي بي برباط الوحدة، فأحببي أبني". وبالأجمال أنها لا تشتهي شيئاً آخر سوى أن يكون أبنها الذي هو الله بالذات محبوباً من الجميع. وهنا العلامة نوفارينوس يسأل كمستفهمٍ: لماذا البتول القديسة تتوسل مع عروسة النشيد للمليكة بأن يخبروا سيدها عن الحب المضطرم سعيره، الذي به كانت هي تحبه قائلةً: يا بنات أورشليم أستحلفكن اذا وجدتن حبيبي فأخبرنه بأني أنا من المحبة ضعيفةٌ عليلةٌ (نشيد ص5ع8) أهل أن الله ما كان يعلم كم هي كانت تحبه: وهو نفسه يرد الجواب عن ذلك قائلاً: أن هذه الأم الإلهية قد أرادت بذلك أن تعلن لنا، لا لله، شدة حبها. حتى كما أنها كانت هي ضعيفةً مجروحةً بسهام الحب الإلهي، تقدر أن تجرحنا نحن أيضاً بهذا الحب، لأجل أنها هي مشتعلةٌ بجملتها بنار حب الله، فهكذا اذين يحبونها ويقتربون إليها هي تشركهم بحرارتها وتجعلهم متشبهين بها: ومن هذا القبيل كانت القديسة كاترينا السيانية تسمي هذه البتول: جالبة نار الحب الإلهي: فأن كنا نحن أيضاً نريد أن نلتهب بهذه النار المغبوطة، فلنجتهد دائماً في أن نقرب من أمنا مريم المجيدة بالصلوات والتوسلات وبعواطف الحب نحوها.* فيا مريم سلطانة الحب، أنتِ هي الموضوع الأعظم حباً، وأنتِ هي المحبوبة أشد حباً من الجميع، وأنتِ هي المتقدة بنار الحب أكثر من كل أحدٍ (حسبما يهتف نحوكِ القديس فرنسيس سالس) فيا أمي أنتِ كنتِ على الأرض مشتعلةً بكليتكِ دائماً بلهيب نار الحب نحو الله. فتنازلي مرتضيةً بأن تهبيني قلما يكون شرارةً واحدةً من هذه النار، فأنتِ قد تضرعتِ لدى أبنكِ يسوع من أجل العروس والعروسة اللذين في وليمة عرسهما في قانا الجليل نقص عنهما الخمر قائلةً له تعالى: أن ليس عندهم خمرٌ: أفهل لا تتضرعين لديه من أجلنا نحن الفارغين من خمر الحب نحو الله، مع أننا ملتزمون ألتزاماً هذا حد صرامته بأن نحبه عز وجل. فقولي اذاً له: أن هؤلاء ليس عندهم حبٌ: وهكذا أنتِ أستمدي لنا منه هذا الحب، ونحن لا نطلب منكِ نعمةً أخرى غير هذه. فيا أيتها الأم الإلهية بحق المحبة التي بها أحببتِ يسوع وتحبينه أستجيبي لنا وصلي من أجلنا الآن وفي ساعة موتنا آمين.* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل الثالث * في شأن محبة البتول والدة الإله الحارة نحو القريب أيضاً* أن المحبة لله والمحبة للقريب قد رسمت علينا من قبل الله بوصيةٍ واحدةٍ هي نفسها: لأن هذه الوصية لنا منه، أن من يحب الله، يحب أخاه أيضاً: (يوحنا أولى ص4ع21): والسبب في ذلك، يقول القديس توما اللاهوتي، هو لأن الذي يحب الله فيحب أيضاً كل الأشياء المحبوبة منه تعالى: فالقديسة كاترينا التي من مدينة جانوا كانت يوماً ما تخاطب الله قائلةً: أيها الرب أنتَ تريد مني أن أحب قريبي، وأنا لا أقدر أن أحب آخر غيركَ. فالباري جلت رأفته قد أجابها عن ذلك بقوله لها: أن من يحبني يحب كل الأشياء المحبوبة مني. فاذاً من حيث أنه ما وجد قط، ولن يوجد أصلاً من أحب الله أو يحبه أكثر من والدته المجيدة، فهكذا لم يوجد مطلقاً ولن يكون أبداً من أحب القريب أو يحبه أكثر من حبها إياه. فالأب كورنيليوس الحجري اذ يفسر كلمات سفر النشيد (ص3ع9) وهي: أن سليمان الملك عمل له عماريةً من خشب لبنان، فعمل عمدها من فضةٍ، ومتكأها من ذهبٍ، وجلالها من أرجوان، وباطنها مرصعاً، وذلك بواسطة محبة بنات أورشليم: فيقول:" أن هذه العمارية أي العرش هي رسم مستودع مريم البتول الذي عندما سكن فيه كلمة الله متجسداً، قد أوعب والدته هذه حباً وشفقةً، لكي تساعد هي مسعفةً كل من يلتجئ إليها". ولذلك قد كانت هذه الأم الإلهية في مدة حياتها على الأرض ممتلئةً من المحبة والرأفة بهذا المقدار، حتى أنها كانت تسعف المحتاجين من دون أن يلتمسوا منها ذلك. كما فعلت في عرس قانا الجليل، بطلبها من أبنها أن يصنع تلك الأعجوبة، موردةً لديه أحتياجهم بقولها: أن ليس عندهم خمرٌ: (يوحنا ص2ع3) فكم كانت هي سريعةً نشيطةً حارةً في الأعمال الملاحظة أسعاف القريب، حسبما يظهر عن أهتمامها في مساعدة القديسة أليصابات، حينما فهمت من زعيم الملائكة أنها كانت حبلى بأبنٍ على شيخوختها لأنها قامت مسرعةً وذهبت الى الجبل الى مدينة يهوذا ودخلت الى بيت زخريا: (لوقا ص1ع39) ثم أنها لم تستطع أن تظهر نحو البشر أشد حباً من أنها تقدم لله الآب من أجل خلاصهم أبنها الوحيد ضحيةً على جبل الجلجلة. كما يقول القديس بوناونتورا: أن مريم هكذا أحبت العالم، حتى أنها بذلت عنه أبنها الوحيد: والقديس أنسلموس يخاطبها قائلاً: أيتها المباركة في النساء أن طهارتكِ فاقت طهارة الملائكة، وأشفاقكِ سما على أشفاق كل القديسين. ويقول القديس بوناونتورا عينه: أن رأفة مريم ومحبتها إيانا لم تنقص فيها أصلاً بعد أرتقائها الى السماء حيث هي الآن جالسة، بل أن ذلك قد أزداد فيها هناك نامياً وأشتد حرارةً لأنها الآن بأبلغ نوع تشاهد أحوال شدائد البشر: ومن ثم كتب هذا القديس قائلاً: ان مراحم مريم نحو المساكين المضنوكين قد كانت عظيمةً حينما هي وجدت عائشةً على الأرض، ولكن هذه المراحم هي الان فيها أعظم في وجودها مالكةً في السماء ولذلك قال ملاك الرب للقديسة بريجيتا:" أن ما من أحدٍ يتوسل الى والدة الإله، ولا ينال من قبل حبها النعمة التي يطلبها". بل أن مخلصنا نفسه أوحى لهذه القديسة بقوله لها: يا لتعاسة أولئك الذين لا تتوسل من أجلهم أمي البتول:* فهذه العذراء المجيدة تقول بلسان الحكيم، مغبوطٌ هو الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبواب مداخلي: (أمثال ص8ع34) وقد كتب القديس غريغوريوس النزينزي قائلاً:" أنه لا يوجد شيءٌ يصيرنا أن نكتسب بأفضل نوعٍ أنعطافات مريم البتول بالحب نحونا بمقدار هذا الشيء، وهو ممارستنا واجبات المحبة نحو القريب". وبالتالي أنه كما أن الله يحرضنا بقوله لنا: كونوا رحومين فأن أباكم رحومٌ هو: (لوقا ص6ع36) فكذلك مريم يبان أنها تقول نحونا جميعاً نحن أولادها: يا أبنائي كونوا رحومين فأن امكم رحومةٌ هي: فأمرٌ أكيدٌ هو أنه بمقدار الرحمة والأسعاف اللذين بهما نحن نرحم قريبنا ونسعفه، فتكون رحمة الله ورأفة والدته ممارسةً نحونا. كقوله تعالى: أعطوا تعطوا بمكيالٍ صالحٍ مملؤٍ يلقون في حضنكم. (لوقا ص6ع38) وكان القديس متوديوس من عادته أن يقول: أعطِ الفقراء وخذ الملكوت: لأن الرسول الإلهي كتب قائلاً: أما العبادة الحسنة فهي نافعةٌ في كل شيء، اذ لها موعد الحيوة الحاضرة والمنتظرة (تيموتاوس أولى ص4ع8) والقديس يوحنا فم الذهب اذ يتكلم عن قول الحكيم وهو: أن من يرحم مسكيناً يقرض الرب وسيكافئه على قدر عطيته: (أمثال ص14ع17) فيقول: أن من يسعف المحتاجين يصير الله مديوناً له:* فيا أم الرحمة أنتِ مملؤةٌ أشفاقاً وترأفاً ومحبةً نحو الجميع، فلا تنسي شقاوتي ومسكنتي، لأنكِ تشاهديني وتعرفين حالي. فأوصي بي ذاك الإله الذي لا يمكن أن ينكر عليكِ شيئاً، وأستمدي لي منه النعمة في أن أقتفي نموذجكِ في فضيلة المحبة نحو الله ونحو القريب آمين.* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل الرابع * في فضيلة إيمان العذراء والدة الإله المجيدة * أنه كما أن البتول مريم هي أم المحبة والرجاء فهكذا هي أم الإيمان أيضاً، كقولها: أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والمعرفة والرجاء المقدس: (أبن سيراخ ص24ع24): وهذا بالصواب، يقول القديس أيريناوس، لأن ذلك الضرر الذي سببته حواء بعدم إيمانها، فقد أصلحته مريم بحسن إيمانها: اذ أن حواء (يقول المعلم ترتوليانوس) لأجل أنها صدقت قول الحية ضد ما كان الله قاله. فقد أجتلبت الموت، وأما ملكتنا المجيدة فاذ صدقت كلام زعيم الملائكة، بأنها مع حفظ خواتيم بتوليتها كانت مومعةً أن تصير أماً لله متجسداً من أحشائها، فقد أجتلبت للعالم الخلاص. وهكذا يقول القديس أوغوسطينوس: أن مريم البتول بأعطائها رضاها بتجسد كلمة الله الأزلي في مستودعها، فبواسطة إيمانها قد فتحت للبشر أبواب الملكوت: وريكاردوس اذ يتكلم عن قول الرسول الإلهي: فأن الرجل الغير المؤمن يتقدس بالأمرأة المؤمنة: (قرنتيه أولى ص7ع14): يقول عن البتول مريم: هذه هي الأمرأة المؤمنة التي بها تقدس الرجل الغير المؤمن آدم وكل ذريته: ولأجل أمانة هذه العذراء الكلية القداسة قد أعطيت هي الطوبى من القديسة أليصابات القائلة لها: فطوبى لتلك التي آمنت ليكون لها ما كلمت به من قبل الرب: (لوقا ص1ع45) ويضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس بقوله: أن مريم قد حصلت على أعظم طوبى بأقتبالها الإيمان بما بشرها به زعيم الملائكة بسر التجسد، من الطوبى الذي هي حصلت عليه بأقتبالها المسيح متجسداً في أحشائها:* أما الأب سوارس فيقول:" أن البتول القديسة حصلت على إيمانٍ أعظم من إيمان البشر كلهم ومن إيمان الملائكة بأسرهم، فهي كانت تشاهد أبنها طفلاً في معلف البهائم في مغارة بيت لحم. وكانت مؤمنةً به أنه خالق البرايا كافةً. وكانت تراه هارباً الى مصر من يد هيرودس، ولم ترتب في أن تؤمن به أنه ملك الملوك ورب الأرباب. قد شاهدته مولوداً من مستودعها، وآمنت به أنه أزلي. قد راته مسكيناً محتاجاً الى القوت والكسوة، وأعتقدت به أنه سلطان العالمين. قد درجته باللفايف ووضعته فوق التبن في المذود. وآمنت به أنه قادرٌ على كل شيءٍ. قد لاحظته صامتاً كالأطفال، وأعتقدت به أنه الحكمة الإلهية الغير المتناهية. كانت تسمعه باكياً كالرضعان، وآمنت به أنه فرح الفردوس ونعيم الملكوت. وأخيراً رأته حين موته على الخشبة مهاناً محتقراً. وأستمرت ثابتةً على أعتقادها به أنه هو الإله، في الوقت الذي فيه كان الآخرون يرتابون ضعفاً في الأمانة". وقد كتب القديس أنطونينوس بتكلمه عن قول البشير: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: قائلاً: أن مريم كانت واقفةً تحت الصليب مرتفعة العقل بالإيمان الذي كانت حافظته بألوهية أبنها المصلوب، ولأجل ذلك قد جرت العادة في أن تحفظ شمعةٌ واحدةٌ متقدةً بعد طفي بقية الشموع حين صلاة فرض الآلام: وبهذ المعنى فسر القديس لاون الكبير كلمات سفر الأمثال وهي: فما ينطفي طول الليل سراجها: (ص31ع18) أما القديس توما اللاهوتي فعلى تفسير كلمات أشعيا النبي وهي: دست معصرةً وحدي ولم يكن معي من الأمم رجلٌ: (ص63ع3) قد كتب قائلاً: أنه أنما سمى الرجل أستثناءً عن البتول المجيدة التي قط لم ينقص إيمانها:* ولهذا قال الطوباوي ألبارتوس الكبير:" أن مريم البتول حينئذٍ قد أظهرت بالعمل أمانةً عظيمةً بدرجةٍ كلية السمو، اذ لم ترتب في ذاك الذي وقتئذٍ تلاميذه أنفسهم كانوا يرتابون فيه". ولذلك قد أستحقت مريم لأجل عظم إيمانها أن تصير نوراً للمؤمنين كلهم، كما يسميها القديس متوديوس. وأن تدعى سلطانة الإيمان الحقيقي، حسبما يلقبها بذلك القديس كيرللس الأسكندري. بل أن الكنيسة المقدسة تخصص بأستحقاقات إيمان هذه البتول العظيم أنغلاب الأرتقات كلها، اذ تقول نحوها في الأنتيفونا الأولى من السهرانة الثالثة هكذا: أفرحي أيتها البتول مريم، أنتِ التي قد لاشيتِ مستأصلةً من كل العالم الأرتقات بأسرها: على أن القديس توما الفيلانوفي اذ يفسر ما قاله الروح القدس في سفر النسيد وهو: أيتها العروسة أختي جرحتِ قلبي بإحدى عينيكِ: (ص4ع9) فيقول: أن عيني هذه العروسة هما إيمان مريم العظيم الذي سر به جداً ربها وعروسها.* وهنا القديس أيدالفونسوس يحرض الجميع بقوله:" أتبعوا نموذج أمانة مريم البتول العظيمة". ولكن كيف وبأية طريقةٍ نتبع نحن أيمان هذه السيدة العظيم، فالإيمان هو في الوقت عينه موهبةٌ وفضيلةٌ معاً، فهو موهبةٌ من الله نظراً الى النور السماوي الذي يفيضه تعالى في النفس، وهو فضيلةٌ نظراً الى أفعال الإيمان التي تمارسها النفس بذاتها. ومن ثم أن الإيمان ليس فقط يدربنا للأعتقاد بالحقائق التي يعلمناها هو ويرشدنا إليها، بل أيضاً يقودنا الى الأعمال المختصة به. ولذلك يقول القديس غريغوريوس الكبير: أن من يضيف الى الإيمان الحقيقي الأعمال الواجبة للإيمان، فذاك هو المؤمن: وكتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أنك يا هذا تقول أنا أؤمن. فأعمل بما تقول وهذا هو الإيمان: على أن الإيمان الحي بالحقيقة هو الحيوة بموجب واجبات الإيمان، أي أن يعيش المرء بحسبما يؤمن، كما يقول الرسول الإلهي: أن الصديق من الأمانة يحيى: (عبرانيين ص10ع38) فهكذا عاشت الطوباوية مريم البتول، خلافاً لأولئك الذين لا يحيون بموجب ما يؤمنون به. وبالتالي أن إيمانهم على هذه الصورة هو ميتٌ كقول القديس يعقوب الرسول: أن الأمانة أن لم يكن لها عملٌ فهي مائتةٌ في ذاتها: (ص2ع17) فالفيلسوف ديوجانه كان يجول في الأرض قائلاً: أني أدور مفتشاً لأصادف إنساناً: وهكذا يبان أن الله فيما بين عددٍ فائق الإحصاء من المؤمنين يجول في الأرض قائلاً: أني أدور مفتشاً لأصادف مسيحياً. من حيث أنهم قليلون جداً هم أولئك الذين يعملون أعمال الإيمان، والأكثرون يوجد عندهم من الأمانة الأسم فقط. ولكن يلزم أن يقال لهؤلاء الكثيرين ما تفوه به الملك ألكسندروس الكبير نحو ذاك الجندي الكسلان الذي هو أيضاً كان أسمه ألكسندروس قائلاً له: أنه ينبغي لك أما أن تغير أسمك، وأما أن تغير تصرفك: الا أنه لأفضل هو ما كتبه في هذا الشأن الأب العلامة أفيلا بقوله: أنه لقد كان يجب أن يوضع هؤلاء الكثيرون مسجونين في بيمارستان المجانين، لظنهم في أن سعادةً أبديةً معدةً لمن يعيش متنعماً في هذه الحياة، وأن تعاسةً سرمديةً مهيأةً لمن يعيش بالمرائر والأضامات في الدهر الحاضر. ثم لسلوكهم بسيرةٍ توضح كأنهم لم يؤمنوا بحقائق الأنجيل: ولهذا يحرضنا القديس أوغوسطينوس على أن ننظر الى الأشياء الأرضية بأعين مسيحية، أي بأعين تنظر بموجب الإيمان المسيحي. لأنه تقول القديسة تريزيا: أن من قبل نقص الإيمان تتولد الخطايا كلها: ولهذا يلزمنا أن نتوسل لدى البتول والدة الإله المثلثة القداسة في أن تستمد لنا بأستحقاقات إيمانها العظيم، أمانةً حيةً نعيش فيها قائلين نحوها: يا سيدتنا زيدينا إيماناً.* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل الخامس * في فضيلة الرجاء الثابت الذي كان لوالدة الإله الطوباوية * أن من فضيلة الإيمان تتولد فضيلة الرجاء لأن الله لهذه الغاية ينيرنا بالإيمان لنعرف خيرية صلاحه وصدق مواعيده. وهكذا نرتقي بواسطة الرجاء بعواطف الشوق الى أمتلاكنا إياه تعالى. فاذاً من حيث أن مريم البتول قد كانت حاصلةً على إيمان غظيم، ففازت أيضاً بفضيلة رجاءٍ ثابتٍ وطيدٍ كان يجعلها أن تقول مع النبي والملك داود: خيرٌ لي الألتصاق بالله وأن أجعل على الرب أتكالي: (مزمور73ع28) فمريم هي تلك الأبنة عروسة الروح القدس التي قيل عنها: من هي هذه الصاعدة من البرية متدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) لأنها كانت بجملتها منزهةً عن تعلق القلب في الأشياء العالمية، بعيدةً على الدوام عن الأنعطاف نحو الموجدات الأرضية، معتبرةً العالم بأسره كبريةٍ مقفرةٍ، ولهذا اذ لم تكن تثق بشيءٍ من المخلوقات، ولم تكن تعتمد على شيءٍ من أستحقاقاتها الذاتية، فكانت بكليتها مستندةً على حبيبها، أي متكلةً بحسن الرجاء على النعمة الإلهية التي فيها فقط كانت تثق، وعليها وحدها كانت تتكل في حبها الدائم لله ربها. فهكذا يتكلم عنها المعلم أيلغرينوس في تفسيره ألفاظ سفر النشيد المقدم إيرادها، كما يوضح كورنيليوس الحجري قائلاً: أن الصاعدة من البرية تعني الصاعدة من العالم الذي هجر متروكاً منها. وأعتبرته نظير القفر، حتى أنها قد كانت لاشت منها كل أنعطافٍ نحوه، وأستندت على حبيبها فقط، وذلك لأنها لم تستند على أستحقاقاتها الذاتية، بل أعتصمت بنعمة أبنها الحبيب معطي النعم. فالبتول القديسة أظهرت جيداً وأعلنت واضحاً كم كان رجاؤها بالله وأتكالها عليه تعالى عظيماً، وذلك: أولاً:حينما لاحظت بالكفاية أن خطيبها الطاهر القديس يوسف لعدم معرفته حقائق الحبل العجيب المصنوع بقوة الروح القدس وفعله في أحشائها البتولية حصل قلقاً مرتاباً ومن ثم هم بتخليتها سراً: (متى ص1ع19) ولهذا كان يبان أنها وقتئذٍ وجدت مضطرةً لأن تخبره بسر حبلها، كما أوردنا في الفصل الأول من هذه المقالة. الا أن هذه البتول لم ترد من تلقاء ذاتها أن تكشف حقائق النعمة التي أقتبلتها، وأعتبرت أنه لأفضل لها هو أن تترك الأمر للعناية الإلهية، متكلةً عليها كل الأتكال، مترجيةً بثقةٍ في أن الله عينه لم يكن يغفل عن أن يظهر برارتها، ويحامي عنها بعدم أنثلام صيتها، فهكذا يفسر الاصحاح الأول من بشارة متى الأب كورنيليوس الحجري.* ثانياً:أوضحت أتكالها بحسن الرجاء على الله حينما رأت ذاتها بالقرب من ساعات ولادتها مطرودةً من بيت لحم، حتى من المنازيل المشاعة. وألتزمت بأن تلتجئ الى مغارةٍ خارج المدينة لتلد هناك رب المجد، كقول البشير لوقا: فولدت أبنها البكر ولفته بلفائف ووضعته في مذودٍ. لأنه لم يكن لهما موضعٌ لينزلا: (ص2ع7) فهي لم تتفوه بكلمةٍ ما ذات تذمر، بل فوضت أمرها لله بكمال الأتكال، واثقةً بأنها في ظروفٍ هذه صفتها كانت تفوز بالأسعاف والمعونة منه تعالى.* ثالثاً: ومثل ذلك أعلنت حسن رجائها بالله حينما أخبرها القديس يوسف بالوحي الذي بواسطته أمر من قبل الله بأن يأخذها مع طفلها الإلهي، ويهربوا معاً الى مصر من رجز هيرودس. فهي حالاً في تلك الليلة عينها أخذت بالمسير مبتدئةً بسفرٍ شاسع المسافة الى بلادٍ مجهولةٍ منها، خلواً من أحتياجات السفر ومن دون مال، وخلواً من خادمةٍ أو رفقاء سوى طفلها وخطيبها، بل قاموا ليلاً وأخذوا بالمسير الى مصر (متى ص2ع14).* رابعاً: أنها أظهرت بأبلغ نوع رجاءها بالله عندما ألتمست من أبنها صنع الأعجوبة في عرس قانا الجليل، لأنها بعد أن قالت له: أن ليس عندهم خمرٌ: وهو أجابها: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: فمع ذلك أي غب أن سمعت منه تعالى هذا الجواب الذي كان يظهر منه أنه أنكر مطلوبها، فلم يضعف فيها الرجاء، بل قالت للخدام: أفعلوا كل ما يأمركم به: (يوحنا ص2ع3) كما تم بالحقيقة رجاؤها بأن يسوع أمر الخدام بأن يملأوا الست الأجلجين ماءً وأحال الماء اللا خمرٍ.* قلنتعلم اذاً من مريم العذراء أن نتكل على الله بحسن الرجاء كما ينبغي لا سيما في الأشياء الملاحظة ذاك العمل العظيم المختص بخلاصنا الأبدي، الذي ولئن كان محتاجاً الى أعمالنا نحن أيضاً، فمع ذلك يلزمنا أن نرجوا من الله وحده النعمة في أن نحصل عليه، ميؤوسين بالكلية من قوانا الذاتية. وليقل كلٌ منا مع الرسول الإلهي: أنا أقوى على كل شيءٍ بذاك الذي يقويني: (فيليبوسيوس ص4ع13):* فيا أيتها البتول أمي الكلية القداسة. أنكِ أنتِ هي أم الرجاء المقدس. كما تقولين عن لسان أبن سيراخ: أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والرجاء المقدس: (ص24ع24) بل أن الكنيسة المقدسة تسميكِ الرجاء بالذات بقولها نحوكِ: السلام عليكِ يا رجانا: فاذاً أيُّ رجاءٍ أنا أطلب مفتشاً. والحال أنكِ أنتِ بعد يسوع هي رجائي بأسره. فهكذا كان يدعوكِ القديس برنردوس: وكذلك أنا أدعوكِ قائلاً: فيكِ أوطد كل رجائي: وأقول لكِ دائماً مع القديس بوناونتورا: يا خلاص المستغيثين بكِ خلصيني.* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل السادس * في فضيلة عفة البتول والدة الإله الكلية الطهارة * أنه اذ كان بعد سقطة الأب الأول آدم قد تمرد في الإنسان ألم الشهوة على العقل، فقد أضحت ممارسة أفعال فضيلة العفة ذات صعوبات أبلغ مما سواها من الفضائل. كما يقول القديس أوغوسطينوس:" أنه توجد داخل كل منا معركةٌ قويةٌ جداً، حيث تتحارب العفة مع الآلام محاربةً متصلةً بقليل من الأنتصار. فليكن مباركاً الرب الذي أعطانا في شخص العذراء مريم نموذجاً حياً لفضيلة العفة". فيقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه بالصواب تسمى والدة الإله عذراء العذارى. لأنها اذ كانت هي أول من قدم لله طوعاً حفظ البتولية الدائمة، خلواً من نموذجٍ سبق مثله، ومن دون مشورةٍ تقدمت لها. فهي بذلك أعطته تعالى كل البتولات اللواتي أقتدين بنموذجها، كما سبق داود النبي قائلاً: أن العذارى يبلغن الى الملك في أثرها... ويدخلن الى هيكل الملك: (مزمور45ع15) وأنما قلت أن العذراء كرست بتوليتها الدائمة خلواً من نموذج ومن دون مشورة. لأن القديس برنردوس يخاطبها هكذا:" ترى من هو الذي علمكِ أيتها العذراء بأنكِ ترصين الله بحفظكِ البتولية، وبأن تعيشي على الأرض بسيرةٍ ملائكية". فيجيب عن ذلك القديس صفرونيوس قائلاً: أنه لأجل هذه الغاية قد أختار الله أماً له بالجسد هذه البتول الكلية الطهارة. لكي تكون هي للجميع نموذجاً للعفة: ولذلك يدعوها القديس أمبروسيوس: مقدام فضيلة العفة وقائدتها:* بل أن الروح القدس نفسه خاطبها لأجل نقاوتها وعفتها هكذا: ما أشد بهاء وجنتيكِ كاليمامة: (نشيد ص1ع10) وكما يفسر العلامة أبونيوس: يمامةً كلية الطهارة: ولذلك لقبت أيضاً بالسوسن والزنبق كقوله تعالى: مثل السوسن بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات: (نشيد ص2ع2) وهنا ينبه القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس بقوله: أن البتول المجيدة قد سميت سوسناً أو زنبقاً أم وردةً بين الأشواك. لأن البتولات الأخرات كلهن كن أشواكاً وقرطباً وعثراتِ أما لغيرهن، وأما لذواتهن، فأما هذه الطوباوية فلم تكن كذلك: لأنها كانت بمجرد النظر إليها تجلب في القلوب أفكار الطهارة والعفاف والميل نحو محبة النقاوة والعفة: ويثبت ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله: أن جمال خلقة البتول المجيدة كان يحرك ناظريها الى العفة: ثم كتب القديس أيرونيموس، بأنه هو متمسكٌ برأيه في أن القديس يوسف الخطيب قد حفظ البتولية ليكون رفيقاً لهذه العذراء المجيدة، غير مفارقٍ إياها، لأنه أي القديس أيرونيموس بكتابته ضد الفيديوس الأراتكي الناكر بتولية هذه الأم الإلهية يقول له هكذا: فأنت تزعم أن مريم والدة الإله لم تستمر فيما بعد حافظةً عذريتها. وأنا بضد ذلك أقول، بل أرتأي بأكثر من هذا بأن القديس يوسف أيضاً عروسها قد حفظ البتولية لأجل هذه العروسة الدائمة بكارتها". وقد قال أحد العلماء: أن الطوباوية مريم العذراء كانت بهذا المقدار منشغفة القلب بمحبة فضيلة العفة. حتى أنها لكي تحفظ هي عذريتها دائمةً لقد كانت ترفض أن تقبل لالدعوة الكلية العظمة والسمو وهي الوالدية لله، لو كان يقترن بهذه الدعوة فقدها بتوليتها: وهذا يستنتج واضحاً مما أجابت هي به زعيم الملائكة جبرائيل قائلةً له: كيف يمكن أن يكون هذا وأنا لم أعرف رجلاً: (لوقا ص1ع34) وأيضاً مما أختتمت به خطابها معه بقولها: فليكن لي كحسب قولك: مشيرةً بهذا ومفسرةً به نيتها في أنها أنما قد أعطت رضاها بتجسد كلمة الآب من أحشائها، بالنوع الذي قاله لها رئيس الملائكة. وهو أنها كانت مزمعةً أن تصير أماً بهذه الطريقة فقط، وهي بحلول الروح القدس عليها وبتظللها بقوة العلي، أي بفعلٍ فائق الطبيعة بقوة الروح القدس.* ويقول القديس أمبروسيوس: أما الذي يحفظ عذريته فملاكٌ هو وأما الذي يخسرها فشيطانٌ: أي أن أولئك الذين يعيشون بالعفاف فيصيرون كالملائكة. كقوله تعالى: لأنهم في القيامة لا يزوجرون ولا يتزوجون، لكن يكونون كملائكة الله: (متى ص22ع30) وأما الزناة والفاسقون فيضحون مبغوضين من الله نظير الشياطين. وكان القديس راميجيوس من عادته أن يقول:" أن أكثر البالغين سن الرجولية يهلكون لأجل رذيلة الدنس". لأن الأنتصارات ضد هذه الرذيلة هي شيءٌ نادرٌ. كما أوردنا في ذلك كلمات القديس أوغوسطينوس عند بداية هذا الفصل. ولكن ما السبب في أن الأنتصارات هي نادرةٌ. فأنما السبب هو من عدم ممارسة الوسائط الضرورية لأكتساب الغلبة، فهذه الوسائط هي ثلاث حسبما يبرهن معلموا السيرة الروحية. جملةً مع بيلرمينوس وهي: الصوم، والأبتعاد عن الأسباب، والصلاة، فبالصوم الذي هو الواسطة: الأولى: تفهم أماتات الحواس، خاصةً النظر والحنجرة. فمريم البتول ولئن كانت هي ممتليئةً نعمةً إلهيةً، فمع ذلك كانت تميت حاسة نظرها محدقةً بعينيها الى الأرض دائماً. كما يقول القديسان أبيفانيوس ويوحنا الدمشقي، ويوردان عنها انها منذ طفولتها كانت متصفةً بأحتشام فريد مذهل ناظريها، ولذلك يوضح القديس لوقا كيفية مضيها لزيارة القديسة أليصابات بقوله: وذهبت مسرعةً: لكيلا تشاهد من كثيرين في مسيرها. وأما بخصوص قناعتها في المأكل، فيخبر فيليبارتوس بأنه قد اوحي الى السائح فيليكوس بأن مريم العذراء اذ كانت طفلةً رضيعةً، فلم تكن ترضع الحليب من أمها سوى مرةٍ واحدةٍ في النهار. ويشهد القديس غريغوريوس الطورنازي، بأنها في أيام حياتها كلها كانت تمارس الصوم، كما يقول القديس بوناونتورا: أنها لما كانت هي قط فازت بنعمٍ هكذا عظيمةٍ، لولا تكون كلية القناعة. وذلك لأن النعمة لن تتفق أصلاً مع الحنجرة. وبالأجمال أن هذه البتول القديسة كانت تمارس الأماتة في الأشياء كافةً، ولذلك بالصواب قيل عنها: قمت، لأفتح لحبيبي يداي قطرتا مراً، وأصابعي مملؤةٌ مراً فائقاً: (نشيد ص5ع5) أما الواسطة: الثانية:فهي الهروب من الأسباب، لأنه مكتوبٌ: أن من يحذر الفخاخ فيكون مطمأناً: (أمثال ص11ع15) ولذلك كان القديس فيلبس نيري من عادته أن يقول: أن الغالبين في معركة آلام الشهوة أنما هم الجنود الأندال الذين يولون هرباً: أي الذين يهربون من سبب الخطيئة. فمريم العذراء كانت بمقدار أمكانها تهرب من مواجهة الرجال. ولذلك في ذهابها الى الجبل الى بيت زخريا ذهبت مسرعةً كما تقدم الإيراد. ويقول أحد العلماء: أن والدة الإله قد رجعت من بيت زخريا قبل أن يبلغ زمن إيلاد القديسة أليصابات، وهذا يفهم من ألفاظ الإنجيل عينها وهي: فأقامت مريم عند أليصابات نحو من ثلاثة أشهرٍ وعادت الى منزلها. ولما تم زمان أليصابات لتلد فولدت أبناً ألخ: (لوقا ص1ع56) فلماذا لم تستمر هي ماكثةً عند أليصابات لحين ميلاد السابق يوحنا، فأنما فعلت ذلك هرباً من مخالطتها الجيران والمعارف والزوار الذين هي لحظت جيداً أنهم كانوا مزمعين أن يترددوا الى بيت زخريا في حادث فرح ميلاد أليصابان أبناً في حال شيخوختها.* وأما الواسطة الثالثة:فهي الصلاة، فيقول الحكيم: ولما عرفت أني لا أستطيع أن أكون عفيفاً أن لم يعطيني الله أن أكون، وهذا هو حكمةٌ أن أعلم ممن كانت لي هذه العطية، فذهبت الى الرب وتضرعت إليه: (سفر الحكمة ص8ع21) فالبتول الكلية النقاوة عينها قد أوحت للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس (كما يورد القديس بوناونتورا في الرأس 3من كتاب حياة المسيح) بأنها لم تمتلك هي فضيلةً ما من فضائلها من دون صلواتٍ متواترة وأتعابٍ متكاثرة. وقال عنها القديس يوحنا الدمشقي:" أن مريم كانت طاهرةً في ذاتها ومغرمةً في حب الطهارة". وبالتالي لا تحتمل هي الناس الدنسين، الا أن الذي يكون معرقلاً برذيلة الدنس ويلتجئ الى هذه العذراء الفائقة الطهر مستغيثاً بها، فمن دون ريبٍ يفوز بالنجاة من دناساته، بل ينجو من تجارب اللحم بمجرد أستدعائه برجاءٍ وحسن أتكالٍ أسم هذه الأم الإلهية مريم. كما يثبت ذلك يوحنا أفيلا المكرم بقوله: أن كثيرين جداً قد أختبروا في ذواتهم النجاة من التجارب المضادة العفة. وأنتصروا عليها بمجرد أنعطافهم نحو البتول البريئة من الدنس:* فيا أيتها الحمامة الكلية النقاوة مريم العذراء أواه كم هم كثيروا العدد أولئك الذين هلكوا في جهنم من قبل رذيلة الدنس. فأنقذينا منها أيتها السيدة. وأجعلينا أن نلتجئ إليكِ دائماً في حين التجارب التي تثب علينا ضد العفة. وأن نستغيث بكِ قائلين: يا مريم عينينا، يا مريم خلصينا آمين.* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل السابع * في فضيلة الفقر التي كانت البتول المجيدة متصفةً بها * أن مخلصنا الكلي الحب اذ أراد أن يعلمنا أحتقار خيرات الأرض. قد أرتضى بأن يولد في حال الفقر ويصير مسكيناً في هذا العالم. كما يقول الأنبا المصطفى (قرنتيه ثانية ص8ع9): أنكم تعرفون بنعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم تمسكن وهو الغني، لتستغنوا أنتم بمسكنته. فمن ثم فادينا عينه يحرض كل من يريد أن يكون تابعاً إياه اذ يقول: أن كنت تريد أن تكون كاملاً أمضِ فبع كل ما لك وأعطه للمساكين... وتعال فأتبعني: (متى ص19ع21) فهوذا مريم البتول تلميذة مخلصنا الأكثر كمالاً هي التي قد أتبعت حسناً نموذج أبنها الإلهي. لأن الأب كانيسيوس يبرهن على أن هذه البتول قد كانت ورثت عن والديها وأقاربها موجوداتٍ ذات مداخيل كافيةٍ أن تعيش بكل راحةٍ. فهي أبقت لذاتها منها الشيء القليل، ووزعت الأكثر في أسعاف الفقراء وفي تقدماتٍ لهيكل الرب حتى أن كثيرين يرتأون بأنها صنعت نذر الفقر عينه. بل أنه لمعلومٌ هو أنها أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أنني منذ البداية قد نذرت على ذاتي في قلبي أن لا أمتلك شيئاً من خيرات الأرض: ثم أن الهدايا التي قدمها لها المجوس في بيت لحم لم تكن ذات ثمنٍ قليلٍ من ذهبٍ ولبانٍ ومرٍ. ولكن هي أعطت كل شيءٍ للفقراء حسبما يشهد القديس برنردوس قائلاً:" أن الذهب الذي قدمه لها المجوس لم يكن ذا كميةٍ جزئيةٍ، بل كان وافراً بنوعٍ لائقٍ بعظمةٍ ملوكيةٍ في تقدمةٍ كذا. الا أن مريم العذراء قد فرقته بواسطة خطيبها البار يوسف على المساكين من دون أن تستبقي لذاتها منه شيئاً". وهذا يتضح من البرهان الآتي إيراده. وهو أن هذه الأم الإلهية حينما قدمت أبنها في هيكل الرب الأورشليمي عند نهاية الأربعين يوماً من ولادتها إياه، فلم تقرب عنه خاروفاً أبن سنةٍ، كالمرسوم على الجميع، ما عدا الفقراء وهذه هي ألفاظ الشريعة: أن الأمرأة اذا أكملت أيام تطهيرها، أبناً ولدت أم أبنةً، فلتأتِ بحملٍ حولىٍ للوقود، وبفرخ حمام أو يمام للخطيئة الى باب قبة الشهادة، وتدفعها الى الكاهن... وأن لم تقدر على تقدمة حملٍ. فلتأخذ زوج يمامٍ، أو فرخي حمامٍ الواحد للوقود والآخر للخطيئة: (أحبار ص12ع6) أما البتول المجيدة فقدمت فرخي حمامٍ أو يمامٍ الأمر المختص بالفقراء اذ يقول البشير: فلما كملت أيام تطهيرها كناموس موسى صعدوا به الى أورشليم ليقيموه للرب كما هو مكتوبٌ في ناموس الرب. أن كل ذكرٍ فاتح مستودعٍ يدعى قدوساً للرب. ولكي يقربوا ذبيحةً كما قيل في ناموس الرب زوج يمامٍ أو فرخي حمامٍ: (لوقا ص2ع22) بل أن هذه السيدة نفسها قد اوحت للقديسة بريجيتا بقولها: أن جميع ما كنت أملكه قد أعطيته للمحتاجين، ولم يكن عندي سوى لوازم القوت الضروري والكسوة التي لا بد منها.* ثم أن هذه الأبنة الشريفة حباً بالفقر والمسكنة قد أرتضت بأن تخطب هي عروسةً لرجلٍ فقير نجار الذي هو القديس يوسف، وأكتفت بأن تعيش معه فيما بعد من تعبها وكدها بعمل يديها، مجتنيةً سد أحتياجاتها من مكسب عزل القطن أو الصوف. أم من أجرة الخياطة، كما يشهد القديس بوناونتورا. بل أن ملاك الرب في خطابه مع القديسة بريجيتا عن هذه السيدة قال لها: أن البتول مريم كانت تحتقر الأموال والغنى الأرضي كأحتقارها الطين. وبالأجمال أن العذراء المجيدة قد عاشت مدة حياتها فقيرةً جداً، وماتت كذلك. لأنه حين نياحها لم يعرف عنها أنها تركت شيئاً من الموجودات، سوى ثوبين حقيرين من ملبوسها قد أوصت بهما، إيهاباً لأبنتين كنتا خدمتاها في حياتها. كما يورد الميتافرانسته. ونيكيفوروس.* فالقديس فيلبس نيري كان من عادته أن يقول: أن من يحب الموجودات الأرضية لا يصير قديساً: وتصيف الى ذلك القديسة تريزيا بقولها: أنه ينتج بالصواب أن من يجري وراء أشياء ضائعةٍ معدةٍ ذاتياً للفقدان، فهو أيضاً يضيع معها مفقوداً: وبالعكس تقول هذه القديسة نفسها: أن فضيلة الفقر والمسكنة هي خيرٌ يحوي ضمنه الخيرات الأخرى كلها. وأنما قلت فضيلة الفقر، لأن هذه الفضيلة التي لا تتوقف على هذا الأمر فقط وهو أن مقتنيها يكون في حال الفقر بل على أن يحبه أيضاً. كما يقول القديس برنردوس هكذا: أنه ليس الفقر بل محبة الفقر هي الفضيلة. ولذلك قال الرب: طوبى للمساكين بالروح فأن لهم ملكوت السموات: (متى ص5ع3) وأنما طوباويون هم هؤلاء من حيث أن الذين لا يريدون شيئاً غير الله ففيه تعالى يجدون كل الخيرات، وفي حال فقرهم يصادفون على الأرض ملكوتهم السماوي. كما قد صادفه القديس فرنسيس أسيزي الذي كان يقول: أن الله هو إلهي وهو كل شيءٍ لي: فلنحببن اذاً ذاك الخير الوحيد الموجودة فيه الخيرات بأسرها. حسبما يحرضنا القديس أوغوسطينوس بقوله:" أحبب يا هذا خيراً واحداً يحوي في ذاته كل خيرٍ". ولنتضرعن إليه مع القديس أغناتيوس القائل نحوه تعالى:" هبني بنعمتك حبك وحده، وبذلك أكون أنا غنياً كفاية". وحينما يقدح بنا الفقر محزناً إيانا بشدة مرائره، فلنعزين ذواتنا بتفكرنا وقتئذٍ في أن يسوع ومريم عاشا على الأرض في حال الفقر نظيرنا، حسبما يقول القديس بوناونتورا: أن المسكين يقدر أن يتعزى بتذكره فقر يسوع ومسكنة مريم.* فيا أمي الكلية القداسة أنكِ بالصواب كنتِ تقولين: تعظم نفسي للرب وتبتهج روحي بالله مخلصي: لأنكِ في هذا العالم لم تتفاخري بالمجد. ولم تحتسبي خيراً شيئاً آخر خارجاً عن الله. فأجتذبيني وراكِ أيتها السيدة مقتلعةً من قلبي محبة العالم. وأجعليني أن أحب ذاك الخير الواحد الذي هو وحده يستحق أن يحب. آمين* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل الثامن * في فضيلة الطاعة التي تلألأت في مريم العذراء الكلية القداسة* أن البتول المجيدة لأجل حبها فضيلة الطاعة لم ترد أن تسمي ذاتها، حينما بشرها زعيم الملائكة جبرائيل بالحبل الإلهي سوى عبدةٍ بقولها: ها أنا أمةٌ للرب: وهذا بكل صدقٍ، كما يقول القديس توما الفيلانوفي:" أن هذه الأمة الأمينة لم تقاوم أرادة سيدها الرب لا بالأعمال ولا بالأفكار أصلاً، بل اذ جردت ذاتها في كل شيء على الدوام من أرادتها الذاتية، فعاشت طائعةً في الأشياء كلها للمشيئة الإلهية". وهي نفسها قد أوضحت أن الله قد أرتضى بطاعتها هذه المتضعة بقولها: لأنه تعالى نظر الى تواضع أمته: (لوقا ص1ع48) لأن هذه هي الصفة الحقيقية في العبيد والجواري، أي الطاعة الكاملة لأرادة أسيادهم ومواليهن. فيقول القديس أوغوسطينوس:" أن هذه الأم الإلهية قد أصلحت بطاعتها، وأشفت بخضوعها ما عكسته الأم الأولى حواء بعدم طاعتها، وما سقمت به طبيعتنا بعصيانها". فطاعة مريم البتول قد كانت أكثر كمالاً جداً من طاعة جميع القديسين. على أن البشر كلهم لأجل أنهم من قبل مفاعيل الخطيئة الأصلية يميلون الى الشر. فكافةً يشعرون بالصعوبات في عمل الخير، الا أن العذراء الطوباوية لم تكن كذلك. فقد كتب القديس برنردينوس قائلاً: أنه في البتول المغبوطة لم يكن يوجد شيءٌ يعيق دوران بكرة كونها المتحركة على الدوام بموجب أرادة الروح القدس". أي من حيث أنها وجدت بريئة من تبعة الخطيئة الأصلية ومن أنفعالاتها، فلم يكن يوجد فيها مانعً ما يصد تمام طاعتها لله. بل كانت نظير كرةٍ مستعدةً للدوران بحسب حركات ألهامات الروح الإلهي كلها. ومن ثم لم تصنع هي شيئاً في هذه الأرض (كما يقول القديس برنردينوس عينه) سوى أنها كانت تلاحظ تلك الأشياء المرضية لله وتمارسها بالعمل. فعن هذه السيدة قيل: نفسي قد ذابت اذ تكلم حبيبي: (نشيد ص5ع6) ويضيف الى ذلك ريكاردوس بقوله: أن نفس العذراء وجدت نظير المعدن المذاب مستعدةً لأن تقتبل مطبوعةً فيها الصور كلها التي كان الله يريد أن يرسمها فيها:* وبالحقيقة أن هذه البتول الشريفة قد أظهرت بالعملية كم كانت هي حسنة الأستعداد للطاعة: أولاً: بخضوعها لأوامر الملك أفغسطوس فيصر بسفرها السريع من الناصرة الى بيت لحم مسافة تسعين ميلاً، في زمن فصل الشتاء وهي حبلى لتكتتب مع خطيبها. مع أنها لحال فقرها أضطرت لأن تلد هناك أبنها في مغارة البهائم. ثانياً: حالما سمعت من القديس يوسف ما أمره به الملاك في الحلم من قبل الله بالسفر الى مصر. فمن دون أعاقةٍ أخذت بالمسير ليلاً في طريقٍ شاسعة البعد ومملؤة من المشقات والأخطار. وهنا العلامة سيلفايره يسأل كمستفهمٍ، لماذا أن الوحي بالهرب الى مصر قد صار الى القديس يوسف، وليس الى والدة الإله التي كانت مزمعةً أن تتكبد به أعظم مشقةً. وكان يخصها معرفة ذلك أكثر من خطيبها، وهو نفسه أي سيلفايره يرد الجواب عن ذلك قائلاً: لكي يعطى بهذا سببٌ للعذراء المجيدة من أن تمارس أفعال الطاعة التي هي كانت كلية الأستعداد لها.* ثالثاً: وبنوع فائق على كل ما سواه أظهرت هذه الأم الإلهية طاعةً كلية السمو! وتكميلاً لأرادة الله قدمت هي أبنها بحسن خضوع تام ضحيةً للموت على خشبة الصليب. من أجل خلاص العالم بثبات عزمٍ وبشجاعةٍ فريدةٍ، حتى أنها كانت مستعدةً لتتميم المشيئة الإلهية. وطاعةً للمراسيم الأزلية لأن تصلب بيديها ذاتيهما أبنها هذا الحبيب، لو أنه لم يوجد الصالبون، كما يقول القديس أيدالفونسوس. ولذلك العلامة بيدا المكرك في ارأس40 من تفسيره بشارة لوقا عند تكلمه على الجواب الذي أعطاه مخلصنا لتلك الأمرأة التي رفعت صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما. اذ أجابها مخلصنا: أنما الطوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها: (لوقا ص11ع27) قد كتب هكذا: أن مريم البتول قد وجدت سعيدةً مغبوطةً طوباويةً لأجل طاعتها للمشيئة الإلهية أكثر مما لأجل حال كونها أختيرت والدةً للإله وحملته تعالى في بطنها وأرضعته ثدييها.* ولهذا هم مقبولون جداً عند هذه السيدة أولئك الذين يحبون فضيلة الطاعة. فيوماً ما ظهرت هي عينها للأب أكورسوس أحد رهبان القديس فرنسيس حينما كان داخل قلايته، ولكن لأنه وقتئذٍ هو دعي بأمر الطاعة ليذهب فيستمع أعتراف إنسانٍ مريضٍ، وبالتالي ترك والدة الإله المترائية له، وأنطلق متمماً أمر الطاعة. فحينما رجع الى قلايته شاهد هناك هذه السيدة لم تزل منتظرةً إياه، وقد مدحت كثيراً حسن طاعته، والنوع الذي هو تصرف به. وبضد ذلك اذ كان يوماً ما أحد الرهبان متأخراً في نهاية عملٍ ذي عبادةٍ، ولم يذهب حالاً الى المائدة حينما دق ناقوس الغداء قد وبخته العذراء على تصرفه هذا (كما يوجد مدوناً عند الأب ماركاتي في الكتاب اليومي المختص لوالدة الإله) ثم اذ كانت العذراء المجيدة تخاطب القديسة بريجيتا في شأن الطاعة لمعلم الأعتراف قالت لها: أن الطاعة تقود الجميع الى الدخول في المجد الأبدي: والقديس فيلبس نيري كان يقول أعتيادياً: أن الله لا يحاسب أحداً على الأشياء التي يكون هو صنعها بأمر الطاعة، اذ أنه تعالى هو نفسه قال: من سمع منكم فقد سمع مني ومن أهانكم فقد أهانني: (لوقا ص10ع16) بل أن هذه السيدة عينها أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أن الله قد منحني مكافأةً لأستحقاقات طاعتي له، أن جميع الخطأة الذين يلتجئون إليَّ نادمين على مآثمهم يفوزون بالغفران.* فيا ملكتنا وأمنا الجليلة صلي من أجلنا لدى يسوع أبنكِ، وأستميحي لنا منه بأستحقاقات طاعتكِ أن نكون أمينين في طاعتنا لمشيئته الإلهية ولأوامر مرشدينا الروحيين. آمين* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل التاسع * في فضيلة الصبر التي بموجبها تصرفت البتول المجيدة* *في شدائدها* أنه بالعدل والصواب قد سميت هذه الأرض وادي الدموع. من حيث أنها هي مكان الأستحقاقات، لأننا قد وضعنا ههنا جميعاً لكي نتألم مكتسبين لأنفسنا بواسطة فضيلة الصبر الحيوة الأبدية المغبوطة، كما قال الله عينه: أنكم بصبركم تقتنون أنفسكم: (لوقا ص21ع19) فالحق سبحانه وتعالى قد أعطانا مريم البتول نموذجاً للفضائل كلها، ولكن بنوع خاص لفضيلة الصبر. ففيما بين الأشياء الأخرى التي يلاحظها القديس فرنسيس سالس أنه لأجل هذه الغاية نفسها قد أعطى مخلصنا والدته العذراء في عرس قانا الجليل الجواب بقوله لها: مالي ولكِ أيتها الأمرأة، لم تأتِ ساعتي بعد: مظهراً كأنه أعتبر قليلاً تضرعاتها، لكي يعطينا هذه الأم الإلهية نموذجاً للصبر: ولكن على ماذا نجول مفتشين عما نقوله عن فضيلة صبرها، في الوقت الذي فيه نرى أن حياتها كلها على الأرض كانت رياضةً متصلةً، وممارسةً دائمةً لأفعال هذه الفضيلة. لأنها قد عاشت على الدوام فيما بين الآلام، حسبما أوضح ملاك الرب للقديسة بريجيتا قائلاً:" كما أن الوردة تنبت وتنمو فيما بين الأشواك، هكذا قد عاشت هذه البتول المكرمة على الأرض فيما بين الشدائد". على أن توجعها من أجل آلام أبنها يسوع فقط قد وجد كافياً لأن يجعلها شهيدةً لفضيلة الصبر. ومن ثم يقول عنها القديس بوناونتورا:" أنها قد صلبت منذ حبلها بالمصلوب". فكم أحتملت هذه السيدة بعد ذلك في هربها الى مصر. وفي مدة أقامتها هناك، وكذلك في كل الزمان الذي عاشت هي فيه مع أبنها داخل دكان النجارة في مدينة الناصرة. فعن هذا وذاك قد أشرنا بكفايةٍ في المقالة السابقة بتكلمنا عن أحزان والدة الإله بوجه العموم والخصوص. ويكفي ما تلألأت به فضيلة صبرها في حين وجودها على جبل الجلجلة تحت صليب ابنها، ومشاهدتها آلامه وموته. وكم ظهرت بذلك شجاعتها وثباتها في الصبر، حيث أنها، كما يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: لأجل صبرها هذا العجيب قد أستحقت أن تصير أمنا أجمعين.* فأن كنا اذاً نرغب أن نوجد حقاً أولاداً لها، فيلزمنا أن نجتهد في أن نقتفي أثرها في فضيلة الصبر. فيقول القديس كبريانوس: ترى أي شيءٍ يمكنه أن يصيرنا أغنياء بالأستحقاقات في مدة حياتنا على الأرض، وبنوالنا المجد العظيم في الأبدية، الا أحتمالنا الآلام بصبرٍ: فقد قال الله على لسان نبيه هوشع (ص2ع6): فلأجل هذا، هأنذا أسيج طريقك بالشوك. وقد أضاف الى ذلك القديس غريغوريوس الكبير بقوله: أن طرق المنتخبين مسيجة بالشوك: على أنه كما أن الشوك يستعمل سياجاً لكروم لحفظها من الخطفة. فهكذا الباري تعالى يسيج بشوك المصائب والأحزان والآلام عبيده الأبرار، ليحفظهم بذلك من أن تتعلق قلوبهم بمحبة الأشياء الأرضية، ولهذا يختتم قوله القديس كبريانوس:" بأن الصبر هو ذاك الذي ينقذنا من الخطيئة ومن الجحيم". بل أن الصبر هو الذي يصير المتمسكين به قديسين كاملين. كما يشير الى ذلك القديس يعقوب الرسول بقوله: والصبر فليكن له عملٌ لتكونوا كاملين وتامين غير ناقصين في شيءٍ: (يعقوب جامعه ص1ع4) وهكذا تحتمل بالصبر تلك الصلبان التي يفتقدنا الله بها، أي الأمراض والفقر وباقي الشدائد، وكذلك الصلبان التي تأتينا من قبل البشر، كالأضطهادات والأهانات وأمثالها. فالرسول الحبيب يوحنا في جليانه قد أخبرنا بأنه قد شاهد القديسين كافةً حاملين بأيديهم سعف النخل التي هي علامة الأستشهاد قائلاً: ومن بعد هذا رأيت جمعاً كبيراً لا يقدر أحدٌ أن يحصي عددهم من كل أمةٍ وكل سبطٍ وكل شعبٍ وكل لسانٍ وقوفاً قدام الكرسي وأمام الخروف، وعليهم لباسٌ أبيض وبأيديهم سعف النخل: (أبوكاليبسي ص7ع9) مريداً بهذا أن يفهمنا أن جميع الذين يموتون بعد بلوغهم السن الرجولي يلزمهم أن يكونوا شهداء أما بسفك دماءهم، وأما بفضيلة الصبر. فهنا القديس غريغوريوس الكبير يهتف صارخاً: فلنفرح اذاً متهللين ولنسر مبتهجين، لأنه يمكننا أن نصير شهداء من دون سفك دمائنا وأحتمال عذابات الألات الحديدية، بل بواسطة صبرنا الثابت. فاذا نحن أحتملنا آلام هذه الحياة بصبرٍ ورضاءٍ. وبفرحٍ أيضاً. كما يقول القديس برنردوس، فترى كم تكون عظيمةً الأثمار التي نجتنيها في الفردوس السماوي عن كلٍ من الآلام التي نكون أحتملناها لأجل الله. ومن ثم يشجعنا الرسول الإلهي بقوله: خفيف ضيقنا الوقتي، في حين بمقدار أفراطه وأسرافه يصطنع لنا ثقيلاً من المجد أبدياً. اذ لا نترقب التي ترى بل التي لا ترى، لأن التي ترى وقتيةٌ والتي لا ترى أبديةٌ: (قرنتيه ثانية ص4ع17) ثم أنها لجيليةٌ هي كلمات القديسة تريزيا المقولة منها في هذا الموضوع أي:" أن الذي يعتنق الصليب برضاه لا يشعر بثقله". وقالت في محل آخر أنه حينما يقصد الإنسان معتمداً على أن يتألم فكأنه بهذا القصد تألم وأنتهت آلامه:" الا أننا حينما نحس بذواتنا متضايقين من ثقل الصليب، فعلينا بالألتجاء الى مريم البتول المدعوة من الكنيسة المقدسة: معزية الحزنى". وكما يسميها القديس يوحنا الدمشقي: دواءً قاطعاً شافياً لأوجاع القلوب كلها:* فيا سيدتي الكلية الحلاوة أنكِ أنتِ البارة البرية من كل عيبٍ وزلةٍ، قد أحتملتِ الآلام الشديدة بصبرٍ تام، فهل أرفض أنا المذنب المستحق جهنم أن أتألم. فأنا اليوم ألتمس منكِ يا أمي هذه النعمة، وهي، لا أن أنجو معتوقاً من الصلبان، بل أن أحتملها بصبرٍ، فأتوسل إليكِ بحق حبكِ ورأفتكِ أن تستمدي لي من الله هذه النعمة من دون ريبٍ. فهكذا أرجو وكذلك فليكن لي آمين.* https://upload.chjoy.com/uploads/165978418782542.jpg الفصل العاشر * في فضيلة الصلاة الممارسة بنوعٍ سامٍ من والدة الإله العذراء* أنه ما وجدت قط على الأرض نفسٌ نظير مريم البتول أتبعت بدرجاتٍ ساميةٍ كاملةٍ تعليم مخلصنا العظيم: في أنه يلزم أن تصير الصلاة كل حينٍ من دون أهمالٍ: (لوقا ص18ع1) على أنه يقول القديس الفقديس بوناونتورا:" أننا لا نستطيع أن نتخذ النموذج من أحدٍ، ونفهم ألتزامنا وأحتياجاتنا الى الثبات على الصلاة، أفضل مما نتخذ ذلك من العذراء المجيدة". لأن الطوباوي ألبارتوس الكبير يشهد لنا: بأن هذه الأم الإلهية قد وجدت في فضيلة الصلاة هي الأكمل من كل ما سواها بعد يسوع المسيح، من الذين عاشوا في الأرض ومن العتيد وجودهم حتى يوم القيامة. وذلك: أولاً: لأن صلاتها كانت متواترةً بأتصالٍ وبثباتٍ. على أن هذه السيدة منذ الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفسها البريئة من الدنس. ومعاً قد فازت وقتئذٍ بمعرفةٍ كاملة لتمييز الخير من الشر (حسبما برهنا في بدء الجزء الثاني للفصل الثاني من المقالة الأولى من هذا القسم الثاني وجه 360) فهي منذ الدقيقة المذكورة أبتدأت بأن تمارس فضيلة الصلاة.* ثانياً: أنها لكي تتفرغ بأفضل نوعٍ وتعتني بأكمل طريقةٍ في أتقان هذه الفضيلة، قد أرادت أن تكون من حين تمام السنة الثالثة من عمرها منفردةً كحبيسةٍ في هيكل الرب الأورشليمي، حيث كانت فيما بين الأزمنة الأخرى المعينة للصلوات. أختارت لذاتها ساعة نصف الليل أيضاً، التي فيها كانت هي تنهض من رقادها، وتمضي أمام هيكل الرب مثابرةً على الصلاة، حسبما أوحت بذلك هي نفسها للبارة أليصابات الراهبة (كما هو مورد من القديس بوناونتورا في الرأس 3من كتابه على حيوة المسيح).* ثالثاً: أنها لأجل هذه الغاية كانت فيما بعد تزور بتكاثر الأماكن المقدسة المختصة بميلاد أبنها وبآلامه ودفنه لكي تمارس هناك بأفضل نوع تأملاتها في أسرار حياته تعالى وموته، كما يبرهن العلامة أوديلونه.* رابعاً: أن صلواتها كلها كانت مصنوعةً منها برصد عقلٍ تام، ناجيةً من كل أنعطافٍ غير مرتبٍ. فقد كتب القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن البتول المجيدة في حين صلواتها لم يكن يحدث لها شتات الأفكار، ولا عواطف غير ملائمةٍ، ولا أشياء باطنية أو خارجة تعيق فيها تأملاتها بأنوارٍ سماوية في الأشياء الإلهية.* ولهذا لأجل حبها الشديد نحو ممارسة الصلوات قد أحبت دائماً الأنفراد عن الناس، والأبتعاد عن ضوضاء العالم، كما أوحت للقديسة بريجيتا: بأنها حينما كانت مقيمةً في هيكل أورشليم قد أجتهدت بالا تواجه أحداً. حتى ولا والديها الا نادراً. فالقديس أيرونيموس اذ يتفلسف عن كلمات النبي أشعيا القائل (ص7ع14): ها العذراء تحبل وتلد أبناً ويدعون أسمه عمانوئيل: يقول: أن لفظة عذراء في اللغة العبرانية تفسر بالحصر عذراء منفردةً عن الناس: فاذاً حتى من النبي المذكور عينه سبق الأيعاز عن محبة مريم للأنفراد. ويقول ريكاردوس: أن زعيم الملائكة قال لهذه البتول:: أفرحي الرب معكِ: لأجل محبتها الوحدة والأبتعاد عن الناس". ولذلك كتب القديس فينجانسوس فراري:" أن البتول القديسة لم تكن تخرج من بيتها الا حينما كانت تمضي الى هيكل الرب. وحينئذٍ كانت تنطلق مملؤةً من الأحتشام، وعيناها دائماً ناظرتين الى الأرض". ومن ثم حينما مضت الى زيارة القديسة أليصابات، قد ذهبت مسرعةً، الأمر الذي كقول القديس أمبروسيوس ينبغي أن تتعلم منه البتولات الا يظهرن مشاعاً، بل يحببن الخلوة. وكتب القديس برنردوس: أن الحب الذي كان متقداً في قلب العذراء المجيدة لممارسة الصلوات والأبتعاد عن ضوضاء العالم، قد صيرها أن تجتهد على الدوام في الأمتناع عن مخاطبة الرجال. ولهذا قد سماها الروح القدس يمامةً بقوله: ما أشد بهاء وجنتيكِ كاليمامة: (نشيد ص1ع10) فيفسر ذلك فارجالوس:" بأن اليمامة لأجل أنفرادها تشير الى قوة الأتحاد العقلي". ولذلك العذراء قد عاشت أيام حياتها على الأرض معتزلةً بمقدار ما أمكنها عن الناس في الأختلاء كأنها في قفرٍ غير مسلوكٍ. ولهذا قيل عنها: من هي هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخور: (نشيد ص3ع6) وعن هذه الكلمات كتب روبارتوس مخاطباً العذراء المجيدة بقوله: كذلك أنتِ قد صعدتِ من القفر اذ كنتِ حاصلةً على نفسٍ محبة الأنفراد.* أما فيلونه فيقول: أن الله لا يخاطب الأنفس الا في الأختلاء والوحدة. بل الله عينه قد أوضح ذلك بواسطة نبيه هوشع بقوله: لأجل هذا فهأنذا أتملقها وأوديها الى البرية وأتكلم الى قلبها: (ص2ع14) ولذلك كان يهتف القديس أيرونيموس قائلاً: يا أيها الأنفراد السعيد كم أنت مغبوطٌ، لأن فيك يتفاوض الله والنفس معاً متخاطبين كخليلين. وهذا بالصواب، لأن القديس برنردوس قال: أنه في الأنفراد، وفي الصمت الذي المرء يتمتع به بالتوحد. تلتزم النفس بأن تخرج بأفكارها عن هذا العالم. وتنعكف على التأمل في خيرات السماء.* فيا أيتها البتول الكلية القداسة أنتِ أستمدي لنا محبة الصلاة والأنعطافات نحوها ونحو الأنفراد والأختلاء، حتى اذا ما أنفصلت قلوبنا من محبة المخلوقات، يمكننا أن ننعطف نحو الله وحده، ونتشوق الى الفردوس السماوي، حيث نرجوا أن نشاهدكِ يوماً ما، لكي نمدحكِ على الدوام، ونحب أبنكِ يسوع ونحبكِ الى أبد الأبدين. فقد تفوه الحكيم أبن سيراخ عن لسان البتول الكلية القداسة بقوله: ميلوا إليَّ يا معشر المشتاقين وتمتعوا بغلاتي: (ص24ع26) فغلات مريم البتول أنما هي فضائلها. قال سادوليوس: أن العذراء المجيدة لم يسبقها قط أحدٌ شبيهٌ بها. ولم يأتِ بعدها إنسانٌ مماثلٌ لها. ومن ثم يخاطبها هو نفسه هكذا قائلاً: أنكِ أنتِ وحدكِ أيتها الأمرأة قد أرضيتِ المسيح بنوعٍ لا نظير له على الأطلاق.* فلنتقدم بدالة الى عرش النعمة، لنأخذ نعمة، ونجد رحمة، لمعونة نستفرصها. (عبرانيين 4/6) من كان للعذراء عبداً لا يدركه الهلاك أبداً |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
المـقـالـة الـرابـعـة عبادات مختلفة الموضوعات رتبت مائدتها، وأرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة: هلموا كلوا من طعامي وأشربوا الخمر التي مزجتها لكم... أتركوا الجهالات فتحيوا، وسيروا في طريق الفهم.(أمثال 9/2) طوبى لكم اذا عيروكم وأضطهدوكم وأفتروا عليكم، وقالوا لكم كلمة سوءٍ من أجل أسمي، أفرحوا وأبتهجوا فأن أجركم غظيم في السماء، أنهم هكذا أضطهدوا الأنبياء من قبلكم. (متى 5/10) https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل الأول * فيما يلاحظ هذه العبادات بوجه العموم* أن سلطانة السماء مريم البتول هي هكذا سخيةٌ ومنعمةٌ وحافظة المعروف، حتى أنها تكافي بأشياءٍ عظيمةٍ أصغر العبادات وأوجزها المقدمة تكريماً لها من عبيدها... يقول القديس أندراوس الأقريطشي (في خطبته الثانية على نياحها):" أن هذه السيدة الكلية العظمة تجازي أقل الأشياء المقدمة لها مجازاةً عظيمةً". ولكن مع هذا يلزم الأمر شيئين ضروريين لممارسة عباداتها حسناً. فأولهما: أننا نكرم هذه الأم الإلهية بتقدمة عباداتنا لها بنفسٍ مطهرةٍ من الخطايا، والا فهي تقول نحونا ما قالته مرةً ما لذاك الجندي الرديء السيرة (كما أخبر القديس بطرس سلستينوس) الذي كان يكرم هذه السيدة يومياً ببعض عباداتٍ. فهذا الجندي يوماً ما اذ كان متألماً من شدة جوعه لعدم حصوله على شيءٍ يقتات به، قد ظهرت له والدة الإله عينها وقدمت أمامه بعض مواكيل فاخرة جداً، ولكنها موضوعةٌ ضمن وعاءٍ بهذا المقدار كريه المنظر من شدة أوساخه، حتى أن الجندي مع حال كونه جائعاً جداً لم يمكنه أن يتناول من تلك الأطعمة شيئاً، ثم قالت له: أنا هي مريم والدة الإله أتيت لآسعفك في حال جوعك، فأجابها الجندي قائلاً: لكنني لا أقدر أن آكل من الأطعمة في هذا الإناء الكريه الوسخ. فحينئذٍ قالت له هذه السيدة: فكيف اذاً أنت تريد مني أن أقتبل عبادتك لي المصنوعة منك في حال وجود نفسك ملتطخةً بحماة الرذائل: فالجندي عند سماعه هذه الكلمات رجع الى الله تائباً وأنفرد في القفر سائحاً مدة ثلاثين سنةً وساعة موته ظهرت له ثانيةً والدة الإله وأقادت نفسه الى الحياة الأبدية.* فقد قلنا في الجزء1من الفصل8 من القسم1( وجه247) من هذا الكتاب، أنه لمن المحال أدبياً أن يهلك أحدٌ من المتعبدين لمريم العذراء ولكن هذا يفهم تحت شرطٍ وهو أن المتعبد لها أما أنه يعيش من دون أفتعال الخطايا مطلقاً، وأما أن يكون حاصلاً على أستعدادٍ ورغبةٍ قلما يكون في أن يخرج من حال الأثم راجعاً الى الله بالتوبة، لآن هذه السيدة حينئذٍ تساعده على أصلاح نفسه، وبالعكس اذا وجد أحدٌ مصراً على أفتعال المآثم تحت رجاء أن والدة الإله تهتم في خلاصه، فهذا بذنبه يصير ذاته غير مستحقٍ لحمايتها ولمحاماتها عنه، بل يضحى موضوعاً غير قابلٍ لذلك.* الشيء الثاني الضروري:المثابرة بثباتٍ على العبادة لهذه السيدة. لأن القديس برنردوس يقول:" أن الثبات على البر وحده هو الذي يستحق الأكليل". فتوما الكامبيسي حينما كان في سن الشبوبية، قد كان من عادته أن يلتجئ يومياً الى البتول المجيدة تالياً في عبادتها بعض صلواتٍ، فيوماً ما قد ترك تلاوة تلك الصلوات وبعده أهملها بعض جمع، وأخيراً ما عاد مارسها بالكلية. فليلةً ما شاهد في الحلم والدة الإله كانت تأتي عند وأحدٍ فواحدٍ من رفاقه العباد وتعانقه، ولكن لما دنت منه قالت له: ماذا تنتظر ههنا أنت الذي تركت عباداتك الأولى، فأغرب من هنا لأنك لست مستحقاً أن أعانقك. ففي سماعه هذه الكلمات قد أستيقظ من النوم مملؤاً رعدةً وأرتجافاً، وحالاً رجع الى ممارسة عباداته السابقة. ولذلك يقول ريكاردوس: أن من يواظب على عبادة مريم العذراء بثباتٍ، فهذا يكون مغبوطاً في الرجاء لأنه يفوز بكل الأشياء المرغوبة. ولكن من حيث أنه لا يمكن لأحدٍ أن يثق مطمأناً بأنه حقاً هو من الثابتين على عمل البر، فهكذا لا يمكن لأحدٍ مطلقاً أن يتأكد حقيقة أمر خلاصه الا حين موته. فاذاً لشيءٌ يستحق الذكر والأعتبار العظيم هو ما تركه لأخوته الرهبان اليسوعيين يوحنا باركمانس، الذي حينما سأله هؤلاء الرهبان ساعة موته، أن يترك لهم تذكرةً في شأن العبادة لوالدة الإله بالنوع الأجود مما سواه. لأجل أكتساب حمايتها فأجابهم: أن ذلك هو كل شيءٍ مهما كان جزئياً بحيث أن يكون بثباتٍ. فلأجل هذه الغاية أنا رأيت ملائماً أن أحرر في المقالة الحاضرة بنوعٍ بسيط، ما يلاحظ بعض عباداتٍ مختلفة موضوعاتٍ نقدر أن نمارسها في تكريم أمنا الإلهية، لكي نكتسب رضوانها وأنعامها، وهذه الأشياء أنا أعتبرها الأكثر أفادةً من جميع ما كتبته في هذا المؤلف، ولكنني لا أتضرع للقارئ الحبيب بأن يمارسها كلها. بمقدار ما أتوسل إليه في أنه يمارس نوع العبادة الذي هو يختاره منها برضاه، بمواظبةٍ ثابتةٍ مع خوفٍ من أن يخسر حماية هذه الملكة المقتدرة اذا هو ترك أستعماله بعد أن يكون أبتدأ به. فكم وكم من الهالكين الآن في الجحيم لكانوا فازوا بالخلاص الأبدي، لو أنهم يكونون ثابروا مواظبين على العبادة التي مرةً ما كانوا تمسكوا بها في تكريم والدة الإله. وبعد ذلك تركوها مهملين ممارستها.* https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل الثاني * في تكريم مريم العذراء بتلاوة السلام الملائكي* فالبتول الكلية القداسة تقتبل بالرضى وبمسرةٍ وافرةٍ تكريمها بتلاوة السلام الملائكي، لأنه يبان كأنه يتجدد في قلبها الفرح والأبتهاج اللذان كانت هي شعرت بهما حينما بشرها زعيم الملائكة جبرائيل بأنها قد أختيرت أماً لله، ونحن بهذه النية يلزمنا أن نسلم عليها بهذا السلام الملائكي مراتٍ كثيرةً، كما يقول توما الكامبيسي: حييها يا هذا بالكلمات الملائكية أي بالسلام لكِ يا مريم ألخ لأنها تستمع هي نغمة هذا السلام بكل سرورٍ ورضى: بل أن هذه الأم الإلهية نفسها قالت في الوحي للقديسة ماتيلده: أنه لا يمكن لأحد أن يكرمني بمدائح أفضل من أن يسلم عليَّ بالسلام الملائكي، فمن يحيي مريم بالسلام تحييه هي بمثله. فالقديس برنردوس يوماً ما سمع بنوعٍ واضح حسيٍ صوت والدة الإله من أحدى أيقوناتها التي كانت تمثالاً مجسماً تسلم عليه قائلةً: السلام لك يا برنردوس: ويقول القديس بوناونتورا: أن سلام مريم البتول أنما هو أيهابها نعمةً ما تكافئ هي بها دائماً من يسلم عليها: ويضيف الى ذلك ريكاردوس بقوله:" اذا تقدم إليها أحدٌ قائلاً لها السلام عليكِ يا مريم، فلا يمكن أن تنكر عليه هي النعمة التي يلتمسها". بل أن والدة الإله عينها قد وعدت القديسة جالتروده بأن تسعفها حين موتها بمعوناتٍ توازي عدد المرات التي هي في حياتها سلمت عليها بالسلام الملائكي. وكتب الطوباوي الانوس بقوله: أنه حينما يقال السلام عليكِ يا مريم، فكما أن أهل السماء يفرحون بهذه التحية، فهكذا يرتعد الشيطان ويهرب: حسبما يشهد توما الكامبيسي بأنه اذ ظهر له مرةً ما الشيطان، فحالما هتف السلام لكِ يا مريم، قد هرب إبليس من أمامه مدبراً.* أما ممارسة هذه العبادة نحو العذراء المجيدة، فلتكن على الأسلوب الآتي شرحه وهو: أولاً: أن العابد يتلو كل يومٍ صباحاً حين نهوضه من فراشه ومساءً قبل رقاده ثلاث مراتٍ: السلام لكِ يا مريم: منحنياً بوجهه الى الأرض، أو قلما يكون جاثياً على ركبتيه، مضيفاً الى هذه الصلاة الوجيزة وهي: بحق بتوليتكِ المقدسة، والحبل بكِ البريء الدنس، طهري أيتها العذراء نفسي، وقدسي جسدي آمين: ثم يلتمس منها البركة بحسبما هي أمنا جميعاً، كما كان يفعل القديس سطانيسلاوس. وبعد هذا فليصنع ذاته تحت ذيل حمايتها متوسلاً إليها بأن تحفظه من الخطيئة في ذاك النهار أم في تلك الليلة ولأجل هذه الغاية يفيد جداً أن يحوي العابد أحدى أيقونات هذه السيدة الجميلة معلقةً بالقرب من فراشه.* ثانياً: أن يواظب حسب العادة تلاوة السلام الملائكي صباحاً ونصف النهار وعند غروب الشمس وهي الصلاة المدعوة عموماً: ملاك الرب. فأول من منح غفراناً على تلاوة هذه الصلاة هو الحبر الأعظم يوحنا الثاني والعشرون، لأجل الحادث الشهير الذي يخبر عنه الأب كراسات (في البحث6من المجلد2) وهو أن إنساناً كان محكوماً عليه بالموت محروقاً لأجل ذنوبه، فهذا في بارامون عيد البشارة اذ كان وضع ضمن لهيب النار. فبمجرد أستغاثته بأسم مريم العذراء لبث غير محترقٍ حتى ولا بأثواب ملبوسه، ثم فيما بعد البابا بناديكتوس الثالث عشر قد أعطى غفران ماية يومٍ لكل من يتلوها، وفي رأس الشهر غفراناً كاملاً لمن يتلوها اذ يكون معترفاً ومتناولاً. والأب كراسات عينه يورد بأن الحبر الأعظم أكليمنضوس العاشر قد منح غفراناتٍ أخرى لمن يضيف الى تلاوة كلٍ من: السلام لكِ يا مريم: هذه الكلمات وهي: نشكر الله ومريم: ففي الأزمنة السالفة كان المؤمنون عند سماعهم دق الناقوس لملاك الرب يجثون على ركبهم تالين هذه الصلاة غير أن البعض في أزمنتنا هذه يستحون من ذلك. الا أن القديس كارلوس بوروماوس لم يكن يستحي من أن ينزل من مركبته أو من على ظهر فرسه جاثياً في الأرض ليتلوها. حتى أنه بعض الأحيان لم يكن يأنف من أن يركع فوق الطين. ثم يقال في الأخبار أن أحد الرهبان الكسالا لم يكن يجث عند قرع الجرس لتلاوة هذه الصلاة، فيوماً ما شاهد قبة الناقوس عند كل مرةٍ من ضرب الجرس تنحي الى أسفل، وسمع صوتاً يقول له:" هوذا أنت لم تشأ أن تصنع ما تصنعه المخلوقات الغير الحساسة". ويجب أن يعلم ما يفسره في هذا الشأن البابا بناديكتوس الرابع عشر. وهو أنه في الأيام الفصحية الثمانية تتلى عوض ملاك الرب الصلاة المبدوة:" يا سلطانة السماء" وأنه من حين صلاة الغروب نهار السبت مساءً الى نهاية نهار الأحد يقال ملاك الرب من دون ركوع، بل بأقدام منتصبة.* ثالثاً: أن تتلى: السلام لكِ يا مريم: من العابد كل مرةٍ يسمع قرع ناقوس الساعة. فألفونسوس رودريكوس كان معوداً ذاته على هذه العبادة بتلاوة السلام الملائكي مرةً في كل ساعةٍ. فمن ثم كان في حين رقاده ليلاً ينبه من ملاك الرب ليستيقظ ويتلوها من دون تفويت.* رابعاً:في حين خروج العابد من بيته وفي وقت دخوله إليه يتلو هذا السلام الملائكي، لكي تحفظه والدة الإله خارجاً وداخلاً من الخطيئة، مع تقبيل قدميها في أحدى أيقوناتها، كما يفعل الآباء الرهبان السكوتيون.* خامساً:أنه كل مرةٍ يشاهد أيقونتها في مكانٍ ما فيحييها بهذا السلام. وما أحسن ما يفعل من يقدر أن يضع بالقرب من بيته أحدى أيقونات هذه السيدة جميلة التصوير ليكرمها المجتازون، كما توجد في مدينة نابولي، وخاصةً في مدينة رومية في حيطان الطرقات أيقوناتٌ جليلةٌ في الغاية لهذه الأم الإلهية محركة الى عبادتها.* سادساً: أن الكنيسة المقدسة قد رسمت على الأكليروس بأن يتلوا هذا السلام الملائكي في بداية كلٍ من ساعات الفرض وفي نهايتها، فاذاً يفعل حسناً العابد اذا تلى هذه الصلاة في بداية كلٍ من أعماله وعند نهايته، سواءٌ كانت أعمالاً روحيةً كالصلوات الخصوصية أم الأعتراف بالخطايا، أو تناول القربان الأقدس، أو قراءة كتابٍ روحي، أو أستماع الوعظ وأمثال ذلك. أم أعمالاً جسديةً، كالدرس، أو أعطاء المشورة، أم عمل اليد، أو الجلوس على مائدة الغداء، وما أشبه هذه الأشياء. فسعيدةٌ هي تلك الأعمال التي توجد مقيدةً فيما بين سلامين ملائكيين، أي عند البداية بها وحين نهايتها، وكذلك في الذهاب الى الرقاد، وحين النهوض منه، وعند هجوم تجربة ما أو خطر ما، وحين هيجان روح الغضب والغيظ وأمثاله.* فضع بالعمل أيها القارئ الحبيب هذه العبادة، وستشاهد الثمرة الكلية الإفادة التي تجنيها منها، وينبغي أن تعلم بأنه ممنوح من السدة الرسولية غفران عشرين يوماً على كل مرة يتلى السلام الملائكي، غير ذلك ينبه الأب أورياما بأن والدة الإله قد وعدت القديسة ماتيلده، بأن تستمد لها ميتةً صالحةً أن كانت تواظب على تلاوة هذا السلام ثلاث مراتٍ في كل يومٍ، تكريكاً لصلاحها وحكمتها وأقتدارها وهذه الأم الإلهية عينها قالت يوماً ما للطوباوية يوفانا ده فرنسا، بأن السلام الملائكي هو كلي القبول لديها، لا سيما اذا قيل عشر مراتٍ تكريماً لفضائلها العشر، كما يورد ذلك العلامة ماراجي، حيث يبرهن عن غفراناتٍ كثيرةٍ ممنوحةٍ لمن يتلو هذه *العشر مراتٍ السلام عليكِ يا مريم.* https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل الثالث أيتها المتلألئة بالضياء أنه لا يستطيع العدو الجهنمي، أن يأخذ من عبيدكِ أحداً، لأنكِ برجٌ مبنى بالمحاصن ومعلقٌ عليه ألف ترس، وكافة أسلحة المقتدرين.(نشيد6/10) ثم رأيت أمرأة ملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من أثنتي عشر كوكباً.(رؤيا12/6) * في العبادة الملقبة بالتسعاوية، التي تمارس في مدة تسعة أيامٍ* * متقدمةٍ على كلٍ من أعياد والدة الإله* أن المتعبدين للعذراء المجيدة يكرمون بحسن تدينٍ الأيام المتقدمة على أعيادها المقدسة، التي فيها هذه الأم الإلهية تهب أعتيادياً لهؤلاء أنعاماً خصوصيةً غير محصاة. فالقديسة جالتروده قد شاهدت يوماً ما تحت برفير مريم البتول عدداً عظيماً من الأنفس، قد كانت هذه السيدة ترمقهن بحبٍ ورأفةٍ وأنعطافٍ، وقد فهمت هي أي جالتروده أن تلك الأنفس هي أنفس أولئك الذين يمارسون عباداتهم بأستعداداتٍ تقويةٍ لتكريم عيد نياحها المقدس، في الأيام المتقدمة على هذا العيد. أما الرياضات الروحية التي تمكن ممارستها في الأيام التسعاوية المشار إليها فهي الآتي إيرادها، أي* أولاً: صنيع الصلاة العقلية كل يومٍ صباحاً ومساءً، مع زيارة القربان المقدس في أحدى الكنائس، ثم تلاوة تسع مراتٍ: أبانا الذي: والسلام لكِ: والمجد للآب:* ثانياً:أن تعمل في مدة التسعة الأيام ثلاث مراتٍ الزيارة لهذه السيدة الجليلة أمام أحدى أيقوناتها المقدسة. مع تقدمة الشكر لله على النعم العظيمة التي وهبها تعالى إياها. وفي كل مرةٍ من هذه الزيارات تطلب من العذراء المجيدة نعمةٌ ما خصوصية. وفي أحدى الزيارات المذكورة تتلى الصلاة المعينة في آخر الفصل المختص بذاك العيد المقبل، المدونة منا في الفصول السبعة الملاحظة أعيادها السنوية السبعة، في المقالة الأولى من هذا القسم الثاني.* ثالثاً: أن تمارس في بحر هذه التسعة الأيام مراتٍ كثيرةً أفعال الحب نحو يسوع المسيح، ونحو والدته العذراء (مثلاً مئة مرةً أو قلما يكون خمسين) لأنه لا يمكننا أن نصنع شيئاً أكثر قبولاً لديها، من عواطف حبنا نحو أبنها، حسبما حققت ذلك هي نفسها للقديسة بريجيتا بقولها لها: أن كنتِ ترغبين أن تتحدي بي برباط الأتحاد الوثيق فأحبي أبني يسوع:* رابعاً: أن تصير في كل يومٍ من هذه الأيام التسعة، قراءة مقدار ربع ساعة من الزمان، في بعض الكتب المختصة بتكريم والدة الإله* خامساً: أن تعمل بعض أماتاتٍ خارجة، كلبس المسح أو ممارسة الجلد، وأمثال ذلك مع الصوم، أو الأمتناع عن بعض أشياء من المآكل المرغوبة أو من الأثمار المحبوبة قلما يكون بترك جزءٍ من ذاك الشيء المقدم على المائدة للغداء، وكذلك مضغ بعض الحشائش المرة. وأما بارامون العيد فيصير فيه الصوم على الخبز والماء فقط، غير أنه يجب أن تمارس هذه الأشياء كلها بأذن الأب المرشد الروحي. الا أن الأماتات الباطنية التي تصنع في مدة هذه التسعة الأيام هي أكثر أفادةً، كالأمتناع عن مشاهدة تلك الأشياء أو أستماع تلك الأخبار التي لا أحتياج إليها، بل بمجرد رغبة الفحص عن كل شيء، وكالأبتعاد عن ضوضاء العالم في الأنفراد بقدر الأمكان، وحفظ الصمت، وأتقان واجبات الطاعة، وعدم رد الجواب بقلة صبرٍ، وأحتمال المقاومات، وما يضاهي ذلك مما تمكن ممارسته من دون خطرٍ مبين للمجد الباطل، وبأعظم أجرٍ للنفس، ومن غير أذن المرشد الروحي. واما الرياضة الفضلى، فهي القصد الثابت من أول يومٍ من الأيام المذكورة على أستئصال ملكةٍ رديئة، أو عادةٍ مذمومةٍ، أم نقصٍ يسقط فيه العابد مراتٍ كثيرةً. ثم يفيد جداً أن يطلب الغفران من هذه السيدة في كلٍ من الثلاث الزيارات السابق ذكرها، عن النقائص التي تكون حدثت، مع تجديد القصد على عدم الرجوع إليها، وطلب العون من هذه العذراء المجيدة على الحفظ من السقوط جديداً. فالعبادة الأكثر قبولاً لدى والدة الإله هي أقتفاء أثر فضائلها. ولهذا سوى ما تقدم إيراده، يفيد كثيراً أن يصير الأجتهاد في أن تكتسب في كل تسعاويةٍ من هذه الأيام فضيلةٌ ما من فضائلها، أي أن العابد يهتم في أن يكتسب لذاته مثلاً فضيلة نقاوة النية، في الأيام المختصة بعيد الحبل بها البريء من دنس الخطيئة الأصلية. وفضيلة التجديد بالروح من فتور العبادة، في أيام عيد ميلادها. وفضيلة أحتقار الأشياء الزمنية، وأستئصال محبة ذاك الموضوع الذي هو يميل إليه بأشد أنصبابٍ، في أيام عيد تقدمتها للهيكل. وفضيلة التواضع وأحتمال الأهانات بصبرٍ في أيام عيد بشارتها بالحبل الإلهي. وفضيلة محبة القريب بعمل الصدقات وأمثالها، في أيام تذكار زيارتها عند نسيبتها القديسة أليصابات، أو قلما يكون يصلي من أجل أرتداد الخطأة الى التوبة. وفضيلة الطاعة للرؤساء في أيام عيد تطهيرها، أي تقدمتها أبنها الى الهيكل. وأخيراً فضيلة أحتقار خيرات الأرض والأستعداد يومياً الى الموت، كأن كل يومٍ هو الأخير من حياته، في أيام عيد نياحها. فعلى هذه الصورة تثمر الأيام التسعاوية الأثمار العظيمة.* سادساً:ما عدا تناول القربان المقدس في يوم العيد، فحسنٌ هو أن العابد يستمد الأذن من مرشده الأب الروحي بأن يتناول السر الأقدس مراتٍ أخرى في بحر التسعة الأيام. فكان الأب بولس السنيري من عادته أن يقول: أنه لا يمكننا أن نكرم مريم العذراء بأفضل نوعٍ، الا حينما نكون متحدين مع يسوع: بل أن هذه السيدة عينها قد أوحت الى نفسٍ من الأنفس القديسة بأنه لا توجد لديها تقدمةٌ أكثر قبولاً، من أن عبيدها يواظبون تناول جسد أبنها الإلهي. لأنه تعالى بهذه الرياضة يجمع بيديه من الأنفس أثمار آلامه المقدسة. ثم يبان كأن هذه الأم الإلهية لا تشتهي شيئاً أكثر من هذا العمل الجليل، ولذلك تهتف نحو الجميع عن لسان الحكيم قائلةً: تعالوا كلوا من خبزي وأشربوا الخمر الذي مزجته لكم.* سابعاً: وأخيراً يلزم أن العابد يقدم ذاته في يوم العيد، بعد تناوله القربان المقدس لخدمة هذه الملكة. مع ألتماسه منها نعمة تلك الفضيلة التي يكون هو في الأيام المتقدمة عزم على أكتسابها، أم أنه يطلب منها نعمةً أخرى خصوصيةً. وأمرٌ مفيدٌ هو أن يصير في كل سنة الأجتهاد، في أحد الأعياد الذي يكون للعابد تعلق قلبٍ به أشد مما سواه. في أن يجدد في هذا العيد عبوديته لهذه الأم الإلهية بأكثر حرارةٍ، وبأشد أنعطافٍ، وبأفضل نوعِ. متأهباً ليكرس ذاته من جديد لخدمتها، متخذاً إياها شفيعته ومحاميته الخصوصية. وأماً له بأحترامٍ تقويٍ خاص. وحينئذٍ يلزمنا أن نطلب من العذراء المجيدة الغفران عما صدر منا من التهاون في عبادتها في تلك السنة الماضية، وأن نعدها بالأمانة في خدمتها بكل نشاطٍ في السنة المقبلة. وأخيراً أن نلتمس منها بتضرعاتٍ حارةٍ أن تقبلنا عبيداً لها، وأن تستمد لنا نعمة الميتة الصالحة.* تـنـبـيـه أنه توجد في الجزء3 من الباب 7وجه 137 من كتاب الرياضة اليومية صلاتان، أحدهما لتكريس الإنسان ذاته لعبادة هذه السيدة، وثانيهما لتكريسه لها عيلته. فعليك أيها العابد بأستعمالهما.* في طريق العدل أتمشى، في وسط سبل الحق، فأورث محبي رزقاً واملأ خزائنهم. (أمثال8/20) https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل الرابع * في العبادة المختصة بالمسبحة الوردية. وبفرض البتول المجيدة، أو قانونها* فأمرٌ معروفٌ من الجميع هو أن العبادة المختصة بالوردية المقدسة قد أوحى بها من والدة الإله عينها للقديس عبد الأحد، حينما كان هو ممتلئاً من الغموم، لأجل أن الأراتقة الألبيجازيين كانوا وقتئذٍ يسببون للكنيسة أضراراً عظيمةً. ولذلك أخذ هذا القديس يتشكى لسيدته الأم لإلهية من تلك الحال السيئة، فهي أجابته قائلةً له في الوحي: أن هذه الأرض ستلبث عقيمةً من الأثمار، الى حينما تنحدر عليها الأمطار: فالقديس حينئذٍ فهم أن الأمطار المومى إليها قد كانت عبادة المسبحة الوردية، التي كان يلزمه أن يشهرها هو في كل مكانٍ، الأمر الذي حالاً باشره بالعمل، منذراً في كل صقعٍ بهذه العبادة، التي أعتنقها المؤمنون الكاثوليكيون عموماً، بنوع أنه في الوقت الحاضر لا توجد عبادةٌ ممارسةٌ من المسيحيين كافةً، من كل جنسٍ وسنٍ ودعوةٍ، بمقدار هذه العبادة المقدسة، أي المسبحة الوردية. فالأراتقة المحدثون، نظير كلفينوس وبوجاروس وغيرهما، قد أجتهدوا بكل قوتهم في أن يصيروا أستعمال هذه العبادة مكروهةً عند المؤمنين. غير أنه معلومٌ لدى الجميع الخير الروحي العظيم الذي جلبته للعالم هذه العبادة الشريفة. فكم من الناس بواسطتها قد خلصوا من رذائلهم ومآثمهم: وكم هم الذين بممارستهم إياها حصلوا على سيرةٍ فاضلةٍ وحيوةٍ مقدسة، وفازوا أخيراً بميتةٍ صالحةٍ، وهم الآن في الفردوس السماوي. فلتقرأ في هذا الموضوع الكتب الكثيرة المخبرة عن هذه الأثمار العظيمة، والفوائد العمومية والخصوصية. ويكفي القول أن هذه العبادة قد تثبتت من الكنيسة المقدسة، وأن الأحبار الرومانيين قد أغنوها من الغفرانات. فقد منحوا لكل من يتلو ثلث هذه المسبحة الوردية غفران سبعين ألف سنةً. ولكل من يتلوها كلها ثمانين ألف سنةً. وأكثر من ذلك لكل من يتلوها أمام هيكل الوردية. والبابا بناديكتوس الثالث عشر أعطى أخيراً لكل من يتلو من المسبحة الوردية قلما يكون ثلثها، مستعملاً أحدى المسابح المباركة من الآباء رهبان القديس عبد الأحد. كل الغفرانات الممنوحة لمسبحة القديسة بريجيتا، أي غفران ماية يوماً عن كلٍ من: السلام لكِ يا مريم: ومثله على كلٍ من: أبانا الذي: وأن من يمارس هذه العبادة يكتسب غفراناً كاملاً في كلٍ من أعياد والدة الإله، ومن الأعياد الكنائسية المتميزة، وكذلك في أعياد القديسين الذين من قانون البار عبد الأحد، بزيارة كنائسهم بعد الأعتراف والتناول. ولكن ينبغي أن يفهم، انه يكتسب هذه الغفرانات أولئك الذين يكونون أشتركوا في عبادة الوردية، وتدونت أسماؤهم في السجلات المختصة بها. كما أن كلاً من هؤلاء المشتركين يربح غفراناً كاملاً يوم تدوين أسمه في الشركة، اذ يكون معترفاً ومتناولاً. ثم مئة سنة أن كان يحمل معه المسبحة. وأما الذي يصنع الصلاة العقلية كل يومٍ مقدار نصف ساعة فيربح غفران سبع سنواتٍ في كل مرة يمارس هذه الصلاة، وغفراناً كاملاً في كل شهرٍ.* الا أنه لأكتساب الغفرانات الممنوحة لعبادة الوردية، يلزم أن يصير التأمل في أسرارها حين تلاوة المسبحة، وهذه الأسرار هي معروفةٌ ومدونةٌ في كتبٍ كثيرةٍ. ولكن حينما لم يكن العابد يعرفها غيباً فيكفيه أن يتأمل بعض أسرار آلام مخلصنا المقدسة، مثلاً جلده، أم موته أو غيرهما. ثم يجب أن تتلى المسبحة الوردية بحسن عبادةٍ وفي هذا الشأن قالت العذراء الكلية القداسة عينها للطوباوية أفلاليا: أنها هي تقبل أفضل قبولاً تلاوة خمسة بيوت بأنتباه وعبادة، من تلاوتها كلها أي الخمسة عشر بيتاً بأسراعٍ ودمجٍ، وبعبادة فاترة. فأمرٌ جيدٌ جداً هو أن تتلى هذه المسبحة ممن يكون جاثياً على ركبتيه، وأمام أحدى أيقونات والدة الإله، وأنه عند بداية كل بيتٍ منها يمارس باطناً فعل حبٍ نحو يسوع ووالدته بعواطف قلبية، طالباً منهما نعمةً ما. ثم يفيد كثيراً أن تتلى هذه المسبحة من كثيرين معاً، أفضل من تلاوتها من شخصٍ بمفرده.* وأما بخصوص الفرض أو القانون، المختص بالبتول المجيدة، الذي يقال أنه مؤلفٌ من القديس بطرس داميانوس، فالبابا أوربانوس الثاني قد منح غفراناتٍ كثيرةً لمن يتلوه، ووالدة الإله مراتٍ عديدةً قد أوضحت بكفايةٍ كم هي مقبولةٌ لديها هذه العبادة. كما أنها تقبل بالرضى تلاوة الطلبة المختصة بها، الممنوح لكل من يتلوها غفران مايتين يوماً في كل مرةٍ تقال منه. ومثل ذلك الصلاة المبدوة: السلام عليكٍ يا مريم النجمة: حيث أن هذه البتول رسمت على القديسة بريجيتا أن تتلوها يومياً، وبأكثر من هذه وتلك التسبحة التي هي نفسها ألفتها أي: تعظم نفسي للرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي ألخ. لأن والدة الإله بهذه التسبحة قد مجدت الله ومدحت عظائمه، ونحن بتلاوتنا إياها نمدحها بألفاظها عينها التي هي أستعملتها في تعظيم الرب.* https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل الخامس * في عبادة والدة الإله الكلية الطوبى بواسطة الأصوام* أن كثيرين من المتعبدين لهذه الأم الإلهية قد أعتادوا أن يكرموها بصيامهم على الخبز والماء، في أيام السبوت، وفي بارامونات أعيادها. فأمرٌ واضحٌ هو أن الكنيسة المقدسة قد كرست نهار السبت لتكريم هذه السيدة الشريفة:" لأنه (كما يقول القديس برنردوس) في يوم السبت بالخصوص قد تلألأت فضيلة إيمانها الثابت في أبنها بعد موته ودفنه". ومن ثم عبيد هذه الملكة الجليلة لا يدعون أن يمر نهار السبت من دون أن يكرموها به ببعض عباداتٍ خصوصية. لا سيما أولئك الذين يصومون فيه على الخبز والماء، كما كان يصنع القديس كارلوس بوروماوس، والكردينال طولادوس وغيرهما كثيرون، بل أن أسقف بامبارغا نيطاردوس والأب يوسف أريغا اليسوعي لم يكونا يذوقان في يوم السبت شيئاً من المآكل مطلقاً. وأما أخبار النعم العظيمة التي وزعتها هذه السيدة على أولئك الذين يكرمونها بهذا الصيام، فيمكن الأطلاع عليها مفصلاً في الرأس 17من المجلد 1 من تأليف الأب أورياما، ويكفي لأيضاح مراحمها ما صنعته مع أحد رؤساء اللصوص، الذي اذ قطعت هامته وكان هو في حال الخطيئة المميتة، فأستمر رأسه حياً الى أن أعترف بخطاياه ونال الحل عنها، وبعد أن أخبر بأن هذه النعمة أعطيت له من والدة الإله، لأجل أنه كان يكرمها بصيام يوم السبت، فحالاً أنفصلت نفسه عن تلك الهامة المتكلمة من دون جثتها. فاذاً ليس هو شيئاً مستعظماً على من يدعي بأنه متعبدٌ خاص لهذه الملكة، لا سيما ذاك الذي يكون بخطاياه أستحق جهنم، أن يقدم لها صيام يوم السبت، لأني أقول أن من يمارس هذه العبادة، فأمرٌ عسرٌ جداً هو أنه يمضي هالكاً. لا كأنه اذا أدركه الموت في حال الخطيئة المميتة، فوالدة الإله تخلصه من الهلاك بواسطة أعجوبةٍ، كما صنعت مع القائد المنوه عنه آنفاً،كلا، لأن هذه هي أفعال عجائب الرحمة الإلهية الغير المتناهية التي تحدث نادراً جداً. وبالتالي أن من ينتظر أمر خلاصه بواسطة هذه العجائب فهو أحمق فاقد العقل. بل أقول أن الذي يكرم هذه السيدة بصيام السبوت، فبسهولةٍ يجعلها أن تستمد له من الله موهبة الثبات في النعمة، وميتةً صالحةً. فجميع الأخوة الموجودين في جمعيتنا الحقيرة يصومون السبوت على الخبز والماء (حينما يقدرون على ذلك) تكريماً لمريم العذراء وأنما قلت حينما يقدرون على ذلك. لأوضح أنه يتفق أحياناً أن يلتزم البعض منهم بعدم حفظ هذا الصيام لأجل عارض مرضٍ، أو بأمر الطبيب، ولكن الذين على هذه الصورة لا يستطيعون على الصيام، فلا يتغافلون عن صنيع الأماتات الممكنة لديهم. مثلاً الأكل من شكلٍ واحدٍ فقط من الأطعمة، أو الأمتناع عن الفواكهة، أم عن شيء آخر محبوبٌ منهم.* ففي أيام السبوت يلزم أن تصنع بعض عباداتٍ خصوصيةٍ تكريماً لهذه السيدة، كتناول القربان الأقدس، أو على القليل أستماع القداس، وكزيارة بعض أيقوناتها المقدسة بتقوى وحسن تعبدٍ، أو بلبس المسح، وبما يضاهي ذلك. فالمتعبد لهذه الأم الإلهية يجتهد قلما يكون في أن يكرم أعيادها السنوية السبعة بصيامه في باراموناتها على الخبز والماء، أم بأستعماله نوعاً آخر من الصيام حسبما هو ممكنٌ لديه.* https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل السادس * في العبادة التي تكرم بها والدة الإله، بواسطة *زيارات أيقوناتها المقدسة* أن الأب بولس السنيري يقول: أن الشيطان لم يعرف أن يعزي ذاته نوعاً، عن الخسارة التي ألمت به في ملاشاة العبادات الوثنية القديمة الا بواسطة أستخدامه الأراتقة في أضطهاد الأيقونات المقدسة. ولكن كنيسة المسيح الجامعة قد حامت عن تكريم هذه الأيقونات حتى بسفك دماء شهداء كثيري العدد، وكذلك البتول الأم الإلهية قد أظهرت بواسطة عجائب عظيمةٍ وعديدةٍ. كم هو مقبولٌ لديها تكريم أيقوناتها الطاهرة!. فقد قُطعت يد القديس يوحنا الدمشقي لأجل أنه أستخدمها بتحريك قلمه الجليل في المحاماة عن أيقونات هذه السيدة، غير أن سلطانة العالمين هذه قد ردت يده صحيحةً بأعجوبةٍ شهيرة. وأخبر الأب سبينالي، بأنه في القسطنطينية قد كان في كل سنةٍ سترٌ يحجب أيقونة والدة الإله. نهار الجمعة بعد صلاة الغروب يسحب مفتوحاً من ذاته، نهار السبت بعد صلاة الغروب يغلق أمام الأيقونة بنوع فائق الطبيعة. وقد حدث نظير هذا الأمر مع القديس يوحنا ديديو، أي أنه اذ دخل هو يوماً ما الى أحدى الكنائس لزيارة أيقونة والدة الإله هناك، فقد أنسحب ستر الأيقونة مفتوحاً من ذاته، بنوع أن خادم الكنيسة ظن البار سارقاً فجاء إليه ورفسه برجله الا أن تلك الرجل قد يبست حالاً. فعباد هذه السيدة قد أعتادوا دائماً أن يكوموها بواسطة زيارتهم أيقوناتها المقدسة، والكنائس المشيدة على أسمها مراتٍ كثيرةً بحسن تدينٍ. فحسب قول القديس يوحنا الدمشقي أن هذه الأيقونات والكنائس المختصة بوالدة الإله هي مدن الملجأ والحماية، التي بهربنا إليها نجد النجاة من وثبات أعدائنا الجهنميين الذين يحاربونا بالتجارب، ثم الخلاص من العقوبات التي أستحقيناها بخطايانا المفعولة منا. فالملك القديس أنريكوس كان من عادته في حين دخوله الى كلٍ من المدن، أن يزور قبل كل شيءٍ أحدى الكنائس هناك على أسم العذراء المجيدة. والأب توما سانكس لم يكن أعتيادياً يرجع الى بيته قبل أن يكرم هذه البتول بزيارة بعض كنائسها. فلا ينبغي اذاً أن يصعب علينا أن نزور ملكتنا كل يومٍ في أحدى الكنائس أم المعابد المختصة بها، أو قلما يكون في بيوتنا ذاتها. حيث أنه يكون أمراً حسناً اذا تعين في أحد أمكنتها مخدعٌ خصوصي في محلٍ منفردٍ، وتكون فيه أيقونتها مكرمةً بزينةٍ ما، وبزهورٍ وشموعٍ، أو بقنديلٍ. وأمامها تتلى الصلوات من أهل البيت، كالطلبة ومسبحة الوردية وأمثالها. ففي شأن الزيارات التي نحن في صددها قد ألفت كتيباً (الذي قد طبع لحد الآن ثمان مراتٍ) مختصاً بزيارة القربان الأقدس وبزيارة العذراء أيضاً مقسوماً على عدد أيام الشهر، ثم أنه يستطيع بعض المتعبدين لمريم أن يصنع على مصروفه، في أحدى الكنائس أو المعابد. الأحتفال ببعض أعيادها، مع التسعة الأيام المتقدمة على العيد، بصمد القربان المقدس، وبعظاتٍ أيضاً. الأمر الجزيل القبول والفائدة.* الا أنه يليق هنا أن ننبه بما أخبر به الأب سبينالي في العدد 75من كتابه على عجائب والدة الإله، عما حدث سنة 1611 في المعبد الشهير المختص بهذه السيدة. في المكان الملقب" بحبل العذراء" وهو أنه في بارامون عيد العنصرة، حينما كان أجتمع في الأمكنة التي حول هذا المعبد جمٌ غفيرٌ من الناس، الذين ألتئموا، يسكرون ويرقصون ويبذخون، وهكذا دنسوا المعبد الإلهي، فبغتةً أضطرمت نيران الحريق في تلك الأمكنة الخشبية، حيث كانوا مجتمعين، بنوع أنه في مدة نصف ساعةٍ فقط قد أفنى اللهيب كل تلك الأمكنة، وأحالها الى رمادٍ، مع ألف وخمسماية شخصاً قد ماتوا محروقين. ما عدا خمسة أنفارٍ قد أستمروا في الحياة. وهؤلاء شهدوا تحت أقسامٍ رهيبةٍ وحلفاناتٍ أحتفاليةٍ، بأنهم شاهدوا بأعينهم والدة الإله نفسها، حاملةً بيديها مشهابين متقدين. وجايلةً تلقي بهما اللهيب في كل تلك الأمكنة. فلذلك أنا أتضرع الى عبيد مريم بقدر أستطاعتي بأنهم يمتنعون عن الذهاب الى الأعياد التي تصنع خارج المدن في بعض الكنائس، وبأن يجتهدوا في أن يصدوا الآخرين من المضي الى أعيادٍ هذه صفتها، التي يحصل منها الجحيم على أثمار أكثر مما تحصل عليه هذه الأم الإلهية من العبادة والتكريم. ومن ثم أن ذاك الذي يشعر بأنعطافٍ الى أن يزور أحد المعابد المومى إليها، تكريماً لوالدة الإله، أم لغايةٍ أخرى صالحة، فليذهب، ولكن لا في الأيام التي فيها يصير أحتفال أعياد هذه المعابد، بل في أيامٍ أخرى سابقة أو متأخرة عن يوم العيد.* https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل السابع * في العبادة للبتول الكلية القداسة بحمل ثوبها في عنق المتعبد لها* أنه كما أن الأنام الأشراف المتقدمين في الوظائف المدنية يفتخرون في أن خدامهم يتردون بتلك الأثواب الحاوية علامات شرفهم أم وظائفهم، فهكذا والدة الإله تسر بأن عبيدها وخدامها يحملون معلقةً في أعناقهم أثوابها المكرسة، علامةً لتكريمها وللتعبد لها مشرفين في خدمتها. فالأراتقة المحدثون حسب عادتهم يستهزئون بهذه العبادة، ولكن الكنيسة المقدسة قد أثبتت عبادة ثوب السيدة بمراسيم ومناشير رسولية عديدة ذات أنعاماتٍ وغفراناتٍ سخية. فالأب كراسات، ومثله لاتسانا يخبران بتكلمهما عن ثوب سيدة الكرمل، بأنه نحو سنة 1251 قد ظهرت والدة الإله للطوباوي سمعان سطوكيوس، الذي من بلاد أنكلترا، واذ أعطته ثوبها بالصورة المصنوع بموجبها ثوب السيدة، قد قالت له أن أولئك الذين يحملون في أعناقهم هذا الثوب ستخلص أنفسهم من الهلاك الأبدي. وهذه ألفاظها عينها هي:" أقتبل مني يا أبني العزيز هذا الثوب الذي هو الأسكيم، علامة لأخويتي التي هي رهبنتك، وهو أختصاصٌ لك ولجميع الرهبان الكرمليتانيين. فكل من يموت وهو حاملٌ في عنقه هذا الثوب، فلا يحترق في النيران الأبدية". ثم أن الأب كراسات عينه يبرهن، بأن هذه السيدة المجيدة قد ظهرت مرةً أخرى للحبر الأعظم يوحنا الثاني والعشرين، وأمرته بأن يعرف أولئك الذين يحملون ثوبها المذكور، بأن أنفسهم عتيدةٌ أن تخلص من العذابات المطهرية، في نهار السبت الأول الذي يأتي بعد موتهم. حسبما أوضح ذلك هذا الحبر الروماني نفسه في منشوره الرسولي الذي أشهره بعد هذه الرؤيا، المثبت فيما بعد من الباباوات ألكسندروس الخامس، وأكليمنضوس السابع وغيرهما. ونحن قد أوردنا في الوجه265 من هذا الكتاب كيف أن الحبر الأعظم بولس الخامس يشير الى جميع ما تقدم عنه القول، وكأنه يفسر مراسيم سلفائه بشرحه الشروط التي بموجبها تكتسب الغفرانات الممنوحة لهذه العبادة، وهي حفظ العفة بقدر أستطاعة كل إنسانٍ في دعوته، وتلاوة الفرض الوجيز المختص بوالدة الإله، وأن الذي لا يمكنه أن يتلو هذا الفرض، فيحفظ قلما يكون صيامات الكنيسة، ممتنعاً عن أكل اللحم نهار الأربعاء. وأما الغفرانات الممنوحة لأولئك الذين يحملون ثوب سيدة الكرمل، ومثله ثوب أحزان العذراء، وثوب سيدة النجاة، وخاصةً ثوب الحبل بها بلا دنس. فهي غفرانات لا تحصى عدداً، كاملةً وغير كاملةٍ، يوميةً وشهريةً وسنويةً، في مدة الحياة وساعة الموت. وأنا أتعزى بأني مشتركٌ في هذه الأثواب كلها. ويلزم أن أنبه هنا، بأن الثوب المختص بالحبل بهذه السيدة البريء من الدنس، الذي يبارك من كهنة جمعية التياتيين، فما عدا الغفرانات الخصوصية الممنوحة له، توجد أيضاً معطاةً للذين يحملون هذا الثوب المبارك منهم الغفرانات الأخرى كلها، الموهوبة لجميع الرهبنات، ولسائر أمكنة التقوى، ولكل الأشخاص مجملاً ومفرداً، لا سيما اذ تلى حاملون هذه الأثواب الست مراتٍ: أبانا الذي: والسلام لك: والمجد للآب: تكريماً للثالوث الأقدس، وللحبل بالعذراء البريء من الدنس، فيكتسبون كل الغفرانات المعطاة من مدن روميه، وأسيزي، وأورشليم، وغاليتسيا. وهذه تبلغ الى أربعماية وثلاث وثلاثين غفراناً كاملاً، ما عدا الغفرانات الغير الكاملة الفائقة الإحصاء، فهذا كله أخذناه عن صكٍ مطبوع من هؤلاء الآباء التياتيين. حيث تورد فيه هذه الغفرانات بالتفصيل.* https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل الثامن * في الأشتراك بالأخويات المختصة بعبادة والدة الإله* أنه يوجد البعص يذمون الأخويات المشتركة، أو قلما يكون لا يمدحونها، قائلين أنه مراتٍ كثيرةً توجد هي علةً للخصومات والدعاوى، وأن كثيرين يشتركون بها لغاياتٍ بشريةٍ. ولكن كما أنه لا يمكن أن تذم الكنائس والأسرار المقدسة. لأجل أن كثيرين ينافقون بها. فهكذا لا يلزم أن تذم الأخويات لأجل هذه العلة. فالأحبار الرومانيون ليس فقط لم يرذلوا هذه الأخويات بل أيضاً قد أثبتوها ومدحوها وأغنوها بالأنعامات والغفرانات والأختصاصات. والقديس فرنسيس سالس يحرض كثيراً العلمانيين على الدخول في الأخويات المثبتة. والقديس كارلوس بوروماوس قد أبذل كل عنايته الرعائية في نمو أخوياتٍ هذه صفتها، وأهتم في تأييدها، وكان بنوعٍ خاص يحتم في مجامعه الأقليمية على خوارنة الرعايا بأن يجتهدوا في أقناع تلاميذهم بالأشتراك في الأخويات. وهذا بكل صوابٍ، لأن الأخويات لا سيما المختصة بعبادة والدة الإله. هي نظير سفنٍ نوحية يجد فيها العلمانيون المساكين ملجأً ومهرباً من الغرق العرمرمي. أي من التجارب الشيطانية، ومن الخطايا التي تغرق العالم. فنحن وجمعيتنا قد عرفنا بالعملية، وأختبرنا بالتجربة بواسطة الرسالات التي باشرناها في أمكنةٍ مختلفةٍ بكم هو عظيم الإفادة الناتجة للعلمانيين من الأشتراك في الأخويات، لأننا اذا تكلمنا بوجه العموم وأعتيادياً، فنقول أنه توجد مآثم في رجلٍ علماني غير مشترك بهذه الأخويات، أكثر من خطايا عشرين رجلاً علمانيين مشتركين بها. ومن ثم يمكن أن يقال عن أخويةٍ مثبتةٍ، ما قيل عن عروسة النشيد: أن عنقكِ كبرج داود المبني بالمحاصن المعلق عليه ألف ترسٍ، وكافة أسلحة المقتدرين: (نشيد ص4ع4) وهذا هو النجاح الروحي العظيم الناتج من الأخويات. لأن المشتركين بها يكتسبون لذواتهم أسلحةً قويةً جداً ضد قوات الجحيم. وفي هذه الأجتماعات المقدسة يتروضون بممارسة الوسائط التي بها يحفظون أنفسهم في حال النعمة الإلهية، الوسائط التي خارجاً عن هذه الأخويات تمارس نادراً وبصعوباتٍ وافرة.* فأولاً: أن إحدى هذه الوسائط هو التفكر في الموت، كقول الروح القدس: أذكر عواقبك فلن تخطئ أبداً (أبن سيراخ ص7ع40) ولذلك كثيرون يهلكون لعدم تفكرهم بالموت، كقول أرميا النبي: خراباً خربت الأرض لأن ليس من يفتكر في القلب: (ص12ع11) فالذين يترددون الى الأخويات يتذكرون جيداً هذه الأشياء مراتٍ عديدةً، من قبل الصلوات العقلية التي تمارس منهم هناك، ومن قبل القراءات الروحية والمواعظ. كقوله تعالى: أن خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها وهي تتبعني، وأنا أعطيها حيوة الأبد: (يوحنا ص10ع27).* ثانياً: أنه لنوال الخلاص يلزم التوسل لله والطلب المتصل، كقول مخلصنا: أسألوا فتعطوا ليكون فرحكم كاملاً: (يوحنا ص16ع24) والحال أن المشتركين في الأخويات يمارسون في أجتماعاتهم هذه الطلبات بتكاثرٍ. بل بأتصالٍ! والباري تعالى يستجيب لهم كوعده الصادق بقوله: لأنه أينما أتفق أثنان منكم على الأرض في كل شيء يطلبانه، فيكون لهما من قبل أبي الذي في السموات. لأن حيثما أجتمع أثنان أو ثلاثة بأسمي فأنا أكون هناك في وسطهم: (متى ص18ع19) وفي هذا الشأن قال القديس أمبروسيوس: أن كثيرين من الصغار الضعفاء اذ يجتمعون بروحٍ واحدٍ فيصيرون أقوياء جداً. وكذلك صلوات كثيرين بتضرعاتٍ متواترة لمن المستحيل الا تقبل:* ثالثاً: أنه في الأخويات تقتبل الأسرار بأكثر سهولةٍ، وبأوفر مثابرةٍ، نظراً الى فرائض هذه الجمعيات. ونظراً الى النموذجات التي تعطى من الواحد للآخر. وبهذه الطريقة تحفظ الأنفس بأكثر سهولةٍ في حال نعمة الله، اذ أن المجمع التريدنتيني المقدس قد أوضح (في القانون 2 من الجلسة 13) أن التناول هو دواءٌ به نشفى من زلاتنا اليومية. ونحفظ من الخطايا المميتة.* رابعاً: أنه ما عدا المواظبة على تناول الأسرار، تمارس من ذوي الأخويات أماتاتٌ مختلفةٌ للتواضع، وللمحبة نحو الأخوة المرضى، ونحو الفقراء ولقد يكون أمراً جيداً أن تدرح في كلٍ من الأخويات هذه العادة المقدسة، وهي الأعتناء في مساعدة مرضى البلد الفقراء وتكون الأثمار الروحية عظيمةً جداً اذا جرت العادة في هذه الأخويات بأن تصير تكريماً للبتول والدة الإله الجمعيات السرية، المؤلفة من الأخوة الأشد حرارةً في العبادة، والأكثر نشاطاً في الأعمال الروحية. وهوذا أنا بكل أختصار أورد ما هي الرياضات التي تمارس في هذه الجمعيات السرية، وهي: 1. قراءة روحية مقدار نصف ساعة. 2. تتلى صلاة الغروب وصلاة النوم المختصتين بالروح القدس. 3. تقال الطلبة، وحينئذٍ الأخوة المعينون لعمل بعض أماتاتٍ، كحمل الصليب على عاتقهم. وما أشبه ذلك فيمارسونها. 4. تصير صلاةٌ عقلية بالتأمل مدة ربع ساعةٍ في آلام مخلصنا المقدسة. 5. كل واحدٍ من الأخوة يعترف حينئذٍ بالنقائص التي صنعها ضد فرائض الأخوية. ويقبل عنها قانون من الأب المرشد. 6. تقرأ علانيةً من الأخ المعين لذلك أعمال الأماتات التي تكون تمارست مشتهراً من الأخوة في السنة الماضية، وتعلن الأيام التسعاوية التي تبتدئ في السنة المقبلة. 7. وأخيراً تصير رياضة الجلد على تلاوة المزمور الخمسين: والسلام عليكٍ أيتها الملكة أم الرحمة: وهكذا كلٌ من الأخوة يمضي فيقبل قدمي المصلوب المقدس الموضوع على درجة الهيكل. وأما فرائض هذه الجمعيات السرية، فهي: 1. أن كلاً من الأخوة يمارس يومياً الصلاة العقلية. 2. أن يزور كل يومٍ القربان الأقدس، وأحدى أيقونات والدة الإله. 3. أن يفحص ضميره كل ليلةٍ قبل الرقاد. 4. الا يهمل يومياً القراءة الروحية. 5. أن يمتنع عن اللعب بالورق وغيره ويهرب من الأجتماعات العالمية. 6. أن يواظب على أقتبال الأسرار المقدسة، وعلى بعض أماتاتٍ ممكنةٍ لديه، كحمل زنار الحديد، أو عمل الجلد وأمثالهما. 7. أن يتوسل لله كل يوم من أجل الأنفس التي في المطهر، ومن أجل أرتداد الخطأة الى التوبة. 8. اذا كان أحد الأخوة مريضاً فتلتزم الأخوة كلهم بزيارته. وبهذا كفاية. فلنرجع الى موضوعنا الأول.* خامساً:قد قلنا فيما سلف كم هو أمرٌ مفيدٌ للخلاص الأبدي التعبد لمريم العذراء وخدمتها كالواجب. فالأخوة في جمعياتهم ماذا يصنعون الا واجبات عبادتها وخدمتها، فكم يمدحونها هناك، وكم يتضرعون إليها. اذ أنهم منذ أشتراكهم بهذه الأخويات يكرسون ذواتهم لخدمتها وعبادتها. مختارينها بنوعٍ خاص سيدةً وأماً لهم. وبالتالي كما أنهم عبيدٌ لها وأبناءٌ، أخصاء. فهكذا هي بنوع متميز تعضدهم وتحامي عنهم في مدة حياتهم وفي ساعة موتهم. فاذاً يمكن القول عن كل أحدٍ من المشتركين بأخويات هذه الأم الإلهية أنه مع الأخوية قد أقتبل كل خيرٍ، كقول الحكيم: جاءتني الخيرات كلها معها، والثروة التي لا تحصى في يديها: (سفر الحكمة ص7ع11).* الا أن كل واحدٍ من المشتركين بهذه الأخويات يلزمه أن يجتهد في أمرين: أحدهما: هو الغاية، أي في أن يكون تردده الى الأخوية لا لغايةٍ أخرى الا لعبادة الله وخدمته، وللتعبد لوالدته المجيدة. ولكي يهتم في خلاص نفسه. ثانيهما: أن لا يهمل لأجل أعمالٍ عالميةٍ الذهاب الى الأخوية في الأيام المعينة للأجتماع، لأن تردده الى الأخوية أنما هو لممارسة العمل الأهم والأصر والأخص من جميع أعمال العالم، وهو عمل خلاصه الأبدي. ثم أن يجتهد بقدر مكنته في أن يجتذب الآخرين أيضاً الى هذا الأجتماع، لا سيما في أن يصير أولئك الأخوة الذين تركوا التردد الى الأخوية أن يرجعوا الى حالهم الأولى. لأنه كم وكم عاقب الله بقصاصاتٍ ظاهرةٍ مهيلةٍ، أولئك الذين اذ كانوا مرةً ما مشتركين في إحدى الأخويات المختصة بعبادة مريم العذراء قد أهملوها بعد ذلك بالكلية. ففي مدينة نابولي قد كان أحد الأخوة ترك الأخوية مطلقاً واذ حرضه البعض على الرجوع إليها، قد أجابهم التعيس قائلاً: أني سأرجع إليها حينما تكسر قصبتا رجلي وتقطع هامتي: فقد صار هو نبياً على ذاته بهذا القول، لأنه لم يمضِ على ذلك الا زمنٌ وجيزٌ. واذا بأعداءٍ كانوا لهذا الإنسان قد وثبوا عليه بغتةً، فكسروا ساقيه، وقطعوا رأسه. وبالعكس أن عبيد مريم البتول المثابرين على الأجتماعات بهذه الأخويات فهم مسعفون منها ومنعم عليهم من قلبها بخيراتٍ روحيةٍ وزمنيةٍ أيضاً. وعنهم قيل: أن أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضعفةً: (أمثال ص31ع21).* ففي الرأس4 من المجلد 2من تأليف الأب أورياما توجد مدونةً حوادثٌ كثيرةٌ في أثبات النعم العظيمة الممنوحة من والدة الإله للمشتركين في أخوياتها، ليس في مدة حياتهم فقط، بل في حين موتهم أيضاً. فيخبر الأب كراسات (في القسم 5من المجلد 2) بأنه في سنة 1586 اذ كان أحد الشبان مناهزاً للموت قد نام ثم أستيقظ وأعلم معلم أعترافه قائلاً: أواه يا أبتي أنني قد حصلت في خطرٍ عظيمٍ للهلاك، ولكن أمي الإلهية قد خلصتني، لأن الشياطين قدموا ضدي في ديوان الله جميع خطاياي. وكانوا مستعدين لأن يأخذوني متكردساً الى جهنم. ولكن قد جاءت حينئذٍ السيدة والدة الإله، وقالت لهؤلاء الأبالسة: الى أين آخذين معكم هذا الشاب، وأي حقٍ يوجد لكم على أحد عبيدي، الذي خدمني زمناً مديداً في الأخوية المختصة بالعبادة لي: فهكذا هربت الشياطين وأنا خلصت من أيديهم:* ثم أن الأب المذكور عينه يخبر هناك عن حادثٍ آخر، وهو أن رجلاً من المشتركين بأخوية العذراء، قد حصل في ساعة موته على معركةٍ قوية جداً من قوات الجحيم، ولكن اذ أنتصر عليهم أخيراً، قد هتف صارخاً: يا له من خيرٍ عظيمٍ هو خدمة مريم البتول في أخويةٍ مختصةٍ بعبادتها: وهكذا مات ممتلئاً من التعزية السماوية. ويضيف الى ذلك، أنه في مدينة نابولي اذ كان الرجل الشريف "دوكا" بوبولي مدنفاً على الموت قال لأبنه هكذا: أعلم يا ولدي أن الخير الوجيز الذي أنا عملته في حياتي، فأنا أعترف به أنه ناتجٌ عن أشتراكي بأخوية العذراء، فاذاً لا يوجد عندي خيرٌ أعظم أتركه لك بعد موتي من هذه الأخوية، التي أعتبر ذاتي شريفاً بالأشتراك فيها، أكثر من شرفي بأني دوكا بوبولي:* https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل التاسع * في أعطاء الصدقة عبادةً لوالدة الإله وتكريماً لها* أن المتعبدين لمريم البتول الكلية القداسة من عادتهم أن يوزعوا بعض صداقاتٍ، لا سيما في يوم السبت أكراماً لهذه السيدة. فالقديس غريغوريوس الكبير يخبر في أدابياته عن ذاك الرجل البار القديس عطا الله، الذي كانت صنعته عمل الأحذية، فهذا كان يوزع على الفقراء والمساكين تكريماً لهذه الأم الإلهية في نهار السبت، جميع ما كان يربحه في أيام السبت من تعب يديه، فالباري تعالى أظهر في الرؤيا لأحد أبراره داراً عظيمةً ذات قصورٍ ملوكيةٍ في السماء كانت مهيأةً لهذا الرجل عبد مريم البتول عطا الله، وأنها لم تكن تتشيد وتتزين الا في أيام السبوت. والقديس جاراردوس في مدة حياته كلها لم يكن ينكر قط على أحدٍ تتميم ما كان يسأله إياه أكراماً للعذراء المجيدة، متى كان يطلب منه بأسمها. ومثل ذلك كان يصنع الأب مرتينوس غوتيازاز اليسوعي، الذي أعترف فيما بعد بأنه قط لم يكن هو ألتمس من هذه السيدة نعمةً ما، الا ونالها منها. ومن حيث أن الأوغونوتيين وثبوا يوماً ما على عبد مريم هذا البار فقتلوه، وتركوا جثته في الأرض. فحينئذٍ ظهرت ملكة السماء هذه وبرفقتها عددٌ من العذارى، اللواتي بأمرها قد لفين جسده بسباني نقيةِ، وأخذنه. وكذلك القديس أباراردوس أسقف ساليسبورك كان يتصرف على هذه الصورة. ولذلك قد شاهده في الرؤيا أحد الرهبان الأبرار، محمولاً من والدة الإله على ذراعيها نظير طفلٍ، وقالت هي عنه هكذا:" هذا هو أبني أباراردوس الذي قط ما نكر عليَّ شيئاً مما طلبته منه". وبمثله كان يسلك ألكسندروس ألاس الذي اذ طلب منه يوماً ما بأسم مريم العذراء أحد الرهبان الفرنسيسكانيين أن يترهب في قانونهم، فحالاً هو ترك العالم ودخل في الرهبنة المذكورة. فلا يصعب اذاً على عبيد مريم أن يعطوا كل يومٍ صدقةً ما تكريماً لها. وأن يصنعوا ذلك بأوفر سخاءٍ في يوم السبت. واذا لم يكن للبعض منهم أعطاء الصدقة، فقلما يكون يمارس تكريماً لهذه السيدة المجيدة بعض أعمالٍ تلائم محبة القريب، مثلاً خدمة المرضى، أو التوسل لله من أجل أرتداد الخطأة الى التوبة، والتضرع من أجل الأنفس التي في المطهر، وما يضاهي ذلك. لأن أعمال الرحمة هي كلية القبول لدى ملكة الرحمة هذه.* https://upload.chjoy.com/uploads/165996084967721.jpg الفصل العاشر * في الألتجاء المتواتر الى والدة الإله بطلب معونتها وأسعافها.* * وفي بعض عباداتٍ أخرى* فأنا أقول أنه فيما بين جميع العبادات والتكريمات التي خدام هذه الأم الإلهية وعبيدها يكرمونها بها، لا توجد لديها عبادةٌ أكثر قبولاً من ألتجائهم إليها، وأستمدادهم منها النعم والمعونات في جميع أحتياجاتهم الخصوصية، نظير طلب المشورة في أعمالهم. أو حينما يلتزمون بأعطاء المشورة لقريبهم، أم في حين أحزانهم وضياقاتهم، أو في وقت توارد التجارب الشيطانية عليهم، لا سيما المضادة الطهارة. فمن دون ريبٍ، بل بكل تأكيدٍ هي حينئذٍ تسعفنا وتنقذنا، متى بادرنا الى حمايتها وألتجأنا الى شفاعتها، وطلبنا معونتها قائلين نحوها: تحت ذيل حمايتكِ نلتجئ يا والدة الإله القديسة.أو: السلام لكِ يا مريم: أم أننا نستغيث بمجرد أسمها الكلي القداسة مريم الذي فيه قوةٌ عظيمةٌ خصوصيةٌ ضد الشياطين. فالطوباوي سانتي الراهب الفرنسيسكاني، اذ تجرب يوماً ما بتجربةٍ قويةٍ ضد العفة، وأستغاث بأسم هذه الأم الإلهية، فحالاً ظهرت هي له، ووضعت يدها على صدره فأنقذته من التجربة. ولهذا يفيد كثيراً في وقت التجارب أن المجرب ضد العفة أو غيرها من الفضائل، ينظر الى إحدى أيقونات والدة الإله، أم يقبل المسبحة الوردية، أو يضمها الى صدره، أم يقبل ثوب السيدة. وليعلم أن من يذكر أسم يسوع ومريم فيربح غفران خمسين يوماً ممنوحاً من الحبر الأعظم بناديكتوس الثالث عشر.* ثم أنني أضيف الآن أخيراً بعض عباداتٍ أخرى تمكن ممارستها تكريماً لوالدة الإله، وهي: أولاً: تقدمة الذبيحة الإلهية، أو طلب تقدمتها من الغير، أم قلما يكون حضورها، أكراماً لهذه السيدة. فلا ينكر أن الذبيحة الكلية القداسة لا تتقدم سوى لله الذي تقرب له أولوياً وبدءاً، أعترافاً بسلطانه المطلق، ولكن يقول المجمع التريدنتيني المقدس (في القانون 3من الجلسة 22) أن هذا لا يمنع أن تتقدم الذبيحة الغير الدموية لله شكراً له على النعم التي وهبها لقديسيه، وللكلية الطوبى والدته، وأننا اذ نذكرهم على هذه الصورة فهم يتضرعون لله من أجلنا. ولهذا يقال في القداس:" أن تقدمتنا، كما هي لتكريمهم، فكذلك تفيدنا خلاصاً". فالعذراء المجيدة نفسها قد أوحت لأحد عبيدها، بأن تقدمة القداس على النوع السابق ذكره، وهكذا تلاوة ثلاث مراتٍ: أبانا الذي: والسلام لكِ: والمجد للآب: للثالوث الأقدس شكراً له على النعم العظيمة التي وهبها إياها. فهو شيءٌ كلي القبول لديها. لأنه اذ لم تستطع هذه السيدة أن تشكره عز وجل بكفايةٍ عن جميع النعم والأختصاصات والمواهب التي شرفها هو بها، فتسر هي جداً بأن عبيدها وأولادها يساعدونها في تقدمة الشكر عن ذلك لديه تعالى. ثانياً: تكريم أولئك القديسين أقرباء هذه الملكة الجليلة الأكثر نسبةً لها، نظير القديس يوسف خطيبها، والقديسيواكيم والدها، والقديسة حنه أمها. بل أن هذه العذراء المجيدة نفسها يوماً ما قد أوصت أحد الأنام الشرفاء، بأن يكون متعبداً لوالدتها القديسة حنه. وكذلك تكرمة القديسين الذين في حياتهم كانوا بنوع متميز عن الآخرين مستحرين في عبادتهم لها، نظير القديس يوحنا الإنجيلي، والطوباوي يوحنا المعمدان، والقديس يوحنا الدمشقي المحامي عن أيقوناتها المقدسة، والطوباوي برنردوس. والقديس أبدالفونسوس المناضل عن دوام بتوليتها، وما يضاهي هؤلاء. ثالثاً: قراءة بعض أوراقٍ يومياً في أحد الكتب المتكلمة عن أمجادها وعظائمها، والوعظ والأنذار، أو قلما يكون التعليم بقدر الأمكان، خاصةً للأقرباء والخصيصين بالعبادة لها. كما قالت يوماً ما هذه السيدة للقديسة بريجيتا:" أجتهدي في أن تصيري أولادكِ بنيناً لي". ثم التضرع كل يومٍ من أجل أولئك المستحرين في عبادتها، أحياءً وأمواتاً.* وهنا نورد بعض العبادات التي منحت لأجلها من ألحبار الرومانيين غفراناتٌ خصوصية لتكريم البتول الكلية القداسة. فأولاً:" يكتسب غفران مئة سنةً كل من يتلو أحدٌ هذه الكلمات وهي:" فليكن مسبحاً على الدوام من كل البريئة، الحبل بمريم البريء من دنس الخطيئة الأصلية". ويقول الأب كراسات أن من يضيف الى لفظة البريء من الدنس كلمة: "الكلي الطهر". فيربح غفراناً آخر أسعافاً للأنفس المطهرية. ثانياً:ممنوحٌ على تلاوة: السلام عليكِ أيتها الملكة أم الرحمة: غفران أربعين يوماً. ثالثا: على تلاوة الطلبة معطى غفران مايتين يوماً. رابعاً:كل من يحني رأسه عند ذكر أسم يسوع وأسم مريم يربح غفران عشرين يوماً. خامساً:كل من يصلي خمس مراتٍ: أبانا الذي: والسلام لكِ: أكراماً لآلام المسيح ولأحزان والدته. فيكتسب غفران عشرة آلاف سنة.* ثم أني أفادةً للأنفس أريد أن أنبه هنا عن غفراناتٍ أخرى معطاة من الأحبار الرومانيين وهي: أولاً: غفران 3800 سنةً لكل من يستمع القداس في أي يومٍ كان. ثانياً:أن البابا بناديكتوس الرابع عشر قد منح غفران سبع سنواتٍ لكل من يتلو أفعال الديانة بنية أن يتناول الأسرار المقدسة في حياته وحين موته، وأن من يداوم تلاوتها مدة شهرٍ يومياً فيربح غفراناً كاملاً أسعافاً لأنفس الموتى، وأيضاً لذاته في ساعة موته. ثالثا: كل من يصلي خمس عشرة مرةً: أبانا الذي: والسلام لكِ: من أجل أرتداد الخطأة الى التوبة فيربح غفران ثلث القصاصات المستحقتها خطاياه. رابعاً: ثم أن البابا بناديكتوس 14 عينه قد منح غفراناتٍ مختلفةً مع غفرانٍ كاملٍ مرةً في الشهر، بشرط الأعتراف والتناول لكل من يمارس الصلاة العقلية يومياً مقدار نصف أو ربع ساعة. خامساً:كل من يتلو الصلاة المبدوة "نفس المسيح" قد منح غفران ثلاثماية يوماً. سادساً: من يرافق القربان الأقدس لمناولة المرضى يكتسب غفران خمس سنواتٍ، وأن رافقه بمصباحٍ فيربح غفران سبع سنين، ومن لا يقدر أن يرافقه بل يصلي مرةً: ابانا الذي: والسلام لكِ: فيربح غفران مئة يومٍ. سابعاً: كل من يجثو أمام القربان الأقدس يكتسب غفران مايتي يومٍ. ثامناً: لكل من يقبل الصليب منح غفران سنةً واربعين يوماً. تاسعاً: كل من يحني رأسه عند تلاوة: المجد للآب: يربح غفران ثلاثين يوماً. عاشراً: قد منح للكهنة الذين قبل القداس يتلون الصلاة المبدوة:" أنا أريد أن أقدم الذبيحة:" غفران خمسين يوماً. حادي عشر: كل من يقبل الثوب الرهباني يكتسب غفران خمس سنواتٍ. ثم من يريد الأطلاع على غفراناتٍ أخرى كثيرةٍ ممنوحةٍ على عباداتٍ مختلفةٍ، فيمكنه أن يراها في تأليف الأب فيفا. وأمرٌ معلومٌ هو أنه ينبغي أن المسيحي يجتهد في أن يبرز فعل الأنسحاق عند أكتسابه الغفرانات المقدم إيرادها، ليكون بذلك متأهباً لربحها.* هذا وأترك التكلم عن عباداتٍ أخرى مختصةٍ بتكريم والدة الإله موجودة في كتبٍ مختلفةٍ، نظير العبادات التي لأفراحها السبعة، والتي لأختصاصاتها الأثني عشر وأمثال ذلك. فأنا أنهي التأليف الحاضر بكلمات القديس برنردينوس الجليلة، الموردة منه في العظة الحادية والستين وهي قوله نحو والدة الإله هكذا: أيتها الأمرأة المباركة في النساء كلهن، فأنتِ هي شرف الجنس البشري، وأنتِ هي خلاص شعبنا. يا من أنتِ حاصلةٌ على أستحقاقٍ لا حدود له، وعلى سلطانٍ كاملٍ فوق الخلائق بأسرها. فأنتِ هي والدة الإله، وسيدة العالم، وملكة السماء وأنتِ هي موزعة النعم كلها، وزينة كنيسة المسيح المقدسة. وأنتِ هي النموذج الحي الأبرار، وتعزية القديسين وبهجتهم. وأصل تخليصنا وأفتدائنا، بل أنتِ هي فرح سكان الملكوت وسرورهم، وباب السماء ومجد الله. فهوذا أننا قد أذعنا مدائحكِ، ومن ثم نتوسل إليكِ يا أم الصلاح بأن تتممي نقصنا وضعفنا، وتعذري جرأتنا وتجاسرنا، وبأن تقبلي عبوديتنا وخدمتنا، وبأن تباركي على أتعابنا بواسطة رسمكِ في قلوب الجميع حبكِ مطبوعاً، حتى بعد أن نكون كافةً أحببنا على الأرض في مدة حياتنا أبنكِ الإلهي، وخدمناه وكرمناه، فنستطيع أن نسبحه ونباركه في السموات الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.* فها أنني أودعك، ثم أستودعك أيها الأخ القارئ العزيز والمحب الصادق لأمنا الإلهية مريم البتول، وهكذا أفارقك قائلاً لك، واظب سالكاً في أن تحب هذه السيدة الشريفة وتكرمها، وأجتهد في أن تصيرها محبوبةً من جميع الذين بكل أستطاعتك تحثهم وتحرضهم على حبها، ولا يكن عندك أرتيابٌ أصلاً. بل أحسن رجاك بطمأنينةٍ في أنك اذا ثبت مواظباً على عبادتك للبتول والدة الإله الى حين موتك، فخلاصك يكون أكيداً خالياً من الأرتياب. فأنا أنهي خطابي ليس كأنه لم يعد لي شيءٌ آخر أقوله فيما يخص تماجيد هذه الملكة العظيمة، بل لكيلا أسبب لك الملل من الأطالة. لأن الشيء الوجيز الذي كتبته الى ههنا يكفي لأن يجعلك مغرماً في محبة هذا الكنز الفائق الأثمان، وهو العبادة لهذه الأم الإلهية التي هي تهتم بنموها بواسطة حمايتها المقتدرة، فأقتبل مني أيها الأخ الحبيب عواطف أشواقي المتقدة، التي قصدت بها بواسطة تأليفي هذا أن أراك مستفيداً منه لذاتك خلاصاً، وأن تصير قديساً، بمشاهدتي إياك قد حصلت أبناً محباً بل مغرماً بعشق هذه السلطانة التي هي موضوعٌ كلي للمحبة. واذا كنت تعلم أنني بكتابي هذا قد أفدتك أفادة ما ولو قليلةً للغاية المذكورة، فأتوسل إليك بحق المحبة بأن تصلي من أجلي لدى مريم البتول طالباً لي منها هذه النعمة، كما أنني أنا أيضاً أطلبها لك من مراحمها، وهي أن يشاهد أحدنا الآخر معاً يوماً ما في الفردوس السماوي عند قدمي هذه السيدة، ملتئمين جملةً مع سائر أولادها الآخرين الأعزاء.* ثم أني أخيراً أتجه نحوكِ يا أم إلهي وأمي مريم الكلية القداسة، متضرعاً إليكِ بأن تقبلي مني هذه الأتعاب القليلة، مع أشواقي الى أن أراكِ محبوبةً ومكرمةً وممدوحةً من الجميع، فأنتِ تعلمين جيداً كم أنني رغبت بحرارةٍ في أن أتمم تأليفي هذا المختص بأمجادكِ، قبل أن تنتهي أيام حياتي التي ناهزت الأضمحلال ودنت من النهاية. فالآن يمكنني القول أنني أموت راضياً مسروراً تاركاً في الأرض كتابي هذا، الذي يستمر حاوياً على الدوام مدائحكِ وأذاعة مجدكِ، نظير ما أجتهدت بأتصالٍ في أن أصنع ذلك في جميع سني توبتي التي نلتها من الله بواسطتكِ، فأنا أتوسل إليكِ يا مريم البريئة من العيب والدنس من أجل كل الذين يحبونكِ، خاصةً من أجل أولئك الذين يقرأون كتابي هذا، وبأبلغ نوعٍ من أجل أولئك الذين يصنعون معي رحمةً في أن يصلوا لديكِ من أجلي، فإمنحيهم كافةً أيتها السيدة نعمة الثبات، وقدسيهم جميعاً، لكي تقودينا هكذا كلنا الى أن نمجدكِ ونمدحكِ في السماء. فأي نعم أيتها الكلية الحلاوة أمي أني أنما أنا خاطٍ شقي، ولكنني أفتخر في أني أحبكِ، وأنا أرجو منكِ أشياء عظيمةً. وفيما بينها هو أن أموت في محبتكِ، وأرجو أن في حال نزاعي عند موتي، حينما يضع الشيطان أمام عيني جميع خطاياي. فآلام مخلصي يسوع المسيح أولاً، ثم شفاعاتكِ عتيدةٌ أن تشجعني وتقويني لأن أخرج من هذه الحياة في حال نعمة الله. لكي آتي الى السماء حيث أحبه تعالى، وأشكركِ أنتِ يا أمي الى جيل الأجيال * آمين، هكذا أؤمل وكذلك فليكن لي* ( يقول القديس برنردوس أو من تنسب له العظة 4 على تفسير: *السلام عليكِ أيتها الملكة أم الرحمة:* أيتها السيدة قولي من أجلنا لدى أبنكِ، أن ليسعندهم خمرٌ، فيا لكأس خمر الحب الإلهي الصرفة كم هي رايقةٌ طافحةٌ، لأن خمرة حب الله تسكر شاربيها، وتجعلهم محتقرين العالم، ومستحقرين وأقوياء وتصيرهم في الأمور الزمنية متهاونين متناعسين، وفي الأمور الروحية نشيطين مستيقظين، فأنتِ هي الأرض الصالحة المخصبة الممتلئة نعمةً، والموعبة فضائل، وأنتِ هي نجمة الصبح المشرقة متلألئةً بالضياء ومزينةً بالجمال فأنتِ قد سموتِ متعاليةً نظير مطلع الصبح مشرقةً ومخضبةً بالأحمرار، لأنكِ بعد أن أنتصرتِ على الخطيئة الأصلية بحلولكِ في مستودع أمكِ. قد ولدتِ مستنيرةً بنور معرفة الحقائق الأزلية. مخضبةً بأحمرار حب الفضيلة. ولم يمكن للعدو أن يغتنم منكِ أفادةً لذاته، لأنكِ برجٌ مبني بالمحاصن ومعلقٌ عليه ألف ترسٍ وكافة أسلحة المقتدرين، وليس في الوجود فضيلةٌ ما الا وتلألأتِ مشرقةً فيكِ بنوعٍ كاملٍ سامٍ، وكل ما حصل عليه القديسون أجمعون من الفضائل والأختصاصات الفريدة، التي كلٌ منهم تلألأ بواحدةٍ منها فأنتِ وحدكِ جمعتيها كلها فيكِ، فيا سيدتنا ووسيطتنا وشفيعتنا تضرعي من أجلنا لدى أبنكِ، وبأستحقاق تلك النعمة التي أنتِ أيتها المباركة نلتيها منه تعالى صيري هذا الإله الذي بواسطتكِ تنازل الى أن يشترك بضعفنا وشقائنا، أن يجعلنا بشفاعاتكِ مشتركين في غبطته ومجده آمين* |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
† خاتمة الكتاب † من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من عند الرب. (أمثال8/5) سوف تطوبني جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي العظائم، وإسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. (لوقا 1/46) * وهي نبذةٌ مضافةٌ منا الى تأليفنا هذا، حاويةٌ تسعين خبراً ذات* * آياتٍ، مصنوعة بشفاعات والدة الإله الكلية القداسة،* * مأخوذة من كتب علماء مدققين معتبرين جداً.* الخبر الأول: أن الأب أورياما قد أخبر بأنه في بلاد جرمانيا قد كان سقط أحد الرجال في خطيئةٍ ثقيلةٍ، واذ لم يشاء من جهةٍ أولى أن يعترف بها لشدة خجله منها، ومن جهةٍ أخرى لأنه لم يقدر أن يحتمل توبيخ ضميره من قبلها، وليأسه مضى ليطرح ذاته في النهر فيموت! غير أنه بعد ذلك توقف عن هذا الفعل، وشرع يبكي طالباً من الله بدموعٍ أن يغفرها له من دون أعترافه بها لأحد الكهنة. فليلةً ما وهو نائم شعر بلامسٍ يهز أحد كتفيه مع صوتٍ يقول له: أذهب فأعترف بخطيئتك: فقام ومضى الى الكنيسة، ولكنه ما أعترف بذنبه. واذ سمع في ليلةٍ أخرى الصوت عينه، فأنطلق ثانيةً الى الكنيسة الا أنه عند وصوله إليها قال أنه كان يريد بالأحرى أن يموت من أن يورد للكاهن تلك الخطيئة، ولكنه قبل أن يرجع الى بيته أراد أن يأتي أمام أيقونة والدة الإله الكلية القداسة. الموجودة في تلك الكنيسة ويتوسل إليها في أن تسعفه، فحالما جثا أمامها مصلياً قد شعر في ذاته أنه تغير بكليته عما كان قبلاً، ومن ثم نهض مسرعاً، وطلب معلم الأعتراف باكياً بدموعٍ غزيرةٍ من قبل النعمة التي فاز بها من البتول المجيدة، وهكذا أعترف بخطاياه كلها، وبعد ذلك قال، أنه قد كان مسروراً بأبتهاجٍ قلبي بنوعٍ أفضل وأعظم مما لو يكون أمتلك جميع الذهب الموجود في العالم كله.* الخبر الثاني: أنه مدون في التاريخ المريمي تحت سنة 1505 أن أحد الشبان اذ كان مسافراً بحراً، قد كان يقرأ كتابٍ دنسٍ محبوبٍ منه جداً. فأحد رفاقه الركاب الذي كان راهباً قد دنا منه وسأله قائلاً: أتريد أن تهب والدة الإله شيئاً واحداً: واذ أجابه الشاب: أي نعم أني أريد ذلك: فقال له الراهب: أني أشتهي منك أن تترك حباً بمريم البتول هذا الكتاب، وانك تطرحه في البحر: فأجابه الشاب: هوذا الكتاب فخذه أيها الأب: الا أن الراهب قال له: كلا، أنا لا آخذه بل أرغب منك بأنك أنت ذاتك تصنع هذا الأيهاب لمريم العذراء، فقام الشاب ورمى الكتاب في البحر، فوالدة الإله حينئذٍ قد أضرمت في قلبه نار حبٍ شديد بهذا المقدار نحو الله، ونحو فضيلة العفة، حتى أنه حالما بلغ المركب الى جانوا مكان مولد الشاب، قد ترك هو العالم من دون تأخيرٍ، وتمسك بالعيشة الرهبانية.* الخبر الثالث: أنه يذكر في الرأس 6 من تاريخ بونيفاسيوس المختص بالعذراء، أن أحد النساك في جبل الزيتون في أورشليم كان حاوياً في قلايته أيقونة والدة الإله خشوعية جداً، وكان من عادته أن يصلي أمامها متواثراً. فاذ لم يحتمل الشيطان مشاهدة عبادةٍ هكذا حارة نحو هذه السيدة، شرع يجرب ذاك الناسك بتجاربٍ قوية جداً ضد العفة، بنوع أن الشيخ المتوحد لنظره ذاته متعوباً بهذا المقدار من التجارب، وأنه لم يكن ينجو منها بعد صلواتٍ حارةٍ ومتواثرة، فقال هو يوماً ما للشيطان: ترى ماذا صنعت معك أنا من الشر حتى أنك تعذبني ولا تدعني أن أعيش بسلامٍ: فحينئذٍ ظهر له الشيطان، وأجابه قائلاً له: أن العذاب الذي أنت تذيقني إياه هو أشد مرارةً جداً مما أنا أعذبك به. فالآن أحلف لي بقسمٍ بأن تحفظ سراً ما أقوله لك عما أريد منك أن تترك صنيعه، وأنا أعدك بألا أعود أقلقك مجرباً. فالنساك حلف له كمرغوبه، ووقتئذٍ قال له إبليس: أني أريد منك الا تعود تنظر الى تلك الأيقونة التي أنت حاويها في قلايتك: فالناسك قد أضطرب جداً. ومضى الى الأنبا ثاودوروس ليأخذ أرشاده فيما كان يلزمه أن يصنعه، فهذا الأب البار أجابه بأن الحلف الذي هو صنعه للشيطان كان باطلاً لا يلزمه بالوقوف عنده، وحرضه على أن لا يتغافل عن أن يلتجئ الى والدة الإله، بواسطة تلك الأيقونة الموجودة في قلايته، بل يواظب على تصرفه السابق. فالناسك أطاع الأمر وسلك بموجبه. وهكذا بقي إبليس مخزياً ومغلوباً.* الخبر الرابع: أنه يوجد مسطراً في العدد 2 من الرأس 22 من سيرة حياة الأب انطونيوس ده كولاليوس، عن أمرأةٍ جاءت يوماً ما عند الأب أنوفريوس آنا الذي من الجمعية الملقبة بالأكارين الأتقياء في مملكة نابولي لتعترف لديه بخطاياها وهي مملؤة رعدةً وخيفةً، لأجل أنها كانت معاشرة عشرةً دنسةً أثنين من الشبان، اللذين أحدهما بحركة الغيرة الدنسة قتل الآخر. ثم أخبرت هذا الأب بأنها في الساعة عينها التي فيها مات مقتولاً ذاك الشاب الشقي، قد ظهر هو لها متردياً بالسواد، مزنراً بالسلاسل، باعثاً من كل جهات جسده شهائب نارٍ متقدة، حاملاً بيده آلة حديدية. وأنه دنا منها ورفع ذراعه بذاك الحديد ليقطع به عنقها ذابحاً، وأنها هي حينئذٍ قالت له: أواه يا فلان (داعيةً إياه بأسمه) ما الذي صنعته بك، حتى أنك تريد أن تميتني: فأجابها الهالك وهو موعبٌ رجزاً وغضباً قائلاً لها: ويحكِ يا كلبة، أتقولين لي ماذا صنعتِ بي، فأنتِ قد خسرتيني الله. فحينئذٍ الأمرأة أستغاثت بأسم مريم البتول الكلية القداسة، وحالما سمع ذاك الخيال الجهنمي أسم مريم الموقر من السماويين والأرضيين، غاب عن الأمرأة ولم يعد يظهر لها، ولذلك هي بادرت الى عمل التوبة.* الخبر الخامس: كتب باجيوكالي بأنه حينما كان القديس عبد الأحد يعظ في مدينة كاركاسونا من بلاد فرنسا، قد أُحضر إليه أحد الأراتقة الألبيجازيين الذي لأجل أزدرايه وتكلمه مشتهراً ضد عبادة المسبحة الوردية، قد أعترته الشياطين معذبين إياه. فحينئذٍ القديس المذكور أمر الأبالسة بأسم الإله الحي، بأن يعترفوا جهاراً، في هل أن كرزه هو وتعليمه بخصوص الوردية المقدسة، كان صادقاً حقيقياً أم لا. فالأبالسة قد صرحوا بصوتٍ مرجفٍ عظيمٍ قائلين: أصغوا يا مسيحيين وأعرفوا أن جميع ما قاله عدونا هذا عن مريم، وعن الوردية الكلية قداستهما، فهو حقٌ صادقٌ خالٍ من الأرتياب: ثم أضافوا الى ذلك بقولهم: أنه لا توجد لهم أستطاعة ضد عبيد مريم ولا قوة بالكلية، وأن كثيرين في ساعة موتهم من غير أستحقاقٍ منهم يستغيثون بأسم مريم ويفوزون بالخلاص: وأخيراً قالوا: أننا لمضطرون بأن نشهر علانيةً، أنه ولا واحدٌ من أولئك الذين يثبتون على عبادة مريم العذراء وورديتها يمضي هالكاً، لأن هذه البتول تستمد للخطأة منهم قبل موتهم نعمة الندامة الندامة الحقيقية وهكذا يخلصون: فبعد هذا صير القديس عبد الأحد الشعب المسيحي الحاضر أن يتلو المسبحة الوردية. فيا له من عجبٍ، وهو أنه على كلٍ من: السلام لكِ يا مريم: كان يخرج من ذلك المعترى عددٌ وافرٌ من الشياطين بصورة جمرات نارٍ متقدة، وحينما أكمل الشعب تلاوة المسبحة الوردية قد برأ الرجل ونجا بالكلية من الأرواح النجسة. فلأجل حدوث هذه الأعجوبة كثيرون من الأراتقة قد أرتدوا الى الإيمان الكاثوليكي.* الخبر السادس: قال بونيفاسيوس في الرأس 4 من كتابه 4، عما أخذه عن الطوباوي ألانوس. مخبراً عن أبنة أحد الأمراء، بأنها كانت عائشةً ضمن أحد ديورة الراهبات، ومع أن هذه الأبنة كانت حسنة الديانة والنشاط في العبادة، فمع ذلك من حيث أن الروح الرهباني كان فاتراً في ذاك المكان، فهي من ثم لم تكن تتقدم في الفضيلة، ولكن لأجل أنها تعلمت فيما بعد من أحد معلمي الأعتراف الغيورين، كيفية تلاوة المسبحة الوردية مع التأمل في أسرارها. وبدأت تمارس ذلك بالعمل، فحصلت على تغييرٍ عظيم بنوع أنها أضحت نموذج الفضائل لجميع الراهبات. ولذلك اذ صعب عليهن روح أنفرادها قد حركن ضدها أضطهاداً قاسياً جداً. فيوماً ما اذ كانت هي تتلو الوردة متوسلةً لوالدة الإله في أن تسعفها في حال ضيقها، وفي الأضطهاد الثائر عليها منهن، قد رأت واذا برسالةٍ هابطة فوقها من السماء، محررٌ عنوانها هكذا:" من مريم والدة الإله، الى أبنتها يوفانا السلام". وكان داخلها مكتوباً بهذه الألفاظ وهي:" واظبي يا أبنتي العزيزة على تلاوة ورديتي، وأبتعدي عن المعاطاه مع أولئك الذين لا يفيدونكٍ أن تعيشي بالصلاح، أحترسي لذاتكِ من البطالة، ومن روح الفخفخة والمجد الباطل، وأرفعي من قلايتكِ الأشياء الغير الضرورية، وأنا أحامي عنكِ أمام الله". فبعد ذلك قد جاء رئيس عام الرهبنة ليفتقد ذاك الدير. ويجدد فيه الروح الرهباني، ولكن لم يستفد شيئاً، وقد شاهد يوماً ما هذا الرئيس العام أن الشياطين كانوا يدخلون الى قلالي الراهبات كلهن. ما عدا قلاية يوفانا، لأن والدة الإله التي رأى هو أمامها يوفانا جاثيةً مصليةً، كانت تطرد عنها هؤلاء الأرواح الشريرة، فلهذا اذ فحص هو عنها عرف أمر مثابرتها على تلاوة الوردية، ثم قضية الرسالة السابق ذكرها، فرسم على الجميع أن يمارسوا تلاوة الوردية، وفي زمنٍ قليل أضحى ذاك الدير كأنه فردوسٌ سماوي. لأجل التغيير العظيم الذي حصل عند الجميع.* الخبر السابع:قد أخبر ديوتالوس في عظته على الأحد الأول من الصوم الكبير، بأنه كانت في مدينة روميه أمرأةٌ دنسة السيرة أسمها كاترينا الجميلة. فهذه اذ سمعت يوماً ما القديس عبد الأحد متكلماً في وعظه عن عبادة المسبحة الوردية المقدسة، قد أكتتبت هي مشتركةً فيما بين أخوات هذه الشركة. وأبتدأت أن تتلو الوردية، ولكن من دون أن تترك أفعالها الدنسة، فليلةً ما قد جاء إليها شابٌ ما كان يظهر عليه أنه شريف الأصل جداً، فهي أقتبلته بكل كرامةٍ، واذ جلس معها على مائدة العشاء وأخذ يكسر الخبز، فشاهدت هي متساقطةً من يديه على المائدة نقطٌ كثيرة من الدم. كما أنها لاحظت أن جميع الأشياء التي هو كان يأكل منها وجدت مصبوغةً بالدم. فحينئذٍ هي سألته ماذا كان ذاك الدم، فأجابها الشاب، بأن الإنسان المسيحي يلزمه أن لا يأكل شيئاً من القوت الا أن يكون مخضباً بدم المسيح، ومملحاً بتذكرة آلامه تعالى المقدسة، فلما أنذهلت هي من هذا الجواب، قد طلبت إليه أن يعرفها عن ذاته من كان هو، فأجابها قائلاً: أني سأعرفكِ من أنا فيما بعد: ففي نهاية العشاء قد ذهبت هي وإياه الى محلٍ آخر من بيتها، الا أنها عندما كانت معه هناك قد شاهدته تغير عن حاله الأولى، وظهر مكللاً على هامته بأكليل من شوكٍ، ولحمانه كلها مهشمةٌ تسيل منها الدماء. ووقتئذٍ قال هو لها:" أتريدين أن تفهمي من هو أنا، أما تعرفيني، فأنا هو مخلصكِ، فاذاً يا كاترينا متى تنهي إهاناتكِ إياي، فأنظري وتأملي كم أنا أحتملت من الآلام لأجلكِ، يكفي ما قد أحزنتيني به، وجددتِ آلامي لحد الآن، فكفي عن ذلك وغيري سيرتكِ". فكاترينا عند سماعها هذا الخطاب بدأت تبكي بمرارةٍ وشهيقٍ، أما يسوع فأخذ يشجعها قائلاً: فاذاً الآن أحببيني بمقدار ما أغظتيني، وأعلمي أنكِ قد فزتِ مني بهذه النعمة لأجل تلاوتكِ وردية أمي:. وهكذا غاب عنها. فكاترينا مضت في الصباح التالي لتعترف بخطاياها عند القديس عبد الأحد عينه، وبعد أعترافها قد وزعت على الفقراء جميع ما كان لها، وأخذت تستسير سيرةً بهذا المقدار مقدسةً، حتى أنها بلغت الى درجاتٍ ساميةٍ من الكمال المسيحي. وقد ظهرت لها والدة الإله مراتٍ كثيرةً، بل أن مخلصنا يسوع المسيح نفسه قد أوحى للقديس عبد الأحد، بأن هذه التائبة قد أضحت لديه عزيزةً محبوبةً في الغاية.* الخبر الثامن:قد كتب الأب أورياما في الرأس 11 من المجلد 2 من تأليفه عما أخبر به الطوباوي ألانوس، عن أمرأةٍ شريفةٍ أسمها عبدة الأحد، التي في الأول كانت مثابرةً على تلاووة الوردية المقدسة، الا أنها اذ أهملت فيما بعد تلاوتها بالكلية فأحاق بها الفقر من كل ناحيةٍ بهذا المقدار، حتى أونها يوماً ما لأجل يأسها من الحياة قد ضربت ذاتها بالسكين ثلاث ضرباتٍ، وأنطرحت في الأرض مدنفةً على الموت، ولكن اذ كانت في حال النزاع والشياطين منتظرين موتها ليأخذوا نفسها، قد ظهرت لها البتول الكلية القداسة وقالت لها:" أنكِ قد نسيتيني يا أبنتي، ولكنني أنا ما نسيتكِ لأجل مسبحة الوردية التي حيناً ما كنتِ تصلين بها تكريماً لي، فاذاً أن كنتِ تعودين الى تلاوتها فأنا أرد لكِ الحياة الجسدية، والموجودات الزمنية معاً التي فقدتيها". فعبدة الأحد نهضت حينئذٍ من الأرض سالمةً، وأخذت تواظب تلاوة الوردية بكل عبادةٍ، وحصلت على موجوداتها الفاقدة، وعند موتها قد زارتها من جديد هذه الأم الإلهية، ومدحتها على أمانتها، وهكذا تنيحت بقداسةٍ.* الخبر التاسع:قد أخبر كارتاجينوس، بأنه كان في مدينة ساراغوتسا رجلٌ شريف الأصل أسمه بطرس، مفسود السيرة بنوعٍ فائق في الشرور والمآثم، وكان نسيباً للقديس عبد الأحد، فلما كان هذا القديس يوماً ما يكرز هناك في إحدى الكنائس، قد شاهد نسيبه هذا بطرس داخلاً إليها، ولذلك توسل هو باطناً أي القديس لدى الرب، في أن بيظهر تعالى للشعب كم كانت سيئةً حال نفس ذاك الإنسان التعيس، فطلبته أستجيبت، لأن بطرس قد أستحال على الفور الى صورةٍ بشعةٍ مريعةٍ كأنه مسخ جهنمي مسحوباً من عددٍ كبير من الشياطين، ومحاطاً منهم. فالشعب عند نظرهم إياه بهذه الحال المخيفة خرجوا من الكنيسة هاربين، حتى أمرأته نفسها التي كانت هناك وخدامه أعينهم تركوه وحده، فحينئذٍ القديس عبد الأحد أرسل إليه أحد رفاقه يقول له أن يلتجئ الى والدة الإله مستغيثاً بها، ويبتدئ بتلاوة المسبحة الوردية التي أرسلها إليه مع الشخص عينه. فاذ فهم ذلك بطرس أقتبله بأتضاعٍ، وشكر فضل البار، ووقتئذٍ حصل على النعمة في أنه هو نفسه شاهد الشياطين محيطين به، فمن ثم تقدم الى منبر التوبة وأعترف بخطاياه بدموعٍ سخية عند القديس المذكور عينه، الذي طمأنه مؤكداً لديه أن الله قد غفر له مآثمه. ومنذ ذلك الوقت ثابر على تلاوة الوردية نامياً في القداسة والكمال. حتى أن الرب قد أرتضى بأن يظهره في الكنيسة مكللاً بثلاثة أكاليل من ورد. فمن يريد الأطلاع على أخبار أخرى مختصة بالوردية فليقرأ ما هو مشروحٌ عن ذلك في تأليف كارتاجينوس.* الخبر 10: قد سطر في الرأس 15 من كتاب ثاوفانوس رايندوس، بأنه كان موجوداً في جبال مدينة تريدنتوس. أو بالحري ترنتوس أحد اللصوص الذائع الصيت في القتل والسلب، فهذا اللص اذ صودف يوماً ما من أحد الرهبان الذي أخذ ينصحه في أن يغير سيرته. فأجابه بأنه لم يعد عنده رجاءٌ في أصلاح ذاته، لأنه لا دواء لأمراضه الروحية، فحينئذٍ قال له الراهب: لا يا أخي تشجع وأصنع ما أقوله لك، وهو أن تصوم نهار السبت أكراماً للعذراء والدة الإله، وفي اليوم المذكور لا تضر أحداً، وهي تستمد لك من الله أن لا تموت خالياً من نعمته تعالى: فاللص أقتبل هذه المشورة الصالحة، ووضعها بالعمل، ملزماً ذاته بها بنذرٍ أبرزه في هذا الشأن. ولكيلا يخالف نذره المذكور بدأ يجول نهار السبت من دون سلاحٍ. فأتفق له أنه اذ كان في يوم سبتٍ في محلٍ ما، وهناك جاءت عليه جنود الوالي. فكيلا يقطع هو نذره قد ترك الجنود يقبضون عليه من دون أن يحامي عن ذاته ممانعاً. فحينما مثل مقيداً أمام القاضي، وهذا رآه شيخاً شائب الشعر متضعاً أراد أن يعفي عن موته. الا أن اللص بنعمة والدة الإله طلب إليه بخشوعٍ أن يجري عليه صرامة العدل، لأنه كان يريد أن يقتبل الموت غفارةً عن خطاياه، وهناك في ديوان الشريعة عينها شرع يعترف جهاراً بمآثمه واحداً فواحداً، عن جميع ما صنعه في مدة حياته، مذرفاً الدموع الغزيرة، حتى أن الحضار كلهم طفقوا يبكون متخشعين. فبعد ذلك قطعت هامته ودفن جسده في حفرةٍ بقلة كرامةٍ. الا أنه عقيب دفنه قد شوهدت والدة الإله، وبرفقتها أربع عذارى قديسات، قد دنون من جثة الميت، وأخرجنها من تلك الحفرة، ولفينها بسباني نقيةٍ منسوجةٍ بالذهب، وحملنها وأتين بها برفقة العذراء المجيدة الى باب المدينة، وسلمنها للجنود الحرس. وحينئذٍ أمرت هذه السيدة أولئك الجنود بأن يذهبوا عند أسقف الأبرشية، ويقولوا له عن لسانها هكذا:" أحتفل بكرامةٍ في دفن جسد هذا المتنيح في الكنيسة الفلانية، لأنه كان عبداً أميناً لي". فالأمر قد وضع بالعمل، وقد تقاطرت الشعوب الى هناك، وكلهم شاهدوا بأعينهم جثة الميت مدروجةٍ بتلك السباني المنسوجة ذهباً، وبعد دفنه الأحتفالي. يقول كيساريوس أن رهبان تلك الجمعية كلهم تمسكوا بصيام يوم السبت.* الخبر 11:قد كان في بلاد البورتوغال أحد المتعبدين للبتول الطوباوية، يمارس تكريماً لهذه السيدة صوم يوم السبت على الخبز والماء فقط، وكان أتخذ محاميين وشفيعيين من أجله لديها القديسين ميخائيل زعيم الملائكة، ويوحنا الإنجيلي. فلما دنت ساعة موته، قد ظهرت له هذه الملكة وصحبتها القديسان المذكوران، واذ تفرست هي فيه بوجهٍ باشٍ قالت لهما، أجابةٍ لتوسلهما من أجله:" أني لا أنطلق من هنا ألم أصحب معي نفس عبدي هذا الى السعادة الأبدية".* الخبر 12: أنه في أحد أعمال رسالة آباء جمعيتنا المنسوبة للفادي، قد أتفق أنه بعد نهاية العظة المختصة بوالدة الإله، التي أعتيادياً تصنعها آباء جمعيتنا في كلٍ من أعمال الرسالات. قد جاء أحد الآباء رجلٌ شيخٌ مملؤٌ من السنين ليعترف لديه بخطاياه، وكان موعباً من البهجة والتعزية، ثم قال للكاهن: أعلم يا أبتي أن والدة الإله قد صنعت معي النعمة. واذ سأله الأب بقوله: أية نعمةٍ صنعت معك: فأجابه المعترف قائلاً: فليكن معلوماً عندك يا أبتي أني منذ مدة خمسة وثلاثين سنةً قد كنت مارست سر التوبة بأعترافٍ نفاقي، لأني حياءً قد أخفيت في الأعتراف تقصداً خطيئةً مميتةً كنت سقطت بها، وقد حصلت فيما بعد في بحر هذه السنين مراتٍ كثيرةً في خطر الموت، وبلا شك لو مت لهلكت مؤبداً. أما الآن فالبتول المجيدة قد أستمدت لي النعمة، ومست قلبي بالتوبة فحضرت لأعترف بخطاياي كلها. وكان يتفوه بهذه الكلمات مع هطل الدموع السخية من عينيه، بنوع يحرك الى الخشوع الكلي. فبعد أن تمم الكاهن أستماع أعترافه قد سأله أية عبادةٍ كان هو يمارس تكريماً لوالدة الإله، فأجابه بأنه دائماً كان يمتنع في أيام السبوت، تكرمةً لهذه السيدة عن أكل البياض مكتفياً بالطبائخ المعمولة بزيتٍ، وأنه لأجل ذلك قد عاملته أم الرحمة هذه بمراحمها، في أنه قبل موته يفوز بنعمة التوبة. وقد سمح لمعلم أعترافه المومى بأن يشهر هذا الحادث.* الخبر 13:أنه يوجد مدوناً في الرأس 10من الكتاب 3 المدعو التسابيح، عن أحد اللصوص في بلاد نورمانديا، أنه اذ قطعت هامته من أعدائه، وطرحت في أحد الوديان، فكان يسمع صوتٌ تصرخ به تلك الهامة: يا مريم أمنحيني أن أعترف بخطاياي: فلما بلغ هذا القول لأحد الكهنة قد أسرع الى الوادي وأستمع أعتراف ذاك الرأس المقطوع. وبعد أن منحه الحل قد سأله أية عبادة كان يمارس نحو والدة الإله، فأجابه اللص بأنه كان في كل سبتٍ يصوم يوماً واحداً تكريماً لهذه السيدة، وأنها لأجل ذلك أنقذته هي من الهلاك الأبدي. وحفظته في الحياة الى أن أعترف بمآثمه.* الخبر 14:قد كتب العلامة بوفيوس في النموذج التاسع من المجلد 3 من أخبار عجائب والدة الإله. عن أثنين من الشبان الأشراف كانا في مدينة مادريد عاصمة مملكة أسبانيا. يساعد أحدهما الآخر على صنيع القبائح الدنسة. وعلى التمرغ في حماة الرذائل، فأحد هذين الرجسين قد شاهد ليلةً ما في الحلم أن رفيقه أخذ من رجالٍ سودٍ، وطرح في بحرٍ هائج. وأن هؤلاء السود، جاءوا إليه ليصنعوا به نظير رفيقه، الا أنه ألتجأ هو الى والدة الإله، ونذر على ذاته التمسك بالعيشة الرهبانية، ومن ثم نجا من أولئك الرجال السود. وأنه قد شاهد أيضاً يسوع المسيح جالساً في ديوان عدله، ممتلئماً غيظاً ضده وأن العذراء المجيدة كانت تتوسل لديه تعالى من أجله. فلما أستيقظ من النوم، وجاء عنده رفيقه الشاب، فهو أخبره بالحلم الذي رآه كما تقدم القول. فذاك الشاب عند سماعه ذلك أخذ يستهزء به ضاحكاً منه بسخريةٍ، الا أنه في الوقت عينه قد رشق بسهمٍ من يدٍ غير منظورة. وسقط في الأرض مائتاً، فلما رأى الشاب الذي شاهد الحلم أن الرؤيا قد تحققت في رفيقه. بادر حالاً الى منبر التوبة وأعترف بخطاياه تائباً، وعزم على أن يضع بالعمل وعده بالدخول في أحدى الرهبنات. ولهذا قد باع كل ما كان له، ولكنه عوضاً عن أن يوزع أثمانه على الفقراء والمحتاجين، قد جذبته ملكاته الرديئة السابقة الى السقوط من جديد في القبائح، حيث أصرف أثمان أملاكه في البذخ والسكر والمآثم. وبعد ذلك أنطرح مريضاً. فشاهد في الحلم رؤيا أخرى وهي أنه نظر أمامه الجحيم مفتوحاً. والديان الإلهي كان يبرز ضده حكومة الهلاك، فألتجأ هو من جديد الى العذراء أم الرحمة وهي تقدمت أمام أبنها وبتوسلاتها لديه من أجله قد خلصته، فنهض من المرض معافى، ولكن عوضاً عن أن يتوب رجع الى أفتعال قبائح أشد شناعةً. ثم أنطلق الى مدينة ليما في بلاد الهند الشرقي حيث سقط في مرضه عينه، وأخذ الى البيمارستان. وهناك قد مس الله قلبه جديداً للتوبة، فأعترف بخطاياه عند الأب فرنسيس بارلينوس اليسوعي، واعداً إياه بأن يغير سيرته. الا أنه ولا في هذه المرة أيضاً أكمل وعده بالعمل. فأخيراً اذ دخل فيما بعد هذا الأب الى بيمارستان آخر بعيدٍ عن "ليما"، قد رأى هناك ذاك الشاب التعيس مطروحاً في الأرض، فالشاب حينما شاهده عج صارخاً:" أواه يا لتعاستي أنا المقطوع الرجاء أن هذا الأب قد حضر الى ههنا لأزدياد عذابي، ولكي يشاهد الأنتقام مني، فأنا قد جئت من مدينة ليما الى هذا المكان، الذي فيه لأجل خطاياي قد بلغت الى هذه الحال الشقية بالعذبات، وهوذا أنا ماضٍ الى الهلاك". واذ كان يتفوه بهذه الكلمات أسلم روحه الأثيمة، من دون أن يحصل ذاك الأب على دقيقةٍ من الزمان ليساعده قبل موته.* الخبر 15: أنه يوجد محرراً تحت سنة 1618 من التاريخ المريمي، عن إنسانٍ مجرمٍ كان حكم عليه في بلاد جرمانيا بالموت، الا أن هذا المخصوم قد صر على عناده بعدم أرادته أن يعترف بخطاياه، قبل أن تجرى عليه بالعمل حكومة الموت. فأحد الآباء اليسوعيين لم يترك من جهده جهداً في أقناعه بالأعتراف، حتى أنه كان يتململ على قدميه باكياً بتوسلاتٍ حارة، ولكن من دون فائدةٍ. فاذ رأى أنه بذلك يضيع الزمن سداً لأصرار المذنب على رفضه التوبة. فأخيراً قال له: أرجوك اذاً بأن تتلو معي مرةً واحدةً:" السلام لكِ يا مريم". فالخاطئ قبل توسله وتلى معه السلام الملائكي. واذا به على الفور طفق يبكي بشهيقٍ، وحالاً أعترف بمآثمه نادماً بأنسحاقٍ قلبي عظيم. وأراد أن يموت معانقاً أيقونة والدة الإله المقدسة كما تم.* الخبر 16:قد أخبر الأب أورياما في الرأس 7 من المجلد الأول بأنه كان في إحدى مدن بلاد أسبانيا إنسانٌ أثيمٌ منافقٌ، قد كان أسلم ذاته بجملتها للشيطان، ولم يكن قط أعترف بخطاياه، بل جميع الخير الذي كان هو يصنعه لم يكن شيئاً آخر سوى تلاوته كل يومٍ مرةً واحدةً السلام الملائكي، تكريماً لوالدة الإله. فيخبر الأب أوسابيوس نيارامبارك: بأنه حينما دنا الإنسان المومى إليه من ساعة الموت، قد ظهرت له في الحلم العذراء المجيدة، وحدقت فيه نظرها، فهذه الرمقة بعيني أم الرحمة المملؤتين رأفةً، قد فعلت في قلبه تغييراً عجيباً بنوع أنه حالاً طلب أحد الكهنة ليعترف بمآثمه، واذ جاء الكاهن فهو أقر لديه بخطاياه كلها بندامةٍ شديدةٍ، مذرفاً من عينيه تياراتٍ من الدموع. ونذر على ذاته الدخول في أحدى الرهبنات أن بقي هو في الحياة وهكذا مات.* الخبر 17: قد كتب بوفيوس في الخبر السابع من المجلد الخامس من تأليفه، عن إحدى النساء المتعبدات لمريم البتول. بأنها كانت دائماً تأمر أبنتها بتلاوة السلام الملائكي، لا سيما في حصولها تحت خطرٍ ما. فأتفق أن هذه الأبنة يوماً ما اذ خرجت من مكان الرقص، وأتكأت لتستريح، فحالاً أستحوذ عليه الشيطان الذي ظهر لها بنوع حسي منظور، وشرع يقيدها بالسلاسل ليأخذها الى جهنم، الا أنها في حال شدتها هذه القصوى صلت السلام الملائكي، فالشيطان غاب عنها هارباً. وهكذا نجت هي منه.* الخبر 18:أن العلامة كيساريوس في الرأس 33 من الكتاب 3 قد أخبر عن أمرأةٍ من أقليم كولونيا، كانت معاشرةً أحد القسس عشرةً رديئةً. يوماً ما دخلت الى مخدعه فرأته معلقاً مشنوقاً، فبعد ذلك هي تركت العالم ودخلت الى أحد أديرة الراهبات. الا أن الشيطان كان يظهر لها حسياً ويعذبها، واذ لم تعد تعلم ماذا تصنع لتنجو منه، فإحدى الراهبات علمتها أن تقول: السلام لكِ يا مريم: ولما هي صلت بهذا السلام الملائكي، فالشيطان هتف صارخاً: فلتكن ملعونةً التي علمتكِ أن تقولي هذه الصلاة. وهكذا أضمحل من أمامها ولم يعد يظهر لها فيما بعد.* الخبر 19: قد كتب الأب كراسات، بأنه اذ كان أحد قواد العساكر عائشاً بسيرةٍ رديةٍ في قلعته. قد مضى الى هناك بطريق الصدفة أحد الرهبان الأتقياء الذي قد ألهم من الله متنوراً فتوسل الى ذلك القائد بأن يستدعي إليه خدامه كلهم، فحضروا جميعاً الى المكان الجالس فيه هو والقائد، ما عدا ذاك المتوكل على خدمة مخدعه لم يكن يشاء الحضور، الا أنه أضطر من قبل أمر القائد فجاء أخيراً أغتصاباً. فحينئذٍ ذاك الراهب قال لهذا الوكيل: أني آمرك من قبل يسوع المسيح بأن تقول عن نفسك من أنت: فأجابه قائلاً: أني أنا هو أحد شياطين جهنم، الذي منذ أربع عشرة سنةً أخدم هذا القائد الأثيم، منتظراً إياه لأن يترك يوماً ما تلاوة السبع مرات: السلام لكِ يا مريم: الذي هو أعتاد أن يصلي بها يومياً، لكي أخنقه في ذاك اليوم الذي فيه يهمل تلاوتها، وآخذ نفسه الى الجحيم. فالراهب حتم على الشيطان بأن يغرب من ذاك المكان، فغاب حالاً من أمامهم. وحينئذٍ القائد ممتلئاً خوفاً جثا على قدمي الراهب نادماً على حطاياه، ثم غير سيرته وعاش عيشةً مسيحيةً مملؤةً من الفضيلة.* الخبر 20:أن الآباء العلماء اليسوعيين مؤلفي مجموع البولانديستي الجليل يخبرون تحت اليوم الثالث عشر من شهر أيار، عن الطوباوي فرنسيس باطريتسي. بأنه بهذا المقدار كان جزيل التعبد نحو السلام الملائكي، حتى أنه كان يتلوه في كل يومٍ خمسماية مرةً. فوالدة الإله من ثم قد أعلمته عن ساعة موته، وهكذا رقد بالرب قديساً. وبعد أربعين سنةً قد شوهدت صاعدةً من فمه نصبة زهر زنبقٍ جميلة في الغاية (التي فيما بعد نقلت الى مملكة فرنسا) وكان مكتوباً على أوراق هذه النصبة *السرم الملائكي، بأحرفٍ من ماء الذهب.* الخبر22:أنه يوجد مسطراً في الخبر السابع من المجلد الأول من التأليف الملقب: بكنز الوردية: عن ثلاث عذارى أخواتٍ متعبداتٍ لوالدة الإله، قد تلين بمشورة معلم أعترافهن مسبحة الوردية كلها يومياً، في مدة أربعين يوماً، استعداداً لعيد تطهير العذراء أي تقدمة المسيح الى الهيكل. فليلة العيد المذكور ظهرت هذه الأم الإلهية للأخت الأولى من الثلاث الأخوات لابسةً ثوباً ثميناً منسوجاً بالذهب، شاكرةً فضيلتها ومباركةً إياها. ثم ظهرت للأخت الثانية لابسةً ثوباً بسيطاً، وكذلك شكرت عبادتها. الا أن هذه الأخت قالت لها: أيتها السيدة أنكِ ظهرتِ لأختي لابسةً ثوباً أثمن من هذا: فأجابتها البتول المجيدة قائلةً:" لأن أختكِ ألبستني أثواباً غنيةً أكثر منكِ". ثم بعد ذلك ظهرت هي للأخت الثالثة لابسةً ثوباً من خيش، فمن ثم هذه الأخت ألتمست من العذراء الصفح والغفران عن كونها خدمتها بفتورٍ. ففي السنة الثانية قد أستعدت الثلاث العذارى أستعداداً حسناً لهذا العيد، بتلاوتهن الوردية كالسنة السابقة، لكن بكل حرارةٍ وعبادةٍ. ففي الليلة المتقدمة على العيد ظهرت لهن هذه السيدة المجيدة مزينةً بأثوابٍ ملوكية مبهرة النظر، وقالت لهن:" تحضرن متأهباتٍ لأنكن نهار غداً مزمعاتٌ أن تأتين الى الفردوس السماوي". فقد تم القول فعلاً، لأنهن أخبرن بذلك معلم أعترافهن. وفي اليوم الثاني الذي هو نهار العيد تناولن القربان الأقدس في الكنيسة، ورجعن الى البيت حيث مكثن الى حين صلاة النوم، واذا بوالدة الإله ظهرت لهن جديداً، اذ جاءت لتأخذهن. وهكذا فيما بين تراتيل الملائكة الواحدة بعد الأخرى قد تنحين بسلام.* الخبر 23: أن الأب كراسات يخبر بأنه سمع هو شفاهاً من أحد قواد العساكر ما يأتي ذكره. وهو أن هذا القائد قد شاهد أحد الجنود في معركة الحرب التي حدثت مع عسكر العدو، ضابطاً في يده أكليلاً مع ثوب السيدة، وكان يطلب معلم أعترافٍ. لأنه كان ضرب في المعركة برصاصٍ دخل في جبهته وخرج من قفا جمجمته، حيث كان يخرج من الجرح نخاع رأسه. وبالتالي لم يكن ممكناً له أن يحيى وهو في تلك الحال. فمن ثم جاء إليه خوري العسكر فأقتبل أعترافه الذي هو صنعه بأنتباهٍ كاملٍ وندامةٍ قلبيةٍ، وبعد أن نال الحل قد أسلم روحه بكل هدوٍ وسلام.* الخبر 24: قد أخبر الأب كراسات نفسه عما سمعه من القائد المشار إليه آنفاً، بأنه أي القائد قد كان حاضراً يوماً ما فيما بين العسكر، واذا بأحدهم أعطى النار لبندقيته ضد الضارب بالبوق، فالرصاص دخل في أثوابه نافذاً الى صدره، فالقائد حالاً مضى إليه لينظر كيف كان جرحه القتال، فعندما خلع عنه اثوابه قد رأى الرصاص باقياً فوق ثوب السيدة، الذي كان البواق حاملاً إياه معلقاً في عنقه، بنوع أن الرصاص ليس فقط لم يدخل في قلب البواق بل ولا حرق ثوب السيدة أم لمسه بشيء، لكنه بقي ثابتاً فوقه، فحينئذٍ القائد رفع الرصاصوثوب السيدة معاً وأراهما لجميع الحاضرين الذين أضحوا شهوداً عيانيين على هذا العجب.* الخبر 25: قد كتب في الخبر السادس من المجلد الخامس عما هو مدون تحت سنة 1151 عن شاب شريف النسب أسمه أسكيلوس، قد كان أرسل من أبيه الأمير الى أيدالازميو، المدينة الكائنة في بلاد ساسونيا ليدرس هناك العلوم، الا أن هذا الشاب قد أستسار في تلك المدينة سيرةً رديئة. ثم بعد ذلك أنطرح مريضاً بمرضٍ عضال دنا به الى ابواب الموت، حييث أُعطيت له الأسرار الأخيرة، وبقي منازعاً. ففي هذه الحال قد حصل هو على رؤيا، وهي أنه شاهد ذاته أُخذ موضع داخل أتون نار متوقدة، وغُلق عليه بنوع أنه ظن بنفسه أنه داخل جهنم عينها. الا أنه قد رأى له نافذةً فهرب منها الى خارج ذلك التون، ودخل ملتجأً في قصرٍ عظيم، فشاهد في قاعته والدة الإله الكلية القداسة جالسةً، فقالت له:" أهل يمكنك أيها الشقي أن تتجاسر على الحضور أمامي، أخرج من هنا حالاً. وأذهب الى النار التي أنت أستحقيتها بآثامك". فحينئذٍ الشاب شرع يتوسل إليها طالباً الرحمة والرأفة، ثم التفت الى أولئك الأشخاص الذين رآهم واقفين بحضرتها، متضرعاً إليهم في أن يتشفعوا به لديها، فهم قدموا التوسل أمامها من أجله وهي أجابتهم قائلةً لهم: أنتم لا تعرفون حقائق سيرة هذا الشاب الدنسة القبيحة. ومع ذلك لم يكن يستليق أن يصلي أمامي ولا مرةً واحدةً السلام الملائكي: فأولئك الشفعاء قالوا لها: أيتها السيدة أن هذا الشاب يتوب ويغير تصرفه: وهو حالاً قال: أي نعم أي نعم أني تائبٌ، وأعد بأن أصلح سيرتي حقيقةً، وسأكون منذ الآن فصاعداً متعبداً لكِ يا سيدتي. فحينئذٍ البتول المجيدة قد أرقت من غيظها عليه، وقالت له:" حسناً. فأنا أقبل وعدك، فكن أميناً به، وهكذا بواسطة بركتي إياك كن ناجياً من الموت ومعتوقاً من جهنم". فلما قالت هذا زالت الرؤيا، فاذ رجع أسكيلوس الى ذاته أخذ يقدم الشكر لوالدة الإله، وأخبر الناس بالنعمة التي نالها من مراحم هذه الأم الإلهية، وعاش بسيرةٍ مملؤةٍ من الصلاح حافظاً نحو سيدته عواطف حبٍ متقدٍ. ثم أنتخب فيما بعد ورسم رئيس أساقفةٍ لمدينة لود، في أقليم دانيا حيث أجتذب عدداً وافراً من الكفرة الى الأعتقاد بالإيمان المسيحي. وعندما تقدم كثيراً في السنين والشيخوخة قد تناول عن الأبرشية. ولبس الثوب الرهباني قانونياً في دير كيارافاله الذي فيه عاش أربع سنين، ورقد بالرب بميتةٍ مقدسةٍ ومن ثم قد أحصي من الكتبة الكنائسيين في عدد قديسي رهبنة جيستالو.* الخبر 26:أنه يوجد مدوناً في الرأس 6 من المجلد 2 عند الأب أورياما. عن أحد المشتركين بأخوية العذراء أنه قد كان مريضاً في مدينة دولا سنة 1604 مرضاً ثقيلاً جداً، فهذا يوماً ما قال هكذا: أهاً لي أن أخوتي الآن في هذا العيد هم ملتئمون في الخورص ليسبحوا مريم البتول، وأنا أبقى ههنا: قال هذا ونهض قائماً ومضى الى جمعية الأخوية وحالاً تركته الحمى وشفي معافى بالتمام كأنه لم يكن مريضاً. الأمر الذي أذهل الجميع.* الخبر 27: قد سطر عند الأب أورياما نفسه، عن رجلٍ آخر من أخوية العذراء كان صياداً في مدينة نابولي. فهذا الرجل أنه قد كان في أحدى رياضات الأخوية جلد ذاته مع الآخرين بشدةٍ فقد أضيم في جسده، وأنطرح مريضاً مدة أيامٍ ليست بقليلةٍ، فحالما أمكنه أن يقوم من المرض ناهضاً، فلأجل كونه فقيراً وذا عيلةٍ كبيرة قد أغتصب ذاته وأخذ الشبكة ومضى الى الشط ليصطاد، حيث خاطب والدة الإله قائلاً: أيتها السيدة أنني بسببكِ قد تكبدت أنا هذا الضرر فعينيني: أما هذه الأم الرأوفة فقد جعلته حينئذٍ أن يصطاد بسهولةٍ من الأسماك في ذاك النهار بأكثر مما لكان أخذه في مدة كل تلك الأيام السابقة التي هو بقي فيها مريضاً.* الخبر 28:قد كتب الأب أورياما عينه عن رجلٍ آخر من أخوية البتول الكلية القداسة، أنه قد دعي يوماً ما من أحد أصدقائه ليتغدى عنده. فهو أقتبل الدعوة ووعد بالذهاب الى الضيافة ولكنه أراد قبلاً أن يمضي الى جمعية الأخوية، ففي خروجه منها بعد الرياضة الروحية قد برح من فكره الوعد الذي أعطاه لصديقه ولم يذهب إليه، فالرجل الصديق الأحمق أحتمى غيظاً منه بهذا المقدار، حتى أنه مضى إليه في شدة رجزه، واذ رآه وثب عليه ليقتله. ولكنه بأحكام الله الغامضة قد قتل ذاته وأنطرح ميتاً. فبلغ الخبر للقاضي وجاءت خدام الشريعة فقبضوا على الأخ المومى إليه كأنه هو القاتل. ومن ثم أُبرزت ضده حكومة الموت. أما هو فألتجأ الى والدة الإله بأن تسعفه، وهي ألهمته بأنه أنطلق برفقة خدام الشريعة الى أمام جثة المقتول وسأله قائلاً: أخبر بالحق كيف تم موتك، ومن هو الذي قتلك: فالميت أجاب علانيةً معترفاً بأنه هو نفسه قتل ذاته، وعلى هذه الصورة نجا الأخ معتوقاً من الحكومة.* الخبر 29: أنه يوجد مدوناً في كتاب تاريخ الأخويات تحت سنة 1598 عن رجلٍ آخر من أخوية العذراء كان أخذ ليطرح في السجن، لأجل عدم مقدرته أن يفي لأصحاب الديون ما كان لهم عليه. فأستغاث هو بوالدة الإله، وهي ألهمت الستة الأشخاص الذين كان لهم عليه المال، بأنهم جميعاً قد تركوا له الدين مجاناً. وهكذا أعفى هو من الذهاب الى السجن وخلص ناجياً.* https://upload.chjoy.com/uploads/166049412537213.jpg الخبر 30: قد أخبر لاوناروس في الرأس 3 من كتابه 3 عن أحد الشبان أنه كان في الأبتداء يتردد الى اخوية البتول المجيدة المشترك هو فيها ولكنه فيما بعد قد أهمل الذهاب إليها مطلقاً. وأفسد سيرته بمآثم شنيعة. فليلةً ما ظهر له الشيطان بصورةٍ مرعبةٍ جداً، أما هو فقد أستغاث بوالدة الإله، غير أن العدو الجهنمي أجابه قائلاً: أنك من دون فائدةٍ تستغيث الأن بتلك التي أنت تركتها معرضاً عنها، وأنت الأن لأجل خطاياك تحت ولايتي وخاصتي، فالشاب أبتدأ يرتجف خوفاً. وجثا على ركبتيه، وأخذ يتلو صورة أشتراكه بالأخوية قائلاً: أيتها البتول الكلية القداسة والدة الإله ألخ: واذا بهذه السيدة المجيدة قد ظهرت له. وفي الحال هرب الشيطان من أمامها تاركاً في المكان رائحة منتنة جداً، وفي هربه قد فتح الحائط نافذاً منه، وترك بعده الثغرة مفوحةً، فالعذراء الرأوفة قد ألتفتت نحو الشاب قائلةً له: أنك لم تكن بالحقيقة مستحقاً أن أسعفك معينةً إياك، ولكنني أنا أردت أن أعاملك بالرحمة، لكي تغير سيرتك وترجع الى جمعية الأخوية. فالشاب حالما بلغ الى الصباح قد مضى فأعترف بخطاياه بدموعٍ سخية. ورجع عن مآثمه. وأصلح سيرته، وشرع يتردد الى الأخوية بأشد حرارةٍ وبأكثر عبادةٍ ونشاطٍ من المدة القديمة.* الخبر 31:أنه حدث في سنة 1550 أنه كان في مدينة براغانتسا شابٌ من ذوي أخوية العذراء الذي اذ ترك هذه العبادة فتمرغ في كل نوع من حماة الرذائل، حتى أنه ليأسه من ذاته وحاله السيئة مضى يوماً ما ليطرح بنفسه في النهر فيموت، غير أنه قبل أن يرمي ذاته أتجه نحو والدة الإله قائلاً: عينيني يا مريم أنا الذي خدمتكِ في الأخوية. فظهرت له هذه البتول الكلية القداسة وقالت له: ماذا تريد أن تصنع الآن أتشاء أن تخسر نفسك وجسدك معاً، فأنطلق من هنا وأعترف بخطاياك وأرجع الى أخويتي: فالشاب من ثم حالاً رجع الى الله بالتوبة وأصلح سيرته شاكراً أنعام هذه السيدة.* الخبر 32:قال الأب أورياما في الرأس 7 من المجلد 2 مخبراً بأن أحد الرهبان في بلاد أسبانيا، لحنقه ورجزه ضد رئيسه قد وثب عليه بحماقةٍ فقتله، وهرب الى بلاد بربريا، وهناك نكر الإيمان بالمسيح، وتزوج بأمرأةٍ. وأستسار بسيرةٍ مملؤة من المآثم، خاليةً من كل صلاحٍ. الا أنه حفظ تلاوته يومياً الصلاة المبدوة: السلام عليكِ أيتها الملكة أم الرحمة: ففي أحد الأيام اذ كان هو منفرداً عن الناس مصلياً الصلاة المذكورة، قد ظهرت له والدة الإله، فوبخته مؤنبةً، ثم حرضته مشجعةً على تغيير سيرته موعدة إياه بالمعونة، فحينئذٍ رجع هو الى بيته، ولما رأته أمرأته كائباً محزوناً قد سألته عن السبب، وهو أخبرها بأحواله مفصلاً، وبالرؤيا التي شاهدها، باكياً بدموعٍ غزيرةٍ على شقاوته، فهذه الأمرأة قد أشفقت عليه متوجعةً، وأعطته جانباً من الماال لمصروفه في رجوعه الى أسبانيا، كما أنها أرتضت معه بأن يأخذ صحبته أحد بنيه الذين أتلدوا له منها. فرجع اذاً الى ديره، ولأجل توسلاته ودموع عينيه السخية، قد قبلته من جديد رهبان جمعيته جملةً مع أبنه، حيث عاش بتوبةٍ شاقة ثابتاً على عمل البر وأخيراً مات برائحة القداسة.* الخبر 33:قد أخبر الأب أورياما عينه في المكان السابق ذكره عن أحد الشبان الدارسين الذي أرتشد من معلمه بأن يسلم على العذراء المجيدة بهذه الكلمات وهي: السلام عليكِ من الله يا مريم أم الرحمة: فاذ مارس ذلك مدة حياته، ودنا أخيراً من ساعة الموت، قد ظهرت له والدة الإله قائلةً: اما تعرفني أنا يا أبني العزير فأنا هي أم الرحمة تلك التي أنت سلمت عليها مراتٍ كثيرةً بهذه الكلمات: فحينئذٍ ذاك العابد مد يديه مهماً على أن ينهض فيتبعها. وفي الحال أسلم روحه بهدوٍ وسلام راقداً بالرب.* الخبر 34:لقد سطر عن أحد الخطأة أنه كان عائشاً في المآثم من دون عمل صلاحٍ ما سوى تلاوته اليومية الصلاة المبدوة: تحت ذيل حمايتكِ نلتجئ يا والدة الله القديسة: فيوماً ما قد فاز هذا الخاطئ بأنوارٍ سماوية من قبل والدة الإله لمعرفة حاله الشقية، وللرجوع الى الله بالتوبة. حتى أنه ترك العالم وصار راهباً، حيث عاش بحفظ القانون مدة خمسين سنةً، بسيرةٍ مملؤة من القداسة. قد أعقبتها ميتةٌ صالحةٌ حيث أضحى نموذجاً حياً للرهبان بفضائل حياته وبصلاح موته.* الخبر 35: قد كتب العلامة باري عن رجلٍ أراتيكي كان في مدينة طورين مصراً على ضلاله. فهذا سنة 1610 مرض مرض الموت، ولذلك قد جاء إليه كثيرون من الكهنة الغيورين، وأبذلوا نحوه كل أجتهادهم في أجتذابه الى الإيمان الكاثوليكي المقدس. ولكن من دون فائدة، لأن أتعابهم معه ذهبت سدىً لأصراره الشيطاني على ضلاله. فأخيراً أحد هؤلاء الكهنة توسل إليه بدموعٍ في أن ترتضي قلما يكون بأن يقول هذه الكلمات وهي: يا أم يسوع عينيني: فالأراتيكي قبل توسله وقال هذه الكلمات، الا أنه حالما تلفظ بها، فعلى الفور كإنسانٍ أستيقظ من رقاده هتف صارخاً: أنا أريد أن أموت كاثوليكياً: كما تم بالحقيقة، وهو أنه أقر بحقائق الإيمان، وأقتبل الحل من الأرتقة ومن خطاياه، وبعد ساعتين مات.* الخبر 36:أنه يوجد مدوناً تحت اليوم الثامن عشر من شهر أيلول في المينولوجيون، عن إنسانٍ آخر كان غير مؤمن في بلاد الهند. فهذا اذ بلغ الى ساعة موته، ودنا من أنفاسه الأخيرة حيث تركه الجميع. فلسماعه في مدة حياته من المسيحيين المدائح عن مريم العذراء وعن أقتدارها العظيم، أخذ بالألتجاء إليها مستغيثاً بأسمها، ففي الحال ظهرت له هذه السيدة الرؤوفة وقالت له: هوذا أنا التي أنت تستغيث بي قد حضرت لمعونتك، فقم وصر مسيحياً: فعند سماعه هذه الكلمات، نهض حالاً صحيحاً معافى من مرضه. فآمن بالمسيح وأصطبغ. كما أن كثيرين من الغير المؤمنين عند مشاهدتهم هذه الأعجوبة قد صاروا مسيحيين.* الخبر 37:قد سطر عن إنسانٍ كان في مدينة مادريد، كلي التعبد لمريم البتول، خاصةً نحو أحدى أيقوناتها المقدسة التي كانت تسمى: الأيقونة الأنطاكية: فهذا الرجل قد أقترن بالزواج الناموسي سنة 1610 مع أبنةٍ، الا أنه بعد زواجه لم يكن يجد مع هذه الأمرأة راحةً قط، لأجل غيرتها وشكوكها في أنه كان يحب غيرها من النساء، فقد كان من عادة هذا المتعبد لمريم أن يمضي في كل يوم سبتٍ خلسةً، الى زيارة الأيقونة المار ذكرها حافياً. غير أن أمرأته كانت تظن به أنه في ذهابه هكذا باكراً كان يمضي عند بعض النساء ولذلك كانت تفتري عليه بالشتائم والأهانات. الأمر الذي اذ صنعته هي بزيادةٍ، فهو من شدة غمه وغيظه وقلة صبره من هذا الأفتراء أخذ حبلةً وربطها في عنقه فشنق نفسه داخل البيت بعد أن غلق الباب، الا أنه وهو في آخر أنفاسه قد أستغاث بوالدة الإله بأن تأتي لمعونته. واذا بهذه السيدة قد ظهرت له بشكلٍ فائق في البهاء والجمال، ودنت منه فقطعت الحبل وخلصته، في الوقت الذي فيه كان الناس ملتئمين خارج الباب، ومشاهدين الحادث من الشباك من دون مقدرتهم على الدخول الى البيت. فحينئذٍ هو فتح الباب وأخبرهم بالحادث، ومنذ ذاك الوقت قد غيرت أمرأته سلوكها معه تائبةً عن أفترائها عليه، وعاشا معاً بسلام وحبٍ مستحرين في عبادتهما نحو هذه السيدة الكلية القداسة.* الخبر 38: قال الأب أورياما أنه حدث في سنة 1613 أنه كان إنسانٌ في مدينة فلانصا قد تورط في فعل خطيئةٍ قبيحةٍ. وجعله الحياء أن يخفي إيرادها فيما بعد كل مرةٍ كان يعترف، وبالتالي أضحى منافقاً بالأسرار في كل تلك المدة. الا أنه اذ لم يعد يمكنه أحتمال توبيخ ضميره قد أنطلق في أحد الأيام لزيارة أيقونة والدة الإله الملقبة بها له، لكي يتوسل إليها فيأن تساعده. فلما بلغ الى باب الكنيسة، وأراد الدخول إليها، قد شعر بقوةٍ غير منظورةٍ كانت تدفعه الى الوراء، مانعةً إياه عن الدخول، فحينئذٍ هو عزم عزماً ثابتاً على أن يعترف بتلك الخطيئة. وبعد هذا العزم تقدم الى باب الكنيسة فلم يجد مانعاً، بل دخل إليها بسهولةٍ. ومن ثم أعترف أعترافاً عاماً بخطاياه كلها. وهكذا رجع الى بيته مملؤاً من السرور والتعزية.* الخبر 39: أنه يوجد مدوناً في تاريخ الرهبنة الجيستارجيازية. عن الطوباوي آدم أحد آباء هذه الرهبنة، أنه اذ مضى يوماً ما ليزور مريم البتول في إحدى كنائسها، ورأى أبواب تلك الكنيسة مغلقةً، فجثا أمام الباب مصلياً مسلماً على هذه الأم الإلهية. ولكن حالما ركع هناك واذا بأبواب الكنيسة قد أنفتحت من ذاتها. فدخل إليها البار وشاهد والدة افله مشعشعةً بأنوارٍ سماوية لا يمكن التحدق بها، قائلةً له: يا آدم هلم الى ههنا، أتراك تعرفني من أنا: فأجاب الطوباوي: كلا، يا سيدتي فمن أنتِ: فقالت له: أنا هي والدة الإله. فأعلم أني لأجل العبودية والخدمة التي أنت تقدمها لي، فأنا سأهتم بك دائماً: قالت هذا ووضعت يدها على هامة البار فأشفته من الوجع الذي منذ أزمنةٍ مديدةٍ كان يتكبده في رأسه بألمٍ شديدٍ.* الخبر 40: قد سطر في الرأس 73 من الكتاب 5 من تاريخ الرهبان الأصاغر، عن أمرأةٍ كانت حسنة العبادة لوالدة الإله. فهذه يوماً ما ذهبت من دون أن يعرف رجلها، لكي تزور إحدى كنائس العذراء المجيدة البعيدة عن مكان سكناها، ومن حيث أنه حدثت في ذلك النهار أمطاراً غزيرة، وعواصف شديدة، فلم تعد هذه الأمرأة تقدر أن ترجع الى بيتها، بل أضطرت لأن تبيت خارجاً. لكنها قد أستوعبت غماً وخوفاً من أن رجلها كان مزمعاً بدون ريبٍ أن يظهر غيظه ضدها. فمن ثم ألتجأت الى البتول القديسة في أن تسعفها. ففي اليوم التالي قد رجعت الى بيتها، وشاهدت رجلها مملؤاً من العذوبة والرواقة، ولم يقل لها كلمةً ما البتة عن غيابها. فأخذت هي تستفحص وتستدل، فعرفت يقيناً أن العذراء المجيدة قد جاءت في اليوم السابق الى البيت بصورة تلك الأمرأة، وصنعت جميع لوازم خدمة البيت بكل نشاطٍ، بنوع أن الرجل لم يدر أن أمرأته بقيت خارجاً،، فحينئذٍ هي أخبرت رجلها بالحادث، ومعاً أزدادا حرارةً في عبادة هذه الأم الرأوفة. التي شرفت منزلهما كخادمةٍ في كل تلك الليلة.* الخبر 41: قد كتب العلامة لاباوس في المجلد الأول من تاريخه السنوي عن مدينة ضؤول. أنه كان في هذه المدينة (الكائنة في بلاد فرنسا) رجلٌ شريفٌ أسمه أنسالدوس متقدم في الوظائف العسكرية. فهذا الرجل اذ كان يوماً ما في معركة الحرب قد شق بسهمٍ دخل في حنكه بقوةٍ، بنوع أن الجراحين لم يقدروا أن يجدوا طريقةً بها يخرجون حديد السهم المكسور من حنكه، بدون قطع لحمانه. فأستمر هذا المسكين مدة أربع سنواتٍ يتكبد الأوجاع، ولكنه أخيراً اذ لم يعد يحتمل الآلام، وحصل في حال العدم من قبل المرض أيضاً، فأرتأى حينئذٍ الجراحون أن يفتحوا لحمان حنكه. ويخرجوا الحديد. الا أنه قبل ممارسة ذلك قد ألتجأ هو الى والدة الإله، ونذر على ذاته أن يزور أيقونتها المقدسة المكرمة في ذلك المكان، مقدماً لها كل سنةٍ كمية من المال أن حصل على الشفاء فحالما صنع هذا النذر قد شعر بأن الحديد من ذاته خرج من حنكه، وبقي في فمه. وهكذا أخرجه من دون وجعٍ بالكلية، ففي اليوم التالي أغتصب ذاته وهو في حال مرضه الشديد، وقام فذهب لزيارة تلك الأيقونة مقدماً النذر الذي صنعه. وحالما تمم ذلك فاز هناك بالشفاء من مرضة أيضاً، ورجع الى بيته صحيحاً معافى.* الخبر 42: قد سطر عن رجلٍ في بلاد أسبانيا كان معاشراً واحدة من النساء قريباته عشرةً دنسةً. فيوماً ما اذ كانت هناك إحدى البتولات المتعبدات لمريم تصلي، قد رأت مخلصنا يسوع المسيح في منبر عدله، مهماً على أن يرسل ذاك الشاب المفسود الى جهنم. الا أن والدته الكلية القداسة اذ قالت له أن الشاب كان وقتاً ما متعبداً لها، فأستمدت له منه تعالى مهلةً ثلاثين يوماً لأصلاح سيرته تائباً. فمن ثم تلك الأبنة قد أُمِرت من والدة الإله نفسها، بأن تخبر بهذا جميعه معلم أعترافها، الذي اذ فهم الرؤيا قد أعلنها لذاك الشاب، الذي عند سماعه ذلك قد ندم على مآثمه وأعترف بها بدموعٍ سخية، موعداً بعدم سقوطه من جديد بالخطيئة مع تلك الأمرأة، ولكن لأنه لم يقطع السبب القريب من بيته، قد رجع نظير الكلب الى قيه، فبعد سقوطه جاء من جديد وأعترف بمآثمه مكرراً وعده السابق، غير أنه قد رجع أيضاً الى الخطيئة، فمعلم أعترافه اذ لم يعد يراه، مضى إليه ليزوره في بيته، الا أن الشاب التعيس قد أصرفه من عنده ليس من دون غيظٍ، فلما بلغ اليوم الأخير من الثلاثين يوماً، قد رجع الكاهن الى بيت الشاب. ولكن من دون فائدةٍ، لأن الأثم أعمى قلب هذا الشقي. فالكاهن حينئذٍ توسل الى خدام البيت بأن يخبروه فيما يحدث. وأنه كان مستعداً للحضور متى دعوه، فما أنتصف الليل التابع ذاك اليوم، الا والشاب حصل في أوجاعٍ باطنة شديدة في الغاية. فالخدام أسرعوا وأخبروا معلم الأعتراف، الذي جاء وشكاً إليه لكي يساعده، ولكن المنكود الحظ صرخ صوتاً عظيماً قائلاً: أواه أنا أموت مطعوناً بحربةٍ في قلبي: وهكذا خرجت نفسه مع ذاك الصراخ.* الخبر 43: قد أورد الأب روهوس بأنه كان في مدينة مديولان شابٌ أسمه مازاكيوس، متولعاً في لعب الورق بهذا المقدار، حتى أنه يوماً ما قد لعب على أثوابه التي كان يلبسها، ولأجل الخسارة التي ألمت به قام برجزٍ نفاقي كمقطوع الرجاء، وضرب بالسكين أيقونة والدة الإله، الا أنه قد خرج من جرح الأيقونة دم نظير الفصادة، فغسل وجه مازاكيوس الذي حينئذٍ أستوعب خوفاً وخشوعاً معاً، وطفق يبكي تائباً. وهكذا قدم الشكر لهذه الأم الرأوفة على كونها أستمدت له زمناً لصنيع التوبة. ثم خرج من العالم ودخل في الرهبنة الجيستارجيازية، حيث أستمر مدة أربعين سنةً يعيش بالقداسة والفضائل، حتى أنه حصل على موهبة النبؤة. وهكذا مات موت الأبرار الذي هو كريمٌ لدى الرب.* الخبر44:أنه قد سطر عن أحد الخطأة المتفاقم شرهم جداً، أنه اذ رجع الى الله بالتوبة، قد أخذ يوماً ما يبكي بمرارةٍ أمام الصليب طالباً من فادينا علامة ظاهرة يؤكد له بها أنه تعالى غفر له خطاياه. ولكن بعد توسلاتٍ كثيرة ودموعٍ غزيرة اذ أنه لم يفز بعلامةٍ ما فأتجه نحو والدة الإله المحزونة بتضرعاتٍ متضعة في أن تلتمس له من ابنها هذه النعمة، فحينئذٍ شاهد في الرؤيا هذه الأم الإلهية متوسلةً لدى أبنها بقولها له: يا أبني هل أن دموع هذا التائب تمضي ضائعةً: وحينئذٍ سمع هو أن مخلصنا قال لها أنه غفر له، وهكذا عاش هو باقي زمن حياته بسيرةٍ مقدسة.* الخبر 45:أنه في أحد أعمال رسالات آباء جمعيتنا، قد جاء إنسانٌ شيخٌ مملؤٌ من السنين ليعترف عند أحد آباء هذه الرسالة، وهو الأب كيساريوس سبورتالي (الذي منذ زمن ليس بمستطيل قد رقد بالرب برائحة القداسة، وجسده بعد أشهرٍ عديدة من نياحه وجد غير فاسد) وكان مجيء هذا الإنسان الشيخ لطلب الأعتراف، بعد أستماعه عظتنا على سمو أقتدار شفاعة مريم البتول الكلية القداسة، العظة التي من عادتنا أن نصنعها دائماً في كل بلدةٍ ومكان نمارس فيه أعمال الرسالة. فلما تقدم الشيخ المومى إليه أمام منبر الأعتراف قال للأب كيساريوس: أن العذراء المجيدة يا أبتي قد صنعت معي عظائم نعمتها: فأجابه الأب المذكور:" هذه هي صنعتها الخصوصية". غير أن الشيخ أردف كلامه بقوله:" انك أنت أيها الأب لا تقدر أن تمنحني الحل عن مآثمي، لأني في مدة حياتي كلها قط ما أعترفت". وبالحقيقة كان الأمر كذلك، أي ولئن كان هذا الشيخ كاثوليكياً فلم يكن حتى ذاك الوقت أعترف قط. فالأب حينئذٍ أخذ يشجعه ويرشده، ثم عرفه أعترفاً كاملاً، ومنحه الحل بحسب الواجبات بتعزيةٍ لا توصف للجهتين للمعرف وللمعترف.* الخبر 46:أنه يوجد مدونا في سيرة حياة الطوباوي برنردوس طولوماى مؤسس جمعية الآباء المدعوين أوليفاتيين، أن هذا البار الذي منذ نعومة أظفاره كان حسن التعبد لوالدة الإله بحرارةٍ. قد صودف يوماً ما هو داخل مكان نسكه الكائن في أكونا في الجبل الملقب باوليفاتوس، موعباً غماً وحزناً من أن لا يكون هو من عدد المخلصين. ومن أن لا يكون لحد ذاك الوقت الباري تعالى غفر له خطاياه. فاذ هو في هذه الحال، قد ظهرت له البتول الكلية القداسة قائلةً له:" من أي شيءٍ أنت خائفٌ يا أبني، كن مسروراً فرحاً، لأن الله قد غفر لك كل مآثمك، وهو عز وجل راضٍ من نوع العيشة المتمسك أنت بها، فداوم مواظباً عليها، وأنا أعينك وهكذا أنت تخلص". فهذا الطوباوي ثبت دائماً يعيش بالبراءة والقداسة الى أن حصل أخيراً على ميتةٍ صالحةٍ سعيدة مسلماً نفسه بين يدي والدة الإله.* الخبر 47: أنه سطر عن أبنةٍ من بلاد جرمانيا قد كانت تورطت بفعل الدنس مع والدها نفسه، واذ ظهرت حبلى منه، هربت الى القفر ومكثت منفردةً عن الناس الى أن ولدت، فحينئذٍ ظهر لها الشيطان بصورة إنسانٍ راهبٍ، وأقنعها بأن ترمي الطفل الذي ولدته في بحيرة ماءٍ هناك. ولما تممت مشورته فعلاً، أخذ هو يرشدها الى ان تطرح هي أيضاً ذاتها في تلك البحيرة، فوقتئذٍ هتفت الأمرأة قائلةً: يا مريم عينيني. وفي الحال غاب عنها الشيطان مدبراً.* الخبر 48:أن أحد الجنود كان أتفق مع الشيطان، على أن يعطيه هذا الروح النجس كميةً من المال، تحت شرط أن يأخذ له أمرأته عينها الى أحد الأحراش، فتتميماً للأتفاق أخذ الجندي أمرأته منطلقاً بها نحو ذاك الحرش، واذ مرا في الطريق من على كنيسةٍ مختصةٍ بالدائمة بكارتها مريم، قد طلبت الأمرأة من رجلها بتوسلٍ أن يسمح لها بأن تزور العذراء في تلك الكنيسة، فسمح لها بذلك وجلس هو خارجاً ينتظرها، فاذ دخلت الأمرأة الكنيسة. قد خرجت بدلاً منها والدة الإله عينها متشكلةً بصورتها وملبوسها، ودنت من الجندي كأنها أمرأته، ثم ركبت الفرس وسارت معه، فلما وصلا الى الحرش، واذا بالشيطان لاقى الجندي قائلاً له: أيها الخائن الغشاش كيف أنك عوضاً من أمرأتك أتيتني بوالدة الإله التي هي عدوتي: فحينئذٍ أجابته العذراء بقولها: وكيف أنت تجاسرت على أن تقصد أن تضر من هي متعبدة لي، فأغرب هارباً الى جهنم: ثم ألتفتت نحو الجندي وقالت له: أمضِ فأصلح سيرتك تائباً وأنا أعينك: وهكذا غابت عنه، فعلى هذه الصورة رجع الرجل وغير عوائده الرديئة وعاش عيشةً مسيحيةً.* الخبر 49: أنه يوجد مدونا في المينولوجيون تحت اليوم الثامن من تموز هذا الخبر، وهو أنه كانت في بلاد الماسيكوس أمرأةٌ زانية التي اذ أنطرحت في مرضٍ عضال، فقد تابت عن خطاياها عازمةً على عدم الرجوع إليها، ونذرت بأن تقص شعر رأسها وتقدمه هديةً لوالدة الإله المجيدة، فشفيت من المرض وتممت نذرها، مقدمةً شعرها للعذراء في إحدى الكنائس التي كان يوجد فيها تمثال هذه السيدة مجسماً. فخادم الكنيسة أخذ الشعر ورتبه حسناً. وزين به رأس تمثال البتول. الا أن تلك الأمرأة الخاطئة لم تستمر مدةً مستطيلةً في توبتها، بل رجعت الى حالها الأولى القبيحة. ثم مرضت وماتت غير تائبة، فبعد ذلك خاطبت والدة الإله من ذلك التمثال الأب يوحنا ماريا سالفاتارا اليسوعي علانيةً بحضور جمعٍ غفير قائلةً له: أرفع عن رأس أيقونتي المجسمة الشعر الموضوع عليه، لأنه هو شعر نفسٍ فاجرة زانية هالكة في جهنم، لا يليق أن يوجد شعرها فوق رأس من هي أم العفة والطهارة. فالأب المذكور حالاً رفع بيده ذاك الشعر وطرحه في النار فأحترق.* الخبر 50: قد سطر أحد الهجريين السودان أسمه بدران. أنه قد كان في بلاد أسبانيا أستأسر عبيداً له كثيرين من المسيحيين. الذين اذ ألتجأوا الى والدة الإله بأن تنقذهم من تلك الحال السيئة في عبوديتهم لهذا الرجل البربري، فالبتول أم الرحمة ظهرت لذاك السركسي وقالت له: كيف أنت يا بدران تتجاسر على أن تحوي عندك أسارى وعبيداً، أولئك الذين هم خاصتي ومتعبدون لي، فطع اذاً، وأتركهم معتقاً إياهم أحراراً. فأجابها بدران بقوله: ومن هي أنتِ حتى أطيعكِ أنا: فقالت له: أنا هي والدة الإله. ومن حيث أن هؤلاء المسيحيين قد أستغاثوا بي، فأنا أريد أن تعطى لهم الحرية ليكونوا ناجين من الأسر: فبدران حينئذٍ قد شعر في ذاته بأنه تغير عما كان عليه، وبالحقيقة أنه قام فأطلق كل أولئك المسيحيين معتقاً إياهم، وبعد ذلك قدم ذاته للبتول الكلية القداسة التي هي نفسها أرشدته في عقائد الديانة وحقائق الإيمان، وعمدته في حوضٍ كبير قد تعمرت فيه بعد هذا الحادث كنيسةٌ مع ديرٍ من الرهبان تابعين قانون القديس بناديكتوس.* الخبر 51:قال أيدولفوس كيكتونيوس مخبراً عن أحد الكنائسيين القانونيين بأنه اذ كان يوماً ما يتلو مدائح مختصةً بالعذراء المجيدة وهو على حافة نهر سانا، فأتفق له أنه سقط في النهر المذكور فأختنق، ولأنه كان هو وقتئذٍ حاصلاً في حال خطيئةٍ مميتةٍ، فجاءت الشياطين ليأخذوا نفسه الى الجحيم، الا أنه حالاً ظهرت والدة الإله وقالت لهم: كيف تجسرون على أن تأخذوا نفس ذاك الذي مات حينما كان يتلو مدائحي: ثم ألتفتت نحو القانوني وقالت له: أنهض حياً وأصلح ذاتك وكن حسن العبادة نحو الحبل بي البريء من الدنس". فقام ذاك المائت حياً ودخل بعد ذلك في سيرة النسك راهباً، وعاش باقي زمن حياته الجديدة بأداء الشكر نحو المحسنة إليه، كارزاً بمدائح الحبل بها البريء من تبعة الخطيئة الأصلية، ومجتهداً في أكتساب القلوب لهذه العبادة.* الخبر 52:أنه حينما كان رهبان دير كيارافاله يحصدون الحبوب في المزرعة، كانوا في الوقت عينه يرتلون مدائح لوالدة الإله، فقد شوهدت هذه الملكة السماوية تجول فيما بينهم كأمٍ تملق أطفالها، وشوهدت برفقتها أثتنان من القديسات تمسحان بمناديل نقية عرق أولئك الرهبان.* الخبر 53:أنه قد أخبر عن شقيق سلطان هونكريا بأنه كان يومياً يتلو الفرض المختص بوالدة الإله، فهذا اذ حدث له مرضٌ ثقيل، قد نذر للعذراء الفائقة الطهارة حفظ البتولية الدائمة، أن شفي من مرضه. فحالما صنع هذا النذر برأ من علته. ولكن بعد مدةٍ وجيزة مات أخوه السلطان. وهو أعتمد على أن يتزوج بمن كانت تليق به، ولكنه قبل أن يتمم الزواج قد أنفرد في مخدعه ليتلو كعادته فرض العذراء فلما بلغ به الى هذه الكلمات وهي: كم أنتِ جميلةٌ وبهيةٌ أيتها البتول. قد ظهرت له والدة الإله قائلةً:" فأن كنت أنا جميلةً كما تقول فلماذا الآن تتركني لتأخذ لك عروسةً أخرى، فأعلم أن كنت تترك هذه التي أنت أعتمدت على الأقتران بها، فسأكون أنا عروسةً لك بدلاً منها، وعوضاً عن مملكة هونكريا سأعطيك ملك السموات". فهذا السلطان بعد ذلك هرب من هونكريا الى قفرٍ بالقرب من مدينة أكويليا. حيث أنهى حياته بقداسة سامية منتقلاً الى الملك السماوي.* الخبر 54:قد أخبر القديس يوحنا كاتب سلم الفضائل عن واحدٍ من الرهبان الحسني العبادة أسمه كاركاريوس، انه كان من عادته مراتٍ كثيرةً أن يرتل قصائد وأشعاراً في مديح والدة الإله. وكل مرةٍ كان يشاهد أيقونةً ما خاصةً بها، فدائماً كان يسلم عليها بتلاوة السلام الملائكي. فهذا الراهب قد سقط فيما بعد طريحاً بمرضٍ ثقيل ذي ألمٍ شديد. حتى أنه من عظم أوجاعه كان يقرض شفتيه ولسانه بأسنانه، ولذلك ما عاد يقدر على النطق، وحصل في أنفاسه الأخيرة منازعاً. ولكن حينا كان الحضار يتوسلون من أجله منتظرين أنفصال نفسه من جسده، قد ظهرت له البتول المثلثة الغبطة وقالت له: أني أنما قد جئت إليك لكي أشفيك، لأني ما عدت أحتمل أن أراك معذباً بذاك الفم الذي به مدحتني كثيراً، فقم معافى وكن صحيحاً من مرضك، وداوم على مديحك إياي. قالت هذا ورشقته ببعض نقطٍ من حليبها. فحالاً برأ ونهض معافى. ولم يكف قد سائراً أيام حياته من مديحها. وأخيراً بكل سلامٍ وهدوٍ وعذوبةٍ عند موته سلم نفسه بيد سيدته سلطانة السماء.* الخبر 55:أن بوفيوس في الخبر الخامس من المجلد الرابع من تأليفه ومثله آخرون يوردون ما يأتي ذكره، وهو أنه اذ كان موجوداً في مدينة روميه القديس فرنسيس بورجيا، قد جاء أحد الأكليروس ليخاطبه عن قضيةٍ، ولكن من حيث أن القديس كان وقتئذٍ مهتماً في أشغالٍ ضرورية، قد أرسل عوضه الأب أكوسطا. فالكاهن المومى إليه حينئذٍ أخذ يخاطب الأب أكوسطا قائلاً: أعلم يا أبتي أني أنا رجلٌ كاهن واعظ، ولكني عائشٌ في حال الخطيئة، وميؤوس من أمر خلاصي بقطع رجائي من الرحمة الإلهية، فيوماً ما بعد أن أنهيت وعظي بخطبةٍ صنعتها ضد الخطأة المصرين على آثامهم، والميؤوسين بعد ذلك من الرجاء بنوال الغفران، قد جاء إليَّ إنسانٌ ليعترف عندي، وهذا قد أورد لدي في منبر الذمة خطاياي كلها. وأخيراً قال لي أنه كان هو ميؤوساً من المراحم الإلهية. فأنا لكي أتمم وقتئذٍ واجبات وظيفتي قلت له أن يغير سيرته ويتكل على الله مترجياً غفران ذنوبه، فحينئذٍ نهض هو على قدميه وشرع يوبخني بصرامةٍ قائلاً:" فأنت الذي تكرز على الآخرين هكذا، لماذا لا تصلح ذاتك وترجع عن مآثمك، ولأي سبب تقطع رجاك، فأعلم أني أنا هو ملاك الرب قد جئت لأعانتك، فأصلح طريقك وهكذا تنال الغفران من الله". واذ قال هذا غاب هو من أمامي. فأنا قد أمتنعت مدة بعض أيامٍ عن رذائلي، ولكن اذ حصلت في السبب قد سقطت من جديد في مآثمي. فيوماً ما عندما كنت أقدس، فقبل تناولي القربان المقدس قد خاطبني يسوع نفسه تحت أعراض السر بألفاظٍ حسيةٍ مسموعةٍ قائلاً لي:" لماذا أنت تعاملني هذه المعاملة السيئة، في الوقت الذي أنا فيه أعاملك بهذا المقدار من الشفقة والرأفة". فبعد ذلك أنا عزمت على تغيير سيرتي، ولكن حالما وجدت في سبب الخطيئة قد تكردست من جديد في القبائح. ففي هذا اليوم منذ بعض ساعاتٍ اذ كنت أنا موجوداً في مخدعي، قد دخل شابٌ، وأخرج من تحت وشاحه كأساً وفيها القربان الأقدس قائلاً لي:" أتعرف أنت هذا الإله السيد الذي أنا ماسكه بيدي، وهل أنك تفطن بالنعم العظيمة التي صنعها هو معك، فالآن هوذا عقابك قد بلغ أوانه للأنتقام من خيانتك وكفرانك بالجميل". واذ قال هذا قد أستل سيفاً مرهفاً ورفع يده ليضربني به مميتاً إياي، فأنا حينئذٍ صرخت بصوتٍ عظيمٍ قائلاً: أني أستحلفك حباً بمريم العذراء الا تقتلني، لأني أريد حقاً وصدقاً أن أغير سيرتي: فوقتئذٍ هو قال لي:" أن هذه الواسطة وحدها قد خلصتك، فأعرف كيف يلزمك أن تراعي هذه النعمة، لأنها هي الرحمة الأخيرة نحوك". واذ قال هذا تركني. فمن ثم أنا أتيت حالاً أتوسل إليك بأن تقبلني في جمعيتكم. فالأي أكوسطا بعد سماعه منه هذا الخطاب جميعه، أخذ يشجعه ويعزيه. وبمشورة القديس فرنسيس بورجيا نفسه قد أرسل هذا الكاهن الى جمعية رهبان آخرين قانونيين حيث دخل إليها وعاش باقي أيام حياته بتوبةٍ صادقة حتى الموت.* الخبر 56:قد أخبر العلامة كيساريوس في الرأس 24 من الكتاب 7 من مسائله الأدبية، بأنه اذ كان واحدٌ من الكهنة مقدماً الذبيحة الإلهية سنة 1228 في يوم السبت تكريماً لوالدة الإله، فجاء الى هناك البعض من الأراتقة الألبيجازيين، ووثبوا على هذا الكاهن فقطعوا لسانه، ففي هذه الحال قد ذهب هو الى دير كلوتي، حيث قبله رهبان الدير المذكور بحبٍ وافر، متوجعين له عن العذاب الذي كان هو يشعر به في قرمة لسانه المقطوع. غير أن الشيء الذي كان هذا الكاهن العابد يتألم منه بالأكثر، هو عدم أستطاعته على أن يقدس ويصلي الفرض الإلهي، لا سيما قانون العذراء المجيدة حسب عادته السابقة. فلما جاء يوم عيد الغطاس قد صير الرهبان أن يأخذوه معهم الى الكنيسة، حيث جثا أمام هيكل والدة الإله، متوسلاً إليها في أن ترد له لسانه الذي قطع لأجل حبه إياها، حينما كان هو يقدم الذبيحة تكريماً لها، لكي يقدر أن يرجع فيستعمله في مديحها كالأول. واذا بالبتول الكلية القداسة قد ظهرت له وبيدها لسانٌ، وقالت له:" أنه لأجل أنك حباً بالإيمان، وتكريماً لي قد فقدت لسانك، فأنا الآن أرد لك لساناً جديداً". قالت هذا وهي نفسها قد وضعت بيدها ذاك اللسان في فمه. فمن ثم الكاهن حالاً رفع صوته ورتل: السلام لكِ يا مريم: فالرهبان قد ألتئموا حوله منذهلين من العجب. أما هو فأراد الأقامة معهم في ذلك الدير، فلبس ثوبهم وترهب عندهم، ليمكنه هناك أن يشكر على الدوام السيدة المحسنة إليه ويسبحها. وقد كان الجميع ينظرون علامة أتحاد لسانه الجديد بالقرمة القديمة، ويمجدون الله ويعظمون أقتدار والدته.* الخبر 57:قد كتب ديوتالوس قائلاً، أنه اذ كان حادثاً في مدينة روميه سنة 588 ذلك الطاعون الشهير الصيت، الذي فيه كان الناس بمجرد عطاسهم يسقطون في الأرض موتى. فالقديس غريغوريوس الكبير الحبر الروماني صنع حينئذٍ باعوثاً أحتفالياً، فيه زيح داخل طرقات المدينة أيقونة والدة الإله المقدسة، التي في كنيسة مريم العذراء الكبرى، فلما وصلت الدورة بهذه الأيقونة الجليلة الى أمام البرج المسمى قلعة الملاك، فقد شاهد الحبر المذكور في الفضاء ملاكاً كان بيده السيف مستلاً، يسيل منه الدم، وحالاً قد رده الى غمده، ثم سمع الملائكة يرتلون قائلين: أفرحي يا سلطانة السماء ألليلويا، لأن الذي أنتِ أستحقيتِ أن تحبلي به ألليلويل قد قام من الموت ناهضاً كما قال ألليلويا: فالحبر القديس قد أضاف الى ذلك قائلاً:" صلي من أجلنا لدى الله ألليلويا". أما الطاعون فمنذ تلك الساعة قد تلاشى من مدينة روميه، وحينئذٍ أبتدأت أن تصير الطلبات الكبرى كل سنةٍ في اليوم الخامس والعشرين من شهر نيسان.* الخبر 58:أنه يوجد مسطراً عن مدينةٍ صغيرةٍ في مملكة فرنسا تدعى أفنون، قد كانت مرةً ما حوصرت من عساكر الأعداء. فسكان هذه المدينة قد ألتجأوا الى والدة الإله، متوسلين إليها في أن تحامي عنهم، حيث أخذوا من إحدى الكنائس أيقونتها المقدسة العجائبية ووضعوها فوق باب المدينة، فاذ شاهد أحد عساكر العدو رجلاً من أهل المدينة مختفياً وراء الأيقونة قد أوثر قوسه وأستحكم النيشان ورماه بالسهم قائلاً له: أن هذه الصورة لا تقدر أن تنجيك من الموت: الا أنه قد شاهد واذا بالصورة قد مدت رجلها الى خارجٍ، حيث جاء السهم ووقف بها من دون أن ينفذ الى الإنسان المحتمي وراءها (وحتى الآن هذه الصورة تنظر في المدينة المذكورة. والسهم على فخذها معلقاً) وبهذا النوع حفظت حياة ذلك الإنسان المتعبد لمريم، فالأعداء اذ رأوا حدوث هذه الأعجوبة، قد رفعوا الحصار عن المدينة وسافروا.* االخبر 59: أخبر الأب ألوتسا في الرأس 3 من كتابه 3 بأنه كان في مدينة نابولي إنسانٌ من السودان أسيراً عند الرجل الشريف أوطافيوس موناكوس، مصراً على تمسكه بمذهبه الهجري، من دون أن تؤثر فيه شيئاً جميع النصائح والتحريضات المقدمة له من كثيرين، غير أنه كان متمسكاً بعبادةٍ ممارسة منه تكريماً لمريم العذراء وهي أنه كل ليلةٍ من دون تفويتٍ كان يقد على مصروفه الذاتي قنديلاً، أمام تلك الأيقونة التي كانت لوالدة الإله في بيت سيده المذكور. وكان من عادته أن يقول: أن هذه السيدة عتيدةٌ أن تصنع معي نعمةً عظيمةً. فليلةً ما قد ظهرت له هذه الأم الإلهية، وقالت له أن يصير مسيحياً. أما هو فأستمر يرفض طلبتها هذه، ولكنها اذ وضعت هي يدها على كتفه قائلةً له: يا هابيل لا تصر على عنادك أكثر، بل أصطبغ وادع ذاتك يوسف: ففي الصباح التالي حالاً ذاك العبد أشهر رضاه بأعتناق الإيمان بالمسيح، وأرتشد بقواعد الإيمان، وأصطبغ في اليوم العاشر من شهر آب سنة 1648 جملةً مع أحد عشر هجرياً آخرين. ثم يلزم أن ننبه هنا عن هذه القضية أيضاً، وهي أن العذراء الكلية القداسة حينما ظهرت لهابيل المذكور بالنوع المقدم إيراده، فبعد أن أجتذبته الى الأعتقاد بالمسيح، وأرادت مفارقته فهو مسك يدها متوسلاً إليها بقوله: أيتها السيدة أرجوكِ بأن تجعليني أن أراكِ عندما أوجد محزوناً من حادثٍ ما. فهي قد وعدته بذلك، كما تممت وعدها. لأنه اذ كان هو فيما بعد مرةً ما حاصلاً في الغم لمصيبةٍ. فقد أستدعى إليه هذه السيدة، وهي ظهرت له، وبمجرد قولها: يا يوسف أحسن صبرك، قد أمتلأ هو تعزيةً وسروراً.* https://upload.chjoy.com/uploads/166049412537213.jpg الخبر 60: أن الأب أورياما في الرأس 6 من المجلد 2 قد أخبر عن أحد خوارنة أسالا أسمه بالدوينوس، أنه قد كان تنازل عن خدمة الخورنة، وصار راهباً في قانون القديس عبد الأحد. غير أنه اذ كان هو بعد في رتبة المبتدئين. قد تجرب في الندامة على ما فعله بالدخول في الرهبنة، متصوراً بعقله أنه لكان يفعل خيراً أعظم، وأفادةً أكثر للقريب، لو يكون أستمر في خدمة خورنته. ومن ثم عزم على ترك ثوب الأبتداء، وعلى الخروج من الدير، وبهذه النية دخل أمام هيكل الوردية ليودعها ويخرج، الا أن والدة الإله قد ظهرت له حاملةً بيديها إنائين مملوئين خمراً، فسلمته الإناء الواحد لكي يشرب منه، فلما ذاقه لوى وجهه عنه، لأنه ولئن كان الخمر جيداً فمع ذلك كان مملؤاً من العكر، واذ أعطته الثاني فرآه جيداً من دون شيء آخر، فحينئذٍ قالت له هذه السيدة:" أن هذا هو الفرق الكائن فيما بين العيشة في العالم، وبين عيشتك في الرهبنة تحت الطاعة". فلهذا رجع بالدوينوس، وتمم زمان الأبتداء، وعاش باقي زمن حياته راهباً مملؤاً من الفضائل.* الخبر 61: قد أخبر الأب أورياما عينه في المكان السابق ذكره، عن واحدٍ آخر من المبتدئين قد أنتصرت عليه التجربة في الرجوع الى العالم، ولذلك ذهب من قلايته ليخرج من الدير، ولكنه قبل خروجه صلى مرةً واحدةً السلام الملائكي أمام أيقونة والدة الإله. فعندما نهض لينطلق رأى ذاته مسمراً في مكانه غير قادر على الحركة والمشي، فحينئذٍ أنتبه على غلطه، ونذر أن يستمر في الدير. وهكذا أنطلق من دون مانعٍ عند معلم المبتدئين طالباً منه الغفران، ولبث مثابراً على ما كان أبتدأ به الى الموت.* الخبر 62:قد كتب الأب أورياما نفسه في الرأس 4 من المجلد 1 عن الطوباوي أكليمضوس الراهب الفرنسيسكاني، أنه يوماً ما لم يرد أن يذهب الى مائدة الغداء المشاعة، لكي يستمر تالياً بعض صلوات ذات عبادةٍ لوالدة الإله، غير أن هذه البتول الكلية القداسة قد خاطبته من ايقونتها المقدسة قائلةً له: أذهب مع أخوتك الى المائدة، لأنه يرضيني أن تكمل الطاعة الواجبة عليك، أكثر مما ترضيني العبادات الأخرى كلها التي أنت تصنعها نحوي.* الخبر 63:قد أخبر الأب روهوس بأنه حينما كانت أنجلا أبنة سلطان بوهاميا في دير الراهبات، قد ظهرت لها البتول الكلية القداسة، وبرفقتها أحد الملائكة، الذي تقدم الى أنجلا قائلاً لها: أنهضي الآن يا أنجلا وأهربي مسرعةً الى أورشليم، لأن السلطان أباكِ أعتمد على أن يدفعكِ زوجةً لسلطان بلاد هنغاريا: فالأبنة الحسنة العبادة قد سافرت حالاً متجهةً نحو مدينة أورشليم، وقد ظهرت لها والدة الإله مرةً ثانيةً في مسافة الطريق، مشجعةً إياها على تتميم السفر. فلما بلغت الى أورشليم قد قبلت فيما بين الراهبات الكرمليتانيات. وأستمرت هناك الى أن أعلنت لها البتول المجيدة عينها أرادتها في الرجوع الى وطنها، كما أكملت ذلك. وعاشت باقي زمن حياتها في بلاد بوهاميا بقداسةٍ حتى الموت.* الخبر 64: قد كتب القديس غريغوريوس الكبير في الرأس17 من كتاب أدابياته الرابع، عن أبنةٍ أسمها موزا. قد كانت كلية التعبد للأم الإلهية، ومن حيث أنها لأجل نموذجات بعض البنات الأثمة حصلت هي في خطر أن تخسر طهارتها، فظهرت لها والدة الإله، مرافقةً من عددٍ وافرٍ من القديسات، وقالت لها: أتريدين ياموزا أن تأتي أنتِ أيضاً صحبة هؤلاء البارات: واذ أجابت الأبنة: أي نعم أني أريد ذلك: فحينئذٍ قالت لها العذراء:" اذاً أبتعدي عن رفقة البنات الأخريات، وأستعدي حسناً، لأنكِ من الآن الى مدة شهر كامل عتيدةٌ أن تأتي إليًّ". فموزا قد أبتعدت حالاً عن أولئك البنات، وأخبرت الغير عن الرؤيا التي شاهدتها هي. واذ بلغ اليوم الثلاثون فجاءت ساعة موتها، وحينئذٍ قد ظهرت لها ملكة السماء ودعتها إليها، وهي اذ أجابت حالاً: هوذا أنا يا سيدتي آتيةٌ إليكِ. قد سلمت روحها بكل عذوبةٍ وسلام.* الخبر 65:أنه يوجد مدوناً في سيرة حياة البارة: حنه غونزاغا. كانت زوجة لفرديناندوس الأول ملك النمسا من عليلة أوستريا، وأن هذه الشريفة حينما ترملت بوفاة رجلها المذكور، قد دخلت في جمعية راهبات عبيد مريم العذراء، وقد صنعت لذاتها تاجاً مرسومةً عليه صور سبعة أحزان البتول الكلية القداسة، قائلةً أنها بواسطة هذا التاج تنازلت هي عن تيجان مملكات الأرض كلها. وبالحقيقة أنها رفضت الزواج مع الملك رودولفوس الثاني. وحينما أخبروها فيما بعد بأن أختها الصغرى قد تكللت بالأحتفالات العظيمة ملكةٌ، قد أجابت هي قائلةً: فلتتمتع أختي بتاجها الملوكي، وأما أنا فعزيزٌ هو لدي هذا الثوب الذي به توجتني ملكتي مريم، وأفضل عندي ألف مرةٍ من ذاك التاج الملوكي. فوالدة الإله قد ظهرت مراتٍ كثيرةً لهذه البارة في مدة حياتها وعند ساعة موتها التي بها أنتقلت الى الأخدار السماوية بميتةٍ مقدسة.* خبر 66:قد كتب في الخبر الثالث من الكتاب المسمى: نموذجات العذراء الطوباوية: عن أحد الكنائسيين المرتسم بالدرجات الصغار. أنه كان هذا يوماً ما يلعب مع شبانٍ آخرين في لعب الكرة، ومن حيث أنه خاف من أن حركته في اللعب تسبب له ضيعان الخاتم الذي كان في أحد أصابعه غزيزاً لديه، لأنه كان موهوباً له من إحدى النساء المكرمات منه، فخلعه من أصبعه، ليضعه في أصبع يد تمثال والدة الإله المجسم الكائن هناك، الا أنه حينئذٍ قد جاءه فكرٌ في أن يرفض العالم ويحفظ البتولية، متخذاً بواسطة ذاك الخاتم عروسةً له البتول المجيدة نفسها. فاذ شعر في قلبه بأرادةٍ فعالةٍ لأن يعد العذراء هذا الوعد، قد صنعه بكل طيبة خاطرٍ، ووضع بهذه النية ذاك الخاتم في أصبع يد تمثالها المقدس. فالبتول الطوباوية علامةً لقبولها منه هذا الوعد، قد أطبقت يدها على يده حين تلبيسه إياها الخاتم، ثم فتحتها. ولكن بعد مدةٍ من الزمان أراد الشاب المذكور أن يقترن بالزواج مع إحدى البنات، غير ملتفتٍ الى ذاك الوعد. فالعذراء المغبوطة قد ظهرت له حينئذٍ، ووبخته على عدم أمانته، وهو حالاً ندم على فعله. ولكي يحفظ وعده بأكثر أمانٍ مع هذه العروسة السماوية، هرب من العالم سائحاً في أحد القفار، حيث عاش جميع أيام حياته بقداسةٍ حتى الموت.* الخبر 67:أنه يوجد مسطراً في تاريخ مدينة فاردون عند الأب روهوس، أنه نحو سنة 850 اذ كان بارانغاريوس أسقف أبرشية فاردون في أقليم لورانا، ذاهباً يوماً ما الى الكنيسة حيث دخل مجتازاً الى الخورص. فكان وقتئذٍ هناك جالساً عند مدخل الخورص أحد الكهنة وأسمه بارناريوس، يتلو قانون والدة الإله، ومن كون رجل الأسقف المذكور حين دخوله الخورص أنصدمت في جسد هذا الكاهن، فلغيظه منه في جلوسه هناك، ولعدم نهوضه حالاً، قد رفسه برجله بقلة صبرٍ. ففي تلك الليلة ظهرت هذه الأم الإلهية للأسقف قائلةً له:" كيف تحسن عندك أن ترفس برجلك عبدي بارناريوس حينما كان يتلو مدائحي، فأنا من أجل أني أحبك، أريد أنك تفي القصاص عن ذنبك في هذه الحياة". وحالاً قد يبست رجله، فالأسقف عاش باقي زمن حياته بقداسةٍ، ومات كذلك. وبعد سنين كثيرةٍ قد صودف جسده غير فاسدٍ ولا مثلومٍ، ما عدا رجله التي كان رفس بها ذاك الكاهن كما تقدم الشرح قد بليت.* الخبر 68: أنه قد كتب عن أحد الشبان أنه اذ ورث عن والديه أموالاً غنيةً جداً، فهو شرع يبددها في اللعب والمسكرات والولائم والرذائل والبذخ مع أصحابه. حتى أنه نفذ منه كل شيءٍ كان له، ولكن كان يحفظ ذاته بتولاً غير مدنسٍ بفعلٍ ضد العفة. فلما رآه عمه حاصلاً في الفقر لأجل ما تقدم ذكره، قد حرضه على أن يتلو كل يومٍ قسماً من مسبحة الوردية، موعداً إياه بأنه اذا واظب على ذلك، فهو كان مزمعاً أن يهتم في أن يزوجه زيجةً شريفةً. فالشاب قبل المشورة ومارسها بالعمل وأصلح سيرته، وكذلك عمه أكمل وعده في أمر الزيجة. فلما بلغت ليلة العرس، فالشاب أنفرد عن الناس ليصلي قسم الوردية كعادته، فعند نهاية صلاته، ظهرت له والدة الإله قائلةً:" أني أريد الآن أن أعطيك المكافأة الواجبة عما كرمتني به، فأنا لا أريد أنك تخسر بتوليتك بالزواج، ولذلك بعد ثلاثة أيامٍ أنت تموت وتأتي عندي في الفردوس السماوي". وهكذا صار لأنه حالاً قد أعترت الحمى هذا الشاب، الذي هو أخبر بالرؤيا. وفي اليوم الثالث رقد بالرب مملؤاً من السرور والتعزية.* الخبر 69:قد أخبر المؤرخ الجليل الملقب بالحسن العبادة في كتابه المسمى: سر كل نعمةٍ: عن القديس فينخانسوس فراري. أنه اذ كان يسأل أحد المرضى المدنفين على الموت، الذي كان قاطعاً رجاه من الخلاص هكذا: لماذا أنت تريد أن تهلك ذاتك، في الوقت الذي فيه يريد يسوع المسيح أن تخلص نفسك. فأجابه ذاك الشقي بأنه أهانةً وبغضةً في المسيح يريد أن يمضي الى الهلاك. فقال له القديس:" أنه قهراً عن رداوتك يلزمك أن تخلص". وهكذا أبتدأ القديس في تلاوة المسبحة الوردية، محتماً على الحضار بأن يصلوها معه، واذا بالمنازع قد تغير، وطلب أن يعترف بدموعٍ حارةٍ. كما تم بعد أن أعترف بخطاياه باكياً بمرارةٍ قد رقد بسلام.* الخبر 70:قد أخبر المؤرخ المذكور عن أمرأةٍ وجدت تحت ردم بيتها الذي سقط عليها من قبل الزلزلة. فأحد الكهنة أحضر فعلةً، وكشف الحجارة والردم الى أن وصلوا عند الأمرأة. فرأوها معانقةً أولادها. وهي وهم أحياء من دون ضررٍ. واذ سألوها أية عبادةٍ كانت هي معتادةً على ممارستها، فأجابتهم بأنها قط ما تركت يومياً لا تلاوة المسبحة الوردية، ولا زيارة هيكل العذراء.* الخبر 71:قد كتب هذا المؤرخ نفسه. أنه كانت إحدى النساء معاشرةً أحد الرجال عشرةً دنسةً لأفتكارها في أنها بدون ذلك ما كان يمكنها لفقرها أن تعيش. فوجد من قدم لها المشورة في أن تلتجئ الى والدة الإله، مواظبة على تلاوة ورديتها، فمارست ذلك بحسن عبادةٍ. واذا بهذه الأم الإلهية ظهرت لها في إحدى الليالي قائلةً: " أتركي الخطيئة. وأهتمي في أن تحصلي قوتكِ بتعبكِ وأتكلي عليَّ أنا أعينكِ". فالأمرأة نهضت صباحاً ومضت فأعترفت بخطاياها، وأبتعدت عن ذاك الرجل تائبةً ففازت من العذراء بمعوناتٍ عظيمة.* الخبر 72:وكذلك أخبر عن أحد الخطأة المنغمسين في الرذائل، أنه لم يكن يستطيع بسهولةٍ أن يترك ملكاته الدنسة. فهذا عندما أبتدأ أن يتلو يومياً المسبحة الوردية، فبنوعٍ عجيبٍ قد رجع الى الله بالتوبة وأصلح سيرته أصلاحاً كلياً.* الخبر 73:وأيضاً أخبر عن شخصٍ آخر كان أسيراً لألم المحبة الدنسة، مع أمرأةٍ شريكةٍ له في القباحة. فلأنه تمسك بتلاوة المسبحة الوردية، قد شعر في ذاته بكرهٍ كلي من الأثم. فأي نعم أنه سقط من جديد في الدنس ولكن لأجل مثابرته على تلاوة الوردية قد نجا من تلك العشرة الرديئة بالكلية مستسيراً سيرةً مسيحيةً.* الخبر 74:وكتب هو عينه عن أمرأةٍ ما قد دنت من ساعة موتها، وهي حاقدةٌ في قلبها على رجلها ببغضةٍ قتالة. فأحد الكهنة الصلحاء الذي كان يساعدها في تلك الساعة، اذ لم يعد يعلم بأية طريقةٍ يكتسبها لأن تصفح وتسامح وتصطلح مع رجلها قبل موتها، لأنها كانت ترفض ذلك، قد أنفرد يصلي من أجلها المسبحة الوردية. فحينما أنتهى الى البيت الأخير منها، واذا بالأمرأة تغيرت عما كانت عليه، وندمت على مآثمها معترفةً، وصفحت من كل قلبها لرجلها.* الخبر 75: ثمأن الكتاب المشار إليه يورد أخيراً. أنه اذ مارس هو رياضات الرسالة مرةً ما نحو الأشخاص المخصومين في مدينة نابولي تحت عقاب الشغل في مراكب المملكة. فقد وجد فيما بين هؤلاء أناسٌ الذين صروا على عنادهم في أن لا يقتبلوا سر التوبة، فضلاً عن غيره من الأسرار المقدسة، فهذا الأب قد علم هؤلاء بأنهم قلما يكون يرتضون بأن تتحرر أسماؤهم في شركة الوردية المقدسة، وأنهم يبدئون بتلاوة مسبحتها. فأقتبلوا المشورة وحرروا أسماءهم، وأخذوا يصلون الوردية جملةً، فما تمموا تلاوتها الا وشعروا كلهم بأرداةٍ فعالةٍ الأعتراف حالاً بخطاياهم، فطلبوا ذلك وتمموه بكل ندامةٍ وخشوعٍ، بعد أن كان لهم سنون كثيرة ما تقدموا فيها قط الى منبر التوبة. فهذه النموذجات التي حدث في زماننا كثرةٌ منها، يجب أن تحرك فينا حسن الرجاء في مفعول شفاعات والدة الإله المقتدرة، عند تأملنا في أنها هي في الزمن الحاضر لم تتغير عما كانت عليه قبلاً، وعلى الدوام في أسعاف من يلتجئ إليها.* الخبر 76:قد أخبر القديس غريغوريوس الكبير في الرأس9 من كتاب أدابياته الأول. عن أسقف مدينة فارانتوس البار، أنه قد كان كلي الأنعطاف والسخاء في إعطاء الصدقة منذ نعومة أظفاره، فأتفق له يوماً ما بعد أن صار أسقفاً، أنه جاء إليه كثيرون من الفقراء ليطلبوا صدقةً منه. فاذ لم يكن بعد باقياً عند شيءٌ يعطيهموه، قد دخل الى المخدع وأخذ علبةً كانت خاصة أحد الكهنة أبن أخيه، الذي كان باع فرسه بعشر قطع ذهباً، وحفظها في تلك العلبة، فهو كسر العلبة ووزع على أولئك الفقراء العشر القطع الذهب. الا أنه حينما جاء القس المومى إليه، وعرف ما صنعه عمه، قد أحتمى غيظاً من ذلك، وطلب المال بكل لجاجةٍ وصراخٍ. فالأسقف البار ما عاد يعلم كيف يرضيه، ومن أين يفيه ماله، فذهب الى الكنيسة أمام تمثال والدة الإله لتسعفه، واذ به ينظر على طرف ثوب التمثال المقدس عشر قطع ذهباً نظير تلك. فأخذها ودفعها بيد الكاهن مسروراً. الخبر77:أنه يوجد مدوناً في الرأس 6 من المجلد 2 من الحوادث السنوية عن أمرأةٍ آراتقية في مدينة أفغوسطا التي في جرمانيا، أنها كانت كلية الأصرار والعناد في مذهبها اللوتراني، فهذه اذ كانت يوماً ما في سنة 1656 مارةً من أمام إحدى كنائس الكاثوليكيين قد أنجذبت من روح البحث الباطل الى أن تدخل إليها، فعند أجتيازها الى الكنيسة ومشاهدتها هناك أيقونة والدة الإله حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي، قد شعرت هي باطناً بأنعطافٍ كلي الى أن تهب تلك الأيقونة أو بالحري للعذراء المجيدة هديةً ما. فرجعت الى بيتها، وأخذت ثوباً من الحرير، وجاءت به وقدمته لتلك الأيقونة المقدسة وأنصرفت. فعما وصلت الى منزلها قد أستنارت من نعمة الله التي أستمدتها لها العذراء الرحومة، وعرفت فساد معتقدها الآراتيكي التي كانت هي عنيدةً بالتمسك فيه. فخرجت حالاً وذهبت عند البعض من الكاثوليكيين وكشفت لهم إرادتها في رفض ضلالها ورجوعها الى الإيمان المستقيم، كما تم. حيث أنها نالت الحل من الأرتقية وتمسكت بالديانة الكاثوليكية المقدسة.* الخبر 78:قد جاء في الأخبار أنه كان في مدينة جازانا رجلان من الخطأة متحدان أحدهما مع الآخر بصداقةٍ كلية. فالواحد منهما الذي كان يسمى برتولوماوس. ففيما بين راذئله وفي حاله الأثيمة لم يكن أهمل العبادة التي كانت فيه نحو والدة الإله، بل أستمر يتلو يومياً تكريماً لأحززانها التسبحة المبدوة:" وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه". فيوما ما حينما كان برتولوماوس يتلو هذه التسبحة، قد حصل على رؤيا، وهي أنه شاهد ذاته كائناً في بحيرةٍ من نارٍ جميلةً مع صديقه الأثيم، ثم نظر واذا بالبتول الكلية القداسة قد حضرت إليه متشفقةً عليه، ومدت يدها فأنتشلته من تلك البحيرة خارجاً، وأرشدته الى أن يطلب الغفران من يسوع المسيح أبنها، الذي أظهر أرادته في أنه غفر له أكراماً لتوسلات والدته من أجله. فلما غابت الرؤيا عن برتولوماوس ورجع الى ذاته. ففي الحال ورد إليه خبرٌ بأن صديقه قد مات مقتولاً بالرصاص من أحد أعدائه، فحينئذٍ هو عرف حقيقة الرؤيا، ولذلك أهمل هو العالم، ودخل في رهبنة الكبوجيين، حيث أصرف باقي زمن حياته بعيشةٍ كلية الصرامة بالتقشفات والأماتات وأفعال التوبة، وأخيراً مات في رائحة القداسة.* الخبر 79:أنه يوجد محرراً في سيرة حياة الطوباوي أيرونيموس مؤسس جمعية الآباء السوماسكيين، انه حينما كان هو يعد في الوظائف المدنية والياً في إحدى ألأمكنة، قد وثبت عليه الأعداء وأخذوه فطرحوه مقيداً في مغارةٍ ضمن أحد الأبراج. فحينئذٍ هو ألتجأ الى والدة الإله في أن تعينه في حال ضيقته هذه القصوى، ونذر بأن يمضي فيزور كنيستها التي في ترافيجي. واذا بالعذراء السريعة الإجابة قد ظهرت له متلألئةً بأنوارٍ سماوية لا يمكن التحدق بها، فدنت منه وفكت له قيوده، ودفعت بيده مفتاح الحبس. فقام وخرج من المغارة ومن البرج سائراً نحو ترافيجي لتكميل نذره. الا أنه بعد أن أجتاز مسافةً قليلةً من الطريق، قد سقط من جديد فيما بين الأعداء ولهذا أستغاث بالسيدة منقذته. فظهرت له ثانيةً، وأخذته بيده وأجتازت به في وسط الأعداء وأوصلته الى حد أبواب مدينة ترافيجي، ثم غابت عنه. فدخل المدينة، وزار كنيسة والدة الإله، وترك أمام هيكلها القيود الحديد التي فكتها هي له. ومنذ ذلك اليوم الى نهاية حياته أستسار سيرةً مملؤة من القداسة والفضائل السامية، التي لأجلها أستحق بعد نياحه منذ أزمنةٍ قليلة أن يدون أسمه قانونياً من الكنيسة المقدسة في عداد الطوباويين.* الخبر 80:أن الأب سينيسكوس في الرأس 9 من كتابه يخبر عن أحد الكهنة الكلي التعبد للعذراء المتألمة المثلثة القداسة، بأنه كان يمضي متواثراً الى إحدى الكنائس منفرداً ليتأمل في آلام هذه السيدة متوجعاً لها. وكان من عادته أن يدنو من تمثال هذه الأم الإلهية المجسم الموجود في تلك الكنيسة، ويمسح بمنديلٍ كأنه معزٍ لها وجهها ودموعها. فقد حصل فيما بعد هذا الكاهن في مرضٍ عضال قد يئست الأطباء من شفائه. ولكنه عندما دنا هو من أبواب المنون، وناهز أن تفارق نفسه جسده، قد شاهد واذا حضرت بإزائه سيدةٌ كلية الجمال، فأقتربت منه، وطفقت تعزيه بألفاظٍ جزيلة العذوبة وتمسح عرق موته عنه بمنديلٍ كان بيدها. وبذلك قد شفي هو حالاً من مرضه. فعندما رأى هو ذاته قد برأ هكذا، هتف نحوها قائلاً: لكن من هي أنتِ أيتها السيدة التي تصنعين معي رأفةً، بهذا المقدار عظيمةً: فأجابته هي " أني أنا تلك التي أنت مراتٍ كثيرةً قد مسحت عن عيني الدموع بمنديلك". واذ قالت هذا غابت عنه وهو نهض من فراشه صحيحاً معافى.* الخبر 81:قد كتب الأب تهاوسك في الرأس 26 من كتابه 1 عن إحدى النساء الشريفات التي كان لها أبنٌ وحيدٌ. فهذه يوماً ما قد أخبرت بأن أبنها وجد مقتولاً مطروحاً في الأرض. الا أن القاتل قد كان بطريق العرض من دون معرفةٍ، هرب الى دار تلك السيدة محتمياً تحت كنفها. فهي حينئذٍ اذ أخذت تتأمل في أن مريم البتول قد غفرت لصالبي أبنها يسوع، فأرادت هي أيضاً حباً بهذه العذراء المحزونة وتكريماً لها أن تغفر لقاتل أبنها. ومن ثم ليس فقط صفحت له عن ذنبه، بل أيضاً قد أمرت بأن يعطى أثواباً لملبوسه، ومالاً لمصروف طريقه، وفرساً لمركوبه، ليمكنه أن يفر هارباً من أيدي خدام الشريعة ويفوز بالنجاة. فبعد ذلك ظهر أبن هذه الأمرأة لها في الرؤيا، وأخبرها بأن والدة الإله قد خلصته من عذابات المطهر التي كان يلزمه أن يتكبدها أزمنةً مديدةً، وذلك مكافأةً عن فعلها الفاضل الذي به تصرفت هي بسخاءٍ مع قاتله. وأنه هو منطلق الى السعادة الأبدية ليتمتع بها سرمداً.* الخبر 82:أنه يوجد مسطراً في الرأس 13 من الكتاب 4 من تاريخ رهبنة عبيد مريم، عن حادث شبيه بالمتقدم إيراده، قد تم مع الطوباوية بيوندا. وهو أن هذه البارة كان لها أبنٌ وحيدٌ، فأعداء رجلها المتوفي بغضةً بوالده قد قتلوه، وأخرجوا قلبه من جوفه. وبأفتراءٍ بربري صيروا أمه المسكينة أن تأكله من دون أن تعرف الأمر الا فيما بعد. فهذه الأم عند معرفتها ذلك جميعه أرادت أن تقتدي بصبر والدة الإله المحزونة على موت أبنها، نظيرها أن تغفر لهؤلاء القتلة. وأن تحسن إليهم أيضاً بمقدار أستطاعتها، فهذا الفعل قد أرضى قلب والدة الإله التي أستمدت لهذه الأمرأة الأرملة النعمة. في أنها تركت العالم ودخلت في قانون الرهبنة الثالثة المختصة بجمعية عبيد مريم، وأجتازت أزمنة حياتها بقداسةٍ وبفضائل عظيمة. حتى أنها أستحقت أن تصنع عجائب كثيرةً في مدة حياتها وحين موتها أيضاً الكريم لدى الرب.* الخبر 83:قد أخبر الأب بوفيوس في الحادث 39 من المجلد 4 من تأليفه عن القديس توما كانطواريانزه، أنه اذ كان في زمن صبوته موجوداً مرةً ما فيما بين جمعية شبان علمانيين، الذين ربما كلٌ منهم كان يفتخر في جنون محبته لبعض البنات أو النساء. فهذا الشاب البار قال لهم واضحاً أنه هو أيضاً مغرماً بمحبة سيدةٍ شريفةٍ فائقةٍ في الجمال، وعظيمة الشأن، وأنها هي أيضاً تحبه كثيراً، وأعنى هو بذلك عن والدة الإله. غير أنه بعد قوله هذا قد قلق ضميره كيلا يكون أخطأ بروح المجد الباطل، ففيما هو مغمومٌ جداً من هذا القبيل، قد ظهرت له هذه السيدة المجيدة وقالت له بعذوبةٍ هكذا:" من أي شيء أنت تخاف يا توما، فأنت بالصدق والصواب قد قلت أنك تحبني جداً وأني أنا أحبك، فأعلن هذا لأصحابك الشبان وأكده لهم. وعلامةً لحبي الوافر إياك خذ لهم هذه الهدية التي الآن أنا أهبك إياها لينظروها ويتحققوا صدق قولك لهم". قالت هذا ودفعت بيديه علبةً حاويةً بدلة كهنوتية بلون الدم، اشارةً الى أن هذه الأم الإلهية قد أستمدت لتوما من أبنها النعمة في أن يصير هو كاهناً ثم شهيداً، كما تم بالحقيقة. لأن هذا الشاب البار قد أختير فيما بعد وأرتسم كاهناً، ثم أسقفاً لمدينة كونطوربيا في بلاد أنكلتيرا.ظ حيث أنه بعد ذلك أضطهد من السلطان وهرب الى بلاد فرنسا في دير بونتينياكوس خاصة الرهبان الجيستارجيازيين. فهناك اذ أتفق له أن القميص الخيش الذي كان هو يلبسه على لحمانه قد تخزق، وأخذ هو يصلحه في قلايته بقلة معرفته في الخيطان. فظهرت له ملكته المحبوبة منه مريم البتول، وأخذت من يده القميص بعذوبةٍ، وأصلحته له بخياطتةٍ شريفةٍ. ثم اذ رجع فيما بعد الى أبرشيته كونطوربيا فهناك مات شهيداً، لأنه قتل من أعدائه بغضةً في غيرته على حقوق كنيسته.* الخبر 84: قد جاء في الأخبار عما حدث من أحد زعيم اللصوص الذي كان في بلاد أيطاليا تحت الحكم الباباوي. بأن إحدى البنات المتعبدات لمريم العذراء، اذ أنها يوماً ما كانت في الطريق خارج المدينة وحدها. قد وقعت في يد زعيمهم المومى إليه، فلخوفها على عفتها، قد توسلت إليه وأستحلفته حباً بوالدة الإله الكلية القداسة الا يفتري عليها بشيءٍ ضد الطهارة، أما هو فأجابها بقوله: لا تخافي لأنكِ اذ قد تضرعتِ إليَّ بأسم تلك التي هي أم الله، فلا أريد منكِ شيئاً آخر سوى أن تصلي لديها من أجلي: وقد رافقها الى أن وصلت حيث لم يعد عليها خطرٌ من أحد اللصوص الآخرين. ففي الليلة التابعة قد ظهرت العذراء المجيدة لهذا اللص في الحلم، وشكرته على فعله الجيد، ووعدته بأن تفتكر به، وأنها في وقتٍ ما كانت عتيدةً هي أن تكافئه عن جميله. ففيما بعد وقع هذا اللص في أيدي جنود الشريعة، وأُخذ مقيداً وحُكم عليه بالموت، ففي الليلة السابقة على وضع الحكومة بالعمل. قد ظهرت من جديد الأم الإلهية لهذا المخصوم، وسألته أن كان هو يعرفها، فأجابها بقوله: أنه يبان لي أني رأيتكِ مرةً ما: فقالت له: "أنا هي مريم العذراء وقد أتيت لكي أكافئك عما صنعته لأجلي سابقاً، فأنت نهار غداً تموت، ولكن يتم موتك بندامةٍ وتوجعٍ هذا حدهما، حتى أنهما يجعلانك أن تأتي الى الملكوت السماوي حالاً". فالرجل قد أنتبه من النوم وكان يشعر بندامةٍ وتأسفٍ كليين على خطاياه، بنوع أنه بدأ يبكي بمرارةٍ ودموعٍ سخينة، وشكر والدة الإله بأعلى صوته، وحالاً طلب معلم الأعتراف، وأقر لديه بمآثمه كلها بتياراتٍ من الدموع، وأخبره بالرؤيا التي شاهدها. وتوسل إليه بأن يشهر على الجميع هذه النعمة التي صنعتها معه مريم البتول. ثم ذهب الى مكان القتل بفرح عظيم. وبعد قتله يقال أن وجهه كان يظهر نظير أوجه الطوباويين. بنوع أن الجميع أعتقدوا في أنه كملت معه المواعيد التي نالها من والدة الإله.* الخبر 85:أنه يورد في سيرة حياة الطوباوي يواكيم بيكولوميني الكلي العبادة نحو والدة الإله. أنه منذ حداثته كان يزور ثلاث مراتٍ في كل يومٍ أيقونتها المقدسة ذات أحزانها السبعة في إحدى الكنائس. وفي كل يوم سبتٍ ساعة نصف الليل كان ينهض ويصنع الصلاة العقلية متأملاً في أحزانها. فلننظر كيف أن هذه الأم الإلهية قد كافأته عن عباداته المومى إليها: فأولاً:أنها ظهرت له في زمن صبوته، وقالت له أن يترك العالم ويدخل في جمعية الرهبان عبيد مريم كما فعل. ثانياً:في سني حياته الأخيرة قد ظهرت له من جديد حاملةً في يدها أكليلين، أحدهما من روبين الحجر الكريم مكافأةً لتأملاته في أحزانها وآلامها. والثاني: من لؤلؤ مكافأةً لنقاوته وعذريته المكرسة منه في تكريمها. ثالثاً:قد ظهرت له أخيراً حين نياحه. وهذا الطوباوي حينئذٍ ألتمس منها النعمة في أن يموت هو في اليوم الذي مات مخلصنا يسوع المسيح. فالبتول الكلية القداسة قد عزته بقولها له:" أستعد وتهيأ لأنك نهار غداً الذي هو يوم الجمعة تموت حالاً. كما أنت ترغب، وهكذا غداةً تكون معي في الفردوس". وهذا جميعه قد تم. لأنه في اليوم التالي الذي كان نهار الجمعة العظيم، حينما كان يرتل في الكنيسة أنجيل الآلام من بشارة القديس يوحنا، فعندما وصل المرتل الى هذه الكلمات وهي: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: ألخ قد حصل الطوباوي في آخر نفس. وحينما قال المرتل عن يسوع أنه أحنى هامته وأسلم الروح. فالطوباوي لوى عنقه وأسلم الروح، وفي الوقت عينه قد تلألأت الكنيسة من أشراق ضياءٍ عظيم، وعبق فيها نشر رائحة كلية الزكاوة.* الخبر 86:أنه يذكر عن الأب ألفونسوس سالمارونه اليسوعي، في كتاب سيرة حياته. أنه اذ كان هو كلي التعبد لوالدة الإله فلما دنا من ساعة موته هتف صارخاً: الى الملكوت الى الملكوت، فلتكن مباركةً الساعة التي فيها خدمت أنا مريم البتول، ومباركةً هي المواعظ، والأتعاب، والأفكار التي مارستها أنا من أجلكِ يا سيدتي، فالى الملكوت الى الملكوت: وهكذا أسلم روحه البارة.* الخبر 87: أنه يوجد مدوناً من فرنسيس لالي كاتب سيرة حياة القديس روموالدوس مؤسس الرهبنة الكامالدولازية، أن الأمير فارنولفوس قد أحضر يوماً ما أبنه غويدوس الى هذا القديس، طالباً منه أن يقبله فيما بين رهبانه تحت قانونه، لأن هذا الشاب كانت أشواقه كلها متجهةً نحو ذاك. فالقديس أقتبله بحسن الرضا. ورتبه في الدير، ومن حيث أن الفتى غويدوس كان متعبداً لوالدة الإله. فيوماً ما ظهرت له هذه السيدة حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي، فالشاب لأعتداد ذاته أنه غير مستحقٍ أصلاً لهذه الرؤيا، قد حصل خائفاً جداً، اما البتول المجيدة، فقد دنت منه قائلةً له: " لماذا ترتاب، ومن أي شيءٍ تخاف يا غويدوس، فأنا هي أم الله، وهذا هو أبني الحبيب يسوع الذي يريد أن يأتي إليك". واذ قالت هذا قد دفعت طفلها بين ذراعي غويدوس. ثم في أواخر السنة الثالثة من دخول هذا الشاب في الرهبنة المذكورة، قد دنت منه ساعة موته، فالقديس روموالدوس الذي كان حاضراً عنده، قد شاهده يرتجف بكليته خائفاً وقائلاً: يا أبتي أما تنظر كم يوجد في هذه القلاية من السود، البشعي الصور: فقال له القديس: أفتكر يا أبني لعلك تكون أهملت أن تورد في أعترافك قضيةً ما: فأجابه الشاب: أي نعم يا أبي أنا الآن أفتكر بأني ما أكملت الطاعة الى رئيس الدير حينما أمرني بجمع الوسخ المكنوس، وبرفعه من الأرض. فأنا الآن أعترف بهذا تائباً ونادماً: فحينئذٍ القديس حله من هذه الزلة، وفي الحال حصل الفتى على تغيير عظيم، اذ أن الشياطين هربوا، وظهرت والدة الإله مع يسوع المسيح. وهكذا غويدوس مملؤاً من الفرح والتعزية فارق هذه الحياة.* الخبر 88:قد سطر في المينولوجيون فيما بين قديسي شهر آب المختصين بالرهبنة الكامالدولازية، عن راهبةٍ من تابعات هذا القانون أسمها مريم، كانت في مدينة طولادوس. أنها في ساعة موتها حصلت على مشاهدة والدة الإله بالقرب من سريرها. وحينئذٍ هي خاطبت هذه الأم الإلهية قائلةً: ان النعمة التي فزت أنا بها منكِ أيتها السيدة، وهي زيارتكِ إياي تعطيني الجسارة على أن ألتمس منكِ نعمةً أخرى، وهي أني أموت في مثل الساعة عينها التي أنتِ فيها رقدتِ وأنتقلتِ الى السماء. فأجابتها البتول الكلية القداسة: أي نعم. وانا أريد أن أتنازل معكِ وأهبكِ طلبتكِ، فأنتِ مزمعةٌ أن تموتي في الساعة عينها التي مثلها أنا مت، وتسمعي نغمات التراتيل ذاتها التي بها كان الطوباويون يعظمون دخولي الى السماء، فأستعدي اذاً مهيأةً: قالت هذا وغابت عنها. فالراهبات الكائنات عند مريم المذكورة اذ سمعنها تتكلم في ذاتها ظنينها ساهيةً خارجةً عن الوعي. الا أنها قد أخبرتهن بالرؤيا، وبالنعمة التي نالت هي الوعد بها. فاذا لبثت هذه البارة منتظرةً تلك الساعة المرغوبة منها. فلما بلغت (ولئن لم يكن الكاتب يعين أية ساعةٍ كانت) فحالما هي سمعت ناقوس الساعة يقرع قالت: هواذا الساعة السابق الإيعاز عنها حسبما قيل لي، وهوذا أني أسمع نغمات تراتيل الملائكة. ففي مثل هذه الساعة صعدت ملكتي الى السماء، وأنا الآن منطلقةٌ لأشاهدها، فالبثن أنتن يا أخواتي بسلام: وحين تلفظت بهذه الكلمات سلمت نفسها مائتةً. وفي الحال ظهرت عيناها نظير مصباحين تنبعثان أنواراً عظيمةً، ووجهها كان يلمع بلونٍ بهي.* الخبر 89:قد كتب سوريوس المؤرخ تحت اليوم الثاني والعشرين من شهر نيسان، بأنه قد كانت في مدينة سانس من بلاد فرنسا عائشةً نحو الجيل الثامن القديسة أوبورتونا الأبنة المولودة من دمٍ ملوكي. فهذه البتول البارة قد ترهبت في ديرٍ قريب من المدينة المذكورة وكانت هي كلية التعبد لوالدة الإله، فلما جاءت ساعة موتها، قد ظهرت لها القديستان كيليكيا ولوكيا، فقالت هي لهما: فليكن قدومكما خيراً يا أختي. فأخبراني ما الذي أرسلت تقوله لي بواسطتكما ملكتي العظيمة: فأجابتها القديستان قائلين: أنها هي تنتظركِ في السماء لتمضي إليها. فبعد ذلك قد ظهر لها الشيطان، الا أن القديسة المتشجعة قد طردته من أمامها قائلةً: أيها الوحش الشنيع ماذا لك عندي، وما هو عملك نحوي أنا التي هي عبدة ليسوع: واذ بلغت أخيراً الساعة التي هي نفسها كانت أخبرت عن موتها فيها، قد تناولت القربان الأقدس زوادةً أخيرةً، وألتفتت نحو باب قلايتها قائلةً: هوذا والدة الإله هي آتيةٌ لتأخذني معها. فأنا أتوسل لديها في شأنكن يا أخوتي، وأستودعكن كافةً الله، لأني ما عدت بعد أشاهدكن في هذا العالم. ولما قالت هذا رفعت ذراعيها لتعانق سيدتها المجيدة، وحالاً أسلمت الروح بفرحٍ وسلام.* الخبر 90: والأخير أننا أوردنا في آخر كتابنا الملقب: بطريق الخلاص: عن الأب بولس كافارو (الذي كتبنا هناك مختصر سيرة حياته) أنه كان منذ حداثته منشغف القلب نحو والدة الإله، بنوع أن السامعين مواعظه المشتهرة، والمعترفين عنده في منبر الذمة كانوا من كيفية تكلمه عن هذه الأم الإلهي، يفهمون جيداً شدة غرامه في محبتها. فحينما حصل هو في مرضه الأخير سنة 1753 قد وجدت بهجته وتعزيته الوافرتان في نظره المتكررة وتفرسه التقوي في أيقونة هذه السيدة المجيدة الموضوعة بقرب سريره ولعظم ثقته في مراحمها، وشدة أشواقه الى مشاهدتها في السماء قبل يوم عيد نياحها. قال للحضار عنده في أول شهر آب هكذا: أن كنت أنا لا أموت قبل اليوم 15 من هذا الشهر فلن أموت أبداً: فرجاؤه بهذه السيدة المحبوبة منه في الغاية قد تم فعلاً، لأنه في 13 من الشهر المذكور رقد بسلامٍ رقود الأبرار الكريم لدى الرب.* † الدائمة بكارتها الكلية القداسة. الذي كان النجاز من طبعه في شهر نيسان سنة 1828* ونحن قد أضفنا إليه مختصر سيرة حياة مؤلفه الطوباوي *الآتي إيرادها.* |
† ملحق من المستخرج † في سيرة حياة الطوباوي ألفونسوس ليكوري المؤلف هذا الكتاب فهذا البار قد ولد في 27 أيلول سنة 1696 بكراً من أبيه البطريق يوسف ليكوري السامي شرفه فيما بين عظماء مدينة نابولي. ومن أمه حنه كافاليري إحدى شريفات مدينة برينديسي. ومن حيث أن القديسين يعرف بعضهم بعضاً. فالطوباوي فرنسيس ده أيرونيموس اليسوعي اذ جاء الى بيت هذا البطريق. وقدم إليه ألفونسوس الرضيع ليباركه، فهو تفرس فيه وتنبأ عنه بأنه كان عتيداً أن يصير أسقفاً، ويصنع أشياء عظيمةً مقدسةً في بيعة الله، وأنه يعيش لحد السنة التسعين من عمره. كما تحققت هذه النبؤة فيما بعد بالتمام. على أن ألفونسوس أظهر منذ طفوليته وحداثته تعلق قلبٍ كلي بعشق الفضائل. مجاوباً على حسن عناية أقربائه به. خاصةً والدته التي أقامت لأرشاده وتعليمه نسيبها الكاهن الجليل توما باغانوس أحد كهنة جمعية المصلى. فكان ألفونسوس منعكفاً على ممارسة العبادات، باغضاً الخطيئة العرضية فضلاً عن المميتة بغضاً كلياً، مثابراً على أقتبال الأسرار المقدسة أكثر من مرةٍ واحدةٍ في كل سبتٍ. متجنباً في أحاديثه كل ما لم يكن مختصاً بالله وبالفضيلة. محباً للصمت والأنفراد ليتحد مع الله بالروح أشد أتحاداً، صائراً نموذجاً مقدساً لأخوته الأصغر منه، ولخدام العيلة، ولسائر الشبان قرناء جنسه بأنذهال كل من كان يشاهده. مصرفاً الزمن الباقي له خارجاً عن أوقات درس العلوم (عند المعلمين المرتبين له من والده في داره عينها) في الصلوات وزيارة الكنائس، لا سيما المكرسة على أسم والدة الإله الكلية القداسة.* وأما كم كانت جودة عقله عظيمةً، وحذاقة فهمه فريدةً، ونجاحه في العلوم البشرية والشرائع المدنية والفصاحة وعروض الشعر والموسيقى كلياً. فهذا يعرف من برهان حصوله في اسنة السادسة عشرة من عمره. بفحص جمعية علماء مدنية نابولي وحكمهم، على خلعة ختام الدرس بنوعٍ أذهل الجميع. وبعد سنتين أخرتين أكتتب هو في جمعية العلماء المذكورة. التي اذ كان من عادة أفرادها، فيما بين الرياضات الروحية الأخرى، أن يخدموا المرضى. فهو في أتقان هذه الفضيلة أيضاً قد فاق على الجميع. ومع أنه نظراً الى طبعه قد كان حاراً مائلاً الى سرعة الغضب، فمع ذلك قط لم يسلم ذاته لأنفعال هذا الألم. كما أن عيشته في حال كبر مقام أهله بين عظماء الدهر، لم تصده عن التقدم يوماً فيوماً في كمال الفضائل السامية. حتى أن العبد الذي وضعه له أبوه خادماً خصوصياً، وكان هو أمَمِياً، فلأنذهاله من سيرة سيده هذا الشاب المقدسة قد آمن بالمسيح، وأصطبغ وعاش بطهارةٍ، ومات بصلاحٍ.* فلما بلغ ألفونسوس الى السنة 26 من عمره، قد أعتمد الأعتماد الأخير، بعد الأمتحانات وأخذ رأي مرشده الروحي، على أعتناق الدعوة الأكليريكية، من دون أن تقدر على تغيير عزمه ممانعات والده الكلية. ومن ثم تنازل هو تنازلاً مدنياً شرعياً عن حق بكوريته (المرتبط معها ميراث كل غنى والديه الواسع) وفك خطبته مع عروسته الأميرة براسيكيو. ورفض آمال الوظائف الشريفة الملوكية المهيأة له. وتردى بالأثواب الكنائسية، وأرتسم بالدرجات لحد الدياكونسية من الكردينال بينياتالي رئيس أساقفة نابولي. وحينئذٍ شرع في درس علم اللاهوت، والكتاب المقدس، وتأليفات الآباء القديسين اليونانيين واللاتينيين. مهتماً بنوعٍ خاص في البحث عن الطرائق التي بها كان يمكنه أن يجتذب الخطأة الى التوبة، ولذلك شرع يمارس الوعظ في الكنيسة. الأمر الذي اذ كانت مرافقته نموذجات فضائله السامية. فالأثمار الروحية التي حصل عليها شعب هذه المدينة المتقاطر لأستماعه كانت عظيمةً جداً. ولذلك الكردينال المذكور اذ رسمه كاهناً سنة 1726 وهي الثلاثون من عمره. قد أقامه بوظيفة مرشدٍ عام لعمل الرياضات الروحية للأكليروس. الذين بالأمتحان قد أختبروا فيه بأنذهاشٍ، سمو العلم، وحرارة الغيرة، وعظم الفطنة، مع سائر صفات المرشدين الفريدة المقترنة مع سيرةٍ ملائكية، وعنايةٍ عادمة الملل. الا أن أتعابه هذه الشديدة التي صدرت عنها فوائد فائقة الوصف للأكليروس والشعب، بأرتداد الخطأة الى طريق الرب، وبتمسك الكثيرين بالسيرة الروحية الفاضلة، حتى أن عددا ليس بقليل من البنات قد فسخن عهود الخطبات مع عرسانهن، ودخلن في أديرة الراهبات مكرساتٍ بتوليتهن لله، قد أوصلته الى أن ينطرح مريضاً بخطرٍ مبين على فقد حياته.* فلما برأ ألفونسوس من المرض، ومارس صحبة البعض من رفاقه آباء جمعية الرسالة الرسولية الرياضات الروحية لسكان مدينة سكالا، أجابةً لتوسلات راعيهم. فهناك أتضحت لديه أرادة الله، بواسطة إحدى راهبات دير المخلص الكائن في المدينة المذكورة، الشائعة الذكر وقتئذٍ بالقداسة، في أنه يؤسس جمعيةً قانونيةً، تكون غايتها الأخص العناية في تعليم واجبات الإيمان والديانة والسيرة المسيحية للفلاحين القاطنين في القرى والمزارع. الأمر الذي في الأول لم يقبله ألفونسوس لعمق تواضعه، ولأعترافه بذاته غير كفوءٍ له، الا أنه أخيراً أعتمد عليه تبعاً لمشورة الأبوين الجليلين توما باغانوس ولودوفيكوس فيوريلو، وثقةً بمساعدة السيدين أسقفي كاستالاماره وسكالا. وهكذا أسس هو الجمعية المذكورة ملقباً إياها: بجمعية الفادي الكلي القداسة. التي بمقدار ما لحظ العدو الجهنمي عظم الخير العتيد أن يحصل للأنفس من قبلها، فبأكثر من ذلك حرك ضد البار مؤسسها الأضطهادات والممانعات، حتى من أبيه البطريق عينه، ومن الكردينال بينياتالي نفسه. ولكن الطوباوي قد أنتصر بعناية الله على كل الموانع، والجميع أقتنعوا أخيراً ورجعوا عن مقاومته. ثم أبتدأ بهذا العمل المقدس سنة 1732 وهي 36 من عمره، وبعد أن حصل على كهنةٍ كثيرين علماء أفاضل غيورين قد دخلوا في هذه الجمعية. وصدرت عنها فوائد كلية، فالبابا بناديكتوس 14 قد أثبتها بسلطانه الرسولي في 25 شباط سنة 1749 بمديحٍ عظيم لمؤسسها. ومن ثم في أزمنةٍ غير مستطيلةٍ قد أمتدت بأديرةٍ وأناطيش في بلادٍ كثيرةٍ من ممالك نابولي وسيسيليا وإيطاليا وجرمانيا.* فقد كان هذا البار يطوف مع الآباء رفاقه لعمل الرسالة، تبعاً لتوسلات رؤساء الأماكن إليه من كل ناحيةٍ، مستخدماً لمركوبه في أسفاره جحش حقير. وكانت الشعوب تزدحم لأستماع مواعظه بالبكاء والنحيب مستوعبين خشوعاً من خطبه وأرشاداته وتعاليمه وقداسة سيرته المرافقة مراتٍ كثيرةً من جرائح فائقة الطبيعة. وكان بعد أتعابه وأعرقه الغزيرة في الوعظ ينحدر من المنبر الى كرسي الأعتراف، مقتبلاً بكل بشاشةٍ جميع المتقاطرين ليعترفوا عنده بخطاياهم، وقط لم يكن يظهر تقنطاً من هؤلاء ولو أتوه في ساعة أغتدائه أو رقاده. وأما الأوقات الباقية لذاته خارجاً عن خدمة الرسالة، فكان يصرفها في تأليف الكتب، وفي رد الأجوبة على الرسائل العديدة التي كانت تأتيه من كل جهةٍ، في طلب المشورات وحل المشاكل، ليس من العلمانيين والكهنة فقط، بل من الأساقفة أيضاً، غير مسرفٍ من الزمن برهةً ما أصلاً، لأنه كان أبرز نذراً خصوصياً في أن لا يدع ذاته عاطلاً من العمل المختص بمجد الله وخير القريب ولا حصةً ما من الزمان. بل أنه لكي يصير آباء جمعيته بعيدين عن أدنى أملٍ بالمكافأة في هذا العالم، بالتقدم في المراتب والوظائف الكنائسية، ما عدا نذوراتهم البسيطة بالفقر والطاعة والعفة والكرازة، مع قسمٍ بالثبات في الجمعية حتى الموت. قد كان أضاف الى ذلك سنة 1742 هذا النذر أيضاً، وهو أنهم لا يقبلون درجةً، أم وظيفةً، أو مرتبةً ما خارجاً عن تلك المختصة بالجمعية عينها بعيشةٍ مشاعة.* ثم أن كثرة أهتماماته وأتعابه لم تكن تميل عزمه عن أن يصرف ساعاتٍ بجملتها يومياً في الصلوات العقلية، وقد تبجن في مخيلته أستحضار الله أمامه بهذا المقدار، حتى أنه أحتراماً للحضرة الإلهية المسجود لها كان يمارس السجود له تعالى حين مشيه أيضاً، سائراً في الطرقات برأسٍ مكشوف، أو على الكثير مغطى بمنديلٍ في شدة البرد وهطل الأمطار، وبالأجمال يمكن القول عنه أنه عاش دائماً مصلياً ومتحداً بالله بعواطف الحب الشديد، حتى في أوقات أشغاله وخدمته الرسولية عينها. كما كان يظهر من رفعه عينيه بتكاثر الى السماء، ومن تنهداته المقترنة بشهائب نار الحب الإلهي. ومن مخاطباته عن الله بحرارةٍ تؤثر في قلوب سامعيه مهما كانت باردةً. ولم يكن يسمح لذاته بالنوم سوى بخمس ساعاتٍ فقط من الأربعة والعشرين ساعةً، برقاده فوق كيسٍ معبأ تبناً مرصوصاً كالصخرة، مخبأة فيه بعض حجارة، وقط لم يكن يصطلي على النار في شدة البرد، بل لكي يقوم أصابع يديه المجلدة بعض الأحيان من الزمهرير ليقدر أن يكتب، فكان يدفئها بحديد محمى في النار. وأما أكله الأعتيادي فكان الخبز مع مرقةٍ مسلوقة بها حشائش مرة بهذا المقدار، حتى أن الذي كان يفضل عنه منها لم تكن تأكله لا الفقراء بل ولا الكلاب. من شدة المرارة. ثم كان يضيف الى ذلك بعض الأثمار من الفواكهة. ممتنعاً عن أكل اللحوم والأسماك. وفي أيام السبوت كان يصوم على الخبز والماء بأكلةٍ واحدةٍ فقط. وكان يشد كتفيه على اللحم بخيشٍ، وذراعيه بسلاسل رفيعةٍ، وحقويه بزنار حديد ذي أشواكٍ حادة. هذه ما عدا آلاتٍ أخرى مستعملة منه لتعذيب جسده. ومن جملة ذلك كان يجلد ذاته يومياً لحد أهراقه الدم (مداوماً على هذه الرياضة الى أن منع عنها بحتمٍ في زمن شيخوخته) واذا أتفق بعض الأحيان أن ملابسه البيضاء تنصبغ بدمه المهرق من قبل الجلد فكان يدهن أمكنة الدم بكلسٍ مطفى لكيلا تشاهد من الغير، بل أنه مرةً ما قد جلد ذاته بقساوةٍ كلية لينجو من تجربة المجد الباطل المسببة له من مجيء الكردينال أورسيني إليه ليزوره، حتى أن أحد أعصاب فخده قد خمع بنوع أنه أستمر هو مدةً طويلةً يعرج في مشيه.* فكارلوس الثالث سلطان نابولي قد أجتهد في أن يقيم هذا الطوباوي رئيس أساقفةٍ لمدينة سالارنو، الا أنه لتواضعه رفض ذلك، وعرف أن يجد حججاً يعفي بها ذاته. غير أن الأمر لم يجر معه هذا المجرى حينما البابا أكليمنضوس 13 قد انتخبه أسقفاً لمدينة القديس أغاثي ده كوتي. اذ أن هذا الحبر الأعظم ليس فقط لم يقبل توسلاته بطلب الأعفاء، ولم يصغ الى تضرعات آباء جمعيته (لا سيما حينما البار قد أنطرح مريضاً من شدة القلق الذي أستحوذ عليه من هذا الأنتخاب) بل أنه قد حتم عليه بأمر الطاعة المقدسة بقبوله، ومن ثم ألتزم هو بان يرتسم أسقفاً على المدينة المذكورة 1762 ولكن آباء جمعيته بتفسيحٍ باباوي قد أستمروا تحت طاعته رئيساً عاماً عليهم نظير السابق، مدبراً إياهم بواسطة نائبٍ خصوصي عنه. واما كم كان عظيماً الأعتبار الذي حصل عليه هو من السدة الرسولية حينما ذهب الى روميه ليرتسم أسقفاً، فكيفي لمفهوميته أن البابا المذكور ( الذي كان يختلي معه ساعاتٍ بجملتها، ويستشيره عن قضايا باهظة) قال في أحد الأيام للسيد ماستريلي مطران الناصرة هذه الكلمات وهي: أننا بعد وفاة السيد ألفونسوس ليكوري سنحصل على قديسٍ آخر فيما بين قديسي كنيسة يسوع المسيح.* ثم انطلق هذا المغبوط بعد أرتسامه الى أبرشيته التي أقتبلته سكانها بفرحٍ عظيمٍ واحترامٍ وسيمٍ لا يمكن وصفهما. وقد حصلت هذه الأبرشية في زمن سياسته إياها على أثمارٍ روحية كلية، وتغييراتٍ عجيبة في الأكليروس والشعب، من قبل مواعظه وتدابيره وأرشاداته، ونموذجات فضائله السامية. واماتاته الشاقة. خاصةً عيشته الفقرية في القوت والكسوة والسكنى وكذلك ترجيعه الى أديرة القانونيين الصرامة القديمة. وملاشاته العوائد الرديئة وأسباب الشكوك، ساهراً على تصرفات الأكليريكيين، وعلى درس العلوم، وتأييد المدارس، وأبادة الكتب المضرة، وعلى حسن تربية المتقدمين الى الدرجات المقدسة. مجتهداً في تشييد أمكنة التقوى والأديرة والكنائس. مواظباً على صنيع الأفتقاد الأسقفي مراتٍ كثيرةً بصرامةٍ وتدقيق. جايلاً في القرى والمزارع للكرز والتعليم والأرشاد. مستعملاً في أسفاره مركوبه الأعتيادي الجحش. وبالأجمال مبيحاً كل أستطاعته في تقديس رعيته جميعها. صائراً كلاً للكل ليربح الكل. بنوع أننا لو أردنا أن نشرح مفصلاً كل ما هو مدون في كتاب سيرة حياته. عن أعماله بأسرها الممارسة منه في مدة ثلاث عشرة سنةً في سياسته هذه الأبرشية، لكان يطول بنا الخطاب. ولكن لا يليق بنا أن نضرب صفحاً عن أن نشير الى محبته بنوعٍ خاص أسعاف الفقراء والمساكين.* على أنه قد أراد أن يكون بيته مفتوحاً على الدوام لقبول أخوة المسيح هؤلاء الصغار. مقدماً لهم أحتياجاتهم من دراهم وكساوى وقوت بكل مقدرته. وفي أجتيازه الطرقات كانت الفقراء تزدحم عليه أجواقاً مقتبلين من يده الصدقات. وكان حاوياً عنده دفتر محررة فيه أسماء جميع العيلات الفقراء المستحيين أن يتسولوا، ليرسل إليهم سراً الأسعافات شهراً بعد شهرٍ بكل عنايةٍ، ملزماً خوارنة الرعية بأن يخبروه دائماً عن الناس الذين هذه صفتهم. بل أنه مراتٍ كثيرةً كان يستحضر إليه أصحاب الديون، ويتفق معهم على أن يفيهم هو نفسه شيئاً فشيئاً مالهم ديناً على تلك العيلات. ولم يكن يتغافل عن أن يزور مرتين في كل سنةٍ أمكنة المسجونين والمخصومين. ويفي بقدر أستطاعته ديونهم، ويسعف أعيالهم، مهتماً في تجهيز البنات للزيجة، وفي الوفاء للمدارس عن الشبان الفقراء ما كانوا يلتزمون به من الشهرية. وأما في الغلاء الذي حدث سنة 1764 فقد باع هو مركبته القديمة مع بغالها الموهوبة له من شقيقه، ثم صليب الصدر الأسقفي وخاتمين حبرويين أحدهما كان ثميناً جداً موهوباً له من أحد عظماء المملكة، وأيضاً أمتعة سكناه، ما عدا ما لا بد منه، ووزع أثمان الجميع على المحتاجين، مضيفاً على ذاته بالمصروف، مكتفياً بأن يقتات في كل زمن الغلاء بالخبز والمرقة لا غير. وحينما لم يكن عنده شيءٌ يسعف بع المحتاجين كانت عيناه تذرف الدموع بحرارةٍ. وكان على الدوام يحرض الجميع، ويعرفهم ألتزماتهم بأعطاء الصدقة، موبخاً بحفاوةٍ المتغاضين عن تتميم هذه الوصية حسب أستطاعتهم، وهكذا بأنعطافٍ قلبي كان يزور المرضى ويعزيهم.* الا أن الأمراض كانت تعتريه حيناً بعد حينٍ، ولكن أشدها آلاماً كان ذاك المرض الذي حدث له، من قبل يبس عرقه على جسده، في إحدى عظاته التي صنعها في كنيسة القديسة مريم فيكو المشيدة منه على أسم القديس نيقولاوس العجائبي، بنوع أنها تسع أربعة آلاف شخصاً، فقد تكبد هو أوجاع التشنج في أعضائه كلها مدة أشهرٍ عديدة بصبرٍ عجيب ووجهٍ باش مغتدياً يومياً بالقربان الأقدس من أيدي الكهنة. واذ ألتزم أخيراً بأن يسلم ذاته لفحص الأطباء الذين أحضروهم إليه من مدينة نابولي. فهؤلاء بأنذهالٍ عظيمٍ وجدوا تحت عنقه دملةً كبيرةً كادت تستحيل الى الناصور. مقذفةً موادٍ رديئة مفسودة. مع أن الحاضرين حققوا لهم أن البار لم يكن في مدة تلك الأشهر أعطى أدنى علامة توجعٍ أم تنهدٍ. من قبل ما كانت تؤلمه هذه الجمرة ألماً فائق الأحتمال. فالأطباء حكموا بأنها غير قابلة الشفاء ولكنهم شرعوا بعلاجها، والباري تعالى أشفاه منها ومن التشنج. الا أن عروق رقبته قد قصرت، بنوع أن رأسه لبث منحياً الى صدره بدون أنتصابٍ بتةً. حتى أنه حينما كان يوجد جالساً على الكرسي فكان يظهر من وراية أنه جثةٌ بلا رأس لشدة أنحناء هامته. ولذلك حينما رجع هو الى تقدمة الذبيحة الإلهية فلم يكن يقدر أن يتناول من الكأس المقدسة الا بيد أحد الكهنة، ولكنه عاد الى ممارسة الوعظ والأرشادات، من دون أن يستطيع على عمل الأفتقاد الأسقفي. الأمر الذي حركه الى أن يتوسل لدى الحبر الأعظم أكليمنضوس 14، في أن يقبل تنزله عن الأبرشية، غير أن هذا البابا قد رد الجواب برسالته له قائلاً: أن صلاةً واحدةً مقدمةً منك وأنت على فراشك من أجل رعيتك، هي أفود لها من ألف أفتقادٍ أسقفي تصنعه فيها.* فبعد أن أستمر هو مدة خمس سنواتٍ أخرى يسوس أبرشيته في تلك الحال، قد جدد التوسل لدى البابا بيوس السادس حال جلوسه في السدة الرسولية سنة 1775 في أن يقبل تنازله، الأمر الذي منحه إياه هذا الحبر إجابةً لتضرعاته، بعد أن تحقق عجزه الطبيعي، لا سيما ضعف نظره وسمعه من قبل الشيخوخة، اذ كان له وقتئذٍ من العمر ثمانون سنةً. فقد سلم هو على هذه الصورة الأبرشية. وكل ما هو مختص بها للوكلاء وودع رعيته ببكاء الجميع على فقدهم إياه، وقد أستماح لذاته على سبيل الصدقة من أمتعة الأسقفية مفرشه المعبأ تبناً، وسراجاً من نحاس، وغلاية من دون أن يطلب ميرةً سنويةً من مدخول الأبرشية كما كان يحق له. ورجع الى دير القديس ميخائيل كرسي جمعيته، في مدينة باغاني. ولكن عوضاً عن أن يستريح من أتعابه السابقة الفائقة الوصف قد أشتد حرارةً في تأليف الكتب، وممارسة الأماتات والصلوات العقلية. ولبث يمارس الوعظ في كنيسة الدير المذكور أيام الأعياد والسبوت، ويشرح التعليم المسيحي، وأستمر هكذا الى أن فقد الأستطاعة على المشي. وحينئذٍ أبتدأ أن يتناول القربان المقدس من أيدي الكهنة يومياً، ويغوص في الثاوريا مخطوفاً عن حواسه أحياناً مدة ثمان ساعات وأكثر. وقد صير أن يعمل له كرسي من خشب ببكراتٍ نظير المقعدين، ليقدر به أن يخرج من قلايته بعض الأحيان الى أورقة الدير.* فمما أوردناه حتى ههنا يمكن للقارئ أن يفهم بسهولة كم كانت عظيمةً قداسة سيرة هذا الطوباوي وسمو فضائله. فنظراً الى قداسة حياته، فقد يبان واضحاً من دلائل راهنةٍ. ومن براهين عديدةٍ مقدمة لدى ديوان مجمع الطقوس المقدس، أن هذا المغبوط قد حفظ بر المعمودية في مدة التسعين سنةً التي عاشها، من دون أن يفقده بخطيئةٍ مميتةٍ، حتى ولا ثبت عليه أرتكاب خطيئةٍ عرضيةٍ بأنتباهٍ وتقصد. واما نظراً الى سمو فضائله. فبعد أن أستمر المجمع المقدس المذكور يفحصها قانونياً عدة سنواتٍ، قد أبرز الحبر الأعظم بيوس السابع مرسومه الرسولي في 7أيار سنة 1807 في تأييد أتفاق رأي آباء هذا المجمع، وحكم بأثباتاتٍ قانونية بأن الفضائل الإلهية الإيمان والرجاء والمحبة، والفضائل الأخرى قد وجدت في هذا البار بدرجاتٍ سامية جداً، من دون أن يثبت عليه أنه خالف أحداها. أو لم يتمم واجباتها. لأنه: أولاً:من يمكنه أن يصف بكفايةٍ حرارة إيمانه المستقيم، وغيرته في المحاماة عن حقائق الأمانة الكاثوليكية بشجاعةٍ، وأستعداده الى سفك دمه من أجلها لو أحتاج الأمر، وأجتهاده في أن يبجن قواعدها في عقول الجميع كباراً وصغاراً. وفحصه البليغ على الكتب المحرمة ليستأصلها. وتأليفاته في أثبات قضايا الإيمان ودحض الأضاليل.* ثانياً:لقد كان رجاؤه بالله وطيداً ثابتاً، وثقته به عظيمةً. ولحسن أتكاله عليه تعالى قد أنتصر على جميع الصعوبات التي داهمته في تأسيس جمعيته، وعلى سائر المضادات. ولوفور ثقته بالعناية الإلهية كان يحتم بأن أديرة الجمعية تكون مفتوحةً على الدوام لكل المقبلين إليها، ولسد عوز المحتاجين، بل بهذا الرجاء الوطيد كان يستمد من الله النعم لتوبة الخطأة، ولتعزية الحزانى، ولشفاء المرضى.* ثالثاً: بأية ألفاظٍ يمكن أن تشرح حقيقة حبه العظيم لله فوق كل شيءٍ، وأتحاده الشديد به تعالى، وغيرته المتقدة من أجله، وحرارته في كل ما يختص بمجده الأعظم، وألتهاب قلبه بشهب هذه النار المقدسة في أوقات صلواته وأملاته. اذ أنه كان ينخطف غائباً عن حواسه ساعاتٍ بجملتها، بل أنه أعتيادياً كان يوجد نظير المعتريتهم الحمى، ولذلك لم يكن يطيق من الملابس الا أخفها، حتى في أزمنة شيخوخته عينها. ومن ثم حسب رأي كثيرين أنه حدث له ما كان حدث للقديس فيلبس نيري بأتقاد حرارة حب الله فيه بنوعٍ حسي فائق الطبيعة.* رابعاً:من هو كفؤٌ لأن يصف عظم غرامه في محبة القربان الأقدس، الذي منذ حداثته أعتاد على أن يتناوله بتكاثرٍ، بأستعداداتٍ كلية، وبتقدمة الشكر المرافق بسكب الدموع، مثابراً على زياراته في الكنائس ساعاتٍ عديدةً. حتى أنه ألف كتاباً خصوصياً في شأن كيفية زيارة هذا السر المسجود له، الذي لما كانت الأمراض تصده عن تقديسه فكان يومياً يتناوله من أيدي الكهنة.* خامساً: من يستطيع أن يصف حبه الشديد لوالدة الإله الكلي قدسها بعد حبه لله حباً فائقاً على كل شيءٍ، لأنه كان مغرماً كعاشقٍ بمحبة هذه السيدة العظيمة، مكرساً ذاته تكريساً خصوصياً لخدمتها وعبادتها بدالةٍ أبنيةٍ، ملتجئاً إليها في أحتياجاته كلها، فائزاً بجميع النعم التي كان يلتمسها من الله بواسطتها، ولم يكن يشبع من مدائحها وتماجيدها في مواعظه وتأليفاته وقصائده وخطباته، أو يمل من تحرضاته للناس على التعبد لها، مواظباً منذ نعومة أظفاره على زيارة أيقوناتها المقدسة يومياً، مشتركاً في أخوياتها وعباداتها، ممارساً تكريماً لها صياماتٍ عديدة، مجتهداً في أن يخترع طرائق جديدةً تجذب القلوب لمحبتها، ومن ثم لأجل أنشغافه الكلي بغرام حبها قد كني بالصواب: برنردينوس الثاني: ثم لكي يربط ذاته بأِشد صرامةٍ في عبادتها قد ألزم نفسه تحت ثقل نذوراتٍ خصوصية بأنه في كل يوم سبتٍ يصوم على الخبز والماء، وفيه يعترف بزلاته تحت حمايتها، وبه يعظ بأمجادها وينلو ورديتها. وقد شرفته هذه الأم الإلهية، بأنها ظهرت له مراتٍ كثيرةً ليس فقط بنوعٍ سري فيه أرشدته الى أمورٍ عديدة، بل أيضاً مشتهراً كما حدث له في مدينة مالفي اذ كان يعظ وأتجه بالتضرعات نحو أيقونتها المقدسة. فأنخطف عن حواسه وأرتفع بجسمه كله عن الأرض علواً، وأشرقت من أيقونة العذراء أشعةٌ عظيمة كالشمس منبعثةً منها الى وجهه، وأستمر هذا العجب أمام الشعب الغفير في الكنيسة برهة ست دقائق.* سادساً:أما عظم محبته للقريب فتظهر بكفايةٍ من الأعمال السامية التي مارسها في خير الأنفس مدة نحو ستين سنةً، بعد أرتسامه كاهناً ثم أسقفاً مما أشرنا إليه آنفاً، بالأتعاب الرسولية، والغيرة المتقدة، والأسفار المضنكة، والصدقات السخية، والأعتناء بالأيتام والأرامل والبيمارستانات وأمكنة التوقى وبزيجة البنات، لا سيما الموجودات في خطرٍ على عفتهن. ثم تتضح من حال كونه مؤسساً في بيعة الله جمعيته الكلية الأفادة للمسيحيين، خاصةً لسكان القرى والمزارع. ولكن محبته خير الأنفس قد تلألأت بأفضل نوعٍ في تألفاته الجليلة والكثيرة العدد، والمختلفة الموضوعات. والمفيدة الجميع من كل جنسٍ ونوعٍ وسنٍ ودعوةٍ ووظيفةٍ، أي للأكليروس العلماني والقانوني، وللملوك والولاة والشعب، للدارسين والأحداث والشيوخ، للعلماء والجهلاء للأبرار والخطأة، من علم اللهوت النظري والعملي، والأداب، والحق القانوني، والسيرة الصالحة، والرياضات الروحية، والصلوات العقلية واللفظية، بنوع أن عدد مجموعات هذه التأليفات قد أتصل الى تسع وثلاثين مصنفاً. مقسمةً الى نحو ماية مجلدٍ. فهذه المصنافات كلها قد فحصت من السدة الرسولية بكل تدقيقٍ وأهتمام، وأعطى عنها الحكم القانوني الأحتفالي من الصالح الذكر الحبر الأعظم البابا بيوس السابع في اليوم 14 من حزيران سنة 1803 بأثباتها ومديحها وبأنها خاليةٌ من أدنى قضيةٍ تستحق الشجب. فقد أنتشرت هذه التأليفات في الممالك والأقاليم والمدن، وأنطبعت مراتٍ عديدةً، بل أستخرج منها كتبٌ كثيرةٌ الى ألسنةٍ مختلفة، كالفرنسي، والنمساوي والأسبانيولي والتركي والأرمني (وأنا قد أستخرجت من تأليفاته هذه حتى الآن سبع مجلداتٍ الى لغتنا العربية، وهي المجلد الحاضر الذي هو أمجاد مريم البتول، وكتاب الرياضة اليومية في الحقائق الأبدية الذي طبعته مثل هذا، وكتاب التهيئ والأستعداد الى الموت، وثلاث مجلداتٍ عن: أنتصار الكنيسة الجامعة، محتوية على تاريخ الأرتقات ودحضها، ثم مجلدٌ في خدمة سر التوبة من التأليف الملقب: بأرشاد معلمي الأعترفات:) وبالأختصار نقول أن الفوائد التي حصلت عليها الشعوب من تأليفات هذا الطوباوي والعتيدة أن تجتنيها منها الناس في الأحقاب المقبلة، فالله وحده يعرف عظم مقدارها.* سابعاً:وأما الفطنة التي تصرف بها هذا المغبوط في أقواله وأفعاله. نظراً الى ذاته والى الذين كانوا تحت تدبيره. سواءٌ كان ينصح أو يحتم، يعفي أم يلزم، يرشد أو يحرض، يرسم أم يفسح، يحل المشاكل أو يقدم المشورات، يرتب العلاجات أم يستمد الرأي، يمنع الأعمال أو يوبخ، يعلم أم يدحض. وذلك في تصرفاته كلها مع العظماء أو الأدنياء، مع الرؤساء أم المرؤوسين، فقد كانت فطنةً ساميةً جداً بكل صفاتها، ويكفي القول أنه من أجلها لقب صواباً وعدلاً:" بمرشد المرشدين":* ثامناً: كم قد تلألأت فضيلة العدل في هذا المعلم الجليل الذي كان يعرف كل أحدٍ ألتزاماته، معتنياً في أن يحفظ لكل ذي حقٍ حقه، ساهراً على استقامة توزيع الوظائف لمستحقيها. غيوراً على ملاشاة الظلم والتعدي، وعلى حفظ كلما يتعلق بالعدل البدلي والتوزيعي والشرعي.* تاسعاً: من يلاحظ حسناً كم كانت فضيلة شجاعته ساميةً، في الوقت الذي فيه عاش بهذا المقدار باغضاً الخطيئة، حتى أنه كان يرتضي بأن يقطع أرباً أرباً أحرى من أن يرتكب خطيئةً عرضيةً بأنتباهٍ وتقصد. وكان يوضح لكل أحدٍ ألتزاماته من دون مراياةٍ، أو أخذ بالوجوه.* عاشراً:بأية ألفاظٍ يمكننا بنوع أبلغ مما أشرنا إليه حتى الآن أن نصف قناعته بأصوامه وتقشفاته وأماتاته ونسكه وفقر معيشته وأسهاره وسائر ما تصرف به في هذا الشأن، الأمر الذي فاق به على كثيرين من السواح والنساك أنفسهم، حتى في زمن شيخوخته عينها.* ثم ماذا يستطاع أن يقال عن سمو فضيلة طهارته أكثر من القول أنه قد حفظ زنبق البتولية مدة حياته كلها من دون أنثلامٍ بتةً، كما ثبت ذلك من براهين كلية، وقد كان شديد الأحتراس على حفظ هذا الكنز الفائق كل ثمنٍ من أدنى خطرٍ، حتى أنه قط لم يكن يحدق بنظره في وجه أمرأةٍ ما، وفي كل مدة الستين سنةً التي عاشها كاهناً وأسقفاً ما سمح أصلاً لإمرأةٍ بأن تقبل يده. ثم أنه بهذا المقدار كان تواضعه عميقاً، وبغضه المجد الباطل، والرفعة الى المراتب شديداً، حتى أنه أنطرح مريضاً من زيادة الغم حينما أنتخبه البابا أسقفاً. وأما فضيلة صبره، وأحتماله الأهانات والأفتراء وأحسانه الى من أساء إليه، ووداعته القلبية، وليونة أطباعه، وحسن تسليمه التام للمشيئة الإلهية وطاعته الكاملة للرؤساء والمرشدين، وشقفته وحنوه، وثباته الدائم على عمل الخير، وأشتهاة التألم من أجل المسيح. فهذه كلها هي مبرهنةٌ بأسهابٍ في كتاب سيرة حياته. وبالأجمال أن هذا الراعي الجليل قد وجد مزيناً بالفضائل كلها بدرجاتٍ ساميةٍ، كما تقدم القول عن أحكام الكرسي الرسولي في هذا الشأن. بل أن هذه الفضائل العظيمة قد عطفت الباري تعالى الى أن يهب عبده هذا الأمين أختصاصاتٍ فائقة الطبيعة غير أعتيادية، نظير صنع العجائب، وروح النبؤة بمعرفة العتيدات.* فنظراً الى العجائب التي صنعها الله بواسطته في مدة حياته بأنواعٍ مختلفة، مما تقدمت عنها الأثباتات الى مجمع الطقوس المقدس فرداً فرداً، بظروفها النوعية والشخصية والزمانية والمكانية، المشهود بحقائقها من أناس يوجد بعضهم حتى الآن أحياء (وأنا نفسي في مدينة نابولي وغيرها قد سمعت ذلك من فم أناسٍ كملت فيهم بعض هذه العجائب) فهي ما ينيف عن مئة أعجوبةٍ. هذا ما عدا الجرائح الأخرى العديدة جداً الموردة عمومياً. المصنوعة من الجود الإلهي بواسطته في سنين هكذا عديدة، ليس فقط مع اولئك الذين كانوا يتقدمون إليه لأخذ بركته ولنوال الشفاء من أمراضهم، في أجتيازه الطرقات والكنائس، بل أيضاً مع الذين كانوا يأتون بهم الى قلايته في أزمنة شيخوخته. فمن جملة العجائب المومى إليها هو منحه النطق للأخرس أبن أخ الكاهن كارلوس برونو. وتصحيحه ثوبه الذي قص منه جزاءاً كبيراً، ليأخذه بركةً لذاته واحدٌ من الشبان، حينما كان هو يستمع الأعترفات في كنيسة مالفي، فالجزء المقصوص بقي في يد هذا الشاب مع أن ثوب البار لبث صحيحاً بالتمام. وأخماد بمجرد رسمه أشارة الصليب المقدس لهيب نار الجبل البركاني الشهير الأسم بالقرب من مدينة نابولي، الذي وقتئذٍ قد أرتفع لسان لهيبه علواً مقدار ميلين، وأوعب قلوب الشعوب البعيدين فضلاً عن القريبين هلعاً عظيماً. وأعطاؤه من يده عينها، في كنيسة القديس ميخائيل في مدينة بغاني، الصدقة الشهرية لأحدى النساء التائبات بواسطته عن فواحشهن، في الساعة نفسها التي فيها كان هو موجوداً في مدينة نابولي. وأستماعه أعتراف أحد تلاميذه وهو متى كالافولبه في منبر الذمة ضمن بيت الرسالة، في الدقيقة عينها التي فيها كان هو يعظ في كنيسة البلد، هذا العجب قد حدث مراتٍ عديدةً مع كثيرين من تلاميذه الذين كانوا يعترفون عنده في بيوت الرسالة، وفي خروجهم حالاً وذهابهم الى الكنائس كانوا يجدونه يعظ على المنبر.* وأما نظراً الى معرفة العتيدات بروح النبؤة فقد ثبت ذلك ببراهين وشهودٍ صادقين في حوادث جزيلة العدد. فمنها هو أرساله ليلاً سنة 1764 من داره الأسقفية الى مدينة أريانوس الكاهن فابريتسيوس متقدم أكليروسها، ليخلص واليها من أيدي الشعب الذين أرادوا قتله بسبب نقص القوت من المدينة، مع أن مؤامرة الشعب على ذلك حدثت بغتةً بعد سفر الكاهن المذكور من عنده. ومنها تخبيره في مدينة مالفي إحدى النساء (التي قدمت إليه طفلها أبن ثلاث سنين ليشفيه من داء الصرع) بقوله لها بعد شفائه أبنها: أن هذا الطفل كان عتيداً أن يعيش سالماً، ويرتسم كاهناً ويكون غيوراً يكتسب للرب نفوساً كثيرة: وهذا جميعه قد كمل فيما بعد حرفياً. وكذلك تنبيهه الشعب في آخر يومٍ من صنعه الرسالة في مدينة مالفي عينها، بأنه بعد ذهابه من عندهم في اليوم التالي كان عتيداً أن يحدث لهم بحركة الشيطان سببٌ يرجعون فيه الى الخطايا، ولكن مزمعٌ أن يحل بهم الأنتقام سريعاً في اليوم نفسه بزلزلةٍ مهولةٍ، وهذا كله قد تم حقاً في اليوم المشار إليه. ثم أنه كان حين زيارته المرضى يعرف كيفية نهاية المرض سواءٌ كان بالشفاء منه، أو بالموت، مخبراً عن هذا لمن يخصه، وجميع تخبيره كان يصدق، ولئن كانت أحوال المرضى تشاهد ظاهراً بضد قوله، ولكن نحن خوفاً من الأسهاب نعدل عن إيراد حوادث أخرى كثيرة، ونأتي الى التخبير عن نهاية حياة هذا الطوباوي.* ففي 18 تموز 1787 قد أعترت هذا المغبوط حمى محرقة، ووجع البطن وحصار البول، أضافةً لأمراض الشيخوخة الموجودة فيه، هذا بعد أن كان الباري تعالى، لأزدياد أستحقاق عبده البار قد سمح بأن تلم به معركة التجارب المختلفة الأنواع، حتى بتصوراتٍ قويةٍ جداً ضد العفة، ثم باليبس الروحي، ولكن نعظم أتكاله على الله، وبأستغاثاته المتواثرة بأسمه القدوس، وبتكرار كشف ضميره لمعلم أعترافه، ثم بأقتباله القربان المقدس، قد أنتصر على ذلك جميعه، وفاز بالراحة الباطنية والتعزية العظيمة. فقد تزايدت عليه الأمراض المذكورة الى حد اليوم الأخير من تموز الذي فيه يعتقد بالصواب أنه قد تشرف بزيارة من والدة الإله الكلية القداسة، لأنه بعد أن كان هو فاقد حركات حواسه الظاهرة، فاذ قدموا إليه أيقونة هذه السيدة بالقرب من فراشه، قد فتح عينيه حالاً وتفرس فيها، وأستحال لون وجهه الى اللهيب مشعاً بأنوارٍ ظاهرة، وهكذا بعد أن كان يومياً يتناول القربان المقدس عبادةً، قد أقتبله من ذاك اليوم زوادةً أخيرةً بكل أحترامٍ وبحرارة الحب. وفي اليوم الأول من شهر آب سنة 1787 نفسها. اذ كان هو ضابطاً بيده فوق صدره الصليب المقدس مع أيقونةٍ صغيرة لوالدة الإله، فنحو نصف النهار قد جال بنظره الى السماء وأسلم الروح بكل هدوٍ وعذوبة كأنه نائمٌ. فقد كان تقاطر الشعوب من أكليروس وأرخندوس الى دير القديس ميخائيل في مدينة بغاني حيث تنيح هذا الطوباوي، وافراً بمقدار كذا، حتى أن والي المدينة في اليوم المقبل أضطر الى أن يأمر بغلق الأبواب بعد امتلأ المدينة، ليمنع الآتين من كل الجهات القريبة، والجميع كانوا يتوسلون لعلهم يحصلون على أجزاء من ملابس المغبوط، أو من الأشياء المستعملة منه، كذخائر لأحتياجاتهم، وقد كمل أخيراً أحتفال دفنه تحت الهيكل الملوكي في الكنيسة المذكورة.* ولكن قبل دفنه قد شرفه الله بصنيع عدة عجائب نكتفي هنا بإيراد واحدةٍ فقط منها، وهي شفاؤه بالتمام على الفور عندما لمس جسده، الطفل يوسف فوسكو أبن سنةٍ وبعض أيامٍ كان مدنفاً على الموت بحمى محرقة وبمرض السهال، بنوع أن الأطباء كانوا حكموا بأنه عديم الشفاء مطلقاً. الا أن العجب لم يقف عند هذا الحد، بل أن الكاهن غايطانوس فوسكو عم الطفل، اذ جاء في اليوم الثاني فرحاً ليشاهد أبن أخيه المعافى صحيحاً كمن قام من الموت، فقد دنا من هذا الطفل ورأى بيده صورةً صغيرةً كانت مرسومة فيها هيئة الأسقف المغبوط، فالطفل حالما رآها أخذها بيده وقبلها واضعاً إياها على رأسه، وغاب عن الوعي ثم رجع الى ذاته وصرخ بألفاظٍ مفسرة واضحة: أن ألفونسوس هو في السماء. مكرراً ذلك مراتٍ، مع أنه لم يكن قبلاً يفه بكلمةٍ لصغر سنه، بل أن أهل البيت أختبروا الأمر مراراً بأخذهم الصورة أغتصاباً من يد الطفل، ويبدلها بما يماثلها، فكان يستمر هو صارخاً بالبكاء الى حين أرجاع الصورة عينها، وحينئذٍ كان يبتهج ويكرر كلماته بقوله:" القديس ألفونسوس هو في السماء". ثم أن الجود الإلهي صنع بعد ذلك بواسطة صفيه هذا الطوباوي عجائب أخرى كثيرة. فمنها هو أن كارلوس فاكيو أحد المبتدئين في جمعيته قد شفي من مرض الصدر وأستفراغ الدم القتال، بمجرد وضعه في شهر آذار سنة 1787 على صدره صورة هذا المبغبوط. وكذلك يوحنا كاتولو من أرض جبل الأسد قد شفي بمسه قطعةً من أثواب البار بعد أن كان هو في حال الموت. وبمثله برأ من داء الفالج الكاهن فينجانسوس ماسارو، وغيره كثيرون، الذين نعدل عن ذكرهم حباً بالأختصار، ونكتفي بشرحٍ وجيز عن الأعجوبتين المحكوم على حقيقتهما حكماً قانونياً خصوصياً من السدة الرسولية بعد الفحص العظيم.* فالأعجوبة الأولى منهما قد كملت في شخص الأمرأة مادلينا نونتسيو من أبرشية بانافانتو القريبة من مدينة نابولي. فهذه الأمرأة اذ كانت تنتظر الموت ساعةً فساعةً، من قبيل نزلٍ دموي أحتقن في ثديها الشمال في اليوم الخامس عشر من إيلادها طفلها، فأفسد الثدي بنوع أن الجراح العلامة يوحنا أورلاندي ألتزم بأن يقطع نصف الثدي ويرسل اللحم المنتن فيدفنه في التراب. الا أن الفساد أمتد الى باقي الثدي وحصلت مادلينا من شدة الأوجاع مدنفةً على الموت بعد أقتبالها الأسرار الأخيرة، فإحدى النساء المحبات جاءت إليها بجزءٍ صغير من أثواب هذا الطوباوي، وحرضتها على أن تبلعه مع الماء وأن تضع فوق ثديها المقطوع صورته، فاذ تممت هي ذلك قد أستحوذ عليها حالاً النوم الذي لم تكن تذوق لذته في كل تلك الأيام. ثم أستيقظت في نصف الليل فرأت ذاتها معافاةً، والثدي صحيحاً تاماً يقطر منه الحليب كالثدي الآخر، بنوع أنها أخذت طفلها وبدأت ترضعه منه، الأمر الذي حينما شاع خبره في اليوم الثاني، تقاطرت الناس جملةً مع يوحنا الجراح الى مشاهدة الثدي الجديد. منذهلين وممجدين الله صانع العجائب بواسطة صفيه العظيم.* وأما الأعجوبة الثانية، فقد كملت مع القس فرنسيس أوطايانو أحد الرهبان الأصغرين. الذي منذ 18ت2، سنة 1786 كان مسقوماً بداءٍ الحمى الرديئة، وقد زاد عليه في 9أيار 1787 سعالٌ شديدٌ مدة ست ساعاتٍ وقد أستفرغ من حلقه بعد ذلك كميةً وافرةً من الدم المفسود المنتن، الذي دام يومياً يخرج من فمه بنحو أربعماية درهماً، بنوع أن الأطباء بعد علاجاتٍ كثيرة وثمينة لم تفده شيئاً، حكموا بأنه لا بد من موته في هذا الداء. فالرهبان لخوفهم من أن هذا القس يعديهم، أبتعدوا عنه سامحين بأخذه الى دار عمةٍ له متقدمة في السن، حيث بقي مطروحاً منتفخ الجسم منتن الرائحة كجيفةٍ، الى نهاية الشهر العاشر منذ أبتدأ به المرض. بنوع أنه أدنف على الموت. حتى أنه في الليل أستدعوا إليه معلم ذمته فأعترف. وأنطلقوا ليأتوه بالقربان الأقدس خلساً. فهو وقتئذٍ شعر باطناً بحركةٍ في أن يلتجئ الى الطوباوي ألفونسوس، الذي كان مضى تسع وعشرون يوماً في نياحه، فمن ثم أخذ بيده الجزء الذي كان عند عمته من قميص هذا البار، ومس به كل جهات جسده، وشرع يتضرع إليه بدموعٍ قائلاً: أيها السيد العزيز ألفونسوس، أنني الآن أريد أن أعرف أن كنت أنت بالحقيقة عزيزاً لدى الله. وأنك الآن تتمتع به في السماء، فأنا لا أريد ان أموت بهذا المرض المستكره، والمرذول أنا من أجله من الجميع، فأنت أجعلني أن أموت بأي نوعٍ آخر كان وأنا راضٍ، وأفعل هذه النعمة ليس من أجلي أنا الخاطئ، بل لأجل الحب العظيم الذي أنت أتصفت به نحو القربان المقدس، والذي به أنت أحببت مريم البتول الكلية الطوبى. وأنا أعدك أيها السيد المحبوب مني بأني متى شفيت بواسطتك، أمضي فأذيع بقداستك لدى الجميع بحسبما أنت مقبولٌ لدى الرب. وبأن أجمع الصدقات. وأشتري بها شمعاً، وأزور ضريحك في كل سنةٍ مقدماً نذري الشمع المذكور. قال هذا واخذ قليلاً من القوت ورقد مدة خمس ساعاتٍ براحةٍ، ثم أستيقظ غارقاً بعرقٍ قد نفذ حتى أسفل مفرشه. فغير ملبوسه قائلاً لعمته: أن الطوباوي قد أشفاني: ورجع فنام الى الصباح الذي هو 30 آب سنة 1787 عينها، ونهض من فراشه صحيحاً معافى، الأمر الذي أوعب قلوب الجميع أنذهالاً وفرحاً معاً، وذاع خبر ذلك في كل مكان.* فهذه العجائب وأمثالها قد صيرت الحبر الأعظم بيوس السابع أن يقتبل الألتماسات. في أنه بمرسومٍ باباوي معطى منه في 25 حزيران سنة 1803 فسح من مراسيم البابا أوربانوس الثامن، المانع تقدمة الدعاوى المختصة بتطويب أحد الأبرار قبل مرور خمسين سنةً من نياحه، وهكذا سمح بأدخال دعوى هذا المغبوط للفحص، بعد أن كان في 14 من الشهر المذكور أثبت تأليفاته كلها، كما أوردنا في محله. فلما أنتهى فحص هذه الدعوى قانونياً وأحتفالياً في مدة نحو أربع سنواتٍ، قد أبرز الحبر منشوره الرسولي في 7 أيار سنة 1807 بأن فضائل هذا البار كلها وجدت بدرجاتٍ سامية جداً، حسبما ذكرنا قبلاً، وتبعاً لهذا المنشور الباباوي أقيم الفحص على حقائق العجائب التي صنعها المغبوط بعد نياحه. الا أن الدعوى توقفت بسبب الحروب والتغييرات الزمنية، الى أن رجع الحبر الأعظم من فرنسا سنة 1814 الى روميه، وحينئذٍ آباء مجمع الطقوس المقدس بعد الفحص الكلي أعلنوا حقيقة الأعجوبتين السابق شرحهما، المطلوبتين لقانونية التطويب. والبابا بمرسومه المصدر في 17 أيلول سنة 1815 قد حكم أحتفالياً بحقيقة هاتين الأعجوبتين. وهكذا بعد أتمام رسم الفرائض الرسولية لتطويب الأبرار، قد أبرز هذا الحبر الأعظم منشوره الباباوي في 6أيلول سنة 1816 الذي بقوته قد أحصي هذا المغبوط قانونياً في عدد الطوباويين، معيناً عيده السنوي في 2آب، وراسماً لتكريمه الصلوات المدونة في الوجه التابع. وقد تمت أحتفالات التطويب بقراءة المنشور الباباوي في كنيسة القديس بطرس، في القداس الحبروي حسب الرسوم، بعظمةٍ ملوكية، وبهجةٍ عامة. وأنا حصلت على التعزية بوجودي في هذا الأحتفال العظيم.* ثم أن العجائب التي أجترحتها العزة الضابطة الكل بواسطة الطوباوي المذكور بعد الأحتفال القانوني المقدم ذكره، بأنواعٍ مختلفة حتى الآن، قد صيرت الكرسي الرسولي أن يمارس ما يختص بإحصاء هذا المغبوط قانونياً في عدد القديسين المعظمين، الأمر المباشرة الآن في شأنه الرسوم الواجبة، لأجل أصدار الحكم الباباوي الكلي الأحتفال.* فليكن هذا الشرح كافياً لأفادة القارئين ليمجدوا صلاح الله الذي أوجد دائماً في كنيسته الجامعة رجالاً هذه صفتهم، مزيناً إياهم لخير شعبه بمواهب هكذا سامية، وليكونوا نموذحاً حياً للجميع في سيرة الكمال الإنجيلي، مظهراً فيهم مفاعيل قدرته الضابطة الكل، ومبكماً بذلك أفواه المنافقين الناكرين حقائق العجائب المصنوعة منه كل حين بواسطة قديسيه. فله العزة والمجد والجبروت الى أبد الدهور آمين.* * الثلاث الصلوات التي تقال في القداس في اليوم الثاني من آب* * بموجب المرسوم الباباوي المبرز في 27 آب 1816* † الأولى تتلى بأعلانٍ قبل قراءةة الإنجيل † الذي يحيى معك، ويملك مع الروح القدس الى أبد الآبدين آمين.* † † الثانية تقال بعد ذلك سراً. † † † الثالثة تتلى جهراً بعد التناول † * ومع الروح الكلي قدسه الى أبد الدهور آمين* |
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
صلاة
للعزّة الإلهية ساعدنا لكي نُدرك إرادتك القدوّسة ونعمل بها، بشفاعة أمّنا مريم الكلّيّة الحنان، وصفيّك البار مار يوسف البتول، وجميع الملائكة والقديسين. وأن نهرُب من كل أسباب الخطيئة، لنتناولك باستحقاق وننجو من العذابات الجهنميّة والمطهريّة. فنتمتّع مع العذراء مريم الفائق قدسها وجميع القديسين بمشاهدة وجهك العذب في الحياة الأبدية. آميــن |
الساعة الآن 05:31 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025