منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=295056)

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 02:43 PM

كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
لقاء وإهداء

*إلى أبي الحبيب القمص بيشوي كامل..
الذي غيَّر نظرتنا للصليب من مجرد ظلمٍ وقهرٍ إلى حب وفخار..
الذي فجَّر لنا طاقات الحب اللانهائية من جنب المصلوب..
الذي جثا تحت أقدام الصليب فارتوى، ثم روى نفوسنا العطشى..
*منذ ثمانية وثلاثين عامًا أقبلتُ إلى الإسكندرية، وبشغف زائد ركضت إلى كنيسة مارجرجس باسبورتنج، وفي أول لقاء مع أبونا بيشوي (الذي طالما سمعتُ عنه) سلَّمت عليه وشدَّدت على يده، ولوقته أدرك أنني أُريدُ أن أقول له شيئًا، فشدَّ على يدي..
التقيت معه، وأعطاني الله حسب اشتياقات قلبي، إذ صار (أبونا بيشوي) أب اعترافي، وقد أوصاني بتدريبين، نجحتُ في أحدهما وفشلتُ في الآخر.. راق لي التدريب الأول كثيرًا وهو كتابة تأملاتي اليومية حول آية من آيات الكتاب المقدَّس، وفشلتُ في التدريب الثاني وهو التأمل لمدة عشرة دقائق يوميًا في صورة يسوع المصلوب..
هل كان قلبي أغلظًا إلى هذه الدرجة؟!..
وهل مازال هكذا؟!..
همست لأب اعترافي بإحساسي، فلم يثقل عليَّ..
*واليوم، وبعد مرور عشرات السنين اسمح لي يا أبي أن أُهديك روايتي هذه، فهي من نبع فيضك.. مُلتمسًا منك أن تمسحها بيدك المباركة التي بها شدَّدتُ على يدي من قبل، لكيما يلتقي إلهك المصلوب عنا بالقارئ عبر السطور والمشاعر والأحاسيس، وليفجر في قلوبنا طاقات الحب التي أودعها إيانا..
وإلى اللقاء يا أبي..
صلِ من أجل ضعفاتي وزلاتي وخطاياي الكثيرة.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 02:44 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
تقديم القس مقار فوزي

تقديم لقدس أبي الحبيب القس مقار فوزي:
*أبونا المتنيح القمص بيشوي كامل كاهن كنيسة مارجرجس باسبورتنج هو مدرسة للصليب. وقد حاول جاهدًا إدخال كل أولاده لهذه المدرسة، وبالفعل هو الذي علَّمنا التأمل في الصليب، وجراحات المصلوب.. وقد عاصر الكاتب أبونا بيشوي وتتلمذ على يديه، ولذلك فإنني أعتقد أن هذا الكتاب هو نتاج وثمرة لتلك التلمذة..
*يجمع هذا الكتاب بين القصة وأحداث الصليب، والتأملات والمعاني الروحية، مما يحمل القارئ إلى عمق الأحداث، ويتيح له الفرصة كاملة للتفاعل مع هذه الأحداث الخطيرة التي تمس حياتنا الروحيَّة ساعة بساعة، ولذلك أدعوك أيها القارئ الحبيب أن تقرأ هذا الكتاب.. أرجو أن تقرأه بروح التأمل، والخشوع، والجلوس تحت أقدام الصليب..
*ويمكنك أيضًا أيها القارئ الحبيب بعد أن تفرغ من قراءة هذا الكتاب بالكامل، أن ترجع إليه في أوقات أخرى لتقرأ منه فصل أو أكثر، لأن مراحل الصليب كبيرة جدًا، وأحداث الصليب ضخمة للغاية، فهي تهذب وتصقل النفس السائرة في درب الصليب..
*نشكر الله كثيرًا على هذا الكتاب القيّم، والذي اتخذ شكل الرواية إلى حد ما، وحمل لنا دفء المشاعر وحرارة الكلمة، وفيض الأحاسيس، وبذلك يمكن إضافته إلى الكتب الروحية القليلة التي كُتبت عن الصليب..
*نطلب من الرب يسوع المصلوب أن يكون هذا الكتاب سبب بركة وتوبة ولقاء مع المصلوب.. وأن يعوض الكاتب الذي يتعب كثيرًا في كتاباته (موسوعة اقرأ وافهم) منتظرًا الأجر السمائي من الله فقط.
ببركة وصلوات مارمرقس والأنبا بطرس
وصلوات أبينا قداسة
البابا شنودة الثالث
القس مقار فوزي

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 02:47 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
الفصل الأول: إلى المنتهى

أورشليم مدينة الملك العظيم متألقة على ربوة عالية مثل عروس مزينة لرجلها، تحيطها الأسوار المنيعة، وتتزاحم وتتناثر على أرضها البيوت المنخفضة والتي لا تتعدى الدورين، وشوارعها غالبًا ضيقة، ماعدا بعض الأحياء الراقية التي حوت في أحشائها بعض القصور مثل قصر رئيس الكهنة وبعض الشخصيات الهامة، ولكن ما يُميّز أورشليم عن أي مدينة أخرى أنها ضمت في أحضانها هيكل رب الصباؤوت حيث تقدم الذبائح لله العلي، وخارج الهيكل يستحيل على أي إنسان يهودي أن يُقدم ذبيحة لله، ومن أجل هذا جاء يهود الشتات من مصر وروما وأسبانيا وشتى بقاع الأرض للاحتفال بعيد الفصح وعيد الفطير، فقد حتمت الشريعة على كل ذكر يافع أن يصعد إلى أورشليم ليترآى أمام الله في مثل هذه الأعياد، حتى لو كان يعيش بعيدًا عن أورشليم واحتاج لثلاثة أشهر للوصول إليها، وكان هناك اعتقادًا سائدًا لدى اليهود وهو أن المسيا الآتي إلى العالم سيخلصهم في عيد الفصح، فبالإضافة إلى أن عيد الفصح يحمل ذكرى النجاة من الموت والخلاص من العبودية المرَّة، فهو يحمل أحلام بني إسرائيل في ظهور المسيا الذي يعيد إليهم حريتهم المفقودة ويخلصهم من الاحتلال الروماني، وعيد الفصح هذا العام له طعم خاص لدى بني إسرائيل، لأن البشارة بيسوع نبي الجليل صانع المعجزات العجيبة انتشرت وعمَّت البلاد، فلعله هو المسيا المنتظر؟! ولعله يصنع خلاصًا في عيد هذا العام..
ولم تتسع المدينة للوافدين، ومحظوظة هي الأسرة التي تجد لها حجرة صغيرة أو ركن على أحد الأسطح داخل المدينة، أما الذين ليس لهم مكان فقد أعدُّوا أنفسهم،إذ أحضروا معهم الخيام التي راحوا يقيمونها خارج الأسوار فوق المروج الخضراء، ويقع عبء حفظ النظام والأمن وسط مئات الألوف على بيلاطسوالي اليهودية، الذي اضطر إلى ترك قصره في قيصرية والإقامة في أورشليم، كما أستدعى بعض الكتائب العسكرية للمساعدة في حفظ النظام بالإضافة لآلاف الجنود المعسكرين بأورشليم وبالأخص في قلعة أنطونيا.. كان بيلاطس يقيم كل عام في جناح من قصر هيرودس،أما هذا العام فبسبب الخصام الذي شب بينهما، فقد أقام في قلعة أنطونيا المشرفة على الهيكل.
وكان هناك مناجاة من الشعب نحو يسوع نبي ناصرة الجليل.. هل سيأتي إلى العيد؟! لقد أظهر من القوة والقدرة والجبروت ما لم يظهره أحد من قبل حتى البحر والرياح يطيعانه، وبالأمس القريب - منذ عدة أيام - نادى لعازر من مدينة الأموات بعد موته بأربعة أيام، فنفض الميت تراب الموت واستقام مجيبًا النداء وخرج من القبر مربوطًا، فقال للذين حوله من التلاميذ حلوه ودعوه يمضي، واليوم الأحد دخل يسوع المدينة بموكب عجيب وديعًا متواضعًا راكبًا على أتان وجحش ابن أتان ففرشوا ثيابهم على الطريق، وحمل الكثيرون سعف النخيل وأغصان الزيتون وهتفوا له " هوشعنا.. هوشعنا في الأعالي.. مبارك الآتي باسم الرب.. مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب.. أوصنا في الأعالي " حتى الأطفال لم يكفوا عن الفرحة والهتاف فارتجت المدينة أورشليم، ولكن عندما دخل الهيكل لم يسرَّ به، لأنه تحوَّل من بيت للتوبة والصلاة والتماس وجه الله إلى مكان لتجارة المواشي والخراف والحمام بحجة تقديمها للذبائح، وجلس تُجار العملة يمارسون عملهم، وبرع حنَّان رئيس الكهنة الأسبق في تقسيم وإدارة المكان، فكل شبر في فناء الهيكل له قيمته، وغضب السيد ورفع سوطه فارتعب الجميع وفروا من أمام وجهه هاربين، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وهو ينتهرهم بشدة " مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص".. لقد طهَّر الهيكل، ولم يدع أحدًا يجتاز بمتاع، وجلس يُعلّم الخراف التي بلا راعٍ لها، ويشفي المرضى. أما حنَّان وقيافا رغم الحقد والغل الذي ملأ قلوبهم مع بقية القيادات الدينية، لكن واحدًا منهم لم يجرؤ أن يتعرض له أو يراجعه فيما عمله.. كل ما فعلوه أنهم تهامسوا فيما بينهم.. من أين له هذا السلطان..؟! العالم كله ذهب ورائه.. لابد من القضاء عليه في أسرع وقت ممكن. أما يسوع فقد أمضى يومي الاثنين والثلاثاء يُعلّم طوال النهار في الهيكل حتى عاد للهيكل قدره ومجده، وبالليل كان يبيت في قرية بيت عنيا مع تلاميذه، ورغم أن الحاقدين حاولوا أن يصطادوه بكلمة ليحكموا عليه لكن دون جدوى.
اليوم الخميس (الكبير) وبالأمس حدثت خيانة في أورشليم لم ترَ المدينة مثلها من قبل.. لقد ذهب يهوذا تلميذ يسوع وأحد الاثني عشر تلميذًا إلى رؤساء الكهنة الذين كانوا قد أصدروا منشور مجمع السنهدريم "من يعرف أين يسوع فليدل عليه".. يا للعار.. لقد ذهب يهوذا من ذاته يعرض عليهم أن يُسلّم إليهم يسوع في المكان المناسب وفي الوقت الملائم، وفي ذات اليوم الذي فاحت فيه رائحة الخيانة فاحت فيه أيضًا في بيت عنيا رائحة الطيب، إذ خلال جلسة هادئة للمعلم وتلاميذه، أذابت مريم أخت لعازر مشاعرها في قارورة طيب كثير الثمن اشترتها بتحويشة العمر، وسكبتها على رأس المعلم الذي أعاد لها أخيها من الموت، وهي لا تعلم أنها بهذا الطيب كانت تُكفّن يسوع وهو مازال حيًّا، بينما عاد يهوذا من حيث كان، ولو سأله المعلم: من أين يا يهوذا؟ لأجاب كذبًا: لم يذهب تلميذك إلى هنا أو هناك..
سألا بطرس ويوحنا المعلم: أين تريد أن نعد لك لتأكل الفصح؟
فالمعلم ليس له أين يسند رأسه، وتلاميذه تشبهوا به، إذ تركوا بيوتهم وأسرهم وتبعوه.. كان الفصح يجمع شمل الأسرة الواحدة، وكوَّن المعلم مع تلاميذه أسرة من طراز جديد لا تقوم على رباط الدم إنما تقوم على وحدانية الروح الواحد، ولهذا حق لهم أن يأكلوا الفصح معًا، ولكن أين وليس لهم مقرًا على هذه الأرض؟
لم يشأ يسوع أن يجيبهم بصراحة أمام يهوذا الذي يتحيَّن فرصة لتسليمه، ولذلك أجابهم بلغز خُفيَّ عن يهوذا، حيث قال لهما: " اذهبا إلى أورشليم وإذا دخلتما المدينة تجدان إنسانًا حاملًا جرة ماء. أتبعاه إلى البيت حيث يدخل.. وقولا لرب البيت يقول لك المعلم أن وقتي قريب. أين المكان حيث آكل الفصح مع تلاميذي. فيريكما علية كبيرة مفروشة فهناك أعدَّا لنا ".
وكانت هذه علامة كافية لأن الذي اعتاد حمل الجرار النسوة والشابات، وقال يهوذا في نفسه: ما معنى قول المعلم أن وقتي قريب..؟! هل يشعر بروحه أن نهايته قد صارت وشيكة.. ربما تكون هذه إرادة الله وعليَّ أن أُتمّمها سريعًا.. ليساعدني الله لإتمام هذه المهمة الشاقة.
والآن نحو السادسة مساء وهوذا المعلم العالم بالخفايا يقطع الرحلة مع تلاميذه العشرة من بيت عنيا إلى البيت الذي سيصنع فيه الفصح الأخير.. تقدم يسوع المسيرة طويل القامة، ممشوق القوام، وقد فرقَ شعره من منتصف الرأس، وتدلَّت خصلات شعره على منكبيه، وجهه يشرق بالحبِ كشمس لا تغرب، وعيناه سوداويتان تموجان بالنشاط والحيوية.. إنه حقًا أبرع جمالًا من بني البشر، وسار المعلم في صمتٍ، فالصليب يدق الأبواب، وغدًا ستقطر دمائه على أراضي أورشليم وخارجها.
سارت الجماعة في الطريق الترابي من بيت عنيا قاصدة، أورشليم وتعفرت أقدامهم بتراب الطريق، ومروا على الخيام التي تكاد تكون متلاصقة، ورائحة الطعام تتصاعد وتنتشر، والفتيات يلعبن، والنسوة يثرثرن، وجلس الرجال يتسامرون، وأكثر ما شدَّهم هو الحديث عن أمجاد المسيا الآتي، فالنسر الروماني الجاثم على مدينتهم جعلهم أشد ظمأ للحرية وأكثر اشتياقًا للمسيا، ودخلت الجماعة إلى شوارع أورشليم التي رُصفت بالحجارة، وقد ازدحمت جدًا، ورغم أن يهود أورشليم يشعرون بالاستعلاء على يهود الشتات الذين قد يعرفونهم من ملابسهم، ولكن الفرحة بالعيد عمَّت الكل، فصارت القلوب منشرحة والوجوه مستبشرة، ومع أن اليهود قد اعتادوا عدم التحديق في وجوه الغرباء، ولكن شهرة نبي الناصرة لفتت الأنظار فصارت النظرات تلاحقه.. ألعله هو المسيا؟! ولو كان المسيا لِمَ خذلنا يوم الأحد الماضي ولم يُنصّب نفسه ملكًا علينا؟!
ونظر المعلم إلى تلك المدينة التي طالما أحبها نظرة الحب والإشفاق، فكم أغدق عليها من حبه وحنانه ولكنها رفضته بجفاء، فأعطته القفا لا الوجه، والتزم المعلم جانب الصمت، فهو لا يريد أن يبيح بمشاعره الخفية لخواصه المحبوبين حتى لا يُحمّلهم ما لا يحتملون، فهو معلمهم وأبوهم ورجاؤهم وكل شيء في حياتهم بعد أن تركوا كل شيء - فعلًا كل شيء - وتبعوه. أما التلاميذ الذين يتابعون الأحداث، وتصلهم الأخبار تباعًا، يعلمون أن غضب القيادات الدينية لن يهدأ حتى يدخل في مواجهة دموية مع معلمهم، وقد يفضل غالبًا التصفية الجسدية كعادتها، وبدأوا يشعرون أن هناك عاصفة عاتية تقف على الأبواب، ولكنهم لم يتصوَّروا أنهم في هذه اللحظات يقفون على أعتاب هذه العاصفة، فهل سيستخدم السيد سلطانه الذي أخضع به من قبل البحر الهائج، وهل سيعصف بهذه العاصفة الهوجاء؟!
ولم يكن للتلاميذ القدرة على رؤية سطانئيل وهو يُجيّش جيوش الشر من شياطين ويهود ورومان، في جلبة وضوضاء ومظاهر زيطة وهيصة، يمنُّون أنفسهم بالصيد الثمين الذي أوشك على السقوط بين أيديهم، ولم يسمع التلاميذ الشرير وهو يتنهد قائلًا:
متى أقبض على روحه وأُودعها سجن الجحيم؟
لكم أتعبني وأجهدني هذا الإنسان.. هل تصل به الجرأة إلى طرد ملائكتي من سكنى البشر؟!
نعم.. لم أنجح للآن في إسقاطه في خطية واحدة بالفعل ولا بالقول ولا بالفكر، ولكن بعد قليل سيكون في قبضتي، ومن يفلت من قبضتك ياسطانئيل؟!
ولم يكن للتلاميذ قدرات خارقة تميزهم عن غيرهم، بل كانوا من بسطاء الناس،ولكل منهم ميوله الخاصة، ومعظمهم من صيادي السمك بالجليل، وإن كانوا يفتخرون بمهنتهم في جليلهم، ولكن يهود أورشليم يتأففون منهم إذ يحملون رائحة السمك وأعشاب البحر في ثيابهم المبتلة. أما في هذا اليوم فإنهم جميعًا يرتدون ملابس العيد وتنساب لحاهم على صدروهم، وتنسدل شعورهم على أكتافهم، وغالبًا لكل منهم أكثر من اسم. كان فيهم بطرس وشقيقه أندراوس، ويعقوب ابن زبدي ويوحنا شقيقه، كما إن هناك أسماء مشتركة، فاثنان منهم باسم يعقوب هما يعقوب بن حلفا ويعقوب ابن زبدي، واثنان باسم سمعان هما سمعان بطرس وسمعان القانوي..
وكان من الاثني عشر وأكبرهم سنًا "يهوذا الإسخريوطي" الذي كان يبدو دائمًا قلقًا متوترًا، وهو أمين الصندوق الذي يحتفظ ببعض الأموال في الصندوق ويخفي بعضها في كيس يحفظه بين طيات ملابسه، وللأسف فإن يهوذا صرف جل اهتمامه في الأمور المالية من إيرادات ومصروفات وأرصدة، وفي زحمة اهتماماته لم يهتم بتعاليم المعلم، فبدأت الخطية تزحف نحوه شيئًا فشيئًا.. فلم يشعر بها، أو قل أن الشيطان نسج شبكته حول ذاك التلميذ المهم فتلة فتلة، فصارت الخطية في قلب يهوذا كحيَّة رقطاء رابضة تحت صخرة تفرز سمومها حتى أسودَّ ذاك القلب الأبيض الذي اختاره يسوع تلميذًا له، ولم يسعَ يهوذا للتحرر من تلك الخطية، بل انصرف تمامًا عن تعاليم سيده، وإن سمعها بحكم تواجده في صحبة القديسين فأذن من طين والأخرى من عجين، وصار التلميذ يتحاشى النظر في عيني معلمه.
وكان من الاثني عشر أيضًا " بطرس " أكبر الرسل بعد يهوذا، واسمه سمعان باريونا أو سمعان بن يونا، ودعاه المعلم صفا أي صخرة وباليونانية بطرس، وهو دائمًا التلميذ الغيور على معلمه وعلى إخوته، يتمتع بصوت جهوري وقلب متسرع يقوده دائمًا إلى الاندفاع، حتى أن معلمه الرقيق رقة نسمة الربيع اضطر ذات مرة أن يزجره بشدة قائلًا " اذهب عني يا شيطان ".
ومن بين الاثني عشر عشارًا يُدعى " لاوي "، وكان مثل أي عشار آخر قاسي القلب مستبيح لأموال الأرامل واليتامى، وعندما التقى به المعلم منذ ثلاث سنين قال له " أتبعني " فترك مكان الجباية وتبعه، وأعطاه اسمًا جديدًا " متى "، ورغم أنه تعلَّم في مدارس الربانيّين فأجاد القراءة والكتابة والرياضيات، إلاَّ أن السيد لم يشأ أن يوكل إليه أمانة الصندوق.
أما " توما " فهو قلقًا بعض الشيء، يعتمد على المحسوسات والأدلة الملموسة في أمور حياته، ويتمتع توما بروح المغامرة، حتى أنه عندما سمع أن لعاز قد مات والمعلم سيذهب إلى اليهودية حيث مكمن الخطر قال: لنذهب إلى هناك، لنموت معه.
أما أصغر التلاميذ فهو " يوحنا " الذي كان ملاحقًا ملاصقًا لمعلمه في خطواته وفي جلساته، في حركاته وسكناته، ودائمًا عيناه ترنو إلى المعلم فتترأى له الأزلية مع الأبدية، فيقف مشدوهًا أمام السرمدية، وقد يكون يسوع قد كُشف له بعض الأسرار، فسر الله لخائفيه.
ووصلت الجماعة إلى بيت أرسطوبولس والد مرقس، وخرج رب البيت مع مريم زوجته وابنه مرقس يلاقون المعلم وتلاميذه بالبشاشة والترحاب، وصعد المعلم مع تلاميذه العشرة إلى العلية الكبيرة المفروشة حيث كان بطرس ويوحنا قد سبقا وأعدَّا كل شيء، وكان من شروط أكل الفصح أن يتراوح العدد بين عشرة وعشرين نفسًا، وهذا ما توفر لهذه الجماعة فهي ليست في حاجة إلى الانضمام لجماعة صغيرة أخرى، وكان الفصح يُذبح بعد غروب شمس يوم 13. نيسان أي في الساعات الأولى لليوم الرابع عشر، لأن اليوم اليهودي يبدأ من غروب شمس اليوم السابق وينتهي بغروب شمس اليوم، وبسبب أهمية عيد الفصح صار شهر نيسان - وكان يُدعى قبل السبي بشهر أبيب - أول شهور السنة العبرية، ويقابل الجزء الأخير من شهر مارس والجزء الأول من شهر أبريل، وفي هذا العام كان اليوم التالي لعيد الفصح هو يوم السبت، لذلك انقسم اليهود إلى قسمين، قسم الفريسيّين المدقّقين الذي حافظوا على ميعاد الفصح ليكون غدًا الجمعة 14 نيسان، وذبحوا الفصح بعد غروب شمس 13 نيسان، وفي هذا الوقت أكل المعلم الفصح مع تلاميذه. أما الصدوقيون ومن بينهم رؤساء الكهنة فقد احتفلوا بعيد الفصح يوم السبت 15 نيسان، وذبحوا الفصح بعد غروب شمس 14 نيسان في الوقت الذي سيملك فيه السيد على عرشه، وكان الفصح يُذبح بين العشائين.
والآن هوذا الحمل قد ذُبح ووضع في سيخين متعامدين ويشوى على نار هادئة، ورائحة الشواء تعبق المكان.. رفع بطرس ويوحنا الحمل من على النار ووضعاه على المائدة، وهتفت الجماعة " الرب إلهنا إله واحد "، وجلسوا حوله فجلس يهوذا أكبر التلاميذ سنًا على يمين المعلم طبقًا للطقس السائد حيث كان يجلس الابن الأكبر والممثل الشرعي للأب عن يمينه. أما يوحنا بن زبدي أصغرهم سنًا فجلس عن يسار المعلم، فكان أقربهم إلى نبضات قلبه، ويبدو أنه قد حدثت مشادة بين يهوذا وبطرس عمن هو أحق بالجلوس عن يمين المعلم، ويبدو أن الفضة التي زواها يهوذا في جيبه ثمن الخيانة لم تحرق ضميره ولم تكسر نفسه.. آه لو تأمل ذاك التلميذ في قطعة من الفضة المسبوكة ربما عاد إلى وعيه، فقد نُقش على أحد وجهي العملة غصن زيتون علامة السلام، وعلى الوجه الآخر صورة مجمرة رمز العبادة وأسفلها "أورشليم المقدَّسة".. فأين السلام والعبادة وأورشليم المقدَّسة من الخيانة المرَّة؟! إنه يصبوا إلى مكاسب الأرض ويود لو يحتفظ بنصيبه السمائي، وهيهات له هذا..!! تصوَّر أنه سيتمتع بالمال الحرام مع ميراث السماء، ولم يتصوَّر أن يومه أصبح وشيكًا على المغيب، ونجمه بات قريبًا من الأفول. أما يوحنا فقد رَكَن إلى رُكن وهو مستريح البال، فلا يوجد من ينافسه عليه.
وكانوا في القديم يأكلون الفصح وهم وقوف وأحقاءهم مشدودة ليتذكروا لحظات انطلاقهم من أرض العبودية. أما الآن فأنهم يأكلونه وهم متكئون علامة على أنهم مَلكوا أرض الموعد، وكان على المائدة طبق به محلول الملح والخل تُغمس فيه الأعشاب التي تُذكّرهم بعبودية فرعون، وصَحفة بها حساء من فواكه التين والبلح الأحمر وقشور القرفة، وجميعها بلونها الأحمر يذكرهم بالأجر (الطوب الأحمر) الذي كان يصنعونه في مصر تحت وطأة رؤساء التسخير.
وهنا، والآن نقطة اللقاء بين الرمز والمرموز إليه، فالرمز الذي ظل نحو خمسة عشر قرنًا منتظرًا رفع صوته أخيرًا ليرحب بالمرموز إليه: أأتيت الآن يا حمل الله الحقيقي؟!.. كم انتظرناك قرون وقرون؟..
كنا أنا وأخوتي نشير إليك، ولكن لم يفلح أحد منا قط أن يؤدي رسالتك في الخلاص ومغفرة الخطايا.
وشكر الحمل الحقيقي الحمل الرمز الذي أدى واجبه حتى هذه اللحظة قائلًا: بعد ساعات أجوز نيران الألم وعذابات الصليب، ويُصفى دمي قطرة قطرة فيرضى الآب عن البشرية.. أتدري أيها الحمل.. أنك ذُبحتَ بجرة واحدة من شفرة حادة فما كدت تشعر بالألم، أما أنا فإنني سأتحمل الألم إلى أقصى مداه.. أتعلم أيها الحمل الوديع.. أن كل من يسوقه قدره إلى الصليب يشتهي من كل قلبه أن تُقبض روحه قبل أن يدق مسمار في جسده، أما أنا فسأتحمل عذابات الصلب التي لا تطاق.. النيران التي اختبرتها أيها الحمل وأنت مذبوح سأجوز فيها وأنا حي..
ثم التفت يسوع لتلاميذه وقال لهم:
شهوة اشتهيت أن آكل معكم هذا الفصح قبل أن أتألم. إني أقول لكم إني لا آكل منه بعد، حتى آكله جديدًا في ملكوت الله..
وبحسب التقليد السائد أمسك المعلم بالكأس الأول من عصير الكرم، وشكر الله على ثمار الحقل، وأعطى تلاميذه قائلًا:
مبارك أنت الإله الأبدي الذي فديت الشعب. مبارك ملك الوجود، خالق ثمار الكرم.
ثم خلط الكأس بالماء، بينما تقدم يوحنا أصغر الموجودين بالسؤال التقليدي للمعلم:
لماذا يا معلم تختلف هذه الليلة عن أي ليلة أخرى؟
فقص يسوع قصة التحرُّر من عبودية فرعون والفداء بالدم، ولكنه قصَّها بطريقة جديدة جعلت أندراوس يتذكر قول معلمه يوحنا المعمدان عن يسوع " هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم كله " وسبَّحت الجماعة الجزء الأول من الهاليل (مز 113، 114).. وشكر المعلم، ثم قدَّس الكأس الثانية، وبعد هذا أخذ المعلم كسرتين من الخبز وكسر الأولى ووضعها على الثانية وشكر الله الذي أخرج القمح من الأرض، ثم مرَّر كسرة الخبز على الأعشاب المرة وغمسها في حساء الفاكهة وأكلها، وأخذ قطعة صغيرة من لحم الحمل فأكلها، وتبعه تلاميذه كل منهم ينتزع نصيبًا من لحم الحمل ويأكله، وعظم منه لا يكسر، وبين الحين والآخر يزدرد كل منهم بعض الأعشاب المرة.
وكان من المفروض أن يتقدم أحد الخدام أو أصغر الموجودين بطست في يسراه وإبريق في يمينه للجماعة ليغسلوا أيديهم ويستكملوا طقس الفصح، ولكن التلاميذ فوجئوا بالمعلم ينهض من العشاء يخلع ردائه، ويأخذ منشفة يئتزر بها.. أمسك الأبريق وصب الماء في المغسل، وحمل المغسل إلى تداوس أقرب واحد منهم، وركع أمامه يطلب منه مدَّ رجليه، فأطاع تداوس في خجل، وراح يسوع يفك سيور الصندل، وأمسك بالقدمين المتسختين بتراب الأرض وغسلهما بالماء الدافئ وجفَّفهما بالمنشفة، ورغم أن يوحنا حاول القيام بهذا العمل إلاَّ أن المعلم لم يسمح له بذلك قط.. ومن يطيق ومن يحتمل أن السيد يركع أمامه كعبد ليغسل أقدامه؟! كل منهم يأبى هذا ولكن أين المفر؟! ما عدا يهوذا الذي مدَّ قدماه بدون استحياء إذ ماتت فيه الحياة، وأمسك السيد بقدمي يهوذا يربت عليهما في حنان بالغ وكأنه يريد أن يقول له " أقبل قدميك لا تُلقي بنفسك في الهلاك.. يا يهوذا يا إبني.. أنا سائر في درب الموت بإرادتي.. فلماذا تجلب على نفسك حكم الموت يا يهوذا؟!..وغسل يسوع أقدام يهوذا رغم علمه في أي طريق سعت هاتان القدمان الليلة الفائتة..!! آه إنها أقدام ضمير قد مات.
أما بطرس الذي فاض قلبه بالحب لسيده فإنه لم يتململ مثل بقية إخوته من الآباء الرسل. بل منع رجليه عن السيد قائلًا:
يا سيد أنت تغسل رجلي..؟! هذا أمر مستحيل.
يسوع: لست تعلم الآن ما أنا أعمل يا بطرس، ولكنك ستفهم فيما بعد.
بطرس: لا أستطيع.. لن تغسل رجلي أبدًا.
يسوع: إن كنت لا أغسلك يا ابني فليس لك معي نصيب..
وبسرعة خاطفة مدَّ بطرس قدميه ويديه وأحنى هامته وهو يقول: كلاَّ يا سيد كلاَّ.. ليس رجلي فقط بل أيضًا يديَّ ورأسي وكل جسدي.
يسوع: الذي قد أغتسل ليس له حاجة إلاَّ إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله.
وإذ كان يسوع عالم بالخفيات قال: وأنتم طاهرون وليس كلكم.. إنه نداء ليهوذا الذي تخلى عن طهارته علَّه يهرب من الظلمة التي غشت حياته، ويفئ إلى نفسه ويتوب فيعتق مما هو فيه..
وبعد هذا أخذ يسوع رداءه واتكأ قائلًا: أتفهمون ما صنعت بكم؟
فصمتوا ولم يجب أحد، وتعلَّقت أعين التلاميذ ببطرس بعد أن تكلم معه المعلم عن ارتباط هذا العمل بالنصيب الصالح، ولكن ولا بطرس أدرك ما يجري، ولهذا لم يكن لديه لا إجابة ولا نصف إجابة.
فقال يسوع: أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالًا حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا. فتململ يهوذا قائلًا في نفسه: مالنا وشغل الخدم والعبيد؟
ثم أردف يسوع قائلًا:
الحق الحق أقول لكم أنه ليس عبد أفضل من سيده ولا رسول أعظم من مرسله.. الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم، لأن من هو أكبر؟.. الذي يتكئ أم الذي يخدم؟. أليس الذي يتكئ؟ ولكن أنا بينكم كالذي يخدم.. أنتم الذين ثبتم معي في تجاربي. إن عملتم هذا فطوباكم إن عملتموه..
حدث هذا بينما وقف " لوسيفر " مشدوهًا وشياطينه قد اعترتهم الحيرة، لأنه استعصى عليهم فهم فكر الاتضاع، فنظروا باشمئزاز وقال لوسيفر لملائكته: ألم أقل لكم أنه مجرد عبد، ولا يزيد عن كونه عبدًا، ولذلك قام بعمل العبيد.. أليس حسنًا أننا حركنا حبيبنا يهوذا ليبيعه بثمن عبد.. آه أيها العبد.. إنني في لهفة من أمرك.. عندما تقطر دماءك.. دماء العبيد على صليب العار.. لن تستطيع فكاكًا يا يسوع من فخ الصليب الذي أعدَّدته بحكمتي!!
واضطرب يسوع بالروح، ولأول مرة يفتح ملف التلميذ الخائن المرائي، ويتنهد قائلًا: الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني..
حقًا كان المعلم يعلم أن يهوذا سارق ولص يسلب الأموال التي تضعها السيدات الثريات في الصندوق، ولكنه ستر عليه طويلًا سترًا يفوق الوصف، وربما همست بعض النسوة في أذن بطرس بما يجري، ولعل بطرس لفحه بنظرات الريبة والشك، حتى توقع الخائن أن المعلم سيطالبه بتسليم حساب وكالته، مع أن المعلم قد مكَّن له الحب إلى درجة تفوق الخيال، وإزاء حديث المعلم صمَّ يهوذا أذناه وكأنه لم يسمع شيئًا، أو كأن الموضوع لا يخصه، وبدا الذئب في ثياب الحملان، وتناسى أنه بالأمس سعى إلى رؤساء الكهنة يعرض عليهم تسليم حمل الله، وهم فرحوا به جدًا وأعطوه ثلاثين من الفضة، فعاهدهم على تسليمه، ولاسيما أنهم أقنعوه بأنه من المستحيل أن يكون يسوع هذا الذي ينادي بمحبة الأعداء هو المسيا.. إنه يود لو يُضيّع الأمة ويخرب الهيكل.. آه لو همست يا يهوذا في أذن سيدك بأنك أنت الذي اتفقت مع القيادات الدينية على تسليمه، لخلصك سيدك من الفخ الذي أمسك بك، ولكن للأسف الشديد فإنك يا يهوذا اتخذت من هيروس مثلًا أعلى لك، ذاك الذي من أجل الأقسام ذبح المعمدان.
أما التلاميذ الأطهار فقد وقع عليهم الخبر وقوع الصاعقة، فاغتموا وأصابهم الأسى والأسف والحزن العميق، وكلمات يسوع الرزينة المؤثرة ترن في آذانهم، ففقدوا الثقة في أنفسهم، لأن ثقتهم في معلمهم فاقت ثقتهم في أنفسهم، ونظروا إلى بعضهم البعض نظرات الحيرة والتساؤل، ولم يجرؤ أحدهم على الاعتراض ولا بطرس ذاته، فما دام يسوع قال هذا فلابد أن يحدث هكذا.. تُرى مَن منا سيسلمه؟!
ورفع يعقوب بن حلفا إصبعه في مذلة وانكسار قلب قائلًا: هل أنا يا رب؟
وصمت المعلم، وصمته هذا لم يمنع بقية التلاميذ من طرح ذات السؤال: هل أنا يا معلم؟.. هل أنا يا سيد؟!.. هل أنا يا رب؟!.. عجبًا لتلاميذ بسطاء يشكُّون في أنفسهم ولا يشكُّون في أخيهم الذي كان لصًا، وتبًا لك يا يهوذا لأنك وأنت صانع هذا الأمر بعينه تركت أخوتك يتعذبون في شكوكهم، وكان بإمكانك أن تريحهم وتربح نفسك.. لماذا يا هذا دفعت بنفسك في زمرة القديسين وأنت لست بقديس؟! ومالك تضع نفسك في مجمع الأطهار وأنت لستُ بطاهر؟!
بل وأكثر من هذا أن يهوذا ظنها تسلية، فكل واحد يقول له: هل أنا يا رب؟ والمعلم صامت لا يجيب، وإذ ملأ الشيطان قلبه وغطى الرياء حياته، قرَّر أن يسأل ذات السؤال مع استبدال كلمة يا رب بكلمة يا سيد، فقال: هل أنا يا سيد؟
ولا عجب فإن الخطاة " يقتلون الأرملة والغريب ويُميتون اليتيم. ويقولون الرب لا يبصر إله يعقوب لا يلاحظ" (مز 94: 6، 7).
وكان لابد للسيد أن يجيب، لئلا يظن يهوذا في جهله أن المعلم يجهل أمره، وإذ أراد المعلم أن تصل الإجابة إلى يهوذا فقط دون بقية التلاميذ حفاظًا على مشاعره. صمت قليلًا ثم همس في أذن يهوذا الجالس عن يمينه دون أن يسمعه أحد: أنت قلت.
ولم يلحظ أحد من التلاميذ ما قاله المعلم ليهوذا الذي تصنَّع الاتزان والهدوء، وكأنه أصم لم يسمع صوت المعلم، وتساءل يهوذا في نفسه: ألعل أحد رآه بالأمس وهو يدخل إلى قصر قيافا، وأخبر المعلم بما كان؟!
وتململ بطرس في جلسته، فهو لابد أن يعرف من الذي سيسلم سيده.. أنه على استعداد تام للفتك به وليكن ما يكن، فأي عار أن يخون التلميذ معلمه؟! ومع انفعالاته هذه، فإنه لم توآته الشجاعة ليسأل المعلم عمن هو، فمنذ قليل أسكته المعلم عندما احتج على غسل الأرجل، فآثر بطرس الصمت كمدًا، ولكنه لم يحتمل، فأومأ للتلميذ الصغير الجالس عن يسار المعلم، وفهم يوحنا وأطاع، وهمس في أذن معلمه: من هو يا رب؟
ولم يشأ المعلم أن يرد ليوحنا سؤالًا، ولم يشأ أيضًا أن يعرف بطرس من هو، ولا يريد أن يفضح يهوذا أمام الجماعة، فبحكمته الإلهية ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، إذ همس في أذن يوحنا دون أن يسمعه أحد: الذي يغمس يده معي في الصَّحفة هو يُسلّمني.
وقد كان من أدب التلاميذ أنهم متى لمحوا يد السيد تتجه إلى الصَّحفة رفعوا أيديهم، أما يهوذا إذ سكنه شيطان الكبرياء كان يزاحم معلمه في الصَّحفة، وربما يكون الشيطان قد صوَّر له أنه هو الأحق برئاسة هذه الجماعة، وصمت يسوع حتى ازدرد يهوذا ما في فمه، ولكي يؤكد ليوحنا ذات المعلومة همس في أذنه قائلًا: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه..
وإذ كان الطقس يُفرض أن رب العائلة يغمس لقمة في صَّحفة الفاكهة ويعطيها للابن الأكبر أو أكبر الحاضرين، فعل يسوع هكذا، وغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الذي أنتفخ ونفش ريشه أمام أخوته، وكأنه يقول لبطرس الذي طمع في مكانه منذ قليل: أنظر تقدير ومعزَّة وإحترام المعلم لي.. فمن أنت حتى تطمع في مكاني ومكانتي؟!
وكان الشيطان يغوي ويناوش يهوذا من الخارج، أما بعد اللقمة فقال لوسيفر لأحد أتباعه العتاولة: أدخل إلى يهوذا، فهوذا قلبه مكنوسًا مزينًا، فتربع على عرش قلبه، وشكّل فكره، وأجعل نظراته زائغة، وأفقده القدرة على التركيز.. هوذا أنت تعرف مهامك.
أما يوحنا ففهم وأدرك.. تأثر جدًا وتأسى في نفسه.. ختم على الأمر ولم يفصح، واجتهد كثيرًا حتى لا تفضحه مشاعره، وقال في نفسه: ياللهول.. يهوذا الذي وهبه السيد سلطانًا على الشياطين، حتى كان يطردها ويزجرها وينتهرها، يبيع نفسه للشيطان، ويصير مأوى للشياطين ولكل روح نجس.. يالحزن النفس وكسرة القلب!!
يسوع: ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان.
إنها محاولة أخيرة لعل يهوذا يرجع إلى نفسه، ويدرك الأمور على حقيقتها.. إن ابن الإنسان سيمضي كما هو مكتوب، بحسب مشورة الله المحتومة.. نعم هذا سيتم يا يهوذا.. سيتم سواء سلمتني أو لم تفعل، فلماذا تزج بنفسك ياتلميذ في طريق الخيانة البشعة؟!!
وإن كان العرف والتقليد يُجرّم اعتداء الإنسان على صاحبه الذي أكل معه في صحفة واحدة، فكم وكم بتلميذ عاش مع معلمه ثلاث سنين يأكل ويشرب وينام معه..؟! لكم جرح يهوذا معلمه!! " لأنه ليس عدو يُعيّرني فأحتمله. ليس مبغضي تعظم عليَّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور" (مز 55: 12 - 14).. " أيضًا رجل سلامتي الذي وثقت به أكل خبزي رفع عليَّ عقبه" (مز 41: 9).. إن رؤساء الكهنة لم يطلبوا منك يا يهوذا أن تسلمني، لأنه لم يخطر على بالهم أن تلميذًا يخون ويبيع معلمه بثمن عبد.
ونظر يسوع بعين المستقبل القريب فإذ يهوذا صديقه الذي عاشره أكثر من ثلاث سنوات مُعلقًا مشنوقًا، فتنهد كمن هو في كمدٍ، وكمن أصابته خسارة جسيمة وقال: كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد..
والتقطت أذان يهوذا هذه العبارات التي تذيب الفؤاد، وسمع أبواق التحذير التي دوَّت عاليًا لكيما توقظه قبل فوات الأوان، ولكن مازال يهوذا يراوغ، فقال في نفسه: ربما بلغته أنباء أن أحد المقربين إليه سيسلمه، ولكن لعله لا يعرف من هو بالضبط.. غير أن نظرات يهوذا صارت زائغة، واشتد ارتباكه أكثر مما كان يبدو في أشد المواقف حساسية.
ولنا أن نتساءل: مادام يسوع يعلم أن يهوذا سيخونه فلماذا خلقه..؟! لقد خلق الله يهوذا حرًّا مريدًا، ومقابل هذه الحرية عليه أن يتحمل مسئولية تصرفه، فكان يمكن ليهوذا أن يكون تلميذًا مخلصًا مثل بقية أخوته، ولكنه أختار أن يكون خائنًا، وباع سيده.
وإن تساءل أحد: مادام تسليم يهوذا لمعلمه قد ساهم في خطة الخلاص.. فلماذا يُدَان؟.. يُدان لأن ما فعله هو شر، وقصد منه يهوذا الإساءة لسيده، ولم يقصد على الإطلاق خلاص البشرية، فهو مسئول عن جرمه.
وقال يسوع بصوت مسموع: يا يهوذا.. ما أنت فاعله فأفعله بأكثر سرعة.
وقال بطرس في نفسه: أما زال المعلم يُميّزه عنا حتى أنتفخ علينا؟! ألعله قد أرسله في مهمة عاجلة لشراء احتياجات العيد..
وقال تداوس في نفسه: لعل المعلم يكون قد أرسله في مهمة تخص الفقراء.
وأدرك يهوذا أن المعلم يعرف الأمر كله، وأن كل أوراقه صارت مكشوفة، فتضايق جدًا، وشعر كأن شيطانه يلف حبلًا حول رقبته، ويخنقه، لذلك أدار ظهره للجالسين وانطلق كالسهم الطائش، بنظرات زائغة ويدان مرتعشتان، وعقل فقد اتزانه، ويده على جيبه تتحسَّس الكيس الجلدي الخفي وبه ثمن الخيانة.. خرج يهوذا وكان الوقت ليلًا، فغاص في ظلمة الليل البهيم منطلقًا إلى بيت قيافا حيث طريق الهلاك - متقولش مركّب في رجليه عجل.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 02:50 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
الفصل الثاني: وكان الوقت ليلًا


ترك يهوذا جماعة القديسين وخرج، وكان الوقت ليلًا، والساعة نحو الثامنة والنصف مساءًا.. شقَّ يهوذا طريقه لا يلوي على شيء إلى بيت رئيس الكهنة، وإذ عرفته البوابة، فهو زائر الأمس الذي أبهج رؤساء الكهنة، لذلك أسرعت بفتح الباب، ودعته يمرَّ إلى الوكر.. تقدم أحد الخدام لينظر من القادم، وإذ عرفه طلب منه الانتظار لحظات حتى يخبر رئيس الأحبار بقدومه.
ووقف يهوذا، أو قل وقف الشيطان الساكن في يهوذا قلقًا مضطربًا يرى في هذه اللحظات دهرًا، حتى جاء الخادم يدعوه للدخول، وما أن رأى قيافا حبيبه يهوذا حتى أخذه بالأحضان والقبلات مرحبًا به: أهلًا صديقي العزيز.. أسد (سبط) يهوذا، وبطل يعقوب.. ماذا تطلب في هذه الساعة من الليل؟
وقال الخادم في نفسه: عجبًا لهذه المحبة الفياضة، وهي وليدة يوم وليلة؟! هل حقًا هذه محبة أم أنها زيف ورياء؟!
يهوذا: إن المعلم مع تلاميذه في بيت أرسطوبولس.. تُرى هل هذا هو المكان المناسب والوقت الملائم لإتمام المهمة يا سيدي؟ ألا ترى معي أن هذا المكان أفضل من بيت عنيا؟
وهمهم قيافا قائلًا: بالطبع.. بالطبع يا يهوذا، فالمسافة من بيت عنيا إلى أورشليم تأخذ وقتًا أطول ربما يسمح لأتباعه بالتحرك لإنقاذه.. إنها لفتة رائعة منك أيها البطل الهمام.. لعل رب الهيكل يباركك، ولتحل بركتي وبركة آبائي عليك يا إبني.
وكان قيافا منهمكًا في التفكير بصوت يكاد يكون مسموعًا: إن هذا الناصري فعل ما لم يفعله أحد قبله.. من يتجرأ ويطرد تجار الهيكل ويقلب موائد الصيارفة؟..!! إن ذلك الرجل الجليلي لا يستحق أبدًا أن يعيش.. يريد أن يشعلها حربًا طائفية بين أتباعه الذين يربو عددهم من ثمانية آلاف نفس وبين الغيورين على مجد الهيكل.. وماذا تكون نتيجة هذه الحرب الدموية لو حدثت إلاَّ تَّدخل الرومان واحتلالهم للهيكل، وربما أقاموا فيه أصنامهم النجسة؟!
وعاد ينظر إلى يهوذا قائلًا: ليكافئك الله يا يهوذا يا جرو الأسد على صنيعك معنا.. استرح الآن يا ابني وأنا سأتصرف في الأمر. أما عيني يهوذا فلا تستقران ولو للحظة واحدة.. إنهما يجولان في كل اتجاه في حركات سريعة.. ينتقلان من الأرض الفسيفساء بألوانها الزاهية، إلى الجدران التي تزينت بالمصابيح النحاسية اللامعة التي أخذت شكل الحيات والحمام، إلى الكراسي الضخمة التي وُضعت عليها الأرائق الوثيرة المحشوة بريش الطيور..
وإذ كان قيافا رئيس الكهنة يقطن ذات القصر الذي يقطنه حماه حنان، لا يفصل بينهما سوى دهليز، أرسل أحد الخدام يستدعي حنان رئيس الكهنة الأسبق الداهية المحنَّك الذي يخشى الكل شره حتى هيرودس، كما إن بيلاطس يعمل له حسابًا، وبالرغم من أن "فاليروس جراتوس" والي اليهودية السابق قد عزله من منصبه كرئيس للكهنة، لكنه عجز أن يحد من نفوذه الذي تخطى حدود فلسطين، ومازال هو المسيطر الأول على كل أمور الهيكل والشعب، ولاسيما المعاملات المالية والتجارية. كما أن له عيونًا في كل مكان، وبينما كانت الشريعة تأمر بأن يبقى رئيس الكهنة في منصبه طوال حياته، فإن الولاة الرومان لم يلتزموا بهذه الشريعة، إنما باعوا المنصب لمن يدفع أكثر، وعلى كلٍ فإن رئاسة الكهنوت لم تخرج عن عائلة حنان بن شيث، عائلة الرشوة والدسائس، لمدة نحو خمسة وخمسين عامًا بدأها حنان منذ العام السابع للميلاد وحتى سنة 14 - 15م.. ثم ابنه اليعازر لمدة سنة واحدة (16 - 17م) والآن يوسف قيافا زوج ابنة حنان (17 - 36م) {ثم أولاد حنان الأربعة يوناثان لمدة سنة (36 - 37م) ثم ثاوفيلس (37 - 41م) فمتياس (41 - 44م) وآخرهم حنان بن حنان (44 - 62م)}.
وأيضًا قام قيافا باستدعاء بعض أعضاء مجلس السنهدريم للتشاور في الأمر، حتى يكون العمل جماعيًا وليس فرديًا، وسريعًا ما جاء حنان، وتبعه عدد ليس بقليل من أعضاء مجلس السنهدريم.. دار حوار طويل واحتدم النقاش وأُحيكت المؤامرة:

حنان: يا سادة.. أرجو أن تفهموني جيدًا، فهناك فرق شاسع بين القبض على يسوع بمعرفتنا، وبين تسليم تلميذه له، فتلميذه هو أقدر الناس في الحكم عليه، ولولا أنه ضال ومُضل لما قام تلميذه يهوذا بتسليمه للقضاء.
دبارياس: حقيقة بعد الاستقبال الحافل يوم الأحد الماضي الذي ارتجت له المدينة بات من الخطورة ترك مثل هذا الإنسان.. شكرًا لأدوناي إن حماس الجماهير قد برد كثيرًا، بعد أن أضاع يسوع الفرصة السانحة في إعلان ملكه، وخيَّب رجاء الجماهير في إعلان مملكة إسرائيل، مع إن عواطف الكثيرين مازالت متأججة تجاهه، وهو مازال قادرًا على تحريك كل الشعب في أي طريق يريد.
الأسخريوطي: لقد هتفنا له يوم الأحد حتى بحت أصواتنا، علَّه يُحقّق أحلام إسرائيل، ولكنه خذلنا، وترك الجماهير الثائرة تهدأ شيئًا فشيئًا وتنصرف شيئًا فشيئًا، ولم يشأ أن يحركها بأصبعه لتشعلها ثورة حارقة تأكل بيلاطس وكل جنوده، ويعلن قيام مملكة إسرائيل، لقد تأكدت أنه ليس هو المسيا كما كنا نظنه، ولذلك أتيت لأسلمكم إياه، فكل ما يهمني هو مجد يهوه ومدينة أورشليم ومملكة إسرائيل.
ميزا: لننتظر.. ربما يعود وينفخ نار الثورة ضد روما.
قيافا: كلاَّ يا ميزا.. إن الناصري الذي ينادي بمحبة الأعداء لا رجاء فيه على الإطلاق، ولو أن هناك رجاءًا فيه لنفخنا فيه من روحنا.
الأسخريوطي: لا أدري كيف يمكن لإنسان ينادي بالمحبة والتسامح مع الأعداء أن يقيم لنا أمجاد داود وسليمان؟!
دبارياس: حيث إنه يهيج الشعب فهو يستحق الموت.
سابس: بعد أن كشف الناصري عورتنا أمام الشعب، وبعد أن صبَّ علينا ويلاته، وأودعنا مذبلة التاريخ، ليس ببعيد عليه أن يحرك الجماهير ضدنا، وفي لحظات نصير جميعًا في خبر كان.. لقد أمسى الأمر بالنسبة لنا هو موت أو حياة.
سارباس: مثل هذا الإنسان كان لا يجب أن يعيش.
حنان: العيب كل العيب في الشعب الجاهل الذي لا يفهم الناموس.. أليس مكتوبًا أن المسيا يخرج من بيت لحم من قرية داود؟ فمال المسيا بيسوع الناصري الذي خرج علينا من الناصرة؟ أمن الناصرة يخرج شيء صالح؟!
سمعان الأبرص: لا أدري كيف نحكم بالموت على إنسان قالوا عنه أنه بار؟
حنان: وهل نسيت يا سمعان أنه كسر السبت مرات ومرات.
قيافا: ألاَّ تدرك يا سمعان معنى إدعائه بأنه ابن الله..؟! إنه يجعل نفسه معادلًا لله. معاذ الله..
سابس: إن كان بارًا يا سمعان أو لم يكن، فهو مستحق كأس الحمام، لأنه لم يحفظ شريعة آبائنا.
سابتل: فلنقاصه ونؤدبه حتى لا يكرز ضدنا في المستقبل.
ريفاز: اجعلوه يعترف بذنبه أولًا ثم عاقبوه.. لنظل نلاحقه حتى نصطاده بكلمة ضد قيصر أو ناموس موسى أو الهيكل، ثم نحكم عليه بالعدل.
رحبعام: لقد ذهبت إليه مع بعض أصدقائي وأحبكنا له الشباك حبكة لا يمكن الخروج منها، وسألناه سؤالًا محددًا حتى إذا أجاب بالإيجاب أو بالنفي سقط في الفخ.. قلنا له " يا معلم نعلم أنك صادق وتُعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس"..
وهزَّ ريفاز عمامته مسرورًا: هو في كلام أحلى من كده يا رحبعام؟ وماذا عن السؤال؟
رحبعام: قلت له " قل لنا ماذا تظن أيجوز أن نُعطي جزية لقيصر أم لا؟ ".
ريفاز: يا له من فخ مُحبَك يا رحبعام.. ومن يفلت منه..؟! لو قال "نعم " لثار الرأي العام ضده، ولو قال "لا " لثبتت عليه تهمة الخيانة للسلطات الرومانية..
رحبعام: ومن الطبيعي أنكم جميعًا تعلمون النتيجة النهائية.
نبراس: لقد نظر إلينا يا ريفاز نظرة الفاهم بما يدور في رؤوسنا وما يعتمل في نفوسنا وقال "لماذا تجربونني يا مرأؤون! أروني معاملة الجزية.. لمن هذه الكتابة؟ أنها لقيصر.. إذًا أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".. لقد أبكمنا بذكائه الحاد، فليُطرَح في هاوية الشقاء.
يوشافاط: ولا ننسى أننا قد أرسلنا من قبل رسلًا ليحضروه، فعادوا إلينا بخفي حنين يخبروننا بأنه لم يتكلم قط إنسان هكذا، فربما يسحر من سنرسلهم للقبض عليه بكلامه الجذاب كما سحر أولئك.. هل تذكرون، عندما قال "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن "؟.. ماذا فعل الشعب؟
حنان: نعم يا يوشافاط.. رفعوا حجارة ليجرموه لأنهم غاروا غيرة الرب، أما هو فقد جاز في وسطهم.. إذًا لنحذر جدًا لئلا يجوز هذه المرة أيضًا.
الأسخريوطي: لكنني سمعته اليوم بأذناي يتحدث عن موته، وأنه ماض كما هو مكتوب عنه، وقال لهم أن واحدًا منكم سيسلمني. إذًا هو يعلم جيدًا أنه ذاهب إلى نهايته المحتومة.
سوباط: أرى أن الشرائع لا تحكم على أحد بالموت بدون فحصه ومحاكمته ومنحه الفرصة الكاملة ليدافع عن نفسه.
نيقوديموس: إن شريعتنا الغراء لا تصرح بالحكم على أحد ما لم تأخذ أقواله وتتأكد من أفعاله أولًا.
روسمتين: وما فائدة الشريعة إن لم تُحفَظ؟
إن الموقف حساس للغاية وفي منتهى التعقيد يحتاج إلى ألف حساب وحساب، حتى لا تحدث مذبحة عظيمة، قد نكون نحن أول ضحاياها.. لا ننسى أن قرار مجمع السنهدريم الأخير الذي اتفقنا عليه بالإجماع هو تأجيل القبض على يسوع حتى تسنح لنا الفرصة بعد العيد.. لا يمكن القبض عليه إلاَّ في غيبة عن الجماهير.
قيافا: حقًا كان هذا قرارنا بالأمس يا روسمتين، ولكن أستجد في الأمر جديد، وهو تعاون يهوذا معنا، ووعده بأن يُسلّمه لنا هذه الليلة بدون ضجة ولا ضحايا.
يهوذا: نعم يا سيدي.. أرى أن الوقت مناسب جدًا لتسليمه للقضاء عليه دون أية ضجة أو جلبة وبدون ضحايا، فبينما الشعب مشغول جدًا اليوم في الاستعداد للعيد، سأضع يسوع بين أيديكم.. أتعهد لكم بذلك.
إناس: لا يجب الحكم أبدًا على إنسان بالموت ما لم نسمع أقواله.
سابتل: أنا مع إناس في رأيه، وأرى أن نلتزم جانب الأمان، ونؤجل القبض عليه لحين انصراف أتباعه بعد الأعياد - خليها تعدي على خير -
حنان: وما أدراكم أن الفريسة ستظل حبيسة الأسوار بعد فترة الأعياد.. ألاَّ يمكنه الهروب إلى صور وصيدا؟!
ميزا: ربما نلقى مقاومة أثناء القبض عليه.. تُرى هل يستخدم سلطانه..؟! تُرى هل يُنزِل نارًا من السماء فتأكل من نرسلهم إليه؟!
قيافا: كفاك تخريفًا يا ميزا.
يوسف الرامي يتساءل متعجبًا: أيهما أسهل.. إقامة ميت بعد أربعة أيام أم إماتة أحياء؟!
ويحتد قيافا: أصرت من أتباعه أيها الرامي؟
يوسف: كنت واقفًا عند قبر لعازر..
حنان: إطمئن يا يوسف إننا سنقتل الأثنين معًا يسوع والعازر. سنرسلهما للموت، وإن كان أحدهما يقدر على القيامة من الموت، فليقم ونحن جميعًا سنؤمن به.
وإحتد يوسف الرامي: سيدي.. إن لم يكن أحد يدافع عن الإنسان البريء فهذا عار علينا.
ميزا: إن كان بارًا فلنسمع منه وإن كان مجرمًا فلنطرده.
هارين: سواء كان بارًا أو لم يكن، فحيث أنه هيج الشعب بكرازته فهو يستحق الموت.
يوطفار: حيث إن هذا الإنسان خدَّاع فليطرد من المدينة، ولا يسمح له بدخول أورشليم قط، ويُحرَم من رؤية هيكلنا العظيم إلى الأبد.
يوشافاط: نعم يا يوطفار، وإن ضُبط في أورشليم ثانية أو داخل الهيكل فليسجن مدى الحياة.
أنولوميه: عجبًا.. لماذا إنتظرنا كل هذه المدة ولم يُحكم عليه بالموت؟
رحبعام: يا سادة إسرائيل.. لنا شريعة وبحسب شريعتنا يجب أن يموت.
قيافا: ألم أقل لكم من قبل أنه الأجدر أن يموت إنسان واحد عوضًا عن الآمة ولا تهلك الأمة بأسرها.
يورام: نعم يا سيدي.. فهو العاصي الذي يستحق الموت حسب الشريعة.
سارباس: انزعوا عنه الحياة.. انزعوه من الدنيا.
يورام: تمهلوا قليلًا.. لو فشلت خطتنا هذه المرة، فربما يُعلن نفسه المسيا الآتي إلى العالم، ويثير الآلاف من أتباعه، وتحتدم المعركة حامية الوطيس، ولاسيما أن المدينة تعج بالغرباء المتعطشين للثورة بسبب وبدون سبب فتزهق أرواح الأبرياء، وتكون الفرصة للرومان ليعملوا سيوفهم في جسد أمتنا.. فلنتعقل يا إخوتي لنتجنب مكامن الخطر.
الأسخريوطي: اطمئنوا يا سادتي.. فإنني حقيقة شعرت أن روحه تجنح هذه الليلة نحو الموت.. فلماذا لا تصدقونني؟!
رحبعام: سيدي قيافا.. وما رأي الوالي في هذا الأمر؟
قيافا: لقد قصدناه من قبل ليقبض عليه فأبى وخذلنا، فهو لا يريد أن يُدخِل نفسه في مشاكل أخرى خاصة بشعبنا، لأن المشكلة القادمة ستكون نهاية ولايته.. لن يتورط في ذبح يسوع كما ذبح هيرودس يوحنا، وشعبنا الجاهل يا قوم يجل يسوع هذا أكثر من يوحنا قدسية.. إنهم يظنون أن الناصري ليست لديه أطماعًا في ملك أرضي.. على كلٍ لابد أن نشرك معنا السلطات الرومانية أولًا: حتى نُوهِم الشعب بأن بيلاطس هو الذي قبض على يسوع، وثانيًا: أننا عاجزين عن قتل الناصري لأن ليس لدينا سلطة لإصدار أحكام الإعدام، وأنني أرى أن ننتهز هذه الفرصة.. آه لو أضعناها، فقد لا نجدها ثانية.

وأخيرًا استقرت الآراء على ذهاب قيافا إلى بيلاطس لاستطلاع رأيه، فإن وعد بتقديم المعونة وتسهيل إجراءات المحاكمة بحيث يرفع الناصري على صليبه قبل غروب شمس الغد فليتم القبض عليه، وإلاَّ فليتم الانتظار إلى فترة ما بعد الأعياد.

والساعة الآن العاشرة مساء، وهوذا قيافا ينطلق كالسهم لا يلوي على شيء.. إلى قلعة أنطونيا، بينما وقف يهوذا يرتعد ولا يعرف لماذا سرت الرعدة في جسده بهذا الشكل، فيبذل قصاري جهده لضبط نفسه من الرعشات الشيطانية التي انتابته، وأخذت نظراته تنتقل بين الخدم الذين يروحون ويجيئون وبعض شيوخ السنهدريم، وكلما نظر إلى حنان يبتسم له الثعلب ابتسامة عريضة، وحضر رئيس حرس الهيكل مع بعض جنوده، وقطع الصمت صوت حنان مجلاجلًا: يا يهوذا يا ابن الأكابر.. أنت أعظم شاهد على ضلالات ذاك الجليلي.. ألم تسمعه وهو يقول قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.. لابد أن تشهد للحق أمام مجمع السنهدريم العظيم.
الأسخريوطي: ليس هذا فقط يا سيدي، إنما قال لنا " أنا في الآب والآب فيَّ " و" أنا والآب واحد ".
وهزَّ حنان رأسه وعبث بلحيته: نعم.. أنت أعظم شاهد في التاريخ يا يهوذا.. ألم أقل لك؟.. بك سنقضي على ضلالة العصر، بل وكل عصر بحسبما أرى يا ابني.
وأحنى يهوذا هامته ملتحفًا بزي الاتضاع، وفي داخله يشعر أنه سمى إلى عنان السماء بفعل كلمات الثناء، وأنه صار بطلًا في عيون الرؤساء.. شعر بالراحة الكاذبة وهو يتحسَّس الفضة في جيبه ثمن المثمن، وكان هناك نوعان من الفضة.. الفضة المسبوكة التي سبكت منذ سمعان المكابي سنة 143 ق.م وتدعى بالشاقل، والفضة الخام التي يتم التعامل بها بالوزن، وتذكَّر يهوذا ما حدث بالأمس إذ وزنوا له الفضة، ولم يدرك أن فعلته الشنعاء هذه قد عاينها زكريا النبي منذ مئات السنين فقال "فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة" (زك 11: 12) ولم يدرك يهوذا أيضًا أن الثلاثين من الفضة هي ثمن عبد إذ نطحه ثور فمات حسب قول الشريعة " إذ نطح الثور عبدًا أو أمة يعطي سيده ثلاثين شاقل والثور يُرجم" (خر 21: 32) وهوذا بنو إسرائيل ينطحون العبد المتألم، ويدفعون فديته ثلاثين من الفضة.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 02:53 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
مشروع المياه النقيَّة

كان بيلاطس البنطي فظًا قاسيًا جشعًا، ولهذا لم يدم السلام بينه وبين اليهود، وبيلاطس هذا هو الوالي الخامس على اليهودية منذ أن أخضعها بومبي للحكم الروماني سنة 63 ق.م وصيرها مستعمرة رومانية، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى، وكان اختيار الوالي يتم غالبًا من رتبة الفرسان، حيث يقتصر عمله على ضبط المقاطعة وحفظها من أعمال الشغب، بالإضافة إلى تحصيل الجزية لصالح الإمبراطورية، وهكذا اُختير بيلاطس الذي انحدر من أسرة محاربة، فخرج للدنيا فارسًا، وانخرط في جماعة الفرسان، وخدم في ألمانيا تحت إشراف "جرمانيكوس"، وعندما انتقل إلى روما التقى بـ"كلوديا بروكلا" حفيدة الإمبراطور "أوغسطس قيصر"، فوقعت في حبه وتزوجت به، وكلوديا هذه ابنة غير شرعية لكلوديا ابنة أغسطس قيصر وزوجة "طيباريوس قيصر"، فكان لزواج بيلاطس من كلوديا الفضل في تعيّنه واليًا على اليهودية والسامرة سنة 26م، وكان رئيسه المباشر هو الحاكم الروماني لسوريا، وحصل بيلاطس على امتياز لم يحصل عليه غيره من الولاة الرومان إذ سُمح له باصطحاب زوجته معه إلى قيصرية، غير أن بيلاطس هذا كانت تنقصه الفطنة والحنكة السياسية.
كان يجلس في هذه الليلة الباردة أمام المدفأة، يتسامر مع زوجته كلوديا صاحبة الفضل في وصوله إلى هذا المنصب.
كلوديا: بيلاطي.. لماذا لم ننزل هذا العام في قصر هيرودس، فإنني كنت أفضل الإقامة فيه عن هذه القلعة الكئيبة التي تموج بالضباط والجنود.
بيلاطس: لقد أردت تقديم خدمة جليلة لهذا الشعب الجاهل، فأحضرت مهندسًا من الإسكندرية وآخر من أنطاكية، لوضع تصميمات لمشروع المياه النقيَّة، لمد أورشليم بكميات وافرة من المياه المتوفرة بالينابيع جنوب المدينة.. بدأ العمال في شق القناة من بركة سلوام إلى داخل المدينة نحو خمسة وعشرين ميلًا، وعقدتُ عدة اجتماعات مع أعضاء السنهدريم للتصرف في التمويل اللازم، ولاسيما أنني أُمهد أيضًا عدة طرق لخدمة المدينة، منها الطريق الساحلي والطريق الآخر الذي يصل بين الأردن وأريحا، وأنشأت عدَّة حمامات في السامرة التي لم يكن بها حمامًا واحدًا، ونظير هذه الأعمال العظيمة كان من المفروض أن يقيم لي هذا الشعب تمثالًا في وسط أورشليم، ولكنهم لم يلقوا بالًا ولم يهتموا بتدبير التمويل اللازم بحجة أن المياه من مطالب الجسد.. فلماذا إذًا الاغتسالات الكثيرة التي يقومون بها..؟! في هيكلهم يا كلودي إناء كبير يضعون فيه المياه اللازمة لتنظيف الذبائح، ولذلك قلت في نفسي مادامت المياه تُستخدم في الهيكل، فعلى الهيكل تحمل عبء التمويل، ولكنهم اسهجنوا قولي هذا.. طلبت منهم قرضًا على أن يتم سداده من ضريبة تُفرض على سكان أورشليم لمدة عام فرفضوا أيضًا.. كان أحد أحبارهم متحمسًا لمشروع القناة فهجم عليه خمسة من الإرهابيين ومزقوا جسده بالسكاكين، ولذلك لم يكن أمامي حل آخر.
كلوديا: وما هو الحل الذي رأيته يا بيلاطس؟
بيلاطس: تتبعت أخبار ضريبة الهيكل التي تفرض على يهود الشتات في آسيا ومصر والفرات، وللأسف فقد وصلت جباية مصر إلى الهيكل دون أن أتمكن من وضع يدي عليها، أما جباية آسيا فقد احتجزتها في قيصرية، وأمرت "ماركيوس" أن يهاجم ضريبة الفرات متى وصلت إلى أورشليم، وبدلًا من إدخالها للهيكل يدخلها إلى هذه القلعة، وأحسن ماركيوس التصرف، إذ أتم هذه المهمة بدون إزهاق روح واحدة، وبهذا حصلنا على المال الوفير مع كثير من الحُلي الذهبية والمجوهرات التي أرسلها يهود الشتات لتزيّين الهيكل.
كلوديا: يا لك من داهية يا بيلاطي!!
بيلاطس: ولكن هؤلاء اليهود الأغبياء لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل أثاروا حشدًا كبيرًا لاسترداد الجباية، ولكنني سبقت وأعددتُ العدة لمثل هذا الموقف، حيث ضاعفتُ الحراسة على هذه القلعة، كما دفعتُ بنحو ألف رجل من رجالي بملابس مدنيَّة يخفون سيوفهم بين طيات ملابسهم، وصاروا يهتفون مع الهاتفين ضدي، وعندما طلَّلت عليهم من البوابة وحاولت أن أُفهمهم أن هذه الأموال ستعود إليهم في شكل خدمات، وإن المياه النقيَّة ستصل إلى عقر مدينتهم لأول مرة. ثم أمرتهم بالانصراف، ازدادوا صراخًا، وراحوا يقذفون القلعة بالأحجار، ويقذفونني بأفظع الشتائم، ويصبون عليَّ اللعنات، ولم يكن هناك مفرًا من المواجهة، فأمرت بدق الطبول وإذ برجالي المندسين بينهم يشهرون سيوفهم وينقضون عليهم، فصُدموا وأصيبوا بذعر كبير، وركضوا يحتمون بالهيكل، فأمرت رجالي بالكف عنهم بعد أن سقط منهم قتلى كثيرون.
كلوديا: يا لك من داهية يا بيلاطي!!
بيلاطس: جاء حنان وقيافا يطلبان مقابلتي، فرفضت لقاءهم لأنهم هم الذين أثاروا هذه الجموع ضدي، وتسببوا في هذه المذبحة، فأرسلوا وفدًا يشكونني إلى القيصر.. أعلنت قانون الطوارئ في أورشليم وحظرت التجول ومنعت الاجتماعات المشبوهة، وعندما قبضنا على أحد شبابهم المتهور، وكان شابًا عنيدًا قوي الحجة جهوري الصوت قد أتى من طرسوس، نصحناه بالبعد عن هذه المهاترات حتى لا يُعرّض نفسه للموت.. قبضنا أيضًا يا كلودي على عدة فرق من الشباب الطائش الذين كتبوا على جدران المنازل والقلعة عبارات مستفزة ضدي وضد القيصر.
ثم وفد الكثير من يهود الجليل إلى أورشليم، وعندما علموا بما كان من أمر الجباية ومصادرتها احتجوا وثاروا ثورة عارمة، وعندما صاروا يهتفون أمام هذه القلعة أرسلت إليهم مُحذّرًا، ولكنهم لم يكفوا عن بذائتهم.. أمرتُ الجنود فأعملوا فيهم السيوف، وعندما هربوا إلى فناء الهيكل كان رجالنا أسبق منهم إذ سلكوا السرداب من القلعة وظهروا في فناء الهيكل.. كان مع الجليليين بعض الحيوانات التي سيقدمونها ذبائح، فاختلطت دمائهم بدماء ذبائحهم.. أما من نجا منهم فقد عاد إلى الجليل في نفس اليوم يخبر ملكهم أنتيباس بما كان، فغضب أنتيباس مما حدث، ولذلك نحن يا كلودي هذا العام في هذه القلعة ولم نذهب لنقيم في قصر هيرودس مثل كل عام، مع أنني عندما علمت أنه حلَّ في أورشليم أرسلت إليه بعض الجنود لحراسة قصره.
كلوديا: بيلاطي.. لماذا لا تحاول أن تكون سياسيًا أكثر من أن تكون عسكريًا حتى تتجنب شكاوي اليهود؟
بيلاطس: إن هذا الشعب يجهل ما هو لخيره يا كلودي.. لقد بلغ سكان المدينة نحو خمسين ألفًا، وفي الأعياد يصل أعدادهم إلى مئات الألوف، فمن أين لهم بالمياه التي تكفيهم ليشربوا ويغتسلوا.. إنني فكرت في مصلحتهم، واعتبرتُ مشروع المياه هذا مشروعًا قوميًا يجب أن يُموّله الشعب الذي يستفيد منه، ولذلك فعلتُ ما فعلتُ.
كلوديا: لكنك يا بيلاطي تفرح بإذلالهم وكسر أنوفهم.. ألاَّ تذكر مشكلة البيارق؟ وكيف حاصرونا في قيصرية لعدَّة أيام؟
وهنا أقبل أحد الحراس يخبر الوالي بأن قيافا رئيس كهنة اليهود في انتظاره أسفل القلعة..
بيلاطس: وماذا يريد في هذه الساعة من الليل..؟! دعه ينتظر..
ومدَّ بيلاطس ساقيه وأسند رأسه للخلف وأستمر في حديثه مع زوجته.. أوه.. ماذا كنت تقولين يا كلودي؟.. مشكلة البيارق..
إنني كنت سياسيًا بارعًا فيها، وأنتِ تعلمين أنني أصدرت أوامري بدخول البيارق وإقامتها على أسوار القلعة ليلًا، وفعلًا دخل الجنود تحت ستار الليل يحملون الألوية التي ترتفع فوقها صور ثلاثة من القياصرة وهم طيباريوس قيصر، وجدكِ أوغسطس قيصر ويوليوس قيصر، ووضعوها فوق أسوار القلعة، وفي الشرفات، ومن الطبيعي أن تُرى من الهيكل.. كان ذلك عن قصد حتى يرونها ولا ينسون أنهم تحت الحكم الروماني العظيم، وعليهم أن يخضعوا لسطوة القيصر وممثله الشرعي الذي هو أنا، ويكفون عن عنادهم وهياجهم وثوراتهم.. لقد قصدت كسر أنوفهم التي طالت وشمخت..
ومع بزوغ نور الصباح يا كلودي كان أحد كهنتهم يستعد لتقديم ذبيحة الصباح، وإذ به يلمح تلك البيارق فصرخ صرخة مدوية كأن خنجرًا اخترق قلبه، ولم يمض وقتًا طويلًا حتى كان قيافا يدق باب القلعة مطالبًا ماركيوس بإنزال البيارق وإبعادها عن مرمى البصر.. أجابه ماركيوس بأدب جم موضحًا له أن الأمر ليس في سلطته إنما في سلطة الوالي ذاته، فرد عليه قيافا بحدة، وأعلمه أن مجلس السنهدريم عقد جلسة طارئة وقرَّر رفع الأمر إلى القيصر رأسًا بسبب هذه الاستفزازات.
وفي ساعات قليلة أحتشد الآلاف من رجال اليهود يحملون العصي والأحجار، يعلنون نقمتهم ليس على السلطات الرومانية فحسب، بل وعلى رؤساء كهنتهم، متهمين إياهم بالتسيب والتساهل معنا، فتصدى لهم قيافا وأعلمهم أنهم سيرسلون للوالي احتجاجًا شديد اللهجة، وسيرفعون للقيصر تقريرًا يطالبون فيه بتنحيتي، وطلب منهم ترشيح من يمثلهم لمرافقة وفد السنهدريم إلى قيصرية، فاستطاع قيافا بخبث أن يوجه ثورة الشعب ضدي وينجو هو وأقاربه..
وجاءوا إلى قيصرية.. مسيرة تعد بالآلاف، حتى سدُّوا منافذ القصر والشوارع المؤدية إليه كما أبصرتِ بعينيكِ يا كلودي، وشعرت أن أقل تحرش بهم كفيل بوقوع مذبحة رهيبة.. التقى بي حنان وقيافا واليعازر بن حنان يلتمسون الخروج من المأزق حرصًا على مراكزهم وسط الشعب الهائج إلى الدرجة التي يستحيل ضبطها، وأكدوا القول بأن قيصر روما يتفهم أمورهم الدينيَّة، وقد أوصاني بعدم إستفزاز الشعب في عقيدته.. طلبت من قيافا أن يصرف الشعب لحين التصرف في الأمر، ولكنه قال إن كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يهدئ من روع الشعب على أمل إصلاح الأوضاع سريعًا.. ظلت الجماهير قبالة القصر كما رأيت يا كلودي عدة أيام، وهم يزدادون إصرارًا وصلابة، فلو أنني أذعنت لمطالبهم وأمرت رجالي بإنزال البيارق لصرتُ لقمة سائغة في أفواههم، ولاتهموني بالضعف والجبن، ولو كنت قد استخدمت القوة فإن الأمر لن يصل هذه المرة إلى حد إلقاء اللوم عليَّ من قبل القيصر، بل قد يصل الأمر إلى إقالتي من منصبي.
وعندما حاولت أن أتفاوض معهم لم يكفوا عن الصراخ وصاروا مثل مجانين، بينما أحاط بي كهنتهم كحزام أمان لي.. أعطيت الإشارة لضباطي ليغادروا المكان مع قواتهم ليعلموا أنه ليس في نيتي استخدام العنف ضدهم، فهدأت ثورتهم بعض الشيء.. وتحدثت إليهم موضحًا بأن القيصر لا يرغب في التدخل في شئونهم الدينية، وأنني أنا شخصيًا أحترم مشاعرهم، وإن رفع البيارق مجرد إجراءًا إداريًا كما هو متبع في كل مكان يخضع لسلطة قيصر، وطالبتهم بالانصراف، فعادوا إلى جنونهم وقذفوني بأبذأ السباب والشتائم، ولم أتمالك أعصابي، وكان لابد من الرد السريع والرادع، فأعطيت الإشارة لجنودي فانطلقوا يشهرون أسلحتهم وانقضوا على الجموع، ولكن الأمر الذي أثار ذهول الجنود أن واحدًا من اليهود لم يتحرك من مكانه، وأيضًا لم يظهروا أي نوع من المقاومة.. لم يرتعد أحدهم من بريق السيوف، بل انحنى أحد قادتهم أمام أحد الجنود يطالبه بأن يذبحه ذبح الشاه صارخا " الموت أهون علينا من رؤية هذه البيارق تشرف على الهيكل " وأصاب موقفهم هذا جنودنا بالشلل التام، وعندئذ أسرعت بالتدخل.. أشرت لرؤساء كهنتهم أن يتبعوني، وأبلغتهم كم كان تأثري لهذا المشهد الرائع.. شعب يموت عن عقيدته.. فشكرني رؤساء الكهنة، وأنتِ تعلمين يا كلودي نهاية القصة الأليمة.. أصدرت أوامري بإنزال البيارق، ومع هذا فإن هيرودس أنتيباس قد أستغل هذه الفرصة وأبلغ القيصر بما كان مع شيء من المبالغة والتضخيم، وقد أرسل إليَّ القيصر يشكرني، فهو يعرف كفائتي في التغلب على مثل هذه المشاكل، ومع ذلك فإنه وبخني على إثارة مشكلة بلا داعٍ في منطقة بهذه الحساسية من العالم..
كلوديا: أتمنى لك يا بيلاطي حظًا سعيدًا.. لتعطيك الآلهة حكمة وحنكة، ولا تنسَ الدروس الثلاث: جباية الهيكل، والبيارق، ومشكلة اللوحات المنذورة التي أقمتها في قصر هيرودس وهو على مقربة من هيكلهم، فلم يطيقوا أن يروا التقدمات تقدم للآلهة الرومانية بجوار معبدهم، مما دفعهم للشكوى للإمبراطور طيباريوس قيصر..
بيلاطس: نعم يا كلودي.. لن أتغافل توبيخ قيصر، وأعلم تمامًا أن الحادثة الرابعة مع هذا الشعب اليهودي الملعون ستكون بمثابة النهاية لأيامي في منصبي هذا.
كلوديا: لقد بذلتُ مجهودًا كبيرًا في تسوية المشاكل السابقة، والفضل كله يرجع إلى سيدات روما من أسرتي الإمبراطورية.
بيلاطس: أعلم هذا يا كلودي.. لقد قررت الحفاظ على منصبي، ولن أهتم بأحد قط أكثر من نفسي، حتى لو كان القيصر نفسه..
وهكذا تغافل بيلاطسقيافا الذي كان ينتظره عند باب القلعة. أما قيافا الذي اعتراه القلق فقد أخذ يصرف وقته في التأمل في هذه القلعة تارة، وفي الهيكل تارة أخرى، هذه القلعة الجاثمة على صدر الهيكل، والتي بناها هيرودس الكبير -محل قلعة حنانئيل التي عاصرت أرميا النبي- بطول مائتي متر وعرض مائة متر وارتفاع يزيد عن خمسة وعشرين مترًا، وأسماها باسم صديقه الروماني "مارك أنطوني" ولذلك عُرفت باسم "قلعة أنطونيا" وينحدر من هذه القلعة الملعونة سردابًا يصل إلى رواق الأمم بالهيكل، ففي حالات اندلاع الشغب يندفع الجنود الرومان في ثوان إلى فناء الهيكل، وبالقلعة أماكن تكفي لإقامة كتيبة رومانية كاملة بالدور الأرضي، بينما يقيم بالدور العلوي الوالي، حيث الصالات والأروقة المتسعة، أما عن أسوأ مكان في القلعة فهو السجن الصخري الرهيب الكامن مثل الجب أسفل القلعة.
ولكم يشق على الإنسان اليهودي الاقتراب من هذه الأماكن، أما دخولها فممنوع عليه منعًا باتًا لكي لا يتنجس، حتى أن بعض المجرمين والقتلة من اليهود الذين يقودهم حظهم العثر إلى سجن القلعة، لا يشغلهم ما سيلاقونه من أهوال بقدر ما يشغلهم الاشمئزاز من دخول هذا المكان النجس، وكأن جرائمهم الشنيعة لا تدنسهم بقدر ما تدنسهم هذه الأماكن التي يسكنها الأمم الغلف..
أما الهيكل فيظهر في هذه الأيام المقدَّسة مزينًا بأبهى صوُّره، فأضواء المصابيح الكثيرة التي تضئ رواق سليمان يَلمع ضوءها بالخارج، والنقش الضخم لعنقود العنب الذهبي على جدار الهيكل الخارجي ينكسر عليه ضوء القمر الفضي الهادي فتراه غاية في الروعة، ولكن توتر قيافا الزائد يمنعه من التمتع بهذا المنظر الرائع.. كيف يتغافله الوالي وهو رئيس الكهنة المبجل، ويتباطئ عليه إلى هذه الدرجة؟! ولكن هذا هو بيلاطس، الذي لن يتغير سلوكه حتى يُقال من منصبه.. إنه يتحيَّن الفرصة لإذلال اليهود ورئيس كهنتهم، واضطر قيافا إلى دفع المزيد للحارس ليعود إلى بيلاطس ثانية.
وجاء الحارس إلى بيلاطس الذي كان منهمكًا في الحديث مع زوجته كلوديا، يخبره بأن رئيس كهنة اليهود مازال مرابضًا بباب القلعة، ويود لقائه في أمر عاجل ومُلح، فنهض بيلاطس وهو يقول: ماذا يظن قيافا؟! وهل الوالي الروماني بمسئولياته الجسيمة وانشغالاته الكثيرة رهن إشارته، يطلبه في أي وقت يشأ فيجده تحت تصرفه؟! وهبط بيلاطس درجات السلالم الرخامية إلى مدخل القلعة حيث يقف رئيس كهنة اليهود، الذي ما أن رأى طلعة بيلاطس حتى رسم ابتسامة صفراء عريضة على شفتيه، قابلها بيلاطس بمثيلتها.
بيلاطس: ما الأخبار يا رئيس؟

قيافا: لا أشك يا سيدي إنك تتبعت أخبار يسوع الناصري، ودخوله إلى أورشليم يوم الأحد الماضي، وكأنه قيصر روما العظيم، ولاشك أنك تعلم جيدًا أنه أصبح مصدر الخطر الوحيد في هذه المدينة الآمنة، فقد يشعل نيران الثورة ضد كل شيء، ضدكم وضدنا، ولذلك رجوناك أن تقبض عليه وتحاكمه، ولكنك تركت الأمر لنا، والليلة نحن بصدد القبض عليه ومحاكمته أمام مجمع السنهدريم الموقر.. لقد رصدت عيوننا يسوع في أحد منازل أورشليم، وهو في حالة نفسية متردية كما أخبرنا بذلك تلميذه يهوذا، وهو الآن في معزل عن الآلاف من أتباعه، ولذلك فنحن نضمن القبض عليه في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر، دون أدنى خسائر في الأرواح.
بيلاطس: وما هو العائق إذًا يا رئيس؟
قيافا: أولًا نلتمس من سماحتك مساعدتنا في هذا الأمر، بإرسال أحد الضباط مع جنوده ليساعدنا في القبض على إنسان مارق خارج عن القانون.
بيلاطس: ليكن لك.. وما هو الطلب الآخر؟
قيافا: بعد انتهاء محاكمته بمعرفة مجلسنا الموقر، نلتمس من سماحتكم التغاضي عن الإجراءات الإدارية، فلا يوجد وقت لتقديم اسمه وجريمته للحصول على تصديقكم أولًا قبل عرضه عليكم، فهذا الأمر يحتاج لعدَّة أيام، والوقت الآن مُقصّر والأيام شريرة، لذلك نأمل أن تعفينا من هذه الإجراءات الإدارية، والسماح بعرضه مباشرة عليكم.
تبسَّم بيلاطس ابتسامة حقيقية إذ شعر بسلطانه على هذا الشعب العنيد، وداعب قيافا قائلًا: ولكن كيف تقول عن هذه الأيام المقدَّسة لديكم أنها أيام شريرة؟
قيافا: طالما يسوع على قيد الحياة، فأنه كفيل بتحويل أيامنا المقدَّسة إلى أيام شريرة.
بيلاطس: اطمئن يا قيافا أن سيف العدالة الرومانية سيأخذ مجراه.
قيافا: هل يمكنني الحصول على وعد منكم للاهتمام بالأمر، وإنهاء المحاكمة في أقصر وقت ممكن، قبل فترة الأعياد؟.. إننا لا نقدر أن نتنبأ بما يمكن حدوثه؟ فقد يشعل أتباعه ثورة عارمة تأتي على الأخضر واليابس.. علينا وعليكم..
بيلاطس: تقصد علينا وعليكم.. الأخضر واليابس..
قيافا: المحصلة واحدة.
بيلاطس: اطمئن يا قيافا فإن العدالة الرومانية ستأخذ مجراها.
قيافا: معذرة سيدي، عند حضورنا صباح الغد لن نتمكن من دخول دار الولاية بسبب استعدادات الفصح، فنلتمس من سماحتكم الخروج إلينا.
وهز بيلاطس رأسه مبديًا موافقته على مضض..
وقفل قيافا عائدًا إلى من ينتظرونه على أحر من الجمر، وعاد بيلاطس إلى المدفأة حيث زوجته كلوديا، وهي كأي امرأة يدفعها الفضول لكشف المستور، ظلت في صمتها تنتظر أن يخبرها بيلاطسها بما كان، وتجاهل بيلاطس الأمر، وعاد يُكمِل حديثه الذي قطعه قبل لقائه بقيافا.. أما كلوديا فدفعها فضولها للسؤال المباشر: بيلاطي.. تُرى لماذا جاء قيافا في هذه الساعة من الليل؟!
بيلاطس: أنت تعرفين يا كلودي موضوع يسوع الذي يدعونه نبي ناصرة الجليل.
وتبسَّمت كلوديا وكأنها تسمع أخبارًا سارة، وقالت: لقد أقام العازر شقيق مريم ومرثا بعد موته بأربعة أيام.. وبعد أن كان قد أنتن..!! تُرى ابن مَن من الآلهة هذا يا بيلاطي؟
بيلاطس: أنهم يريدون محاكمته.
كلوديا: وأي شر عمل..؟! ما هي الشكاية التي يقدمونها عليه؟.. أيحاكمونه لأجل إحساناته معهم ومعجزاته التي بلا عدد، وقد عمت الربوع؟!!
بيلاطس: هذا هو الشعب الجاحد.. لا تفهمين كيف يفكر!! ولكن يسوع الذي كشف عورة رؤساء كهنتهم وبقية القيادات المتعصبة لن يفلت من براثنهم.
كلوديا: تُرى الذي شفى المرضى بكلمة من فيه، وأقام الموتى، يعجز عن حماية نفسه من هؤلاء..؟! وهل ستوافقهم على شرهم يا بيلاطي..؟! وهل ستيسر لهم ما تصبوا إليه نفوسهم الحاقدة؟!!
بيلاطس: كلاَّ يا زوجتي العزيزة كلودي.. سأبذل قصارى جهدي حتى تأخذ العدالة الرومانية مجراها، على أن لا تؤثر هذه المشكلة على منصبي ومستقبلي.
كلوديا: أنني أذكر يوم رأيته مع الكساندر ضابط المخابرات ورجلك الأول.. " لقد فوجئنا بحشد كبير من الناس يتدافعون أمامنا ويتدفقون في اتجاه البحر.. ولم يلحظ وجودنا أحد منهم.. وكان هؤلاء يهودًا من كل نوع ومعظمهم من الرجال الأقوياء المخلصين، كما كان بينهم بعض المرضى والمقعدين، منهم من كان يزحف ومنهم من حمله أصدقاءه المقربين، وكلهم كانوا يشيرون إلى قارب يسير بمحاذاة الشاطئ، في البداية ظننتهم غاضبين لكن الكساندر أخبرني أنهم ينادون على يسوع الذي كان هناك في القارب، ويرجونه أن يأتي ويُعلّمهم، وكانوا يتكلمون بالآرامية التي لا أعرفها.. وعندما رسا القارب عند البيت الريفي رأيت الناس يندفعون بسرعة نحو الشاطئ، وأستأذن الكساندر للذهاب وراءهم، فطلبت منه أن يصحبني فذهبنا معًا. لا تخف فإن معنا حراسة كافية. بعد نصف ساعة وجدنا الشاطئ يموج بالجماهير، وكان يسوع واقفًا على ربوة عالية يعظهم ويُعلّمهم، وفي المؤخرة كانت هناك جماعة من وجهاء أورشليم، عندما رآهم الكساندر همس في أذني بأنهم جواسيس من أورشليم جاءوا يراقبون ويسمعون، ثم تركني ومضى ليتحدث معهم.
لقد رأيت الواعظ بوضوح، وهو شخص ملئ بالثقة في نفسه مترفع ومخيف. في البداية كان الناس في هرج ومرج، كما كانت هناك مقاطعة لكلامه ارتفعت بين الصفوف الخلفية التي لم تكن سامعة، ولكنه أسكتهم ببضع كلمات، وكأنه قائد يلقي الأوامر على رجاله فينفذون. وكان كلامه يدل على أنه واثق من أن الجميع سيذعنون له في كل ما يقول.
ثم بدأ حديثه هادئًا، وشيئًا فشيئًا رفع صوته حتى صار واضحًا ومسموعًا عند الجميع.. وقليلًا قليلًا بدأ صوته يخفت حتى صمت في خشوع وكأنه لا يشعر بهذا الحشد الهائل الملتف حوله. فسرت همهمة بين الجماهير لكن في غير غضب وحاولوا التقدم نحوه إلى الأمام، وكان الكساندر شاخصًا إليه لا يقدر أن يحول بصره عنه لدرجة أنه لم ينتبه إلى أسئلتي التي كنت أوجهها إليه.. ثم ألتفت إليَّ وقال أنه يجب أن يوافيكَ بتقرير.
وفجأة حدث شيء غريب إذ رفع يسوع يده وقال شيئًا بصوت عال، فتدافع الجميع نحوه ثم جلسوا كلهم على العشب في حلقة كبيرة من حوله فيما عدا أولئك الرجال الجواسيس - أنهم لم يتحركوا من أماكنهم وظلوا واقفين، وأنا واثقة من أنه سبق لي رؤية بعضهم يذهبون إلى السنهدريم.
بعد ذلك نادى يسوع على بعض الأشخاص الواقفين قريبًا معه فأحضروا له خبزًا كسره إلى كِسر.. ثم أعطى الكِسر لهؤلاء الرجال وهم بدورهم راحوا يوزعون منها على الناس الذين راحوا يأكلون، بينما كان الواعظ يواصل الحديث، وكم تمنيت لو كنت أستطيع أن أفهم ما يقول.. وعندما لاحظ الناس أنه على وشك ترك المكان هاجوا وماجوا والتفوا حوله. وكان بعضهم يحملون في أيديهم النبابيت والسكاكين والعصي، وراح بعضهم يصيح مهددًا، والبعض الآخر يبكي متنهدًا، بينما سقط كثيرون عند قدميه.. وفي تلك اللحظة لم يكن الكساندر معي لأنه في شبه غيبوبة وسمعته يُردّد الكلمات {ملك.. ملك إسرائيل.. ملك اليهود. المسيا} ولا أعرف ما تعنيه هذه الكلمة الأخيرة (المسيا) لكنك تعرف معناها بلا شك..
وقد استطعت أن أُلاحظ أن يسوع كان يَرُدَ الجماهير عن نفسه ولا يصغى إلى أقوالهم، ثم أبعدهم عنه ببعض الكلمات والإشارات وأنا واثقة من أنه كان يوضح لهم أنهم قد إرتكبوا خطأً جسيمًا فيما فعلوا. أنه دائمًا عند رأيه.. فأقام الراكعين عند قدميه وألزم الآخرين بإنزال أسلحتهم. وكان في ذلك اللحظة جريئًا وحاسمًا. ثم أخذ طريقه نحو البحر وحاول بعضهم منعه من الرحيل فلم يفلحوا، ولهذا بدت على وجوههم إمارات الخيبة والفشل، وعندما قلت لألكساندر أنه غضب عليهم لأنهم نادوا به ملكًا عليهم، أجابني أنه رفض أن يملك عليهم لعلمه أن هذا سيكون بداية النهاية له.
قبل أن يصعد يسوع أسرع إليه رجال أورشليم وتحدثوا معه حديثًا قصيرًا.. وأعتقد أن هؤلاء كانوا متحيرين وربما خائفين أيضًا، أما هو فلم يظهر عليه أي أثر للخوف، فقد كان يتحدث كمن عنده الاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات والوقوف حتى في وجه العالم بأسره.. وقد علمت أنهم كانوا يتوعدون يسوع لأن عيونهم كانت مثبتة عليه وهو في القارب.. "(1).
وكان بيلاطس ينصت لزوجته باهتمام وهو يتصفح ملفًا ضخمًا بين يديه ثم أخرج إحدى أوراقه وقال: هذا هو التقرير الذي قدمه لي الكساندر، وقرأ منه " الأمر في الجليل متوقف على كلمة واحدة منه لكنه لا يقولها، والجميع هنا في حيرة من أمره حتى وهم منجذبون إليه. لقد شفى مرضى كثيرين من حالات يُصعب البت في صحتها، وكانوا الناس من حوله كالطين في يد الفخاري، لا أحد يعترض أو يعارض. لكن حدثت مصادمات بينه وبين كل من الكتبة والكهنة. فهو يهاجمهم ويهاجم ناموسهم (يقصد تقليداتهم) بعنف شديد، لقد كان مرعبًا ومسهبًا في أقواله ضدهم، وبهذا يهدم كل ما للكهنة من سلطان وتسلط على شعب اليهود، ولاشك في أن هذا سوف يثير حفيظتهم عليه، لأنهم لن يغفروا له هذا وسيقتلونه عندما يرون أن الجماهير قد بدأت تنصرف عنه، وتوجد دلائل كثيرة تشير إلى أن الناس قد بدأوا فعلًا ينقلبون عليه لأنه خيب آمالهم فيه وصدَّهم بشدة عندما ظنوه ملكهم الجديد ومخلصهم المنتظر، وعندما رفض أن يملك عليهم كطلبهم وتركهم ومضى عبر البحر راحوا يشيعونه بنظرات ملؤها السخط والغضب.. أنه يهاجم السنهدريم "(2).
كلوديا: والآن جاء قيافا ليضع تقرير الكساندر موضع التنفيذ.
بيلاطس: وهذا ما علينا مواجهته غدًا يا كلودي..
وبعد إنتهاء الجلسة أوت كلوديا إلى فراشها، وصورة يسوع رجل الفضيلة والقوة لا تفارق مخيلتها.. لماذا يحتج عليه بنو شعبه ويريدون أن يودعونه الموت؟! وظلت تذكر ما سمعته بالأكثر من يونا زوجة خوري وكيل هيرودس التي كانت تَّتبع خطوات يسوع.. أنه يُجسّم الفضيلة في أسمى صورها.. فلماذا يريدون أن يذبحوا الفضيلة؟!!

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:11 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
الفصل الرابع: سر التقوى

عودة إلى العلية.. فبعد أن فارق يهوذا الخائن جماعة القديسين واختفت رائحة الخيانة تألق وجه يسوع بنور سمائي وقال: الآن تمجَّد ابن الإنسان وتمجَّد الله فيه.. إن كان الله قد تمجَّد فيه فإن الله سيمجده في ذاته ويمجده سريعًا. يا ولادي أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد..
وأمسك المعلم برغيف من الخبز، ووضعه على راحة يده، ورفع عيناه نحو السماء، وبارك وشكر وقسم وأعطى التلاميذ الأطهار سر التقوى قائلًا: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور عنكم يعطى لمغفرة الخطايا.
فأخذ التلاميذ وأكلوا وهم في حالة تأمل وانسكاب، وهمس متَّى في أذن فيلبس: لنحذر يا أخي لئلا يُجرّبنا الشيطان قائلًا أن هذا ليس بجسده، فمادام يسوع قال هذا فهو هكذا..
ثم أخذ المعلم كأس عصير الكرمة ورفع عينيه نحو السماء وشكر وبارك وأعطى تلاميذه الأطهار قائلًا: خذوا اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يسفك عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا..
فتناول التلاميذ الكأس وأخذوا يرتشفون منها واحدًا تلو الآخر، وهمس فيلبس في إذن متى قائلًا: لنحذر يا أخي لئلا يُجرّبنا الشيطان قائلًا هذا ليس بدمه، فما دام يسوع قال هذا فهو هكذا.
وتساءل متى في نفسه: ما علاقة ما يحدث الآن بقول أشعياء النبي " من أجل أنه سكب للموت نفسه" (أش 53: 12)؟! ثم إن النفس في الدم هكذا قال الناموس " نفس الجسد في الدم" (لا 17: 11)، فكيف نشرب الدم؟!
ثم التفت يسوع إلى تلاميذه وأمرهم قائلًا: اصنعوا هذا لذكري {وفي الأصل اليوناني للذكرى " أنا منسيس " ليس كذكرى لأمر غائب بل كذكرى حاضرة وفعالة، فلا يتذكر التلاميذ أو خلفاؤهم ما فعله يسوع كأمر مضى وانتهى، بل كحقيقة حاضرة وفعالة}.
وتذكَّر متى العهد الجديد الذي تحدث عنه أرميا النبي " ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب" (أر 3: 31، 32).

وهمس يوحنا لبرثلماوس: أتذكر يا أخي قول يسوع للجموع في كفر ناحوم " أنا هو خبز الحياة.. من يقبل إليَّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا.. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.. إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم.. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه ".
قال برثلماوس: نعم يا يوحنا أذكر ذلك اليوم، ويومئذ ارتد كثير من التلاميذ، فقال لنا المعلم: ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا، فقال بطرس: إلى أين نمضي يا رب وكلام الحياة الأبدية عندك.
وسأل توما يعقوب: قل لي يا يعقوب. إن كان الذي أكلناه جسد يسوع والذي شربناه دمه، فكيف يأكل هو جسده ويشرب دمه؟
يعقوب: لقد أكل المعلم خبزًا عاديًا، ثم قال لنا بعد هذا " خذوا كلوا هذا هو جسدي "، ففي هذه اللحظة صار الخبز جسدًا له، وهكذا مع عصير الكرمة يا توما، ولا تنسى يا توما أنه مادام يسوع قال هذا فلابد أن يكون هكذا.
ولم يدرك أحد من التلاميذ أن يسوع يكسر جسده بيده الآن قبل أن يكسره الرومان بالصليب غدًا، ولم يدرك التلاميذ أنهم بهذا الطقس قد أقاموا أول قداس في العالم كله في أول كنيسة في العالم أجمع، ولم يدرك أحد منهم أيضًا أنهم في هذه اللحظات يختمون العهد القديم بعصر الآباء وعصر الناموس، وأنهم يقفون على أعتاب العهد الجديد عهد النعمة والحرية ومجد أولاد الله.. " كان يسوع، في حب سماوي عجيب، يقدم جسده المكسور ودمه المسفوك لأحبائه. إنها ساعات قليلة، ويكسر جسده.. دقائق ويُسفك دمه.. لكنه "مقدمًا" وهب ذاته مؤكدًا أنها ذبيحة حب لا نهائي.. ما أروع يسوع وهو ممسك بالكأس يقدمها بكل حب وسرور لأحبائه.. كانت الشموع تضئ العلية وإذا بوجه يسوع ينعكس على وجوه التلاميذ، وإذا بالكأس ترتسم في كل مكان..
في صمت وخشوع كان التلاميذ يحدقون في سيدهم وقد تسمرت عيونهم عليه، وأخذوا يتناولون الخبز ويشربون من الكأس وهم في مزيج من الرهبة والذهول، كانت هناك تفاعلات خفية تجري في أعماقهم، وتساؤلات كثيرة تخطر على عقولهم، لكنهم فوق كل شيء، كانوا يشعرون وكأنهم يُحلّقون في أجواء سماوية عليا، فهاهم يشاهدون أشياء لم ترها عين ويسمعون كلمات لا يمكن أن تخطر على قلب بشر" (3)
وفي نهاية التناول سبَّحت الجماعة بالمزامير.. كل هذه الآلام لم تمنعهم من التسبيح..!! سبحوا في خشوع وتأثر بالغ، وهكذا ستفعل جماعة يسوع من جيل إلى جيل إذ تُحوّل العذابات والآلامات إلى تسابيح وألحان تشفي النفس العليلة.
وبعد أن قدم يسوع جسده ودمه لتلاميذه الأطهار أتجه إليهم بالحديث الوداعييطمئنهم ويشجعهم قبيل هبوب العاصفة العاتية: لا أترككم يتامى.. إني آتي إليكم.. سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب أنتم تؤمنون بالله فآمنوا به.. أنا أمضي لأعدَّ لكم مكانًا. وإن مضيتُ وأعدَّدتُ لكم مكانًا آتي وآخذكم إليَّ حتى حيث أكون تكونون أنتم أيضًا وتعلمون حيث أن أذهب وتعلمون الطريق.
توما: يا سيد لسنا نعلم أين تذهب؟ فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟
يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه.
فيلبس: يا سيد أرنا الآب وكفانا.
يسوع: أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس. الذي رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت أرنا الآب. ألست تؤمن إني أنا في الآب والآب فيَّ..
وأصغى سطانئيل لهذا الحديث فأرتعب هو وشياطينه: تُرى من يكون هذا..؟! هل يمكن أن يكون هو كلمة الله..؟! من هو هذا الذي في الآب والآب فيه إلاَّ الابن الأزلي بأزلية الآب..؟! ومن هو صورة الآب والذي يراه يرى الآب سوى الأمونوجينيس..؟! ولو هو كلمة الله هل يمكن أن ينحني ويغسل الأقدام؟..!! هذا مستحيل.. إني لا أفهم، بل أكاد أن أجن.. وصرخ سطانئيل صرخة مدوية: أكاد أن أجن يا يسوع..
بينما يسوع يُكمل حديثه: بعد قليل لا يراني العالم أيضًا وأما أنتم فترونني. إني أنا حي فأنتم ستحيون.
يهوذا (ليس الإسخريوطي): يا سيد ماذا حدث حتى أنك مزمع أن تظهر لنا ذاتك وليس للعالم؟
يسوع: بعد قليل لا تبصرونني. ثم بعد قليل أيضًا ترونني لأني ذاهب إلى الآب.
فقال التلاميذ بعضهم لبعض: ما هو هذا الذي يقوله لنا؟ بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضًا ترونني، ولأني ذاهب إلى الآب.. ما هو هذا القليل الذي يقول عنه؟.. لسنا نعلم بماذا يتكلم.
يسوع: أعن هذا تتساءلون فيما بينكم، لأني قلت بعد قليل لا تبصروني ثم بعد قليل أيضًا ترونني. الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحوَّل إلى فرح. المرأة وهي تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت. ولكن متى ولدت الطفل فلا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح لأنه قد وُلِد إنسان في العالم. فأنتم كذلك عندكم الآن حزن، ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينتزع أحد فرحكم منكم.. قد كلمتكم بهذا بأمثال ولكن يأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضًا بأمثال.
فيلبس: هوذا الآن تتكلم علانية.
نثنائيل: لستَ تقول مثلًا واحدًا.
يعقوب: الآن نعلم أنك عالم بكل شيء ولست تحتاج أن يسألك أحد.
توما: لهذا نؤمن أنك من عند الآب خرجت.
يسوع: الآن تؤمنون؟ هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي.. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم..
ثم أخذ يسوع يجذب الأنظار نحو المحبة: وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا.. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضكم لبعض.. هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم. ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه. أنتم أحبائي إن فعلتم ما أُوصيكم به.. بهذا أوصيكم أن تحبُّوا بعضكم بعضًا.
ثم أخذ يكشف لهم عن الاضطهادات التي ستلاقيهم قائلًا: إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم.. سيخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة فيها يظن أن كل من يقتلكم أنه يُقدِم خدمة لله.. الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح.. هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي.
تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء مخاطبًا الآب السماوي: أيها الآب قد أتت الساعة. مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضًا.. أنا مجَّدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته..
ثم أخذ يطلب من أجل خواصه الأطهار: من أجلهم أنا أسأل. لست أسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتني لأنهم لكَ.. وكل ما هو لي فهو لكَ، وما هو لك فهو لي.. أيها الآب القدوس أحفظهم في اسمك.. حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك. الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلاَّ ابن الهلاك.. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير.. قدّسهم في حقك. كلامك هو حق، ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم.. أيها الآب البار العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أرسلتني وعرَّفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:13 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
الفصل الخامس: صراع البستان

وبعد أن ختم يسوع صلاته ألتفت إلى تلاميذه في عزيمة وإصرار قائلًا لهم: ليفهم العالم أنني أحبُ الآب وكما أوصاني الآب هكذا أفعل. قوموا ننطلق من ههنا.
وترك يسوع العلية، يتبعه تلاميذه الأمناء وهم لا يعلمون إلى أي مكان يتجهون، ولكن في حب ورضى يخضعون، وبلغت الساعة نحو الحادية عشر والنصف مساءًا، ورغم توافد مئات الألوف إلى أورشليم للاحتفال بالأعياد إلاَّ أن المدينة ظهرت في تلك الساعة وكأنها مدينة أشباح، إذ خلد الجميع للنوم في تلك الليلة القارصة البرودة، ماخلا أعدادًا صغيرةً متناثرةً جلسوا يصطلون ويتسامرون، وكل ما يشغلهم موعد ظهور المسيا الذي بات قريبًا على الأبواب، ليقيم مملكة إسرائيل.. مملكة المجد والفخار، وبينما أقفرت الشوارع من العابرين فيها لم تعد تسمع سوى أصوات فرقعات نعال جنود الحراسة، وأما الهيكل فهو يقظ بحراسه الذي ينتشرون في أربعة وعشرين موقعًا بجوار الأبواب والأفنية، جميعهم من الكهنة واللاويين.. كل نقطة حراسة بها عشرة لاويين مع كاهن واحد، وعندما يمر قائد الحرس يسمع صوت جندي الحراسة وهو يؤدي له التحية صارخًا " يا قائد حرس الهيكل. سلام لك".
وسارت جماعة القديسين يتقدمها يسوع في سكون الليل الرهيب، وإذ أدرك التلاميذ أن العاصفة الشيطانية تدق الأبواب خافوا وخيّم الحزن الأسود عليهم، فلم يعد هناك ولا همسات الرجال معًا.. إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.. هوذا موكب القائد الذي أوشك على اقتحام أرض المعركة، وبقدر ما كان حزن وخوف التلاميذ عظيمًا، كانت جيوش الشياطين تعج بالبهجة والسرور، هؤلاء الذين تجمعوا بالآلاف يتَّتبعون ذاك الموكب الأليم، ولوسيفر رئيسهم يرتب كل الأمور بحكمة بالغة حتى لا يفلت منه أمرًا ما كبيرًا كان أم صغيرًا.
وبينما كانت الجماعة تعبر الباب الشرقي إلى خارج أسوار المدينة، إذ بقافلة قادمة من مصر، يتصدرها عم يعقوب الذي يحرص على الحضور إلى أورشليم كل عام في مثل هذا الوقت، وهو يحكي لهم في تلك اللحظات عن ظهور شخص فريد منذ ثلاث سنين، وعن معجزاته العظيمة التي لم يصنعها أحد من قبل، ومن المنتظر أن يصنع فداءًا لإسرائيل في هذا العيد.. التقت القافلة الداخلة إلى أورشليم مع الجماعة الخارجة من أورشليم، وتبادلوا التحية، ولم يفطن أحد من رجال القافلة ولا عم يعقوب الذي كلت عيناه أن الشخص موضع حديثهم هو هو السائر أمامهم مع تلاميذه الأطهار.
أما خارج الأسوار فقد لمعت الأنوار المتناثرة من الخيام المتزاحمة وكأنها أضواء شموع صغيرة، وسلكت الجماعة طريق وادي قدرون على الجانب الشرقي من أورشليم بين المدينة وجبل الزيتون، فالخارج من أورشليم يجد جبل الزيتون على يمينه وأسوار أورشليم على يساره، وفي وادي قدرون هذا مجرى مائي ضيق يمتلأ بالمياه أثناء فترة الأمطار ويُدعىَ باسم قدرون أو النهر الأسود نظرًا لاختلاط مياهه بالقاذورات والمخلفات التي يلقيها سكان أورشليم فيه، وفي القديم عندما صنعت معكة أم آسا الملك تمثالًا لعبادته دقَّ آسا هذا التمثال وأحرقه في وادي قدرون (2 أي 15: 16) وعندما أزال حزقيا الملك مذابح الأوثان التي انتشرت في أورشليم طرحها في وادي قدرون هذا (2 أي 30: 14) كما إن يوشيا الملك الصالح أخرج من هيكل الرب الآنية التي صنعها الشعب للبعل واجتاد السماء، والساربة، وأحرقها في وادي قدرون (2 مل 23: 4، 6) فوادي قدرون يحمل رائحة عبادة الأصنام النجسة، وهوذا ابن الله يخوض معركة تحرير الإنسان المسكين من عبادة الشيطان المرذولة، ودُعي الوادي باسم وادي قدرون كما يقولون وادي النيل في مصر، وهذا الوادي تجده جافًا معظم أيام السنة فيما عدا فصل تساقط الأمطار.
والتفت يسوع إلى تلاميذه وقال لهم بصوت آسيف: كلكم ستعثرون وتشكُّون فيَّ في هذه الليلة. مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل.. وكأن المعلم أراد أن يعلن لهم عن أمرين معًا الأول هو ضعفهم وهروبهم، والثاني هو صفحه عنهم ومغفرته لهم، ولهذا فإنه أعطاهم وعدًا باللقاء في الجليل. ولمعت أمام متى على الفور نبؤة زكريا النبي " أستيقظ يا سيف على راعيَّ وعلى رجل رفقتي يقول رب الجنود أضرب الراعي فتتشتَّت الغنم" (زك 13: 7) لم يكن وقع كلمات يسوع على التلاميذ بالأمر السهل، ولاسيما أنه كان قد أخبرهم منذ قليل بأن منهم سيخرج الخائن الغادر الذي يسلمه للموت، والآن يقول أن جميعهم سيشكُّون فيه!!
وإذ رقب المعلم بعينه الإلهية حركات لوسيفر والتماسه من الله، أردف القول قائلًا: سمعان سمعان هوذا الشيطان قد طلبكم ليغربلكم كالحنطة، ولكني طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت أخوتك.
لقد ابتهج الشيطان باقتناص يهوذا أيما بهجة، فأخذ يناور ليقتنص البقية ولاسيما بطرس، وهكذا سيظل الشيطان يهاجم بشراسة أولئك الذين يحملون كنوزهم ويبحرون تجاه الملكوت، ولكن هيهات له، لأن الراعي الصالح لن يترك النفوس الأمينة فريسة للعدور الشرس.
واضطربت نفس بطرس داخله، ولم يعرف كيف يجيب ولا يدري ماذا يقول، فمادام يسوع قال هذا فلابد أن يكون هكذا، ومع هذا فإن بطرس لم يطق الصمت فاندفع قائلًا: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا.. لا في هذه الليلة الليلاء ولا في غيرها. إني أضع نفسي عنك.وأجابه يسوع بلغة العالم بكل شيء: "أتضع نفسك عني؟ الحق أقول لك أنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات ".
وإذ استكثر بطرس على نفسه السقوط في خطية الشك، فإذ بالسيد يعلن له أنه سيسقط في خطية أشد وأصعب وهي خطية الإنكار.
وتنهَّد بطرس من أعماقه قائلًا: لا.. لا.. ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك.. إني مستعد أن أذهب معك إلى السجن وإلى الموت..
وهكذا همهمَّ بقية التلاميذ بمثل هذه الكلمات.. هذا مستحيل!! كيف ننكرك؟..!! نحن معك حتى الموت..
ثم قال يسوع: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟
التلاميذ: لا يا رب.
يسوع: لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتري سيفًا، لأني أقول لكم أنه ينبغي أن يتم فيَّ هذا المكتوب وأُحصى مع آثمة. لأن ما هو من جهتي له انقضاء.
التلاميذ: يا رب هوذا هنا سيفان.
وكان هذان السيفان مجرد سكينتان كبيرتان كانتا مع بطرس ويوحنا لإعداد خروف الفصح.
يسوع: يكفي.
وكأنه يريد أن يقول لهم: أنني أحدثكم عن سيف الروح الذي يساعدكم في حروبكم الروحيَّة ضد الشيطان الذي طلب أن يغربلكم، وأنتم تتكلمون عن سيوف مادية.. وماذا يفعل سيفان في يد حفنة من صيادي السمك في مواجهة جنود الهيكل وجنود الرومان والخدم والعبيد والغوغاء..؟! هل أنا غاوي أرميكم في التهلكة؟!، وما الداعي للسيف المادي إن كنت أنا سأسلم نفسي للموت بإرادتي وأتمّم المكتوب " وأُحصى مع آثمة".. أنظروا أنني لا أتكلم عن سيف مادي يفصل الرقاب عن الأجساد، ولهذا سترونني بعد قليل أمر بطرس برد سيفه إلى غمده، فهل أدعوكم إلى شراء سيف مادي وأنهيكم عن استخدامه؟!
والآن هوذا أقدام الجماعة تطأ أعتاب جبل الزيتون، وما أشبه الليلة بالبارحة، فمنذ نحو ألف عام صعد داود حافيًا باكيًا مطاردًا من ابنه شالوم مُغطى الرأس وأحبائه يبكون معه، وهوذا التاريخ يعيد نفسه، فهوذا ابن ورب داود يسير مع تلاميذه من أورشليم إلى جبل الزيتون.. وكان التلاميذ يسيرون في إعياء، فمنذ استيقاظهم في الصباح الباكر في بيت عنيا، وحتى هذه الساعة المتأخرة لم ينعم أحدهم بالنوم، وقد قارب الليل على الانتصاف، بالإضافة إلى الإرهاق النفسي الشديد نتيجة الصدمات المتلاحقة التي تعرَّضوا لها، وإحساسهم القوي بأنهم مزمعون أن يدخلوا في عاصفة هوجاء قد تطيح بكل شيء.. كل شيء..، ورغم أن المسافة من العلية إلى جبل الزيتون لا تزيد عن كيلو مترًا واحدًا فإنها كانت ثقيلة عليهم جدًا، حتى تمنى كل منهم أن يجد له ملاذًا أمينًا فيلقي بنفسه وينام نومًا عميقًا، ويهرب من ذلك الكابوس المرعب.
وأخيرًا وصلت الجماعة إلى بيت القصيد حيث " بستان جثسيماني " وهو عبارة عن حديقة متسعة ملكًا لأرسطوبولس، حيث تنتشر أشجار زيتون، وبها بيتًا ريفيًا يكفي لمبيت مجموعة كبيرة.. لقد إعتاد أغنياء اليهود أن يكون لهم حدائق خارج المدينة يروحون فيها عن أنفسهم، وكلمة " جثسيماني " كلمة آرامية، معناها معصرة الزيتون، ويقع البستان عند السفح الغربي لجبل الزيتون، ويرتفع هذا البستان نحو 140 قدمًا عن أورشليم، فمن السهل على الإنسان أن يعاين الجانب الشرقي للهيكل بحجارته الضخمة التي تثير الدهشة والإعجاب، ومنذ أيام قلائل أشار أحد التلاميذ للمعلم قائلًا: أنظر يا معلم هذه الأحجار وهذه الأبنية؟ فأجابه يسوع: أتنظر هذه الأحجار وهذه الأبنية؟.. لا يُترَك حجر على حجر إلاَّ وينقض.
وتأمل يوحنا معصرة الزيتون وبقايا حبات الزيتون التي كانت تُعصر بين حجريها المستديرين، فيجري دمها أقصد زيتها في المسار الصخري حيث تمتلأ الآنية بالخير، ولاحظ يوحنا نظرة يسوع للمعصرة، فارتسمت أمام عينه نبؤة أشعياء التي نطق بها منذ سبعمائة عام " قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي فرُشَّ عصيرهم على ثيابي فلطخت كل ملابسي" (أش 63: 3).
لقد اختار يسوع بستان أرسطوبولس ليكون موقع القبض عليه، وليس بيته، حتى لا يسبب إزعاجًا وحرجًا لأهل البيت، فإنه جاء ليحل أتعاب وأوجاع الآخرين، وليس العكس، كما إنه أخذ على عاتقه أن يحمل الصليب بكل تضحياته وفضائحه - ما أحلى رِقتك يا يسوع وما أجمل لطفك..!! حتى وأنت في أشد الآلام لا يفوت عليك أمورًا صغيرة كهذه -، وأيضًا شاء المعلم أن يلاقي العدو وهو في حالة صلاة حارة عميقة وصراع، وليس في حالة راحة واسترخاء، وطالما شهد هذا البستان ساعات حلوة وذكريات عطرة للتلاميذ مع معلمهم، فلعلَّ يهوذا عندما تقوده أقدامه إلى هذا الموضع يراجع نفسه ويُغيّر موقفه!!
" وفي الليل انطلق السيد المسيح قائد المعركة ضد قوات الظلمة، ليذهب إلى أرض المعركة، معلنًا خروجه للصليب.. ذهب في خطة مرسومة ينتظر موكبًا متواطئًا مع الظلام. كان ينتظر يهوذا مع موكب الظلمة كمن في شبه موعدٍ معه، وفي مكانٍ معروفٍ لديه. لم يتهرب السيد المسيح من موكب الظلمة.. خرجوا بمصابيح ليلقوا القبض على يسوع، آدم الثاني، مع إن القمر كان كاملًا. لقد ظنوا أنه ربما يختبئ بين الأشجار كما اختفى آدم الأول في جنة عدن وراء الشجر من وجه الله.. جاء الموكب مستعدًا، لعلهم خشوا من خسوف القمر لذلك حملوا المشاعل والمصابيح، وخشوا أن يُوجد مع تلاميذه أسلحة، لذلك جاءوا مسلحين مستعدين للدخول في معركة. ليس عجيبًا أن نجد ذات الفكر عبر العصور، فيتهم العالم الكنيسة بأنها تريد أن تقيم دولة داخل دولة، مع أن أسلحتها روحية، ومملكتها ليست من هذا العالم" (4).
وعند باب البيت الريفي الذي اعتاد يسوع التردد عليه من قبل مع تلاميذه، قال لثمانية منهم: اجلسوا أنتم هنا حتى أمضي وأصلي هناك، ففي القديم عندما كان قلب إبراهيم مفعمًا بمشاعر عميقة ومعه ابنه الذبيح إسحق، قال للغلامين بروح الرجاء "اجلسا أنتما هنا.. وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما" (تك 22: 5).. لقد خشى المعلم على تلاميذه الثمانية من رؤيته في حزنه وكآبته، فأشفق عليهم وتركهم في البستان - ما أعظم لطفك يا يسوع!! - وأما بطرس وإبني زبدي الذين عاينوا أمجاده في التجلي فهم أقدر على تحمل رؤيته في هذا الضعف دون أن يهتز إيمانهم به.. توغل بهم في البستان، وصرَّح لهم قائلًا: نفسي حزينة جدًا حتى الموت.. والنفس هي مركز المشاعر والأحاسيس والعواطف البشرية، فهي تحزن وتفرح، وتصح وتمرض، وابن الله في تجسده اتخذ طبيعة بشرية كاملة من روح وجسد ونفس، - فلا يحق لك يا أبوليناريوس أن تدَّعي أن الله في تجسده أخذ جسدًا بدون روح بشرية، ولا يحق لكما يا فلنتينوس وأوطاخي أن تدَّعيا أن الله في تجسده اتخذ جسدًا شبحيًا أو خياليًا، فجميع الآلام كانت محسوسة عنده.. نفسيَّة وجسديَّة -.
ثم قال لهم: أمكثوا هنا وصلوا.

إنه يعلمهم فائدة شركة القديسين وقت التجربة.. حقًا إن النفس المثقلة بالحزن تلتمس العزاء من صديق مخلص يشاركها المشاعر ويقتسم معها الأحزان.. دخل يسوع مع تلاميذه إلى البستان وكأنه داخل إلى هيكله، فترك ثمانية منهم كأنهم في الدار الخارجية، واصطحب ثلاثة وطلب منهم الصلاة وكأنهم يؤدون خدمة القدس، ودخل هو داخل الحجاب إلى قدس الأقداس حيث سكب نفسه أمام الآب كذبيحة حيَّة من أجل خلاص البشرية.. لقد انفرد عن تلاميذه الثلاث مقدار رمية حجر، وجثا على ركبتيه، وانسكب في صلاة عميقة، بلجاجة ودموع وصراخ مصليًا: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك..
يا أبتاه.. فمهما تكاثفت السحب ونشر الضباب ظلاله، لا يجب أن ننسى أن الله هو الأب الحنون.
وأخذ يدهش ويكتئب..
عندما خشى يعقوب أب الآباء الموت وأن يباد هو وكل ماله على يد أخيه عيسو المستبيح،عبر مخاضة يبوق، وأجاز كل من معه الوادي " وبقى يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر" (تك 32: 24) وهوذا الآن يعقوب الجديد قد انفرد عن الكل، ودخل في صراع مع قوات الظلمة.. هوذا أيوب الجديد يصرخ في صمته " ليت كربي وُزِن ومصيبتي رُفِعت في الموازين جميعها. لأنها الآن أثقل من رمل البحر.. لأن سهام القدير فيَّ وحُمتها شاربة روحي. أهوال الله مصطفة ضدي" (أي 6: 2 - 4).. ولعل ما حدث مع ابرآم " وإذا رعبة مظلمة عظيمة واقفة عليه" (تك 15: 12) كان رمزًا لما يحدث الآن.
الآن بدأت حلقة الصراع الرهيب.. هوذا الحيَّة القديمة تزحف لكيما تلدغ نسل المرأة لدغة الموت، وعلى نسل المرأة أن يسحق رأسها..
الآن بدأت حلقات الصراع الرهيب بين يسوع وقوات الظلمة " غمر ينادي غمرًا عند صوت ميازيبك. كل تياراتك ولججك طمت عليَّ" (مز 42: 7)..
الآن بدأت السحب تتجمع وتُشكّل ضبابًا كثيفًا..
الآن بدأت العاصفة العاتية تهب على المعلم..
الآن تجمعت كأس خطايا البشرية على مرّ السنين والأيام، ومن ثقل الحمل الذي وُضِع عليه خرَّ بوجهه على الأرض فتعفرت جبهته المقدَّسة بتراب الأرض.. في القديم عندما فقد أيوب أولاده " خرَّ على الأرض وسجد" (أي 21: 2) هوذا الآن أيوب الجديد يخرَّ على وجهه لأن الشيطان قد سبى أولاده..
الآن يقول: غطى الخزي وجهي..
الآن يبدو أمام الآب كخاطئ وكأثيم مغطى بالخطايا الثقيلة وغارق في الذنوب الشنيعة والآثام الفاضحة.. له صورة اللص القاتل الزاني المستبيح الخائن الجاحد المتكبر قاسي القلب الكذاب.. الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا، فصارت السماء بالنسبة له مثل نحاس والأرض كرصاص، وكأن صلواته القوية ودموعه لا تخترق حُجب السماء.. من قبل عندما قال "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول. أيها الآب نجني من هذه الساعة.. أيها الآب مجد أسمك " جاءت الإجابة فورية، وسُمع صوت الآب من السماء قائلًا " مجَّدتُ وأُمجّد أيضًا " أما الآن فبالرغم من أنه يتألم " نفسي حزينة جدًا حتى الموت " وينسكب في الصلاة، إلاَّ أن عليه أن يصلي ثانية وثالثة.
جثا يسوع على ركبتيه ثم خرَّ على وجهه، يحارب قوات الظلمة كإبن الإنسان الطاهر القدوس الذي بلا خطية وليس للشيطان شيء فيه ولكنه ارتضى أن يحمل خطاياي وخطايا العالم كله.. جثا كإنسان بلا معونة من اللاهوت يصارع لوسيفر وكل قواته، ولوسيفر يلوح له بسلاح الموت، وهو صامت صامد لا يتراجع عن موقعه ولا عن موقفه قيد أنملة.. هنا في جثيماني تدور معركة حامية الوطيس بين يسوع الطاهر القدوس حامل خطايانا، وبين جيوش وحشود رهيبة وأشباح لا حصر لها، حتى صار يسوع محصورًا وسط أمواج عاتية، تجتاحه تيارات جبارة، ودوامات عنيفة، ومع كل هذا فقد وضع في نفسه أن يتحمل كل شيء من أجل نجاة البشرية حتى لو أسلم ذاته لسلطان الظلمة عدة ساعات تبدأ من الآن وتنتهي بلفظ أنفاسه على الصليب.
عجبًا.. هوذا الشهداء الذين قاسوا الأهوال لم يحزنوا كحزنه.. لماذا؟ هل هو أضعف منهم؟ كلاَّ، لكن السبب أن هؤلاء ينالون تعذيات السماء، أما يسوع فقد رفض أية تعزية حتى يأخذ العدل الإلهي حقه بالكامل.. أنه ذبيحة المحرقة التي يجب أن تُحرق بالكامل لإرضاء العدل الإلهي.. ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم اللتان يجب أن تُحرقا بالنار.. لقد أصرَّ أن يشرب الكأس حتى الثمالة.. إن نبؤات داود التي نطق بها منذ ألف عام تتحقق الآن " اكتنفتني حبال الموت وسيول الهلاك أفزعتني. حبال الهاوية حاقت بي. أشراك الموت انتشبت بي" (مز 18: 4، 5) " يمخض قلبي في داخلي وأهوال الموت سقطت عليَّ. خوف ورعدة أتيا عليَّ وغشيني رعب. فقلت ليت لي جناحا كالحمامة فأطير وأستريح" (مز 55: 4 - 6).. حقًا أن ابن الإنسان يجوز في هذه اللحظات ما جاز فيه يونان النبي وهو في جوف الحوت " قد اكتنفتني مياه إلى النفس. أحاط بي غمر. ألتف عشب البحر برأسي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي" (يون 2: 5، 6) إن ابن الإنسان يُعصَر الآن في معصرة الغضب الإلهي عوضًا عن كل إنسان خاطئ أثيم.. دخل رجل الآلام في معصرة غضب الله ليس بلاهوته، لأن اللاهوت منزَّه عن الألم، بل بناسوته، ولم يكن هذا المنظر الفريد ليسوع مألوفًا لدى التلاميذ.. سمعوا تأوهاته وأناته، لأنه أراد أن يُسلّم للكنيسة ضرورة الصلاة العميقة وقت حلول التجارب والمصائب، ولمعت أمام التلاميذ عبارة يسوع التي قالها منذ قليل " بعد قليل لا ترونني " وأحسوا أنهم أمام كابوس مرعب، فأخذوا يتهامسون:
-ما هذا الذي يحدث؟!
-لماذا يتألم السيد هكذا؟!
-هل سيتركنا؟!
-كيف تكون الحياة بدونه!.. أنها الضياع بعينه.. أنها الشقاء بذاته.. أنها العناء كل العناء.
ومع همساتهم وتساؤلاتهم وتوقعاتهم وأحزانهم تهاونوا في تنفيذ وصية المعلم، فضربهم عدو الخير بالنعاس وأطبق أجفانهم.. ومن يقدر أن يفتحها..؟! ثقلت رؤوسهم ودخلوا في نوبة من التثاؤب والنعاس.. نام التلاميذ رغم أنهم سمعوا معلمهم يمدحهم منذ قليل ويشجعهم " أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي" (لو 22: 28).
ويعود المعلم للتلاميذ فيجدهم نيامًا، فلم يقدروا أن يثبتوا معه كما ثبت أتباع داود مع مليكهم المُطارد من ابنه، ويعاتب يسوع تلاميذه: أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟!
حقًا الآلام الرهيبة التي يجوز فيها الراعي الصالح لم تمنعه من افتقاد قطيعه وإسداء النصح لهم: اسهروا وصلوا لئلا تعثروا.. فالصلاة هي التي تسد كافة الثغرات التي يعبر منها عدو الخير للنفس.
وعاد يسوع إلى صلاته وآلامه وصراعه، وللأسف عاد التلاميذ إلى نومهم هربًا من الواقع المخيف.. عاد يسوع يصارع قوات الظلمة: يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك. فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت.. فالإرادة البشرية رغم أنها تأبى الذل والهوان والعار والفضيحة، فإنها مع هذا ستظل خاضعة للإرادة الإلهية.. وبدأ الصليب يلقي بظلاله على نفسه الطاهرة، فكيف يمكن للقدوس أن يحمل أدناس الخطاة؟!
كيف يحمل الطاهر نجاسات الفسقة والزناة؟!
كيف يحمل البار عار الأثمة؟!
كيف يحمل الصادق الأمين كذب الكاذبين ونفاق الأفاقين؟!
كيف يُحسب الذي هو أنقى من السماء مع اللصوص والقتلة وعبدَّة الشيطان..؟! إن قوات الظلمة تشن هجومًا عارمًا على نفس الحبيب بغية تحطيمه بالصليب، وهو لا يكفَّ عن لجاجة الصلاة..
كيف يبدو وكأنه القاتل والزاني والسارق والخائن والمتكبر والكذَّاب والمنافق والعاصي والأثيم.. لقد تجمعت عصارة كل الخطايا المتشابكة المتلاحقة المرَّة لكل البشر في كل زمان، وعليه أن يتجرعها، وأصعب ما في هذه الكأس هو أن الآب يحجب وجهه عنه..
لقد كانت هذه الكأس ماثلة أمام عينيه دائمًا، فعندما تقدم يعقوب ويوحنا يطلبان أن يكونا واحدًا عن يمينه والآخر عن يساره في ملكه قال لهما " أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا. فقالا له نستطيع" (مر 1: 28) وها هوذا ذات التلميذين يعقوب ويوحنا اللذان أبديا استعدادهما لحمل الصليب ناما في أول الطريق، ولم يدركا معاناة السيد.. حقًا ما أشدَّ هذه المحنة القاسية يا يسوع التي لم يقدر أن يدركها أقرب الأقرباء إليك فوقعوا فريسة للنوم، وصار النعاس لذيذًا في أجفانهم الثقيلة، وتناسوا حتى الصلاة الربانية الني علمتهم إياها من قبل " أبانا الذي في السموات.. ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير".. وتناسوا تحذيراتك " اسهروا إذًا وتضرعوا في كل حين لكي تُحسبوا أهلًا للنجاة " ولم يتوقعوا أن نتيجة نومهم هذا ستظهر بعد قليل عندما يفرون من على المسرح تاركين معلمهم للموت..
وعاد المعلم إلى تلاميذه ثانية قائلًا لبطرس: يا سمعان أنت نائم؟ أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ أهكذا.. أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟.. اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.
وكأنما يريد أن يقول لبطرس: أأنت الذي ستضع نفسك عني، وتسلم نفسك للموت من أجلي، ولا تقدر أن تصلي معي ساعة واحدة..؟!
وكأنه أراد أن يقول لتلاميذه: ألم أقل لكم أن الشيطان طلبكم لكي يغربلكم.. ألم أوصيكم أسهروا وصلوا حتى تُحسبوا أهلًا للنجاة؟!!
ثم أردف يسوع كلامه قائلًا: أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف.
حقًا أن الروح تجذب الإنسان إلى السماء بينما الجسد يشده للهاوية..
وعاد يسوع إلى صلاته وتضرعاته ودموعه، ورغم برودة الليل القارصة لارتفاع جبل الزيتون عن مستوى البحر كثيرًا، فإن قطرات العرق صارت تتصبب من جبينه بلون الدم، وهي حالة نادرة الحدوث، فلا تحدث إلاَّ عند انفجار الشعيرات الدموية المحيطة بالغدد العرقيَّة عندما يكون الإنسان في قمة الانفعال فيندفع هذا مع ذاك.. الدم مع العرق.
وظهر في الأفق ملاك أنار المكان حول المعلم بنور سمائي رائع.. سجد الملاك لجابله، وأخذ يسبحه ويباركه ويقويه قائلًا: لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد يا عمانوئيل إلهنا وملكنا.. إنه رب الملائكة ولا يتحرك ملاك إلاَّ بإذنه، فهو الذي سمح لهذا الملاك بالظهور وقت الضيقة الشديدة، ليُعلّمنا أنه متى انسكبنا في صلواتنا وقت الضيقة فإن الملائكة تحوطنا.. أما يسوع فلم يكف عن الجهاد في الصلاة.
عجبًا.. كيف يتألم الطاهر القدوس إلى هذه الدرجة؟!
كيف يصرخ ويصلي ويبكي؟!
لقد دخل يسوع في حزن وبكاء وصراخ ودهش واكتئاب، لا احتجاجًا على إرادة الآب لأنه خاضع لإرادته، وليس تراجعًا عن مشوار الصليب لأنه قبله بإرادته، وهل ننسى أنه عندما طلب منه بطرس أن يتخلى عن الصليب قال له المعلم " أذهب عني يا شيطان".. فلماذا الصلاة والبكاء؟!
إنها المشاعر الإنسانية، لأنه شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، فالآلام النفسية الواقعة على يسوع هي آلام حقيقية، لأنه آخذ طبيعة بشرية حقيقية، ولذلك كان الحزن والبكاء والألم والصلاة والصراع الرهيب مع قوات الظلمة التي غطت المكان بغمامة سوداء.. هوذا رئيس هذا العالم قد أتى بقواته الغازية مُجردًِا قواته للهجوم على يسوع.. وكم كانت تلك الآلام النفسية قاسية حتى كادت تقتل يسوع قبل الصليب..
وكان الجو باردًا، وسكتت الريح تشارك جابلها آلامه، ولا يُسمع في الأفق إلاَّ صوت ناي حزين ينفخه أحد رعاة الأغنام الساهرين، ينعي زوجته التي ماتت وتركت له ثلاثة أطفال.. نهض يسوع من تراب الأرض وأقبل على التلاميذ قائلًا: ناموا الآن واستريحوا.. قد أتت الساعة وهوذا ابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب. هوذا الذي يسلمني قد اقترب..
وكأنما يريد أن يقول لهم: ناموا الآن إن قدرتم أن تناموا..

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:15 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
غوغاء وعبيد

عودة إلى قصر رئيس الكهنة.. عاد قيافا إلى قصره، حيث حنان وشيوخ اليهود في لهفة من أمره.. أخبرهم بما كان وكيف تحمَّل صلافة بيلاطس الذي تركه منتظرًا أسفل القلعة لمدة طويلة، وهو عاجز عن دخول القلعة حتى لا يتنجس، وبيلاطس يهمله وكأنه كم مهمل، وبعد أن استمعوا إلى قيافا تساءلوا: هل سيقبضون على يسوع بمفرده أم سيقبضون على الجماعة كلها؟
حنان: إن الوقت مُقصّر، ولو قدمنا اثني عشر شخصًا للمحاكمة بقصد قتلهم أو قتل بعضهم، فلابد أن المحاكمة ستستغرق وقتًا طويلًا، ونحن نريد أن ننجز.
قيافا: إذًا لنقبض على التلاميذ ونودعهم السجن، وبعد الخلاص من معلمهم نؤدّبهم ونطلقهم، ومتى ضربنا الراعي فلابد أن تتشتَّت الرعية.
وأقبل بعض جنود الهيكل، وألحَقَ قيافا بهم أشد وأقوى عبيده وخدامه، وبعد قليل حضر قائد المئة الروماني مع عدد ليس بقليل من الجنود، وحملة المشاعل، لكيما يكبح جماح الثورة المسلحة التي يقودها يسوع مع تلاميذه ضد روما كما نما إلى علمه، وانضم إلى الموكب بعض شيوخ الشعب، وأولاد حنان رؤساء الكهنة، وتحرَّك الموكب الذي جمع المتناقضات معًا، فالصدوقيون جنبًا إلى جنب مع بقية الفريسيين رغم التطاحن والاختلاف العقيدي بينهما (فمعظم الفريسيون فضلوا ترك عملية القضاء على يسوع للصدوقيين) والسادة مع العبيد، والشيوخ مع الغوغاء، واليهود مع الرومان.. اجتمع الكل على هدف واحد، ألا وهو موت يسوع.. تسلَّحوا بسيوف وعصي، وأحاط بهم حملة المشاعل والمصابيح، وتقدمهم يهوذا الإسخريوطي قاصدًا بيت أرسطوبولس حيث يسوع هناك. بينما لبث قيافا وحنان وبقية الأعضاء يتشاورون، ويتأسون لأنهم لم يقبضوا على يسوع منذ بدء كرازته وقبل أن يذهب العالم كله وراءه وقال قيافا: أتصدق أن بعض الفريسيين، بل وبعضهم من أعضاء مجلس السنهدريم يتعاطفون معه ويصدقون تجاديفه.
حنان: ملعون هو الشعب الذي لا يفهم الناموس.
وسار الموكب يضم نحو خمسمائة شخصًا على امتداد عشرات الأمتار، يتقدمهم حملة المشاعل إلى بيت أرسطوبولس، ولبث يهوذا يقرع الباب في هذه الساعة المتأخرة من الليل، بل هي الساعة الأولى بعد منتصف الليل، يحيط به موكب الموت، واندفع أحد الجنود يدك باب العلية دكًا، وما أن فتح أحد الخدم الباب إلاَّ واندفع الخائن، يصحبه قائد الجند الروماني، ورئيس حرس الهيكل اليهودي إلى العلّية.. تطلعوا فإذ بالعليّة خاوية.. تبادلوا النظرات لبرهة.. أصبح الصمت سيد الموقف.. يسوع ليس في العلّية، فأين هو؟!
أتُرى انطلق إلى بيت عنيا مثل كل ليلة؟!
أيعقل أن يكون قد هرب من أورشليم وعاد إلى الجليل؟!
وأحس يهوذا بخطورة الموقف، إذ بعد أن قلب الدنيا رأسًا على عقب، لم يجد يسوع.. هل علم يسوع بالمؤامرة فذهب إلى مكان لا يعلمه أحد؟..!! إذًا لقد فشل في مهمته، وعلم في نفسه أن الموقف لن يتوقف عند رد الفضة، بل سيجر عليه إهانات كثيرة، ولا يستبعد أن ينتقموا منه عوضًا عن يسوع، فهذه نفوس متعطشة للدماء.. فليكن أي دم يُسفك!! ودارت الدنيا به، وغاص يهوذا في تفكير عميق. ثم تصنع الشجاعة قائلًا: لنذهب إلى جبل الزيتون، ربما يكون قد ذهب هناك ليصلي كعادته.
صمت قليلًا، ثم أردف قائلًا: إن لم نجده نسرع إلى بيت عنيا حيث يبيت هناك.
وصمت برهة وقد تاه صوته، وكأنه يحادث نفسه: فإن لم نجده، فسأذهب وراءه إلى الجليل وأقنعه بالعودة إلى أورشليم، ولو بعد فوات العيد.
وقال يهوذا في نفسه: إن لم أقدر أن أقنعه بالعودة، فعلى الأقل أنجو بجلدي من هذا الموقف الخطير الذي وضعتُ نفسي فيه.
وحدث هرج ومرج في بيت أرسطوبولس، واستيقظ الجميع يستطلعون الأمر، وأدركوا أن الأوامر قد صدرت للقبض على يسوع، ولكنهم لم يفهموا سر تواجد يهوذا معهم..؟! انطلق مرقس، وقد هبَّ لوقته من النوم متسربلًا بإزارًا يستر عريه كما يفعل بعض أهل الشرق، انطلق كالسهم إلى البستان ليحذر المعلم.
وتحرك يهوذا ولم ينطق ببنت شفة، وخلفه قائد المئة وقائد حرس الهيكل، والموكب كله يتبعهم.. انطلق يهوذا صوب جبل الزيتون، ولم يكتفِ بدور المرشد السري، إنما إذ ملأ الشيطان قلبه حقدًا على يسوع من جانب، ولكيما يؤكد للجميع ولاءه لهم من جانب آخر، التفت إلى الجمع قائلًا: عليكم باليقظة يا إخوة، والهجوم المباغت على يسوع، وتوخي الحذر أثناء القبض عليه لئلا يفلت منكم.. وأما أنا فسأسهل عليكم هذه المهمة الشاقة.. سأقبّله وأحيطه بذراعيَّ، فأعطل حركته، حتى تحيطوا به سريعًا..
وأوصاهم كثيرًا ألا ينسوا العلامة مؤكدًا لهم: الذي أُقبّله هو هو أمسكوه وأمضوا به بحرص..
كل هذا الحقد وهذا الغل في قلبك يا يهوذا؟.. ولماذا..؟!
إنه غل الشيطان الذي سمحت له أن يسكنك يا مَنْ كنت تلميذًا للعَلِيّ!!
قاد يهوذا الموكب عبر وادي قدرون إلى جبل الزيتون، يتقدمهم حملة المشاعل، ويحيط بهم حملة المصابيح، ولم يكتفوا بضوء القمر الذي يرخي سدوله، بل حملوا المشاعل بنورها الوهاج المتراقص، والمصابيح بإضاءتها الثابتة، لئلا يختبئ يسوع في كهف أو حديقة، فمن خلال هذه وتلك يكشفون ستار الظلام، والحقيقة إنه لا ضوء القمر، ولا نور المشاعل، ولا ضوء المصابيح، استطاع أن يبدد ظلمة القلوب ولا دجى النفوس، فالكل يسعى بجد واجتهاد للقبض على يسوع نور العالم.. الجنود بسيوفهم يسعون لإرضاء قادتهم والعبيد بعصيهم يسعون لإرضاء سادتهم على حساب يسوع الذبيح.. لم يعد الأبالسة يتحملون رؤية يسوع الوديع البريء متواضع القلب، ولم تعد البشرية الساقطة تحتمل يسوع الطاهر القدوس الرقيق، فاجتمعت البشرية مع الأبالسة.. اجتمع الأشرار مع الوحوش الضارية لينقضوا على الحمل الوديع الهادئ..
وصار رؤساء الكهنة ينفثون سمومهم في الجمع، مُشوّهين صورة يسوع البار.. إنه عدو الله وعدو روما، ورغم أن الكل في حالة تحفز، ولكن بعض الهمسات تفلت من أفواه بعض الخدم! أتدرون قوة يسوع وجبروته؟!.
طرد من ساكن القبور آلاف الشياطين.. شفى المفلوج منذ 38 عام..
أسكت البحر الهائج.. أقام الميت بعد أربعة أيام..
احذروه يا سادة، فالأمر ليس سهلًا والمهمة شاقة..
ألعلك يا يهوذا تقودنا إلى الهلاك؟!!
وفي الجانب الآخر كان التلاميذ الثمانية يجلسون في البيت الريفي بالبستان، وسرى الحديث بينهم عن الأيام السالفة الصعيبة منذ دخولهم أورشليم، وكيف تردت الأحوال وساءت. فالمؤامرات تُحبك، والمشاورات تتم في الخفاء، واجتماعات السنهدريم في يقظة ونشاط، وحديث المُعلّم في هذه الليلة الليلاء كم كان مرًا، وكيف أن أحدهم سيسلمه، وبطرس سينكره، وإنهم سيشكَّون فيه ولن يروه مجددًا.
وكان التلاميذ يتوقعون أن السيد سينهي صلاته، ويعود إليهم لينطلقوا جميعًا إلى بيت عنيا، فإذ بهم يفاجئون بشاب يجري لاهثًا نحوهم، وبصوت متهدج وكلمات متقطعة يسألهم أين المُعلّم؟.. أين هو؟.. إن الأمر جد خطير.
توما: ما الخبر يا مرقس.. استرح قليلًا، ثم أخبرنا ما الذي أتى بك إلى هنا في مثل هذه الساعة؟!
مرقس: جنود الرومان.. حرس الهيكل.. رؤساء الكهنة.. خدم وعبيد وغوغاء يبحثون عن يسوع، يريدون القبض عليه.. يطلبون القضاء عليه..
فيلبس: أجلس يا مرقس.. استرح.. فإن أحدًا لا يقدر أن ينال من يسوع شيئًا.
مرقس: سيقبضون عليه، ويقودونه للموت..
توما: أن السيد ذهب ليصلي، فلماذا نزعجه..؟! اجلس يا مرقس.. إن الصباح رباح، فإنهم لن يعرفوا مكاننا.
مرقس: لقد لمحت يهوذا بينهم.
صاح التلاميذ: إذًا يهوذا هو الخائن.. هو الذي سيُسلّم سيده.. تبًا لكَ يا يهوذا.. تبًا لكَ يا يهوذا..
وإذ بيسوع يقف أمامهم وخلفه بطرس وابني زبدي، وقبل أن ينطق أحدهم بكلمة تحذير، قال يسوع لمرقس: أنا عالم يا حبيبي بكل شيء.. هوذا الذي يسلمني قد أقترب.. قوموا ننطلق من هنا..
وكانت الساعة الواحدة من صباح يوم الجمعة، ووصل موكب الغوغاء والعبيد في هياج عظيم (في هيصة وزيطة وفرح العمدة) حطموا باب الحديقة مندفعين تجاه البيت، ويهوذا دليلهم، فهو الخبير بكل شبر في المكان، وإذ بالموكب يفاجأ بظهور إنسان جليل يخطو خطوات ثابتة تجاههم، وفوجئ الجمع بيهوذا يسرع نحو هذا الشخص، فاردًا جناحيه، محتضنًا إياه، مرحبًا به: السلام يا سيد.. وطبع على وجهه قبلته الغاشة، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى، فهكذا تعود التلاميذ عند غياب أحدهم ولو لفترة بسيطة، أن يُقبّل المُعلّم عند رجوعه كنوع من الدالة. أما يهوذا فقد أساء استخدام هذه الدالة.

وتفرَّس يسوع في وجه يهوذا مليًا: لِمَ جئت يا صاحب..؟! أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!
وكم من معاني عميقة تخبئها تلك الكلمات بين طياتها؟!
كيف جئت؟!..
أجئتَ كصاحب..؟! فما هذه الجلبة والسيوف والعصي؟!..
أجئتَ كعدو..؟! فما معنى هذه القبلة..؟!
ألم تقرأ من قبل " غاشة هي قبلات العدو" (أم 27: 6).
فلماذا يا صاحب صارت قبلاتك غاشة هكذا؟!.. ألم أحذرك..؟!
أتستخدم القبلة وهي أسمى معاني الحب والإخلاص والوفاء والصداقة في أدنى مظاهر الغدر والخيانة والجحود والتآمر والإغتيال..؟!
إن قبلتك يا يهوذا لهي انتهاك لحرمة التلمذة، وحرمة الصداقة، وحرمة الأمانة، وحرمة الحب والوفاء..
أتريد أن تؤكد يا يهوذا أن أعداء الإنسان أهل بيته؟!
لم يكن هناك ثمة سببًا واحدًا حقيقيًا يدعوك لتسليمي، بينما يا يهوذا عديدة هي الأسباب التي تحتم عليك أن تكون أمينًا..
ألم أختارك من الاثني عشر..؟!
ألم أصادقك..؟! ألم أُقدم لك كل حب وإخلاص..؟!
ألم أُوكل لك أمانة الصندوق..؟!
ألم أحافظ على مشاعرك..؟!
ألم أغسل رجليك يا يهوذا؟!..
عجيب أنت يا صاحب " لأنه ليس عدو يعيّرني فاحتمل. ليس مبغضي تعظَّم عليَّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب إلى الجمهور." (مز 55: 12 - 14).. عجيب أنت يا يسوع في دعوتك ليهوذا بالصاحب.. إنك في أشد اللحظات ضراوة تُعلّمنا ألاَّ نقذف من أفواهنا حممًا وجمر نار.
حقًا إن هذه القبلة الغاشة لهي أشد إيلامًا عليك يا يسوع الرقيق اللطيف لطف نسمة الربيع.. حقًا إنها أشد إيلامًا من طعنة الخنجر " ألين من الزيت كلماته وهي سيوف مسلولة" (مز 55: 21) " من هو الخروف الذي قَلَبَ نفسه ذئبًا، وبدأ يعض الراعي الصالح" (5).. ألا ترى يا يهوذا إن قبلتك الغاشة ينطبق عليها المثل اليوناني " التقبيل شيء والمحبة شيء آخر " والمثل اللاتيني " في الفم عسل وفي القلب مرارة " والمثل المصري العامي " في الوش مرآية وفي القفا سلاية".. الأمر العجيب رغم أن المُعلّم وهو يعلم أن يهوذا لن يستفيد من نصائحه هذه، إلاَّ أنه لم يكفَّ عن إسداء النصح له، فما لم يستفد منه يهوذا يستفد منه الآخرين عبر السنين والأيام.. ألا تدرك يا يهوذا أن كل كلمات الحب والإخلاص والوفاء التي بذلها المُعلّم لك، وأنت تقابلها بجحود وبلادة، ستشتعل نارًا في صدرك!!
"فإن البعض يعتقدون أن يهوذا أراد بفعلته هذه أن يدفع السيد المسيح إلى مغامرة وطنية. فلقد كان يعتقد أن يسوع هو حقًا المسيا المنتظر القادر على سحق الأعداء وطرد الغزاة. لهذا كانت توقعاته من شمشون عصره، عندما يلتف حوله الأعداء، إنه يقوم ويبددهم أو يطلب أن تنزل نار من السماء فتهلكهم. كان يهوذا واثقًا من نجاح خطته وأنه بهذه الطريقة يصل إلى السلطة والغنى والجاه. لكن سرعان ما تحطمت آماله عندما أسلم يسوع يديه في هدوء للقيود.
ما أعجب يسوع.. أنه أعظم من أن يُقحَم في مغامرة ما أو أن يستغله إنسان.. كان يهوذا في ذهول، لا يستطيع أن يدرك السر الذي دفع يسوع ليسلم نفسه، لكن هل كان لذلك القلب الأثيم أن يعرف أهداف تلك المحبة السامية وطرقها؟!!!
هكذا جاء الصليب مفاجأة ليهوذا، بل أن المفاجأة شملت الشياطين أنفسهم. لم يتخيلوا أن يسوع قد أحب البشرية إلى هذا الحد. كانت كل توقعاتهم أنه عندما يواجه الصليب لابد وأن يهرب..
إستيقظ يهوذا من غفلته ورأى يسوع كما لم يرى من قبل.. وإذا بيسوع يناديه بصوت كله رقة وحب قائلًا " يا صاحب لماذا جئت.. أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟! " كان صوت يسوع رقيقًا ومع ذلك كان له وقع السياط، فالمحبة مهما كانت لطيفة في أسلوبها لكنها لابد وأن تبرز الحقيقة كما هي. هناك رأى يهوذا سيده يشع بالحب والطهر، وفي نفس اللحظة رأى نفسه في أعماق الشر والنفاق" (6).
وجرت الأحداث بطريقة غير متوقعة وغير مألوفة، فعوضًا عن أن تبحث الشرطة عن المتهم، سعى يسوع البار نحوهم.. فوجئوا جميعًا بوقوفه أمامهم رابط الجأش مرفوع الهامة في جلال ملوكي، فتسمروا في مكانهم برهة، وتداعي إلى خاطرهم يسوع رجل المعجزات، ونسوا وصية يهوذا لهم بالهجوم المباغت، أو قل إن اللحظة التي سيُسلّم فيها السيد نفسه لم تحن بعد.
وإذ بيسوع يلتفت إليهم، ويسألهم بصوت قوي، ردَّد صداه الآبد: من تطلبون؟
ورغم أنهم تأكدوا من قبلة يهوذا أن السائل هو هو المطلوب، ولكن الربكة والخشية أصابتهم، فلم تمهلهم الجرأة ليقولوا له: إننا نطلبك أنتَ.. لم يجرؤ أشجعهم أن يهمَّ بالقبض عليه، إنما جاءت الإجابة غريبة، تنم عن مدى هذه الربكة وتلك الخشية، فقالوا: يسوع الناصري.
وإذ بيسوع يزيح الستار قليلًا عن عظمة ومجد لاهوته، مُعلنًا عن ذاته: أنا هو..
فإذ بالجمع، كل الجمع يرتبك ويجزع.. والذين في المقدمة تقهقروا مرتعدين، وشلتهم المفاجأة فلم يتمكن أحدهم من أن يركض، مُطلقًا ساقاه للريح. بل انطرحوا على بعضهم البعض.. سقطوا على الأرض من صغيرهم إلى كبيرهم، بما فيه رؤساء كهنتهم، وقائد حرس الهيكل، وحتى قائد المئة الروماني المغوار الذي طالما خاض غمار الحرب الضروس سقط، لأن رهبة يسوع غشتهم.. " وإذ قال إنه هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض، لا حول لهم ولا قوة، كمن هزهم رعد شديد أو صعقهم برق. كان يمكنه أن يأمر الأرض فتنشق وتبتلعهم كما حدث مع قورح وواثان وجماعتهما (عد 16: 49).. بهذا أكد للكل أنه سلَّم نفسه للموت بكامل إرادته" (7) ويقول القديس أغسطينوس " إنه إن كان قد فعل ذلك عندما أُلقي القبض عليه ليُحاكَم، فماذا يفعل عندما يأتي لكي يُحاكِم" (8).
جاء الباطل يقبض على الحق فانكفأ على وجهه مثلما سقط داجون أمام تابوت العهد، لأن الحق لم يسمح للباطل حتى هذه اللحظة أن يتمكَّن منه..
أما آلاف الشياطين الذين صاحبوا الموكب في جلبة وضوضاء، وكأنهم جنود أغوار في حلبة القتال، فإنهم فروا هاربين سريعًا، ولم تنجح أوامر سطانئيل الصارمة وصيحاته وصرخاته في لمْ شملهم.
وكانت الفرصة سانحة تمامًا لكي تهرب لحياتك يا يسوع لو أردتَ.. لكنك لم تفعل، لأنه لأجل هذه الساعة قد أتيتَ، فظلَّلت واقفًا بجلالك وجمالك.. بشموخك وكمالك..
إذًا.. هل ستُسلّم نفسك إليهم يا يسوع؟
نعم..
إذًا.. لماذا أسقطتهم تحت قدميك؟!
لكي لا يفتكوا بأولادي التلاميذ، ولا يقبضون عليهم بحسب مشورة قيافا.
وظل يسوع واقفًا حتى نهضوا ولملموا شتات أنفسهم وجمعوا شملهم، ولكيما لا يظن أحد أن يسوع ارتفع في هذه اللحظة إلى السماء وأسقط شبهه على آخر، أعاد ذات السؤال: من تطلبون؟
وإذ وطأة يسوع خفت عليهم هذه المرة فأجابوه: يسوع الناصري.
يسوع: قد قلت لكم أنا هو.. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون.
لم يتحدث إليهم يسوع بلهجة التوسل والرجاء، إنما بلهجة القوة والأمر ووضع الأمور في نصابها، ولم يكن لأحد خيار آخر، بالرغم من أنهم مكلفون بالقبض على الجماعة كلها، لكنهم أطاعوا بلا جدال ولا نقاش، خشية يسوع الذي كشف منذ لحظات عن قوته وسطوته، فلا الجنود الذين تعودوا الطاعة العمياء لقادتهم، ولا العبيد الذين يلتزمون بأوامر أسيادهم، جرأ أحد من هؤلاء أو أولئك أن يخالف أوامر الملك المسيح الذي يحفظ قطيعه الصغير.. إنه الراعي الصالح المتكفل بسلامتهم، ومن أجلهم يبذل ذاته.
عجبًا يا ربي وإلهي ولماذا تركت الباطل يتمكَّن منك..؟! عندما أرادوا أن يخطفوك ليجعلوك ملكًا انصرفت عنهم والآن تُسلم لهم ذاتك لكيما يذبحونك!!
وهمس يسوع: لكيما أطلق الذين قبض عليهم الموت من أولادي، وأرسلهم إلى الحرية.. من أجلهم سأسلم الآن نفسي، فيظن الموت أنني مثلهم فيبتلعني، وحينئذ سأشق بطنه وأقوم، وفي يدي أولادي الذين سبق وأبتلعهم بل والذين يتجرأ ويبتلعهم فيما بعد..
وكان ملخس هو أول من اندفع وأمسك بيسوع بكل وحشية، فهو عبد ضخم البنية مفتول العضلات، ولم يتمالك بطرس نفسه، ولاسيما أنه عاين من لحظات قوة يسوعه، فاستل سيفه وضرب ملخس ضربة هوجاء بغية الإطاحة برأسه، ولكن ملخس أشاح برأسه بعيدًا عن سيف بطرس الذي أطاح بأذنه اليمنى..
بينما صاح بقية التلاميذ: يا رب.. أنضرب بالسيف؟
وفي هذه اللحظة كان من الممكن أن تحدث مذبحة يتحول فيها التلاميذ الأحد عشر إلى أشلاء متناثرة، ولكن مازال يسوع - وكما هو دائمًا - سيد الموقف وضابط الكل، فأمر بطرس: رد سيفك يا بطرس إلى غمده، فأنا لم آتِ لأهلك وأقتل وأذبح إنما جئت لأخلص.. ألاَّ تعلم أن الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون.
إنها وصية يسوع الأبدية لأتباعه في كل آن ومكان، ولذلك يستشهد شهداء يسوع ويُذبحون، لكنهم سيفًا لا يحملون، وبغضة لا يكنون، ودمائهم تأتي بثمر كثير.. حقًا وحقيقة، لم يكن يسوعنا يومًا غازيًا فاتحًا يفرض دينه بقوة السيف، ولم يفرض إتاوة ولا جزية على أحد، ويقول المثل اللاتيني "لا يمكن أن تُفرض الديانة بالقوة، لكنها تتطلب الدفاع عنها لا بالقتل بل بالموت".
ثم أردف يسوع القول لبطرس: الكأس التي أعطانيها الآب ألاَّ أشربها.. أتظن إني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيُقدّم لي أكثر من أثنى عشر جيشًا من الملائكة، فكيف تكمل الكتب أنه ينبغي أن يكون.
أُنظر يا بطرس أنت لك فكرك وأنا لي فكري.. لك نظرتك ولي نظرتي..
أنت تظن أنني قُهرت أمام هذه الوحوش. أما أنا فإنني أتسلّم هذه الكأس من يد الآب الذي سرَّ أن يسحقني بالحزن.. أنهم لا يرون يا بطرس صورتي الإلهية، إنما يرون الآن خطايا البشرية وآثامها التي حملتها على منكبيَّ..
ألا تذكر يا بطرس أن ملاكًا واحدًا قتل كل أبكار مصر، وملاكًا واحدًا قتل مائة خمسة وثمانين ألفًا من جيوش سنحاريب..؟! فما بالك بجيش كامل من الملائكة..؟! وما بالك بإثنى عشر جيشًا من هؤلاء الملائكة..؟! وأعلم يا بطرس، إنه لو هبط إلى أرضنا هذا العدد المهول فإن السماء ستظل عامرة بالملائكة.. فكم هو عدد الملائكة يا بطرس؟!..!! أنا هو رب الملائكة ولا أشأ أن أدافع عن نفسي بغية خلاصك وخلاص إخوتك، وأرفض أن يدافع أحد عني لينصر دين الله..
يا ملائكة السماء.. أتصفون لي مشاعركم حينذاك؟..!!
بلا شك أنكم أردتم الاندفاع كبطرس، ولكن ليس الملاك الخاضع الملتزم بأوامر سيده مثل بطرس، ولذلك التزمتم بأوامر بارئكم..
أي آلام جُزتم فيها يا ملائكة السماء وأنتم ترون سيدكم في هذه الصورة المذرية من أجل خلاص البشرية؟..!!
حقًا إنكم تفرحون بخاطئ واحد يتوب، ولكن كان لابد أن يجوز سيدكم هذه الساعات الحالكة لكيما يهيئ للخاطئ إمكانية العودة.
كان ملخس القوي الجبار يركع ويتلوى من الألم محاولًا وقف النزيف المتدفق، وإذ بيسوع الحاني يتحنَّن وينحني ويلتقط أذن ملخس ويضعها مكانها، حتى إن أعظم جراح في العالم يستحيل عليه أن يكتشف أن هذا الجرح ابن ليلته، بينما أخذ رؤساء الكهنة يردّدون بلا وعي: إنه ساحر.. ساحر عظيم.. مهما كان سحره، فإن القانون سيأخذ مجراه.. لن تقف العدالة مكتوفة الأيدي.
وإذ بقائد المئة ورئيس جند الهيكل يتجرأن ويمسكا بذراعي يسوع بعنف ويلويانهما خلف ظهره، وتتشابك أيدي الغوغاء تجذب ملابسه بفظاظة، بينما قدم أحدهم الحبال التي أحضرها فربطوا يسوع الذبيح وأوثقوه حتى لا يستطيع فكاكًا.. لم يفهم هؤلاء العصاة أنه سلَّم نفسه بإرادته..
والحقيقية أن فزعهم وذعرهم قد انعكسا على عنفهم وقسوتهم في شد الوثاق.. أوثقوه كمن نالوا نصرة عليه، ولعلهم خشوا أن يصنع معجزة فيفلت من أيديهم، لذلك أحكموا الوثق جدًا. يقال أنه إذ سلم نفسه أرادوا ضمان السيطرة عليه فقيدوه بعنفٍ شديدٍ، حتى كاد الدم يخرج من أطراف أصابعه. أوثقوا يديه خلفه، ووضعوا قيودًا حديدية في رقبته وصاروا يجرونه. بدأت سلسلة العذابات والإهانات بكل وسيلة ممكنة.. ما كان يمكنهم أن يوثقوه لو لم يوثق نفسه بقرون المذبح بحبال الحب الفائق، كحمل ليُقدَم ذبيحة عن العالم. لم يدركوا أنه قد رُبط عوضًا عنا نحن الذين تربطنا حبال آثامنا (أم 5: 22) ونير العصيان (مرا 1: 14).. وإذ صار مسيحنا خطية من أجلنا قبِل أن يُربط بالحبال لكي يحررنا من قيودنا. صار تحت القيود لننعم نحن بالحرية" (9).
وتنهد يوحنا: اليدان اللتان أشبعت الآلاف.. اليدان اللتان شفتا الأمراض، وفتحتا أعين العميان، وأخرجتا الشياطين، وأراحتا التعابى تشدُّ بالوثق هكذا..!!
لماذا يا رب.. لماذا؟..!!
لأجل محبتي لك يا يوحنا أنت وإخوتك.. لأجل حبي للبشرية في كل مكان وزمان..
وبعد أن تمكن الحشد من الأسد الخارج من سبط يهوذا استأسدوا، وتذأبوا وتنمَّروا، فصاروا وحوشًا كاسرة تحتقن عيونهم بنظرات الشر والغل والغدر، وتناسوا ما كان منذ لحظات، ولو شاء يسوعك لجعلهم مثل العصافة في وجه الريح العاصف، ولجعل سيوفهم قشًا، وعصيهم كلا شيء..
وانطلقت تعليقاتهم في سخط وسخرية: هوذا الذي فتن المسكونة كلها.. هوذا الذي طرد الشياطين ببعلزبول..
أما بالنسبة للتلاميذ فكأن الحياة كلها توقفت عند هذه اللحظة الرهيبة.. وتسللوا سريعًا، وفي خضم الأحداث أطلقوا سيقانهم للريح لا يلوون على شيء.. تبعثروا، وهرب كل منهم في اتجاه، هذا من اتجاه، وذاك من آخر، ورعبة الموت تطاردهم، أما أشجار الزيتون الكثيفة فقد سترت عليهم، وفلول الشياطين الذين فروا هاربين من ميدان الصراع منذ لحظات، عادوا غازين يكرون ويزعجونهم، ونجح بعضهم في تشكيك التلاميذ في شخصية وهوية يسوع، وتساءل التلاميذ: تُرى ماذا يجري في هذه الليلة الغبراء؟!
كيف يترك المُعلّم نفسه للغوغاء ليقبضوا عليه؟!
أليس هو المسيا الذي سيمكث معنا؟!
ولو كان هو المسيا لماذا لم يُنزِل نارًا من السماء ويحرقهم كما فعل إيليا؟!
لماذا لم يخسف بهم الأرض خسفًا؟!
وتحقق فيهم القول الإلهي " كلكم تشكُّون فيَّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أضرب الراعي فتتبدد الرعية"..
ألم يقل لهم المعلم منذ قليل: هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي؟!
وهرب التلاميذ في طريق مخالف للطريق الذي أتى منه الجنود.. لقد أقبل الجمع من وادي قدرون. أما التلاميذ المذعورين فقد فروا في الاتجاه الصاعد إلى جبل الزيتون، حيث يقع بيت عنيا على أكتافه، ولاحظ بعض الشباب مرقس وهو يسرع بالهرب، فأسرعوا يمسكون بتلابيبه، فأفلت من الآزار وجرى عريانًا وسط ضحكات وصيحات الجمع التي اختلطت بضحكات الشياطين.
أما يسوع فعاتب رؤساء الكهنة وأتباعهم: كأنه على لصٍ خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أُعلم ولم تمسكوني. ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة..
وكأنه يريد أن يقول لهم: يا جند الهيكل وقائدهم.. ألم أكن معكم كل يوم في الهيكل أُعلم ولم تلقوا عليَّ الأيادي؟!
لو كان هناك خطأ في تعليمي، أو في سلوكي، فكيف تركتموني يا رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب إلى هذه اللحظة؟!
إن تعليمي يشهد لي أنني لم أكن يومًا لصًا ولا شريرًا ولا مثير فتنة.. فعلآم كل هذا؟!
لم أخرج إلى البراري لأتزعم جماعة ثائرة إنما كنتُ تحت أبصاركم في الهيكل وأمام الكل.. فلماذا لم تلقوا عليَّ الأيادي نهارًا جهارًا؟! ولماذا مجيئكم إليَّ في هذه الساعة من الليل؟!
ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة..
حدث من قبل في مدينة الناصرة أنهم قاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل. أما هو فجاز في وسطهم ومضى.. وحدث ذات مرة أن رؤساء الكهنة أرسلوا بعض الخدام ليمسكوه فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين وقال هؤلاء لهم: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان.. وحدث ذات مرة أنهم رفعوا حجارة ليرجموه. أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم ومضى هكذا.. وكان يعلم كل يوم في الهيكل وكان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه. ولم يجدوا ما يفعلون لأن الشعب كله كان متعلقًا به يسمع منه.. أما الآن فهو يسلم نفسه بإرادته لأيدي الخطاة..
من قبل تقدم إبليس ليجرب ابن الإنسان وهو على جبل التجربة، فهزمه ابن الإنسان هزيمة ساحقة، فماذا فعل إبليس؟.. لقد تركه إلى حين.. فما هو مقدار هذا الحين؟ أنه أكثر من ثلاث سنوات. أما الآن فقد عاد إبليس بعد أن أعدَّ العدة ورتب أوراقه..
نجح في إثارة حقد وغل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وكل القيادات الدينية بلا استثناء..
ونجح في غزو قلب يهوذا تلميذه..
ونجح في تأليب الشعب ضده..
ونجح في زرع الخوف في قلب بيلاطس البنطي..
فجاءت ساعة الشر، وسلَّم يسوع ذاته لسلطان الظلمة، ولكن ليس لوقت طويل، فلن تستمر الظلمة على الصليب أكثر من ثلاث ساعات، ولن يُوسد جسده الطاهر في القبر أكثر من ثلاثة أيام ثم تأتي النصرة الباهرة، وتتلألأ أضواء القيامة بلا توقف إلى أبد الآبدين.. فصبرًا يا قلبي صبرًا.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:20 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
من يطلق حنان مِنْ سجنه؟

وكانت نحو الساعة الواحدة والنصف صباح يوم الجمعة، فربطوه وأوثقوه بالحبال، وساقوه بتلك الجبال، بينما أخذ قائد المئة كعادته في قبضه على المجرمين يلطمه على وجهه لطمات قوية، بقصد إذلاله، وحتى يُشعِره بأنه صار أسيرًا لا حول له ولا قوة، فقد فَقَد حريته وإرادته وكل شيء.. وما رآه الأنبياء منذ مئات السنين هوذا يتحقق في هذه اللحظات..
ألم يقل صاحب المزمور " وسلَّم للسبي عزّهُ وجلاله ليد العدو" (مز 78: 61)؟!
أولم يتنبأ النبي الإنجيلي قائلًا " كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (أش 53: 7)؟!..
أولم يبكيه النبي " مسيح الرب أُخذ.. الذي قلنا عنه في ظله نعيش بين الأمم" (مرا 4: 20)؟!
وتقدم الموكب، وجند الرومان مع جند الهيكل يحيطون بيسوع. أما رؤساء الكهنة مع الكتبة والفريسيين فقد ساروا في ذيل الموكب، وكأنهم أبرياء مما يجري الآن، إذ ترتسم على وجوههم ابتسامة وبراءة الأطفال، وقد انشرحت قلوبهم لنجاح خطتهم هذه المرة في القبض على مُعلّم الناصرة بدون أية خسائر في الأرواح.. أما يهوذا فأين موقعه الآن..؟! منذ لحظات كنت يا يهوذا تقود الموكب، والجميع أعينهم مشدوهة نحوك، يسيرون بسيرك، ويقفون لوقفتك، يسرعون بإسراعك، ويبطئون لإبطائك. أما الآن فقد صرت كمُ مُهمل.. وما أنت يا تلميذ إلاَّ ورقة قد استهلكها الشيطان واحترقت.. سلبك الشيطان أغلى ما تملك، والآن يصرخ في وجهك: فلتذهب إلى الجحيم يا يهوذا.. هل غطى الآن الخزي وجهك..؟! أم أنك بدأت تشعر بالخزي الذي طرحته قبلًا عنك؟!
وفعلًا بدأ الخزي يغطي وجه يهوذا، أو قل بدأ يشعر بهذا الخزي..
وهل فكرت يا صاحب أن تختبئ وسط أشجار البستان كما فعل أبوك آدم من قبل؟!
وسار الموكب في جلبة وضوضاء، تحفَّه تعليقات القادة والرؤساء التي لا تنتهي:
-ألم يكن الأجدر به أن يهرب إلى ساحل صور وصيدا؟!
-لو التجأ إلى ناصرة الجليل، لوجد رجالًا شجعانًا يزودون عنه، ليسوا مثل تلاميذه الذين فروا مذعورين..
-كيف يجرؤ على مهاجمتنا في عقر دارنا؟!
-أيدخل قفص الأسود ويكون في مأمن على حياته؟!
-وأين يذهب من أقوياء باشان؟!
-الويل كل الويل لمن صبَّ علينا الويلات..
-الشكر كل الشكر ليهوه الذي حفظ جماعته من ضلال هذا الرجل، وسحره..
ودخل الموكب إلى مدينة أورشليم التي دخلها يوم الأحد الماضي، وكان الفارق عظيمًا بين هذا الدخول وذاك الآخر.. وأيما فارق؟!
في الدخول الأول كان راكبًا على أتان.. أما الآن فهو يسير أسيرًا مُوثَقًا بالحبال..
في الدخول الأول كرَّموه كملك ظافر.. أما الآن فإنه كأحد اللصوص المجرمين يلطمونه ويركلونه..
في الدخول الأول أحاطت به الجموع والتلاميذ يهتفون له.. أما الآن فقد هرب الكل وتركوه وحيدًا..
في الدخول الأول ارتجت له المدينة.. أما الآن فالمدينة تغط في نومٍ عميق..
في الدخول الأول فرشوا له الثياب.. أما الآن فيمسكونه كلص من ثيابه ويسوقونه..
في الدخول الأول حملوا له أغصان الزيتون وسعف النخيل.. أما الآن فقد رفعوا عليه السيوف والعصي..
في الدخول الأول هتفوا له " أوصنا يا ابن داود".. أما الآن فإنهم يتهامسون ضده..
في الدخول الأول دخل إلى الهيكل وطهره.. أما الآن فيدخل إلى بيت رئيس الكهنة ليعطي حسابًا عن تطهيره للهيكل..
ودخلوا إلى المدينة من باب الضأن، لأنه هو الذبيح الأعظم، قاصدين قصر رئيس الكهنة عبر شوارع يعز عليك مشاهدة أحدًا من المارة فيها، وإذ وصلوا إلى بيت القصيد، انصرف قائد المئة الروماني مع جنده مشكورين بعد أن أدوا المهمة المُكلَفين بها، والحقيقة أنه بحسب الأصول المتبعة كان من المفروض أن يصطحب قائد المئة يسوع إلى دار الولاية رأسًا، ولكن لحاجة في نفس أبناء يعقوب ترك القائد الروماني الفريسة للذئاب اليهودية..


https://st-takla.org/Gallery/var/resi...e-of-annas.jpg
St-Takla.org Image: Jesus Christ at the home of Annas the High Priest
صورة في موقع الأنبا تكلا: السيد المسيح في بيت حنان رئيس الكهنة
وصل الموكب إلى قصر حنان رئيس الكهنة. كما قطن قيافا ذات القصر لأن زوجته طلبت ألاَّ تفارق بيت أبيها بعد زواجها.. وبين الجانب الذي يقيم فيه حنان والآخر الذي يقيم فيه قيافا تقع الصالة التي خُصّصت لاجتماعات السنهدريم بعد أن أغلقت السلطات الرومانية مبنى السنهدريم الواقع جنوب قصر حنان، وقد حوى هذا القصر العديد من الحجرات المتسعة والصالات الفسيحة، مما يعكس حالة الغنى الفاحش، ويعد هذا القصر بالنسبة للإنسان اليهودي هو أهم مكان بعد الهيكل، فارتفاع شأنه هو رفعة لشأن كل يهودي، وهذا القصر بالذات يزداد في أهميته عن أي قصر لرئيس كهنة آخر، لأنه ضم في أحشائه رأسي الأفعى حنان وقيافا، وكان هناك حكمة من محاكمة يسوع في هذا المكان بالذات، وفي تلك الساعة بالذات، وهي إبعاده عن مؤيديه من الجماهير الذين تعدى عددهم ثمانية آلف نفس.
وكانت نحو الساعة الثانية صباحًا، عندما فتحت بوابة القصر الضخمة على مصراعيها، ودخل موكب العبد المتألم، وللوقت حدث هرج ومرج بين حرس الهيكل والخدم والعبيد والجواري، وبالرغم من أن رئيس الكهنة الرسمي في هذه السنة هو قيافا إلاَّ أنهم قادوا يسوع إلى حنان كنوع من الالتزام الأدبي، وكان حنان لا يزال يحظى بالاهتمام الأكبر من الكل، فهو الوحيد الذي بذكائه ودهائه ظل محتفظًا بسطوته، وجمع بين أصابعه جميع الخيوط، فلا تحدث صغيرة ولا كبيرة في الهيكل إلاَّ وحنان صانعها، وكم كان طمعه وجشعه يقودونه في إدارة شئون الهيكل، إذ كان يدبر كل شيء بعقل التاجر الجشع، وكل شبر في فناء الهيكل يساوم عليه مع أصحاب العملة وتجار الأغنام والحمام، فنجح نجاحًا باهرًا في تحويل بيت الصلاة إلى مغارة لصوص.. وكم كانت نقمة حنان على يسوع الذي حوَّل مغارة اللصوص إلى بيت صلاة..
يسوع هذا الذي نبه قلوب الغيورين إلى أطماع حنان، وفضح سلوكه أمامهم، فاشتعل قلب حنان حقدًا وغلًا عليه..
يسوع هذا الذي وقف بسلطان، فلم يدع أحد يجتاز بمتاع، وصار يُعلّم الشعب، ويشفي المرضى، فأحب الناس يسوع أكثر من هؤلاء الكهنة المزيفين..
يسوع هذا الذي وضع هؤلاء في قفص الاتهام، وصبَّ عليهم الويلات نهارًا جهارًا، ورغم سعة حيلة حنان ودهائه البالغ، إلاَّ أنه وقف عاجزًا عجزًا لم يختبره من قبل أمام يسوع هذا، فكرهه حنان من كل قلبه، وطردت تلك الكراهية من جفونه النوم، ولاسيما في هذه الليلة ليلة الحسم، وبالرغم من البرودة القارصة وكبر سن الشيخ العتيق في الشر، فإنه أثر أن يترك الفراش الوثير وظل يقظًا مترقبًا وصول يسوع إلى هذا الوكر.
توقف الموكب قليلًا في فناء القصر، ودلف رئيس جند الهيكل إلى حيث حنان، ليقدم تقريرًا شفهيًا عن أحداث القبض على يسوع، وكيف سقطوا جميعهم أمامه، وكيف أطاح أحد أتباع يسوع بأذن ملخس، ولكن يسوع هذا أعاد الأذن المقطوعة في التو واللحظة، ولكن حنان الذي أغلق عقله أمام أي فكر آخر باستثناء موت يسوع لم يهتم بهذا التقرير. بل فرح وسرَّ لأن عملية القبض تمت في سلام بدون إراقة دماء، وهوذا يسوع في قبضته الآن، وعلى الفور أرسل يستدعي من يمكن إستدعائهم من أعضاء مجمع السنهدريم، ودلف حنان إلى إحدى الصالات المتسعة يتبعه أبناؤه من رؤساء الكهنة وبعض الفريسيين وشيوخ الشعب الذين شاركوا في القبض على يسوع، وجلس من جلس، ووقف من وقف، وتصدَّر حنان الجلسة، آملًا أن تسير الأمور على ما يرام حتى يتمكن من القضاء على معلم الجليل العنيد، بالقانون والشرعية الدينية.
ودفعوا بيسوع أمام حنان وانفتحت عينا حنان تحدقان يسوع بنظرات فاحصة، تلك النظرات التي يفحص بها رئيس الكهنة الحملان التي تُعرَض عليه عشية عيد الكفارة العظيم، للتصديق على سلامتها، وحتى يمكن تقديمها كذبائح مقبولة في عيد الكفارة.
ووقف يسوع.. شاب في الثالثة والثلاثين من عمره، وبحسب التقرير المقدَّم من معاصريه نراه " إنسان بقوام معتدل ذو منظر جميل للغاية، له هيبة بهية جدًا حتى من نظر إليه يلتزم أن يحبه ويخافه، وشعره بغاية الاستواء متدرجًا إلى أذنيه ومن إلى كتفه بلون ترابي إنما أكثر ضياء.. وفي جبينه غرة كعادة الناصريين، ثم جبينه مسطوح دائمًا بهيج ووجهه بغير تجاعيد بمنخار معتدل وفم بلا عيب..
وأما منظره فهو رائع وعيناه كأشعة الشمس، ولا يمكن لإنسان أن يحدق النظر في وجهه نظرًا لطلعة ضيائه. فحينما يوبخ يرهب ومتى أرشد أبكى، ويجتذب الناس إلى محبته. تراه فرحًا وقد قيل عنه ما نُظر قط ضاحكًا بل بالحري باكيًا، وذراعاه ويداه هما بغاية اللطف والجمال. ثم أنه بالمفاوضة يأسر الكثيرين. وإنما مفاوضته نادرة، وفي وقت المفاوضة يكون بغاية الاحتشام فيختال بمنظره وشخصه أنه هو الرجل الأجمل. ثم أنه من جهة العلوم أذهل مدينة أورشليم بأسرها لأنه يفهم كافة العلوم بدون أن يدرس شيئًا منها البتة.. فكثيرون أن يرونه يهزأون به ولكن بحضرته وبالتكلم معه يرجف ويذهل. وقيل أنه لم يُسمع قط عن مثل هذا الإنسان في التخوم.. ويقال أنه ما أحزن أحد قط بل بالعكس يُخبر عنه أولئك الذين عرفوه واختبروه أنهم حصلوا منه على إنعامات كلية وصحة تامة" (10).
وبينما كان حنان يعبث بلحيته، وهو يتأمل يسوع الأسير ويطيل النظرات، لاحظ الهدوء الذي ارتسم على وجه يسوع، ورباطة جأشه في موقف صعب كهذا يدعو للرعدة والاضطراب.. كان حنان يظن أنه يعرف كل شيء عن يسوع لأنه عرف موطنه وتلاميذه وتعاليمه وذكائه الحاد وشجاعته النادرة ونظراته المؤثرة وخدمته الباذلة المجانية ومعجزاته التي ليس لها مثيل، وتأثر حنان تأثرًا بالغًا، لأن شابًا يهوديًا بمثل هذه المميزات الفذة يُعرّض حياته للخطر بسبب عناده.. آه لو كان معنا ولم يكن علينا لدفعنا به إلى مركز القيادة، ولأطلقناه قائدًا مغوارًا في وجه روما، ضد الاستعمار الروماني الجاثم على صدورنا، ولكن لا فائدة تُرجى، وهل يفيد البكاء على اللبن المسكوب..؟! فعلى هذا العنيد أن يدفع ثمن عناده.
وقف يسوع يُحاكم المحاكمة الأولى أمام حنان، وهي بالطبع ليست محاكمة رسمية، لأن الذي يجريها ليس ذو صفة رسمية.
تنهد حنان وقال ليسوع: لقد جذبت العالم كله وراءك، وصرتَ تقدم للشعب الفتاوى والأحكام، وأنت لا تحمل أي درجة كهنوتية ولا تعليمية، ولستَ من اليهودية بل من الجليل، وأنك تأكل مع الخطاة والزواني، وتكسر الوصية الرابعة وأنت أعلم بجزاء من يكسر السبت.. بل أنك جعلت نفسك ابنًا ليهوه، وأثرتَ الشعب ليهتف لك، وفعلتَ ما فعلت يوم الأحد الماضي.. ناهيك عن أخطائك القاتلة الكثيرة..
ثم رفع حنان صوته قائلًا:
والآن قل لنا أيها المسيح من هم تلاميذك؟ كم عددهم، من هم الاثني عشر؟ ومن هم السبعين الآخرين؟.. ما هي تعاليمك؟ وما هو هدفك الذي تصبوا إليه؟
يسوع: أنا كلمتُ العالم علانية. أنا علَّمتُ كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائمًا، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء.. لماذا تسألني أنا؟ أسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا..
لقد أراد يسوع أن يبرر تلاميذه من أي تهمة كانت، وآثر أن يتحمل المسئولية كاملة لذلك قال "أنا قلتُ.. أنا علَّمتُ.. قلتُ أنا " وكأنه يريد أن يقول له أيضًا: أنظر يا حنان إلى السرية التي غلَّفتم بها جريمتكم، بينما النور لا يخشى شيئًا.. إنني كنت أجاهر بتعليمي في العلن وفي الخفاء لم أتكلم بشيء.. حقًا إن العلنية التي افتخر بها يسوع تدين التخابرات السرية لرؤساء الكهنة مع يهوذا ومع الرومان " أنا الرب وليس آخر. لم أتكلم بالخفاء في مكان من الأرض مُظلم.. أنا الرب مُتكلّم بالصدق مُخبر بالاستقامة" (أش 45: 18، 19).
وأمام هذا المنطق القوي وتلك البراءة المُعلَنة خسأ حنان وخجل، وشعر الشيخ العجوز بالامتهان، واهتزت عمامته مع كرامته، وعاد يعبث بلحيته، ولا يدري ماذا يقول أمام هذه الطلاقة واللباقة والفصاحة، ومع هذا فإنه تماسك حتى لا يظهر بمظهر المتعدي على الأسير قبل أن يحكم مجمع السنهدريم الموقر عليه.
وأحس أحد الخدام بمدى الحرج الذي أصاب رئيسه، وأن هذا الشاب قد أودعه سجنًا أدبيًا لا يستطيع منه فكاكًا، فهاج وأراد أن ينقذ رئيس كهنته، فما كان منه إلاَّ أن لطم يسوع على وجهه لطمة قوية، وهو يقول له: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟
يسوع: إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الرديء. وإن حسنًا فلماذا تضربني؟
لم يثُر يسوع ولم يندفع ولم يلعن، إنما أراد أن يُلقّن هذا الخادم درسًا علَّه يفيد البشرية، لتراعي أبسط مبادئ العدالة لِمن هم رهن المحاكمة، ولم يقصد يسوع هنا أن يدافع عن نفسه إنما قصد أن يقول لهذا الإنسان: لماذا ترتكب هذه الخطية الشنعاء؟!
وما هي مصلحتك في هذا؟
ولماذا تزج بنفسك إلى نار جهنم؟!
إن كنتُ قد تكلمتُ رديًا فأقصى ما يمكنك عمله، هو الشهادة فقط على الرديء، وليس لك أن توقع عليَّ العقوبة..
وحار الخادم أمام هذا المنطق، ودخل في قفص الاتهام الأدبي مع سيده.. وكان من المفترض أن تأخذ النخوة حنان فيتدخل ويشكم خادمه، ويطرده شر طردة، لأنه بتصرفه الغبي هذا أساء إلى سيده وهو لا يعلم، فمن يدافع عن من..؟! هل الخادم يدافع عن رئيس الكهنة أم أن رئيس الكهنة يدافع عن خادمه..؟! ولكن حنان تدنى إلى الدرجة التي أرتضى فيها أن يدافع عنه الخادم في قضية باطلة. ثم يا حنان من الناحية الأدبية أنت مسئول عن سلامة أسيرك مادام في قبضتك، فتعدي هذا الخادم على الأسير يُعتبر تعدي عليك يا حنان شخصيًا، ولكن إذ تبلدت مشاعر ذاك الحنان مرَّر الموقف، ولم يشأ حتى أن يلقي باللوم على هذا الخادم الشرير، وأمر بإرسال يسوع إلى قيافا.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:22 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
شهود الزور

الساعة تقترب من الثالثة صباحًا من يوم الجمعة، والجند يدفعون بيسوع موثقًا من بيت حنان إلى بيت قيافا، ولم يستلزم هذا منهم إلاَّ هبوط عدَّة درجات، وعبور الدهليز، وصعود عدَّة درجات مماثلة، والخدم يتبعونهم.. القصر كله يقظ وقد جافى النوم عينيه فلا الرجال ولا السيدات ولا الخدم ولا العبيد ولا الإماء ذاقوا النوم في تلك الليلة، فهي ليلة ليست مثل كل ليلة.. هناك من يذهب وهناك من يئيب.. الخدم والعبيد يذهبون في مأموريات عاجلة، وأعضاء السنهدريم يتوافدون، واحد يلو الآخر، وكذلك شهود الزور يتدفقون على القصر، والكل مشغول بقضية مُعلّم الجليل الرجل المعجزة قاهر الموت، وبينما الخدم والعبيد يحاولون اختلاس النظرات لذاك الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر، فإن سيدات القصر يستجدين الأخبار منهم.. أنه يُحاكم أمام سيدنا حنان.. لقد لُطِم على وجهه.. أنه يُقاد إلى سيدنا قيافا..
وإذ كانت الليلة شديدة البرودة، تجمَّع بعض الخدم في الفناء حول النار يصطلون، ورغم انتشار المصابيح في الطرقات والردهات، ولكن من لي ليُبدّد ظلمة تلك النفوس، فلا النار ولا النور بوسعيهما أن يقشعا الظلمة عن تلك النفوس الظمأى لدم الناصري.
ومرقس الذي انطلق إلى بيته عريانًا، عاد سريعًا وقد ارتدى ملابسه إلى بيت رئيس الكهنة، ودلف في غفلة من البوابة إلى القصر، وأيضًا يوحنا الذي استجمع شجاعته جاء ودخل علانية لأنه كان معروفًا لدى الخدم، إذ كان يُحضر الأسماك الطازجة والمميَّزة إلى هذا القصر، وبعد قليل همس مرقس في أذن يوحنا: إنني لمحت بطرس يحوم حول القصر.
فذهب يوحنا وكلم البوابة بدالة فأدخلت بطرس إلى القصر رغم أنه شخص مجهول بالنسبة لها. بل ربما شكت فيه إنه أحد أتباع المتهم.
وكان قيافا قد رتب أوراقه للحكم على مُعلّم الجليل بأي تهمة تفضي إلى القتل، ولكيما يكون انعقاد مجمع السنهدريم صحيحًا، يجب ألاَّ يقل عدد الأعضاء المجتمعين عن ثلث الأعضاء، وبالفعل نجحت مساعي حنان وقيافا في استدعاء أكثر من هذا العدد في تلك الساعة بفضل الإلحاح والترجي، فكان هناك رؤساء الكهنة حنان وأولاد الخمسة وقيافا سبعة رجال من أعضاء المجلس الموقر، وجميعهم من " الصدوقيين " نسبة لصادوق الكاهن الذي خصه الملك سليمان برئاسة الكهنوت دون أبياثار (1 مل 2: 35) وقد انحدروا إلى الدرجة التي أنكروا فيها القيامة والملائكة والأرواح وحياة الدهر الآتي، ولذلك اضطربوا من يسوع الذي جاء يكلمهم عن القيامة والدينونة والحياة الأخروية، وقد سبق وأرسلوا له يسألونه في مثل المرأة التي تزوجت بسبعة أخوة الواحد بعد موت الآخر، فقال لهم "تضلُّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله لأنهم في القيامة لا يُزوّجون ولا يتزوَّجون بل يكونون كملائكة الله في السماء وأما من جهة قيامة الأموات أما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل. أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. ليس الله إله أموات بل إله أحياء" (مت 22: 29 - 32) وهكذا اقتصر رجاء الصدوقيين على هذه الحياة الأرضية وصرفوا اهتماماتهم نحو التراب والترابيات..
كيف يجبون جباية الهيكل ويحصلون على العشور ويحلبون الشعب؟!
كيف نسوا الفقراء وتركوا المحتاجين وأهملوا الغرباء، وصرفوا ببذخ على أنفسهم، فعاشوا عيشة الملوك؟!
كم كان لديهم من عبيد وخدام وإماء، وأجزلوا العطاء لروما ليلبثوا في مناصبهم أطول فترة ممكنة؟!
إنهم بالحقيقة يمثلون الطبقة الأرستقراطية في المجتمع اليهودي، وانشغالهم بالثراء والسياسة صرفهم تمامًا عن الاهتمام بأمور الدين والأخلاق الحميدة، وترجع أهمية طائفة الصدوقيين ليس إلى عددهم بل إلى خطورة مناصبهم، وكانوا يركزون على سلطة وسلطان الهيكل ويرفضون كل ما هو جديد.
أما "الفريسيون" أي المعتزلون أو المفروزون، فقد أطلق عليهم الصدوقيون هذه التسمية نظرًا لاعتزالهم عن المجتمع، وكان الفريسيون يشعرون أنهم مميَّزون لدى الله عن بقية اليهود بسبب تدقيقهم واعتزالهم عن الأمم، وقد اهتموا بالوعظ وتفسير الناموس، ولذلك اكتسبوا شعبية تفوق تلك التي لرؤساء الكهنة الصدوقيين، وكان الشعب يضع ثقته فيهم، وتقلد الفريسيون سلطة القضاء بمجمع السنهدريم، وتمسكوا بالتفسير الحرفي للناموس، فلا عجب أن نسمع عن مشادة بين مدرستي "شماي" ومدرسة "هاليل" بسبب تحليل أو تحريم البيضة التي وضعتها الدجاجة في يوم سبت، وبينما كانت مدرسة هاليل تحرّم أكل هذه البيضة، فإن مدرسة شماى كانت أكثر تسامحًا فسمحت بأكلها، ونسمع عن مجادلة حول الإنسان الذي يتعرض للحرق يوم سبتٍ، هل يحل له إطفاء ملابسه المشتعلة..؟! وانتهى الرأي إلى تحليل إطفاء ملابسه الداخلية فقط التي تستر عريه، أما بقية الملابس فيتركها تحترق، وكانوا يعتبرون أن لبس الحلي أو الأسنان الصناعية أو حمل الأطراف الصناعية يكسر السبت لأنه نوع من الأحمال المحرمة، وقتل البرغوث يكسر السبت لأنه نوعًا من الاقتناص..
وبينما كان الفريسيون على خلاف شديد مع الصدوقيين، فإنهم ارتبطوا بعلاقة وثيقة مع الكتبة، وكان للفريسيين تقليداتهم التي دعوها "تقليدات الشيوخ" ورفعوا من شأنها إلى درجة الناموس، فهم يعتبرون أنفسهم معلموا الطقوس، وظنوا أن الله يبارك اليهود لكونهم أولاد إبراهيم، ولذلك وبخهم يوحنا المعمدان قائلًا لهم " يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم أن لنا إبراهيم أبًا. لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (لو 3: 7، 8) وكان منهم غمالائيل معلم الناموس وتلميذه شاول الطرسوسي، ونيقوديموس وسمعان الأبرص عضوي مجمع السنهدريم.
وهاجم هؤلاء الفريسيون معلم الناصرة واتهموه أنه يخرج الشياطين ببعلزبول رئيس الشياطين، وأنه بصنعه المعجزات والأشفية في يوم السبت يكسر السبت، ولاسيما عندما قال للمفلوج أحمل سريرك وأمشي.. فكم غضبوا عليه حينئذ..؟! ولاموا على المسيح، لأن تلاميذه لا يصومون، بينما كانوا هم يصومون يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فيوم الخميس تذكارًا لصعود موسى للجبل لاستلام الشريعة، ويوم الاثنين تذكارًا لنزوله من الجبل. وانتقدوا معلم الناصرة انتقادًا مرًا بسبب أكله مع الخطاة والعشارين والزواني، وكثيرًا ما جربوه ليصطادوه بكلمة ويحكمون عليه. أما المعلم فقد وبخهم على ريائهم قائلًا " أنتم الآن أيها الفريسيون تنقُّون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافًا وخبثًا. يا أغبياء أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضًا.. ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تعشرون النعنع والسَّذَاب وكل بقلِ وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تحبون المجلس الأول في المجامع والتحيات في الأسواق. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم مثل القبور المختفية والذين يمشون عليها لا يعلمون" (لو 11: 39 - 44) ولذلك لك أن تتصوَّر يا صديقي مدى نقمتهم على يسوع، فكم يشتهون أن يشفوا غليلهم عندما يروه مُعلقًا على خشبة العار؟! وإن كان معظمهم قد آثر الانسحاب من حلقة الصراع الأخيرة تاركين مهمة القضاء على يسوع للصدوقيين ومشايعيهم.
أما "الكتبة" فكان عملهم نسخ الأسفار المقدَّسة وتفسيرها، وعُرِفوا باسم السفريم، وهي مشتقة من كلمة سفر أي سجل أو كتاب، وكان الكتبة يعتبرون أنفسهم معلموا اللاهوت، وكان بعضهم أعضاءًا في مجمع السنهدريم، ونال بعضهم رتبة "رابي" Rabbi، وبعضهم نالوا الرتبة الأعلى "رابوني" Rabboni، وألتزم الكتبة بالتفسير الحرفي للناموس وتشدَّدوا في حفظ تقاليد الشيوخ، ولذلك ارتبطوا بصلة وثيقة مع الفريسيين.
وقاوم الكتبة معلم الناصرة، فلقد كان دائم التوبيخ لهم " على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون. فأنهم يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس.." (مت 23: 1-7) وبالتالي فإن هؤلاء الكتبة كانوا ناقمين على مُعلّم الناصرة يتمنُّون من كل قلبهم الخلاص منه.
وكان هناك أيضًا طائفة "الناموسيين" الذين اهتموا بدراسة ناموس موسى من الجهة القانونية، فهم معلموا القانون ويعتبرون أنفسهم حماة الشريعة مثل الكتبة والفريسيين، ورفضوا مثلهم بشارة يوحنا المعمدان، وكرازة يسوع، وحاولوا اصطياده بكلمة، وقال أحدهم للمُعلّم عندما وبخ الفريسيين: يا مُعلّم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضًا فقال لهم "وويل لكم أنتم أيها الناموسيون لأنكم تُحّملون الناس أحمالًا عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحدى أصابعكم. ويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم.." (لو 11: 46 - 48).
كما ضم المجمع اليهودي طوائف أخرى شتى أقل أهمية مثل "الأسينيون" الذين عاشوا حياة البتولية والنسك والتقشف و"الهيردوسيون" الذين يوالون العائلة الهيرودسية، و"الغيورون" الذين لا يعترفون بسلطة أحد من الشعب ولكنهم يعتبرون بسلطة الله فقط، ومنهم سمعان الغيور، وكانوا يقاومون الرومان بحماس وغيرة شديدة.

أما "مجلس السنهدريم" فهو يمثل السلطة الأعلى في المجتمع اليهودي بكل طوائفه وفئاته، وجاءت تسمية السنهدريم من "سنهدريم" Sunhedrion أو "سنهدرين" Sunhedrin والكلمتان من الكلمة اليونانية "سندريون" Synedrion أي محكمة، ويرجع تاريخ هذا المجمع إلى زمن موسى النبي عندما اختار سبعين من شيوخ إسرائيل ليعاونوه في احتياجات الشعب وأعمال القضاء بحسب مشورة حماه يثرون، ولذلك فإن اليهود قد حافظوا على نفس العدد سبعين شيخًا بالإضافة إلى رئيس الكهنة الذي يمثل موسى، ويبلغ عدد أعضاء الهيئة العليا للمجمع ثلاثة وعشرين عضوًا من الواحد والسبعين.
اجتمع مَنْ تَجمَّع من أعضاء المجلس الموقر في صالة الاجتماعات الخاصة بهم، والساعة تجاوزت الثالثة صباحًا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي اجتمع فيها المجلس بشأن هذه القضية، فقد طُرحت قضية يسوع على مائدة البحث في هذا المجلس الموقَّر مرة ومرات، أرسلوا خدامًا ليحضروه من قبل ولكنهم عادوا قائلين " ما سمعنا أحد قط يتكلّم بكلامه " ومرة أخرى أرسلوا أُناسًا ليصطادوه بكلمة فيحكموا عليه، ولكنهم باءوا بالفشل الذريع، ومنذ أيام قليلة كان هناك اجتماعًا موسعًا بسبب إقامة لعازر من الموت، وإيمان عدد كبير من اليهود مؤكدين أنه ليس أحد يقدر أن يعمل هذه المعجزة إن لم يكن الله معه، حتى الذين كانوا يخشون السلطات الدينية المستاءة من يسوع لم يعودوا يخشون شيئًا، بل اجتاحتهم الشجاعة وأقرُّوا المعجزة مؤكدين أن هناك أمرًا ما يفوق الطبيعة يخص يسوع، وقد عمَّت الأخبار أورشليم ومدن إسرائيل، وانتظر الشعب هبوب رياح الثورة والتغيير على يد يسوع الجبار ليطيح بالفساد الديني والنير الروماني الذي طالما أثقل الأعناق.. وكم كان اجتماعًا مثيرًا!! فقد حضره كل أعضاء المجلس وناقشوا موضوع يسوع من وجهة نظر أنانية، وقال أحدهم:
عندما يلتف الشعب كله حوله.. فأين هو دورنا نحن..؟! لابد إننا سنختفي من على خشبة المسرح.. نحن حماة الشريعة وحماة الهيكل، وهل يعتمد على يسوع الذي يُعلّم أتباعه محبة الأعداء؟! ذاك الذي لا يملك سيفًا، أيدافع عن الهيكل..؟! لابد أن الرومان الذين رفعوا البيارق من قبل على قلعة أنطونيا المشرفة على الهيكل، سيرفعون مثل هذه البيارق الوثنية على الهيكل نفسه.
وقال آخر: وماذا لو واتت يسوع الشجاعة وقام بثورة ضد الرومان، رغم أن هذا ضد مبادئه المتسامحة، وماذا لو فشلت ثورته.. تُرى ماذا يكون رد الرومان علينا؟
وأجابه آخر: سيأخذون موضعنا.. سيكتسحون أمتنا.. سيعلقون شبابنا ورجالنا وأراخنتنا على الصلبان، ويرملون نساءنا وييتمون أطفالنا، وقد يحرقون هيكلنا.
فقال حنان: وحينها سنفقد سلطتنا وسطوتنا وكل شيء.
حينئذ نهض قيافا قائلًا: لقد فاتكم شيئًا ألاَّ ترون أنه خير لنا أن يموت يسوع من أن تُهلك الأمة بأسرها.. خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا يضيع الشعب كله ونضيع نحن معه.
وشعر نيقوديموس ويوسف الرامي أن حلقات الشر تضيق حول يسوع، فإن هؤلاء القوم يطلبون مسيحًا يوافق هواهم، يسير في طوعهم، ويُثبّت أقدامهم، وهذا بعيد كل البعد عن معلم الجليل، ولم تواتي نيقوديموس ولا يوسف الجرأة للشهادة للحق خشية طردهم من المجمع، وانساق المجمع كله وراء قيافا، واتخذوا القرار بقتل يسوع، وحياهم حنان على روح الغيرة هذه قائلًا "نعمًا ما فعلتموه يا أبناء يعقوب" واستمر النقاش حول كيفية تنفيذ القرار، فقال أحدهم: نُرسل إليه من يغتاله سرًا؟
حنان: إن تلاميذه لا يفارقونه، ولو اكتشف الشعب هذه الجريمة ربما يرجموننا.
وقال آخر: إذًا فلنقبض عليه ونقدمه للمحاكمة أمامنا في هذا المجلس الموقر.
حنان: حسنًا، ولكن متى يكون هذا؟
قيافا: ليس في العيد لئلا يحدث شغب في الشعب.. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه. ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب.. وهكذا اتفق الجميع على القبض على يسوع في غيبة من الجماهير، وأصدروا قرارهم الأخير "إن عرف أحد أين هو فليدل عليه".
وبناء على القرار السابق تقدم يهوذا الإسخريوطي يعرض تسليم مُعلّمه إليهم، وهوذا الآن كل شيء قد تم بسلام، وهوذا يسوع ماثلًا أمامهم، فكل الظروف قد تغيرت.. هكذا كان يفكر رؤساء الكهنة ومشايعيهم، وهم يجلسون في مجلسهم مع بقية الأعضاء على شكل حرف U وجلس كاتبا الجلسة على طرفي المقاعد، كما وفد عدد كبير من الكهنة وشيوخ الشعب والكتبة وبعض الجنود والخدام والعبيد الذين قبضوا على يسوع، وكلهم يختالون زهوًا بهذا العمل البطولي، ووقف يسوع في الوسط بين جنديين من حرس الهيكل، ووقف يوحنا الحبيب يتأمل ويتألم، وكان قيافا يستحث الحاضرين ليقدم كل منهم شكاية على يسوع قبيل الجلسة.
وبدأت الجلسة برئاسة قيافا بحكم منصبه كرئيس للكهنةونادى المنادي أسماء الأعضاء لإثبات حضورهم، فكانت هذه المحاكمة الثانية لمعلم الناصرة بعد محاكمته الأولى السريعة أمام حنان، وهذه المحاكمة شابها منذ بدايتها ثلاثة أخطاء جسيمة:
1- حسب الشريعة اليهودية كانت المحاكمة تبدأ بأشخاص متضرّرين يُمثّلون الإدعاء، وذلك لعدم وجود نيابة عامة لدى اليهود تنوب عن المجتمع ككل حينذاك، وهؤلاء المتضرّرين يتقدمون بتهم مُحدَّدة ضد المتهم، ويكون لديهم على الأقل شاهدين، فإن لم تتوفر مثل هذه الشروط فلا يجوز القبض على المشكو في حقه، وبالرغم من عدم توافر هذه الشروط في هذه القضية فقد قبضوا على يسوع، وأكثر من هذا أنهم استخدموا الرشوة ليتمكنوا من القبض عليه.
2- بينما كان المتهم يُعتبَر بريئًا حتى تثبت إدانته، فإنهم اعتبروا يسوع مُدانًا وحكموا عليه بالموت في جلسة السنهدريم السابقة قبل أن يسمعوا منه.
3- منعت الشريعة مُحاكمة الإنسان المتهم بتهم تفضي إلى الإعدام ليلًا، فمثل هذه المحاكمات لابد أن تبدأ في وضح النهار وتنتهي في وضح النهار. أما المحاكمات المتعلقة بالأمور المالية والمديونية فكان مسموح لها بأن تنعقد في وضح النهار وتنتهي ليلًا، وبالرغم أن أحد أعضاء غرفة المشورة قد لفت نظر الأعضاء لهذه المخالفة لكنهم تعلَّلوا بأن الأمر جد عاجل وخطير ولا يحتمل التأجيل، وربما مخالفة الأعضاء لضمائرهم في الأمور السابقة جعلهم يدقَّقون في موضوع الشهود وبقية الإجراءات الشكلية.
وكما شاب هذه المحاكمة أخطاء جسيمة في بدايتها فقد شابتها الأخطاء أيضًا في انعقادها، وفي ختامها كما سنرى حالًا.. منذ سبعمائة سنة قال الروح القدس عن هذه المحاكمة "ها أنهم يجتمعون اجتماعًا ليس من عندي" (أش 54: 5).
ووقف أحد أعضاء المجلس يعرض التهم التي من أجلها يُحاكم يسوع الناصري وأهمها إدعائه أنه المسيا، وأنه ابن الله... وتقدم شهود الزور يشهدون كذبًا وافتراءًا، ونادى قيافا بصوت جهوري: لك أن تدافع عن نفسك يا يسوع..
والتزم يسوع جانب الصمت ولم يجب بشيء..
وتكرَّر النداء القيافي ثانية وثالثة، ومازال يسوع صامتًا.. سألوه كثيرًا فلم يجب ولا بإيماءة بسيطة، وكأن هذه الأسئلة لا تخصه.. فلماذا صمتَّ يا يسوع؟..
هل صمتك هذا كان احتجاجًا على ظلمهم..؟! ربما..
هل صمتَّ لأنك وجدت الجور في مكان العدل، والظلم في مجلس الحكم..؟! ربما..
هل صمتك يعني موافقتك على كل الاتهامات الموجهة إليك لأنك حمل الله الذي يحمل خطية العالم كله؟!..ربما..
هل صمتَّ لأنك لو تكلمت فإنك ستُبكم الكل، فيطلقونك وتتعطل قضية الخلاص..؟! ربما..
هل صمتَّ حزنًا على كل إنسان مظلوم يقف أمام محكمة جائرة، لا يعرف أن يحير أو يدير..؟! ربما..
ولنا أن نستمع إلى شهادة أحد الأشخاص غير المسيحيين في أيامنا هذه " وقد استمع (يسوع) إلى هذه الأقوال ولم يُعقِب عليها لأنه أدرك أنه لا فائدة من التعقيب، فطريقة القبض عليه ومحاكمته في دار أعدى أعدائه في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل والتزييف الذي لمسه من أقوال الشهود، والمرارة التي أحس بها في لهجة الذين نصَّبوا أنفسهم قضاة ومُحلفين، وفي تصرفاتهم والشرر الذي يتطاير من أعينهم، كل أولئك دفعه إلى الصمت" (11).
وتوتر حنان العجوز وهو يكتم غيظه، فما هو السبيل للحكم على إنسان صامت لا يدافع عن نفسه؟!
إن صمته القوي كشف مؤامرتهم وفضحهم أمام أنفسهم.. فأخذت المحكمة تُناقش الشهود في أقوالهم، وكان معظمهم من خدام رؤساء الكهنة، ورغم أن الشاهد كان يقسم اليمين على قول الحق، إلاَّ أن جميع شهادتهم جاءت كاذبة أو مُلفَّقة، فهي شهادات واهية يعوزها الدليل، غير متناسقة ولا مُتفقة، محض أكاذيب وافتراءات باطلة، تحمل زيفها في طياتها، فانكشف شهود الزور واحدًا يلو الآخر، وتضاربت أقوالهم، وماتت شهاداتهم في مهدها، أو قل أنها وُلِدت ميتة، فرُفضوا جميعًا، بل إن بعض هذه الشهادات كانت تُثير السخرية، ولاسيما عندما قال أحد الخدام أنه شاهد بأم عينيه المُعلّم يقلب موائد الصيارفة وتلميذه الأسخريوطي يدس بعض الدراهم في جيبه، وبما أنه تلميذ يسوع فيجب الاقتصاص من المُعلّم عوضًا عن التلميذ، وتململ يهوذا وأراد أن يُكذَب هذا الرجل، ولكن شجاعته كانت قد ذابت فآثر الصمت، واستاء قيافا من هذه الشهادة التي تُدين حبيبه يهوذا.
فما العمل والشهادة الصحيحة تقوم على فم شاهدين أو أكثر..؟!
وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه فلم يجدوا. لأن كثيرين شهدوا عليه زورًا ولم تتفق شهاداتهم.. إنها مهزلة قضائية.. لقد أصدروا الحكم قبل النظر في القضية، وكل ما يفعلونه الآن هو ترتيب أوراق التين لستر عريهم.. مجرد إجراءات شكلية لذرَّ الرماد في العيون.. منذ ألف عام رأى داود هذه الأمور بعين النبؤة فقال "شهود زور يقومون عليَّ وعمَّا لم أعلم يسألونني. يجازوني عن الخير شرًا" (مز 35: 11، 12).
" وعندما بدأت المحاكمة، أصبحت في واقعها محاكمة للكهنة أنفسهم، فأي عار هذا عندما يلجأ رجال الدين إلى شهود كي يلصقوا علَّة بذلك القدوس. ومع هذا لم تتفق أقوالهم فازدادت خيبتهم وشعروا بضآلتهم أمام ذلك الشخص العظيم" (12).
وصرفت المحكمة وقتًا طويلًا في غربلة أقوال الشهود واستجوابهم، مما جعل الشهود أنفسهم يتخذون جانب الحيطة والحذر، وكفوا عن أكاذيبهم، ولاسيما أن الشريعة تُوجب رجم شاهد الزور، وجاء بالتقليد اليهودي في نص تحذير الشاهد في جرائم الأنفس " لا تنسَ أيها الشاهد أن هذه المحاكمة التي تتعلق بالحياة سيكون دم المتهم، ودم ذريته إلى انقضاء الزمن في رقبتك إن شهدت زورًا.. فالله خلق آدم وحيدًا فريدًا، وهو يعلمك بهذا أن أي شاهد يتسبب في هلاك فرد في إسرائيل فكأنه أهلك العالم كله، أما من أنقذ إنسانًا واحدًا فكأنه أنقذ العالم كله" (13) كما إن الفقه اليهودي كان يميل إلى تأويل أقوال الشهود لصالح المتهم، حتى تثبت إدانته بالدليل القاطع قبل سفك دمه.
ووقف يسوع وحيدًا بلا سند ولا مُعين وسط هذا الجمع يُحاكم، بينما يحاول أعضاء المجلس الموقَّر أن يحسنوا إنتهاز الفرصة للحكم عليه، فلو زاغت من أيديهم هذه المرة، فلن تؤاتيهم مرة أخرى لا في المستقبل القريب ولا البعيد أيضًا، وربما كانت نهايتهم على يده، فهو القادر على تحريك الجماهير في أي اتجاه يريد، بل إن أتباعه لو علموا الآن أين هو لتجمهروا حول القصر، ولن ينصرفوا إلاَّ وهو معهم.. بمثل هذه الأفكار كان ينشغل حنان وقيافا.
وهذه هي الفرصة الأخيرة للشهود حيث تقدم شاهدان وقالا: نحن سمعناه يقول: إني أقدر أن أنقض هيكل الله هذا المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بالأيادي.. وكان الهيكل موضع افتخارهم مثل آباؤهم الذين استبعدوا حدوث السبي وتهدم الهيكل، ولم يصدقوا لا أرميا ولا إشعياء، مما دفع النبي الباكي أن يقول لهم " لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين هيكل الرب هيكل الرب هو" (أر 7: 4).
أما يسوع فظل صامتًا، تاركًا داود يغني لهم على الناي الحزين " قد قام عليَّ شهود زور ونافث ظلم" (مز 27: 12).. " وأما أنا فكأصم. لا أسمع. وكأبكم لا يفتح فاه. وأكون مثل إنسان لا يسمع وليس في فمه حجة" (مز 38: 13، 14) ونهض هوشع النبي ليخبر بلسانه " أنا أفديهم وهم يتكلمون عليَّ بالكذب" (هو 7: 13).
وأدرك قيافا أن مستوى الشهود لن يزيد بأي حال من الأحوال عن هذا المستوى، وأراد أن يوحي للحاضرين بأهمية هذا الاتهام، فهب واقفًا ملوحًا بيده نحو يسوع، وكاد يفقد أعصابه: أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟.
وظل يسوع ساكنًا، كل هذه التهم الباطلة لم تهزه، ولم تحرك ساكنًا داخله.. كان من السهل عليه جدًا فضح تلفيقهم، فهو لم يقل " إني أقدر أن أنقض هيكل الله " إنما قال "أنقضوا (أنتم وليس أنا) هذا الهيكل (وليس هيكل الله) " وهو يقصد هيكل جسده، وبكلامه هذا كان يتنبأ عما يحدث معه الآن.. إذًا لم يصمت يسوع عن ضعف، ولا كأنه مذنب، ولا لأنه ليس في فمه حجة، ولكنه صمت لأن رؤساء الكهنة جلسوا يحاكمونه، وقد صموا أذانهم عن سماع الحق، وأغلقوا قلوبهم، فحب السلطة والمظاهر أعمى عقولهم وطمس أذانهم.. لقد التحفوا بسحابة كثيفة من الحقد الأسود والغل الأحمر، ولا فائدة تُرجى من خلاصهم.. كما إن صمت يسوع يعلمنا الصمت وقت التجارب والافتراءات الكاذبة.
وهمس أحد الأعضاء للجالس بجواره: لو كانت شهادة هذين الرجلين صحيحة، فلماذا تركوه للآن..؟! ألم يكن قوله هذا كافيًا لرجمه بالحجارة؟!
فرد عليه الآخر قائلًا: حتى ولو قال يسوع هذا، فما هو إلاَّ افتخارا باطلًا، لا يستوجب أبدًا حكم الموت.
وهمس عضو آخر: ومن يصدق أن هذا الشخص الوديع يقصد تحطيم الهيكل؟!
وهمس جاره: وما الهدف من هدمه للهيكل إذا كان سيعيد بنائه ثانية..؟! هل هي عملية استعراضية..؟! الجميع يعرفون أن هذا المُعلّم لم يكن متكبرًا قط، وليس صاحب حركات استعراضية. بل كان يوصي الكثيرين من المرضى الذين شفاهم بألا يقولوا لأحد شيئًا.
وبمجرد أن تعرض هذان المنافقان لقليل من الأسئلة.. متى قال يسوع هذا؟ وفي أي مكان؟ ألم يعترض عليه أحد؟.. اضطربا، ورفضت شهادتهما.
ونظر حنان لقيافا بأسى بالغ، وكأنه يريد أن يقول له: وما الحل يا زوج ابنتي؟.. لقد أعيتني الحيلة، ويبدو أنني شخت ولا فائدة تُرجى مني، فعليك تقع المسئولية الآن..

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:23 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
التمثيلية الهزلية

وبعد أن ظهر كذب الشهود وتجنيهم على يسوع.. لمعت براءته، وشعر رؤساء الكهنة بأن الطير البريء كاد ينطلق من القفص، فكل السهام التي صوبت نحوه طاشت، وواحدًا منها لم يصب الفريسة لا في مقتل ولا في غير مقتل، وشعر حنان أن الوقت يمرَّ سريعًا، ولا يعرف للآن من أين تؤكل الكتف، ورأى قيافا أن الطريق صار مسدودًا لإدانة يسوع، فتفتق ذهنه عن فكرة شيطانية، وهي القيام بدور درامي في تمثيلية هزلية، تنتهي باعتراف المتهم.. تجاهل قيافا أنه هو القاضي، أو قل قاضي القضاة في المجلس الأعلى للقضاء، ولا يحق له على الإطلاق القيام بدور المشتكي، فطبقًا للإجراءات القانونية التي توجبها الشريعة يقوم المشتكي بتوجيه الاتهامات للمتهم، وعلى المجلس الاستماع لهذه الاتهامات، ووزنها بميزان العقل، وسماع الشهود مع تمحيص أقوالهم، ومناقشة المتهم مع إعطائه الفرصة كاملة للدفاع عن نفسه. ثم يقوم قيافا وشركاؤه بإصدار الحكم العادل بدون تحيُّز لأي من الطرفين..
فما بالك يا قيافا تحتقر كل هذه الإجراءات، وتضرب بها عرض الحائط، وأنت الفاهم والعالم بالأمور؟!..
وما بالك يا قيافا تزج بنفسك، وتحطم القاعدة القانونية التي تحرم على أعضاء المحكمة سؤال المتهم بقصد إثبات التهمة عليه؟!..
هل ما فشلت في إثباته عبر شهود الزور، تريد أن تثبته بنفسك، وتلصق التهمة بالمتهم، سواء بطريق شرعي أو غير شرعي؟!
ومالك تطلق سهمك تجاه المتهم مع إن الشريعة لا تعطيك هذا الحق؟!
تناسى وتجاهل وتغافل قيافا كل شيء، وركز كل تفكيره، وحنكة سنيَّ الشر، في صياغة السؤال الذي سيطلقه، واستخدم قيافا كل حيلته ودهائه ومكره ووسم سؤاله باسم يهوه العظيم: أستحلفك بالله الحي قل لنا أأنت المسيح ابن المبارك؟ هل أنت ابن الله؟
ولك يا صديقي أن تتصوّر النتيجة..
لو ظل المعلم في صمته ولم يجب على السؤال، فهذا احتقار لاسم يهوه وبهذا يستحق الموت، وجاء في كتاب التلمود " إذا قال قائل: أستحلفك بالله القادر على كل شيء، أو بالصباؤوت، أو بالعظيم الرحيم، الطويل الأناة، الكثير الرحمة، أو بأي لقب من الألقاب الإلهية، فإنه كان لزامًا على المسئول أن يُجيب" (14) ورغم أن قيافا لم يوقر اسم الله الحي، بل استخدمه استخدامًا باطلًا، واستغله استغلالًا مُشينًا، فليس له أن يطرح هذا السؤال الذي يحمل اتهامًا معينًا للمتهم، إلاَّ أن يسوع الذي يُوقّر الاسم المملوء بركة فقد التزم بالإجابة..
ومادام يسوع سيجيب، إذًا فقد يجيب بالنفي أو بالإثبات:
فلو أجاب بالنفي فهذا تراجع منه عما قاله سلفًا، مما ينافي مبادئ يسوع، لأنه علّم أتباعه " ليكن كلامكم نعم نعم لا لا "، وقد منعهم من الحلف وأكد عليهم الصدق فلو خالف هو ما قاله سابقًا، فإنه سيسقط في نظر أتباعه، ولم يجب يسوع بالنفي.. بماذا أجاب إذًا؟!
لقد أجاب بالإثبات.. بالرغم من جو الإرهاب الذي هيمن على قاعة المحكمة، فإن يسوع أكد بالإيجاب، بل وأجاب سريعًا، وإجابة صريحة جريئة واضحة حاسمة.. بل أيَّد إجابته بالدليل البين فقال:
أنتَ قلتَ..

ولا تؤخد هذه الإجابة بمفهوم هذه الأيام، كمحاولة للتملُّص والتخلُّص والمراوغة وإلقاء المسئولية على الآخر. إنما كانت في تلك الأيام تُعبر عن أسلوب أدبي راقي يحمل التأكيد، فهي تعني "أن الأمر كذلك حسب قولك تمامًا".. كما قلتَ أنتَ. هكذا هي الحقيقة.. هكذا أنا هو ابن الله.
وفهم رئيس الكهنة الإجابة جيدًا، وإنها إجابة بالإيجاب، وفوجئ بالدليل الذي ساقه المعلم إذ قال: وأيضًا أقول لكم من الآن سوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء.
وحملت نبرات يسوع قوة الإجابة وصدقها، وكانت كفيلة بأن تخترق قلب حنان، وتمزق قلب قيافا إربًا، لو أرادا ذلك، أو لو كان لديهما استعداد بسيط لتقبل الحق وتصحيح المسار، وكان عليهما أن يتذكرا قول دانيال النبي " كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوه قدامه. فاُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13، 14) فكم سمعا المعلم يدعو نفسه بابن الإنسان، ولكن إذ أغلقا قلبيهما تمامًا فإن هذه الشهادة لا تدين يسوع، إنما تدينهما في يوم الدينونة الرهيب.. كيف سيكون موقفهما..؟! حتى لو قالا للجبال اسقطي علينا وللتلال غطينا فإنها لن تكفي.
وكان على قيافا أن يقوم على الفور بالدور الدرامي، في التمثيلية الهزلية التي ألفها وأخرجها وقام بدور البطل فيها ليحفز الحاضرين ضد يسوع.. فماذا فعل؟
لقد مزق ثيابه.. نعم كانت هذه عادة اليهود عندما يسمعون ما يهين أو يشين اسم الله القدوس، أو عندما تحل مصيبة عظيمة بشعب الله، كما فعل الياقيم بن حلقيا وشبنه الكاتب ويوآخ بن آساف عندما سمعوا تعيير رسل ملك آشور فمزقوا ثيابهم (أش 36: 22) بل وعندما أطلعوا حزقيا الملك على الأمر مزَّق هو أيضًا ثيابه وتغطي بمسح (أش 37: 1) ومع أن الناموس كان يمنع رئيس الكهنة من تمزيق ثيابه..
لم يكترث قيافا بأوامر الناموس ومزَّق ثيابه عوضًا عن تمزيق قلبه..
لقد انفجر الحقد الأسود من بين ضلوعه، فلم يحتمل ثيابه، فمزقها..
شق ثيابه في منظر فاضح جنوني لا يليق أبدًا برئيس كهنة الله، فشق الله عنه كهنوته..
شق ثيابه تعبيرًا عن الكبت النفسي الناتج من حقد الأيام وغل السنين..
مزق ثيابه وهو يشعر بالفخر والاعتزاز، لأنه استطاع أن يُسقط يسوع في الفخ الذي نصبه له، وكأن جبلًا قد انزاح عن صدره وتنفس الصعداء، ورن صوته مجلجلًا بنغمة الفوز والنصرة، وصاح صيحة الذئب الجريح الذي طالما أعيته الحيلة، واهتزت لحيته الطويلة اهتزازات شيطانية مُصدرًا الحكم قبل أن يستمع لرأي بقية الأعضاء، مع إن الإجراءات القانونية توجب عليه أخذ رأي الأعضاء أولًا عضوًا عضوًا مبتدئًا من الصغير إلى الكبير، ثم يُعطي رأيه أخيرًا وليس أولًا.. إنه أراد أن ينحو بأعضاء المجلس بحسبما ما يشتهي هو، فقال: لقد جدف.. ها قد سمعتم تجديفه.. ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ وهو يقول في نفسه " لقد أصاب السهم الفريسة ولا مفر من الذبح، فكلمة التجديف لها مفعول السحر في إثارة حماس الأعضاء حماة يهوه.
ثم استدرك رئيس الكهنة ما سقط فيه من مخالفة، فأعقب قوله بالسؤال التالي: ماذا ترون؟!
ما رأيكم يا أبناء يعقوب؟! وماذا تقولون يا قضاة إسرائيل؟! أرأيتم تجديفًا كهذا..؟! ابن الله..!! يهوه..!! إيلوهيم..!! أدوناي صباؤوت..!! يا للكفر.. يا للعار.. معاذ الله..
وسرت همهمة بين الحاضرين كان أول من نطق بها الخدم والعبيد "أنه مستوجب الموت".. "نعم".. "كان يجب أن يموت من زمن بعيد".. " لماذا تُرك للآن".. " إنه يستحق الموت الزؤام".. "إن كان ابن الله فلينقذه الله".
عجبًا.. ألم يكن الأجدى برئيس الكهنة أن يستكمل استجوابه ليعرف التفاصيل..؟! أو هل يوجد استجواب يتكون من سؤال واحد، إلاَّ إذا كان وراءه نية خبيثة..؟! لماذا لم تُفكر يا حنان في حوار يسوع مع الفريسيين " وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلًا: ماذا تظنون في المسيح. ابن من هو؟ قالوا: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا قال الربَّ لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطنًا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يُجيبه بكلمة" (مت 22: 41-46)..
ولماذا لم تلتفت يا قيافا إلى قول داود أيضًا "إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني. أنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7) وقول ابنه سليمان "من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرَّ المياه في ثوب؟ من ثبت أطراف الأرض؟ ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت؟" (أم 30: 4) فإن كانت عقيدة الأمونوجينيس (الوحيد الجنس) ثابتة في الأسفار المقدَّسة.. فما بالك تعتبر يا قيافا أن هذا تجديفًا..؟! لماذا لم تمنح نفسك فرصة للتفكير في إجابة يسوع، إنما فضلت استكمال دورك كما رسمته في هذه المسرحية الهزلية.
وقف يسوع يرى ويسمع ما سبق وأخبرهم به.. فهوذا قيافا وحنان مع بقية الكرامين الأردياء يتربصون بابن صاحب الكرم قائلين " هذا هو الوارث هلمُّوا لقتله ونأخذ ميراثه" (مت 21: 38) مستخدمين سلطانهم الكهنوتي مع تزوير الحقائق وتلفيق التهم، وللأسف فإنهم لا يدركون أن الحكم الإلهي عليهم بات وشيكًا " أُولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًّا ويُسلّم الكرم إلى كرَّامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها" (مت 21: 41).
وكان صدور الحكم على المتهم بالموت في ذات الجلسة خطأً فادحًا ضد الشريعة، وضد نصوص وروح القانون اليهودي الخاص بالسنهدريم، بالإضافة لانعقاد الجلسة ليلًا.. وهذا ما حدا بحنان إلى تنبيه الأعضاء بأن الجلسة القادمة ستعقد في الصباح الباكر حيث تضم أعضاء المجلس بالكامل.. فما لزوم الجلسة التالية إذا كان كل شيء قد تم قانونيًا..؟! إن انعقاد جلسة أخرى يعالج فيها الجلسة الأولى لهو اعتراف واضح وفاضح لما شاب المحاكمة الأولى من أخطاء قاتلة..
وفي أحد أركان الصالة المتسعة كان يقف إنسانًا ينظر في حيرة وقلق بالغ وقد جحظت عيناه، وإذ رأى أن يسوع قد حُكم عليه بالموت، اضطرب وانسحب يجر أذيال الخيبة والعار، واشتعلت النيران في جوفه، وإذ بالشياطين ترقص حوله طربًا، هازئة بتلميذ خان معلمه الذي يُحبه، وأخذت هذه الشياطين ذاتها تدين يدًا استلت سكينًا لتطعن من أحسن إليها، وتبكت عبدًا باع سيده، ورجلًا سلم صاحبه للموت بقبلة غاشة، وارتفعت أصوات التقريع.. خائن.. فاسد.. شرير.. حتى كاد يهوذا يسد إذنيه، ولم تعد ساقاه تحتملاه، فانصرف نحو خزانة الهيكل ذات المكان الذي باع فيه سيده.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:24 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
وصاح الديك

وبينما كان يسوع يُحاكم المحاكمة الثانية كما رأينا، وإذ كانت الليلة شديدة البرودة على غير العادة جلس الخدم والعبيد حول النار التي أشعلوها يصطلون، وكان بطرس بداية راضيًا بتواجده خارج القصر خوفًا من اكتشاف فعلته مع ملخس، وعندما دخل إلى فناء القصر بوساطة يوحنا اندس وسط الخدم والعبيد، كأحد المتفرجين الذين لا يعنيهم أمر ذلك الرجل.. دخل بطرس وجلس في هذا الوسط المتدني لينظر النهاية، ونسى الوصية المقدَّسة " طوبى للرجل الذي لم يسلك في طريق المنافقين وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس" (مز 1: 1) " ربما سمع بطرس أن رئيس الكهنة سأل السيد المسيح عن تلاميذه، فخشى أن يُقبض عليه أو يتعرض لضربات مثل سيده.. أراد أن يستدفئ بنار الأشرار، فحمل برودة من جهة الحياة الصالحة. كان يليق به أن يستدفئ بنار محبة المسيح التي لا تقدر مياه كثيرة أن تطفئها (نش 8: 6 - 7)" (15).. وإذ بجارية تتمتع بقدر من الذكاء الفطري تتفرس فيه على ضوء النار التي يصطلون عليها وتقول له: وأنتَ كنتَ مع يسوع الناصري.
وانطلق السهم المباغت على حين غرة، فأصاب بطرس في مقتل، واضطرب مثل فريسة نشب بها سهم الصياد الماهر، وحاول بطرس إخفاء اضطرابه، وإظهار عدم اكتراثه بالأمر: من..؟! أنا..؟! لست أنا كما تقولين.. لا أعرف ما تقصدين.. لا أفهم ولا أعرف.
الجارية: ألم تكن مع يسوع الناصري في تجواله؟
بطرس: لا أعرف شيئًا مما تقولين.. ربما واحد يشبهني..
الجارية: ألستَ أنتَ من تلاميذه؟
بطرس: لستُ أنا.. لا تلميذه، ولا رفيقه، ولا أعرفه يا امرأة.
وتمنى بطرس في هذه اللحظة أن يُطوّح برأسه الصلعاء بعيدًا، ويستعير رأسًا أخرى حليقة اللحية بشعر أشعت، ورغم أنه من النادر خروج الجواري ليلًا بعد مشقة يوم طويل، إلاَّ إنهنَّ ظلّلن يقظات، بسبب شدة كراهيتهن ليسوع التي انتقلت لهن عبر أسيادهن، ورغم أن النساء يتميزن بالرقة والترفق، إلاَّ أن هذه الجارية أرادت أن تزُج ببطرس مبكرًا إلى الصليب.
ما بالك يا بطرس تخاف وتُنكر..؟! ألم تقل لسيدك لو شك فيك الجميع فأنا لا أشك..؟! ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك..؟! أتخاف من سؤال الجارية، فما بالك لو سُئلت من قيافا وحنان..؟! ولا عجب، فحالك يا بطرس هو حالي عندما أضع ثقتي في ذاتي.. وطوباكَ يا بطرس لأنك استوعبت الدرس جيدًافبعد القيامة عندما سألك سيدك: أتحبني يا بطرس؟ لم تقل: نعم إني أحبك أكثر من كل هؤلاء، إنما أجبت باتضاع والدموع تترغرغ في عينيك: يا رب أنت تعلم كل شيء.. أنت تعلم إنني أُحبك، ومهما صنعت يا بطرس فيما بعد من معجزات عظيمة مثل إقامة طابيثا من الموت.. مهما رأيتَ ظلك يشفي الأمراض ويُخرج الأرواح الشريرة، فإن ضعف طبيعتك سيظل أمامك في كل حين. أما الذين يثقون في إمكاناتهم، فإن الشيطان كفيل بأن يلهو بهذه الإمكانات، فكم من الملوك المفتخرين بعدالتهم أجروا المظالم باسم العدل؟!
وكم من الخدام المختالين بمواهبهم انزلقوا وضاعوا؟!
وكم من العلماء الواثقين في رجاحة فكرهم سقطوا في البدع والهرطقات؟!0
وحاول بطرس أن يندس وسط الخدم والعبيد أكثر فأكثر، وهو يُعاني من هزة نفسيَّة عميقة، وفكر في الانسحاب من المكان.. لقد عاش الحيرة والخوف والارتباك على أشدَّ ما يكون، فاتجه نحو الباب ببطء شديد حتى لا يلحظ أحد انسحابه، وإذ بالبوابة تلمحه، فيدفعها شيطانها الذي هوى العزف على ذات الوتر، بعد أن وضع بطرس في غرباله لكيما يغربله مع هزات موسيقاه السخيفة.. تفرَّست البوابة فيه، وحدجته بنظرات فاحصة، وأطلق الشيطان سهمه الثاني: وأنتَ كنتَ معهم، فملابسك هي هي ملابس أهل الجليل.

وقال بطرس في عصبية: لستُ أنا يا امرأة.. لستُ أنا وأشاح بوجهه بعيدًا حتى لا تتفرس فيه أكثر، وارتبك كإنسان يطارده الموت ولا يعرف كيف ينجو بنفسه، ويبدو أن حالة بطرس أثارت عواطف هذه البوابة فتركته لحال سبيله، والتقط بطرس الأنفاس.. هل يهرب من هنا كما هرب منذ قليل من البستان..؟! هل يظل صامدًا قريبًا من معلمه مادام الموقف مرَّ بسلام..؟! وصاح الديك للمرة الأولى، ولم يلفت هذا الصوت نظر بطرس القلق المضطرب.
وإذ بزمري وهو نسيب ملخس الذي قطع بطرس أذنه، وكان معهم في البستان، يرى بطرس فيمسك بتلابيبه قائلًا بصوت عالٍ: أنتَ تلميذ ذاك الجليلي.. كنتَ معه في البستان.. وأنت الذي ضربتَ ملخس بالسيف.
واضطرب بطرس وظهر عليه التوتر الواضح. لستُ أنا يا رجل.. لا أعرف ما تقول.. لتنتقم السماء مني أربعين ضعفًا لو كنتُ أنا هو، وأصير ملعونًا من الله لو كنتُ أنا.. وأخذ بطرس يستنزل اللعنات على رأسه لو كان تلميذ يسوع الناصري.
زمري: إنكَ أنتَ بلا شك.. لغتك تُظهرك.. أنك جليلي.
فأخذ بطرس يسب ويلعن الاسم المبارك..
وهنا فُتح باب صالة السنهدريم، فحانت التفاتة حانية من يسوع نحو بطرس، وإذ بالأعين تتلاقى، وإذ بالديك يصيح ثانية، وإذ بالقلب ينكسر والفؤاد يذوب..
إنها نظرة يسوع تلتقط بطرس من بئر الهاوية..
نظرة يسوع التي تزيح جبلًا عظيمًا وكابوسًا رهيبًا جثم على صدر بطرس حتى كاد يلفظ أنفاسه..
نظرة يسوع التي تنتشل بطرس لئلا يغوص في الوحل..
نظرة يسوع تقول لبطرس: اطمئن يا بطرس.. لقد طلبتُ من أجلك لكي لا يُفنى إيمانك..
نظرة يسوع التي تقول لبطرس: لستُ غاضبًا منك يا ابني، ولكنني مشفق عليك يا حبيبي..
إنها نظرة باقية لكل ابن ليسوع يجوز في محنة قاسية.
وإذ ببطرس يذوب خجلًا، بل حسرة وندمًا.. اعتصره الألم، فانسحب من خلال الدهليز إلى خارج.. كانت دموعه الحارقة تنساب على وجنتيه مع عبرات وتنهدات ونهنهات، وأخذ يهدر كحمام الأوطئة " كحمام الأوطئة كلهم يهدرون كل واحد على إثمه" (حز 7: 16).. تأمل بطرس خطيئته فإذ هي عدَّة خطايا معًا.. لقد اعتدَّ بنفسه أكثر مما يجب، وميَّز نفسه عن إخوته، ونام في وقت كان ينبغي فيه أن يصلي حسب الوصية، وتصرف من تلقاء نفسه ضاربًا ملخس بالسيف، وهرب من البستان متخليًا عن سيده، ولم يكن صادقًا في وعوده لسيده، وجلس في وسط لا يناسبه، وأنكر وسبَّ ولعن، ولاح أمام بطرس قول سيده " كل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضًا به قدام أبي الذي في السموات.. ولكن من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضًا قدام أبي الذي في السموات" (مت 10: 32، 33) ووقفت فرقة من الشياطين تُبكّته، وتصب عليه اللعنات، وتدفعه دفعًا إلى بئر اليأس، ولكن نظرة يسوع تقاتل عنه، وكلما نظر إلى نفسه وشعر أنه يغوص في الوحل، يرى نظرة يسوع تنتشله.. تلك النظرة الحانية الغافرة تنتشله من بئر اليأس وصغر النفس..
الأمر العجيب أن يوحنا كان قريبًا من معلمه، ولم يتهمه أحدًا بأنه من أتباع يسوع، لأن عناية المعلم تحفظ القريبين منه المستعدين لبيع حياتهم من أجله.. نشكر الله من أجل يوحنا الذي حفظته عناية يسوع، ونشكر الله من أجل بطرس الذي غسل خطيته بدموع التوبة، وصار مثالًا للرجاء الحي لكل نفس في ضعفها تنكر سيدها وتطرح صليبها وتعود بالتوبة، فإذ بالنعمة الإلهية تحملها على أذرعها الأبدية، وتربّت عليها وتُطيّب جراحاتها.
وقد تساءل البعض: من أين جاء صوت الديك والتقليد اليهودي يمنع تربية الدواجن في أورشليم؟
والحقيقة أنه لم يكن كل سكان أورشليم من اليهود بل كان هناك بعض السكان من الأمم. كما إن بعض اليهود أيضًا لم يلتزموا بالتقليد اليهودي، فمن هذه المساكن قد انطلق صوت الديك، وقد يكون هذا الصوت قد وصل في سكون الليل من إحدى القرى المحيطة بأورشليم. كما إن صوت البوق الذي كان يُعلن تغيير نوبات الحراسة كانوا يدعونه صوت الديك، وقد سُمع هذا الصوت في الساعة الثالثة صباحًا عند تغيير نوبة الحراسة، حيث ضرب البوق مرتين، الأولى عند بدء التغيير، والثانية عند نهاية تغيير جميع النوبات في المنطقة.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:25 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
ورأيتُ الجور في بيت العدل

انتهت المحاكمة الثانية، وكان يمكن للمعلم أن يطعن في كل من المحاكمة الأولى والثانية، بسبب المخالفات الصارخة ومنها:
1- عندما لطمه الخادم في المحاكمة الأولى كان له الحق أن يطالب بمحاكمة هذا الخادم.
2- الطعن في إجراءات القبض عليه التي تمت بأوامر رؤساء الكهنة دون أن يكون هناك مشتكين ولا شهود حقيقيين، والرشوة التي دُفعت ليهوذا لكي يسلمه إليهم.
3- تمت المحاكمتان ليلًا، بينما القانون يُحرّم عقد مثل هذه المحاكمات تحت جناح الظلام.
4- النطق بالحكم، لأن القانون يُحرّم النطق بالحكم في ذات الجلسة التي يُحكم فيها على المتهم بالإعدام. بينما أجاز القانون النطق بالحكم في ذات الجلسة إذا كان بالبراءة.
5- شهود الزور، والمطالبة بمحاكمتهم والحكم عليهم.
6- موقف قيافا الذي ظهر بدور المُشتكي أحيانًا والقاضي أحيانًا.
هذا ما نعرفه نحن بحسب تصور فكرنا. أما بحسب تفكير المُعلّم، فإن المخالفات لا تُعد، فربما كل جملة نُطقت كان بها خطأ أو أكثر..
وحكم رؤساء الكهنة وأعضاء المجلس على يسوع بأنه مستوجب الموت، وفي انصرافهم انحطوا إلى الدرجة التي نسوا فيها أنفسهم ومراكزهم، فمنهم من لكمه ومنهم من بصق في وجهه، وأكثرهم أدبًا أطلق الضحكات في وجهه هازئًا به. وبتصرفاتهم هذه أعطوا الضوء الأخضر للخدم والعبيد والحرس ليفعلوا ما يريدون بحسب هواهم وبحسب مستواهم الأخلاقي المتدني، وصنع الشيطان وليمة لذبانيته حول يسوع، إذ دفع بالخدم والعبيد والحرس، فصاروا يرقصون مثلما رقص الفلسطينيون حول شمشون في القديم، ولكن ما أعظم الفارق بين يسوع وشمشون؟! فيسوع هو القدوس الطاهر الذي بلا خطية وحده، أما شمشون فهو الذي سلم نفسه لدليلته، التي قادته إلى العمى والسخرية..
وأخذوا يشتمون يسوع، ويبصقون في وجهه، ويلكموه لكمات قوية، ويدورون حوله وسط ضحكات شيطانية هستيرية تشق صمت الليل وهم يسخرون منه: تنبأ لنا أيها المسيح من لطمك..؟!
ألستَ أنتَ صانع المعجزات..؟!
لماذا لا تدفع عنك الأذى إن استطعت؟!..
لماذا لا تُنزل علينا نارًا من السماء لتلتهمنا معًا..؟!
أين قوة سحرك وخداعك يا ابن المبارك..؟!
لِمَ لا تأمر الأرض فتفتح فاها وتبتلعنا..؟! هيا يا يسوع.. افعل شيئًا إن قدرت.

إنهم يبصقون في وجهه.. مُنتهى الاستفزاز، إن كان البصق على الأرض أمام إنسان يُعتبر إهانة لكرامته للدرجة التي يحاول أن يثأر فيها لكرامته الجريحة، فكم وكم البصق على الوجه؟..!! وأي إنسان حتى لو اقترف خطيئة شنعاء يبصقون على وجهه ويصمت؟! فما بالك بالقدوس الطاهر الذي بلا خطية يحتمل كل هذا.. من أجلي.
إنهم يكيلون له اللكمات، فلا يدفعها، ولا يحاول تفاديها..
لكمات وحشية تصيب الوجه والصدر والبطن من رجال أقوياء مفتولي العضلات وعبيد شرسين..
كل لكمة تسبب ألمًا وأحيانًا تترك أثرًا، ولاسيما لكمات الوجه التي أسالت الدماء من الوجه الطاهر..
تحمل يسوع كل هذا لكيما يشارك كل إنسان مظلوم يُساق مثل البهائم ويتعرض للأذى البدني..
تُرى ماذا يُجرى في معسكرات التعذيب..؟! إنه هناك يقاسمهم العذابات.. تُرى ماذا يجري للأسرى..؟! عذابات تفوق الوصف، وبلا شك فإن يسوع هناك معهم يشاركهم الآلام، وكنيسته تُصلي من أجلهم.
وآخرون لطموه.. واللطمة تترك أثرًا نفسيًا أعمق بكثير من الأثر الجسماني، فاللطمة هي تحقير وازدراء بالملطومولهذا يحذر علماء النفس الوالدين من لطم أبنائهم كنوع من العقوبة، فإنها تُحطم شخصية الطفل وتشعره بالمهانة وصغر النفس.
وغطوا وجهه وضربوه قائلين: تنبأ لنا أيها المسيح من لطمك..؟! جعلوه لعبتهم وتسليتهم وسخريتهم، ولم يدركوا أنه هو الذي خلقهم، وبيده نسمتهم..
عجبًا.. رب الناس يسمح لأحط الناس أن يعاملوه كأحقر الناس!!
وقف أشعياء النبي وأيوب البار في حالة ذهول " وجهي لم أستر عن العار والبصق" (أش 50: 6).. " أما الآن فصرت أغنيتهم وأصبحت لهم مثلًا يكرهونني. يبتعدون عني وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق" (أي 30: 9، 10).
اقشعري يا نفسي وذوبي خجلًا، لأن يسوع البار يُلطم على وجهه المبارك، وعن ذاك الوجه الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر لم يرد خذي البصاق.. أليس كل هذا من أجلكِ، لكيما يُحضركِ بلا لوم أمامه؟!!
تورم وجهه وانتفخت عيناه، وتركت الكدمات أثرها الداكن على الوجه، مع بعض الجروح التي تنزف.. تركوه ليستريح قليلًا استعدادًا للمحاكمة القادمة..
ورأيتُ الجور في بيت العدل، والباطل في بيت الحق، والظلم القاسي في محل العدالة، والتعذيب الوحشي في بيت الرحمة..
أما يوحنا الذي كان يتابع الأخبار عن كثب، وقد رأى الحكم على يسوع، وتعرضه للإيذاء، أدرك أن الكارثة قد وقعت بالفعل، فذاب قلبه داخله، ولم يضبط دموعه، وإذ لم يحتمل أن ينظر إلى يسوع وهو يترنح تحت وطأة الضربات واللكمات، وسمع داود يصرخ " قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني" (مز 22: 16).. آثر يوحنا أن ينسحب إلى الخارج يبكي يسوعه كطفل صغير، ووجد أن الواجب يلزمه بإبلاغ الأم الحنون وبقية الأحباء في بيت عنيا، فسار إلى هناك بلا قلب إذ ترك قلبه يتألم بجوار حبيبه العبد المتألم.
وصل يوحنا في الصباح الباكر إلى بيت عنيا، واستيقظ كل من في البيت.. التفوا حوله يستوضحونه الأمر، مع إن المأساة كانت مرسومة على ملامحه.. ماذا يا يوحنا؟ هل قبضوا على المعلم..؟! هل حاكموه..؟! هل تعدوا عليه؟!.. هل التلاميذ معه؟ وألقى يوحنا بالخبر الصاعق.. إن المعلم يعبُر في محاكمات ظالمة، ويبدو أنهم سيصدرون اليوم حكمًا بصلبه، وسقط الخبر عليهم سقوط الصاعقة، وإذ بالسيف يجوز في نفس العذراء التي كانت تستشعر هذه النهاية المأسوية، منذ أن تحدث معها سمعان الشيخ وكان يسوع مازال طفلًا عمره ثمانية أيام حينها، ولكنها لم تكن تتوقع أن تكون النهاية بهذه السرعة.. نهضت لتسرع إلى أورشليم وتقف بجوار ابنها الحبيب، وقد وضعت في قلبها أن تكبت مشاعر الأم الثكلى حتى لا تزيد آلامه آلامًا..

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:26 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
إيه يا سنهدريم!!

الآن الخامسة صباحًا من يوم الجمعة، ومع بزوغ أول ضوء للصباح، كانت المدينة أورشليم قد استيقظت، لكيما يتمتع الوافدون إليها ببكور اليوم، وفي ذلك الوقت المبكر كانت أبواب الهيكل الأربعة والعشرين قد فُتحت على مصراعيها، وصار الهيكل يموج ببحور من البشر الذي أتوا من كل حدب وصوب ليقدموا عبادتهم ويُصعدوا محرقاتهم، وفي لحظات كان الزحام على أشدَّهُ في الهيكل، حتى إن الذين صحبوا أطفالهم اضطروا إلى حملهم فوق الأكتاف خوفًا من الأذى.. البعض يتمتم بكلمات الصلوات والتضرعات والطلبات، والآخر يطلق عبارات الإعجاب بجمال الهيكل الذي فاق الخيال..
فقد بني سليمان الحكيم هذا الهيكل في الشهر الثاني من السنة الرابعة لملكه على جبل المريا وقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي إن الهيكل بُني بحجارة ضخمة، وتعرض للهدم على يد نبوخذ نصر. ثم أُعيد ترميمه بعد العودة من السبي، وأيضًا أُعيد إصلاحه وترميمه على يد هيرودس الكبير الذي حاول استمالة اليهود إليه، واشتغل في ترميمه آلاف من العمال المهرة، وأكمل خلفاء هيرودس العمل وتزيين الهيكل، ولذلك قال اليهود للمعلم أنه بُني في ستة وأربعين سنة، وشمل الهيكل أربعة ديارات، دُعيت الأولى "دار الأمم"، وسُمح للأمم بالدخول إليها، حتى إنك تجد فيها موائد الصيارفة وأقفاص باعة الحمام، ولم يسمح لغير المؤمنين بتجاوزها إلى الداخل، وفي هذا الدار مدرسة أو مجمع لعلماء الهيكل، وهو المكان الذي التقى فيه يسوع مع الشيوخ وسألهم وكان له من العمر اثني عشر سنة، وبهذه الدار غرف لسكنى اللاويين، ويحيط بها أروقة، وفي إحدى هذه الأروقة كان يخاطب يسوع الشعب.
والدار الثانية هي "دار النساء" ودُعيت هكذا لأنه لم يكن مسموحًا للنساء بتجاوزها إلى الداخل، وكانت النساء تدخلن هذه الدار لتقديم قرابينهن، وكان بها ثلاثة عشر صندوقًا للتبرعات، وفي إحدى هذه الصناديق وضعت الأرملة فلسيها، فمدحها المُعلّم لأنها أعطت كل ما تملك.. وهي مرتفعة عن دار الأمم بمقدار تسع درجات، وكان يفصل بين الدارين جدار بارتفاع ذراع واحد، وقد أقاموا عليه عمودًا من الرخام كتبوا عليه باليونانية واللاتينية أن من جاوز هذا الجدار إلى الداخل من الأمم يُقتل.
والدار الثالثة هي "دار إسرائيل"، وهي مرتفعة عن دار النساء بمقدار خمسة عشر درجة، وفصل بينها وبين الدار الثانية جدارًا ارتفاعه ذراع واحد به ثلاثة أبواب، وهذه الدار خُصصت لذكور بني إسرائيل، أما الدار الرابعة فهي "دار الكهنة" وتقع شرق دار إسرائيل، وفيها مذبح المحرقة والمرحضة، ومن دار الكهنة يصعدون اثنيّ عشر درجة إلى القدس وقدس الأقداس، وفي مدخل الهيكل عمودان أحدهما باسم "ياكين" والآخر باسم "بوعز" ويبلغ ارتفاع كل منهما ستة أمتار، يعلوه التاج النحاسي الذي يبلغ ارتفاعه نحو متران ونصف. أما منظر الهيكل من الخارج بارتفاعه الشاهق فهو يشد الانتباه ويُبهر الأنظار، ويبرز من واجهة الهيكل أشواكًا من ذهب تمنع الطيور أن تحط على الواجهة لئلا تلوثها بفضلاتها. وطول القدس ستون قدمًا وعرضه ثلاثون، ويحوي مذبح البخور ومائدة خبز الوجوه والمنارة الذهبية. أما قدس الأقداس فمساحته مربعة وطول ضلعه ثلاثون قدمًا، وحوى في أحشائه تابوت العهد وفيه لوحي العهد وقسط المن وعصاة هارون، ويفصل بين القدس وقدس الأقداس حجابًا من سجف بلون أبيض علامة النقاوة، واسمانجوني رمز السمو، وأرجواني علامة المُلك، وقرمزي بلون الدم، وأمام الحجاب كان هناك حاجزًا عبارة عن سلسلة ضخمة من الذهب الخالص، لا يعبر منها إنسان إلاَّ رئيس الكهنة يوم عيد الكفارة فقط.
وفي هذا الصباح الباكر ضرب الكهنة بالأبواق الفضية ثلاث مرات يعلنون بدء خدمة الصباح، فقد ظلت النار مشتعلة على المذبح طوال الليل في ذبيحة المساء، وها الآن يجب أن تظل مشتعلة طوال النهار في تقدمة الصباح، وينبغي ألا تطفأ.. تقدم أحد الكهنة الذين وقعت عليهم القرعة لأداء خدمة هذا اليوم، فقبض على الحمل الوديع، وأرقده أرضًا وبجرة واحدة من الشفرة الحادة صار دم الحمل يتدفق في الإناء الذهبي الذي أمسك به كاهن آخر شريك في الخدمة، فأسرع وسكبه على حجارة الهيكل، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة..
وفي هذا الوقت ترى عددًا كبيرًا من الكهنة واللاويين ينظفون الهيكل من كل ذرة تراب علقت بالجدران التي كُسيت بخشب الأرز المغشي بالذهب ومنقوش عليها قثاء وبراعم زهور ونخيل وكروبيم، والمنارة الذهبية أو مذبح البخور، بينما وقف أحد الكهنة يرفع البخور أمام مذبح البخور..
عجبًا يا ربي.. لقد بني لك شعبك هيكلًا بهذه العظمة والمجد والبهاء، وهوذا رب الهيكل قائم يحاكمونه..
عجبًا يا ربي.. كم من الذبائح قدم شعبك، وهم لا يدرون أن كل هذه الذبائح إنما تشير للذبيح الأعظم الذي وضع ذاته في أيديهم منذ سويعات، ولن تمر ساعات أخرى حتى يُذبح على الصليب ويقطر دم الحمل قطرة قطرة..
أما المحلات التجارية فقد فتحت أبوابها من الصباح الباكر لتلبي طلبات الوافدين، وهوذا أصحابها يرتبون ويعرضون بضائعهم بصوُّر مغرية، فاليوم هو أهم أيام السنة من الناحية التجارية، وعلى هذه المحلات إغلاق أبوابها قبل غروب الشمس، استعدادًا لعيد الفصح العظيم، وصارت الشوارع تموج بالبشر منذ الصباح الباكر، والقلوب فرحى، والوجوه مستبشرة بهذه الأيام المقدَّسة، ولا يعكر الصفو إلاَّ رؤية جنود الاحتلال وهم يستعرضون قوتهم، حتى وإن كانوا يحفظون الأمن والنظام، لكن الشعب لا يطيق رؤيتهم، ولاسيما بجوار الأماكن المقدَّسة، فإنهم يرسمون أمام أعينهم سلطة وسطوة واستعمار روما، فأثاروا لديهم مكامن الاشتياقات لمجيء المسيا الذي سيُحرّرهم من روما، ويجعل أورشليم سيدة ممالك الأرض كلها.. إنهم يمنُّون أنفسهم بأيام المسيا الرائعة ويطوّبون من يعيش ليراها، وهم لم يدركوا أن المسيا قد جاء، وهوذا هو قائم يُحاكم في قصر رئيس كهنتهم.
وفي هذا الصباح الباكر أيضًا بدأ أعضاء مجمع السنهدريم يتدفقون على بيت رئيس الكهنة، متجهين إلى صالة الاجتماعات، وكل منهم يأخذ مكانه سريعًا، أما حنان وقيافا فلم يذوقا النوم في هذه الليلة السعيدة الغبراء، وسريعًا ما حضر كل أعضاء المجمع، بالإضافة إلى لفيف من الكهنة وحرس الهيكل، وكأن هناك احتفالًا عظيمًا أو مظاهرة ضخمة.. اجتمعوا لكي يقرّروا ما سبق أن أصدروه منذ ساعات قليلة من خلال جلسة غير قانونية.
قال حزائيل ليهورام: متى يعود إلى هذا المجلس مجده؟!

يهورام: لقد صار مجلسًا بلا سلطة، ففقد كرامته.. منذ عشرين عامًا سلب منا الرومان سلطة إصدار حكم الإعدام.. لقد مُنعنا من الاجتماع في "الجازيت" الدار المخصصة للسنهدريم، ولا يجوز إصدار حكم الموت على أحد خارج دائرة الجازيت هذه.
حزائيل: عندما احتل الرومان دولتنا منذ نحو ستين عامًا (سنة 63 ق.م) وجدوا أنها دولة عريقة لها قوانينها ودستورها وشرائعها ومحاكمها ومجمع السنهدريم الذي هو فوق الكل.. حينئذ تركونا ندبر شئون أمتنا، وكان لمجلسنا الموقر الحكم في الأمور بحسبما ترى الشريعة والعدالة. إلى أن جاء اليوم الأغبر عندما نزع هؤلاء الغُلف من المجلس سلطة أحكام الإعدام، في السنة الحادية عشر من حكم أرخيلاوس بن هيرودس الكبير.
يهورام: إنني أذكر ذلك اليوم يا خزائيل وكأنه اليوم.. لبسنا المسوح، وذرينا الرماد على رؤوسنا، وبكينا بمرارة، لأنه قد زال قضيب الحكم من يهوذا قبل أن يأتي المسيا " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون (رجل السلام) وله يكون خضوع الشعوب" (تك 49: 10).
ولم يدرِ يهورام ولا حزائيل أن الداخل عليهم الآن هو هو شيلون رجل السلام.. دخل يسوع يمسك به جنديان، والإعياء وآثار التعذيب الوحشي واضحان عليه، ووقف أحد الأعضاء يعرض التهم الموجهة ليسوع: هذا هو الناصري المُجدّف الذي ادَّعى أنه ابن الله، وهو يصر على أقواله..
أخذ الجالسون يهزون رؤوسهم ويتحسَّسون ذقونهم علامة الاستحسان.
نظر أحد الشيوخ إلى يسوع بخبث زائد، مُريدًا أن يُثبّت التهمة عليه، فالخوف كل الخوف من تراجع يسوع عن شهادته، عندئذ تكون الطامة الكبرى.. سأل يسوع وكأنه يريد أن يستفسر: إن كنت أنت المسيح فقل لنا.
فالسؤال في ظاهره: قل لنا إنك أنت المسيح لنؤمن بك، أما في باطنه: قل لنا لنقتلك.
وكتموا أنفاسهم، ربما غيرَّ يسوع رأيه تحت وطأة العذابات..
وقال حنان في نفسه: هل كانت تلك العذابات ضرورية..؟! هل هذا وقتها..؟! ألاَّ صبرًا يا آل يعقوب..
وأجابهم يسوع فاضحًا نواياهم الخبيثة: إن قلت لكم إنني المسيح لا تصدقون. وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقونني.
ولم يرد أحد على ما قاله المعلم، ولم يناقشوه فيما يقول، ولم يجرؤ أحدهم على القول إننا على استعداد أن نصدقك، أو اسألنا ونحن نجيبك.. بل استمروا في خبثهم ليثبتوا عليه التهمة فسألوه: أفأنت إذًا ابن الله؟
ومريح التعابى أراحهم وقدم لهم ما يشتهون على طبق من الفضة: أنتم تقولون إني أنا هو.. هكذا أنا هو كما تقولون تمامًا.. لم يتخاذل يسوع أمام جلاديه، ولم يهادنهم ولم يداهنهم..
وضحك قيافا ضحكته الساخرة، واهتزت عمامته باهتزاز رأسه، وقد تنفس الصعداء وقال: ألم أقل لكم إن الأسير العنيد لن يُغيّر رأيه، ولا يقبل نصحًا ولا إرشادًا ممن هم أكبر منه وأعلم بالأمور.
وهمس أحد الأعضاء: لو كان هذا الاتهام صحيحًا فلماذا تركوه كل هذا الوقت..؟! أليس بهذا يثبتون على أنفسهم أنهم غير أمناء على مصالح هذه الأمة؟!
نظر قيافا إلى الأعضاء وسألهم: وما رأيكم الآن؟
وهكذا كانت المحاكمة الثالثة سريعة لهذه الدرجة، وبدأ أخذ الأصوات في إدانة يسوع، فأجمع الكل على ذلك، باستثناء حفنة صغيرة جدًا جدًا، منهم نيقوديموس، ويوسف الرامي، وسمعان الأبرص، وإناس.
وهكذا أراد قيافا بهذا الاجتماع سد ثقوب ثوب الظلم الذي ارتداه، وقد أظهر من عريه أكثر مما ستر، فأي قضية وُضع فيها قرار الإدانة قبل نظرها كمثل تلك القضية..؟! كم كان السنهدريم ألعوبة في يدي حنان وقيافا يسخرانه لأغراضهما الخبيثة..؟! حقًا إنهم يصوّرون العدالة بامرأة معصوبة العينين وبيدها ميزان، في العدالة تجد الرقة إذ لها قلب امرأة، وإذ هي معصوبة العينين فلا تحابي بالوجوه.. أما مجلس السنهدريم فبماذا نصوّره وبما نشبهه..؟! أنشبههه بغراب ينعق، أم نشبههه بذئب ينشب مخالبه في جسم الفريسة وهو يسألها هل أنت بريئة؟.. ألست أنت مُدَانة؟!
وكان القصد أيضًا من هذه الجلسة إعداد الأوراق لإحالة القضية لجهة الاختصاص أي السلطات الرومانية، لأنه ليس للسنهدريم سلطة لإصدار حكم الإعدام على أحد، فكل ما فعلوه للآن كان بقصد الوصول إلى قرار موحَّد يقدمونه إلى الحاكم الروماني الذي في يده السلطة الحقيقية.. فلماذا كل هذه العذابات التي جاز فيها المتهم البريء؟..!! تُرى لو أفرج عنه بيلاطس هل كانت هذه القيادات الدينية ستقدم اعتذارها لهذا الإنسان البار، أم أنها كانت ستعيد كرَّتها ثانية وثالثة؟..!! على كل فإن المحاكم الرومانية تختلف عن اليهودية، فما يُحرّمه الآخر ويعتبره جرمًا قد يُحلّله الآخر، فمثلًا جرائم التجديف وكسر السبت التي توجب القتل بالنسبة للمحاكم اليهودية لا تهتم بها المحاكم الرومانية، والثورة على السلطة الرومانية التي تُجرّمها المحاكم الرومانية، ترى فيها المحاكم اليهودية إنها ضرب من البطولة، ولذلك فإن أشد ما كان يخشاه قيافا هو ألاَّ يقتنع بيلاطس بالتهم الموجهة للأسير، فيطلق سراحه، وتكون الطامة العظمى، فتصير أواخر السنهدريم أشرَّ من أوائله.
ومع أن بيلاطس قد أعطى وعدًا بالتعاون في هذا الأمر، ولكنه غير مأمون الجانب، ولاسيما أن الجو بينه وبين القيادات اليهودية ملبّد بالغيوم، ولهذا فكَّر حنان مع قيافا في دفع مظاهرة ضخمة تضم كل الحاضرين مع من يمكن تحريكه من الشعب للضغط على بيلاطس..
وتحركت المظاهرة تحيط بيسوع موثقًا ولا يكاد يُرى.. إنه موثق مثل الذبيحة " أوثقوا الذبيحة بربط إلى قرون المذبح" (مز 118: 27).. كل من يراهم يظن أنه موكب ديني من طقوس الاستعداد لاحتفالات الفصح، لأنه ضم رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين وحرس الهيكل، وانضم إليهم الكثيرون وهم لا يعلمون إلى أين يذهبون، وساروا مسافة تتعدى الكيلو متر إلى قلعة أنطونيا الواقعة شمال الهيكل.
ولنا أن نتساءل لماذا قُدم يسوع لبيلاطس:
"1- لكي يصدر الحكم بموته بطريقة شرعية حسب دستور البلد كمستعمرة رومانية.
2- لو لم يقدم للمحاكمة الرسمية لتحوَّل الأمر إلى شغب ولم يكن يُصلب، إذ هذا من حق الوالي وحده، إنما لرجمه المشاغبون ولم تتحقَّق النبؤات.
3- ربما خشيت القيادات اليهودية الدينية من ثورة الشعب عليهم، لذلك حسبوا أن محاكمته الرسمية تعطيهم شيئًا من الشرعية، وضبط الشعب إن انقلب عليهم.
4- لكي يصبغوا موته بصبغة العار والفضيحة، فكان الصلب مستخدمًا عند الرومان، وهو أكثر أنواع الموت خزيًا، فقد أرادت القيادات أن تفسد سمعته تمامًا وتطمس كل شهرته"

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:27 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
الخسارة الفادحة

وبينما تحرك موكب الموت وهو يضم يسوع في أحشائه نحو قصر بيلاطس، صار يهوذا كثور هائج، وهو يرى نتيجة تصرفه الأحمق.. تصوَّر سيده مصلوبًا على ربوة عاليه كأحد المجرمين، فلم يحتمل، وثارت داخله لجج الذكريات وإحسانات يسوع له، فصارت كنار حارقة تشعل جوفه.. ربما كان يهوذا يتصوَّر أن معلمه سيصنع معجزة عظيمة ويخلص نفسه، وبهذا يدفعه دفعًا لإعلان قوته وجبروته وملكه، وربما تصوَّر أنهم سيؤدبونه ويطلقونه، وكل هذا لم يحدث.. لقد سمح يهوذا للشيطان أن يُعمي بصيرته، أما الآن فقد انفتحت عيناه بدون إرادته على منظر البريء المُساق للموت، فلم يطق ولم يحتمل، ولاسيما أنه لوقته عاد من الهيكل بعد أن فشل في إلغاء الصفقة التي عقدها أول أمس..
لقد التقى في الهيكل بالكهنة وصرخ فيهم: هذه فضتكم خذوها.. وأطلقوا ذاك البريء.
-ماذا تقول؟
-إنني أخطأتُ إذ سلمتُ دمًا بريئًا.
-هذه مشكلتك يا رجل.. ماذا علينا؟.. أنت أبصر بأمرك. ألم تفعل هذا بكامل حريتك وإرادتك؟
-أخطأت.. هوذا الفضة.. أطلقوا البار.
-نحن لم نذهب إليك.. أنتَ أتيتَ إلينا برجليك.. أين كان عقلك؟!
-إنه برئ.. برئ.. لابد أن تطلقوه.. لابد أن يُطلق.. هوذا فضتكم.. لا.. لا تقتلوه.
-نحن لا نريد فضة ثمن دم.. لتكن فضتك معك.. ألاَّ يكفيك شرفًا أنك سلمت لنا ذاك المجدف الأثيم.
-كلاَّ.. كلاَّ.. إنه بار.. إنه صادق، ويجب أن تصدقوه.. لم يكذب قط، ولم يفتري قط.
وإذ ضاق به الكهنة ذرعًا زجروه: انصرف يا يهوذا.. أغرب عن هذا المكان وإلاَّ تصرفنا معك.
يهوذا: كلاَّ.. إنه برئ من جميع التهم.. أنا أشهد ببراءته.. فلماذا تحكمون عليه؟! ولما تقتلونه ظلمًا؟!!
-ألم تدينه أنت يا يهوذا منذ أمس وأول أمس، فماذا دهاك.. ما الذي حوَّلك هكذا؟
وإذ دفعوه بعيدًا ألقى بالفضة في وجوههم، فتدحرجت قطع الفضة ترن على الأرض، ومع صدى الرنين ترددت أصوات الشياطين تبكته:
كيف ترد الفضة يا محب الفضة؟
كيف تتخلى عن المال يا عابد الأموال؟!
إنها محاولة يائسة بائسة يا يهوذا.. أتريد أن تطوح بمسئوليتك عن الدم الزكي؟!.

وبينما انطلق يهوذا لم يجرؤ كاهن على لمس هذه الفضة لئلا يتنجس، فهي ثمن دم. ثم تجرأ أحد اللاويين من محبي الفضة، فجمعها ووضعها في أحد أركان الحجرة إلى أن يتم البت في أمرها، وتشاور الكهنة معًا: ماذا نفعل بهذه الفضة؟
قال أحدهم: لا يمكن أن ندخلها إلى خزينة الهيكل لأنها ثمن دم..
قال آخر: ولا يصح أن نقتسمها لأنها ثمن دمٍ.
قال ثالث: ولا يصح أن نوزعها على الفقراء والمحتاجين.
وقال رابع: ولا يصح أن نشتري بها بخورًا لأنها ثمن دمٍ.
عجبًا.. إنهم لا يقبلون دخول الفضة إلى خزينة الهيكل ويحللون إهدار الدم الزكي.
وأخيرًا قال أحدهم: إن الغرباء الذين يأتون في الأعياد وتُقبض أرواحهم، بدلًا من أن يزاحموننا في مقابرنا نشتري لهم مقبرة خاصة بهم، ووجد هذا الاقتراح استحسانًا من بقية الأموات..
حقًا إن بني حث كانوا أشرف من هؤلاء الكهنة، فعندما أراد إبراهيم أن يدفن أمهم سارة عرض عليه بنو حث أن يدفنها في أفضل قبورهمقائلين " اسمعنا يا سيدنا أنت رئيس من الله بيننا. في أفضل قبورنا أدفن ميتك" (تك 23: 6) أما هؤلاء الكهنة فيرون أن أخوتهم من يهود الشتات لا يستحقون أن يُدفنوا في قبورهم.
طرح يهوذا الفضة في الهيكل وهام على وجهه لا يعرف إلى أين؟.. أخذ يسعى بقدمين غليظتين إلى حيث لا يدري.. لقد لفته أفكاره المتشابكة كإكليل شوك، ففقد اتزانه، واضطربت ضربات قلبه حتى باتت مسموعة، وأخذ يركض بعض الشيء وهو يلهث، حتى وصل إلى منحدر بأحد أطراف جنوب المدينة عند التقاء وادي قدرون مع وادي هنوم..
هناك شجرة ضخمة على حافي المنحدر، هبت عليها نسمات الربيع الرقيقة فداعبت أوراقها الخضراء اللامعة المملوءة حياة، وإذ شعر يهوذا إنه يختنق، دفعه شيطانه للصعود أعلى الشجرة علَّه يلتمس منها نسمة حياة، فصعد وجلس في العلاء، ولكن ضميره الثائر أوقد له جحيمًا لا يُطاق: أنا المذنب.. أنا المجرم.. يا لحظك العاثر يا يهوذا.. أتُسلم سيدك للموت..؟! اليد التي امتدت لك بالخير أتُدق بالمسمار..؟! الأرجل التي جالت أرض إسرائيل تصنع خيرًا أتُدق بالمسمار..؟! ماذا فعلتُ..؟! كيف فعلتُ..؟! لماذا فعلتُ..؟!
وثار يهوذا ثورة شيطانيَّة ضد نفسه، لم يقدر أن يلتمس لها عذرًا، ولم يقدر أن يصفح عنها، وإذ وصل إلى أقصى درجات الحقد على نفسهِ، أصدر حكمه السريع عليها بالشنق.. نعم الشنق، ولم تشفق عليه شياطين اليأس وصغر النفس، إنما صارت تصرخ: تلميذ ساقط.. عبد خائن.. باع سيده بثلاثين فضة وإذ هي نحاس..
أخذ يهوذا يتحسَّس وسطه.. نزع الحزام الحريري الثمين الذي اشتراه بالمال الحرام، وإذ ظن أن الموت يريحه من عذاب جحيم الضمير، لف طرف الحزام على رقبته، وربط الطرف الآخر في فرع من فروع الشجرة، وأطاح يهوذا بنفسه فتأرجح قليلًا، وإذ كان بدينًا، واكتظ جسمه الثقيل باللحم والشحم، انشق فرع الشجرة القوي عن الأصل وسقط، تمامًا كما انشق يهوذا عن جماعة القديسين وهوى.. هوى وارتطم بالأرض التي افترشت ببعض الصخور الصغيرة والحصى، فانشقت بطنه، واندلقت أحشاؤه، وصارت دمائه بِركة رقصت حولها الشياطين رقصة الموت وهي تنتزع روحه من جوفه، وتزفها في سخرية وشماتة ما بعدها شماتة: أرأيتم مثل هذا التلميذ الخائن..؟! لقد عقد صفقة الهلاك ليُهلِك مُعلّمه، فهلك هو.. حفر حفرة لمُعلّمه، فسقط فيها.. هوذا الإنسان اللص السارق الذي خان الأمانة.. هوذا المرائي الذي تظاهر بالحب وقلبه يفيض بالحقد تجاه مُعلّمه وبقبلة غاشة قد أسلمه.. تبًا لك يا يهوذا يا اسخريوطي.. دعوه.. دعوه يجوز من بوابة الخيانة إلى باب الجحيم، وليتبعه طابور يهوذا كل عصر..
وتحققت في يهوذا نبؤة داود " فأقم أنت عليه شريرًا وليقف شيطان عن يمينه. إذ حُوكم فليخرج مذنبًا وصلاته فلتكن خطية. لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر" (مز 109: 6- 9).. " لتصر دارهم خرابًا وفي خيامهم لا يكن ساكن" (مز 69: 25).. ولم يجد يهوذا من يبكيه.. حقيقة لو كان سيده هنا لبكاه.. حسرة عليك يا تلميذ الحمل..!! ما أعظمها خسارة.. إنها خسارة لا تُعوَّض.
واحسرتاه عليك يا تلميذ الحبيب..!! كم هو عظيم حزن سيدك عليك؟!
يا للخسارة الفادحة..!! تلميذ صنع المعجزات وطرد الشياطين يسقط هكذا!!
يا للهول!! تلميذ كان من الممكن أن يكسب الآلاف للملكوت تنتهي حياته هكذا!!
دعونا نبكي يهوذا، وكل يهوذا يبيع سيده، من أجل حفنة تراب، أو شهوة جامحة، أو شهرة عمياء.. إن منظر يهوذا غارقًا في دمائه لهو أقوى إنذار لكل من هو قائم لئلا يسقط..
وبعد أن سقط تلميذا كهذا من جماعة القديسين، لن نندهش كثيرًا إذا رأينا في أي مجتمع كنسي عضوًا يبيع نفسه للشيطان، ولم يعد عجيبًا إذا رأينا نجمًا لامعًا يتعرض للأفول لأجل عناده.
وسرعان ما انتشرت الأخبار.. حادثة.. حادثة انتحار، وليست حادثة قتل، فالحبل الحرير الملفوف على الرقبة وفي طرفه الآخر فرع الشجرة المكسور يشهدان بهذا، وليس أحد يجرؤ أن يدَّعي أن التلاميذ هم الذين قتلوا يهوذا جراء خيانته، لأنهم يعيشون لحظات لا تسمح لهم بهذا.. إنهم يفرُّون لحياتهم من الموت.. نعم إنهم هاربون من الموت.
ولو تساءل أحد: إن كان يهوذا ندم إلى هذه الدرجة على خطيته فلماذا لم يَخلُص مثلما خَلص بطرس؟
والحقيقة أن هناك بونًا شاسعًا بين الاثنين:
1- رتب يهوذا لخطيته في هدوء وإصرار، ولم يكترث بكل إنذارات مُعلّمه.. لقد بيَّت النية على الخيانة، وارتكب الذنب مع سبق الإصرار. أما بطرس فقد باغتته الخطية، وبسبب الخوف والضعف البشري سقط.
2- قلب يهوذا مُفعم بالخيانة. أما قلب بطرس فهو مُفعم بالحب لسيده، فخطية يهوذا صدرت من قلب شرير استراح للشر وتلذَّذ به. أما خطية بطرس فهي خطية ضعف من قلبٍ محبٍ يسعى أن يكون مُخلصًا وأمينًا لسيده.
3- رأى يهوذا أن يسوع لابد أن يموت، ورأى بطرس أن يسوع لابد أن يعيش.
4- ارتضى يهوذا أن يهجم الغوغاء على مُعلّمه ليقبضوا عليه في قسوة وشراسة وكان يُحرّضهم. أما بطرس فلم يطق أبدًا أن يرى ملخس يمد يده في قسوة ويمسك بسيده.
5- حزن يهوذا على نفسه وعلى مظهره الذي بات قبيحًا كتلميذ خائن، وكانت ثمرة هذا الحزن الموت. أما بطرس فخزن لأنه جرح حبيبه، وكانت ثمرة هذا الحزن حياة.
6- ندم يهوذا دفعه بعيدًا عن يسوع. أما ندم بطرس فقد ألقى به في أحضان يسوع.
7- ندم يهوذا كان خاليًا من روح الرجاء، فولَّد اكتئابًا ويأسًا، ورغبة عارمة في قتل النفس. أما ندم بطرس فامتزج بروح الرجاء، فولَّد في النفس مرارة، وفي العين دمعًا، وفي القلب انكسارًا ولوعة.
8- لقد أحبَ يسوع هذا وذاك.. أحبَ يهوذا وعاتبه مرات بلغة الحب، وأحبَ بطرس وتدخل في حل مشكلته التي كادت أن تودي بحياته، واستفاد بطرس دون يهوذا بمحبة المُعلّم.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:28 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
أية شكاية

ونحو السادسة صباحًا توقف موكب الموت الضخم أمام قلعة أنطونيا، وكم كانت دهشة قوات الحراسة من هذه المظاهرة الضخمة في هذا الصباح الباكر، فمع إن القانون الروماني يحظر انعقاد المحاكمة قبل شروق الشمس، فإن القيادات الدينيَّة التي أدانت شمس البر، عجزت عن الصبر حتى شروق شمس الصباح.. أصدر ماركيوس قائد القلعة الأوامر لجنوده بالاستعداد، فخرجوا واصطفوا.. أيديهم على سيوفهم، خشية أن يهاجم الغوغاء القلعة.. وظل الموكب مرابضًا أمام القلعة، لم يدخل منهم شخص واحد إلى القلعة لئلا يتنجس فلا يقدر أن يأكل الفصح.. عجبًا.. إنهم كعادتهم يصفون عن البعوض ويبلعون الجمل.. يخشون أن يتنجسوا من دخول بيت إنسان أممي، ولا يخشون أن يسفكوا دمًا بريئًا..
وتقدم قيافا إلى مدخل القلعة المقبَّب الذي وقف فيه منذ بضعة ساعات بمفرده، ولكن هذه المرة ليس بمفرده وإنما معه الأسير مع جمع غفير، وتحدث مع ماركيوس الذي أوفد أحد ضباطه إلى الدور العلوي يخبر الوالي بأن هناك مظاهرة من اليهود أمام القصر يودون لقائه، وبينما كانت كلوديا في فراشها، كان بيلاطس قد بدأ يومه مبكرًا، وهو يتحسب لقضية يسوع المُعلّم الذي طبقت شهرته الآفاق..
وهبط بيلاطس إلى الدور الأرضي ووقف في "جباثا" وهو موضع يرتفع عن مستوى الأرض بنحو خمسة عشر درجة فهو مكان أشبه بالمنصة، وقد كُسيت الأرضية بالموازيق الملون، ويشرف هذا الموضع على الساحة المتسعة التي تجمَّع فيها الآلاف من الشعب الهائج.. أقبل بيلاطس، ولاقاه حنان بابتسامة الثعلب وقيافا بابتسامة صفراء، ورد بيلاطس التحية بمثلها، فالكل يقوم بدور المُحِب المُزيف، وهو دور مفضوح، لأن الحب الحقيقي لا يُزيَّف.
وجلس بيلاطس على كرسي الولاية.. رجل في العقد الخامس من عمره، وقد رسم المشيب بعض خطوطه.. ذو جسم قوي ممتلئ وقامة دون المتوسطة، له عينا صقر قادرتان على رصد أي حركة أمامه.. يرتدي زِيّ الوالي الروماني، وينتعل صندلًا ذو سيور جلدية.. وأحاط به حرس الشرف، وبمجرد جلوسه ساد الصمت، وكأن الساحة أضحت خالية، فقد عُرف هذا الرجل بالشراسة، حتى أنه قد يحكم على إنسان بالإعدام بدون اتهام وبدون محاكمة، وأمام آلاف اليهود وقف مئات الجنود الرومان الأقوياء على أهبة الاستعداد، فمجرد إشارة واحدة من إصبع الوالي كفيلة بإسقاط المئات من هذه الجماهير.
تسلَّم اثنان من جنود الرومان الأسير، وصعدوا به إلى "جباثا" أمام بيلاطس الذي رمقه بنظرات فاحصة، وفي ذهنه التقارير التفصيلية التي سبق أن قدمها ضابط المخابرات ألسكندر، فأُعجب بدقة ضابطه، بينما وقف يسوع يبدو عليه الإنهاك والإعياء.. وجهه شاحب مُتورّم، تعلوه آثار الكدمات والجراحات والتعذيب، وعيناه منتفختان، ومع ذلك فإنه يقف في جلال ووقار، يُلزم كل من ينظر إليه بأن يحترمه ويحبه رغم صعوبة منظره.. ملامحه بعيدة كل البعد عن ملامح الأشرار والمجرمين.. تأمله بيلاطس بنظرات فاحصة بعد أن سمع عنه الكثير والكثير.. هل يسوع هذا هو ابن الآلهة؟!.. هل أبوه إله الموت والحياة ولذلك يقيم الموتى..؟! من هو الذي بسببه تتحرك كل هذه الجموع؟!
واقترب قيافا من الوالي مبتسمًا: هوذا قد قبضنا على مُعلّم الناصرة الذي فتن المسكونة، الثائر ضد كل شيء.. لقد حاكمناه ونصحناه، ولكنه رفض النصيحة والإرشاد، فحكم عليه مجلس السنهدريم الموقر بالموت، والآن نلتمس التصديق على الحكم.
وفوجئ قيافا ببيلاطس يُكشّر عن أنيابه، ويطلق سهمًا مفاجئًا من جعبته، وارتفع صوته مجلجلًا: عليكم إقامة الدعوى بحسب إجراءات العدالة الرومانية.. ليتقدم المشتكين إلى المنصة..
وكان بيلاطس يعلم جيدًا من خلال جهاز مخابراته أن يسوع لم يقترف ذنبًا يستوجب عليه الموت، إنما حسد وكراهية وغل القيادات الدينيَّة هو الذي أوقفه في هذا الموقف، ولهذا أردف قائلًا: أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟ ما هي التهمة التي توجهونها إليه؟!.
وإشتم قيافا من لهجة بيلاطس أنه ينوي إقامة محاكمة رومانية عادلة، فقال في نفسه: "كلام الليل مدهون بزبدة يصبح عليه الصبح يسيح" وضجر قيافا وتململ ونظر لحماه الثعلب الكبير، وعوضًا عن أن يجيبوا على سؤال الوالي، أخذ قيافا يراوغ ويتملَّص، مُجيبًا بمكر ودهاء، بدون لباقة ولا احترام: لو لم يكن فاعل شر، لما كنا قد سلمناه إليك.. لنا ناموس، وبحسب ناموسنا يجب أن يموت..
فجاء الرد جافًا سخيفًا، يلقي باللوم على السائل..
" سألهم بيلاطس بكل تهذيب عن شكواهم ضد يسوع، هذا ما يقتضيه واجبه كموظفٍ في المملكة، وفي نفس الوقت أظهر انزعاجه أمام هذا الشعب الصاخب. أما إجابتهم فجاءت تكشف عن عجزهم في إثبات دعواهم ضده، مع إصرارهم بشراسة. لم يكونوا قادرين على تقديم اتهام صريح كأن يكون خائنًا للبلد أو قاتلًا أو مسببًا للشغب، لكنهم قدموا اتهامًا عامًا وهو أنه " صانع شر " كانوا يزجون بيلاطس رغمًا عنه لتنفيذ رغبتهم.. كان المدَّعون غير مهذبين في حوارهم مع بيلاطس، فقد خرج إليهم وسألهم عن الاتهام، أما هم ففي عجرفة لم يقدموا اتهامًا، بل حسبوا سؤاله أشبه بعدم ثقة فيهم وفي حكمهم.. كأنه من حقهم أن يحكموا وليس من حق الوالي أن يتعرف على الاتهام أو يناقشهم في حكمهم. هم يحكموا وهو يلتزم بالتنفيذ، الأمر الذي لا يقبله عقل.. ربما ظنت القيادات الدينية اليهودية أنه مجرد تسليم شخص يهودي للحاكم المستعمر فيه كل الكفاية على التحقق من شره وجريمته "(17).
وتململ بيلاطس من هذه الإجابة غير المهذَّبة، والتي اعتبرها امتهانًا لكرامته، فكأنهم يقولون له: وما شأنك؟.. مالك أنت وناموسنا؟.. لقد فحصناه ووجدناه مذنبًا وحكمنا عليه بحسب ناموسنا، وما عليك سوى التصديق على حكمنا العادل، فليس لدينا الوقت الذي نصرفه في محاكمة رومانية أخرى..
وشعر الوالي بحاسته الرومانية أن ما هذا إلاَّ استعلاء يهودي على روما، وما كان لبيلاطس المتمرس على فنون القتال أن يستسلم أمام أول سهم يطلقونه، إنما رد عليهم السهم بسهم، فردع رئيس كهنة اليهود ووضعه في حجمه هو وأتباعه.. ردَّ الكلمة اليهودية بكلمة رومانية أقوى، وردَّ المكر بمكر، والدهاء بدهاء، والاستعلاء بسخرية، والكبرياء بغطرسة، والسياسة بسياسة قائلًا: خذوه أنتم واحكموا عليه بحسب ناموسكم..
وشق سهم بيلاطس كبرياء قيافا، فأخذ يتململ يمينًا ويسارًا، بينما نهض بيلاطس متظاهرًا بالانصراف، فأسرع الثعلب الكبير بابتسامة عريضة باسطًا يديه: أنت تعلم يا حضرة الوالي العظيم أنه لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا، ومن المستحيل أن نخالف قوانين روما..
وشعر بيلاطس بالرضى بعد أن استرد كرامته، واعتبر كلام حنان اعتذارًا غير مباشر، إذ اعترف نهارًا جهارًا أنهم لا يملكون سلطة قتل أحد عن طريق مجلسهم الأعلى، فهم يخضعون لسلطة وسطوة روما، فعاد إلى كرسيه منتظرًا إجابة على سؤاله الذي سأله من قبل: أية شكاية تقدمونها على هذا الإنسان؟!..
وسرعان ما تشاور حنان مع قيافا وأتباعهم، فلا فائدة من شكايتهم الدينيَّة على يسوع، سواء دعى نفسه ابن الله أو كاسر السبت، فإن الأممي الأغلف لا يقيم وزنًا لمثل هذه الأمور، وإن قالوا أنه هدَّد بهدم الهيكل فإن الوالي سيسخر منهم، ولذلك حبكوا له تهمة ثلاثية تستوجب الموت، فقال حنان: إن هذا يا حضرة الوالي: 1- يفسد الأمة؛ 2- يمنع أن تُعطى جزية لقيصر؛ 3- يقول إنه مسيح ملك.
وابتسم بيلاطس ابتسامة خفية ماكرة، فإنه يعلم أن هذه القيادات الهائجة تشجع أي إنسان يمتنع عن إعطاء الجزية لقيصر، وإنها تساند أي إنسان يهودي ينصب نفسه ملكًا، علَّه أن يزيح من أمامهم سلطة روما، وقال بيلاطس في نفسه: كيف يفسد يسوع الأمة، وتعاليمه السامية تحض على المحبة والسلام والإخاء، وتنأى بالإنسان عن الفساد.. بل أنه بحث عن جذور الخطية ليجتسها فلم يكتفِ بعدم القتل بل أدان الغضب، ولم يكتفِ بعدم الزنا بل أدان مجرد النظرة الشريرة..
وكيف يمنع يسوع أن تُعطى جزية لقيصر، بينما المعلومات التي تحت يديه تؤكد غير ذلك، فهو ليس صاحب ثورةوعندما سأله قوم من الفريسيين والهيرودسيين: أنُعطي جزية لقيصر أما لا؟.. لم يجب بالإيجاب لئلا يتهمونه أنه يشايعنا، ولم يجب بالنفي حتى لا يقال عنه أنه ضد قيصر، وكم كانت حكمته عندما قال لهم أعطوني درهمًا، ثم سألهم: لمن هذه الصورة وهذه الكتابة؟ وعندما أجابوه أنها لقيصر، أجاب إجابته الخالدة: إذًا أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

وقال بيلاطس أيضًا في نفسه: وأيضًا التهمة الثالثة باطلة لأن تقارير ألكسندر تؤكد أنه رفض أن يُنصّبوه ملكًا، وعلى كلٍ فلا مانع من مناقشته في هذه التهمة الثالثة، حتى لا يجد هؤلاء الأغبياء حجة يشكونني بها إلى قيصر، ودخل بيلاطس إلى داخل دار الولاية، ودعا يسوع ليختلي به بعيدًا عن الجماهير الثائرة الهائجة.
بيلاطس: أنت ملك اليهود؟
وفوجئ بيلاطس بيسوع لا يجاوب بل يسأل سؤالًا جريئًا لا يخرج عن اللباقة الأدبية: أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني؟
بيلاطس: ألعلي أنا يهودي؟
أراد بيلاطس أن يقول إن الاعتراف بملك يهودي لابد أن يكون من إنسان يهودي، أو ينوي أن يكون يهوديًا. أما أنا فإنسان روماني ولا أنوي أن أتهوَّد.. ثم أردف بيلاطس قائلًا: أمتك ورؤساء كهنتك أسلموك إليَّ.. فماذا فعلت؟!
يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسلَّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا.
بيلاطس: أفأنت إذًا ملك؟
يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلِدت ولهذا قد أتيتُ إلى العالم لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي.
وكأن يسوع يخاطب ضمير بيلاطس:
كل من هو من الحق يسمع صوتي..
يا بيلاطس.. أتريد من ذاتك أن تعرف الحق ولذاتك، فأنا فعلًا ملك، ومملكتي مملكة سماوية تسمو على كل ممالك العالم.. الأسياد في المملكة هم الذين يغسلون أرجل الآخرين، والأوائل هم أصحاب المتكئ الأخير.. أنا حقًا ملك قد وُلدتُ وأتيتُ لهذا العالم حتى تُسْتَعْلَن مملكتي للبشرية التعيسة..
أما إن كنتَ تنساق وراء المشتكين الذين يريدون أن يأخذوا لقب "ملك" ليحكموا عليَّ ويقتلونني، فصدقني إنني لست ملكًا بمفهومهم الخاطئ.. أنت يا بيلاطس تستنكر عليَّ أن أكون ملكًا أرضيًا أزاحم ملوك الأرض ممالكهم، وأنا أيضًا أستنكر أن أكون ملكًا أرضيًا، ولو كنتُ ملكًا أرضيًا فأين خدامي وأعواني وجنودي ليدافعوا عني؟!
وشعر بيلاطس أنه تلميذ صغير أمام معلم عظيم، وتمنى لو تتاح له الفرصة ليتتلمذ على يديه، فهو يذكّره بمعلمه سينيكا فيلسوف روما، وسأل بيلاطس يسوع: وما هو الحق؟
لقد نسى بيلاطس أنه هو الحاكم العارف بكل شيء، فراح كتلميذ يسأل معلمه: وما هو الحق؟
ونظر يسوع بعينه الإلهية، وهو يعلم جيدًا أن بيلاطس - خوفًا على كرسيه - مُزمع أن يذبح الحق، لذلك آثر الصمت.. صمتَ لأن الجميع عزفوا عن الحق وسدوا أذانهم عن سماعه.
أما رؤساء الكهنة فأخذوا يُحرّضون ويُحفّزون الشعب، فعلت هتافاتهم مُدوّية: أنه مجدف.. مفسد للأمة. مستحق الموت.. ضد قيصر..
وإذ لم تسكت هذه الأصوات المزعجة، وأراد بيلاطس أن يُحفّز يسوع للدفاع عن نفسه، ولاسيما أنه متأكد من براءته ويعلم أنهم أسلموه حسدًا، فقال له: أما تجيب بشيء؟! أما تسمع؟! أنظر كم يشهدون عليك؟!
ولم يجب يسوع ولا عن كلمة واحدة، حتى تعجب الوالي جدًا، لأنه يعلم جيدًا فصاحة المُعلّم ورجاحة فكره.. لو أرادَ فإن السماء ستشهد له بمعجزة عجيبة في هذا اليوم المشهود.. فلماذا يصمت؟!
وقال بيلاطس في نفسه: ألعل اليوم يوم المفاجئات، فهذه المظاهرة الضخمة مفاجأة، وهذا المتهم الصامت مفاجأة، فأي متهم يدافع عن نفسه حتى لو كانت التهمة ثابتة عليه، وهذا البريء لا يريد أن يدافع عن نفسه، ولا يبالي بالموت.. عجبًا!!
على كلٍ فإن بيلاطس أدرك أن يسوع يتكلم عن مملكة سمائية، وقال في نفسه: إن مملكة يسوع بعيدة عن عالمنا الحاضر، وبالتالي فهي لا تدخل ضمن اختصاصنا، فتحركت في بيلاطس أحاسيس العدالة الرومانية، والتهب الغضب الروماني داخله، فخرج إلى الجماهير ليعلن حكمه في هذه القضية:
أنا لست أجد فيه علَّة واحدة.
وظهر الضيق على قيافا والضجر على حنان من أثر الصفعة الرومانية القوية، وانعكست ملامحهما على آلاف المتظاهرين مثل وباء سريع الانتشار، وسَرَتْ همهمة بينهم تستهجن الحكم البيلاطسي، وتُرجمت الهمهمات إلى كلمات بدأت تعلو فصارت هتافات تدوي في سماء أورشليم.. البعض يحتج على بيلاطس والآخر يشتكي على يسوع، حتى إن رؤساء الكهنة نسوا مراكزهم ووقارهم، وأخذوا يشتكون على يسوع، ويُحّرضون الجماهير، وقبض الجنود على سيوفهم وعيونهم نحو الوالي يلتمسون إشارة منه ليطيحوا بالرؤوس ويسكتوا تلك الأصوات المستفزة، فهؤلاء الجنود لا يبالون إن كانت حركة كهذه ستكون خاتمة لحكم بيلاطس وإرساله للمنفى، وليحدث ما يحدث، فإن هذا لن يمسهم بشيء.
وتشاور حنان وقيافا سريعًا فما دامت التهم الثلاثة لم تأتي بثمرة إذًا لندفع بتهمة رابعة، ورسم قيافا الابتسامة الصفراء على وجهه واقترب من الوالي بأدب جم: سيدي.. إن هذا الرجل يهيج بتعاليمه الشعب، ويشعل نيران الحقد والثورة ضد كل شيء.. إنه لا يكف عن التجوال من بلد إلى آخر كيفما شاء!.. بعرض بلادك يا عمانوئيل..!! اسأل عنه في الجليل لتعلم قدر خطورته.. إنه لا يكف عن التعليم من الجليل إلى هنا، فإن لم تحاكمه أنت فسيحاكمه هيرودس..
سمع بيلاطس كلمه "الجليل" وكأن غريقًا أمسك بقشة، فسأل (وهو العالم بكل شيء): هل الرجل من الجليل..؟! هل هو من سلطنة هيرودس..؟!
فصاحوا: نعم. أنه جليلي مثل الذين خلطتَ دمائهم بذبائحهم.. إنه من ناصرة الجليل التي لا يخرج منها شيء صالح.
وأظهر بيلاطس ارتياحه، وظن رؤساء الكهنة أنهم استطاعوا أن يثبتوا شر يسوع بدليل محل إقامته.. ألاَّ يكفي أنه من الجليل؟!
وارتسمت على محيا بيلاطس ابتسامة عريضة: حسنًا.. حسنًا إنه من الجليل، وهوذا أنتيباس هيرودس هنا في هذه الأيام.. ثم رفع صوته بحكمه النهائي: ليذهب إلى مَلكه ليقاصه إن كان مخطئًا.
وأشار لقائد المهمة الذي أدرك مهمته، فساق يسوع تاركًا جباثا، بينما الشعب لم يكف عن الهتاف: إنه يهز أمن أورشليم.. أورشليم..
بيلاطس: أُحيلت القضية إلى جهة الاختصاص.. اذهبوا إلى هيرودس.
وتغيَّرت ملامح وجهه لتفصح عما في قلبه من حقد وغل ضد هذا الشعب الجاهل، وكأنه يريد أن يقول لهم: اذهبوا إلى هيرودس إن شئتم.. أو إلى الجحيم إن أبيتم.
وعاد بيلاطس أدراجه إلى داخل دار الولاية، وكأن حملًا ثقيلًا انزاح عن كاهله، وهو يصفر صفارة النصرة والفرحة، لأنه لم ينفذ رغبة هؤلاء الأشرار.. لقد ضرب عصفورين بحجر واحد، فهي لفتة كريمة وتقدير لهيرودس الغاضب منه، وهروب من الحكم على إنسان برئ مثل يسوع بالموت.

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:29 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
الثعلب ابن السفاح والأفعى بنت الحيَّة

الساعة نحو الثامنة من صباح يوم الجمعة، ورؤساء الكهنة وبقية القيادات الدينية في حالة مزاجية سيئة للغاية.. يشعرون أن الوقت يتسرب من بين أصابعهم، ويخشون لئلا يودعه هيرودس السجن كما فعل من قبل مع يوحنا، فكيف ستمر فترة الأعياد..؟! وماذا سيفعل أتباع الناصري..؟! هب أنهم أشعلوا نيران الثورة ونجحوا في إخراجه من سجنه.. هل سيتركوننا..؟! ياليتنا ما تسرعنا في القبض عليه، ووضعنا أنفسنا في هذا المأزق الضيق.. إنها مشورة يهوذا أخيتوفل.. لينتقم الله منك أيها الخائن.

وتقدم قائد المئة الموكب الضخم وجنوده يحيطون بالأسير خوفًا عليه من إنتقام الجماهير، وإذ كانت المدينة أورشليم تموج بآلاف البشر، وكثيرون يتساءلون عن هذا الموكب الذي يجمع رؤساء الكهنة مع الفريسيين رغم أن بينهما ما صنع الحداد، ويجمع اليهود مع الرومان رغم أن كل منهما يتمنى فناء الآخر، أما الذين كانوا ينتظرون يسوع نبي الناصرة ليعلن نفسه ملكًا في هذا العيد، ويحرر البلاد من سلطة الرومان، وفهموا ما يجري إندهشوا: كيف صار أسيرًا في قبضتهم؟..!! رؤساء الكهنة يطلقون الإشاعات فتسري مثل النار في الهشيم ويعلو دخانها: إنه يريد هدم الهيكل.. فكيف يكون هو المسيا..؟! ألم يُكسِر السبت؟.. ألم يجدف على اسم الله المبارك؟..
واقترب الموكب من قصر هيرودس.. هذا القصر المكسو بالمرمر الأبيض، والذي يحط بجناحيه مثل طائر ضخم على أرض أورشليم، وبينما كان نظام الحكم في اليهودية يتم بالتعيين منذ سنة 63 ق.م حيث تولى بيلاطس البنطي كخامس والي على اليهودية، فإن الحكم في الجليل كان قاصرًا على العائلية الهيرودسيَّة، والملك الحالي هو هيرودس أنتيباس الذي دعاه المعلم بالثعلب، وهو ابن هيرودس الكبير الذي دُعي بالسفاح، ومما يذكر عن هيرودس الكبير أنه كان سياسيًا بارعًا قادرًا على كسب ثقة الأعداء قبل الأصدقاء، وهو الذي قام بتجديد الهيكل، إلاَّ أن الأنانية سيطرت عليه فخلقت منه سفاحًا، فبسبب خوفه على ملكه قتل أخته سالومي وزوجها، وقتل زوجته المحبوبة مريم إبنة سمعان رئيس الكهنة حفيدة يوحنا هركانوس مع ألكسندرا زوجة سمعان، وأمر بقتل أطفال بيت لحم.. وكان قصره هيرودس يعتبر مسرحًا للدسائس والمؤامرات من قبل زوجاته العشرة وأسراتهنَّ، ولما عاد ابناه "الكسندر" و"أرسطوبولس" من روما وعلما بمقتل أمهما مريم، أرادا الانتقام من أبيهما، وعلم أبيهما هيرودس بهذا فقتلهما بإيعاز من إبنه الأكبر "أنتيباتر"، ولما خشى أن يغتصب إبنه "أنتيباتر" المملكة قتله أيضًا، حتى قال "أكتافيوس قيصر" إن خنازير هيرودس تتمتع بالأمان والسلام أكثر من أولاده "، وظل في ملكه أربعين سنة (37 ق.م - 4 م) وبلغ السبعين من عمره، وعندما شعر بدنو أجله أمر بالقبض على عدد كبير من عظماء وأثرياء وقادة المملكة، وأمر بقتلهم عند موته حتى يعم الحزن أرجاء المملكة.
أما هيرودس أنتيباس فقد ملك نحو ثلاثة وثلاثين سنة (4م. - 39 م) وتزوج بابنة أريتاس Aretas ملك البنطيةوفي سنة 28م التقى في روما مع "هيروديا" زوجة أخيه فيلبس ملك إيطورية وكورة تراخونيتس بسوريا، فتركت هيروديا زوجها فيلبس، والتصقت به، وعندما رقصت أمامه سالومي ابنة هيروديا، أعطاها وعدًا بتلبية أي طلب تطلبه حتى نصف المملكة، واستشارت أمها هيروديا الحيَّة العتيقة.. طلبن رأس يوحنا المعمدان صوت الحق الذي طالما بكَّتها على خطيتها، وكان هيرودس قد أودعه السجن، فلأجل الأقسام والمتكئين أرسل فقطع رأس يوحنا، وقدمها إلى سالومي على طبق، وحملت الأفعى بنت الحيَّة رأس يوحنا على طبق، وقلبها يرقص ثقة بنفسها، وصارت أمها في طرب عظيم، وإذ أرادا أن يلهيا بالرأس المقدَّسة، وإذ بالشعر يُحلّق حاملًا الرأس بعيدًا عن قصر الدسائس، وصوت السابق الصابغ يدوي: يا هيرودس لا يحل لك أن تأخذ هيروديا زوجة أخيك.. صرخت سالومي، وسقطت هيروديا على الأرض مرتعبة.
وكان هيرودس منذ أيام يفكر في قتل يسوع أيضًا، فقال بعض الفريسيين ليسوع إذهب وأخرج من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك، فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب ها أنا أُخرج شياطين وأُشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أُكمل.. لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا من أورشليم.
جاء هيرودس من الجليل إلى أورشليم للإحتفال بالأعياد، وقد افتتح عدة صالات جمنزيوم gymnasium، بالإضافة للمسرح الكبير لتقديم المسرحيات، ومدرج الألعاب الذي يسع الآلاف، والمسرح الدائري بجدرانه المزينة ببعض النقوش الذهبية والفضية، والذي كانت تُقام فيه حفلات المصارعة بين المحكوم عليهم بالإعدام والوحوش الضارية الجائعة.
وبعد أن وصل الموكب الذي كان أشبه بمظاهرة شعبية إلى قصر هيرودس، بيت القصيد، ظلت الجماهير خارج القصر، ودخل قائد المئة وبعض جنوده مع رؤساء الكهنة ومشايعيهم يحيطون بالأسير، وقد ارتضى هؤلاء الرؤساء دخول قصر هيرودس الأدومي المُتهوّد، بينما رفضوا دخول قصر بيلاطس الأممي لئلا يتنجسوا.. جلس هيرودس على عرشه بملابسه الملوكية الموشاة بالذهب، وبريق الذهب مع لمعان الألماظ المرصَّع به التاج الملكي يبهران الأنظار، وتلاقت عيني يسوع المتورمتين بعيني ذلك الثعلب بن السفاح، وأحس هيرودس أن تلك العينان تفحصان كل شيء حتى خبايا القلوب، ولم يكن هيرودس يتوقَّع وهو خارج ولايته أن تعرض عليه مشكلة بهذه الضخامة والتي يمثل رؤساء الكهنة وأعضاء مجمع السنهدريم وجميع القيادات اليهودية مع اختلاف اتجاهاتهم بالإضافة إلى جماهير الشعب طرفًا فيها ضد الطرف الآخر وهو مُعلّم الجليل بمفرده، ومع ذلك فإن كل ما كان يشغله هو قوة وجبروت هذا الرجل، فأخذ يُمني نفسه بمشاهدة عرضًا يسوعيًا يخلب الألباب، وربما يدفع هذه الثيران الهائجة للتنازل عن شكواهم طوعًا واختيارًا.
وقدَّم قائد المئة الروماني تقريرًا شفهيًا لهيرودس الذي كان يتتبع أخبار يسوع أول بأول، وبالرغم من أن هيرودس كان يفكر في قتله لكنه كان في لهفة من لقائه بسبب ما سمعه عنه، وعن كم المعجزات التي أجراها بقوته الشخصية بدون تضرع لله ولا توسل ولا صلاة ولا طلبة، وعلى رأس هذه المعجزات جميعها إقامة الميت بعد أربعة أيام من موته.
ونظر هيرودس نحو يسوع بدهاء الثعلب قائلًا: اسمع يا يسوع.. لقد ادَّعيتَ إنكَ ابن الله، ولكَ سلطان عظيم يفوق الطبيعة، فهل تثبت لنا صدق أقوالك؟.. أتُجري أمامنا معجزة لأتأكد بعيني ما سمعته عنك بأذنيَّ؟!
وصمت يسوع صمتًا مطبقًا..
هيرودس: هيا يا جبار البأس.. ألا تريد أن تخرج من هنا حرًا طليقًا؟!.. أي معجزة تشاءها.. أي أعجوبة تريدها.
ولم ينجح تشجيع وإغراء هيرودس في إخراج يسوع عن صمته، وهيرودس يتلهف نحو معجزة كطفل تسعده رؤية الحاوي، ثم قال له: يا يسوع.. ألم تقل عني إنني ثعلب.. أنا مستعد أن أغفر لك هذا، لقاء أن تُجري لنا معجزة، وأنا أعدك بأنني سأطلقك.
أما رؤساء الكهنة فبدأ عليهم التذمر واضحًا، ومع إنه لا يروق لهم ما يجري، لكنهم يتحاشون الصدام مع هيرودس.. إذًا فلينتظروا على مضض، وما كان يعزيهم في مصيبتهم ويطمئنهم بعض الشيء صمت يسوع رغم إغراء هيرودس له بالإطلاق، ولم يدرك هيرودس أن يسوع لم يسعَ قط للهرب والفكاك من الصليب..
ولم يدرك أنه جاء للموت بأقدامه لا يسوقه قدره السيء، إنما تدفعه محبته الفياضة للإنسان الجريح العريان المطروح وسط زحام الشياطين..
يا لمحبتك يا يسوع.
وظل هيرودس في محاولاته وهو يقول في نفسه: لو أنني ربحتُ يسوع هذا لربحتُ من ورائه آلاف المشايعين له.. أليس هو من ولايتي ويجب أن يكون ولائه لي أولًا، ويعمل لحسابي، ولكن يسوع ملك الملوك لم يكن قط مشايعًا لملك ما، ولم يعمل قط لحساب ملك أو رئيس كهنة أو زعيم.. إنما كان يعمل دائمًا لحساب خاطئ تائب، لحساب جريح سقط بين اللصوص.. لحساب امرأة منكسرة أُمسكت في ذات الفعل، لحساب زكا العشار والمجدلية والكنعانية ونازفة الدم.. وأيضًا لم يكن يسوع يومًا حاويًا ولا ساحرًا، ولم يجري معجزة قط من أجل البهرجة والفرجة والتسلية، إنما جميعها كانت أحشاء رأفات ومحبة للبشر.. وقف يسوع يُحاكم أمام الملك هيرودس تحقيقًا لنبؤة داود الملك " قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما" (مز 2: 2، 3).
وظل يسوع أمام هذا الوحش الآدمي صامدًا صامتًا، لم يجب على سؤال واحد، ولم ينطق ببنت شفه، فكلام يسوع كلام ثمين وغالي لا يُهرَق في الهواء جزافًا، وبدأ هيرودس شيئًا فشيئا يفقد أعصابه، بالرغم من أنه يتظاهر بالصبر والجَلَد، فهكذا هي سياسة الملوك.. تحوَّل هيرودس عن يسوع ونظر إلى مشيريه، وظل يثني على يسوع كمواطن جليلي يُشرّف وطنه، وأخذ يمدح تعاليمه السامية.. لقد وضع الملك في نفسه أنه لابد أن ينتصر ويكسب الجولة، بإخراج يسوع عن صمته، ولكيما يجري معجزة ما، ووضع الأسير في قلبه أن لا يجيب..
وأخيرًا رفع هيرودس الراية البيضاء.. ألاَّ يقدر الملك على حمل أسير على الكلام..؟! ياللمهزلة.. احمرَّ وجه هيرودس، ولاح أمام عيناه صورة يوحنا الذبيح قريب هذا الأسير، وتمنى لو أنه سبق وذبح يسوع بدلًا من يوحنا القديس!! وبينما هيرودس يغوص في أفكاره هذه، لم يكف رؤساء الكهنة عن الاشتكاء ضد يسوع بشدة، ولم ينقطعوا عن الثرثرة بكلمات كثيرة، ولكن هيرودس العالم بأمورهم قد سدَّ أذنيه تجاههم، وحدجهم بنظراته الحادة، فتحوَّلت ثرثرتهم إلى همسات: ما هذا اليوم الأغبر؟! أجئنا للحكم على يسوع أم لنلقى السخرية من هيرودس..؟! نحن قادرون على مواجهة هذا الهيرودس ومن خلفنا الجهات الشعبية، ولكن ليس الآن، فالوقت كله والمجهود كله يجب أن يُكرس من أجل قتل يسوع.
ونهض الثعلب الماكر من على عرشه ودار حول الفريسة ببطء يتفحصها، وإذ بالوجه مُتورّم تعلوه آثار الكدمات والجروح، والملابس ملطخة بالدماء، فأطلق ضحكته الساخرة، وسُمع في القصر صوت قهقهته: أأنت ملك اليهود؟!
أين شعبك وأين جيشك يا ملك؟!
وأحضر أحد الجنود ثوبًا لامعًا ألقاه عليه: سلام لسيدي الملك..
وسخروا منه واستهزأوا به.. وعاد هيرودس إلى عرشه، وتقدم منه قائد المئة ليحصل على التقرير النهائي شفاهة: عُد به إلى سيدك بيلاطس.. فإن الاتهامات غير ثابتة عليه..
وعلى كلٍ سعد هيرودس بتقدير بيلاطس له، واعتبر أن هذا التقدير يعد بمثابة اعتذار غير مباشر من بيلاطس الذي ذبح الجليليين، وعادت حمائم السلام ترفرف بين الاثنين بفضل يسوع ملك السلام.
وعادت الجماهير من حيث أتت، واندفع الموكب في شوارع أورشليم بين أناس يفرحون ويلهون ويستعدون لذبح خروف الفصح، وأناس يصعدون إلى الهيكل وهم يرنمون مزامير المصاعد، وأناس يبيعون ويشترون، وكان على جند بيلاطس دفع الناس دفعًا ليعبر الموكب إلى قلعة أنطونيا، ورؤساء الكهنة ومشايعيهم في حزن وكمد لأنهم فشلوا في انتزاع حكم الموت على يسوع من هيرودس، كما فشلوا في الحصول عليه سلفًا من بيلاطس، والشمس تسرع في طريقها مثل جبار، مما أشعر القيادات الدينيَّة بأنها باتت في مأزق، فأخذوا يلعنون يهوذا الذي أغراهم بالقبض على يسوع في هذا الوقت الحرج، ويلعنون بيلاطس الذي يرفض تنفيذ قرارات المجمع المقدَّس، ويلعنون هيرودس الذي إنتهرهم، ويلعنون يومهم الأغبر هذا..

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:31 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
إني أحتج صارخًا

ونحو الساعة التاسعة والنصف صباح يوم الجمعة، عاد الموكب الحزين إلى بيلاطس، وعندما سمع بيلاطس وهو بالداخل أصوات الغوغاء، أدرك لوقته أن هيرودس قد أعاده إليه، فبعد أن تنفس الصعداء، وظن أنه قد انتهى من تلك القضية بإرسال يسوع إلى هيرودس، فإذ بعقارب الساعة تعود للخلف، وعادت تظهر في الأفق الوجوه الكالحة لرؤساء الكهنة ومشايعيهم بسماجتهم ورذالاتهم..
عاد قائد المئة وجنوده بالأسير إلى داخل القلعة، حيث أبلغ القائد الوالي بما كان، بينما ظل الرؤساء والشعب خارج دار الولاية في قلق بالغ.. ماذا سيفعل بيلاطس بعد كل هذا العناء..؟! إنها الفرصة الأخيرة.. وإذ بدأوا يشعرون أن قتل الأسير بات أمرًا بعيدًا إلى حد ما جن جنونهم، وفقدوا وقارهم، وأخذوا يُحرّضون الشعب علانية، فلا بد من تكثيف الضغوط على بيلاطس بكل طريقة شرعية أو غير شرعية.. لقد غدت مسألة حياة أو موت.. وجود أو عدم.. حتى صار المشهد مشهدًا لم تشهده أورشليم من قبل.
وخرج بيلاطس متوعك المزاج إلى جباثا، وعاد للجلوس على كرسي الولاية، وهو يُجهِد تفكيره كيف يُخلّص الأسير البريء من أنياب الضباع، ولاسيما أن هيرودس يتفق معه تمامًا على براءة الرجل، فتفتق ذهنه عن فكرة شيطانية أضرت يسوع كثيرًا.. أشار بيلاطس إلى الجموع فسكتت الجلبة والضوضاء، وصار هدوء عظيم فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب وقال لهم قد قدمتم إليَّ هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدَّامكم ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودس أيضًا لأني أرسلتكم إليه، وها لا شيء يستحق الموت صُنِعَ منه. فأنا أؤدبه وأطلقه..
هوذا الوالي الروماني يقول لليهود "فحصت قدامكم" أي أنني أجريت التحقيق العادل معه أمامكم، وها أنتم شاهدون على سلامة التحقيق، وأنه جرى طبقًا للعدالة الرومانية بلا تحيز ولا محاباة.. ثم يقول "لأني أرسلتكم إلى هيرودس" أي أنني لم آخذ رأي هيرودس سرًّا، إنما كان الأمر علانية أمامكم، فأنتم الذين ذهبتم وسمعتم شهادة هيرودس عنه..
وقال بيلاطس في نفسه لأحكم عليه بالجلد، ولو أن هذا الحكم ضد الحق لكن علَّه يُرضي جميع الأطراف، عندما يبصرون جسده مهلهلًا من أثر الجلدات الرومانية، لابد أن هذا سيريحهم ويرضيهم ويُسكّن غضبهم، وحينئذ تتحرك قلوبهم شفقة على ابن وطنهم، ويعفون عنه، فيفوز يسوع بالحياة.. وهكذا أصدر بيلاطس أمره: ليُجلَد يسوع.
وانتظرت الجماهير كلمة من رؤساء الكهنة الذي وثقوا فيهم، وإذ أظهر هؤلاء الرؤساء استيائهم ومصمصوا شفاههم، هاج الشعب وماج. وبينما انصرف بيلاطس إلى داخل دار الولاية، لم يكف الشعب عن الصياح والهياج، وجند الرومان مُقيَّدون بكلمة بيلاطس، وهم يتمنون من عمق قلبهم أي إشارة بسيطة من بيلاطس، ليؤدبوا هذا الشعب ويذبحوا رؤوس الأفاعي..
عجبًا.. الوالي الأممي يحكم ببراءة يسوع، ورؤساء وقضاة ورعاة إسرائيل يطلبون سفك الدم الذكي.. أنظروا إلى أي درجة انحط هؤلاء القوم بسب أحقادهم وضغائنهم على المُعلّم.
وأنت با بيلاطس مادمت تعترف ببراءة يسوع، وتدرك تمامًا أنهم أسلموه حسدًا، فلماذا تُسلّمه للجلدات القاتلة بحجة أنك تؤدبه؟!.. هل يسوع يحتاج تأديبك أيها الوالي..؟!
أتريد أن تُؤدّب المُؤّدب الشافي طبيب الأجساد الأرواح الذي بلا خطية وحده؟!..
أتريد أن تُؤدّب من نسمة حياتك في يده؟!
أتؤدبه من أجل حبه الفياض لك ولكل البشرية؟!
أتؤدب الحب الذي أسكت ملاك الله لئلا يشقك بسيفه الناري؟
يا بيلاطس.. كيف يرتضي قلبك وتوافق عدالتك على طرح إنسان برئ للجلدات التي قد تقضي عليه؟!
أين هيبتك يا رجل..؟! وكيف يتأتى هذا..؟! أتحكم ببراءته وتريد أن تؤدبه؟!
أتلتمس من الغوغاء أن يسمحوا لك بأن تؤدبه وتطلقه، وهم يرفضون هذا..؟!
أتتحول من حاكم إلى محكوم..؟!
وكيف تسير وراء هوى شعب فاسد عوضًا عن أن يخضع الشعب لسيف العدالة الذي تحمله..؟!
مالك تدخل السياسة في القضاء؟!..
ومالك تساوم على عدالة روما؟!..
ألم تسمع القول الروماني المأثور والذي يعتبر دستور القضاة " أقم العدل ولو تسقط السماء"..؟!
ألا ترى أن هذه هي الخطوة الأولى في طريق التنازلات، ولكنها لن تكون الأخيرة؟!.
وأخذ جند بيلاطس يسوع إلى القشلاق، وربطوه إلى عامود الجَلد القصير، فاتخذ جسده شكل القوس ووجهه متجه إلى أسفل.. ووقف جلادان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.. أحدهما يظهر كالعملاق، والآخر قصير القامة ولكن علامات التحدي تظهر عليه، وجلس قائد المئة أمام منضدة صغيرة يرقب الموقف، فهذه فرصة رائعة للرومان للانتقام من اليهود الملاعين الذين لا يكفون عن المشاغبات وأحيانًا ينجحون في اغتيال بعضهم، وقد سمعوا أن هذا الرجل يريد أن يكون ملكًا على اليهود ليطرد الرومان شر طردة.. إذًا الويل كل الويل لهذا الرجل، كان خير له لو لم يُولَد.
أما السوطان اللذان اُستخدما في الجلد فكل منهما له يد خشبية مخروطة بطريقة تمكن الجندي من القبض عليه جيدًا، وينبثق منه ثلاثة سيور، كل منها ينتهي بقطعتين من العظم أو الرصاص تحفران جروحًا غائرة في الجسم، وهذا النوع من السياط يعتبر أصعب أنواع الشيطان ويُدعى بـ"العقارب" وهو ما قصده الملك رحبعام بن سليمان في حديثه مع رؤساء بني إسرائيل عندما قال لهم "أبي أدبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب" (1مل 12: 11).


https://st-takla.org/Gallery/var/albu...Passion-05.jpg
St-Takla.org Image: Flagellation of Christ Jesus
صورة في موقع الأنبا تكلا: جلد المسيح
ارتفعت السياط لتهوي على ذاك الجسد الرقيق العاري، وكل جلدة تئز، وتُصفّر، وترتطم بالجسد، فتترك ثلاثة علامات دامية في الجسد المقدَّس بالإضافة إلى ستة جروح غائرة، تدفع الذي يُجلد أن يتلوى محاولًا جذب يديه من القيود. أما يسوع فلم يفعل هكذا.. لقد تحمل ضربات السياط القوية من الجلادين اللذين دخلا في منافسة غير شريفة على تمزيق جسده الطاهر.. نظر الجلاد الضخم إلى زميله قصير القامة نظرة استهانة، فأراد الأخير أن يثبت قدراته، وتحدى الاثنان بعضهما البعض أيهما تكون ضرباته أشد إيلامًا وأقدر على تمزيق الجسد المقدَّس.. الدماء تسيل من الجسد الجريح المتهرئ تصرخ وتحتج على قسوة الإنسان الذي أسلم نفسه للشيطان.. لقد نفث الشيطان سمومه في هذين الجنديين، فتصوَّر كل منهما أنه في معركة حامية الوطيس، فيشب ويهبط بسوطه على جسم الضحية، وكأنه بطل مغوار غازي يعبر البحار ويفتح القلاع، ولا يدرك أن ما يقوم به هو عمل وحشي يستهجنه العقل ويرفضه الوجدان.
وكلما انتفض ذاك الجسد الطاهر وآنَّ وتأوه، كلما ارتفعت ضحكات وسخرية الجنود.. آه.. يا ملك اليهود.. رفقًا بمن سيحرر البلاد..
وكلما أوشك يسوع أن يفقد قوته وينهار راكعًا على قدميه، فإنه يجاهد ويتشدد..
ولم يكن للضربات وجهة محدَّدة، بل أباحوا الجسد كله للسياط، وعندما تهبط إحدى الضربات بالقرب من الرأس تلف الرأس وتدور، بالإضافة إلى الدم المندفع في الرأس يجعلها تكاد تنفجر..
إنها آلام فوق الوصف.. كل جرح ينبض بالألم..
إن الجلد يتهرأ، والشرايين تتعرى، وطبقات داخلية من الجسد الطاهر تنكشف..
إنها لسعات الحيَّة القديمة تنهش ذاك الجسد الطاهر.. ألم يقل الكتاب أنها تسحق عقبه؟!
وإن كان الإنسان عندما يتعرض لألم فوق الطاقة يدخل في مرحلة الغيبوبة واللاوعي، ويفرز الجسم المواد المخدرة التي تسكن الألم، فإنه في حالة الجَلد يظل الإنسان يقظًا مهما اشتعلت آلامه، ولا يغيب الإنسان عن وعيه إلاَّ إذا انطلقت روحه من جوفه.
وأيضًا لم يلتزم هؤلاء الجنود بعدد معين من الضربات، افترش جسد يسوع بالجروح التي تعدت السبعمائة جرحًا " على ظهري حرث الحُرَّاث. طوَّلوا أتلامهم" (مز 129: 3) وكأن هذا الجسد أرضًا يشقها المحراث بسلاحه القوي فيتركها أخاديد، وهكذا خطت الجلدات على ظهر يسوع خطوطًا كالتي يخطها المحراث " بذلت ظهري للضاربين" (أش 50: 6) وصنعت الدماء مع الجسد الذي تهرأ ثيابًا قرمزية ليسوع، مما دعى إشعياء النبي للتساؤل " من ذا الآتي من آدوم بثياب حُمر من بصره.. ما بال لباسك مُحمرُ وثيابك كدائس المعصرة " فأجابته أنَّات يسوع " قد دستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي فرُش عصيرهم على ثيابي فلطخت كل ملابسي" (أش 63: 1 - 3).
لمن هذه الجلدات يا يسوع؟!
إنها لكل إنسان قاتل سفاح.. لكل زانٍ مستبيح.. لكل لصٍ سالب.. لكل مجدف جاحد.. لكل ظالم مستبد.. لكل خاطئ أثيم..
إنها لا تخصك أيها الطاهر القدوس.. فلِمَ تحتملها؟!
إنني أصرخ بأعلى صوتي.. إنني أحتج أحتج.. أحتج يا يسوع..
وأسمع همسات قلبك: علآم تحتج يا حبيبي.. أتحتج على قسوة الإنسان؟!
وأصرخ ويعلو صوتي: كلاَّ.. إن احتجاجي على هؤلاء الوحوش لا يفيد.. فمن يسمع ومن يصغي؟! لا أحد..
لكنني أحتج وسأظل أحتج وأصرخ بأعلى صوتي..
وأسمع همسات حبك: علآم تحتج يا ابني؟!
إني أحتج وأصرخ وأملأ الدنيا صياحًا ودموعًا وضجيجًا: إنني أحتج عليك.. أحتج عليك يا يسوع.. يا إلهي..
وإذ أصغى لنبضات حبك: علآم تحتج عليَّ؟!
إنني أصيح بأعلى صوتي وأقول: لماذا يا ربي.. لماذا يا إلهي تترك نفسك فريسة هكذا..؟! من يتصوَّر هذا المنظر ولا يذوب قلبه؟!.. من ينظر إليك ولا يحترق فؤاده؟!
وأسمع صوتك الحاني المتهدج: كل هذا من أجلك يا ابني..
وأكاد أصرخ: لا.. لا.. لا أستحق.. لتكف هذه الجلدات اللعينة.. وليكن ما يكون، حتى لو ذهبتُ أنا للجحيم.
وإذ بيدك الحانية تبكم فمي، وإذ بنبضات قلبك تأسرني..
فأصرخ: إن كنت يا رب لا أقدر أن أرفع عنك هذه الجلدات، فلتجعلني مستحقًا أن أُجلد معك، وعندما تقع الجلدة على ظهري.. هل سأكون راضيًا شاكرًا أم إنني سأطلق من جوفي حممًا من الآهات والأنات والنرفذة والزربنة والانفعالات المرة..؟! إذًا إن كنت تسمح لي يا سيدي بأن أُجلد معك، فقط أعطيني القوة للاحتمال والرضى والشكر.
ونهض قائد المئة من جلسته أكثر من مرة، يقترب من يسوع ويرمقه بنظرات فاحصة ويتركه لجلاديه. وفي المرة الأخيرة لاحظ قائد المئة يسوع وهو يلهث، وصدره يعلو ويهبط بسرعة، وصارت أنفاسه متقطعة، فعلم أن يسوع وصل إلى نهاية مداه، وبضع جلدات أخرى ستقضي عليه حتمًا، فرفع يده، ورفع الجلادان أيديهما عنه، وإن كان الجلادان قد أُنهكا إلى هذه الدرجة فما بالك بيسوع نفسه؟!. وما أن قطع أحدهم الحبل الذي يربط يسوع بعمود الجلد حتى سقط شبه مغشيًا عليه مرتطمًا بالأرض الحجرية، وتقدم جنديان يقيمانه ويجلسانه، وجسمه يلتهب نارًا، إذ هو مسخَّن بمئات الجروح.
وكل ما حدث لم يشبع نهم الشيطان ولم يقنع الجنود الرومان.. لقد تناثرت الأقوال وانتشرت الإشاعات في القشلاق: هل رأيتموه؟.. أرأيتم ملك اليهود..؟! هيا لنقدم له الإكرام والسجود، وصدق الجنود الرومان الإشاعات اليهودية أكثر من سيدهم بيلاطس الذي حكم ببراءته أكثر من مرة، فوجدوا فرصتهم لّلهو والتسلية، فطرح عليه أحدهم رداءًا قرمزيًا موشحًا إياه بوشاح الملوك: عش أيها الملك إلى الأبد.. فهذا رداء الملوك.
وقال آخر: وأين تاج الملوك.. يعوزه تاجًا أيها الأبطال..
أسرع ثالث بقص بعض فروع من الأشواك الحادة، وضفَّرها على شكل طاقية ووضعها على رأسه: مادمت أنت الملك فلابد لك من تاج الملوك..
ووقف سليمان الملك منذهلًا لما يجري لملك السلام " اخرجن يا بنات صهيون وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه" (نش 3: 11).. إنه جاء ليقتلع من الأرض أشواك اللعنة ومن النفس أشواك الخطية.. إن كبش إسحق الذي وُجِد مُمسكًا بقرنيه في الغابة (تك 22: 13) كان رمزًا للمسيح المُكلَّل بالأشواك الآن.. إنها الأمة اليهودية، أمه بحسب الجسد، هي التي أسلمته للرومان، فكلَّلوه بالأشواك، وصار يسوع هو الشخص الوحيد على مدار التاريخ كله الذي كُلل بالأشواك قبل صلبه..
أحضر أحدهم قصبة ووضعها في يمينه قائلًا: هوذا صولجان المُلك أيها الملك السعيد..
وأخذوا يسخرون منه ويجثون أمامه مقدمين له التحية: السلام يا ملك اليهود..
وهم يجهلون أنه هو الوحيد الذي تجثوا باسمه كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض.
ولمعت فكرة جهنمية في ذهن أحد أبناء إبليس، إذ أمسك بقصبة وضربه ضربات قوية ومتلاحقة على رأسه.. انغرست الأشواك في فروة الرأس والجبين فأحدثت اثني عشر ثقبًا سالت منها الدماء في خطوط متشابكة على الوجه المُتورّم والعينين الشبه مغلقتين وخصلات الشعر، ونتج عن هذه الأشواك آلام نارية بالرأس جعلته يحرك رأسه يمينًا ويسارًا..
وتركتُ دموعي تنساب تسأله: كيف وخز الأشواك يا يسوع..؟!
أقطرَ جبينك دمًا وعرقًا؟!
أسالتْ دموعك من شدة الألم؟!
هل اختلطت دموعك بدمائك بعرقك لتصنه دواءًا لكل من دوخته أفكار الشر؟!
ووقف ميخا النبي مشدوهًا يشهد " يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده" (مي 5: 1)
وصار يسوع كحمل قائم وكأنه مذبوح..
ولم يكتفوا بهذا، بل إذ تزاحمت عليه كل الكتيبة نحو ستمائة جندي، ورقصت الشياطين رقصتها بقيادة لوسيفر حول ابن الإنسان الذي طالما قهرها وأذلها، راح البعض يبصق عليه.. والبعض يركله، وهو لم يحاول أن يرد وجهه عن خزي البصاق.. لم يحاول أن يدفع الأذى عنه..
لقد إمتزجت الأخلاق الوضيعة مع الشراسة الشيطانية في تلك النفوس التي تَوحَّشت، فوقف أرميا يرنم حزينًا باكيًا " يعطي خده لضاربه. يُشبع عارًا" (مرا 3: 30).
وإذ أحاطت به كل الكتيبة كأسود ضارية تنشب أظافرها في الفريسة وهي تلهو بها قبل أن تفترسها، رنم داود بلسان يسوع " أحاطت بي ثيران كثيرة أقوياء باشان اكتنفتني. فغروا عليَّ أفواههم كأسدٍ مفترس مزمجر" (مز 22: 12، 13).
وتنهد أشعياء ناطقًا بلسان يسوع " بذلت ظهري للضاربين وخدَّيَّ للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق" (أش 50: 6).
ووقف أيوب يصف وضع العبد المتألم " أما الآن فصرت أغنيتهم وأصبحت لهم مثلًا. يكرهونني. يبتعدون عني وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق" (أي 30: 9، 10).
حقًا لقد نجح الشيطان في تمزيق جسد يسوع، ولكنه لم يفلح قط في تمزيق حبه الخالد..
نجح في كسر القارورة، ولكنه فشل في منع أريج الحب من الانتشار..
نجح في تحطيم القشرة الخارجية، فترأى للجميع بريق وروعة الحب الإلهي..
وهمس يسوع: الكأس التي أعطاني الآب ألاَّ أشربها..
عجيب أنت أيها الابن في طاعتك لأبيك..
ووقفت الملائكة في ذهول مما يجري لسيدها منذ دخوله للبستان وحتى هذه اللحظات الرهيبة، التي سيقف التاريخ أمامها طويلًا طويلًا، ولن يسبر أغوارها ولن يصل إلى أعماقها قط..
كم كانت الملائكة تلتمس إشارة من سيدها لتدمر الأرض وكل ما عليها، ولكن الله المتألم يضبطها بكلمته، فالملاك خاضع ملتزم وليس كبطرس الذي لم يقدر أن يضبط نفسه، فبمجرد أن رأى ملخس يقبض بقسوة على سيده قبض على سيفه وحدث ما حدث.. من لي ببطرس الآن..!! ليأتِ وينظر وينفطر قلبه وليس له إلاَّ أن يقول: لتكن مشيئتك يا رب لا مشيئتي.. لك القوة والمجد والبركة والعزة يا عمانوئيل إلهنا وملكنا..
آه.. لقد قاسيتَ يا يسوع كل هذه الآلام القاسية والعذابات الوحشية التي تفوق الوصف والخيال.. إنها تساوي كل الآلام والعذابات التي يستحقها الخطاة.. كل الخطاة.
حدثت هذه المهزلة في دار الولاية التي هي ملجأ لكل إنسان مظلوم، وكم قاسيت يا يسوع سواء من الجهات الدينية في بيت رئيس الكهنة، أو من الجهات الدنيوية في دار الولاية..؟! ورأيتُ الجور في مكان العدل، والظلم في مكان الحق، والعذابات الوحشية في مكان القضاء، وتحوَّل مسرح العدالة إلى مسرح للشياطين.. ولا أدري كيف صمتَّ أيها الوالي على هذه الممارسات غير الآدمية..؟!
وبعدما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه.. لقد لصق الرداء بالجسد الذي تلطخ بالدماء، فلم يخلعوا عنه الرداء بهدوء، إنما نزعوه نزعًا فعادت الجروح تنزف من جديد، وكأنها هي المراحم الإلهية، فهي جديدة كل صباح..
وأخيرًا أبلغ قائد المئة بيلاطس بانتهاء المهمة، فخرج إلى "جبَّاثا" وجلس على كرسي القضاء و" جبَّاثا " عبارة عن منصة مستديرة مرتفعة يصعد إليها القاضي بواسطة درجات رخامية تُدعى البلاط، وتسمح للشعب أن يرى القاضي ويتابع الحوار. وعندما رأى المتظاهرون بيلاطس ازدادوا صياحًا وصراخًا.. لقد نجح رؤساء الكهنة ومشايعيهم في تضليل هذا الشعب الغفير، وأصبح القلق والتوتر سيدا الموقف.. الشمس تسرع في طريقها، والعيد يدق الأبواب، ولو ظلت الأمور مُعلَّقة حتى مغيب الشمس فيسوع لن يُصلب إلاَّ بعد انتهاء فترة الأعياد، ومن يدري ما يمكن أن يحدث خلال هذه الفترة (وكأنك يابو زيد ماغزيت).
وأشار بيلاطس بيده فصمت الجميع وقال: ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا إني لست أجد فيه علة واحدة.
وأشار بيلاطس البنطي إلى أحد ضباطه، فأحضر يسوع أمام الشعب، وأقبل يسوع.. مُكلَّلًا بالأشواك، وقد تسخَّن ظهره بالجراحات العديدة، وتورم جلده المتهرئ، وأثر الكدمات واللطمات على وجهه، وقد نسجت الدماء حول جسده الممزق ثوبًا قرمزيًا، ووقف يسوع تجتاحه آلام مرعبة بلا توقف، فأخذ يترنح ويهتز اهتزازات خفيفة، وهو يبذل قصارى جهده لكيما يحفظ توازنه بعد أن تهلهل جسده وجاز في عقوبة " نصف الموت " ومن جاز في هذه العقوبة كان ينبغي أن لا توقع عليه عقوبة أخرى.. أنه منظر يفتت القلب ويذيب الفؤاد، حتى لو كان هذا القلب قد كدَّ من صوان. أما قلب هذا الشعب فكان أقسى كثيرًا من حجر الصوان.
وأشار بيلاطس بيده فصار هدوء وكف الصياح، وقال لهم بصوت جهوري:
هوذا الإنسان.. إني لا أجد فيه علَّة..
فصرخوا بصوت ارتجت له أورشليم: خذه.. خذه اصلبه.. وكأنهم يتبرأون منه إذ صار عار عليهم.. الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلي.
ولو كان لدى بيلاطس دليلًا واحدًا يدين يسوع لحكم عليه على الفور، ولكن ما العمل وجميع الأدلة الدامغة تصرخ وتصيح وتُصرّح ببراءته؟!!

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:32 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
من العدالة إلى السياسة

الآن وقد تخطت عقارب الساعة العاشرة بعدة دقائق، وإذ لم تنجح خطة بيلاطس لإنقاذ يسوع، لأن الجلدات القاتلة لم تُحنّن قلب الشعب القاسي، لذلك فكر بيلاطس في وسيلة أخرى يُنقذ بها الفريسة من بين أنياب الضباع، وإذ وصل مع رؤساء الكهنة إلى طريق مسدود أراد أن يدفع بطرف ثالث إلى حلبة الصراع، فاتجه إلى الشعب اليهودي، يستفتيه في الحكم على يسوع.. انظروا إلى والي روماني وصل به الضعف إلى استجداء الشعب ليعينه على إجراء القضاء الحق، معتمدًا على مدى تعلُّق الشعب به، فكم هتفوا له منذ أيام قليلة حتى ارتجت المدينة، وكان معتاد أن يُطلق لهم كل عيد أسيرًا محكومًا عليه بالموت، وهذه العادة تسلمها الحكام الرومان من الحكام اليهود السابقين لهم تكريمًا لاحتفالات عيد الفصح، كذكرى للتحرر من عبودية فرعون، فقال لهم: هل أطلق لكم يسوع المدعو المسيح؟
وإذ لم يكن الشعب قد وصل بعد إلى مرحلة النضج التي يستطيع أن يتخذ قراره، ولم يكن سيد قراره، فهم كأوراق ميتة تجرفها الرياح، وكأسماك ميتة يحملها التيار، صمتوا برهة، وما أن سمعوا رؤساء الكهنة يقولون: لا.. بل بارباس، أخذوا يصرخون: بارباس. بارباس. أطلق لنا بارباس..
وكان بارباس هذا قاتلًا وسارقًا ومثير للفتنة، إنه ارتكب ثلاثة جرائم تستحق أشد القصاص، يداه ملوثتان بالدماء، صاحب قلب قاس ومشاعر متبلدة، مثال للفظاظة والفظاعة، يبدو أنه كان سجينًا سياسيًا، ويُعتَبر من أشد المبغضين لروما..
فمادام يسوع امتنع عن الثورة ضد روما فربما بارباس يفعل..
ومادام يسوع راح يُطهّر الهيكل من الأغنام وباعة الحمام، ولم يطهرها من الرومان الأنجاس فربما بارباس يفعل..
هذا هو الرجل الذي اختاروه بحسبما أملاه عليهم أبوهم إبليس، وهذا هو يسوع الرقيق العطوف الحنون القدوس الطاهر البار الذي رفضوه..
أيدان البار ويُطلق الأثيم؟!
أتموت الحياة ويحيا الموت؟!
وأعاد بيلاطس القول على الشعب: مَن من الاثنين تريدون أن أُطلق لكم يسوع المدعو المسيح أم بارباس؟.. أتريدون أن أُطلق لكم ملك اليهود؟!
لقد أراد بيلاطس أن يسخر من تهمة اليهود الباطلة، ولذلك دعى يسوع ملك اليهود، وفات على بيلاطس أن مثل هذا السؤال يدينه كوالٍ وكقاضٍ، لأنه ترك منصة الحكم للخصم، وتنازل عن إجراء الحق، ووضع البار والأثيم في كفتين متساويتين، وللأسف فإن الشعب الأعمى هتف مرجحًا كفة بارباس، وكأنه هو القديس البار، ورفضوا يسوع، وكأنه هو الخاطئ الأثيم الذي لا يستحق أن يعيش..
الأمر العجيب أن معنى اسم بارباس "ابن الآب" فاليهود يرفضون ابن الآب الحقيقي ويطالبون ببارباس الذي له الاسم فقط وهو محترف اللصوصية.


https://st-takla.org/Gallery/var/resi...s-barabbas.jpg
St-Takla.org Image: Give us Barabbas. Charles Louis Muller. John 18:40 - from the Bible and Its Story book
صورة في موقع الأنبا تكلا: أطلق لنا باراباس (بارباس)، رسم الفنان تشارلز لويس مولر - إنجيل يوحنا 18: 40 - من كتاب الكتاب المقدس وقصته
وعاد بيلاطس يسأل الجمهور الثائر: وماذا أفعل بيسوع؟
وكان يتوقع أن يتركوا له حرية التصرف مادام سيطلق لهم بارباس، وكان بيلاطس على استعداد تام لإطلاق الاثنين، بارباس من أجل عيد الفصح، ويسوع من أجل براءته.
ولكن الشعب العنيد ظل يصرخ: اصلبه.. اصلبه..
أخذ بيلاطس يتماحك للشعب لعله يعود إلى عقله، فعاد يسألهم: وأي شر عمل؟
وإذ لم يجدوا جوابًا ازدادوا صراخًا: اصلبه.. اصلبه..
وعوضًا عن تقديم الأدلة والبراهين التي تثبت شر يسوع، قدموا صراخًا وصخبًا وضجيجًا.. أليست هذه هي الهمجية في أقوى صورها؟! ووقف داود النبي يعزف على الناي الحزين " أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب.. صرت أجنبيًا عند إخوتي وغريبًا عند بنو أمي" (مز 69: 4، 8).. ويخيَّل لمن سمعهم يهتفون له يوم الأحد الماضي إن العالم كله ذهب وراءه، ويُخيَّل لمن يسمعهم يهتفون ضده الآن إن العالم كله يقف ضده، وهكذا حال العالم كما قال سينيكا فيلسوف روما " إذا رأيت الذين يمدحونك فأعرف أنهم إما أن يكونوا كلهم أعداءك، أو أنهم سوف يكونون أعداءك" (18).
وتعجب بيلاطس من هذا الشعب الأحمق الذي يطيع رؤساء الكهنة طاعة عمياء، حتى لو زجوا به إلى الجحيم.. لو فكروا وتريثوا قليلًا لعلموا أنه من الأفضل لهم أن يعيش يسوع بعد تلك الجلدات، لأنه سيتخلى عن رسالته، ويتوارى عن الأنظار، ولاسيما لو كانت رسالته من ذاته، بدلًا من قتله الذي سيكون شهادة عليهم.
وإذ ضجر بيلاطس منهم قال لهم: خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علَّة للموت.
صرخوا: لنا ناموس وبحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله.
واقترب أحد أفراد الحرس إلى الوالي يسلمه وريقة صغيرة ملفوفة، وإذ هي رسالة (تلغرافية) من زوجته العزيزة كلوديا تحمل تحذيرًا قويًا لبيلاطس من إيذاء يسوع " إياك وذاك البار لأنني تألمت اليوم كثيرًا في حلم من أجله "..
تُرى ماذا رأيتِ يا كلوديا في حلمك، وماذا أبصرتِ؟!
أرأيتيه معذبًا مهانًا محتقرًا ومخذولًا؟!
هل عاينتِ جروحه وجلداته يا كلوديا؟!
أم إنك رأيتيه ملكًا متوجًّا للسماء والنجوم والأفلاك تسجد له؟!
أرأيتِ الأبرع جمالًا من بني البشر مكلَّلًا بالأشواك؟!
ماذا رأيتِ وماذا أبصرتِ يا كلوديا..؟! لا أحد يعلم..
وإذ كانت للأحلام معناها ومغزاها لدى الرومان، ارتجف قلب بيلاطس فيه، وشُلَّ عقله عن التفكير، ولاسيما أن رؤساء الكهنة قالوا حالًا "لأنه جعل نفسه ابن الله" فازداد خوفًا، فالفكر الأممي يقبل تجسد الآلهة وتناسلهم وصراعاتهم، وخشى بيلاطس أن ينجح الشعب اليهودي في خلق صراع رهيب بينه وبين الآلهة، فازدادوا خوفًا وشؤمًا من هذه القضية.
ودخل بيلاطس إلى دار الولاية واختلى بيسوع قائلًا له: من أين أنت؟.. أما تكلمني؟!
أمن هذا العالم أنت أم من عالم الآلهة؟!
من هو أبيك؟.. هل هو إله اليهود فقط أم إله العالم كله..؟! أم أنه ذاك الذين يقولون عنه إنه خالق الكل ومدبر الكل وضابط الكل؟!
أنت ترفض أن تتحدث عن نفسك.. أفلا تحدثني عن أبيك الإله العظيم؟!
وحاول بيلاطس أن يغوص في عيني يسوع المتورمتين لاكتشاف الأسرار الدفينة، ولكن يسوع لم يسمح له بهذا.. حفظ يسوع صمته، الصمت الذي يدين بيلاطس ويؤرقه ويقض مضجعه ويفضحه أمام نفسه.. كيف تحكم يا بيلاطس ببراءته وبجلده في آن واحد؟!
وبعد أن جلدته -ومن المفروض أن الجلد عقوبة كاملة- لماذا تُعرّضه لعقوبة أخرى؟!
وكأن يسوع يسأله: أين الحق الإلهي وأين العدل الروماني الذي تتشدق به يا بيلاطس؟!
أعلمت لماذا لم أخبرك عن الحق عندما سألتني..؟! لأنك تفضل مصلحتك فوق الحق، وتهادن اليهود العنفاء على حساب العدل.
وتضايق بيلاطس جدًا لأنه شعر في نفسه أنه يبذل كل وسيلة لإطلاق سراحه، ويسوع لا يهتم بتبرئة نفسه، فقال له: ألاَّ تدافع عن نفسك..؟! وهوذا رفض يسوع للإدلاء بأقواله شهادة على ظلم بيلاطس البيّن..
ووقف إشعياء النبي يشرح الموقف " ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (أش 53: 7) ونطق داود بلسان يسوع "وأما أنا فكأصم. لا أسمع. وكأبكم لا يفتح فاه. وأكون مثل إنسان لا يسمع وليس في فمه حجة" (مز 38: 13، 14) وقال إشعياء " من الضغطة ومن الدينونة أُخذ" (أش 53: 8) والضغطة هي ضغطة اليهود، والدينونة هي دينونة بيلاطس، ومازال يسوع صامتًا رغم ارتفاع لجج بحر البشر الهائج وصراخهم " اصلبه.. اصلبه " بل أن لسان حال يسوع يقول "خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم" (يو 1: 12).
وأراد بيلاطس أن يحفز الأسير، ويحمله على الكلام فقال له: ألستَ تعلم إن لي سلطانًا أن أطلقك وسلطانًا أن أقتلك؟.. ورغم إن يسوع وصل به الإنهاك إلى درجة قصوى، لكنه أجاب على سؤال بيلاطس، وبطريقة مهذبة لا تجرح المشاعر: لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق. لذلك الذي أرسلني إليك له خطية أعظم..
ورغم إن بيلاطس لم يستوعب عمق هذا القول الذي يلفت فيه المُعلّم نظر بيلاطس لله الآب ضابط الكل ومانح السلطان، وأيضًا يلصق المسئولية برؤساء الكهنة الذين أسلموا دمًا بريئًا، ولكن رغبته في إطلاق ذاك الأسير ازدادت جدًا، فخرج للمرة الأخيرة يعلن براءة يسوع للجموع الهادرة، وحاول بيلاطس أن يداعب خيالهم بما يحلمون به، فرد على صراخ الجمهور: اصلبه.. اصلبه، قائلًا: أأصلب ملككم؟!
فتعالت الهتافات أكثر فأكثر واضعين إياه في مواجهة مع القيصر نفسه، إذ صرخوا قائلين: ليس لنا ملك إلاَّ قيصر.. إن أطلقت هذا فلستَ محبًا لقيصر.. كل من يجعل نفسه ملكًا يقاوم قيصر..
ولعب قيافا رئيس الكهنة بالورقة الأخيرة إذ التجأ إلى السياسة متخليًا عن الناموس، محتقرًا يهوديته، ملقيًا بنفسه وشعبه تحت أقدام قيصر وصرخ وصرخ معه الشعب الجاهل " ليس لنا ملك إلاَّ قيصر " وهم يدرون أو لا يدرون أنهم بهذا يفصلون أنفسهم بأنفسهم عن ملكوت الله، ويزجون بأنفسهم في ملكوت قيصر، وبهذه الصرخة ركضوا في طريق أبائهم " فقال الرب لصموئيل اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك. لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم" (1صم 8: 7).
"ولكيما تصل المأساة إلى ذروتها قال لهم بيلاطس في سخرية وخبث أأصلب ملككم؟ أجاب رؤساء الكهنة: ليس لنا ملك إلاَّ قيصر!..!! هنا تمزق رداء الكهنة عن آخره ليظهر معدنهم الأثيم. لقد تنكر الكهنة لوطنهم وأمتهم ومسيحهم وباعوا نفوسهم رخيصة للأعداء. كانوا مستعدين أن يضحوا بكل شيء في سبيل التخلص من يسوع..!! كانت المبارزة عنيفة والمعركة صاخبة، استطاع فيها بيلاطس أن يذل الكهنة ويطعن كبرياءهم ويمرغ رؤوسهم في الوحل. لكن في وسط هذه المعركة وجد بيلاطس نفسه فجأة محاصرًا بين يسوع والكهنة" (19).
وتعبير "محبًا لقيصر" ليس نعتًا، إنما هو لقب لعظماء الضباط الذين يؤدون خدمات جليلة للإمبراطورية الرومانية، و"لست محبًا لقيصر" تعني أنك يا بيلاطس لو برأت يسوع فإنك بهذا تفصل نفسك عن هؤلاء الضباط العظماء. ثم نقل اليهود الاتهام إلى مرحلة سوداء، إذ اتهموه بأنه يقاوم قيصر، وهذا اتهام واضح وصريح لبيلاطس بالخيانة لو أطلق يسوع هذا..
حقًا إن اليهود الخبثاء عرفوا نقطة الضعف لدى بيلاطس فشدَّدوا العزف على ذات الوتر: إنك يا بيلاطس تمالئ هذا الشخص الذي يدعو نفسه ملكًا على حساب سلطان قيصر روما، فأنت إذًا لست أمينًا لواجبك.. وهذا ما يفعله اليهود من جيل إلى جيل، فيتحكمون في أقدار الملوك والرؤساء، ويرفعون من يشاؤون ويخفضون من يشاؤون {كما قتلوا فيما بعد جون كنيدي وقتلوا قاتله فتاهت القضية وضاعت}.
ونجحت الصرخات المدوية للشعب القاتل في أن تهز كرسي الوالي الذي يعلوه النسر الروماني هزات قوية كادت تطلق هذا النسر، فيصبح هذا الكرسي بلا سلطة مثله مثل أي كرسي آخر، وشعر بيلاطس أنهم نجحوا في إخراج القضية عن مسارها الرئيسي، فلم تعد قضية إنسان برئ يُحاكم، إنما صارت قضية تمس أمانة بيلاطس تجاه القيصر، وهو يعلم تمامًا أن اليهود باتوا على استعداد لبيع أنفسهم لقيصر مقابل خلاصهم من يسوع، ولذلك فإنهم لن يتورعوا أبدًا في إرسال وفودهم وشكواهم إلى طيباريوس قيصر الذي أدمن سماع الوشايات، وإذ رأى بيلاطس أنه قد بات من المستحيل إسكات هذه الأصوات المزعجة، وبات من المستحيل إقناع رؤسائهم ببراءة المتهم ولم يعد أمامه غير طريقين، أولهما إحقاق الحق وإعلاء القانون وتبرئة يسوع، وهذا ينطوي على مجازفة حيث يخاطر بيلاطس ليس بكرسيه فقط، بل وبحياته أيضًا. أما الطريق الثاني فينطوي على خضوع بيلاطس وإحناء هامته الرومانية أمام العاصفة اليهودية الهوجاء، وتسليم البريء للموت..
وإذ عجزت العدالة الرومانية تمامًا عن حماية يسوع البريء، وإذ تصرَّف بيلاطس كحاكم وليس كقاض، وتحوَّل من العدالة إلى السياسة، وفضل الاستقرار عن العدل، ورفض دفع ثمن الحق من حسابه الخاص.. إذًا فليمت يسوع وأعيش أنا..
وإذ أراد بيلاطس أيضًا أن يُسكت ضميره الثائر، ويحفظ ماء وجهه، أشار إلى أحد جنوده يطلب ماء لغسل يديه، وتقدم جنديان أحدهما بمغسل والآخر بالإبريقلا، فغسل يديه قدام الجموع قائلًا: إني برئ من دم هذا البار. أبصروا أنتم.
فالكهنة الذين سبقوا وقالوا ليهوذا " أنت أبصر " قال لهم بيلاطس الآن " أبصروا أنتم " لأنه " بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم ويزاد" (مت 7: 2) والحقيقة أنه لا يهوذا، ولا الكهنة ورؤساءهم، ولا بيلاطس يقدرون أن يتبرأوا من دم البار، ولكن قول بيلاطس هنا " إني برئ من دم هذا البار " لهي شهادة صارخة على براءة المصلوب.. إذًا يسوع لم يُصلَب لأجل علَّة تخصه لكن لأجل علَّة تخصنا نحن.. هو ليس بخاطئ ولكنه حامل خطايا البشرية جمعاء، ومن جانب آخر مهما غسل بيلاطس يديه بالماء فلن يقدر أن يزيل منهما دم المصلوب البريء، وكلما نظر بيلاطس إلى يديه يجدها حمراويتين بحمرة الدم دم الحمل.. فالماء لا يغسل الخطية أبدًا..
ومازالت أيدي بيلاطس مع أيدي اليهود تقطر بدم الحمل، فبيلاطس لم يحكم بالحقكما أعلن اليهود تحملهم مسئولية سفك دم يسوع البار.. اسمعي أيتها الأرض وأصغي أيتها السموات.. ليكن هذا الشعب اليهودي شعبًا ملعونًا هو وبنيه من جيل إلى جيل لأنهم لبسوا اللعنة كثوب فغطتهم، ولن ينجوا منهم أحدًا إلاَّ من يعترف أن آباؤه صلبوا يسوع البار، ويؤمن بهذا البار، وهذا ما أكده الآباء الرسل فيما بعد،.. لقد واجههم بطرس الرسول " وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه" (أع 2: 23) " رئيس الحياة قتلتموه" (أع 3: 15).. " يسوع الذي أنتم قتلتموه معلقين إياه على خشبة" (أع 5: 3) وواجههم إسطفانوس " البار الذي أنتم الآن صرتم مسلّميه وقاتليه "(أع 7: 50) وقال عنهم بولس الرسول " اليهود الذين قتلوا الرب يسوع" (1تس 2: 14، 15).. لقد أسلموا البار إلى أيدي الرومان، فأسلمهم الله أيضًا إلى أيدي الرومان، فهجم عليهم تيطس القائد الروماني سنة 70م وأذاقهم العذابات وجرَّعهم الآلام التي لم ترها ولن تراها أمة أخرى وتحقق فيهم قول المعلم " لأنه يكون في تلك الأيام ضيق لم يكن مثله منذ أيام الخليقة التي خلقها الله إلى الآن ولن يكون" (مر 13: 19) وكم أخطأ المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965م) عندما أصدر وثيقة تبرئة اليهود من دم يسوع البار، وبالتالي حكم بخلاصهم، بل بخلاص الهندوسيين والبوذيين، وعبَّاد الأصنام جميعًا مادامت نيتهم حسنة وأعمالهم صالحة.. يا خسارة عذاباتك ودمك المسفوك يا يسوع!!!
وهكذا يا صديقي جاءت محاكمة يسوع البار أغرب وأعجب محاكمة في التاريخ البشري، ولك أن تتصوَّر صيغة النطق بالحكم "حكم بيلاطس البنطي والي اليهودية على يسوع بالبراءة ثلاث مرات، وينفذ فيه حكم الإعدام صلبًا".. وأسلم يسوع لمشيئتهم.. أما يسوع فلم يكن الحكم بموته صلبًا مفاجأة له. إنما هو في علمه منذ الأزل، وقد أباح بها عبر مئات السنين من خلال النبوات، وصرح بهذا لتلاميذه مرارًا وتكرارًا، ولذلك عندما سمع النطق بالحكم لم يخور ولم يمتقع وجهه ولم يرتعب ولم ترتعش ركبتاه. إنما تحمل الخبر كقائد مغوار في حومة الوعي متحفزًا لدفع حياته ثمنًا لرسالته التي آمن بها..
ورغم إن مجلس الشيوخ الروماني كان قد أصدر أمرًا بأن لا ينفذ حكم الإعدام في المتهم إلاَّ بعد النطق بالحكم بعشرة أيام لئلا يكون هناك اندفاع أو طياشة في صدور الحكم، ورغم إن قضية يسوع هذه لم تخلُ من الاندفاع والطياشة، فإن الوالي أمر بتنفيذ الحكم على الفور، فأمر قائد المئة بمباشرة مهمة الصلب، مع صلب ديماس وأماخوس اللصان اللذان ينتظران تنفيذ العقوبة، قائلًا في نفسه عندما يُصلب ثلاثة أشخاص بينهما واحد برئ، فإن العدالة تكون قد تحقَّقت بنسبة 67 % أما لو صُلب يسوع بمفرده فإن الظلم سيتحقق بنسبة 100 %..
واحسرتاه على العدالة المذبوحة.. هوذا دم الحمل شاهد.. لقد ذَبح بيلاطس ضميره أولًا، وبضميره المذبوح حكم بذبح يسوع البار، ووقف النبي الباكي يعزف على الناي الحزين " وأنا كخروف داجن يُساق إلى الذبح ولم أعلم أنهم فكروا عليَّ أفكار قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلا يُذكر بعد اسمه" (أر 11: 19).
وبمجرد أن أصدر بيلاطس حكمه الجائر انطفأت ثورة الجماهير، فقد انتصروا ونالوا مبتغاهم، وفي الوقت الذي أُقتيد فيه يسوع إلى الصلب أُطلق سراح بارباس، فصار حرًا طليقًا ينعم بالحرية والحياة بفضل الذبيح الأعظم الذي صُلب نيابة عنه وعن كل خاطئ أثيم، فقد انفتحت أبواب السجن، وخلع الحراس عن يدي بارباس الأكبال الحديدية، فخرج حرًّا طليقًا لا يصدق ما يجري.. منذ لحظات تناهى إلى مسامعه صوت الجماهير تهتف باسمه "بارباس.. بارباس" والآن ينطلق من سجن الموت، وقد أخبره أحدهم أن ثمن حياته هو موت يسوع، فقصد أن يرى يسوع فرآه هادئًا رقيقًا يشع من عينيه الطهر والنقاء والصفاء تعلوه سمات الوقار والاتزان بعيد تمامًا عن الخشونة والغضب والهياج والعصبية، وتلاقت عينا يسوع مع عيني بارباس، وشعر بارباس كأن يسوع يبتسم له من عمق عذاباته مهنئًا إياه بالحياة الجديدة والحرية السعيدة، حتى إن بارباس عندما أسرع إلى كهفه ولصوصه لم يجد راحة في نفسه، فعاد إلى يسوع يتابع الأحداث بدقة ومشاعر فياضة.
وبعد إصدار الحكم جلس بيلاطس يكتب رسالة مطولة إلى معلمه سينيكا جاء فيها "في الليلة الفائتة تم القبض على يسوع بمعرفة مندوبين عن السنهدريم تُعزّزهم فرقة من جنودنا، واليوم انتشرت الأخبار بأنه قد تم الاتفاق بين الحاكم وبين مجلس السنهدريم -على حد قولهم- على أنه من الأفضل التخلص من يسوع.. ومرت حادثة القبض عليه بغير مضايقات، ويسوع نفسه لم يبد أقل مقاومة، أما أتباعه فقد هربوا، وأعتقد أن معظمهم قد فروا عائدين إلى منازلهم.
بعد هذا مضوا بالسجين إلى بيت رئيس الكهنة حيث قام قيافا مع بعض كبار الكهنة بفحصه حتى الصباح.. تجدهم (رؤساء الكهنة) يمضون في إتهامه بالعمل ضد الناموس بقصد ضمان تأييد الجماهير لهم..أمرتُ بإرساله إلى أنتيباس باعتباره واحدًا من رعايا الجليل ليتصرف معه كمخلٍ بالأمن بدأ نشاطه في ولايته، لكنه أعاده إليَّ برد مهذَّب يطلب مني أن أتصرف في الأمر بمعرفتي لأن الرجل قد قُبض عليه في أورشليم..
لم تستغرق المحاكمة وقتًا يُذكَر، وكان الاتهام الموجه إلى يسوع هو إخلاله بالأمن وإعلانه نفسه ملكًا لليهود، وكان هناك شهود ضده بعضهم من رجالنا وآخرون من اليهود من كل من الجليل وأورشليم، كما شهد ضده كل من حنان وقيافا وقادة الصدوقيين وقلة من الفريسيين، لأن معظم هؤلاء لا تهمهم في شيء مقاومة القيصر مع أنهم يشاطرون الآخرين رغبتهم في موت يسوع.
وعندما قال أحد الكهنة أنه يتهجم على ديانتهم بادرت بإسكاته لأنه، كما أنهم لا يسمحون لنا بالتدخل في أمور ديانتهم، هكذا يجب ألا نسمح لهم بإقحام ديانتهم في إجراءات اتخذتها الدولة، فيسوع متهم سياسي لأنه يُعلن نفسه ملكًا وهو بهذا يقاوم قيصر، ويستوي إن كانت هذه المقاومة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا أمر يخصنا نحن ولا شأن لهم به. فليتخاصموا معًا على يهوه كما يشاؤون، وليفعلوا في هيكلهم ما يفعله المصريون في معبد إيزيس، فكل هذا لا شأن لنا به، ولكن إن حدث في الهيكل أي شغب فعندئذ يصبح الأمر من اختصاصنا وعلينا أن نتحرك..
وعندما سألته عما إذا كان يعتبر نفسه ملك اليهود قال لي " أنت تقول " وهذه اتهامات خطيرة وأخطر من الاتهام الذي اتخذه أنتيباس ذريعة لإعدام يوحنا المعمدان، لأن كونه المسيا يعني زوال سلطاننا - نحن الرومان - وزوال سلطان الكهنة أيضًا..
وكانت إجابات يسوع المقتضبة تفيد أنه يعلم أننا راغبون في إلصاق التهمة به، وكان يتكلم في جرأة بالغة ودون أدنى خوف أو اضطراب.. ورغم أنه كان يرى نفسه مُحاطًا بأعداء قد أعدوا العدة لقتله، رغم هذا كان يقف صامدًا جامدًا كالصخر لا يلين..
في النهاية حكمت عليه بالموت، ولم يكن في استطاعتي أن أفعل غير هذا، فكل الطرق التي كانت أمامي كانت تؤدي إلى هذه النهاية. برغم إن ألكساندر كان قد أخبرني أن يسوع منع الشعب من تنصيبه ملكًا عليهم مُستخدمًا في هذا كل قوته، كما أخبرني بأنهم اتهموه كذبًا لأنه لم ينادي بأنه هو المسيا أو المخلص الذي ينتظرونه"

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:35 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
دماء على الطريق

الساعة الآن قاربت الحادية عشر صباحًا، وقد أمر قائد المئة بعض الجنود بإحضار ثلاث عارضات أفقية من المخازن العمومية، لأن العارضات الرأسية كانت تترك في مكان الإعدام، وأمر بإخراج ديماس وأماخوس اللصان من السجن، وأي قائد مئة روماني يعد هذه المهمة مهمة وضيعة، إذ يقود بعض الأشقياء للموت صلبًا، فأين هذا من قتال الميدان وصياح الفرسان وصراع الجبابرة؟!
وحمل يسوع وكذلك اللصان كل واحد عارضة صليبه على كتفيه، وربطت يداه إليها، ويبلغ وزن العارضة نحو خمسين كيلو جرام، وسار اللصان في منتهى اللياقة إذ لم يعانيا أي عذابات ولا جلدات قاتلة كما حدث مع يسوع، الذي أحسَّ بثقل هذه العارضة كجبل جاثم على منكبيه اللتان شوهتهما الجلدات وحفرت فيهما أخاديد وجروح وتهتكات، وعندما تلامست مع سطح العارضة الخشن إلتهبت بنار الألم.
وسار موكب الموت من دار الولاية يتقدمه أحد الفرسان ممتطيًا صهوة جواده في كبرياء يُعلن عدالة وقوة وسطوة روما، ولست أدري إن كان هذا الفارس مقتنعًا بما دار وما يدور أم لا..؟!
يا أيها الفارس المغوار أشعرت بالعدالة المذبوحة..؟!
يا أيها المتشدق بالحق لماذا تسير بافتخار وعنجهية في موكب الظلم والافتراء؟!
وتقدم كل متهم جندي يحمل لافتة مدون عليها باختصار تهمته، وإذ لم يجدوا تهمة واحدة ليسوع البار كتبوا على لافتته " يسوع الناصري ملك اليهود " بثلاث لغات عبرية ويونانية ولاتينية، وبثلات عبارات "ملك اليهود"، "هذا هو ملك اليهود"، و"يسوع الناصري ملك اليهود" كل عبارة بلغة، والمعنى واحد، وكان هذا تهكمًا وسخرية باليهود الذين رفضوا الصفح عن يسوع البار، وهذا ما قصده بيلاطس من جانب، ومن الجانب الآخر حرم بيلاطس اليهود من فرصة الاحتجاج عليه لدى القيصر بأنه يوالي ملكًا آخر، فهوذا ملككم قد صُلِب، وشكايتكم ضدي قد ماتت، ولذلك عندما طالبه رؤساء الكهنة والفريسيون بتغيرّها قائلين له: لا تكتب ملك اليهود. بل إن ذاك قال أنا ملك اليهود.. ظهرت عليه إمارات الوالي الروماني العنيد وانتهرهم قائلًا: ما كُتِب فقد كُتِب، فقد تحمل بيلاطس ضغوطًا كثيرة من هؤلاء الجحود، ولم يعد بمقدرته أن يحتمل ضغطًا آخر، وقد أشار بيلاطس إلى هذه الحادثة عندما كتب لمعلمه سينيكا يقول "ثم هناك شيء آخر فاتني أن أذكره لك عن موضوع صلب يسوع، لقد علَّقت على صليبه لافتة تحمل لقب {ملك اليهود} وقد أثار هذا مشاعر الفريسيين الذي تمتلئ صدورهم رغبة جياشة في أن يوجد فعلًا ملك لليهود. أنه لمن دواعي سرورهم أن يروا حكم الرومان وقد انزاح عن كواهلهم ليحل محله ملك اليهود، ملك من طراز آخر غير طراز هيرودس نصف اليهودي، ملك من دم يهودي خالص يحكم الولاية عن طريقهم ويسحق الصدوقيين.
لقد قابل هؤلاء الفريسيون اللافتة التي وضعتها على الصليب بغضب بالغ واستياء شديد، لأنها كانت تتضمن الإعلان بأننا أصحاب السلطان عليهم، كما أنهم اعتبروه تحقيرًا لهم وتصغيرًا من شأنهم أن يحمل مثل هذا المجرم لقب {ملك اليهود} وعندما أعربوا عن اعتراضهم قابلت اعتراضهم بحزم وقلت لهم إن ما كتبتُ قد كتبتُ وأمرتهم بالانصراف" (21).
وسار خلف كل متهم عدد من الجنود يحرسونه، وإذ كانت قضية يسوع مثارًا للرأي العام لذلك كُثفت الحراسة في ذاك الموكب، فأحاط بهم عدد ليس بقليل من الجنود الأقوياء المسلحين تحسبًا لوقوع أي أعمال شغب من قِبل مشايعي نبي الناصرة، ومن شدة زحام الأعياد، أخذ الجنود يدفعون الناس المتطفلين دفعًا، وكل إنسان يحاول أن يختلس نظرة لأولئك الذين بعد ساعات سيذهبون إلى مدينة الأموات، ولاسيما معلم الجليل الذي طالما أشبع الآلاف، وعلَّمهم، وشفى مرضاهم، وأقام موتاهم، وبسبب كثرة الضجيج لم يلتفت أحد إلى يسوع الذي يناديهم في صمته: تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم..
وأسرعت الأم العذراء الخطى نحو الموكب يصحبها يوحنا الحبيب، ولكن الجموع الهائجة الهادرة كانت تحول دون أن تدرك ابنها، وحانت التفاتة من يسوع إلى أمه الحنون التي يجوز السيف في نفسها.. التفاتة ملؤها الحب والحنان والشفقة، ففي آلامه يشفق على قلب الأم الذي يتمزق ألمًا، ولكن هذه الالتفاتة حملت في طياتها أيضًا الثقة، فكل الأمور مازالت وستظل داخل دائرة الضبط الإلهي، فلتطمئن الأم الثكلى، فلن تكون هذه المسيرة قط نهاية المشوار، وهمس أشعياء النبي في أذن العذراء " وتكون الرئاسة على كتفه "(أش 9: 6).. إن الملك في طريقه لإعلان ملكه ورئاسته.
وأصرَّ رؤساء الكهنة ومشايعوهم من أعضاء مجلس السنهدريم، والكهنة واللاويين، والكتبة والفريسيين والناموسيين على الانضمام إلى موكب الموت وهم يشعرون بالنصرة والفخار، وتنتشي نفوسهم إذ حصلوا على ما يريدون بالضبط رغمًا عن أنف بيلاطس وهيرودس، ورغم إن جنود الحراسة كانوا يقظين إلاَّ إن بعض الغوغاء كانوا ينجحون في تسديد لكمة أو ركلة لأحد المتهمين، فسار اللصان وهما يلعنان ويسبان كل شيء، حتى يومهما المشئوم هذا.
أما يسوع فسار في صمت منهك القوى.. لقد أمضى الأسبوع الماضي المشحون بالإثارة، وأمضى ليلة الأمس في المحاكمات الجائرة، وتعرَّض لعذابات وضربات ولطمات وجلدات وحشية، مما جعل قدماه الحافيتان تطبعان بصماتهما الدامية على أحجار الطريق، وقد تلطخ رداءه وتشبع بالدماء النازفة من أثر الجلدات والأشواك، فبدأ وكأنه يلبس ثوبًا من برفيل، ومازالت الأشواك مغروسة في رأسه وجبينه، ومع كل حركة تنزف وتنزف وتلتهب ألمًا، وتسيل الدماء على شكل خطوط لأسفل تلطخ وجهه وخصلات شعره، وتتساقط قطرات على الطريق فترسم طريقًا بالدم يمكن تتبعه من دار الولاية وحتى الجلجثة.
وسمعتُ وسط هذا الضجيج صوت المحبة تنتحب.. في موكب نصرته تزاحم رجال أورشليم يهتفون له، أما في موكب صلبه فقد اختفى هؤلاء الرجال المغاوير، وجاءت النسوة اللواتي تدفعهنَّ محبتهنَّ الصافية الطاغية يبكين وينتحبن نبي الناصرة الذي طالما ملأ الدنيا كرازة وأشفية وعجائب، وهو مازال شابًا في عنفوان شبابه، عجزوا عن إدراك قضية الفداء، وإنه سلَّم نفسه لكل هذه الآلام بإرادته، وفي اليوم الثالث سينفض كل هذا ويقوم بعد أن يسحق رأس الحية، ويقهر الموت الذي دوَّخ البشرية، ويقتحم مملكة لوسيفر ويُحرّر من سبق وسباهم.. ويا لفرحة القيامة والنُصرة..!!

توقف يسوع أمامهن، وبكلمات متقطعة وصوت متهدج قال: يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها. طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم تُرضع. حينئذ يبتدئون يقولون للجبال إسقطي علينا وللآكام غطينا لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس..
عجبًا.. كل الآلام التي تنهش في جسدك يا يسوع نهش الأفاعي لم تفلح في منعك من التعليم والتحذير: فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجرًا على حجر لأنك لم تعرفي زمان إفتقادك.. يوم تحاصر أورشليم.. يوم تحل المجاعة القاتلة فتجف الثدي من اللبن قوت الحياة، فيموت الأطفال..
يوم تأكل الأمهات أطفالهن ثمرة بطونهنَّ..
يوم يهدم تيطس الروماني المدينة والهيكل فخر الأمة اليهودية ويدوسه بالنوارج الحديدية فلا يبقى منه حجرًا على حجر لا يُنقَض..
يوم تتشابك الصلبان فوق تلال أورشليم مثل غابة كثيفة، حاملة خيرة شباب ورجال وأراخنة المدينة..
لأنهم إن كانوا فعلوا هذا برب الحياة فكم وكم بالجاحدين الذين قدموا عوض الخير شرًا، وعوض الحياة موتًا..؟!
إن كانوا فعلوا هذا بالبار القدوس فكم وكم بالخطاة؟!
وتابع الموكب المسيرة من دار الولاية إلى تل الجمجمة، نحو ثلاثة آلاف قدم، وهذا هو الطريق الأقصر الذي فضل قائد المئة أن يسلك فيه اختصارًا للوقت، بدلًا من الطريق العمومي الأطول والأشد زحامًا.. سار موكب الموت والحياة في طريق الآلام الضيق.. كثيرون يعتلون سطح المنازل ويطلون من النوافذ ليروا يسوع الناصري مقتادًا للموت، وكان الموكب ملفتًا للأنظار جدًا، فأي موكب إعدام هذا الذي تسير فيه كل هذه القيادات الدينية؟!!
كما تجمع على طريق الدماء بعض من القطيع الصغير من أتباع يسوع المخلصين ومعارفه وأقاربه، وانبرت "فيرونيكا" إحدى الشابات اللاتي جرح المنظر فؤادها وفطر قلبها وكادت الدموع الغزيرة تمنع رؤيتها لمن حولها.. انبرت وتقدمت نحو يسوع بعمل المحبة الشجاع، فشكرها ومرَّ وعبر، وإذ على المنديل طُبع وجه من هو أبرع جمالًا من بني البشر بركة للأجيال..
انظروا هوذا الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته يئن تحت ثقل صليبه..
انظروا إلى ذاك الذي سيق كلص ومجرم خارج على القانون من البستان إلى قصر حنان إلى قلعة أنطونيا إلى قصر هيرودس إلى دار الولاية..
انظروا إلى ذاك الذي جاز في مهانة لا توصف وبهدلة تفوق الأوصاف، وقد جاز صنوف الآلامات والعذابات..
انظروا إلى موجات الألم العاتية، والرعدة العصبية التي تعصف بذاك الجسد الرقيق..
انظروا إلى عرقه يتصبب ممتزجًا بقطرات دمه ليصنع دواء لمن لدغته الحية القديمة..
انظروا إلى رأسه المبارك مكلَّلًا بطاقية الأشواك، وقد ترضض من الضربات، والدوار ألمَّ به " من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحَّة بل جُرْح وإحبْاط وضربة طريَّة لم تُعصر ولم تُعصب ولم تلين بالزيت" (أش 1: 6).
انظروا إلى وجهه البارع الجمال وقد خطت عليه لطمات الجبابرة والدماء قصة الخلاص..
انظروا إلى عينيه المتورمتين اللتين لم تعدا تميزان الطريق..
انظروا إلى منكبيه، وظهره المنحني المسخن بالجراحات..
انظروا إلى نفسه التي أحناها الحزن الرهيب " أما إليكم يا جميع عابري الطريق.. تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني. الذي صنع بي الذي أذلَّني به الرب يوم حمو غضبه. من العلاء أرسل نارًا إلى عظامي فسرت فيها.." (مرا 1: 12، 13).
انظروا إلى ذاك الذي في درب الهوان يسير، مكلَّلًا بالأشواك..
انظروا إلى ذاك الذي في صمت يتجرع كأس الألم، وإن كانت عيناه لا تذرفا دمعًا فإن جسده يذرف دمًا..
هذا هو يسوع النسمة الرقيقة.. الطهارة الكاملة.. المحبة الوديعة.. البسمة المفرحة.. يسير في طريق الآلام، وعلى طول الطريق تفوح رائحة المحبة الخالصة..
وإذ أُنهك يسوع إلى أقصى درجة وهو يحمل صليبًا خشنًا غليظًا، أخذ يترنح في طريق الدماء، واختل توازنه، وسقط على الأرض، وارتطمت رأسه بالأرض الحجريَّة، وارتطمت العارضة التي يحملها بجسده الجريح لتزيده سحقًا وعذابًا وأحدثت السقطات جروحًا في وجهه وركبتيه، ومن دراسة الكفن أصدر د. دافيد ويلز Dr. David Willis تقريره عن مدى الإصابات التي تعرض لها يسوع " انتفاخ في حاجبي العينين - تمزق في جفن العين اليمنى - انتفاخ كبير تحت العين اليمنى - انتفاخ في الأنف - جرح مثلث الشكل على الخد الأيمن متجهًا بقمته نحو الأنف - انتفاخ في الخد الأيسر - انتفاخ في الجانب الأيسر للذقن" (22).
وما كان من الجنود القساة إلاَّ أن ألهبوا ظهره الجريح بالسياط، ويداه المقيدتان إلى العارضة لا تساعدانه على النهوض، فانحنى جنديان يساعدانه في حمل العارضة، وهو يحاول وينجح في النهوض، ويلهث حتى صارت أنفاسه متقطعة، وصدره يعلو ويهبط بسرعة كبيرة، وتوقع البعض له الموت قبل الوصول إلى الجلجثة..
وتكرَّرت السقطات، وبعد عبور بوابة أورشليم سقط سقطته الأخيرة، وعجز عن النهوض ثانية بصليبه، فالروح مازال نشيطًا ولكن الجسد وصل إلى حالة رهيبة من الإعياء..
آه للقوي الجبار الذي سقط تحت ثقل خطايا العالم كله..
آه لو شاء أن يبيد المحيطين به بنفخة منه، بل لو شاء أن يبيد البشرية جمعاء.. لفعل!! ولكنها ربك المحبة..
حقًا لقد وقف جند السماء في دهشة وذهول وقد اقشعرت أبدانها.. حشود الملائكة تريد أن تزود عنه، ولكنها مضبوطة بكلمته.. ليس لها إلاَّ أن تجثوا له في كل خطوة وكل سقطة تقدم له العبادة بكل خشوع وإجلال وتوقير وتعظيم.. حقًا إن سكان الأرض لا يدركون مدى الدهشة التي ألمت بجيوش الملائكة وهي تقف في حيرة لا تقدر أن تدافع عن بارئها، لأن هذه هي إرادته ومشيئته، ولا تقدر أن تغمض عيونها عن أفظع وأبشع منظر في الوجود كله.. لماذا كل هذه العذابات..؟! أهذا كله من أجلي؟!!
وشعر قائد المئة أنه لم يعد لدى يسوع أي جهد لمواصلة المشوار والصعود إلى تل الجمجمة، وإن ضربات الجند لن تفلح هذه المرة في إنهاضه، فنظر حوله وإذ إنسانًا قرويًا مفتول العضلات عائدًا من الحقل، وقد مال لينظر هذا المنظر العجيب، فدعاه وسأله عن اسمه.. سمعان القيرواني.. فسخَّره ليحمل العارضة الخشبية الثقيلة..
وانحنى سمعان عن طيب خاطر وفك يدي يسوع من الرُبط التي تربطه بالعارضة، وحملها عنه، وكأنه لا يحمل شيئًا.. وكم تمنى لو أنه يقدر أن يحمل يسوع أيضًا ويركب أجنحة الريح ويهرب من ساحة الموت..
ولكن الأمر المدهش والذي يثير في النفس مشاعر ما بعدها مشاعر هو تمسك يسوع بصليبه.. إنه التصق والتحم بالصليب.. ربط المحبة طوقته وربطته بإحكام نحو صليبه، فأخذ يجد ويجاهد ويعافر ويحاول أن يشارك سمعان في حمل الصليب.. سار الاثنان جنبًا إلى جنب، ويد يسوع على كتف سمعان وكأنه يقص عليه ما كان، وما هو كائن، وما هو عتيد أن يكون..
صار الاثنان يرفعان الصليب وكأنهما يلوّحان به رآية خفاقة في الطريق إلى الجلجثة، وهكذا ينبغي أن تظل راية الصليب مرفوعة إلى نهاية الدهور، بل وفي الحياة الأبدية أيضًا..
إنها علامة النصرة والقوة..
علامة التمسك بالمبادئ مهما كانت التكلفة..
علامة الإصرار مهما كان الصليب قاسيًا..
علامة الفخار والانتصار..
أما سمعان هذا فقد صار فيما بعد من أتباع يسوع المصلوب هو وزوجته وولديه الكسندروس وروفس، فيقول بولس الرسول لأهل رومية " سلموا على روفس المختار من الرب وعلى أمه أمي" (رو 6: 13).

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:36 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
تل الجمجمة

الساعة الآن الحادية عشر والنصف من صباح يوم الجمعة، وقد وصل موكب الموت والحياة إلى تل الجمجمة خارج أسوار أورشليم، بالقرب من المدينة المقدَّسة.. يبلغ ارتفاع التل نحو خمسة أمتار، ويقع على تقاطع الطريقين الرئيسيين المنحدرين أحدهما إلى يافا والآخر إلى السامرة، ويدعى جلجثة وهي مشتقة من الكلمة الآرامية "جولجالتا" أي جمجمة، وتُدعى باليونانية "الأكرانيون" κρανίο، وقد اتخذ هذا التل شكل جمجمة الإنسان، ويقال إن هذا التل دُعي هكذا لأن جمجمة أبينا آدم دُفنت في هذا المكان، أو لأن جماجم من حُكم عليهم بالصلب قبلًا كانت ملقاة بكثرة في هذا التل، " يقول البعض أن آدم مات ورقد هناك، وأن يسوع قدم النصرة في نفس الموضع الذي ملك فيه الموت، إذ ذهب حاملًا الصليب كغالب على طغيان الموت. كان كتفاه رمزًا للنصرة. ماذا يهم إن كان اليهود قد فعلوا ذلك بنية مغايرة" (23).
وعلى هذا التل الذي دُعي قديمًا "جبل المريا" ربط إبراهيم ابنه إسحق على المذبح الذي أعده وفرشه بالحطب، فكان رمزًا لما يحدث الآن، وعندما مدَّ يده بالسكين ليذبحه منعه ملاك الرب وأرشده إلى كبش موثق بقرنيه في شجرة، فكانت الشجرة رمزًا للصليب والكبش رمزًا ليسوع المصلوب " ما أقسى وأمر ذلك الامتحان الرهيب..؟! لماذا أراد الله أن يكون الامتحان رهيبًا قاسيًا إلى هذا الحد..؟! لماذا هذا التصميم أن يبذل الأب ابنه؟!.. وهل يمكن لذلك الشيخ أن يقدم وحيده..؟! ألم يكن من الأهون أن يضحي ذلك الأب بنفسه عوضًا عن ابنه؟!..
يا للهول.. ألم يكفه أن يضحي الأب بابنه؟.. لماذا الإصرار إذًا أن يطعن الأب بيده ابنه بالسكين؟.. أن يطعن الأب وحيده بيده فهذا قمة المرار والعذاب الذي لا يمكن أن يتخيله عقل.. لكن هذا الامتحان ازداد قسوة أيضًا عندما طلب الله التأني في تأديته..!! لقد كان من الممكن أن ينتهي إبراهيم منه بسرعة وفي غمرة من الانفعال، ولماذا طول الانتظار؟! لكن تلك الذبيحة الفائقة ما كانت لتُقدَم على عجل. لقد اختار الله المكان والزمان اللائقين بها..
وأخيرًا وبعد ثلاثة أيام رأى المكان من بعيد، وهنا تخلى إبراهيم عن كل صحبة بشرية فترك الغلمان وأخذ إسحق ابنه إلى هناك. كان إسحق في ذلك الوقت في ريعان الشباب وقمة الجمال.
ولكيما تصل التجربة إلى ذروتها تساءل إسحق في براءة وثقة البنين قائلًا " يا أبي.. هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة" (تك 22: 7) سؤال برئ جاء في وقت حاسم، كان له وقع القنبلة وكان يمكن أن يدفع ذلك الشيخ للانهيار لكن إبراهيم لم يتزعزع وجاء جوابه واضحًا حاسمًا لكل التساؤلات " الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني" (تك 22: 8) وهنا أخذ بكل ثبات يبني المذبح.. ثم رتب الحطب.. وربط ابنه.. ووضعه على المذبح.. ثم مدَّ ذلك الأب يده وأخذ السكين ليذبح ابنه!!!
هنا القمة.. عندما رفع ذلك الأب السكين ليذبح ابنه كان قد وصل إلى قمة شاهقة من الحب والإيمان لا تدانيها قمة أخرى في الوجود. هنا غاصت السكين في قلب الأب قبل أن يطعن بها ابنه.. من فوق تلك القمة الشاهقة رأى إبراهيم أعظم شاهد للتاريخ كله. هناك رأى الأب السماوي وهو يقدم ابنه وحيده الذي يحبه على مذبح الجلجثة..!! في تلك اللحظة أدرك إبراهيم كل شيء.. لماذا أراد الله له أن يكتوي بكل هذه النيران.. قال يسوع {أبوكم إبراهيم تهلل أن يرى يومي فرأى وفرح}" (24).
وعلى هذا التل أيضًا بني داود مذبحًا وقرب قربانًا للرب، ليوقف الوباء الذي نشب في الشعب، وهوذا ابن الله يُصلب في ذات المكان ليوقف عن البشرية وباء الخطية القاتل..
ولا يزال الوافدون إلى أورشليم يتقاطرون جماعات جماعات يمرُّون أمام الجلجثة، فيُصدَمون بهذا المنظر البشع، ومع هذا فإن الفضول يستبد بهم، فيتطلعون إلى من ساقهم حظهم العاثر إلى أشنع ميتة في الوجود، ولم يخطر على بال أحد منهم أن بينهم من سلَّم نفسه بإرادته من أجل خلاصهم، وفيما بينهم يلعنون ذاك المستعمر الروماني الذي لا يطبق هذه العقوبة إلاَّ على الشعوب المقهورة والعبيد، ويمنعها عن الشعب الروماني وعن كل من يحمل الجنسية الرومانية، ووقف قائد المئة في شمم وكبرياء يأمر جنوده بإقامة الحواجز حتى لا يشتد الزحام حول الجلادين أثناء تأدية عملهم.

وجاءت بعض السيدات الشريفات ملائكة الرحمة اللاتي كرسنَّ حياتهن من أجل أعمال الرحمة للمرضى والمساجين وأصحاب الحالات الخاصة مثل المحكوم عليهم بالإعدام، وحملن معهن أبريقًا به مزيجًا من الخل والمرّ من صنعهن، وهذا يقوم بتخدير الجسم نوعًا ما، فيخفف عن الإنسان آلام الصلب النارية عملًا بقول الحكيم " أعطوا مسكرًا لهالك وخمرًا لمري النفس" (أم 31: 6).. قدمن كأسًا لديماس الذي شرب وهو ينظر إليهن نظرة الامتنان. أما ماخوس الذي لم يكف عن الثرثرة فإنه أخذ وشرب ولم يعيرهن اهتمامًا، وطلب كأس أخرى وشربها دون نظرة شكر، وعندما قدموا إلى يسوع وذاق لم يرد أن يشرب، لأنه أراد أن يتحمل الآلام كاملة، ومع ذلك فإنه نظر إليهن نظرة امتنان وتشجيع.. شعرن بمحبته ورقته، فانسابت دموعهن حسرة على ذاك الشاب اللطيف الذي يموت في ريعان شبابه.. إنه نبي.. هكذا كانوا يسمعون عنه ويعرفونه.
وعرى الجند يسوع من ملابسه، فاندفعت الدماء التي كانت قد تجلطت والتصقت بالقميص وعادت تنزف من جديد وتفتحت الجروح، وهذا لم يمنعهم من طرحه أرضًا فوق الصليب.. أحاط به أربعة من الجلادين، أحدهما يحمل حقيبة صندوقية، فتحها وأخرج منها مسامير مربعة غشيمة بطول 18 سم ومطارق، وهكذا فعلوا باللصين الآخرين، وبمجرد أن أعطى قائد المئة إشارة البدء، انقض الجنود الأقوياء يحيطون بكل مصلوب، يقبضون عليه بشدة، ويدقون يديه ورجليه بالمسامير في خشبة الصليب..
يهوي الجندي الروماني بالمطرقة في شدة وعنف على رأس المسمار الحدادي الغليظ فيخترق الجلد واللحم، ويمزق الأعصاب ويغوص في خشبة الصليب..
وبينما يوالي الجندي الطرقات بكل قوته كان الجسد الذبيح يرتعش، وتسيل الدماء الغالية على الأرض الملعونة لتغسل لعنتها..
وقد استطاعت مهارة الجلادين أن تدفع بهذه المسامير، فتمزق الرسغين والقدمين ولا تمزق الشرايين الرئيسية، مما يجعل النزيف بطيئًا، ويطيل فترة العذابات، حتى إن بعض المصلوبين كانوا يقضون أيامًا على صلبانهم قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، ولاسيما ولو كان مثبت بالقائمة الرأسية " السرج" (قطعة خشبية ترتكز عليها أرداف المصلوب) فإن عذاباته قد تمتد لمدة أسبوع يعاني فيها من العطش والجفاف والجوع ناهيك عن الطيور الجارحة التي قد تنهش جسده وهو مازال حيًّا..
حقًا إن حكم الناموس على الإنسان لهو أرحم كثيرًا من حكم الإنسان على نفسه، فالناموس كان يأمر بالرجم حيث تنتهي حياة الإنسان في لحظات قليلة، وإذا كان هذا الإنسان قد أخطأ أخطاءًا مشينة تُعلَّق جثته لمدة يوم واحد ثم تدفن في نهاية اليوم.. أما حكم الإنسان على نفسه فهو ما نراه الآن، ولا يجرؤ أحد أن يُنزِل مصلوبًا من على صليبه وإلاَّ رفعوه نيابة عنه.
" كانت عملية الصلب تجري وسط عاصفة شديدة من الصخب. كانت الحشود التي جاءت من بعيد لتشاهد عملية الصلب تصرخ بصوت عالٍ وتطلق عبارات الهزء والتعييّر. وكانت أصوات المطارق وهي تهوي لا تكاد تُسمع وسط ذلك الضجيج، الذي إن دل على شيء فإنما يدل على الانفلات. كانت ساعة الصلب هي ساعة تجرد الإنسان فيها من كل القيم والضوابط. إنها ساعة عاد فيها إلى روح الهمجية، وظهر فيها عمق " أصالته " في الشر!!" (25).
وبعد أن سمروا يد يسوع اليسرى جذبوه من يده اليمنى حتى كادت عظامه تنفصل، ولك أن تتصوَّر مدى الآلام الناتجة عن هذه الجذبة الشديدة، التي شعرت بها الأم العذراء ويوحنا الحبيب..
كم تأثرت تلك الأم الثكلى وقد تقرحت عيناها من فرط البكاء، والنيران تشعل قلبها لهيبًا، والسيف يجوز في نفسها، وقد ضمت يديها إلى صدرها في منظر خشوعي وضراعة وصلاة عميقة..
تأجَّجت المشاعر داخلها، وماتت الكلمات على شفتيها، فخاطبت إبنها بلغة الدموع..
كل طرقة للجندي الروماني القاسي على المسمار كانت في الحقيقة هي طرقة على قلب الأم الحنون..
آه يا ابني لماذا اخترت هذه الميتة الشنيعة..؟!
إن كان لابد من الذبح، فلِمَ لم تُذبح بالسيف..؟! ولِمَ حكمت عليَّ بهذا السيف الرهيب..؟!
أما اليهود فقد وقفوا كالثيران الهائجة وكالكلاب المسعورة المتعطشة لدماء الناصري..
أما قلوب الجلادين الرومان فقد فقدت الحس وماتت وتحجرت، ولم يزعجهم على الإطلاق صرخات وتأوهات المصلوبين والمسامير تمزق أجسادهم..
أي إنسان ينظر إلى يسوع مطروح أرضًا عريانًا يُسمَّر بهذه الطريقة الوحشية من أجله ولا يذوب فؤاده وتنحل من داخله كل شهوة شريرة؟! ولهذا تصرخ الكنيسة في تلك الساعة للمصلوب " وبالمسامير التي سُمرت بها إنقذ عقولنا من طياشة الأعمال الهيولية والشهوات العالمية ".
وجاء زمرة من الأنبياء، داود النبي يُرنّم على الناي الحزين " ثقبوا يديَّ ورجليَّ" (مز 22: 16) وإشعياء النبي يشهد " وهو مجروح لأجل معاصينا" (أش 53: 5) وزكريا النبي يسأل يسوع المصلوب: ما هذه الجروح في يديك؟ وسُمعت همسات المصلوب: " هي التي جُرِحتُ بها في بيت أحبائي" (زك 13: 6).
انتهت عملية التسمير وكان بجوار الصلبان الثلاث ثلاث حفر متقاربة، كل حفرة كانت قريبة من قاعدة الصليب، فرفعوا الصليب لأعلى ووجه المصلوب نحو السماء، فانزلقت قاعدة الصليب في الحفرة، وأهالوا حولها التراب والحصي.. سرعان ما ارتفع على هذا التل ثلاثة صلبان، وكان صليب يسوع في الوسط، وكأنه هو زعيم اللصوص عوضًا عن باراباس، وسمَّر الجنود اللافتات فوق الصلبان الثلاث، وكانت الساعة الثانية عشر ظهرًا.
والخشبة التي صُلِب عليها ملك المجد لم تكن جديدة إنما سبق استخدامها، أي أنها تشرَّبت بدماء الأثمة والفجار من بني البشر.. لقد ارتضى أن يأخذ مكان الأثمة.. هوذا المذبح الفريد الخشبي يرتفع فوق الجلجثة خارج أسوار أورشليم، لكيما يُوقد عليه الحمل البريء.. كل مذابح العصور أُقيمت من حجارة وأُصعدت عليها الذبائح الحيوانية بعد ذبحها. أما هذا المذبح الرهيب، فقد أُقيم من صليب خشبي، لكيما يُوقَد عليه يسوع ابن الله وهو حي بعد، وعلى هذا المذبح الخشبي تجسمت الخطية في بشاعتها، وظهرت الدينونة في أهوالها..
ولا تسألني يا صديقي عن شدة وقسوة الآلام النارية التي يعاني منها المصلوب أثناء رفع الصليب والجسد كله مُعلَّق بثلاثة مسامير، وما نتج عن هذه الحركة من اهتزازات في الأعصاب.. ربما الذي ذاق ألم الضروس ذات ليلة نتيجة تعري الأعصاب يشعر بالشئ اليسير جدًا جدًا من هذه الآلام!!
وارتسمت أمام يوحنا كلمات يسوع الخالدة "وكما رفع موسى الحيَّة في البريَّة هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان" (يو 3: 14).. " متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو" (يو 8: 28).. " وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع" (يو 12: 32).
ارتفعت الصلبان، وشمس الظهيرة الحارقة تلفح الأجساد العارية..
وبينما يحوم الهوام حول الجروح، فإن حركة المصلوب مقيدة بالمسامير..
واعترى الدوار الشديد المصلوب نتيجة لعدم كفاية الدم الذي يصل إلى الرأس..
ناهيك عن التوتر العصبي، والرعشة والقشعريرة، والعطش الشديد الناتج من النزيف والعرق الغزير..
حقًا إن آلام الصلب أقسى بما لا يقاس بآلام الذبح، فالحمل يُذبح في لحظة بشفرة حادة فلا يكاد يشعر بالألم. أما يسوع البار فإنه يُذبح على الصليب، ودمه يقطر قطرة قطرة، وهو مازال حيًا يشعر بكل شيء..
أما عملية التنفس فهي مشقة ما بعدها مشقة وعذاب يفوق كل عذاب، وألم لا يُطاق.. لماذا؟.. لأن انحناء الجسم لأسفل تحت تأثير الجاذبية الأرضية مع ثقل الرأس لا يُمكّن الإنسان من التقاط الأنفاس فتنخفض حركة التنفس من 16 مرة في الدقيقة إلى 4 مرات، مما يؤدي لارتشاح الماء من الرئة، ويضطر المصلوب إلى جذب جسده للخلف، ومعنى هذا أن يضغط على ساقيه المسمرتين بالمسمار، ويشد يديه المسمرتين أيضًا، فيحتك المسمار بالعصب الأوسط للذراع، ويشب المصلوب قليلًا لكيما يلتقط نفسًا واحدًا على حساب جراحات تتسع وآلام لا توصف، فلا يلتقط النفس الآخر إلاَّ عندما يكون على وشك الاختناق.
ورغم إن الله من رحمته أودع في الإنسان إمكانية الغياب عن الوعي متى حاقت به الآلام الطاغية، فإن المصلوب رغم آلامه لا يغيب عن وعيه أبدًا، لأن غيابه عن الوعي يعني فقدانه الحياة بسبب توقف التنفس، فيظل المصلوب يعافر ويجاهد من أجل أقل القليل من نسمة الحياة، وعلى كلٍ فإنه إن طالت فترة المصلوب على الصليب أو قصرت فإن حياته تنتهي بالاختناق..
كل هذا تحمله يسوع، بالإضافة إلى الآلام النفسية التي تحملها بسبب إنكار بطرس، وخيانة يهوذا، وجحود أمته اليهودية، وأيضًا الآلام الكفارية التي جاز فيها وتساوي كل آلام الجحيم التي كانت البشرية كل البشرية ستكابدها هناك..
وتجمع أمام الصليب المريمات، مريم المجدلية، ومريم زوجة كلوبا، ومريم أم مرقس، ومريم أخت لعازر، ومرثا، وسالومي، والنساء اللواتي كن يتبعنه من الجليل مثل يونا زوجة خوري وكيل هيرودس الملكوكل معارفه، ويوسف الرامي، ونيقوديموس، ويوحنا الحبيب، وعلى رأس الكل الأم العذراء الثكلى..
وما أثقل الأحزان التي حطمت القلوب؟!
وما أقوى العواصف العاتية التي أطاحت بالرجاء؟!
وطالما قلب المصلوب مازال ينبض، فإنه يظل يكتوي بنار الألم، ومن حوله الأحياء يحترقون بنيران الشجن والحسرة، وربما عاد التلاميذ ووقفوا بعيدًا ينظرون ما كان، فوقف داود النبي يقول "أحبَّائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي وأقاربي وقفوا بعيدًا" (مز 38: 11).
همس نيقوديموس يناجي المصلوب للمصلوب: عندما ذُبح هابيل البار.. عندما رُبط إسحق ووضع على المذبح.. عندما سجد يعقوب على رأس عصاه وبارك أفرايم ومنسى بيدين متقاطعتين.. عندما وضع خروف الفصح في النار عبر سيخين متعامدين.. عندما رفع موسى يداه طوال النهار حتى ينتصر يشوع.. عندما رفع موسى الحية النحاسية على الراية لكيما ينال الشفاء كل من لدغته الحية المحرقة.. كنت أنت هناك يا ربي بالرمز.. أما الآن فأنت هنا مُعلق على الصليب.. أنت هو هابيل المذبوح وها هنا بركة يعقوب.. أنت هو إسحق الذبيح، وخروف الفصح المشوي بالنار.. ها هنا نصرة موسى، والحية النحاسية التي تهب الشفاء.. أنت هو شمس البر التي أشرقت علينا والشفاء في أجنحتها.
وانسابت على شفتي يوسف الرامي أغنية العروس: " حبيبي أبيض وأحمر. مُعلَّم بين ربوة. رأسه (المكلَّل بالأشواك) ذهب أبريز. قصصه (الملطخة بالدماء) مسترسلة حالكة كالغراب. عيناه (المتورمتان) كالحمام.. مغسولتان باللبن.. شفتاه (اللتان التهبتا بعذابات الصليب) سوسن تقطران مرًّا مائعًا. يداه (المسمرتان) حلقتان من ذهب رُصعتا بالزبرجد (المسامير).. ساقاه (المسمرتان) عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من إبريز. طلعته كلبنان. فتى كالأرز"(نش 5: 10 - 15).
ووقف يوحنا يُردّد همسات النبي الإنجيلي " من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب (من يصدق أن المصلوب هو هو ابن الله الحي الأزلي؟!).. لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستَّر عنه وجوهنا مُحتقر فلم نعتدَّ به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمَّلها ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحُبره (بجراحاته) شفينا. كلنا كغنم ضللنا مِلنا كلَّ واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا" (أش 53: 1 - 6).
ووقف جبران خليل جبران (بعد ألفي عام) يناجي المصلوب " أيها الجبار المصلوب.. الناظر من أعالي الجلجثة إلى مكب الأجيال، أنت على خشبة الصليب المضرجة بالدماء أكثر جلالًا ومهابة من ألف ملك على ألف عرش. إن إكليل الشوك على رأسك أجمل من تاج بهرام، والمسمار في كفك أفخر من الصولجان في قبضة المشترى. سامح هؤلاء الضعفاء الذين ينوحون عليك.. لأنهم لا يدركون كيف ينوحون على أنفسهم ".
وهمست لنفسي قائلًا: إن المكان قد تعبَّق تمامًا بأريج الحب القوي، فهوذا القارورة قد تحطمت، فلابد للناردين الغالي كثير الثمن أن تفيح رائحته.. من يقدر أن يوقف فيض الحب الذي يفيض من الجسد الممزق.. من رأسه ومن منكبيه.. من يديه ومن قدميه.. من كل جرح في جسد يسوع أرى الحب الخالد النقي الطاهر يتدفق لكيما يغسل أدران أدناسي.
وأخيرًا لو تساءل أحد عن سبب اختيار يسوع لموت الصليب بالذات دون أية ميتة أخرى نقول له إن السيد اختار موت الصليب لأسباب لذيذة نذكر منها ما يلي:
1- ليحتفظ بجسده صحيحًا كاملًا، فلو مات بالسيف فإن رأسه ستنفصل عنه، ولو مات حرقًا فإن جسده سيتحول إلى رماد.
2- ليقطر دمه قطرة قطرة لأنه هو الذبيحة المقدَّمة عن خلاص البشرية.
3- لتظل أحضانه مفتوحة وهو على الصليب لكل خاطئ أثيم يرغب في العودة إليه.
4- ليفرد جناحيه مثل الدجاجة التي تضم فراخها تحت جناحيها " يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37).
5- ليفرد ذراعيه فيضم الشعب القديم من جهة، والشعوب الوثنية (الأمم) من جهة أخرى.
6- ليُطهّر الهواء من سلطان الشيطان على أبناء الله، وذلك بعد أن انتصر على الشيطان في القفر (جبل التجربة) وبعد أن انتصر عليه في أعماق المياه (المعمودية).
7- ليكون في مركز وسط بين السماء والأرض، فيصالح الله مع الإنسان، والسمائيين مع الأرضيين.
8- حتى يراه الكل في موته ويشهد بموته الجميع فلا يشك أحد، ومتى قام لا يقولون أنه تعرض لحالة إغماء فقط.
9- حتى لا يظن أحد أنه اختار ميتة سهلة، أما موت الصليب فلا يقدر أن يقوم منه.
10- ليحمل لعنة البشرية لأنه مكتوب ملعون كل من عُلق على خشبة.
11- عن طريق شجرة معرفة الخير والشر سقط الإنسان، وعن طريق شجرة الصليب عاد الإنسان إلى الفردوس المفقود. بل وارتقى إلى الملكوت.
شكر لك يا إلهي.. يا من صلبت عني..
أعطني أن أحيَّا كما يحق لصليبك

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:39 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
وملك على عرشه

ولم يكتفِ رؤساء الكهنة ومشايعيهم بهذا الانتقام المهول من يسوع، وإذ كانوا قد اعتبروه فوزًا عظيمًا ونصرًا مبينًا، فلم يفكروا في العودة إلى ديارهم ليستريحوا من عناء ليل طويل، ولم يعودوا إلى مقادسهم لأداء مهامهم الدينية في الهيكل، ولاسيما إن الاستعدادات للفصح تجري على قدم وساق. إنما أصروا على التواجد قرب المصلوب لتكتحل عيونهم بآلامه النارية.. وقف قضاة إسرائيل في بلاهة لا يدركون ولا يفقهون.. وقفوا ينظرون للمصلوب بعيون حاسدة، وقلوب حاقدة، تتأجج بنار الغيرة الشيطانية.. وقفوا موقف المتفرجين الشامتين بذاك الذبيح الذي تلتهمه نيران الألم.. لم يشفقوا عليه، ولم يراجعوا أنفسهم، ولم يندموا على جريمتهم.. وقفوا في تحدي وفي تشفي يشفون غليلهم من ذاك الذي طالما صبَّ عليهم الويلات، وكشف عورتهم أمام شعبهم، فأخذوا يتلذَّذون بمنظر عريه على الصليب وهم يظهرون روح الشماتة والسخرية، ولم يكفوا عن الثرثرة.
حنان: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك إن كنت ابن الله..
رحبعام: خلص آخرين أما نفسه فل يقدر أن يخلصها..
قيافا: لماذا لم ينزل عن الصليب. فلينزل الآن عن الصليب لنبصره ونؤمن به..
سابس: فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله..
هارين: إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب لنرى ونؤمن به..
دبارباس: قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده، لأنه قال إنه ابن الله..
ووقف سطانئيل يصرخ: "أنت أيها المسيح يا مبتدع المكر..
يا سارق التعبد لك، وهو ليس من حقك..
يا سارق الحب استمع لي..
من اليوم الذي أتيت فيه من رحم عذراء، كسرت كل عربون وكذبت في كل وعد" (26).
وصاحت بقية الشياطين: "نريد أن نغرس مساميرك إلى الأعماق..
ونضغط على الأشواك التي في جبينك..
ونجلب الآلام النابعة من الدم لينسكب من جديد من جروحك التي جفت..
هذا كله يمكننا أن نفعله، وسنفعله لننتهك جسدك أيها الناصري..
رئيس الرذائل العظمة ملك الجبناء.." (27)
وعزف داود على قيثارته الباكية " كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين. اتكل على الرب فلينجه. لينقذه لأنه سرَّ به" (مز 22: 7، 8).. " أنا صرتُ عارًا عندهم. ينظرون إليَّ وينفضون رؤوسهم" (مز 109: 25) ووقف سليمان الملك منذهلًا وبحكمته يُصوّر الموقف " ويتباهي بأن الله أبوه فلننظر هل أقواله حق ولنختبر كيف تكون عاقبته. فإنه إن كان الصديق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حلمه ونختبر صبره. ولنقض عليه بأقبح ميتة" (الحكمة 2: 16 - 20) وتأمل أشعياء المصلوب " من أجل إنه سكب للموت نفسه وأُحصى مع أثمة" (أش 53: 12).
أناس: هذا الشعب الغبي الذي هتف له الأحد الماضي يقف الآن شامتًا به.
وحتى المجتازين إلى أورشليم أو الخارجين منها للقرى المحيطة، والذين لا يعنيهم الأمر في قليل أو في كثير، سمعوا أقوال الآخرين الشامتين وصدقوها، وشاركوهم الاستهزاء والسخرية: إن كان الله أبوه.. فلماذا يتركه إلى هذا المصير التعس؟!
عجبًا لهؤلاء المارة الذين لم تكن ثمة خصومة بينهم وبين يسوع، بل لعل الكثيرين منهم كانوا من المعجبين به قبلًا، وربما تلامس بعضهم مع معجزاته، ولكن إذ رأوه مغلوبًا على أمره تخلوا عنه، بل انقلبوا ضده، وأقاموا أنفسهم خصومًا له.. هذه هي دناءة النفس التي تشمت بكل إنسان مقهور، وربما اعتقد بعضهم أنه لو لم يكن المصلوب شريرًا لما تخلت عنه السماء.. أما أبناء وطنه من الجليليين فقد تعاطفوا معه.
"كان الشيطان يهمس في إذنيه قائلًا: هذه هي النتيجة.. هذه هي ثمرة جهادك، وصدى حبك لعالم من الجاحدين.. أين هم الذين شفيتهم وأطعمتهم.. بل أين تلاميذك الذي أحببتهم وأغدقت عليهم من عطفك.. لا تتعب نفسك مع البشر، لقد فاقوا الشياطين في شرهم.. وها أنت تسمع بأذنيك الشتائم.. انظر لن تجد هناك من يذرف دمعة واحدة من أجلك.. بل أنظر إلى قسمات وجوههم وهم ينادون بصلبك.. أنظر إلى أياديهم المهددة المتوعدة.. وإلى عيونهم التي يتطاير منها الشر والشرر" (28).
وكان اللصان اللذان صُلبا معه يعيرانه: إن كنت أنتَ المسيح فخلص نفسك وإيانا، وبالرغم من إن الذين يجوزون في آلام مشتركة يشعرون عادة بأُلفة معًا، لأن الآلام تؤلف بين قلوبهم، لكن هذان الرجلان في آلامهما راحا يعيران من لا ذنب له.
هوذا يحيط بيسوع الشامتون المستهزئون من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين والمجتازين وحتى اللصين، وكم كان هذا سبب حزن أليم للأم الثكلى..؟! منذ لحظات اخترقت طرقات المسامير قلبها، والآن تخترق هذه التعييرات أذنيها، وهي لا تملك شيئًا، سوى قلبًا جريحًا على ابن ذبيح، وسيف حاد يجوز في نفسها، وتود لو تُحلّق وتحتضن إبنها تمسح قطرات عرقه، وتجفف دمه المسفوك، وتنفخ في فمه قبلة الحياة.. وكم كان الأمر مرير عليها وهي تتفرس بمشاعر الأمومة هذا الوجه الدامي والجسد المنهك، الذي يلهث لكيما يحصل على نسمة حياة. وفي لحظة من الزمن الثقيل فتح يسوع فاه، فصمت الجميع وأرهفوا السمع للمُعلّم، ماذا يريد أن يقول بعدما حدث معه؟! وإذ بهم يقفون في ذهول.. ما هذا؟! إنه يصلي، ويصلي من أجلهم: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.
قال أحدهم: كيف يصلي من أجل صالبيه؟ لم نسمع مثل هذا قط.. كل دم يُسفك ظلمًا يصرخ بنداء الثأر، أما دم يسوع فإنه ينادي بالفصح والمغفرة!!

وقال ثان: تُرى من له المقدرة على المغفرة حتى هذه الدرجة؟
سمعناه يقول "أحبوا أعدائكم باركوا لأعنيكم صلوا لأجل الذي يسيئون إليكم ويضطهدونكم " والآن نراه يفعل تمامًا ما قد قاله وعلَّم به.
وقال ثالث: عجبًا.. عُلّق على الصليب لأنه دعى نفسه ابن الله، ومازال مصرًا على هذا، فيدعوا الله "يا أبتاه".
وقال رابع: إن كان الله أبوه فلماذا يتركه إلى هذا المصير التعس؟!
وقال خامس: كلَّله الرومان بالأشواك، وقطَّعوا جلده بالسياط، ونحن صرخنا: اصلبه.. اصلبه، ويصلي من أجلهم ومن أجلنا.
وأجابه سادس: كل النيران التي انصبت فوق رأسه عجزت عن أن تفقده حبه، أو تُخرجه عن وداعته ورقته.. مازال يسوع كما هو الحب الوديع النسمة الرقيقة..
وقال سابع: مُعلَّق بالمسامير مسخن بالجراح.. عاملناه بهذه القسوة واجتمعنا حوله كوحوش ضارية.. ويغفر لنا؟!
يوسف الرامي: " وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين" (أش 53: 12).
يوحنا الحبيب: حقًا إن إبليس أراد أن يطعن يسوع بسهام الكراهية والحقد والغل ضد جلاديه، وهوذا الحب الفياض والصفح التام والتماس الأعذار تنطلق كسهام عاتية من قلب المصلوب إلى قلب إبليس الكراهية..
وتعلمت البشرية من صفح المصلوب عن صالبيه، ونسجت على ذات المنوال..
{ولنا أن نذكر هنا ثلاث قصص قصيرة عن المغفرة:
كانت ميري يتيمة الأب منذ طفولتها، وكرَّزت الأم الشابة حياتها من أجل ابنتها، وأخذت تعمل وتجتهد لتوفر لها حياة كريمة، وأنهت ميري حياتها الجامعية، وإذ خُدعت من الحيَّة القديمة انجرفت في تيار الخطية وتركت بيتها، وتعبت أمها كثيرًا في البحث عنها، واحتاجت أن تكد وتتعب أكثر ليكما تغطي مصاريف التجوال، وأخيرًا لجأت إلى حيلة إذ طلبت من أحد المُصوّرين أن يلتقط لها صورة وهي تركع في حالة توسل ودموع تفتح أحضانها وتناشد ابنتها بالعودة إليها، وذهبت لكيما تُعلّق نسخ من هذه الصور في عدَّة بلاد، وقاد الله ميري إلى أحد الملاهي وهي محطمة النفس والجسد، فوجدت البعض يزدحم على صورة معلَّقة على الجدار، وإذ نظرت إليها استيقظ ضميرها واشتاقت إلى قبلات الأم غير الغاشة والصدر الحنون، فأسرعت بالعودة إلى أمها ترتمي في أحضانها، وتلقفتها محبة الأم الغافرة، وظلت تعتني بها إلى أن عادت إلى حياتها الأولى وعادت هي للحياة.
قصة أخرى حدثت عقب الحرب العالمية الثانية إذ عُهد لأحد الخدام الاهتمام الروحي بالزعماء الألمان الذين أشعلوا الحرب، وكان الغضب الشعبي ضدهم جارفًا، وكان هذا الخادم قد فقد ابنيه في هذه الحرب، ولم يعرف كيف يلتقي بهؤلاء القتلة؟ وبأي مشاعر يلقاهم..؟! ولكنه إذ وضع أمام عينيه صورة المصلوب الذي يصلي من أجل صالبيه انسكبت محبة المصلوب في قلبه، فتعامل مع هؤلاء بالمحبة المسيحية الغافرة، حتى إنه كان يزور أحدهم خمس مرات في اليوم الواحد، وتاب بعضهم قبل الحكم عليهم وورثوا الملكوت.
والقصة الأخيرة حدثت أيام اضطهاد الأرمن إذ كانت فتاة تسير برفقة أخيها وأبيها، وتعرض لهم أحد الجنود الأشرار، فقتل الأب والأخ وبصعوبة بالغة هربت الفتاة، وعملت كممرضة في إحدى المستشفيات، وذات يوم وصل ذاك الجندي القاتل إلى المستشفى، وهو مصاب بإصابات بالغة، وكانت هي المكلفة برعايته، فلو أهملت في رعايته لكان نصيبه الموت حتمًا، ولكنها وضعت أمام عينيها صورة المصلوب الغافر، فاستطاعت أن تتغلب على مشاعر الانتقام التي ثارت داخلها، بل وأن تبذل قصارى جهدها في رعايته حتى تعافى تمامًا}.
والتقطت أذنا ديماس ما قاله يسوع، وهو ما لم يكن يتوقعه على الإطلاق، فاهتزت نفسه داخله: من هذا الذي يغفر لجلاديه؟!
لابد أن إنه ابن الله فعلًا كما قال وهم لا يصدقونه، فصمت وكفَّ عن التقريع والتعيّير، وعندما تمادى أماخوس في تعيّيره، قال له ديماس: أَوَلاَ تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه. أما نحن فبعدل قد جوزينا لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هو فلم يفعل شيئًا ليس في محله.. وهل الذي يغفر لصالبيه يخطئ؟!
آه.. لقد عاش ديماس مع أماخوس زمنًا هذا مقداره. أما الآن وقد أوشكا على الافتراق إذ اختار ديماس طريق الخراف واختار أماخوس طريق الجداء.. اعترف ديماس بخطيته: أما نحن فبعدل جُوزينا.. لقد سطونا على الناس وسلبناهم، وسفكنا دماءًا بريئة، وانبرى يدافع عن الحق: أما هذا فلم يفعل شيئًا في محله.. فلو كان مثلنا لعرفناه في حياتنا، ولو كان سفاحًا لسمعنا عنه..
إن يسوع المصلوب ياديماس إنسان برئ، لابد إنك سمعت عن لطفه ورقته ومحبته وحنانه، فإنه لم يخدم في زاوية إنما ملأ القرى والمدن كرازة وبشارة، والآن يا لسعادتك وقد التقيت معه.. إنني أراك وأسمعك وأنت تضرع إليه: اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك.
وكأني بذاك اللص يقول ليسوع: أنت ترى يا رب، أنني مُقيَّد بالمسامير لا أملك من حريتي سوى عقلي وقلبي ولساني، وها أنت تراني أعزف على أوتاري الثلاثية سيمفونية الاعتراف بك ملكًا وربًا.. إنني أعلم أنك ستملك على محبيك وعلى أعدائك أيضًا، فهلا تذكرني متى جئت في ملكوتك..؟! وهلا تحسبني مع محبيك؟!!
والتفت الملك المصلوب إلى ديماس اللص قائلًا: الحق أقول لك.. إنك اليوم تكون معي.. في الفردوس.
صار ديماس باكورة المفديّين، فطابت نفس المخلص به.. إنه الدرهم المفقود الذي عثر عليه.. الخروف الضال الذي وجده ضالًا شاردًا على جبال الخطايا والآثام.. الابن الضال الذي كان ميتًا فعاش..
ولم يعد ديماس يتكلم بعد، إنما كانت عيناه ترنو تارة نحو المصلوب وتارة نحو السماء وكأنه يريد أن يؤكد أن يسوع المصلوب هو هو ملك السماء، ووجد راحة قلبية أخذت تغالب آلام الصلب..!! يا لفرحتك يا ديماس.. هل رقص قلبك طربًا..؟! هل طابت نفسك أيها المصلوب..؟! لقد فزت بالوعد الإلهي، وسمعت سيدك يقول لك اليوم " سأنتظرك.. هناك سألقاك.. في الفردوس موضع الراحة والتنعم".
والفردوس كلمة فارسية معناها جنة ملوكيةإنه موضع راحة الأبرار، حيث لا تنهد ولا بكاء، حيث تعزف الملائكة موسيقى الفرح فينسى الإنسان كل آلامه، حتى لو كانت بشدَّة وجدَّة آلام ديماس على صليبه، وبدأ ديماس يتذوق في آلامه عربون الفردوس، بينما يتجرَّع أماخوس الذي أغرته الكثرة ومظاهر القوة كأس الموت، ويفزع من دنو أجله..
عجبًا.. أتهلك يا أماخوس وبينك وبين المخلص أشبار؟!..
وبينما راحت الشياطين ترقص طربًا حول الصلبان الثلاثة، فإذ بأحدهم يظهر مكفهرًا مكتئبًا، وعندما سأله زملاؤه عن سبب اكتئابه قال: لقد كنت ملازمًا لديماس أيام هذه عددها. أما الآن فلم يعد لي موضعًا البتة في قلبه.
وإذ بيوحنا الحبيب يتابع الأحداث عن كثب، ويرى ديماس يخلص وأماخوس يهلك، فيتذكَّر كلام المُعلّم الذي قاله من أيام قلائل " متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم عن بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار " ولوقته تخيَّل يوحنا أن يسوع الديان جالسًا على عرشه، حوله الملائكة القديسين، واجتمعت الأرض كلها أمامه، فمال الأبرار ومعهم ديماس إلى يمين الملك، بينما الأشرار وعلى رأسهم رؤساء الكهنة ومشايعيهم وجدوا قوة تدفعهم نحو اليسار.. فارتعب يوحنا وقال: حقًا إن ما يحدث الآن لهو لقطة من يوم الدينونة الرهيب.
وأخذ يوحنا يُطوّب ديماس: من رأى لصًا آمن بملك مثل هذا اللص، الذي بأمانته سرق ملكوت السموات وفردوس النعيم..؟! طوباك أنت أيها اللص الطوباوي، ولسانك الحسن المنطق الذي به تأهلت بالحقيقة لملكوت السموات وفردوس النعيم..
نيقوديموس: أيها اللص الطوباوي.. ماذا رأيت؟.. وماذا أبصرت حتى اعترفت بالمسيح المصلوب بالجسد ملك السماء وإله الكل؟!
يوسف الرامي: ما رأيتَ المسيح.. الإله متجلَّيًا على طور طابور في مجد أبيه، بل رأيته مُعلقًا على الأقرانيون، فلوقتك صرخت قائلًا أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك..
أناس: لقد أُحصي مع أثمة، أما هو فقد أحصى الأثمة في ملكوته.. لقد التقينا اليوم بأربعة لصوص يهوذا، وباراباس، وديماس، وأماخوس، ولم يخلص منهم إلاَّ ديماس، وربما يخلص بارباس.
أما سارباس عضو السنهدريم فتساءل: من أين المُلك لهذا المصلوب..؟! أين رعيته..؟! أين ملكوته..؟! أسيملك في مدينة الأموات..؟!
وكان لاماخوس " فرصة ذهبية لم يشاركه فيها أحد سوى اللص الآخر المعلق بجواره. لقد كان أقرب الناس قاطبة ليسوع المصلوب، وكانت له الفرصة ليسمع كل أحاديثه وأناته ويتأمل غور جراحه.. كانت له الفرصة الذهبية ليرى كيف يُولَد الفجر في أحلك الظلمات وتتفجر الينابيع من قلب الصخور الصماء.. نعم كانت أمامه الفرصة العظيمة أن ينعم بالخلاص مثل اللص الآخر.. لكنه بالرغم من كل ما حلَّ به ومن حوله لم يغتنم الفرصة السانحة أمامه" (29).
وكلما فتح يسوع فاه، كان قلب العذراء يخفق، وعاطفة الأمومة تشتعل داخلها متوقعة أن يحدثها ولو بكلمة واحدة، وصدق ظن الأم الحنون التي انشغلت تمامًا بآلام ابنها، أما هو فلم تقوى كل هذه الآلام أن تشغله عن أمه، ففتح المصلوب فمه المبارك وقال بصوت متهدج وهو ينظر إليها: يا امرأة.. هوذا ابنك والتقت عينا الأم اللتان تورمتا من البكاء بعيني الابن اللتان تورمتا من اللطمات والكدمات والضربات، فرأت الأم في عيني ابنها السماء والرجاء والنصرة والمجد، ولكن الآلام التي تعتصرها تشدها بقسوة إلى أسفل.. كم كانت تتمنى أن تضع نفسها عنه، وكاد يُغشى عليها ولكن ابنها منحها القوة وسندها في طريق الآلام، فقالت: أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، أما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا إبني وإلهي..
والتفت الإله المصلوب إلى يوحنا الحبيب قائلًا: هوذا أمك..
وهز يوحنا رأسه علامة الطاعة والرضي، وهو يقول: كل هذه الآلام يا سيدي وعبرات الموت لم تنسيك واجبات الأمومة.
وهمست العذراء: هل هذه هي النهاية..؟! كلاَّ.. لا يمكن أن تكون نهاية ابني البار هكذا.. لقد أخبرني أنه سيقوم بعد ثلاثة أيام.. إذًا لابد أن يقوم حتى ولو مات فسيحيا.. ولكن ماذا أفعل إزاء ضعف طبيعتي ومشاعر الأمومة المذبوحة بغير سكين..؟! إنه سيف بتار ونار آكلة يا ابني..
ولم يكن ليسوع أخوة بحسب الجسد، فلو كان له أخوة لكانوا أحق من يوحنا برعاية أمهم، ولكنها الأم البتول.. كانت بتولًا قبل ولادة ابنها الوحيد يسوع، وأثناء ولادته، وبعد ولادته لم تنجب غيره ، فهي العذراء كل حين دائمة البتولية..
" وإن كان يوحنا قد تحمل المشقات في إتباع يسوع إلى الجلجثة لكنه لم يرجع خالي الوفاض. لقد توَّج يسوع محبته بأكبر شرف في التاريخ عندما ناداه من فوق الصليب قائلًا " هوذا أمك".. لقد حسبته أليصابات شرفًا عظيمًا عندما أتت إليها أم ربها، فكم وكم عندما أخذها ذلك التلميذ إلى خاصته. ولقد بارك الله بيت عوبيد عندما حلَّ التابوت فيه، أما البركة التي حلت على ذلك التلميذ فلا يمكن أن نعرف مداها. ولاشك أن رسائل يوحنا تكشف قدرًا ضئيلًا من فيض المحبة التي ملأت قلبه" (30).
وجلس تحت الصليب الجلادون الأربعة يلهون ويتسامرون، ينتظرون موت المصلوب حتى يعودوا إلى القشلاق، ولم تنجح كل الآلام التي يجوز فيها المصلوب، والأنين والصراع من أجل نسمة حياة، وحشرجة الموت.. كل هذا لم ينجح في تحريك شعرة واحدة لهؤلاء الجلادين الذين كدت قلوبهم من حجر الصوان، وكان بجوارهم كومة من الملابس، وحيث أن الجو كان باردًا فإن يسوع ارتدى عدَّة ثياب منها قميص منسوج بدون خياطة، ومنها الملابس الداخلية، ومنها الثوب الذي يُدثّر الجسد كله، ومنها ما يوضع على الرأس والكتفين، وبينما اعتاد الرومان على صلب المجرم عريانًا مجردًا من جميع ملابسه، فإن أهل الشرق ولاسيما اليهود اعتادوا أن يستروا عورة المصلوب.. إنها ملابس المصلوب، وقد جرى العرف على اعتبارها أجرة رخيصة للجلادين الذي ينفذون حكم الإعدام..
التفت أحدهم وقال ساخرًا: هيا يا رجال القيصر نقتسم كنوز المصلوب..
وتعالت ضحكاتهم، وأخذ كل منهم نصيبه من هذه الملابس البسيطة التي لا تملأ عين واحد منهم. غير إن نظراتهم انجذبت نحو القميص المنسوج كله، ويبدو إن إحدى السيدات الثريات قد أهدته له..
وقال أحدهم: أنشقه إلى أربعة أجزاء؟
-وما قيمته بعد تمزيقه؟!
-إذًا ليأخذه أحدنا..
-نعم.. لنلقي قرعة.
وألقوا القرعة، وجاءت القرعة من نصيب الجلاد الأول الذي دق المسامير في يد المُعلّم، فأخذه فرحًا بينما عيون الآخرين التي تمتلأ حسدًا تحدجه شذرًا..
وتحت أقدام الصليب وقف داود النبي يعزف على قيثارته اللحن الحزين " يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 18).

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:40 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
ثوب الحداد

وإذ رأت الطبيعة بارئها شمس البر مُعلَّقًا على الصليب عريانًا ارتعبت وأسرعت لتنسج ثوبًا من الظلمة لتستر عري خالقها، فإذا بالجو يكفهر، والضباب يتكاثف ليغطي الصلبان الثلاث، وإذ بضوء الشمس يبهت، وصار القرص كنار مشتعلة تعلن دينونة الله للخطاة، وسرعان ما اختفت الشمس عن الأنظار، واتشحت السماء بالسواد، وارتدت الطبيعة ثوب الحداد، وكفت الطيور عن تغريداتها وآوت إلى أعشاشها، ولف الصمت الرهيب المكان، فخرس الشامتون المستهزؤن، ولم يعد يُسمع صوت غير آنين المصلوبين ف " كل عرْق ينبض بالنيران، وكل عصب يصرخ بالألم، وكل عضلة تزداد تقلصًا لتزيد من تمزق اليدين والقدمين، والجسد بين صعود وهبوط، والقلب بين رجيف وتوقف، والأنفاس بين تدافع وتراجع، ولكن الموت الرحيم، مازال بعيدًا.. بعيدًا" (31).
وتهامس الواقفون، فقال يوشافاط: ما لالابال الطبيعة تغضب هكذا..؟! أهي غاضبة بسبب الضال المُضّل؟!
سمعان الأبرص: إنه بالحقيقة رجل بار.. ألم يعرف أفكاري دون أن أتكلم؟!
روسمتين (أحد أعضاء مجلس السنهدريم): حقًا إن السماء تشهد له!!
سوباط: لو لم يكن ابن الله فلماذا تحزن الطبيعة إلى هذه الدرجة؟!
أنولمية: يا ويلتاه.. أنهاية العالم هذه؟!
حنان: لنحذر يا أخوة ونستيقظ لئلا يأتي أتباع الناصري وينزلوه من على الصليب.
يورام: وكيف يحدث هذا والجنود الرومان هنا قائمين على حراسته؟
يوحنا: هكذا قال عاموس النبي: " أليس من أجل هذا ترتعد الأرض.. ويكون في ذلك اليوم يقول السيد الرب إني أُغيب الشمس في الظهر وأُقتم الأرض في يوم نور" (عا 8: 9).
يوسف الرامي: ألم يقل أشعياء النبي: "أُلبس السموات ظلامًا وأجعل المسح غطاءها" (أش 50: 3)؟!
نيقوديموس: حقًا قال يوئيل النبي: "الشمس والقمر يظلمان والنجوم تحجز لمعانها، والرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطي صوته فترتجف السماء والأرض" (يؤ 3: 15، 16).
أناس: ألم يقل أرميا النبي: " غربت الشمس إذ بعد نهار" (أر 15: 9)؟!
وهمس ديماس: لولا إن المصلوب معنا إلهًا متجسدًا، ما كانت الشمس أخفت شعاعها، ولا الأرض ماجت مرتعدة. فيا قادرًا على كل شيء، والمحتمل كل شيء، اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك.

عمَّت الظلمة الرهيبة هذا العالم في وضح النهار بصورة مفزعة، فلم يعد الواقفون على الجلجثة يبصرون أمجاد الهيكل ولا جبل الزيتون، وتفرَّق الكثيرون منهم مفضلين العودة إلى ديارهم، حتى إذا حدث لهم مكروه - جراء جريمتهم الشنعاء - يكونون بجوار ذويهم..
في ذات الوقت الذي عمَّت فيه الظلمة أورشليم عمَّت العالم، ففي مدينة هليوبوليس بمصر كان عالم الفلك ديوناسيوس الأريوباغي، وهو يعلم أنه من المستحيل أن يحدث كسوف في وسط الشهر القمري والقمر بدرًا.. ومن المستحيل أن يمكث الكسوف كل هذه المدة.. ومن المستحيل أن يغطي كل هذه المساحة من العالم.. وبعد تأمل عميق وضع (عالم الفلك) تقريره " إما إن إله الطبيعة يتألم، أو إن العالم آخذ في الانحلال".
ووسط الظلمة الرهيبة جاز يسوع الآلام الكفارية، متحملًا عقاب خطايا البشريَّة، وهو البار القدوس.. هوى عليه سيف العدالة الذي كان سيهوى على البشريَّة، فصرخ قائلًا: إيلي إيلي لما شَبَقْتَني.. أي إلهي إلهي لماذا تركتني.
وقال هارين: إنه ينادي إيليا.. لنرى هل يأتي إيليا لينقذه.
حقيقة كل آلام الصليب المنظورة لا تقارن بالمرة بالآلام غير المنظورة التي يعانيها يسوع الآن " كان المخلص في هذا السكوت الرهيب المستوحش يعاني آلامًا نفسية مبرحة! آلامًا غير ما كان يعانيه من ألم الصلب وعاره! آلامًا لا تماثلها فواجع الحرب الضروس، ولا تحاكيها أهوال الطبيعة الثائرة! آلامًا ذاب في تنورها فؤاده الكبير كما يذوب الشمع أمام النار!. آلامًا سرية من يد الآب لا يدركها حنان أو ينطق بها لسان!" (32).. " صعد الابن على مذبح الجلجثة طوعًا.. وهناك ذبح الآب ابنه الوحيد حيًا..!! هل من يحكي للورى ماذا كان يجول في قلب الآب هناك..؟! هل نستطيع أن ندرك مشاعره في تلك الساعات الحزينة..؟! إن الملائكة لا تقدر أن تنظره فهي تغطي عيونها دائمًا بأجنحتها، فكيف للبشر أن يحدقوا فيه، وخاصة في هذا الموقف المذهل الرهيب..؟! وهل نستطيع أن ننظر إلى الشمس وهي في ملء قوتها؟.. فالشمس نور ونار، أما الصليب فقد فاق ضياءه ونيرانه كل الشموس..
إن البشرية مهما سُحقت وتألمت لن تدرك شيئًا من مشاعر الآب والابن معلق على الصليب.. وكأني بالآب كان يمسك بإحدى يديه سكين القضاء.. وباليد الأخرى يحوطه بكل الحب والحنان.. إن الرهبة تجتاحنا ونحن نحاول أن نستكشف قلب الآب الدامي.. فوق مذبح الجلجثة تمثلت أعظم وأعقد مشاهد التاريخ كله.. وتجسمت أسمى قمم الحب الدامي.. إن ذلك الصليب الجبار العظيم بما تمثل فيه من قيم وقمم سوف يعلو دائمًا شاهقًا فوق كل عقول البشر وقلوبهم" (33).
" وذلك الصليب البشري كان في حقيقته يرمز لصليب آخر، إلهي، سمرته عليه يد العدالة. كانت هناك أشواك من طراز آخر كلَّلت رأس يسوع، وسياط خفية رهيبة مزَّقت جسده، ومسامير أخرى غليظة مرعبة دقت في يديه ورجليه. كانت يد العدالة الإلهية خلف المسامير والأشواك والسياط، هي التي سحقت يسوع سحقًا. إنها نفس اليد التي طردت آدم الأول خارج جنة عدن أما آدم الثاني فقد أخذته يد العدالة إلى خارج أورشليم، رافعة إياه فوق الجلجثة.
كان يسوع يشعر بضربات ذلك السيف في الجلدات والأشواك والمسامير مما جعل آلامها رهيبة بلا حدود. آه نعم، لقد كان يسوع يحمل حقًا صليبًا آخر خفيفًا. آلامه ليست من هذا الدهر.. في تلك الساعات الحالكة جُعلِل يسوع خطية.. وسط الظلام وضع الرب عليه إثم جميعنا.. وانصبت عليه أهوال الدينونة.. {أما الرب فسرَّ بأن يسحقه بالحزن. أن جعل نفسه ذبيحة إثم} (أش 53: 10).. كان يسوع بصرخته هذه لا يعبر فقط عن قسوة آلامه بل ليعلن للعالم أجمع أن صليبه لم يكن مجرد صليب بشري أو جهنمي، إنما كان في حقيقته صليبًا إلهيًا آلامه تفوق كل أهوال الجحيم. هذه هي الحقيقة التي تميز صليب يسوع وبدونها ما كان إلاَّ مجرد صليب عادي لا يمكن أن يصنع الفداء" (34).
ولم يدرك لوسيفر بكل حكمته براءة المصلوب التي أدركها (بعد ألفي عام) مصطفى أمين في سجنه، لحظة أن وقف عصفور على فتحة زنزانته، فكتب يقول "لعل العصفور يطل في عينيَّ ليرى أعماقي، ليرى مسيحًا بلا خطية، مشنوقًا بلا جريمة، معلَّقًا على مقصلة بغير ذنب" (35).
وسُمع في الأفق صوت حمامة (معنى يونان في العبرية حمامة) تهدر: " لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار. فأحاط بي نهر. جازت فوقي جميع تيَّاراتك ولججك. فقلت قد طُردت من أمام عينيك..
قد اكتنفتني مياه إلى النفس أحاط بي غمر. التفَّ عشب البحر برأسي. نزلت في أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد" (يون 2: 3 - 6).
وتجاوبت قيثارة داود مع همسات الحمامة، فراحت ترتل بلسان المصلوب: " إلهي إلهي لماذا تركتني..
بعيدًا عن خلاصي عن كلام زفيري. إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب في الليل أدعو فلا هدوء لي. وأنت القدوس الجالس في تسبيحات إسرائيل..
أما أنا فدودة لا إنسان. عارٌ عند البشر ومُحتَقر الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون. يغفرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين: إتكل على الرب فلينجيه لينقذه لأنه سُرَّ به..
أحاطت بي ثيران كثيرة.. كالماء انسكبت. انفصلت كل عظامي. صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي.." (مز 22: 1 - 14)
وتنهد يوحنا قائلًا: حقًا قال أشعياء النبي " أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن. أن جعل نفسه ذبيحة إثم" (أش 53: 10).
وسُمع صوت يسوع على تل الجمجمة يقول: أنا عطشان.
فتقدم أحد الجنود الرومان وغمس اسفنجة في إناء كان به خلًا ووضعها على عصا وقرَّبها إلى شفتيه الملتهبتان بنار العذاب.
وبأسلوب بليغ عبّر داود عن عطش يسوع: "انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد.. وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 20، 21).. لأنه "يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلى تراب الموت تضعني" (مز 22: 15)0
لقد عطش يسوع نتيجة لما تعرض له من عذابات وجراحات ونزيف.. عطش نتيجة العرق الغزير الذي تصبَّب من جسده المنهك.. عطش نتيجة محاولاته العنيفة للحصول على نسمة حياة.. عطش حتى جفَّ ريقه ويبس لسانه.. قد يبست سوسنة الأودية، وهوذا نرجس شارون قد ذبل..
عندما عطش شمشون أعطاه الرب ماءًا ليشرب من لحيوعندما عطش بنوا إسرائيل فجَّر الله لهم ماءًا من صخرة صماء. أما يسوع عندما عطش على الصليب فلم يجد قطرة ماء.. " كان العطش أمرًا طبيعيًا لمن يُصلب حيث يفقد الجسم الكثير من الماء بسبب العرق والجراحات. لم يشكو مسيحنا كل آلام الجلد وإكليل الشوك والمسامير لكن الشكوى الوحيدة التي نطق بها هي أنه عطشان" (36).
ونحو الساعة الثالثة بعد الظهر أعلن يسوع إتمام رسالته قائلًا: قد أُكمل..
قد أُكمل إثم اليهود والرومان.. نفدت السهام كل السهام التي في جعبتهم، وأي شيء آخر كان يمكن أن يفعلوه ولم يفعلوا..؟! لا شيء..
ألم يكبلوه بالأغلال كلص وقادوه في ست محاكمات ظالمة؟!
ألم يكيلوا له الضربات واللطمات واللكمات وقد نفضوا البصاق في وجهه؟!
ألم يهتفوا ضده واستهزءوا به وسخروا منه؟!
ألم يجلدوه بالسياط ويكلّلوه بالأشواك؟!
ألم يعلقوه بين لصين وفي عطشه بخلوا عليه بقليل من الماء؟!
حقًا لقد كملت كل نبؤات الأنبياء عنه..
قد أُكمل فداء البشرية.. نال العدل الإلهي حقه تمامًا من يسوع الذبيح، فاشتمه أبوه الصالح وقت مساء الخطية والظلمة على الجلجثة.. حقًا لقد أعطى يسوع محبته اللانهائية للبشرية.
قد أُكمل الخلاص من الخطية.. الخطية التي سادت العالم، ولم تقدر مياه الطوفان أن تغرقها، أو نيران سدوم وعمورة أن تحرقها، وحتى لما فتحت الأرض فاها لم تقدر أن تبتلعها، بل عاشت الخطية ونمت وترعرعت، حتى رَفعتْ الذي بلا خطية على خشبة الخطية والعار.
وفي الساعة الثالثة بعد الظهر صرخ يسوع بصوت عظيم..
فقال نيقوديموس: عجبًا.. من أين لهذا المصلوب المُنهَك بهذا الصوت العظيم لو لم يكن هو رب القوة..؟! أترى هذه صرخة النصرة على الموت الذي دوَّخ البشرية ردحًا من الزمن هذا مقداره؟!!
صرخ يسوع بصوت عظيم: يا أبتاه في يديك أستودع روحي..
قال يوسف الرامي: يا أبتاه.. إنها أول كلمة تنطق بها يا يسوع من على صليبك عندما أعلنت مغفرتك لجلاديك، وآخر كلمة تنطق بها أيضًا..
أليس من أجل قولك إنك ابن الله كان كل هذا؟! أفما تزال تصر بأن الله هو أبيك..؟!
حقًا إنك ابن الله، وما يجري الآن، ولا نقدر أن نفهمه الآن، لابد إننا سندركه فيما بعد.
وأمال يسوع رأسه وأسلم الروح..
وقال يوحنا: عجبًا.. كل إنسان يسلم الروح ثم ينكس رأسه. أما أنت يا يسوع فقد أملت رأسك أولًا ثم أسلمت الروح.. إنك تعلن أنك صاحب سلطان.. حقًا ما قلته لنا يا يسوع " لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا".. الآن وقعت حبة الحنطة على الأرض وماتت، فلابد أن تأتي بثمر كثير..
أمال يسوع برأسه.. تعبيرًا عن ثقل خطايانا التي حملها بإرادته، والتي سبق وعبر عنها داود النبي "آثامي قد طمت فوق رأسي. كحمل ثقيل أثقل مما أحتمل" (مز 38: 4).. " لأن شرورًا لا تحصى قد اكتنفتني. حاقت بي آثامي ولا أستطيع أن أبصر" (مز 40: 12).
وأسلم الروح.. كيف؟.. كيف تموت الحياة؟!
هذا مستحيل.. نعم مستحيل.. إذًا يسوع لم يمت؟!
لا.. بل مات.. كيف؟
الروح البشرية انفصلت عن الجسد البشري. أما لاهوتك يا يسوع فلم يفارق أحدهما لحظة واحدة ولا طرفة عين..
لذلك نعلن بملء الفم إن الله مات عنا..
البريء القدوس مات عني أنا المجرم الأثيم..
ولماذا تتعجب يا صديقي ألم تسمع عن أم تضحي بنفسها لتنقذ طفلها من النار؟!
أولم تسمع عن أب يضحي بنفسه لينقذ ابنه من وحش مفترس؟!
أولم تسمع عن شاب في عنفوان شبابه يموت غرقًا لينقذ شخصًا آخر؟!
أولم تسمع عن ضابط من قوات الإطفاء يموت مختنقًا أو محترقًا لكيما ينقذ الآخرين؟!
أولم تسمع عن جندي يبذل نفسه من أجل حياة الآخرين؟!

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:41 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
المعركة الرهيبة

ونحو الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الجمعة تجمع الآلاف بالهيكل، كلٍ يحمل حَمَلَهُ ذو الربيع الواحد من عمره ليذبحه، فذبح الفصح لابد أن يتم في فناء الهيكل " لا يحلُّ لك أن تذبح الفصح في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك. بل في المكان الذي يختاره الرب إلهك ليحل اسمه فيه. هناك تذبح الفصح" (تث 16: 5، 6).. ولم يدرك كل هؤلاء إنه لم تعد هناك حاجة لسفك كل هذه الدماء بعد أن سفك يسوع دمه الإلهي على عود الصليب.
وعودة إلى السويعات التي سبقت تسليم يسوع لروحه الطاهرة، وقد أحاط بالصليب لوسيفر وآلاف من ملائكته الساقطين، حتى غطت قوات الظلمة جبل الجلجثة بكثافة كبيرة، في تناغم مع سلطان الظلمة الذي سيطر على وجه الأرض.. تجمَّعت قوات سطانائيل حول مأدبة الصليب، تُمني نفسها بالوجبة الشهية، وتستعد للحظات النصرة على يسوع الناصري.. صوت جلبة وضوضاء.. صوت ضحكات وقهقهات تدوي بين الشياطين، فتجلجل المكان وتهز الأركان.. رقصات سريعة مع موسيقى شيطانية مزعجة تصم الأذان، وراح لوسيفر يزهو أمام جيوشه ويستعرض عضلاته.. إنها اللحظات الأخيرة من الصراع الدائر منذ أكثر من ثلاثين عامًا بينه وبين ابن الإنسان، وأخذ لوسيفر يسخر من ذاك المُقيَّد بالمسامير، عريانًا على خشبة العار: ألم تقل يومًا: " رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء".. وها نحن قائمون أمامك.. أرنا ماذا تقدر أن تفعل..؟! ألم تقل منذ أيام " الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا".. هوذا أنا هنا يا يسوع.. ومن يجرؤ أن يطرحني خارجًا؟!
هذا جانب من الصورة. أما الجانب الآخر فهو ربكة لوسيفر وجنوده، عندما سمعوا المصلوب يَعدْ ديماس بالفردوس.. إنهم يتساءلون ويندهشون: كيف يمكن لهذا المصلوب الذي لا حول له ولا قوة أن يفتح باب الفردوس المُغلَق منذ آلاف السنين..؟!
أتراه كاذبًا..؟! لكننا لم نتعود الكذب منه قط..
أتراه صادقًا..؟! إذًا كيف يكون هذا؟!..
ومن أين جاءت الملائكة التي أحفَّت بديماس منذ أن تلقى الوعد بالفردوس؟!
ثم ما هذه الظلمة التي عمت أرجاء الأرض؟!..إنها ليست كسوفًا..
وعندما صرخ يسوع بصوت عظيم.. صرخ لوسيفر: من أين لهذا المصلوب بهذا الصوت العظيم وهذه القوة الخارقة؟!
صرخ يسوع بصوت عظيم: يا أبتاه في يديك أستودع روحي.
فشب داود النبي على أخمص قدميه يستطلع أسرار العالم الآخر وهتف صارخًا: " اخرجني من الشبكة التي خبأوها لي. لأنك أنت حصني. في يديك أستودع روحي" (مز 31: 4، 5).
أما لوسيفر فقد هاج وماج يركض كالمجنون هنا وهناك حول المصلوب.. لوسيفر المشتكي يقف يشتكي.. لوسيفر المحتج رفع صوته محتجًا: كيف..؟! كيف يُسلم روحه في يد الله؟!
ألا يعلم إن مستودع جميع الأرواح هو جحيمي؟!
ألا يدرك إنني صاحب الحق في هذه الروح البشرية، ولا أحد يقدر أن يأخذها مني؟!
وشعر لوسيفر بقشعريرة تسري في روحه، ولكنه تشجع وجمع أشتات نفسه المبعثرة، وقوته الخائرة، وقواته الجبانة، وهجم على المصلوب في شراسة ما بعدها شراسة، معلنًا عن منظره المرعب الذي اعتاد أن يظهر به لكل من تأتي ساعته فيجف دمه ويقتنص روحه ويزفها إلى جحيمه..
وأظهر لوسيفر شكله المرعب للمصلوب أكثر من أي شكل آخر ظهر به من قبل.. إنه يحمل في أحشائه غل السنين وحقد الأيام على ذاك المصلوب..
وفجأة وكأنه صُدم بتيار كهربائي تبلغ قوته آلاف آلاف الفولتات..
إنه في مواجهة أمام قوة اللاهوت..
الصدمة أسكرته فترنح، واستدار ليركب أجنحة الريح ويهرب ويفوز بالنجاة.. ولكن إلى أين يا لوسيفر..؟!
إنك تقف أمام ضابط الكل الذي السماء والأرض والهاوية في يده.. وأُسقط في يده..
لقد ضُبط متلبسًا بجريمتين:
الأولى: تحريض اليهود والرومان على سفك دم ذكي برئ.

الثانية: التعدي على العزة الإلهية.
وقبض الإله المصلوب على لوسيفر، وجرده من سلطانه على أبناء الله، وقيده لكيما يصير هزءًا وسخرية للسنين والأيام، فيسخر منه شاب مثل مارجرجس، أو صبي صغير مثل أبانوب أو طفل مثل قرياقوس..
الآن ردَّ يسوع آدم الثاني الضربة القاضية التي وجهها الشيطان لآدم الأول..
بالأمس البعيد أغرى إبليس الإنسان بالثمرة المحرَّمة، حتى إصطاده وأدخله إلى حظيرة الموت، وأغلق عليه باب الجحيم.. أما الآن فما أروع منظرك أيها الإله المصلوب؟!
صليبك هو شجرة الحياة وأنت معلَّق عليها كثمرة شهية لذيذة، أسالت لعاب إبليس، فأسرع يمني نفسه باقتطافها وأكلها، وما أن ابتلع السنارة المغلَّفة بالجسد البشري، حتى صُدم بجمر اللاهوت فلم يحتمل، فانشقت أحشائه..
ونادى يسوع بصوت عظيم: هيا أيها الخراف الذين ابتلعهم الذئب على مدار آلاف السنين.. هيا إلى الحرية.. لا عبودية لإبليس بعد اليوم.. لا موت بعد اليوم.. بموتي ذبحتُ الموت الذي دوَّخ البشرية.
احتشدت ربوات ربوات الملائكة ورؤساء الملائكة، الشاروبيم والسيرافيم.. الكل يصرخ ويصيح: عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين. من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك لأنك وحدك قدوس..
اقتحم يسوع مملكة إبليس، وعندما لمحه بوابو الجحيم ارتعبوا وولوا مدبرين..
دخل يسوع إلى سجن الظلمة فأبرقت روحه بنور اللاهوت..
اهتزت أساسات الجحيم وصرخت النفوس البريئة متهللة: هوشعنا.. هوشعنا يا ابن داود.
وصرخ أيوب الصديق: ربي وإلهي بالأمس البعيد قلت لك " ليتك تواريني في الهاوية وتُخفيني إلى أن ينصرف غضبك وتُعيّن لي أجلًا فتذكرني" (أي 14: 13) أما الآن فقد جاء وقت الخلاص والنجاة..
وصاح إشعياء النبي: ربي وإلهي بالأمس البعيد قلتُ " لتُخرِج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة" (أش 42: 7) أما الآن فأقول " ترنمي أيتها السموات لأن الرب قد فعل. اهتفي يا أسافل الأرض. أشيدي أيتها الجبال ترنمًا الوعر وكل شجرة فيه. لأن الرب قد فدى يعقوب وفي إسرائيل تمجَّد" (أش 44: 23)..
ورفع هوشع النبي صوته متهللًا: ربي وإلهي بالأمس البعيد قلت لي " من يد الهاوية أفديهم من الموت أُخلصهم. أين أوباؤك يا موت؟! أي شوكتك يا هاوية؟!" (هو 13: 14) أما الآن فها قد نظرت عيناي فدائك على الصليب..
زكريا النبي بالأمس البعيد: سمعتك يا ربي وإلهي تقول " وأنتِ أيضًا فانّي بدم عهدكِ قد أطلقتُ أسراكِ من الجب الذي ليس فيه ماء. ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء" (زك 9: 11: 12).. وهوذا نحن الآن ننطلق من جب الجحيم..
بالأمس قال يسوع " كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولًا وحينئذ ينهب بيته" (مت 12: 29)
عجبًا.. اليدان المربوطتان بالمسامير ربطت القوي..
الذراعان المقيدتان بالمسامير قيدا لوسيفر..
الساعدان المسمران على الصليب قد سمرتا إبليس، وفضحته جهارًا نهارًا ظافرة به..
وصارت فرحة عظيمة، وانجذبت أرواح الأطهار نحو الفادي، فباركهم وأعلن لهم قرار العفو الأبدي مدموغًا بدمه الإلهي، ففرحوا فرحًا عظيمًا، وقادهم في موكب نصرته من أعماق الجحيم إلى الفردوس، فانفتحت أبواب الفردوس أمام المنتصر الجبار الذي سبي سبيًا وأعطى الناس كرامات، كما سجدت له الملائكة حراس الفردوس وانضموا للموكب، وهتفت قوات السماء حتى ارتجت السماء كلها فرحة بخلاص البشرية، وهكذا ملك إلهنا على خشبة، وأعلن ملكه الألفي الذي يستمر حتى مجيئه الثاني، حيث تعود كل هذه الأرواح من الفردوس، وتلبس أجسادها، وتُزف إلى ملكوت السموات.
وإذ حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل.. حجاب الهيكل هو ستارة سميكة في سمك راحة اليد، منسوجة بألوان رائعة.. اللون الأبيض علامة النقاء، والسماوي علامة السمو، والأرجواني علامة المُلك، والقرمزي بلون دم يسوع، وكانت هذه الستارة تفصل بين القدس حيث مذبح البخور ومائدة خبز الوجوه والمنارة الذهبية، وبين قدس الأقداس حيث تابوت العهد والغطاء والكاروبان المظللان عليه، وأمام هذا الحاجز تمتد سلسلة ذهبية تُحذّر ببريقها كل من يفكر أن يقتحم هذا المكان، ومن كان يجرؤ أن يخترق هذا الحجاب إلا رئيس الكهنة في يوم عيد الكفارة العظيم حاملًا دم الذبيحة على يديه..؟! كان هذا يحدث ورجله مربوطة بحبل لئلا يحدث له مكروهًا فيسحبونه إلى الخارج، لأن أحد لا يجرؤ على اقتحام الموقع.
أما الآن فهوذا رئيس الكهنة الحقيقي مُعلَّق على الصليب، وحالًا سيدخل ليس إلى قدس أقداس الهيكل الأرضي بل إلى قدس أقداس السماء بعينها، وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه، مقدمًا البشرية المفديَّة بالدم لله أبيه..
وجاء في التاريخ أنه " قبل خراب الهيكل سنة 70م بأربعين سنة (أي وقت صلب المسيح) انفتحت أبواب الهيكل من تلقاء ذاتها، حتى وبخ الحبر يوحنان بن زكاي قائلًا: أيها الهيكل.. أيها الهيكل.. لماذا تضطرب منزعجًا؟ أنا أعلم أن نهايتك وشيكة الحدوث. لقد تنبأ عنك زكريا بن عدو (زك 11: 1) حين قال: أفتح يا لبنان أبوابك لتلتهم النار أرزك" (37).
عاد حنان وقيافا مع جمهور الكهنة واللاويين إلى الهيكل للاحتفال بعيد الفصح، وإذ بالكارثة في انتظارهموعندما رآوا حجاب الهيكل قد انشق لطموا الوجوه وصرخوا صرخات مرة، فقد صار كهنوتهم كهنوتًا مزيفًا، وعلى الفور أدركوا أنه لم يعد لهم وجود على خشبة المسرح بعد، ففي وجود الحجاب وجودهم، وفي زواله زوالهم..
"هربت الشمس وغاب القمر واختفت النجوم، لكي لا ينيروا للمنافقين في وقت الصلبوت المقدَّس، وكان القمر كاملًا ولم يُنرْ، ولما غابت الشمس صار الكل في ظلمة، لكي لا ينظروا إلههم الذي خلقهم معلقًا على خشبة مثل لصٍ. مال النهار وخرج ملاك مختار من وسط الملائكة كلهم، وسيفه مشهور في يده، ليبيد المخلّين بسرعة، فلما منعته رحمة المسيح، ضرب الملاك حجاب الهيكل بسيفه فشقه إلى اثنين من أسفل إلى فوق، وكلا الملائكة ينظرون من السماء، وكلهم مُغضَبون، وقد منعتهم رحمة الآب وصبره" (38).
والأرض تزلزلت.. لأنها لم تحتمل الصليب المُعلَق عليه رب الطبيعة، فأرادت أن تهرب، ولكنها ضُبطت بكلمة المصلوب وتزلزلت لأنها خشيت أن تشرب الدم الإلهي البريء، وتزلزلت لأنها اشتهت أن تفتح فاها وتبتلع الأشرار، والمصلوب لم يسمح لها، وتزلزلت الأرض إذ رقصت طربًا بخلاص المفديين الذين ارتدوا أجسادًا من ثراها، بينما وقف عاموس النبي يتساءل متعجبًا: " أليس من أجل هذا ارتعدت الأرض؟" (عا 8: 8).
والصخور تشققت.. فقال أناس: يوم الأحد الماضي ارتجت المدينة لدخول المُعلّم إليها، وهتف الرجال والأطفال، مما أثار الفريسيون وطالبوه أن ينتهر تلاميذه فقال لهم "أقول لكم إنه إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ" (لو 19: 39).. والآن وقد كفَّ الهاتفون عن الهتاف، وارتفع صوت السخرية والاستهزاء، لم تحتمل هذه الحجارة، فنطقت ببراءة المصلوب.. إنها تشقَّقت عوضًا عن القلوب الحجرية التي لا تلين.
وأما قائد المئة والذين معه يحرسون يسوع فلما رأوا الزلزلة وما كانوا خافوا جدًا وقالوا حقًا كان هذا ابن الله.. عندما أبصر قائد المئة وجنوده الذين يحرسون يسوع ما كان من غضبة الطبيعة، أعلنوا إيمانهم بالمصلوب ابنًا لله، فمن أين عرف هؤلاء الرجال الغرباء عن رعوية إسرائيل إنه ابن الله..؟! لقد سمعوا عنه بأنه دعى نفسه ابن الله، فصدقوه. أما الطبيعة فقد سخرت بشيوخ اليهود ومشايعيهم، حتى إن كل الجموع لما أبصروا ما كان انسحبوا من موقع الأحداث وهم يقرعون صدورهم.
حقًا إن اليوم لرهيب.. لقد حلَّت دينونة العدل الإلهي على رأس الابن الحبيب الوحيد الجنس بسبب كل خطايا البشرية في كل زمان ومكان.. لم تحتمل الشمس بل انطفأت، ولم تحتمل الصخور بل تشققت، فكم وكم آلام هذه الدينونة التي جزت فيها يا حبيبي!!
" في ذلك اليوم العظيم يخيل إليَّ أن الجماهير أخذت تتقاطر من كل صوب خارج المحلة، لتلتف حول ذلك الحمل الوديع.. ثم أخذت تتسلق ربوة الجلجثة وهي زاحفة على ركبها بعيون دامعة وقلوب ممزقة..
وكأني بالأجراس كانت تدق بعنف في نغم حزين، فتشيع جوًا من الرهبة والجلال.." (39)
ثم إذ كان استعداد فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت لأن يوم ذلك السبت كان عظيمًا سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقانهم ويرفعوا.. أرسل رؤساء الكهنة رسولًا إلى بيلاطس البنطي ليأمر بكسر سيقان المصلوبين حتى لا تظل الأجساد معلَّقة على الصلبان في أيام الأعياد، وأسرع الرسول الخطى، ووافقه بيلاطس، فقد كان هذا الأمر قانونيًا يتمشى مع القانون الروماني كنوع من أنواع موت الرحمة، ومثله الطعن بالحربة.
وتقدم أحد الجنود الرومان، وفي يده بالطة مسنونة، وضرب ساقي ديماس، فأطلق صرخته المدوية، وصار معلقًا من يديه فقط، بينما انفجر الدم من ساقيه بغزارة، وبهذا تأكد الواقفون أنه خلال ساعة على أكثر تقدير سيتوقف هذا القلب عن النبض بالحياة.
وجاء الرجل إلى يسوع فوجده قد مات فتغاضى عن كسر ساقيه، وتقدم إلى أماخوس ففعل معه كما فعل مع ديماس، ولكن أماخوس لم يكف عن الثرثرة، وكأنه يفضل هذه الحياة تحت وطأة هذا العذاب عن الموت.
وقال يوحنا: حقًا الآن تمت نبؤة داود النبي التي نطق بها من ألف عام " يحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر" (مز 34: 20).
وتقدم أحد الجنود ليتأكد أيضًا من موت يسوع، فأشهر حربته وتراجع للخلف وطعن جسد يسوع طعنة نجلاء تجاه القلب، وهو الخبير بالطعنات فطعنة منه تقتل حتمًا أي إنسان حي، واخترقت الحربة ضلوع يسوع ومزقت الغشاء البلوري وإحدى الرئتين، ففاض من جنبه دم وماء..
فتعجب الواقفون، وتذكر نيقوديموس نبؤات زكريا النبي " فينظرون إلى الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون في مرارة عليه كمن هو في مرارة على بكره" (زك 12: 10).. " ويكون في ذلك اليوم إنه لا يكون نور.. ويكون في ذلك اليوم أن مياهًا حيَّة تخرج من أورشليم نصفها إلى البحر الشرقي ونصفُها إلى البحر الغربي. في الصيف وفي الخريف تكون" (زك 14: 6، 8).
وقال يوسف الرامي: حقًا الآن تمت النبؤات " ثم أرجعني إلى مدخل البيت وإذ بمياه تخرج من تحت عتبة البيت نحو المشرق.. لأن مياهه خارجة من القدس" (حز 47: 1، 12).. " ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيرًا والتلال تفيض لبنًا وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماءًا ومن بيت الرب يخرج ينبوع ويسقي وادي السنط" (يؤ 3: 18) والسنط رمز للخطاة.
" طعن السيد المسيح بالحربة حتى قلبه إنما كان ذلك أشبه بنافذة تطل من خلالها النفس على أحشاء المسيح الداخلية أو قلبه، لترى فيض حبه الإلهي، أو لهيب الحب الفائق نحو البشرية. إنه النافذة المفتوحة التي من خلالها يمكن للمؤمن أن يلتقي بالله، ويرسل إليه مشاعر حبه. إنها نافذة القلب التي لا تُغلق قط أمام أي تائب. سمح الله للجندي أن يضرب قلب السيد المسيح بالحربة لكي نرى في القلب الصخرة المضروبة لأجلنا (1 كو 10: 4) والينبوع الذي يفيض علينا (زك 13: 1) وآبار الخلاص التي حفرت من أجلنا (أش 12: 3) والنهر الذي يفيض بمجاريه يُفرح مدينة الله"

Mary Naeem 02 - 07 - 2014 03:43 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
جسارة الحب

وبعد انقضاء الساعة الثالثة بعد الظهر عادت الشمس تفرش أشعتها، ولكن كأنها فقدت بريقها ولمعانها، إذ غلب اللون الأحمر على هذه الأشعة وكأنها قد صارت مرآة لدم المصلوب. أما قرص الشمس المشتعل نارًا فأخذ يعلن غضب الله على ذاك الشعب الذي دعاه يومًا شعبه، وصنع من أجله المعجزات العظام وحمله على أجنحة النسور، وأتى به إلى هذه الأرض، وهو شعب جاحد عنيد صلب الرقبة، وبدأت الجموع الباقية على الجلجثة تسرع إلى المدينة لإقامة طقس الفصح.
أما حنان وقيافا فقد غطاهم الحزن العميق والخزي العظيم بسبب انشقاق حجاب الهيكل، فعلما أن الخراب أصبح وشيكًا، وسمع قيافا صوتًا داخله: قيافا.. قيافا.. لقد شقَّقتَ ثيابك بإرادتك، فشق الرب عنك كهنوتك، وهوذا قد انشق حجاب الهيكل مفخرتك ومفخرة كل شعبك.. وتوهَّم قيافا أنه صوت الرجيم، فأخذ يتمتم بالمزامير وهو يقول: ألم نفعل كل هذا محبة في يهوه وغيرة على مجده..
وقف يوسف ونيقوديموس متجاورين وأعينهما نحو المصلوب حتى بعد موته يريدان أن يستنطقانه، ويلحَّان عليه بالنظرات لكيما يكلمهما، أو ينزل عن الصليب ويعلن مجده.. كان يوسف رجلًا غنيًا شريفًا صاحب مشورة، وكان نيقوديموس رئيسًا لليهود، ومعنى اسمه النقي الدم أو الشريف الحسب، وكلاهما كان عضوًا في مجلس السنهدريم، وكلاهما لم يكن موافقًا على قتل يسوع، فكلاهما كان تلميذًا ليسوع في الخفاء، وكلاهما كان ينتظر ملكوت الله، ومحبة المصلوب قد ألفت بين قلبيهما، وإذ بيوسف يقول: إني ذاهب يا نيقوديموس.
نيقوديموس: إلى أين يا يوسف..؟! يخال إليَّ أنني سأظل واقفًا هكذا أمامه.. لا أريد أن أفارقه.
يوسف: سأذهب إلى بيلاطس، واستسمحه في جسد يسوع لأدفنه في قبري هذا الذي حفرته في الصخر، بدلًا من إلقائه في المقبرة العامة أو في وادي هنوم.. أليس هذا أقل ما يمكن عمله؟!
نيقوديموس: نعم.. نعم يا يوسف هذا أقل ما يمكن عمله، ولكنها ألا ترى أنها جسارة منك يا يوسف..؟! سيطردونك من مجلس السنهدريم، وربما في حركة هوجاء يعتدون على ممتلكاتك أو عليك شخصيًا..
يوسف: لست مستعدًا أن أُطرد من السنهدريم فقط، إنما صدقني إنني مستعد الآن أن أُصلب من أجله.
نيقوديموس: إذًا لتذهب يا يوسف. بل أنا سآتي معك، فلم أعد أخشى غضب رؤساء الكهنة ولا شيوخ إسرائيل.. لم أعد ألتفت إلى سخط الكتبة ولا الفريسيين.. لم أعد أهتم بعضويتي في السنهدريم.
ويبدو إن جسارة يوسف الرامي أشعلت نيران الغيرة في قلب نيقوديموس، الذي جاء قبلًا إلى المعلم الصالح يستتر بظلام الليل.
يوسف: إنها الفرصة الأخيرة يا نيقوديموس لنُعبّر عن محبتنا ونجاهر بإخلاصنا له، ما لم يمكننا عمله في حياته خشية الغضب الكهنوتي السنهدريمي يمكننا عمله الآن، وليكن ما يكن.
نيقوديموس: إن موته بعث الشجاعة في نفسي.. أريد أن أشهد على تعسف الرؤساء وشيوخ الشعب.. أريد أن أستهجن ظلم مجلس السنهدريم.
يوسف: الوقت مقصر يا نيقوديموس.. سأذهب أنا إلى بيلاطس، وأذهب أنت لتشتري الأكفان، فبعد قليل ستغلق جميع الحوانيت أبوابها.
لقد تحوَّل خوف يوسف إلى جسارة، وكذا اعترف نيقوديموس السري إلى مجاهرة علنية، وترك الاثنان معًا جبل الجلجثة إلى داخل المدينة، وترك يوسفنيقوديموس، ووقف نيقوديموس يشتري أكفانًا غالية من كتان نقي، وكمٌ وافرٌ من الحنوط مزيج من مّرٍ وعودٍ نحو مائة مَنًاْ (نحو 36 كجم) تكفي لتطييب مائتي رجلًا، فهذا كانوا يفعلون مع الملوك والعظماء، وكأني بنيقوديموس الذي يريد أن يحمل كل حنوط وأطياب العالم ليضمخ بها الجسد المقدَّس..
أما يوسف الذي لفته دوامة الأحداث فلم يدري أن العيد يدق الأبواب، والشعائر الدينية توجب عليه ذبح وأكل الفصح بعد ساعتين، ولم يدري يوسف أنه لا يجب دخول بيت بيلاطس الأممي لئلا يتنجس، وإذ به يقف أمام بيلاطس:
سيدي الوالي.. يسوع صُلب ومات وهو برئ.. أنتَ شهدت بهذا، وشهادتك هي حق.. فهل تسمح لي أن أخذ جسده لأدفنه؟
بيلاطس: عجبًا يا يوسف.. كيف مات في هذه المدة الوجيزة؟!
وأيضًا تعجب بيلاطس من جسارة هذا العضو السنهدريمي الذي يضحي بمنصبه من أجل إنسان برئ قد ماتوهذا ما لم يقوى بيلاطس على فعله، فاكتسب يوسف احترام بيلاطس، وإذ بقائد المئة الذي كُلّف بعملية الصلب عاد على التو من الجلجثة، فدعاه بيلاطس وسأله: أحقًا مات ملك اليهود؟ وهل له زمان منذ أن مات؟!
قائد المئة: مات في بداية الساعة التاسعة (3 ب. ظ) ولهذا لم تكن هناك ثمة ضرورة لكسر ساقيه، غير إن أحد جنودي طعنه بحربته فلم يرتعش الجسد لأنه كان قد مات.
وتمتم قائد المئة بكلمات خفيفة " مات.. مات ابن الله " وسمع بيلاطس كلماته وصمت، فكيف يحتج على من شهدت الطبيعة لبراءته؟!
وتمتم بيلاطس: عجبًا.. أبهذه السرعة.. اذهب يا يوسف وادفنه بإكرام عظيم..
ورغم إن الولاة عادة يتلقون رشوة من أجل تسليم ذوي المصلوب جثة المصلوب، فإن بيلاطس وافق بسهولة على تسليم جسد يسوع ليوسف بدون مقابل، لعله يريح ضميرًا مثقلًا بجريمة قتل إنسان برئ صلبًا.
والتقط يوسف تصريح بيلاطس، فشكره وعاد إلى المصلوب، وكان الوقت قد جاوز منتصف الخامسة بعد الظهر. كل شيء يبدو ساكنًا.. سكت أنين المصلوبين، لأن الحياة سكتت فيهم، ولم يعد أمام المصلوب سوى يوحنا والأم الثكلى وبعض النسوة، وقد خيمَّ الهدوء على جبل الجلجثة حتى يخيل للمرء أن كل شيء قد مات..
وجاء نيقوديموس حاملًا على ظهره صرة بها الأكفان والحنوط.

واحتضن الرجال الصليب، ورفعوه بهدوء، وأمالوه حتى وسدوه الأرض بمنتهى الهدوء والحرص والحب، وليس كالجلادين عديمي الرحمة الذي رفعوه وهم لا يبالون بما تحدثه الاهتزازات لجسد حي مثبت بثلاثة مسامير من آلام تفوق الوصف، ونزعوا المسامير، ولم تتمالك الأم نفسها فأسرعت باحتضان وحيدها، والنسوة يحطن به، والمجدلية لا تكف عن تقبيل قدميه.. إنها لقطة للتاريخ.
وحمل الرجال الجسد إلى القبر الذي حُفر في الصخر أفقيًا ولم يُحفر رأسيًا لأسفل، وملحق بالقبر غرفة خاصة لتجهيز الميت " لم يكن الأغنياء فقط وحدهم هم الذين يملكون قبورًا خاصة، بل كان متوسطو الحال يفعلون ذلك، وكانوا يُجهزون القبر قبل الحاجة إليه بوقت طويل، وكانوا يحفرون القبور في الصخور ويضعون فيها الجسد بعد تعطيره بالأطياب والحنوط وماء الورد وزيته، وكانوا يلفُّون الجسد بالأكفان في أقمشة قديمة تكون غالبًا قد سبق أن لُفت بها كتب الشريعة، وكانت القبور أحيانًا كهوفًا طبيعية" (41).
حملوا الجسد ووضعوه على المغسل، ولكن الوقت لا يسمح بجلب الماء وتغسيل الجسد، ولاسيما إن الشمس قد أوشكت على المغيب، ففردوا الأكفان ووضعوا الحنوط، وكان المرُّ يستخدم لدى قدماء المصريين كأحد مواد التحنيط، والعود له رائحة نفاذة تظل عالقة بالجسد لمدة طويلة.. المر هو المادة الراتنجية المستخرجة من ساق شجرة "الكومّيفورامولمول" التي تنمو في شبه الجزيرة العربية، والعود مستخرج من شجرة تدعى شجرة الفردوس تنمو في المنطقة الاستوائية بأسيا.. " كرسيك ياالله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك. كل ثيابك مرٌ وعودٌ وسليخة (قرفة)" (مز 45: 6 - 8)
وضعوا الجسد ولفوه بالأكفان بحسب الطقس اليهودي، فلم تُلَف الأكفان بالعرض كما كانت تُلَف المومياء المصرية، إنما لُفت الأكفان ممتدة من الرأس إلى القدمين، وثنيت من القدمين حتى الرأس، وقد تضمح الجسد المخضب بالدماء بمزيج المر والعود.
وحملوه إلى القبر، ووضعوا منديلًا على الرأس والوجه، وهكذا قُبِر يسوع في قبرٍ جديدٍ لم يوضع فيه أحد من قبل، والقبر في بستان وليس في المنطقة قبور أخرى، حتى متى قام لا ينسبون قيامته إلى شخص آخر.
وتعاون الرجال في دحرجة الحجر الضخم على فم القبر، بينما وقفت المريمات وبعض النسوة اللاتي تبعنه من الجليل تجاه القبر ينظرن أين وضع، ولم يدر بخلد أحد قط أن يسوع الذي وسَّدوه القبر لن يمر عليه اليوم الثالث حتى يقوم بمجد عظيم يعلن نصرته على الموت والشيطان والخطية..
وأيضًا لم يدر بخلد أحد منهم أن الحجر الذي دحرجوه بصعوبة على فم القبر سيدحرجه ملاك القيامة بسهولة عن فم القبر، ليعلن قيامة مخلص العالم..
ولم يدري نيقوديموس أن الحنوط التي اشتراها ستظل آلاف السنين وحتى المجيء الثاني من خلال زيت الميرون المقدَّس " لأننا رائحة المسيح الذكيَّة لله" (2 كو 2: 15).
ولم يدرَ نيقوديموس أيضًا أن قماش الكفن الذي اشتراه سيصبح يومًا مثار إعجاب العالم كله، يوم أن يجتمع علماء القرن العشرين ليثبتوا أنه ليس بكفن المسيح، وإذ بمئات التجارب التي يجرونها تؤكد أنه هو هو الكفن المقدَّس..
ولم يدرَ يوسف الرامي أن قبره الذي تنازل عنه لمعلمه الصالح سيصير أشهر قبر في تاريخ البشرية، لأنه القبر الوحيد الذي لا يحتوي في جوفه عظام أموات، بل تفوح منه رائحة الحياة، وستظل أنوار القيامة تفج منه عامًا بعد عام حتى يتسلم العريس كنيسته العروس..
وطوبى لمن له نصيب في حفل عشاء الخروف، ولعلك تذكرني يا صديقي في صلواتك..
اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك.. دير الأنبا بيشوي العامر
بوادي النطرون
السبت الكبير 2004م. - 1700 ش.

akmalfad 03 - 04 - 2018 12:18 AM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 
ربنا يعوضكم

Mary Naeem 03 - 04 - 2018 03:14 PM

رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
 

شكرا على المرور


الساعة الآن 06:18 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025