![]() |
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي المُضطّهِد الأصولي النزعة يكتب الدكتور مراد وهبه: “إنّ الأصوليّة أيًّا كانت سمتها الدينيّة.. تمزج المطلق بالنسبي والحقيقة الأبديّة بالحقيقة العابرة، وبذلك تدافع عن حقيقة لاهوتيّة ماضويّة، وكأنّها رسالة أبديّة موجّهة ضدّ حقيقة لاهوتيّة راهنة، فتعجز عن التعامل مع الوضع الراهن، ليس لأنّها مجاوزة لهذا الوضع ولكن لأنّها تتحدّث عن وضع ماضوي فتمنح مصداقيّة أبديّة لرؤية نسبيّة. وفي هذا السياق تصبح الأصوليّة مُمهِّدة لما أسمّيه: صراع المطلقات.. إنّ الحوار يفترض التسامح، أي يفترض مشروعيّة الرأي المخالف. فإذا ارتقى الرأي والرأي المخالف إلى مستوى المطلق، تحوّل الحوار إلى نقيضه، أي إلى صراع، لأنّ المطلق بحكم طبيعته لا يقبل التعدديّة.”(1) لقد حلَّل القديس بولس حالته قبل التحوُّل للمسيح قائلاً:
إنّ “مفتريًّا” (1تي1: 13) جاءت في اليونانيّة ὑβριστήν والتي تعني العنيف المتغطرس؛ فالمُضطهِد شخصٌ تحركه ثلاثة عوامل، هي: الفهم الخاطئ، العنف الكامن غير المُهذَّب، الكبرياء. هي سلسلة متشابكة. فالفهم الخاطئ القائم على التمييز الإنساني إلى أعداء وأتباع حسب المعتقد يولِّد كبرياء قَبَلي/ عرقي/ ديني، يفرَّغ من خلال العنف اللَّفظي أو البدني. فشاول، بجهلٍ، تلقَّى تعليمه بالأفضليّة اليهوديّة عرقيًّا وأنّ الأمم كلابٌ وأنجاسٌ، ومن ثمّ يكون المتحوِّل عن ديانة الآباء من اليهود على قائمة الشيطان نفسه!! التي يجب أن يُطهِّر الأرض منها ليعيد المجد إلى شعب إسرائيل. هنا يَظْهر بُعدٌ هام في التعليم الخاطئ وهو الاستدلال بالتاريخ والتقوقع في التاريخ مع إخلائه من سياقه ليبقى أحداثُا متناثرة تخدم فكر أصولي مُدعَّم بنصوصٍ انتقائيّة لتأمين النفس ضدّ الضمير. وهنا يلعب القادة الأصوليين على حسّ النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) nostalgia الكامن في النفس الإنسانيّة والمتولِّد من كثرة الحديث عن أمجاد الماضي الغرّاء ولوائه المرفرف بعزِّة على تلِّة التاريخ!!! لقد كتب أديب مصلح في هذا السياق قائلاً: “من يحبّ الله حقًّا ويعبده، في الحقّ، يتّصف بالرقّة والوداعة. ولكن مَنْ يحبّ نفسه، تحت غطاء الدين، هو دائمًا حادٌّ وعنيفٌ.. معظم أعضاء الطبقة الدينيّة الحاكمة من صدّوقيّين وفرّيسيّين، كانوا قد شوّهوا الشريعة تشويهًا أعماهم، وانحطّ بهم إلى دركٍ سحيق، وأغلق دون الحقيقة نفوسهم، وأفعمها، حيال يسوع، بغضًا عنيدًا وعنفًا شرسًا. لقد صبّوا على يسوع اتهاماتهم، لا استنادًا على الشريعة نفسها، بل على تفسيرهم لها تفسيرًا مغرقًا في التفاهة والحمق، وقد تشبّثوا بتفسيرهم، وأعرضوا عن جوهر الشريعة وروحها. خضعوا لصغارات أفكارهم ونبذوا كلام الله”.(3) إنّ المُضطّهِد الأصولي (مَنْ يُخطِّط) كثيرًا ما يكون ممّن يمكن أن نسمّيهم “المتفوّقين” في النصوص الدينيّة؛ «وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي». إنّه يجد ذاته في ذاك المضمار إذ يركض ولا يجد من يباريه في القدرة على التحليل والتأويل والاستيعاب لما يتلقّنه تحت المظلّة الظلاميّة التقليدّية التي صنعها بشرٍ لم يتمرّسوا على حياة التقوى ولم يُقدّروا قيمة الإنسانيّة وأهميّة التعددّية في المجتمع. التقليد الذي تربّى عليه شاول بل وبرع فيه على يدّ غمالائيل، كان تفسير وتأويل النصوص الكتابيّة حرفيًّا وسن شرائع وقوانين وعقوبات من خلال ذلك التأويل الوضعي. لذا نجد أنّ النصّ المعني بدفع الإنسان باطنيًّا ومن ثمّ خارجيًّا إلى الله، تحوّل إلى قوانين تنظيميّة خارجيّة ردعيّة للحفاظ على بنية مجتمعيّة ذات صبغة دينيّة!!! من تلك النقطة يبدأ التداخل بين سلطة النصّ على قلب الإنسان داخليًّا، وسلطة القانون الوضعي على بدنه خارجيًّا، وتتحوّل الدولة إلى مؤسّسة ذات مرجعيّة دينيّة بطلب المجتمع عينه لأنّه لا يدري مدار النصّ الكتابي، ومدار القانون الوضعي، وهنا يختار المجتمع (بجهلٍ) القانون ذو الصبغة الدينيّة إذ يرى أنّه السبيل الأوحد إلى إرضاء الله!!! لقد «صَنَعَ بَعْضُ الْيَهُودِ اتِّفَاقاً وَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَقْتُلُوا بُولُسَ» (أع 23: 12). كانوا يظنون أنّهم بذلك «يُقدّمون خدمة لله»، بحسب كلمات المسيح. كان ذلك الاتّفاق تحت مظلّة الغيرة الدينيّة فكان مريحًا للضمير. إنّ أيّة ديانة عنفيّة هي انحراف عن مفهوم الديانة عينه. إلاّ أنّ العنف المستتر في الدين أسهل لأنّه يُخدِّر الضمير الإنساني ضدّ أيّة ممارسات لاإنسانيّة لإيذاء الآخر. لذا كان المسيح، ومنه تلقَّى إستفانوس الشهيد الخيط ومن بعده القديس بولس ومن بعدهم الكنيسة، يُحاول شرح الإيمان كاكتمال للمسيرة الإيمانيّة لشعب الله. كان يستدلّ بحياة الشعب العبراني عينه ليؤكِّد أنّ الإيمان به مُخلِّصًا هو لحظة كامنة مستترة في قلب النبوّة وفي سياق الدفع الإلهي لشعبه في العهد القديم. لقد جاهد كلّ الآباء بدءًا بالرسل أن يشرحوا الإيمان كانفتاح على الآخر وإن كان أمميًّا وحبّ للآخر وإن كان عدوًّا إلاّ أنّ قوى الانغلاق كانت تقوِّض كلّ دعاوى الانفتاح الإيماني وتلقي بها في مستنقع الأصوليّة الدينيّة والتمايز العرقي لإرضاء كبرياء ذاتي أو للبقاء في حلم مجتمعي يرسِّخ من نفوذهم ومصالحهم وأعمالهم في تلك البلاد. إنّ الإشكاليّة اليهوديّة أنّها تحوّلت إلى ديانة دوجماطيقيّة (قائمة على نصّ مدوّن هو عينه العقيدة)، أي تستند إلى عقائد مكتوبة دون الإيمان بنسبيّة العقيدة المُصاغة في لغة البشر، ومرحليّتها، وبالأخصّ أنّ الإيمان اليهودي قائم بالأساس على انتظار المسيّا، أي أنّه إيمان يترقّب المستقبل للاكتمال. ولكنّها تحوّلت إلى قوقعة صلبة ترفض مياه جدّة الحياة، وإن كانت كلمات المسيّا عينه، مَنْ ينتظرونه. قد يكون ذلك لأنّ الإسخاطولوجيّة (الأخرويّة) اليهوديّة تتوقّف بامتلاك الأرض وعودة شعب الله لحلم كنعان الموعودة. إذًا فهي إسخاطولوجيّة زمنيّة فقط!!! الإيمان المسيحي، في المقابل قائم على شخص المسيح؛ الله الكلمة، ومنه يستمد المسيحي، كلّ يوم تحديدًا جديدًا عمليًّا اختباريًّا لمفهوم الإيمان (وليس العقيدة الثابتة على مرّ الأجيال) وتطبيقه، والنصّ المسيحي المُكوِّن للدوجما أشبه بحدود الطريق وضفّتي النهر لئلا تنحرف المسيرة وتتبعثر المياه. لذا فالإيمان المسيحي هو إيمان منفتح لأنّه يقف مترقّب الإعلان الإلهي اليومي. إنّ الإسخاطولوجيّة في إيماننا المسيحي منفتحة بانفتاح الأبد لأنّها قائمة على الاتّحاد بالله الأبدي. بل ويمكن القول أنّها إسخاطولوجيّة ديناميّة لا تتوقّف عند أيّة مرحلة زمنيّة، مهما كانت زاخرة بتحقُّق الوعود لأنّ الوعد الإلهي هو الملكوت اللاّزمني. إنّ الديانة القائمة على الدوجما تتوهّم امتلاكها الحقّ كاملاً، في نصّ الدوجما، ومن ثمّ فإنّ أي تأويل نصّي مرفوض لأنّه يخرج عن سياق الحقّ عينه!!! وهنا تبرز إشكاليّة استنفاذ الحقّ؛ فالحقّ المُحدّد بكلمات وقوانين يبقَى حقًّا عقيمًا لأنّه لا يمكنه التُجدّد مع تحديّات العصر. لذا فإنّ امتلاك الحقّ يعني أنّه لم يكن يومًا حقًّا لأنّه صار أسير عقلٍ وحرفٍ وقانونٍ.. صار سجين لُّغةٍ وأرضٍ وزمانٍ!!! لذا لم يكتب المسيح دوجما بالمفهوم الحرفي. بل قاوم الحرف لحساب الروح. جاء مُخلِّصًا، وأعلن حبًّا، وأشار للملكوت، ورسم خريطته بالفضائل. كلّ مَنْ قبله بالموت والقيامة (المعموديّة) دخل دائرة الحقّ لأنّه صار عضوًا في جسد الحقّ، إذ قال الربّ يسوع: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو14: 6). ومَنْ دخل دائرة الحقّ يتلقّن كلّ يوم الحقّ، خبرةً ووعيًا وتلامسًا، والحقّ لا يُستنْفَذ، إذ أنّه مطلق لأنّه الله عينه. إنّه أشبه بمياه يمكنها أن تأخذ شكل أيّة آنية وتتلوّن بأي لونٍ دون أن تتغيّر خصائصها، وبالرغم من ذلك فإنّ ظاهرها تغيّر بتغيُّر الإناء واللُّون. هكذا الحقّ يمكنه أن ينسكب في أي زمنٍ وبأيّة لُّغة وتحت أيّة مظلّة ثقافيّة.. هو هو الحقّ عينه دونما تغيير. هذا هو نمط المسيح في إعلان الحقّ وهذا هو جوهره الذي طالما نادى به بل وبكّت مَن تقيَّدوا بقيود قشوره دون لبابه. الديانة القائمة على الدوجما تبحث عن حكم ثيوقراطي، تريد أن تُملِّك الدوجما على البشر على اختلاف تنوّعهم الإنساني والثقافي والزماني، تختزل التاريخ في نصوصٍ تمسحها ملكة على رقاب البشر!!! من هنا نفهم الأيدلوجيّة الصهيونيّة المعاصرة التي تتّخذ شعارًا لها: “كمال اليهود ووحدتهم من كمال أرض إسرائيل”. والأرض تعني الحُكم بالشريعة المنغلقة والموّجهة بتفسيرات عنصريّة خطّها الرابيون عبر العصور تحت وطأة حلمهم بالعودة ونوال الميراث المفقود في كنعان. بينما المسيحيّة لا تريد حُكْمًا ولا تسعى إليه؛ إذ قال المسيح صراحة: «مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» (لو12: 14). وفي سياق آخر، قال: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ» (لو20: 25). ويضيف القديس لوقا أنّ مَنْ سمع هذا الكلام تعجّب منه؛ فمَنْ ذا الذي لا يطمح في مقارعة قيصر على سلطان الزمن؟؟ فقط المسيح وبنيه.. لا يجتمع يسوع مع قيصر تحت قبّة واحدة، إذ أوضح أنّ عمله هو غربلة قلوب البشر من زوان الخطيئة وإعدادها لقبول ملكوت الله، في سياق واقعهم الإنساني. فالمسيحي لا يُغيِّر العالم بالسلطة بل بالصلاة. أيُّ انحراف عن الباطن ومحاولة لدمج المسيح مع قيصر لا يُعبِّر عن المسيحيّة على الإطلاق بل وضدّ مسيرة الإنجيل. من هنا نفهم أنّ الشهادة هي في صميم واقعنا المسيحي وقناعتنا الإنجيليّة وتاريخنا الممتدّ. لأنّ المسيحي هو شخص لاثوري بمنطق السيف والحركات العُنْفيّة الدمويّة. ثورته يطلقها من مخدع الصلاة ونقاوة الحياة وإعلان الحقّ دون إراقة دماء. المسيحي يُسطِّر كلمات الحقّ بألمه لا بإيلام الآخرين، لذا فالحقّ المسيحي فعّال ومثمر لحياة أفضل. _____ الحواشي والمراجع :(1) الأصوليّة والعلمانيّة، الدكتور مراد وهبه، دار الثقافة، 1995، ص40 (2) تلك الكلمة وردت عند هوميروس كمصطلح حربي بمعني “تدمير وتخريب المدن”. Burton, Ernest De Witt. A Critical and Exegetical Commentary on the Epistle to the Galatians. New York: C. Scribner’s sons, 1920; 45 (3) أديب مصلح، يسوع في حياته، الجزء الأول (منشورات المكتبة البولسيّة: 2006)، 443 |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
ضدّ العالم وأنتم أيضًا إذا ما شُتمتم أو أُهنتم أو أُفتري عليكم وتَقبلتم اللّطمات، يجب أن تفرحوا يقينًا في قلوبكم لأنّكم قد اقتنيتم أرباحًا كبيرة وضاعفتم مكاسبكم.. القديس مكاريوس الكبير (الرسالة الثالثة) أثناسيوس ضدّ العالم Athanasius contra mundum، مقولة شهيرة انتشرت عبر الآفاق عن القديس أثناسيوس، إزاء موقفه إبّان تصاعد حدّة المقاومة له شرقًا وغربًا. ولكن العبارة في حقيقتها تعبير عن حقيقة إنجيليّة بالأساس إذ تتناغم مع كلمات القديس بولس: “صُلِبتُ للعالم”. والعالم cosmos لا يعني هنا البشر فهم محبوبو الله، إذ يبقى دومًا مُحبًّا للبشر، كما ندعوه في صلواتنا. العالم يعني قيم الماديّة المُجرَّدة materialism، يعني قيود السلطة والمال والجنس التي يُجمِّل فيهم الشيطان ليحافظ على شبابهم في عقولنا وخيالنا، ومن ثمّ نظل رهن شباك قيم الاستهلاك العنكبوتيّة، يعني عبودّية الحسّ الذي يُفقد الإنسان القدرة أن يتّخذ قراره دونما ضغوط بإلحاح الشهوة، يعني رداء الظلمة الذي يُخيِّم على الجميع بظلِّه حتى يبقوا في ظلال الموت بعيدًا عن دفئ النور.. هذا هو العالم الذي علينا أن نبغضه. إجمالاً، هو العالم الساقط دون فداء المسيح. “لا تحبّوا العالم”، لعلّ تلك هي الدعوة الوحيدة للبُغضة!! فبُغضّة العالم يعني انفتاحنا على سرّ الحبّ الأبدي المُستعْلَن في المسيح. إنّ المسيحي يوم معموديّته، حينما يغطس في المياه، المُقدَّسة بالكلمة والصلاة، ويخرج، يُعْلِن للعالم أنّه منذ تلك اللّحظة ليس مِلْكًا للعالم، وأنّ تطلُّعاته المستقبليّة ليست كتطلّعات العالم؛ فالمستقبل عنده لم يعد يعني تحرُّك زمني إلى الأمام، بل تجاوز الزمن إلى الإسخاطولوجيا (الأخرويّة). في المعموديّة يجتاز المسيحي، الموت مع المسيح حينما يُغطَّس في المياه، وكأنّه يغرق!! ولكن يدَّ الكاهن التي تنتشله من المياه، تُعبِّر عن يدِّ الله التي تُنجّيه من الغرق ومن الموت، وتهبه حياة جديدة في المسيح القائم من الأموات. فالمعموديّة هي الإعلان العملي الذي يطلقه المسيحي للعالم أنّه قد مات عن الخطيئة وعن العالم المادّي، ليحيا للبرّ الذي في المسيح يسوع، أي ليحيا لملكوت السماوات، منذ تلك اللّحظة من الزمن. وهذا الفعل يُزعِج رئيس العالم كثيراً؛ فهو يريد أن يستولي على كلّ مخلوقٍ يطأ بقدميه أرض الحياة، في جسدٍ، يريد أن يُصيِّره ابنًا للشهوة والخطيئة والتراب والموت، يريد أن يُكبّله بقوى الماديّة الجاذبة للحاسّة الإنسانيّة غير المُهذّبة، بيد أنّ المعموديّة تُحرِّر الإنسان من بنوّة الشيطان المُزمِع أن يعلنها، ليصير آنذاك ابنًا للنور والبرّ والحياة والأبديّة. حينما يرى الشيطان ولادتنا من الله بالنعمة والتبنّي، ويلحظ أنّ أبصارنا لا يجتذبها بريق العالم المُنعكِس على مرآة الخطيئة، ويرى في المقابل، أعيننا مثبّته على رجاء وعد الحياة بتلك المدينة الباقية إلى الأبد؛ ملكوت النور والفرح والسلام، يبدأ في إشهار أسلحته في وجوهنا، في محاولات مستميتة لترويعنا وإرهابنا، حتى نترك الطريق الذى يعبر بنا إلى غايتنا؛ قدس الأقداس السمائي. لقد أعلن لنا المسيح صراحةً:
إنَّ قيام العالم ضدّ أولاد الله هو في حقيقته حربٌ ضروس يشنّها ضدّ الله ذاته، ضدّ فكرة انتصار الله في البشريّة رغم سقوطها القديم، ورغم انحصارها في جسدٍ ماديٍّ وزمنٍ ماديٍّ، تلك الحربّ بمثابة رد فعلٍ متواصل ومستمر على الهزيمة التي مُني بها رئيس العالم حينما دخل المسيح، متجسِّدًا، في عباءة العالم المادّي، ووطئ سلطان العالم يوم قام قاهرًا قوى الموت، ساخرًا بالزمن، مُبطلاً سريان الخطيئة، مُقيِّدًا الشيطان.. من تلك اللّحظة والعالم، كأداة للشيطان، يحاول أن ينال من المسيح في كنيسته، بإبعادهم عن الطريق تارةً وتزييف الحق أمامهم تارةً أخرى، وكذا بمحاولات حثيثة لإماتة وهج الحياة في قلوبهم. ما يزال يحاول أن يُخضِع الكنيسة لصولجانه المادِّي، مازال يهيِّئ لها سياط الضيقة إن أبت السجود، ويَنصِب لها الصلبان إن أشهرته جهارًا كظلمةٍ، بقوّة النور الكامنة فيها. جلّ مبتغاه أنْ تستسلم وتُحوِّل عينيها إليه عوضًا عن المسيح القائم، وتنتهج طرقه ووسائله، فتفقد قوّتها وقدرتها على الشهادة في الزمن وبين أروقة التاريخ. يريدها ألاّ تصير ملحًا منثورًا على كلّ غذاء إنساني، لئلا تصير شبعًا، يريدها أن تنزوي وتتقوقع وترهب إطلاق النور!!! هناك حقيقة علينا أن نتذكّرها على الدوام وهي أنَّ المسيح قد أُهين وضُرِبَ ولُطِمَ وشُتِمَ وجُرِحَ وصُلِبَ، بيد أنّ شُعلة الحياة التي جاء، ليُشعِل بها العالم، لم تنطفِئ ولم تخبو، بل مافتئت تلك الشعلة تتأجّج إذ بلغ لهبها عنان السماء، من فرط آلام المسيح المُحيية، بل وطال لهبها المحيي، الكنيسة، فتذوّقت الألم مع المُخلِّص وأحبّته لأنّها تبعت المُخلِّص، وصار صليبه هو افتخارُها، ترفعه فوق قباب الكنائس وتعانقه في صلواتها كعلامة نُصرةٍ، مستهينة بالعالم الذي وُضِع في الشرير والذي يتوعدها بالألم، كلما وقع بصره على صليبٍ مُنْتصبٍ. ألمنا الحقّ يكمن في مواجهتنا نار الضيقة بقطرات مجهودنا الإنساني الهشّ. ولكن إنْ طرقنا أبواب منابع النعمة، انفتحت، وفاضت مياه الحبّ والعون والسلام، لتُطفئ لهب الشيطان المرتعش. فما أجمل الألم لمن يغتسل في آبار النعمة الإلهيّة، لن تترك النيران آثارًا على روحه، ستنطفئ النيران وتنتصر الحياة. بل وسيخطو مسرعًا نحو النيران، وهي ستفرّ منه مهرولة إلى خلفٍ، فهي خدعة شبه الموت الذي لا يملك على مَنْ مَلَكهُ المسيح. “ضدّ العالم” ليست كراهية حاقدة على العالم ولكنّها موقف إيجابي من العالم، موقف من قيمه الأخلاقيّة حينما تتدنّى. إنّها حالة من يسيرون على الطريق الضيِّق الذي لن يتقاطع قط مع الطريق الرحب. “ضدّ العالم” تعني خيارًا للجميع بأن يعيد قراءة واقعه ليبحث هل ينعم بحريّة حَقّة أم عبوديّة مُقنّعة، ويبقى الخيار مفتوحًا وتبقى الدعوة قائمة من المسيح: إلى أي فريق تنتمي، مع أم ضدّ.. الإجابة قد تعني أبديّة ضدّ المسيح، وقد تعني أبديّة مع المسيح في شركة الثالوث.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
هويّتنا المسيحيّة على المحك.. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض (يو13: 35) إحدى الإشكاليات التي تواجهنا الآن هي إشكالية الهويّة المسيحيّة؛ فالحراك المجتمعي يفرز تحديات للوجود المسيحي ويفتح السبيل للعديد من الخيارات. ولعلّ مشكلة هويتنا المسيحيّة تظهر مع ظهور أصوات مسيحيّة جهورة مطالبة بالحقوق لأوّل مرّة بعد فترة صمت طويلة صنعتها نُظُم وتوازنات ومصالح ومخاوف.. إلخ. إنّ الهويّة المسيحيّة تستند على قواعد أساسيّة لا يمكن إعادة صياغتها.. قواعد من الحب الباذل والغفران الصادق والانفتاح الكامل. لقد أصبحت تلك القيم المسيحيّة في خطر الآن إذ يرى البعض أنّها تعادل الخنوع والخوف والجبن والموائمات السياسيّة. ولعلّ البعض يريد (بوعي أو بدون وعي) أن يقايض الهويّة المسيحيّة بالحقوق المسيحيّة؛ فلا يجدون غضاضة في استخدام العنف أو الإيذاء اللّفظي أو البدني أو التجريح أو رفض الآخر ومعاداته من أجل الحصول على بعض الحقوق!! إنّها مقايضّة المسيح بالعالم!!! وانطلاق من مبدأ المصلحة الحقوقيّة لا ملكوت الله. وهنا يخرج البعض بالسؤال: وهل المطالبة بالحقوق ضدّ الهويّة المسيحيّة؟؟؟ هذا السؤال هو نتاج الخلط بين الوسيلة والغاية.. بين الهدف والطريقة.. فالهدف والغاية هما الوصول للحقوق وهو لا يتعارض مع الهويّة المسيحيّة بأي شكل من الأشكال ولكن الوسيلة يجب أن تكون مُعبِّرة عن الهويّة؛ فمثلاً وسيلة جماعة القاعدة تعبِّر عن هويَّتهم.. وسيلة الحركة الصهيونيّة تُعبِّر عن هويَّتهم.. إلخ.. إن ما يجعلني أشعر بالحيرة أنه كانت هناك حركات نضاليّة حقوقيّة لاعنفيّة في العالم دون سند كتابي، ونحن لا زلنا نريد حقوقنا بمنطق طَرْق الحديد وننتهج أحيانًا سُبل هجوميّة تُمهِّد السبيل للكراهية التي هي أولى لبنات العنف مع أنّ دستورنا المسيحي الإنجيلي يطالبنا بالنقيض!!!! ولمن لم يقرأ سيرة المهاتما غاندي(1) نجده استلهم نضاله اللاّعنفي من الإنجيل وأطلقه في المجتمع الهندي وأصرّ عليه مهما كان الاستفزاز الإنجليزي ومهما كانت الخسائر البشريّة في الطرف المسالم لأنّ نظريّته كانت قائمة على أنّ السلم يُحرِّك أنبل ما في الأعداء حينما يقاومون عُزَّل لا يسيئون إلى أحد، بل ويحشد المجتمعات والحقوقيين ضدّهم، وهو ما تحقَّق ونالت الهند حرّيتها السياسيّة من الاستعمار الإنجليزي. إن هذا السمو نتج عن قريحة إنسانيّة استلهمت مقاطع من الإنجيل، فكم بالأحرى الذين قبلوا الإنجيل دستورًا لحياتهم وقدّموا ذواتهم لله مختومة بطاعة الروح لله الآب، كيف يرتحلون بعيدًا عن المنطق الإلهي الذي يُحدِّد أشكال التواجد المسيحي في العالم من خلال قيم الحبّ والغفران والانفتاح الكامل؟!! حينما تسأل البعض ما هو مطلبك؟ يجيب الحقوق، وحينما يمتد السؤال لبحث المدى الذي يمكن أن تمتدّ إليه تلك المطالبة تجد نبرة عالية تنذر بإمكانيّة التصعيد حتى العنف!! لا أعرف ممّن نستلهم المثال؛ فالمسيح لم يجرح أحدًا حتّى مخالفيه.. لم يقسو على أحد حتى أعداءه.. لم يُعمِّم خطأ أحد حتى لو أشترك في الخطأ الكثيرون.. لم يرفع سيفًا في وجه أحد وإن صُوّبت عليه سهام الجميع.. لم يقابل الإساءة بالإساءة وإن كانت جارحة وتُشكِّك في كينونته الإلهيّة.. لم يرفض البدء في عهد جديد مع أحد وإن كان تاريخه مُحمَّل بالجرائم.. لم يتوقَّف عند التاريخ ليُصيِّره سدًّا منيعًا أمام إمكانيّة الغفران.. بل لم يتوقَّف أمام الحاضر والواقع الملوَّث بل كان دائمًا يرى ما يمكن أن يصيره الإنسان داعيًا إياه إلى الحياة.. إنّ مسيحنا كما نعرفه يُعلن الحقّ ولكنّه لا يجرح أحد لانتزاع الحقّ... الرسالة المسيحيّة النابعة من هويتنا المسيحيّة هي رسالة إنسانيّة تستهدف الإنسان لا الحصول على بعض الحقوق من الإنسان.. تستهدف تحويل البشر إلى أحجار حيّة في الكنيسة لا رصّ أحجار ميّتة فوق بعضها لنحصر فيها الكنيسة.. تستهدف خلق مجتمع أفضل من خلال أعضاء الكنيسة الأحياء وسط العالم لا من خلال أوراق وقوانين تخضع لتوجُّهات السياسة وتتبدّل بتبدُّل النُظُم.. فلنتخيَّل أنّ مطالبنا الحقوقيّة النابتة من الذاكرة الشعيبّة بحثت عن الأعداء الذين آذوا الكنيسة طوال التاريخ؛ فسنبدأ باليهود والرومان واليونان والعرب والأتراك والفرس.. إلخ، لن يتبقى أحد إلا ونصنِّفه كعدو ونطالبه بالحقوق التاريخيّة.. وماذا سنجني؟؟ مزيدًا من الشعور بالظلم والقهر.. مزيدًا من الانحسار والتراجع والتقوقع.. إنّ الغفران ليس وسيلة ننال بها معاملة بالمثل من إلهنا الحبيب فقط ولكنّه وسيلة لشفاء أنفسنا التي هشّمتها نيران الرغبة في الانتقام ونحرتها سكاكين المرارة حتى تركتها متقطِّعة الأوصال.. جريحة.. لا تستطيع البناء الحقيقي. إن غفرنا للآخر اندملت جراح نفوسنا المتقيَّحة، وإن اندملت الجروح تحوَّلنا إلى قوّة بنّاءة في المجتمع... فالهويّة المسيحيّة القائمة على الغفران والحبّ غير المشروط هي هويّة غير قابلة للتفاوض، تمامًا كحقائق الإيمان. إن سألت أي مسيحي عن ردّة فعله أمام شخص يريد إجباره على إنكار ألوهيّة المسيح يسوع، ستكون الإجابة بالاستعداد للموت والاستشهاد من أجل الاعتراف بألوهيّته، ولكن إن سألته عن ردّة فعله أمام من يريد أن يطالب بحقوق بطريقة خاليّة من المحبّة، قد يوافق!! وفي أفضل الأحوال سيرفض ولكن بهدوء؛ فتلك القضيّة بالنسبة له تالية للإيمان!!! مع أنّ الوصيّة الأولى والعظمى والتي جاء بها المسيح، مُجدَّدة بالتجسُّد، هي الحبّ، من خلال الحبّ فهمنا الألوهة والفداء والثالوث والأبديّة، فكيف نتخلَّى عن الحبّ في خطابنا أو مطالبنا أو علاقاتنا!!! قال أحدهم: «إنّ الحبّ يعطي الإنسان جذورًا وأجنحة». تلك الجذور هي انتماء شديد وصادق وانطلاق من الواقع، والأجنحة هي حريّة حقيقيّة لا تُوهب بنضالٍ خارجي فقط ولكنّها تتحقَّق بصراعٍ ضدّ كلّ قوى شريرة في الداخل والخارج، لتنضج الحريّة كثمرة نتمتّع بها. لا يمكن لقوى الشرّ أن تنهزم إلاّ بالحبّ ولا يمكن لقوى البُغضة أن تندحر إلاّ بالغفران؛ فالشيطان لا يخرج شيطانًا، وكلّ مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، هكذا قال المسيح. مرّة أخرى لمن يتهمون المحبّة بالتخاذل، فإنّ الهويّة المسيحيّة لا تقف ضدّ المطالبة بالحقّ المشروع ولكنّها تنهي بشكلٍ قاطع عن انتهاج وسائل العالم وأدواته للحصول على الحقوق.. حقوقنا تجتذب أنظار العالم حينما نرفعها على رايّة المحبّة ونُذيِّلها بحتميّة الغفران.. لا طريق آخر.. _____ الحواشي والمراجع :(1) أدعو الجميع لقراءة الكتاب الرائع عنه الذي أصدرته سلسلة النوابغ للكاتب أديب مصلح (السياسي القديس: المهاتما غاندي - 1992). |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
ثقافة الأقطاب أكثر ما يقلقني في اللّحظة الراهنة التي يمرُّ بها مجتمعنا هو الانحصار في الأقطاب.. وتخلُّق حالة مجتمعيّة جديدة لا تقبل بالتحليل الموضوعي العاقل، ولعل ذلك مفهوم في سياق الثورة، التي هي بتكوينها دفقة شعبويّة مدفوعة بالمشاعر لها صفة الجمعيّة، وهو ما يجعل رأي الفرد أو العقل غير مسموع في صخب الأصوات المتلاطمة؛ فتكوين الثورة قائم على هدم الخطأ وليس بناء صروح الحق والعدل، تلك مرحلة تالية تحتاج إلى هدوء وتعقُّل ووضع خطط وبحث متأنّي لئلا يدفعنا إيقاع الثورة المتلاطم لبناء بناء رملي مُزيَّن من الخارج لكن دونما أساس. ولعل الخوف يتصاعد من إمكانيّة دخول تلك الرؤية إلى كنائسنا فنتحوَّل إلى فِرَق لا نستمع فيها إلى الآخر، ونرى الحق في الأقطاب فقط، ونتبنّى منهج امتلاك الحقيقة!! مطبقين منهج الثورة المجتمعيّة داخل كنائسنا!! بيد أنّ المجتمع غير الكنيسة وطُرق الإصلاح والتغيير ليست واحدة والقياسات للخطأ والصواب ليست متشابهة ومن ثمّ فإنّ النتائج لن تكون واحدة. علينا أن ندرك أن دستور الكنيسة هو الإنجيل.. لن يتغيّر.. لذا فليس هناك ما يُسمَّى بشرعيّة ثورية تُسقط الدستور القديم داخل الكنائس أي الإنجيل والإنجيل يضع أساسات لا تقبل الجدل ولا المواربة مؤسَّسة على السلام والمحبّة واحترام الآخر وقبوله.. وليس معنى إخفاق البعض في تطبيق تلك الأُسُس الإنجيليّة أن نهدم المعبد ونعامله بالمثل!!! فالعين بالعين ليست منطق العهد الجديد، فقط أن نُحِبّ الآخر وأن نمد له يدَ المساعدة وأنْ ننزع، بكلمات مُملّحة بالنعمة والرقّة الإنجيليّة، من على عينيه الغشاوة ليرى حقّ الإنجيل وبهاء وصيّة المسيح..
|
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
الخوف مرض الأحاديّة من الضروري بل ومن الطبيعي أن نواجه مشكلاتنا المجتمعيّة بصراحة ووضوح إن أردنا أن نخرج من أزمات تتفجَّر كل يوم في أروقة مجتمعنا؛ تلبس ثياب أخلاقيّة تارة، وأيديولوجيّة تارة، وسياسيّة تارة، ودينيّة غالبًا. ولكن الأزمة الخفيّة خلف طبقات الأعراض الظاهرة هي الثقافة الأحاديّة ولا أعني بها أحادية الفرد، ولكن الأحاديّة قد تكون أحاديّة الفكرة أو المعتقد أو الجماعة أو الحركة أو التنظيم.. إلخ. إنه موروث ثقافي بامتياز، إذ هو نتاج حكم فرعوني قديم، لم يعد مقبولاً في المجتمعات المعاصرة والتي تبغي نموًّا إنسانيًّا قبل أي شيء آخر. والأحادية تقوم أساسًا على إقصاء الآخر وتهميشه بل وتشويهه إن أمكن حتى لا يكون له أي مكان في الصورة المجتمعيّة التي نلتقطها لبلدنا كلّ يومٍ. والإقصاء قائم، على ما أرى، على أرضية من الخوف المتأصِّل والمتجذِّر في الطمي المصري. الخوف هو أصل كلّ كارثة يشهدها المجتمع؛ فالخوف من الآخر يجعلني أقصيه، والخوف من التبعات يجعلني مستكينًا، والخوف من النظام يجعلني خانعًا، والخوف على الدين يجعلني قاسيًا، والخوف من الرأي يجعلني أصمًّا، والخوف من الفشل يجعلني انتهازيًّا... إلخ. الخوف مرضٌ إن التهم مجتمع ناله العطب وتركه جثّة هامدة تتقطّع أوصالها. والخوف ينتج الشائعات التي بدورها تعود إلى حضن الخوف محمّله بمغانم التقسيم في بنية المجتمع. لذا يجب أن نثق في أنفسنا ونثق في بعضنا البعض ونحلّل مخاوفنا ونعقلها ولا نبادر بردود أفعال قائمة على المشاعر المندفعة التي تزيد من جراحنا وتفتتنا. فالمسلم لا يجب أن يخشى من حديث المسيحي عن حقوق ضائعة، والمسيحي لا يجب أن يخشى من حديث إسلامي عن هويّة إسلاميّة، الليبرالي لا يجب أن يخشى من عنف السلفيّة، والسلفي لا يجب أن يخشى من فجور الليبراليّة، المنقبّة لا تخشى من اتهام بالانغلاق، ومسدلة الشعر لا تخشى من اتهام بالسفور، رجل الدين لا يخشى من طرح الرأي الموضوعي بعيدًا عن حشد فوقي، ورجل المجتمع لا يخشى من اختلافه مع رأي رجل دين... ولكن متى يحدث هذا؟؟!!! إنّ تمّ تفعيل القانون الأعمى الذي لا يبصر الاختلافات بين البشر ولكنه يبحث في الأدلة. يحدث إن تبنّى المجتمع مبدأ الحوار القائم على إمكانية تعديل المواقف وعدم الوقوف عند مصطلحات بعينها، وهو ما سيخلق في مجتمعنا تجربة فريدة خاصّة لها مفرداتها الجديدة وتطبيقاتها الجديدة. يجب أن نتحرّر من مخاوفنا لنتلاقى في نقاط مشتركة وما أكثرها، وحينما نتلاقى ستصبح لنا التعدُّدية عقيدة بل عقدًا يُجمِّل أعناقنا المرتفعة إلى فوق لأنّها مصريّة الواقع لا مصريّة في ظل ذكريات التاريخ. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
طيف الحريًة يعبر الآن.. إنّ أقسى ما نلمسه الآن في وطننا هو الشعور بالحريّة!!! ذلك الشعور الذي لم نتهيّأ له بصدق من قبل؛ فالحرية التي بلا سقف كانت حلمًا لم يحطّ على أرض الواقع من قبل. كلّ حرياتنا القديمة كانت مسقوفة بمخاوفنا من النُظُم وبطشها، التي أصبحت بديهيّات تعايشنا معها وارتديناها ثوبًا التصق باللّحم وتوحّد معه. وفجأة أبرقت الحريّة من بين صخور الاستكانة، والخنوع أمام الفساد. أبرقت فأحببنا طيفها على جلودنا وعقولنا وأرواحنا. بدأت تفترش حياتنا بسرعة مخيفة لتُحرِّر من قيود الخوف التي لم نجرؤ على ملامستها من قبل. لقد ولّدت فينا الحريّة، مشاعر القيمة والمعنى. الحياة أصبحت خيارات نملك فيها يدًا بعد أن كانت طريقًا واحدًا، جلّ ما نملكه هو انتقاده ونحن مرتادوه. لقد بَدَت قيمة جديدة في أفقنا الجديد المُتّسع باتساع الحريّة وهي: إنّ موالاة الظلم والانكفاء أمام نظراته المرعبة، له نهاية. إن اختبار لحظات سقوط الأقنعة يفجّر فينا طاقات إعلان الحقّ تحت أيّة مصاعب. تلك خبرة لم نستطع تذوّقها من قبل. أجمل مذاقة داعبت قلوبنا كانت الصبر والرجاء، أمّا الآن فالمذاقة هي معاينة انكسار الظلم والفساد والتجبُّر الذي لا يُمثَّله شخص بل كان عقيدة مجتمع قبلها أو اقتبلها طوعًا أو كرهًا. لقد أصبحت كلمات المسيح: «الحقّ يحررّكم» لها بريق خاص؛ فإعلان الحقّ يُحرّر من قيد الخوف، وإن انهزم الخوف انهزمت قوى ظلاميّة لا حصر لها وحلّ مكانها مجد الله، نور العهد الجديد، شاكيناه يسوع وسكناه. لا نعرف ما سيأتي به الغد ولكن بالتأكيد سيكون لنا فيه يد فاعلة ومؤثِّرة، لأنّ الغد أصبح لنا. من يتراجع أمام مسؤوليّته سيتحمَّل عواقب اختياره، ومن يشارك بفاعليّة مشروعة، له أن يفخر بمصريّته، ويقتبل البركة التي أطلقها الله لشعب مصر الحيّ. إنّه وقت لنعمل معًا لبناء بيتنا الجديد. جماله أو قبحه هو خيارنا جميعًا. فلنُجمِّل بلادنا بلؤلؤة ماسيّة هي سواعدنا العاملة وقلوبنا المصليّة.. نعم.. لنعمل من أجل مصرنا.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
الجرح اللّيتورجي إذا كان كل شيء يزول ويحمل موته في طيّه هب لنا أن نكون الجسد المسرور بتأدية الشكر ديديه ريمو إنّ الكنيسة هي دائمًا موضع الحياة، يحدث في نطاقها ذلك التحوُّل الكياني في الإنسان ليتحوَّل إلى المثال الإلهي بحسب الدعوة العليا التي جاء من أجلها ابن الله، ففيها يتم التعرُّف على الله القائم من خلال خبرة المعمودية، حيث يعبر الإنسان العتيق بحر الموت إلى شاطئ الحياة، على مثال إسرائيل العتيقة التي جازت في الماء لتعبر إلى النجاة، ومن هنا كانت المياه هي رمز الموت وطريق الحياة.. موضع الظلمة والمعبر إلى النور.. محك الإيمان ورجاء الخلاص.. ولكن الحياة في المسيح لا تتوقّف عند نهر الأردن حيث يولد الإنسان من الماء والروح، ولكنّها تسير لتصِل إلى العُليّة الضيّقة، حيث المسيح والكنيسة ملتئمين معًا بشكلٍ فائق للوصف، هناك يدخل الإنسان الجائع إلى الله في خبرة جديدة وضروريّة ضرورة الحياة نفسها.. إنّها خبرة الاتّحاد بالربّ عبر المادة.. عبر نتاج الكرمة وحصيد القمح. فمن بين سنابل القمح وعناقيد العنب يشرق الله بوجهه على البشريّة، وسط اندهاش الكنيسة وعثرة العالم!! يدعو: خذوا كلوا.. اشربوا.. إنّه يُعطي حياته لنا بشكلٍ جديدٍ لم يكن يتوقّعه العالم ولم يكن يتقبّله العقل قبل مسحة الروح القدس، إنّه سرّ الأسرار.. وسرّ الحياة المتدفّق من خزائن غنى الله التي لا تستقصى، ولكن يبقى تفاعلنا مع الله الذي يُقدِّم لنا ذاته هو محور عملنا وموضوع جهادنا. "بدون جسد الرب، تستحيل الحياة" (ق. كيرلس الأورشليمي) فالنهضة الليتورجيّة التي يشهدها العالم اليوم واضحة، ولكن يخُشَى أن تكون تلك النهضة هي امتداد أفقي يرتبط بالأرقام والإحصائيّات دون الجوهر واللُّباب. فالإفخارستيا كانت في الكنيسة الأولى وسيلة للابتهاج بالرب القائم عبر تلامس حي معه في جو من الصلاة والإيمان.. كانت وسيلة فعّالة لمعانقة المسيح بشكلٍ شخصي.. كان يسودها دائمًا بهجة الحضور الإلهي وسط الكنيسة، فكانت التسابيح التي تتخلَّق في خضمّ الليتورجيا هي تعبير الكنيسة عن شعورها بالمسيح الكائن في وسطها، وكانت الطلبات (الأواشي) هي صرخات الإيمان باحتياجات البشريّة، وبلغة العصر، طالما هي تفترش من الأرض مسكنًا لها، كما أنّ الاتّحاد الذي كان يتمّ بين الكنيسة ورأسها كان مصدر سلامها ونبع أفراحها في أحلك الظروف وأقسى الشدائد. فـ“عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن..” هي تلك الأنشودة التي ما تزال الكنيسة تنشدها كل يوم كرد فعل لتعاينه من حضور في حاضرها الليتورجي. لذا فإن الليتورجية إن لم يرى فيها المسيحي نبعًا للفرح.. وصرحًا للإيمان.. وزادًا للمسير.. وإطلاقًا للعالم، فإن هذا يعني أنّ هناك خلل ما في التعامل مع هذا السر العظيم الذي للتقوى. فالحضور الكمّي ليس هو المعيار والمقياس الذي ينبغي أن نزن به الأمور، ولكن وعى الصلاة ومسرّة تذوُّق الحياة الجديدة ومعاينة الأبدية ببصيرة الإيمان، وتأثيرنا في العالم، هي البوصلة الأمينة لتوجيه دفّة المسيحي في علاقته بالليتورجيا الكنسيّة بشكلٍ عامٍ وبالإفخارستيا بشكلٍ خاصٍ.. فالمسيرة المسيحيّة ليست مسيرة فرائض وطقوس مجرَّدة ينبغي علينا أن نؤديها استرضاءً لإله لا يقنع إلاّ بالتواجد الإنساني في مكانٍ ما وزمانٍ ما، ولكنّها مسيرة تجدُّد دائم بالروح القدس الساكن فينا.. مسيرة لا تنتهي لأنها ستظل ترافقنا أبديًّا بعد أن نعبر إلى الشاطِئ الآخر من الحياة. تلك المسيرة نحياها هنا في عالمنا بالدموع والآلام التي هي سمة حياة الجسد الترابي، فتتحوَّل فينا إلى إشراقات من النور والفرح، نتذوّقها هنا كعربون ونحياها هناك كواقع لا يتوقّف ولا ينضب ولا ينتهي. إن ما يحدث فعليًّا في الإفخارستيا حينما نواجه ذواتنا ونتلاقى مع الله، هو أنّنا نصمت فأمام هيبة الحضرة الإلهيّة تتوقّف ثرثرة الكلمات وينحسر تلاطم الأفكار التي أصبحت تسيطر على عقولنا وعالمنا. الإفخارستيا تؤهلنا لندخل مخدع السكون والخلوة، لنترك خارجًا كل أعذارنا وتبريراتنا التي نجعل منها قناع يخفى حقيقتنا، لنتعرّى أمام الله ليكسونا هو ببرّه المجاني، ونعمته الغنيّة.. والصمت في محضر الله هو الحاجة العظمى لإنسان اليوم. ولكن لا يفهم هذا الصمت كموقف سلبي من الحياة أو كردّة عن الفعل والتأثير في المجتمع أو كهروب من الواقع إلى عالمٍ آخر.. ولكنّه احتياج إنساني لكي نرصد الله في حياتنا. فالشكوى العظمى التي نعانى منها جميعًا هو عدم قدرتنا على معاينة الله ورصد حضوره، ممّا يجعلنا نتوهّم الحضور في أمور غيبيّة بعيدة كل البُعد عن نسيج الإنجيل ودعوة الروح القدس في قلوبنا، ويتبقّى الصمت وحده بمثابة نظارة مكبّرة تمكننا من رصد حركة الروح القدس حتى نستطيع أن ندركها ونستشعر عملها في إنساننا الداخلي، ونرى تلك العملية التي يتم فيها إماتة الإنسان العتيق وخروج الإنسان الجديد إلى نور الحياة. ويتبقى أن نعي أن سر الخبز والخمر هو سر الحياة، أي أنه يُبقي على الصلة بيننا وبين النبع الإلهي الحي لتسري فينا دفقات الحياة الإلهيّة، ولو حدث أن توقّفت تلك النبضات الإلهيّة عن ضخ الحياة إلى كياننا الإنساني، فهذا يعنى الموت.. وتصبح الحياة جرحٌ دامٍ يفقدنا وجودنا الأصيل وينزع عنا قيمتنا في المسيح يسوع. ويبقَى الخطر الأكبر هو تحويل الليتورجيا إلى فريضة، والإفخارستيا إلى تعويذة، وحضور المسيح إلى غيبيّة.. هنا يتقيّح وجودنا بجرحٍ جديد؛ جرح ليتورجي، ينزف طالما كانت أعيننا منشغلة بذواتنا واحتياجاتنا وممارساتنا بعيدًا عن حضور المسيح، الذي يريد أن يتواجه مع خليقته المحبوبة ويداعبها بحبّه الأبوي.. قومي يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالى لأن الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
العبث بالعقول إنّ ما يموج به الشرق اليوم من غليان، هو نتاج تفكير مبتور، مزدوج المعايير، سابق التوجُّه، يتحكّم فيه الموروث النقلي الشعبوي والديني أكثر من ارتباطه الموضوعي، بالعقل الواعي والتحليل المنطقي، الذي ينظر إلى الإشكاليّات الحالية ككلٍّ. إنّ الخطر الحقيقي الذي يواجه مجتمعاتنا الشرقية في هذا الزمن هو انطماس الملامح الشخصيّة للفرد، والتبعيّة العمياء لآخرين يحتكرون لأنفسهم حقّ الفهم والتقرير وقيادة الآخرين، الذي تركوا عقولهم وقلوبهم في أيدي هؤلاء ليعبثوا بها ويعيدوا صياغة العقل البشري كي لا يستوعب إلاّ تراث وثقافة وفكر أحادي البُعد، كما أصبحت جهالة الفرد بمثابة الضمان لسطوة تلك الفئة التي تتربّح من إثارة الضغينة في القلب البشري، وأصبحوا بمثابة عقل مُفكِّر لجمهور مُغيّب ينحصر دوره في الصراخ والهدم والتكفير!!! إنّنا في هذه الحقبة نعاني بشدّة من تحويل الديانة التي تهدف إلى الارتقاء بالإنسانيّة، إلى أقنعة سياسيّة، أي جعل الدين واجهة شرعيّة لخلفيات ومطامع سياسيّة وسلطويّة تخدم مَنْ ينسجون من العقيدة والدين ثوب فضفاض يصلح لأغراض مُتعدِّدة (حسب الطلب)، وقد يكون ذلك لتوغُّل الوازع الديني في كيان الإنسان الشرقي ممّا يجعل من النُصرة للدين قضية وجود، حتى وإن كان الثائر من أجل الحقّ لم يعرف طريق الله، إلاّ أنه يستشعر أن عليه أن يحامي عن إلهه!! ضدّ أي خطر ينتقص من سموه وتعاليه، وكأنّ في ذلك تعويض عن إقامة علاقة شخصيّة واعية مع الله، وبالتالي يصبح الانتصار لله على أشلاء الآخرين هو المُسكِّن الذي يلجأ إليه الإنسان عندما يثور الضمير ويصرخ من كثافة الظلمة التي يختزنها القلب. ولعل أول طرق الإصلاح الديني ومن ثمّ السياسي، في بلدنا، هو تنمية القدرة الشخصيّة على التفكير واتخاذ القرار بهدوءٍ وتروٍ، بعيدًا عن انفعالات الخطباء، واستثارة العاطفة الدينيّة المُرهفة بحسب التكوين، فيصبح الموقف الذي يتّخذه الفرد موقف شخصي يتحمّل مسؤوليّته وتبعاته، ويتحوّل الإنسان إلى قوّة دفع للمجتمع نحو الصدق والرقي والتقدُّم، بدلاً من كونه أداة صمّاء في أيدي آخرين، يُفجّرونها في المجتمع وقتما شاءوا ليرهبوا بها عدو الله، وليقضوا على كل بادرة أمل خضراء تحاول شق الصخور لترى نور الحياة في مصرنا الحبيبة. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
الحبّ المناضل إنّ ما نمرُّ به كمسيحيّين شرقيّين من تهميش وتمييز وتفرقة واضطهاد علني في بعض الأحيان، يجعل الكثيرين يقفون في حيرة أمام دعوة الإنجيل التي تؤكِّد وتُشدِّد على الحبّ كضرورة وجود، إنْ أهملناها أو أبطلنا عملها نكون بذلك توقّفنا عن أنْ نصير بشرًا على صورة الله ومثاله. ولكن أمام دعوة المحبّة نتساءل: هل المحبّة تفترض ألاّ أُطالب بالحقِّ؟ هل تتطلّب الصمت أمام الظُلم والاضطهاد؟ هل تتنافَى مع النضال من أجل المواطنة في بلدنا؟ وغيرها من التساؤلات ذات الصلة التي تستوقفنا وتلقي بنا في حيرةٍ وتخبُّط ليل نهار!! إنّ أول ما يجب أن نلتفت إليه، هو أنّ المحبّة لا تعني تلاشي واندحار الأعداء؛ فالمسيح كان موضع عداء وكراهية الكتبة والفريسيّين والصدوقيّين والناموسيّين، وكثير من فئات الشعب!! ولم يكن يومًا يتخلَّى عن رسالته الخلاصيّة والتعليميّة مقابل استرضاءٍ ذليلٍ لرؤساء الشعب. حتى إنّه دفع الثمن غاليًا على خشبة الصليب، وكان موته ثمن الخلاص للبشريّة لاهوتيًّا، كما أنّه ثمن الصراع من أجل الحقّ إنسانيًّا. فالمسيح لم يتوقّف يومًا عن الدعوة للحقّ حتى لو كان الموت هو الضريبة التي يتحتّم عليه دفعها. إنّ الحياة بتنوّعها الإنساني والفكري والثقافي والديني والطبقي والعرقي.. إلخ، تفترض الاختلاف، والاختلاف يظهر في وجهيْن؛ وجه مع الحقّ، ووجه يدّعي الحقّ، ولكلٍّ مريديه ومؤيديه. ولكن العالم دائمًا ما يستقطب أعداء الحقّ ويرفعهم في المناصب ويُغدِق عليهم الأموال ويضع في أياديهم صولجان السلطة، لكي ما يستطيع أن يقضي على صوت الحقّ الصارخ في بريّة العالم الموحشة، ولما لا فالعالم كلّه قد وضع في الشرير، كما أعلن المسيح. من هنا كان النضال الإنساني من أجل الحقّ هو أعظم فعل محبّة نحو خير البشر والبشريّة، فالاستسلام للظلم ليس مرادفًا لمحبّة الأعداء. كما أنّ الخنوع هو صمت العاجزين أمام الظُّلم، بينما محبّة الأعداء هي حركة الأقوياء التي تسمو فوق الغضب الإنساني العشوائي، بالسلام، الذي يسكبه روح الله في أعماقنا، كعطيّة من عطايا التبنّي، التي صارت لنا في المسيح يسوع. والنضال ضدّ الظُلم لا يجعل من العدو هدفًا ولكنّه يستهدف الشرّ الذي يصدر من العدو، أو بمعنىً آخر، إنّه يفرِّق بين الشخص وأفعاله، بين الإنسان وشرّه، إنّه ضدّ اختزال الإنسان فيما يفعله أو فيما يقوله، وإن كنا ضدّ ما يفعله وما يقوله، فالقلب يرى الإنسان إنسانًا، موضع عمل الله ورجاؤه، على الدوام، بينما الفكر يُناضِل ضدّ استفحال شرّ الإنسان وانتشاره في جسد البشريّة. ومحبّتنا لأعدائنا لا يجب أن تُفهَم في إطار المشاعر، فالمشاعر الإنسانيّة يصعب عليها التخلُّص من ذكرَى المُسيئين التي نُقشت في الوجدان، ولكن تلك المحبّة في جوهرها هي موقف تجاه الآخر، فيه نُصلِّي من أجله، ونسعَى من أجل انفتاح بصيرته. إنّه موقف مَنْ لا يُجازي عن الشرّ بالشرّ، ولا عن العنف بالعنف، ولا على الإهانة بالإهانة. كما يقتضي هذا الموقف التصدّي لمحاولات الظُلم والعبث الذي يُشوِّه الوجود الإنساني، ولعلّ كلمات جوستافو جوتياريز توضح هذا المفهوم، إذ يقول: محبّة الظالمين تكون بتحريرهم من وضعهم اللإّنساني الذي يجعلهم يتصرّفون على هذا المنوال، إنّها تكون بتحريرهم من ذواتهم.. فمحبة المريض تقتضى أن نستخدم الحقن الحادّة، والأدوية المُرّة، والمشرط المؤلم، للتخلُّص من المرض الذي يُهدِّد حياة الإنسان. هكذا فالمحبّة الحقيقيّة تفترض المواجهة بقلبٍ نقيٍّ وحياة مُقدّسة واتّضاع صادق وصراخ جريء يستوقف الجميع حتّى تنصلح مسيرة الإنسان ويدرك أصله الإلهي الذي يرفض الشرّ والظلم والعدوان. والمحبّة في المسيحيّة لا تستخدم سيفًا ولا رمحًا لفرض سلطانها -كما ذكرنا أيضًا هنا في ولكنّها تصرخ بالحقّ.. تتألّم وتُجرَح وتُصْلَب، لكنّها لا تتوقّف، لأنّها محبّة مصدرها المسيح القائم الذي لم تُبكِمه المؤامرات ولا الاضطهاد ولا الموت، ولكنّه قام بمجدٍ، ليُدشِّن لنا طريق الحريّة بالنصرة؛ نُصرة الحبّ على الكراهية.. أن نكافح حقيقة وبطريقة فعّالة دون أن نحقد، ذلك هو التحدّي الجديد، وجدّة الإنجيل، إنّها محبّة الأعداء (جوستافو جوتياريز) |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
أيها النور الحياة جراح والنصرة جراح والميناء ضمادة الجرح المشقق بخنجر قُوى المجهول.. جراحٌ أذابها نسيم الفجر المترقرق في دعابة النور.. دعابة على ليل مضى وخلع عباءته انكسارًا واندحارًا فهل سيستسلم الليل لغمر النور المُرسل من العوالم الأبدية!! أم سيلقي بسهامه عبر طاقةٍ، انتزعها نجم، من ثوب الليل؟؟ أيها النور، فلتكن درع الرجاء، لجنودك الذين يمخرون عباب الليل الأدهم.. ولتترنم في آذانهم بنشيد الفجر، حينما يتردد صدى همهمات الليل، ولتغمرهم وتحصرهم بومضات عالمك السري حتى يسيروا في قافلتك المرتحلة متشبثين بثوبك، ويصيرون أبناءَ، مضيئون في بهاء موكبك المحلِّق نحو شمس الوجود.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
اللاّوعي والإدانة الإدانة هي الحكم على الآخرين من خلال سلوكياتهم وغضّ البصر عن دوافعهم والغفران هو التماس العذر للدوافع وغضّ البصر عن السلوكيات إن الإنسان يحيا في الوجود من خلال وعيه بما حوله، ويتشكّل سلوكه وتصرفاته بقدر تفتُّح ونُضج وعيه في فهم الأشخاص والأشياء من حوله، إلاّ أنّ هناك عامل آخر شديد الأهمية يؤثِّر على سلوكك ويتحكَّم في تصرفاتك بشكلٍ غير ظاهر؛ إنّه اللاّوعي.. اللاّوعي هو المخزن الذي يتلقَّى كلّ خبرة يمرّ بها الإنسان، وكلّ موقف يجتازه، وكلّ معاملة يلقاها، بل إنّه يتأثّر بطريقة التربية التي يشبُّ عليها الشخص من أيام طفولته المُبكِّرة. وبعد أن يتلقَّى اللاّوعي هذا الكمّ الهائل المتراكم والمستمر من الأحداث والمفاهيم، يبدأ في إعادة تشكيلها ليصل من خلالها إلى رؤيا للحياة، وتتحوّل تلك الرؤيا إلى قوّة دفع غير منظورة تبدأ في ممارسة سلطانها على الإنسان وتصبغه بطابعها الخاص. يقول أحدهم: لا تقتصر المعرفة على ما نفكّر به في عقولنا فليست الأحداث الخارجيّة هي التي تحثّنا على التحرُّك فقط بل ذلك العالم المُظلِم والسرّي في لاوعينا فقد تجد إنسانًا ما عدائيًّا، وتكتفي بأن تحكم عليه وتضعه في قائمة العدائيّين في حياتك، دون أن تُدْرِك أنّ عدائَه هذا قد يكون نتيجة خبرات متراكمة في اللاوعي، خبرات ترسّبت في وجدانه تحمل ذكريات الإهانة والسخرية. قد تكون عدوانيّته نتيجة تربية أبٍ قاسٍ استبدادي الرأي. قد تكون نتيجة عيب خِلقي دفعه إلى الهجوم المسبق والاستباقي خشيةً من تهكُّم الآخرين. كلُّ تلك العوامل والدوافع قد لا يعيها الشخص نفسه، ولا يُدركها، إلاّ أنها تظهر كرد فعل تلقائي أثناء علاقته مع الآخرين. لذا فمن الضروري أن نلتمس العذر دائمًا للآخرين في تصرّفاتهم التي تبدو لنا غريبة وغير منطقيّة في بعض الأحيان، فخلف كلّ تصرُّف هناك تاريخ في اللاّوعي، وخلف كلّ موقف هناك عُقدة ما تدفعه لانتهاج هذا السلوك. من هنا كان تعليم المسيح لنا بعدم الإدانة، لأننا لا يمكننا أن نخترق حواجز النفس البشريّة لنرى دوافعها في العمل، فأي سلوكٍ لا يجب أنْ يُدان دون النظر إلى دوافعه. انطلاقًا من تلك الحقيقة، نقدر أن نعي تبرير المسيح للخطاة الذين دفعتهم ظروفهم القاسية للخطيئة بالرغم من استعدادهم الداخلي للحياة النقيّة. في المقابل كان كثيرًا ما يُلقي بالويلات على الكتبة والفريسيّين وقادة اليهود، الذين يبدون للناس وكأنّهم أبرارٌ، بيد أنْ خطاياهم كانت خفيّة، ودوافعهم كانت شريرة. الله ينظر إلى القلب، بينما لا يرى البشر سوى السلوكيات الخارجيّة التي لا تُعبِّر عن شيء، ولا نستطيع من خلالها الحُكم الصادق الموضوعي على أحدٍ. ولعلّه إن قُدِّر لأحدٍ أن يعاصر القديس موسى الأسود قبل توبته، فهل كان يمكن أن يرصد في حياته بصيصًا من نورٍ؟! لا أعتقد!! فالجميع سيتعامل معه كمجرمٍ يستحق العقوبة، وليس كإنسانٍ يحتاج لمناخ جيّد ليُظْهِر الاستعداد المُختبِئ خلف مظهر الشرّ. لذا فإنّ أحد القدّيسين أثناء سيره مع تلاميذه، بكَى حينما رأى مجرمًا مساقًا إلى السجن، وحينما سُئل عن السبب، أجاب: “لولا نعمة الله لكنت مكان ذلك المجرم!!” إنّ ليو تولستوي، الروائي الروسي الشهير، يقول في روايته “البعث”، على لسان بطل الرواية نكليودوف: إنّ المساجين أحياناً ما يكونون مساكينَ، وفي الأغلب تكون جناية المجتمع عليهم أفدح من جنايتهم على المجتمع. فهم في الغالب قومٌ حُرموا من العطف والرعاية في صغرهم. وكثر عليهم ضغط الظروف، حتى امتلأت قلوبهم بالحقد، فلماذا يكون هؤلاء في غياهب السجون؟؟ ويكون سواهم طُلقاء، بل يكونون في موضع القضاة لهؤلاء؟! إنّه الحُكم حسب المظاهر الخادعة، دون محاولة البحث في الدوافع لالتماس العذر للآخرين، ومن ثمّ محاولة تحريرهم من القيود التي يرصفون فيها والمقيدة كيانهم الداخلي. لذا فإنّ المسيحية تؤمن بـ“خلقة الإنسان علي غير فسادٍ” كما نُصلّي في ليتورجيّة القديس باسيليوس تؤمن بالخير الدفين في أعماقه، تؤمن أن مسلكه الخارجي المحكوم بدفع خبرات اللاّوعي يختلف عن كينونته الحقّة النقيّة التي تشكّلت على الصورة والمثال الإلهي. لذا فإنّ دور الروح القدس هو تحرير الإنسان من سطوة اللاّوعي، ليرى ويبصر نفسه البهيّة المخلوقة على صورة الله. ليُعاين الأصل في الإنسانيّة كحالة من البرّ، وليتيقّن أنّ الدخيل هو الشرّ، الذي “دخل بحسد إبليس”. ولنتذكّر معًا كيف كان يرى يسوع، الإنسان، حينما نسترجع حادثة المرأة التي أُمسكت في الفعل المُشين، فقد رآها الجميع مدانة وتستحق الموت، بينما كان ينظر المسيح إلى أعماقها، كان يطالع النور الخافت الذي كان يومض بين جدران قلبها، وحينما رأى المسيح هذا النور، قال لها: “ولا أنا أدينك”. لذا دعنا منذ الآن، ألاّ نحكم على الآخرين بحسب سلوكيّاتهم، فقد يكونون مرضَى بسطوّة اللاّوعي المثقَّل بخبراتٍ سلبيّةٍ. دعنا نرى الإنسان بعيني المسيح التي لا ترى سوى الشوق المُختبئ خلف السلوك الظاهر، وحينما نستطيع أنْ نرتدي منظار المسيح لنرى به الآخرين، نقول حينئذٍ لمن دانهم المجتمع: “أن لا أدينك”. وحينئذ سنسمع صوت المسيح الفَرِح يتردّد صداه في أعماقنا، ويقول: “ولا أنا أدينَك” |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
مدرسة الإسكندريّة 1 إنَّ المشهد الذي يتبادر إلى أذهاننا حينما نتحدث عن المدارس والمعاهد اللاهوتية هو المنشآت الضخمة والأبنية المتعدِّدة، بينما لم تكن مدرسة الإسكندرية القديمة سوى مجموعة من الأساتذة العلماء، المختبرين الحياة التي في المسيح، ينتقلون من مكانٍ لآخر، يجتمعون في بيوتهم أو في بيوت تتسع لطلبتهم. لهذا لم تكن المدرسة مؤسسة تعليمية بقدر ما كانت حركة إنارة في المجتمع المسيحي القديم وهذا ما جعلها مضيئة وهَّاجة، بل ومشتعلة بالروح لخدمة ملكوت الله. ولم تقتصر المدرسة على تلقين العلوم اللاهوتية فقط، بل كانت مدرسة موسوعية encyclopedic؛ أي أنها كانت تُقدِّم مختلف أنواع العلوم. ولكن هذا الانفتاح الفكري على العلوم المختلفة لم يكن ليذيب نبتة المسيحية الوليدة ولكنه كان بمثابة تربة خصبة لصياغة إيمان راسخ وغير متزعزع أمام لُجَج التيارات الفلسفية التي كانت تَلِفُّ العالم القديم آنذاك. إن منهجية التعليم في المدرسة القديمة لهي شيءٌ مدهشٌ حقًا. فلقد كانت هناك ثلاث مراحل تعليمية في المنهج الذي اتفق عليه عمداء وأساتذة المدرسة وهي؛ دراسة العلوم الطبيعية ثم دراسة الفلسفات الدينية والأخلاقية ثم دراسة التعليم اللاهوتي المسيحي. وكأننا هنا أمام منهج تعليمي تصاعُدي يسمو بالإنسان من المحسوسات (العلوم الطبيعية) إلى المُدرَكات العقلية والذهنية (الفلسفة) حتى يصل بالإنسان إلى المدار الروحي (التعليم اللاهوتي المسيحي). إن تلك المنهجية تحمل إيمانًا بالطبيعة والفكر كأدوات تصل بالإنسان إلى أعتاب معرفة الله. هو ما أكده القديس كليمندس في كتابه المتفرقات، إذ يقول: [إنَّ الفلسفة هي مرحلة إعداد؛ فهي تهيئ الطريق للشخص الذي يجتذبه المسيح نحو الدعوة العليا]. فالمعارف لا تصبح عائقًا أمام معرفة الله إلا حينما تتوقف عند ذاتها وتدور في دائرتها الخاصة وتتقوقع في الزمن الحاضر وتتجاهل التساؤلات الوجودية والأبدية!! إلا أن التعليم السكندري القديم رأى أن الخليقة تشهد لله وتُخبِّر بمجد الله، وأن العقل لا يهدأ إلا حينما يستلقي على أجنحة الروح، فتُحلِّق به في أجواء روحية غير خاضعة للتحليل والمنطق والتجربة والمشاهدة. فالمدرسة القديمة آمنت بالإنسان الكامل الذي يجب أن يخوض مغامرة المعرفة والتي لن تزيده إلا جوعًا إلى ثمرة الحياة، المسيح يسوع، الذي أمامه تركع الطبيعة وتنحسر أمواج الفكر الجامحة، فيصير هدوءًا وسكينة، يعاين فيها الإنسان، الله، صارخًا: جيد يا رب أن نكون ههنا. فهل يمكننا في القرن الحادي والعشرين أن نخوض مغامرة المعرفة متمسكين بهُدب ثوب الرب؟ لتصير مغامرتنا شهادة للعالم أن المسيح هو ربُ الحياة وفيه تتلاشَى تساؤلات وحيرة الإنسان؟!.. إنها صلاتنا التي لن تتوقف.. 2مدرسة الإسكندرية هو المصطلح الذي يألفه كل قارئ لتاريخ الكنيسة شرقًا وغربًا؛ فهي بحسب وصف Groves كانت:]مركزًا للدراسات المسيحية، دون منافس، في العالم المسيحي[. فالمسيحية التي وجدت لها أرضًا خصبة في الأسكندية لم تجد مدينة تحتضن الفكر المسيحي وترويه من عرق العلماء والباحثين والكارزين الممزوج بالصلاة والعبادة الحارة أفضل من الإسكندريّة. فهي ملتقى الجنسيات والعرقيات والثقافات في العالم القديم مما جعلها مركزًا للفكر الإنساني، تُبدع فكرًا لتلقي بضيائها على العالم المتلهِّف لنتاج الحركة والديناميكية المتفجرة بين معاهدها وأروقتها. ولم تكن المسيحية بأي حال من الأحوال بمنأى عن هذا الحِراك الفكري الجامح؛ فالفلسفات والتيارات الفكرية التي كانت تتوالد آنذاك كانت مصطبغة بلون الهللينية الوثنية تارةً والغنوسية التصوفية تارةً أخرى، لذا كان على مسيحيي الإسكندريّة أن يُقَوُلِبوُا حقيقة الخلاص في تعبيرات وصيغ تتناسب مع العقل الفلسفي النقدي المنتشر حينذاك. لذا لم يكتف المسيحيون بالعبادة ولكنهم كانوا مثقَّلين بِهَمّ الكرازة للمجتمع الذي يحيون فيه، فكل نفس لا تصل إليها حقيقة الخلاص تمثل جرحًا في مسيرة الكرازة والامتداد بالفداء لكل العالم، كوصية الرب بل ورجاؤه من الكنيسة. من هنا كانت ضرورة الوعي بالإيمان وعيش الإنجيل لإعلانه لكل فئات الشعب من البسطاء إلى الفلاسفة. لذا فقد صارت الإسكندرية، بحسب تعبير الكسندر روبرت:] عقل المسيحية The Brain of Christendom [لأنها لم تحتقر العقل الإنساني ولم تتعال عليه بدعوى الروحانية -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- بل خاطبته من خلال عمق الكلمة وحملته ليركع أمام الكلمة الإلهية ليدرك سر الحكمة الحقيقية المختبأة منذ الدهور والتي أُعلنت للخليقة في المسيح يسوع. وإن أردنا أن نتوغل في روح مدرسة الإسكندرية القديمة فلنقرأ التعبير الذي وصف به أكليمندس السكندري، معلمه بنتينوس، النحلة الصقلية، إذ يقول عنه:]لقد كانت روحه ممتلئة من العنصر غير المائت الذي للمعرفة الإلهية[. فالروح الممتلئة من المعرفة الإلهية بالاختبار والحياة والتي انعكست في قوة كلمة التعليم كانت سر مدرسة الإسكندرية القديمة، لذا كانت فعَّالة وفاعلة في المجتمع بل واستطاعت أن تجابه الفلسفات المختلفة وتُخضِعها للروح وتطوِّعها لتفسير الخلاص الذي أبرق في سماء البشرية بميلاد الله الكلمة، اللُّوغوس الحي والحقيقي. فتغيرت خريطة الإيمان في المدينة العريقة وخضعت الفلسفة للحياة وتوقف حكماء هذا الدهر أمام حكمة الله، وقبلوا جهالة الصليب حينما تذوقوا عربون الملكوت. فالسلام لأرواح أبائنا الغيورين، معلمي المسكونة، وأبواق الإنجيل الذي وصل أصداؤه إلى أقاصي الأرض، الذين أحبوا المسيح بل وأعلنوه حبًا لكل الخليقة. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
النهضة المعرفية لقد لخَّص كليمندس السكندري في متفرقاته (الكتاب الأوّل: الفصل الأوّل) العَلاقة بين الكاتب الذي يبذر بذار الكلمة على صفحات الكتب والمُتلقِّي الذي يسبح بين بطونها آملاً في فهمٍ أعمقٍ للحياة مع الله، قائلاً: “إنّ الذي يتحدّث من خلال الكُتُب المُدوّنة، مُكرِّسًا ذاته أمام الله، صارخًا في كلماته وهو يقول: لا من أجل ربحٍ دنيوي ولا من أجل شهرةٍ، غير مدفوعٍ بتمييزٍ ولا تحت سطوة الخوف ولا في نشوة الابتهاج، أكتب ما أكتب. فقط لكي أحصد خلاص أولئك الذين يقرأونني، دون أن أشترك في [الأجر] الحاضر بل منتظرًا، في توقّعٍ، الجَزَاء الذي يسبغه هو، ذاك الذي وعد العاملين أنْ ينالوا مكافأةً حسنةً”. إنّ خدمةَ الكتابِ والكتابةِ من الأهميّة بمكانٍ ما يجعلنا نسعَى لتوجيه الطّاقات إلى هذا المضمار. فالكتابة فنٌ يصل الروح بالخيال ويُقرِّب الماضي ويستحضره بين دفتي الحاضر ويعيد تجسيم الوصايا في الذهن لتصير قوّة دافعة للحياة المسيحيّة بجملتها. ولعلّ النهضة في أي مجتمعٍ مرهونة بالنمو العلمي والمعرفي فيه، كذا النهضة المسيحيّة لكيما تدوم وتستمر وتنمو يجب أنْ تخلط المعرفةَ بالحياة والكلمةَ بالصلاة والعظةَ بالكتاب، لكيما تدفع الوجدان والعقل المسيحي نحو أحضان الثالوث. ولكن يبقَى أنْ نشير إلى أنّ الكتابةَ هي عملٌ يجب أنْ يُغلَّف بالتقوى والحياة المسيحيّة الصادقة لئلا تصبح، في غفلةٍ روحيّةٍ، عِلْمًا مُجرَّدًا يصيب العقل بتورِّمٍ والروح بضمورٍ. على الجانب الآخر، يجب أنْ تكون التقوى المسيحيّة قائمة على أُسس إيمانيّة تعبُّديّة كتابيّة صحيحة لئلا تُبْذَرَ بذار التقوى على أرضٍ خاطئة مُثمرة لحساب آخرٍ غير المسيح والكنيسة. علينا أنْ نوجّه صرخاتنا الإيمانيّة للعالم قولاً وحرفًا لنجتذب على كلّ حالٍ قومًا لملكوت ابن الله الذي ينتظر جمعًا من كلّ الأمم والشعوب والثقافات والطبقات. فهل ننفضَ غبار الكسل لنعمل في كرم الربّ مادام الوقت نهار؟؟ سؤالٌ جوابه في قلب كلٍّ منّا.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
حوار مع القديس كيرلس: العذراء الثيؤطوكوس.. هل من ضرورة جلس ألفريد على طاولته يقرأ مقال القديس كيرلس عن والدة الإله.. كانت المادة ثقيلة عليه.. تكوّنت لديه تساؤلات.. صلّى لكيما يفتح الربّ بصيرته.. كان حضور القديس كيرلس هو استجابة لصلاته.. بعد لحظات من الدهشة والفرح.. جلسا معًا.. أب مع ابنه.. وبدأت التساؤلات.. وبدأ معها القديس كيرلس في شرح الأمور.. ألفريد: أبي القديس، دعني أسألك بصراحة، لما كلّ هذا الجدل حول مصطلح الثيؤطوكوس، ألم تستطيعوا أن تتفقوا على مصطلح يريح جميع الأطراف.. فتربح الجميع؟ بدت على وجه القديس كيرلس ابتسامه هادئة، وقد اعتدل في جلسته، وقال: إنّ الإيمان هو كنزنا الحقيقي إن ذاب وسط مياه العالم من أجل ربح أشخاص، لمن سنربحهم؟ لأنفسنا!! لقد تركنا كل شيء من أجل المسيح، حتى أحبائنا إن كانوا في كفة الميزان مع المسيح.. ألفريد: اشرح لي يا أبي، ضرورة هذا الاصطلاح، لماذا الثيؤطوكوس؟ القديس كيرلس: يجب أن تعرف أولاً أن القضايا دائمًا لا تكمن في التعبيرات المجرّدة في حد ذاتها، بل ما تحملها من معانٍ وما يمكن أن تؤوّل إليه في أفكار البعض، عن قصد أو عن غير قصد.. لذا فتمسُّكنا بهذا التعبير هو تمسُّك بمفهوم إيماني أساسي في المسيحيّة لا يقبل النقاش ولا الجدل ولا المناورة ولا التوافق.. أمام الإيمان لا يجب أن نتهاون في التعليم والإصرار على المبدأ.. ألفريد: سمعت من البعض أنّ قداستك أوّل من استخدم هذا التعبير، وأدخله في مجمع أفسس (431م)، هل هذا صحيح؟ القديس كيرلس: وما رأيك أنت؟ ألفريد: لا أعرف القديس كيرلس: عندي عليكم أيّها الشباب أنّكم لا تقرأون ولا تبحثون بالقدر الكافي، لذا من السهل إيهامكم على عكس الحقيقة!! ولكن حسنًا.. لقد ورد هذا التعبير في كتابات أوريجانوس العلاّمة السكندري الشهير. وقد استخدمه العديد من باباوات الإسكندريّة السابقين مثل: البابا بطرس الأوّل والبابا ألكسندروس والبابا أثناسيوس. وقد يظن البعض أن هذا التعبير وليد الإسكندريّة فقط، ولكن يمكنك أن تجده عند القديس غريغوريوس النزينزي وكيرلس الأورشليمي وباسيليوس الكبير وهيبوليتُس.. ألفريد: كلّ هذا.. القديس كيرلس: نعم وأكثر.. وليس هذا فقط، ولكنك تجدها في صلاة كان تُردّد في مصر منذ القرن الثالث.. ألفريد: ماذا تقول تلك الصلاة؟ القديس كيرلس: تحت حراسة رحمتك نهرب يا والدة الإله. لا تهملي صلواتنا عندما نكون في ضيق، لكن خلّصينا من الخطر، أيتها الوحيدة الطاهرة، المباركة في النساء ألفريد: ما أجملها صلاة القديس كيرلس: نعم ألفريد: ولكنهم يقولون أن هذا الاصطلاح لم يرد في الكتاب المُقدَّس!! القديس كيرلس: الكتاب المُقدَّس ليس وثيقة إيمانيّة حصريّة ولكنه يضع الأساس الذي نبني عليه صرح إيماننا بكلمات وتعبيرات عصرنا.. فالإيمان ليس كلمات ولكنه مفاهيم دعني أسوق لك بعض الآيات الكتابيّة التي تفسِّر هذا الأمر.. ولكن عليك أن تنصت جيَّدًا ألفريد: كلّي آذان صاغية.. القديس كيرلس: لقد دوّن القديس لوقا تلك البشرى المبهجة للرعاة الساهرين ليلاً على حراسة قطيعهم إذ قال لهم: «إنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخَلِّصٌ هو المسيح الرب» (لو2: 11). هل تنصت إلى تلك الكلمات جيَّدًا، فمن وُلِدَ هو المسيح وهو الربّ. لن يكون المسيح مستقبلاً ولن يصير إلهًا لاحقًا، لن يكون مسكنًا للربّ في الغد حينما يظهر تقواه، ولكنه وُلِدَ إلهًا وربًّا ومسيحّا.. فإنّ كان المولود هو الربّ.. هو الله.. ألا يجب أن نسمي مريم والدة الإله؟؟ بل إنّ الملاك حينما أراد أن يوجِّههم إلى الإله المولود.. كانت كلماته المدهشة «تجدون طفلاً مقمطًا مضجعًا في مذود». (لو2: 12) هذا الطفل المقمّط والنائم والرضيع.. هو الله والربّ.. ولكن لا تندهش.. فما لا يستطيعه البشر يستطيعه الله.. وما لا يقدر عليه البشر يقدر عليه الله.. وما يتعثّر فيه البشر هو الحقيقة، عين الحقيقة عند الله، وعند أبناء الله. إن آمنتم أن الطفل هو الله المتجسِّد في شكل البشر، فإنّ الفتاة التي بجواره والتي تسهر عليه وترعاه جسديًّا جديرة بلقب أم الله. ألفريد: ولكن المصطلح ثقيل على الآذان؛ فالله غير المحدود، غير المحوى، غير الموصوف، غير المدرك.. له أم؟؟ إن الكثير يهزأ بنا بسبب تلك التعبيرات؟؟ القديس كيرلس: لا تحزن لسخرية البشر، فالمسيح نفسه لم يسلم من سخرية وشكوك وملاحقة ذوي العقول الضيقة والقلوب الموصدة، ولكن الحقيقة ستعلن في كمالها في الدهور الآتية، وقتها سيستد كلّ فم قاوم الله، وسيترنم كل فم أعلن تجسُّد الله. ألفريد: أمين القديس كيرلس: أمرٌ آخر، لا يجب على من يسمع هذا المصطلح أن يفكِّر أننا نتحدّث عن أمومة للاّهوت منفردًا!! ولا للناسوت منفردًا، ولكن أمومة العذراء ليسوع، هي أمومة لكلمة الله المتجسِّد الذي لم يفارق فيه اللاهوت، الناسوت، لحظة واحدة ولا طرفة عين، كما تصلون في القدّاس. هل تتذكّر ما حدث في اللقاء التاريخي بين مريم العذراء وأليصابات؟ ألفريد: نعم، لقد صرخت أليصابات من هول المفاجأة التي أظهرها لها الروح القدس وقالت: «مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ». القديس كيرلس: أتدرك ما الذي قلته للتو؟ ألفريد: ماذا؟ القديس كيرلس: أم ربّي The Mother of my Lord ألفريد: نعم فهمت.. القديس كيرلس: العذراء هي أم الربّ، فكيف يدعي البعض أن المفهوم ليس من صميم الكتاب المُقدَّس، للأسف، فإنّ الكثير يقرأ الكتاب المُقدَّس بقناعاته المسبقة فلا يعي الرسالة التي يبعثها الله إليه، لا يرى سوى فكره في مقتطفات من الآيات من هنا ومن هناك، وهذا أخطر ما في الأمر. هل قرأت رسالة القديس بولس إلى العبرانيين؟ ألفريد: ليس كلّها القديس كيرلس: عليك بقرائتها، ولكن دعني أقول لك ما قاله القديس بولس: «يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد» (عب 13: 8). أمس يشير إلى الأزل، أو بالأحرى مجده الأزلي، واليوم يشير إلى الحاضر، وإلى الأبد تشير إلى ديمومته إلى أبد الدهور. فمن من البشر يمكن أن نقول عليه أزلي وحاضر وأبدي؟ لا أحد. فقط الله هو القائم فوق الزمان بقوائمه؛ الماضي والحاضر والمستقبل. هذا الإله هو يسوع المسيح كما كتب القديس بولس. ألا يدفعنا هذا الأمر سوى أن نؤكِّد على إلوهة المسيح، من خلال إطلاقنا على العذراء، والدة الإله. إنّ هذا اللّقب تأكيد على إلوهة المخلِّص أكثر من أي شيء آخر.. من يرفضه يريد أن يتلاعب بإلوهة المسيح، ويريد أن يضع نظرياته الخاصة عن المسيح.. لن نقبل بهذا.. في الإيمان لا تكفي النوايا الحسنة، فالغد قد يأتي بأصحاب نوايا مغرضة يتلاعبون بالألفاظ. فما عرفناه وفهمناه واختبرناه؛ أنّ المسيح هو إلهنا الحقّ كائن منذ الأزل ودائم إلى الأبد، ومتجسِّد في الزمان، من عذراء بتول بل ودائمة البتوليّة؛ مريم.. إنها حقًا والدة الإله. ألفريد: هل لي في لقاء آخر القديس كيرلس: بكلّ تأكيد.. ومضى القديس كيرلس وغادرت معه حيرة ألفريد.. قام ليترنم بثيؤطوكيّة اليوم وهو في ملء الفرح |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
سقراط (469-399 ق. م.) لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ القديس بولس في الرسالة إلى أهل رومية (2: 14) إن المسيح هو مولود الله البكر، كلمته وفيه يشترك جميع البشر. هذا ما تعلّمناه وهذا ما أعلنّاه. فالذين عاشوا بحسب الكلمة هم مسيحيون وإن حسبوا ملاحدة، كسقراط عند اليونان وهيراقليط وأمثالهم. الشهيد يوستين الشهيد. (الدفاع الأول. 46) لنتصوّر أثينا في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد. ترى فيها ساحة السوق التجاري (أجورا). وفي الوسط بناء كبير تتمّ فيه تجارة القمح. وحول الأجورا أُقيمت المباني العامّة.. في الشوارع الملاصقة لبعضها البعض، الضيقة والمتعرّجة، أُنشئت المصانع وأكشاك الصيارفة ودكاكين الحلاقة والعطارين وبائعي المصابيح وأصحاب المكتبات. وأينما تلتفت ترى البانثيون والأكروبول أعلى المدينة. منذ الصباح حتّى الظهيرة، ومن المغرب حتّى العشاء، وساحة الأجورا تعجُّ بالناس. متعطّشين لسماع الجديد واجتماعيين للغاية، يجتمع الأثينيون في حلقات، يناقشون المشاكل السياسيّة اليوميّة ويعلو الضجيج، يتحمّسون للقضايا المطروحة، ويقصّون الطرائف المسليّة، يتطرّقون إلى آخر مجريات الأمور من المدينة والشؤون العائليّة، يستخبرون ما يجري في المدن المجاورة والدول البعيدة. يتندرون بالإشاعات والأقاويل. يمكن أن تصادف رجلاً يجول في المدينة أيامًا بكاملها يحادث المارّة. ويصدف أن نراه في ساحة السوق، في متجر صانع الأسلحة أو النجار أو الإسكافي، في معاهد الرياضة وميادنها، وبكلمة، يكون في كل مكان بإمكانه أن يلتقي الناس ويتحادث معهم. إلاّ أنه يرفض أن يبادر بالحديث في الجمعيّة العامة، أو أمام المحاكم أو في الإدارات الشعبيّة. وإن كان هناك من لا يعرفه، يسأل: من يكون هذا؟ سقراط، ابن سوفرونيسكوس ما هي اهتماماته؟ إنه يتحدّث مع الذين يودّون ذلك. ولأي هدف؟ لكي يساعد العقول على تولّد الحقيقة. أهو واحد من السوفسطائيين الذين يزعمون تعليم الحكمة؟ نعم وهل تعليمه بأجر؟ كلا. كلّ شيء في سقراط يثير الاهتمام: تكوينه، سلوكه، نشاطه، وأفكاره. وخلافًا لهؤلاء الرجال السوفسطائيين، الذين يتباهون بثيابهم الأنيقة، كان سقراط دائمًا يلبس الثياب البسيطة وغالبًا ما يسير حافي القدمين. وبنظر اليونانيين، الذين كانوا يعيرون اهتمامًا بالغًا للجمال الجسدي، كان سقراط بشعًا: ربع القامة، ذا بطن متدلٍّ، له رقبة كرقبة الثور، ورأس كبير أصلع مع جبهة واسعة وحدّبة. بحيث أن مشيته الممتلئة بالعزّة كانت عاجزة بحدّ ذاتها أن تخفّف من الانطباع الذي تولّده العيوب الكثيرة. وبحسب ألسيباد القائد الأثيني فإنّ سقراط يشبه سيلانsilene وسَتير satyre، الآلهة ذات الوبر، أنصاف كائنات بشريّة في الأعلى وأنصاف ماعز في الأسفل،كان النحّاتون يظهرونها تحمل نايًا أو ما يشبه الناي في يدها. كان سقراط يشبههم؛ إذ كما يسحر ويأسر الناي بأنغامه، القلوب، ويحوّلهم عن بشاعة المظهر، هكذا كان سقراط يأسر المستمعين حينما يهمّ بالكلام. يكتب ألسيباد: عندما أسمعه، يخفق قلبي بسرعة، ومواعظه تجعل الدمع يتدفّق من عيني، وأرى أناسًا كثيرون يحسّون بنفس الأحاسيس.. إنّه الوحيد الذي أحمّر أمامه خجلاً.. رجلاً أصيلاً كهذا وأحاديث مشابهة لأحاديثه، لا نجد من يقاربه لا في الماضي ولا في الحاضر.. وُلد سقراط في قصبة وهي إقليم ريفي في آلوباس، التي تشكّل جزءًا من أثينا. كان والده نحاتًا ووالدته قابلة. تعلّم سقراط كما تعلّم الشباب الأثينيون في عصره؛ أي الموسيقى والتربية البدنيّة. كانت الموسيقى تتضمّن العزف والغناء وأيضًا دراسة اللغة -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- وحفظ العديد من النصوص الأدبيّة والشعريّة للكتّاب اليونانيين. فقد كان حفظ الأشعار الجميلة غيبًا يجعل الجيل الصاعد يتشرّب المشاعر والأحاسيس الراقية، وبالتالي يتشجّع للقيام بالأعمال الكبيرة. بعدها يبدأ في تعلُّم الحساب والهندسة. كان المواطن المثالي عند الإغريق هو من تجتمع فيه صفة النبل مع الصحّة وجمال الجسد،الذكاء مع المقدرة، العقل مع الشجاعة، التواضع مع عزة النفس والشعور بالكرامة. استفاض سقراط في علوم عصره وخاصة الرياضيات والفلك والرصد الجوّي، وكان شغوفًا بدراسة الطبيعة. كان سقراط يحفّز الشباب على التفكير فأحبّه الشباب، بينا كرهه الشيوخ لأنّ فكره كان يحرج جمود أفكارهم وعقائدهم. كان يخدم في الجيش وهو شاب صغير، كان يمشي فوق الثلج والجليد حافي القدمين، بينما كان يتذمّر الجنود الآخرون من التعب وهم ينتعلون أحذية مبطنة بصوف الغنم. كان متأهبًا دائمًا لخدمة الآخرين إذا سقطوا صرعى المرض، وتضميد جراحهم بل وإنقاذ حيواتهم ولو على حساب حياته. يحكي أفلاطون عنها أنّه أخذ يفكّر يومًا ما في أمرٍ ولم يجد حلاًّ. فبقى واقفًا في حالة من التأمُّل منذ الفجر حتى فجر اليوم التالي، وما إن ظهر النور حتى رفع يديه إلى السماء مبتهلاً، ثم سار في طريقه. كان يعيش حياة بسيطة دون تذمُّر. كان ذلك سببًا في مشاحنات كثيرة مع زوجته الشرسة (أكزانتيب) والتي كانت تصفه بالثرثار والكسول وتطرده هو وأصدقاءه خارجًا وتقلب المائدة التي يتباحثون حولها.. وحينما سُئل سقراط لماذا يقبل بالعيش مع المرأة الأكثر شراسة في العالم؟ أجاب: لكي يصبح المرء خيّالاً جيّدًا فإنه يختار الجياد الأكثر جموحًا، ولهذا فإنّي أنا الذي يرغب في التواصل مع الناس، قد اخترتها مقتنعًا بأنه إذا تحمّلتها سيكون من السهل علّي التعامل مع الجميع ومن أي نوعٍ كانوا. اتُّهم سقراط بأنه لا يعتقد بالآلهة التي تعبدها المدينة وتقدّسها كما إنّه يفسد عقول الشباب. كانت تلك ورقة اتهامه التي كانت معلّقة على حوائط المباني الرئيسيّة في الميدان العام في أثينا. أدين كمذنب بأغلبية 280 صوتًا مقابل 221. قَبِلَ الموت بكأس السمّ بعد حوار رائع مع القضاة، ومات شهيد الفلسفة والحقّ والمبدأ إذ لم يقبل التراجع عن مبادئه مقابل الحياة. مات سقراط وحفر موته إلى الأبد في ذاكرة الأجيال ذكرى شخصيّته المدهشة.. من كلمات سقراط:-
|
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
التبعيّة للمسيح: الماهيّة والغاية نتبعك بكلّ قلوبنا ونخافك ونطلب وجهك يا الله لا تخزنا عن مديح الثلاث فتية (تسبحة نصف الليل) مدخلهناك فكر سائد الآن في الكثير من بلدان أوروبا وأمريكا وهو فكر new age وهو بمثابة خليط من الأديان المختلفة تدعو لتبعيّة الأخلاقيات عوضًا عن تبعيّة المسيح.. والدعوة إليه تستند على إمكانيّة شخصيّة للوصول إلى نماذج أخلاقيّة كالتي لأتباع المسيح بدون المسيح؟؟ ولقد قالت إحدى المذيعات الشهيرات التي تتبنّى ذلك الاتجاه في العالم وهي oprah winfrey “أنا مسيحيّة ولكني أؤمن أن هناك طرق أخرى إلى الله غير المسيحيّة!!” كانت فكرتها مبنيّة على معيار الأخلاق.. ولكن.. هل تبعيّة المسيح هي تبعيّة أخلاقيّة فقط؟ هل هي محاولة لخلق مجتمع إنساني أفضل؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي (يو 14: 6) إنّ “الأخلاقيات الاجتماعية” في المسيحيّة هي بمثابة الخط الأوّل أو ما يمكن أن نسميه zero level نبدأ من عنده لنمتد إلى “الأخلاقيات المسيحيّة” والقائمة على المحبّة الباذلة والمضحيّة بكلّ شيء من أجل الآخر حتّى وإن كان من الأعداء.. التبعيّة للمخلِّص والتي تظهر في سلوكنا المسيحي، تلقي علينا بمسؤوليّة تجاه العالم.. أن نحبّه دونما شروط.. فالامتياز المسيحي الذي منحه لنا المسيح حينما نتبعه هو أن نكون قادرين على بذل ذواتنا من أجل الآخرين.. وقد يصل الأمر للموت من أجل الآخرين.. تلك هي أخلاقيات أتباع المسيح.. ولكن قبل شرح التبعيّة سنتعرّف على الثلاث دعوات الرقيقة التي يرسلها الله لثلاثة أنماط من البشر، إذ نقرأ كلمات القديس أنطونيوس: النوع الأوّل هم أولئك الذين دُعوا بناموس المحبّة التي غّرست فيهم من الصلاح الأصلي عند خلقتهم الأولى، وعندما جاءت إليهم كلمة الله، لم يشكّوا مطلقًا، بل قبلوها وتبعوها بكلّ استعداد ونشاط.. هذا أوّل نوع من الدعوة الدعوة الثانية هي هذه: يوجد أناس يسمعون الكلمة المكتوبة وما تشهد به عن الآلام والعذابات المعدّة للأشرار، والمواعيد المُعدّة لمن يسلكون بلياقة في مخافة الله، وبشهادة الشريعة المكتوبة تتيقّظ نفوسهم وتطلب الدخول إلى الدعوة.. الدعوة الثالثة هي هذه: توجد نفوس كانت سابقًا قاسية القلب مستمرة في أعمال الخطيّة ولكن الله الصالح في رحمته رأى أن يرسل عليهم تأديبات الآلام والضيقات حتّى يتعبوا، فيستفيقون وينتبهون ويتغيّرون ويتقرّبون من الله ويدخلون في معرفته ويتوبون من كلّ قلوبهم.. الدعوة الأولى لمن هم بالفطرة أنقياء، أولئك الذين لم تلوّثهم تعقيدات الحياة، فهم يتبعون المسيح عند أوّل كلمة يتلقونها ويسيرون خلفه.. بينما الدعوة الثانية هي للعقلاء الذي يقيّمون الأمور ويحسبون حساب النفقة، ويزنون ثقل وامتداد أمجاد الحياة الأبديّة بخفّة وقصر الزمان الحاضر، فيقتنعون بأن الربح لصالح الحياة مع المسيح وخلفه، فيسيرون وراءه.. أمّا الدعوة الثالثة هي دعوة لقساة القلوب والمعاندين الذين يجتذبهم الله من خلال تجارب وضيقات وعصا تأديب ممدودة على الدوام، وحينما يدركون ملاحقة الله لهم يأتون ليجرّبوا الحياة مع الله، وقتها يكتشفون عمق وغنى الحياة مع المخلِّص، فيسرون خلفه.. قناعة أم مشاعرلقد ظهر في الآونة الأخيرة نوع جديد من الدعوة لتبعيّة المسيح -تبنتها بعض الكنائس الأخرى- مستندة على المشاعر التي تغلِّف الخطاب الكتابي المسيحي، ولعلّ هذا الخطاب المستحدث يدخلنا في دائرة الخلط بين التبعيّة كقرار مدفوع بالنعمة وبين التبعيّة كحالة من البهجة والفرح على طوال الطريق، وكأنّ الطريق لا يعبر في بعض منحنياته بوادي الألم والدموع.. إن الخطاب القائم على المشاعر يعلم بأن الإنسان المعاصر في جوع لمن يداعب مشاعره لينسيه قسوة الحياة وتحدياتها المتلاحقة؛ فحركة المشاعر أشبه بقطرة المياه التي يشتهيها السائر في طريق قفر. ولكن مياه المشاعر لا تروي ظمأ الإنسان المعاصر طويلاً إذ أنّ المشاعر لا تكوِّن موقف إنساني واضح المعالم يشير إلى غاية الحياة. لذا إن كانت التبعيّة للمسيح مدفوعة بالمشاعر وحدها لن تصمد طويلاً على الطريق وسترتد سريعًا وكأنّها بناء على الرمال، فطبيعة المشاعر أن تكون متقلّبة ومتغيّرة. في المقابل علينا أن نكوِّن قناعة يوميّة بضرورة تبعيّة المسيح.. أن نجدد تعرُّفنا على الله يومًا بعد يوم لا ليداعب مشاعرنا ولكن ليكون لنا نصيب مع ذلك الكائن الذي يأسر النفس بمحبته؛ فجذب الحبّ الإلهي لنا يتجلّى في انفتاح بصائرنا على مدى محبّة الله لنا وقتها سنسير خلفه لا لأننا نتمرّغ في مشاعر المحبّة بل لأنّه جدير بالمحبّة وبالسير خلفة لأنّه الوحيد الذي يقدِّم حبًّا مجّانيًّا. وإن اختفت المشاعر لبعض الوقت على الطريق لكي ما يختبر الله موقفنا من جهته، سنسير خلفه لأنه هو الطريق والحقّ والحياة. لذا علينا أن نبني موقفنا من المسيح وملكوت الله على صخر صلد لا يؤثِّر عليه رياح التجارب وعصف الشدائد وأمطار الشكوك وقسوة الوحدة على الطريق.. وحينما تكون قناعتنا بتبعيّة المسيح “قناعة ذهنيّة سرائريّة” حينها سنجد عونًا هائلاً من النعمة يثبِّت قرارنا بالسير على وقع خطوات المخلِّص طوال الطريق. وقد يتساءل البعض عن خطورة الاعتماد على المشاعر كبوصلة لمعرفة الطريق؟ هنا علينا أن ننتبه أن المشاعر هي هبة إلهيّة على الطريق نتلقاها في تسبيح وشكر وسجود ولكنها ليست وحدها مقياس صحّة الطريق. فقد تختفي المشاعر وتظهر غيوم الحيرة في سماء عالمنا حينها لن يتبقّى لنا سوى التزامنا الذهني المتّكئ على الإيمان الفاعل، بقرار تبعيّة المسيح.. من جهة أخرى، نجد أن المشاعر يمكن أن تُحرَّف، فالكثيرون يخلطون بين الفرح والسعادة.. بين السلام والخنوع.. بين الجرأة والتهوُّر.. الخ. فنحن على الدوام في حالة من التعرُّف على الذات وبالتالي إعادة صياغة تعريفنا لمشاعرنا الذاتيّة وهو أمر مرتبط بنضوجنا. ويبقى السؤال إن تبعنا مشاعرنا وحدها؛ هل يجب أن نتخبّط بين الطرق حتّى نصل إلى النضج؟؟ هنا تظهر قيمة وعينا العقلي وقناعتنا الذهنيّة بالطريق كموقف لا يتغيَّر لأنّه قائم على حسبة منطقية بالروح للعلاقة بين الله والعالم، ودور الروح أن يُذكِّرنا بقرارنا الذي اتخذناه أثناء مسيرتنا، فضلاً عن معونتنا طوال الطريق. إذن، التبعيّة القائمة على المشاعر وحدها تلقينا في بريّة التيه. بينما التبعيّة القائمة على موقفنا من الله، الذي يتكوّن يومًا بعد يوم، على الطريق، يصعد بنا إلى جبال الرّب لنعاين من هناك أرض الميعاد. على الطريقإنّ ما يعنينا اليوم هو المفهوم الباطني لتبعيّة الربّ.. إنه ارتحال من مدينة الإنسان القديم إلى مدينة الإنسان الجديد.. ارتحال في قفرٍ مهيب.. وديان وجبال ودروب محفوفة بالمخاطر.. دعوة المسيح لنا بتبعيّته هي دعوة لأن نكون مغامرين على دروب الربّ.. متّكلين ومستندين على عكاز إيماننا الذي نستند عليه عند الإعياء.. في النهار ستجد الطريق قفر والحرارة شديدة، فالبريّة «مكان حَيَّاتٍ مُحْرِقَةٍ وَعَقَارِبَ وَعَطَشٍ حَيْثُ ليْسَ مَاءٌ» (تث 8: 15).. ستجد أنك تتحرّك بصعوبة شديدة، فلفحات شمس الظهيرة قاسية.. ستفكر في العودة إلى مدينة الإنسان القديم وقد تأخذ بعض الخطوات للخلف ولكنك ستجد مظلّة على جاني الطريق يقطنها شيخ وقور يدعوك للحديث.. وحينما تدخل ستجد وجه حاني يقابلك ويدعوك لأن تشكو آلامك وأتعابك وأفكارك.. وحينما تتحدّث تشعر بارتياح سرائري عجيب.. وحينما تنتهي سيشير عليك بخيمة الحياة.. خيمة مكتوب علي قوائمها “من يأكلني يحيا بي”.. ستدخل لتجد كأسًا وخبزًا في انتظارك ودعوة رقيقة للحياة.. بعد أن ترتشف قطرة من الكأس وتأكل كسرة من الخبز ستجد الحياة تدب في أوصالك من جديد عوضًا عن الإعياء الذي طالك طوال الأيام السابقة.. ستخرج من الخيمة تسير على الطريق بقوة الحياة التي أخذتها.. فالكأس والخبز هما جسد ودم المخلِّص اللذين للحياة.. أثناء سيرك ستجد تفرعات في الطريق ستحتار وحينما تسأل من حولك ستتيه بالأكثر وقتها ستجد علامات إرشاديّة على الطريق هي كلمة الله للسائرين والحائرين، إن وثقت بها سترشدك إلى الطريق الذي تسلكه.. وحينما يلقي الليل بظلاله السوداء الحالكة وتجد أن الطريق أصبح بلون السماء الأسود، ستجد ضوءًا رقيقًا يقودك، لن يراه غيرك، فمن عال شعبه في البريّة قديمًا مازال يرشد بالروح أولئك السائرين على الطريق.. أَنْتَ بِرَحْمَتِكَ الْكَثِيرَةِ لَمْ تَتْرُكْهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُمْ عَمُودُ السَّحَابِ نَهَاراً لِهِدَايَتِهِمْ فِي الطَّرِيقِ وَلاَ عَمُودُ النَّارِ لَيْلاً لِيُضِيءَ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يَسِيرُونَ فِيهَا (نح 9: 19) أثناء مسيرتك، ستجد الجموع العائدة إلى مدينة الإنسان العتيق تسخر منك وتنعتك بالجنون إنه قانون العالم تجاه السائرين على الطريق.. « قَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ الْفَلاَسِفَةِ الأَبِيكُورِيِّينَ وَالرِّوَاقِيِّينَ وَقَالَ بَعْضٌ: «تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هَذَا الْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟» وَبَعْضٌ: «إِنَّهُ يَظْهَرُ مُنَادِياً بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ» لأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَالْقِيَامَةِ» (اع 17: 18) منهم من سيشير عليك بنظرة إلى الوراء نحو مدينة الإنسان القديم البرّاقة لكي ما يستميلك.. وآخر سيرتدي عباءة الناصح الحكيم مؤكِّدًا أن الطريق بلا نهاية وأنه طريق الهلاك لا ينجو منه أحد.. احْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! (مت 7: 15) ستجد الجموع المتدافعة تحملك إل الخلف حينما تكون قدماك منهكتان من المسير.. ولكن في كلّ هذا لن تفارق الطريق؛ اللاّفتات أو المظلّات أو خيمة الحياة.. ستجد أثناء الطريق رفقة لا تدرك من أين جاءتك، تسير معك.. ترشدك.. تشهد لك عن جمال مدينة الإنسان الجديد. وحينما تتساءل عن هويّة تلك الرفقة ستجد ملابسهم تتجلّى بضوء وهّاج.. وقتها ستدرك أن المدينة ترسل بمبعوثين لتشديد السائرين على الطريق.. سيزداد شوقك وحبّك لتلك المدينة ولسكّانها.. على الطريق ستجد من رأيتهم يتحرّكون بشوق شديد نحو مدينة الإنسان الجديد ولكنّك ستجدهم عائدين إلى الخلف.. ستحتار.. ستتألّم.. فهناك على الطريق دائمًا يوجد ديماس يحب ويحن للعالم الحاضر.. « لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي اذْ احَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ » (2تي4: 10) على الطريق ستجد رسائل تحمل اسمك وحينما تفتحها ستقرأ أن عليك مهمة عظمى وهي تحويل الراجعين إلى مدينة الإنسان القديم إلى طريق الحياة من جديد.. عليك مسؤوليّة عظمى وهي أن تشرح للقافلين إلى الخلف أنّ أمجاد المدينة الجديدة أبديّة بينما المدينة القديمة محوطة بالزمان الفاني إذ ستتلاشى يومًا ما على أنقاضه.. قانون المدينة الجديدة ألاّ يأتي أحد وحده بل عليه أن يدخل برفقة آخر.. فالبوابة لا تنفتح إلى فرد بل إلى جماعة.. وقد يكون جذبك للجماعة فقط من خلال صلاتك.. ولكن عليك أن تهتم بخلاص الجماعة كلّها وتسعى لعونهم.. على الطريق ستمر عليك أوقات ستشعر فيها بوحدة شديدة وكأنك وحدك السائر، ستنظر حولك لن تجد سوى العائدين إلى الخلف.. ستتوقّف وتتساءل هل الطريق حقيقة أم خدعة.. ستعيد طرح مرارتك أمام الله وكأنّك إيليا الجديد.. « وَدَخَلَ هُنَاكَ الْمَغَارَةَ وَبَاتَ فِيهَا. وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَيْهِ: مَا لَكَ هَهُنَا يَا إِيلِيَّا؟ فَقَالَ: قَدْ غِرْتُ غَيْرَةً لِلرَّبِّ إِلَهِ الْجُنُودِ، لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ تَرَكُوا عَهْدَكَ وَنَقَضُوا مَذَابِحَكَ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَكَ بِالسَّيْفِ، فَبَقِيتُ أَنَا وَحْدِي. وَهُمْ يَطْلُبُونَ نَفْسِي لِيَأْخُذُوهَا. » (1مل19: 9-10) ولكنك ستجد لافتة على الطريق مكتوب عليها؛ “ تذكَّر أن هناك سبعة آلاف ركبة لم تنحن لبعل”.. ستتمنى لو تتاح لك الفرصة لتتعرّف عليهم، ولكن لكلّ شيء تحت السماء وقت، تلك هي أول نصيحة تلقيتها وأنت مبتدئ في المسير. على الطريق ستجد تساؤلات وحيرة تقبض على قلبك المنهك بالشك، ستطلب من المسيح حلولاً ولكنه سيعطيك المبادئ التي تسير عليها.. فقانون المسير هو أن يزوِّد خواصه بالمبادئ لا الحلول.. المادة الخام لا المنتج النهائي.. ستجد في الكثير من الأحيان جبال عالية تعترض طريقك عليك أن تعبرها.. وستسمع أصوات تقول لك: لم ينجو أحد من تسلُّق تلك المرتفعات.. وحينما تطرح لهم أسماء العابرين سيردون أنها خداعات الماضي وأساطيره والدليل أنه ليس من عابر الآن للجبال.. في ذات الوقت ستسمع صوتًا يقول لك:
وقتها سترفع ناظريك إلى العلاء وتقول مع المزمور: أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي (مز 121: 1) كلمات التشجيع ستدفعك لخوض المغامرة من جديد، وحينما تتحرّك ستجد أنّ مخاوفك تتبدَّد مع تبدُّد الغيوم.. ستجد القمّة أكثر وضوحًا.. ستجد الجبل ينحني لإرادتك وتصميمك.. ستجد رفقاء لم ترهم من قبل، يشاركونك تسلُّق الجبل.. ستجد أن أصوات المشكِّكين تتلاشي مع كلّ حركة إلى أعلى.. وكأنك تولد من جديد كل يوم.. من فوق.. وكأنّ هناك حبال ترفعك إلى القمة.. لا تراها ولكن تستشعرها.. وقتها ستدرك أن أول خطوات التبعيّة هو التصديق وبدء المسير.. لقد كانت تُحكى لنا قصة رمزيّة قديمة عن الآثار التي نراها على الطريق بجانبنا وفجأة نراها وقد انمحت من على الطريق.. لا تبقى سوى آثار قدمين فقط.. ونعلم من الله أنها للنعمة التي تحملنا وقت تجاربنا وآلامنا ومعاناتنا.. هذا ما يحدث ونراه كلّ يوم على طريق ارتحالنا نحو المدينة الجديدة.. أورشليم العليا.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
الكنيسة بلدة السلام إن الكنيسة هي موطن السلام الذي يُصدِّر السلام للعالم أجمع، فهي المكان الذي يتصالح فيه الإنسان مع ذاته حينما يُقدِّم توبته واعترافه، كما أنها المكان الذي يتصالح فيه الإنسان مع الآخرين حينما يُقدِّم صلاته من أجل العالم أجمع وحينما يصير واحدًا مع الكنيسة بالشركة في المائدة الإفخارستيّة، كذلك هي المكان الذي يتصالح فيه الإنسان مع الله حينما يشترك في الذبيحة غير الدمويّة المُقدّمة على المذبح. من هنا فإن الراية التي ترفعها الكنيسة على الدوام هي راية المصالحة والسلام لمن تتقاذفهم لجج الخصومات وأعاصير الانشقاق الهادرة. لذا يجب أن يكون اشتراكنا في الليتورجيّات الكنسيّة مقرونًا بثمار تلك الشركة التعبديّة؛ فمن تدعوه الكنيسة ليتصالح مع ذاته ومع الآخرين ومع الله عليه أن يُظهِر في تعاملاته وسلوكياته اليوميّة ثمر تلك الشركة وإلاّ كانت اللّيتورجيّة دائرة لا تلمس حياتنا الباطنيّة ولا تغيِّر من اتجاهاتنا الأخلاقيّة!! وكأنّ للإنسان عالمين غير متلاقيين؛ أولهما تعبدي والآخر أخلاقي، وهو المفهوم البعيد كل البُعد عن تكوين الإنسان المسيحي. لقد كتب القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية قائلاً: «فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ» (رو14: 19). إنها دعوة رسوليّة لأن نضع نصب أعيننا البناء المسيحي الذي يتطلّب تكريس كلّ جهودنا للعمل على إظهاره ككيان مشرق وجاذب لمن ألقت بهم الخطيئة على ضفاف بركة بيت حسدا طالبين عونًا من عالمٍ لا يقدر أن يهب الشفاء. وتلك الدعوة هي -في جوهرها- أن نثمر ثمر المسيحيّة الحياتي؛ فما من مسيحي كاره للسلام وما من مسيحي هادم للبنيان.. إن الدعوة الرسوليّة تريدنا أن نظهر مسيحيّتنا بأنغام السلام وسواعد البناء. إنّ علينا مسؤوليّة تجاه العالم يجب ألاّ نغفلها؛ فسلوكنا هو الإنجيل التطبيقي الذي يقرأه العالم قبل أن يتعرَّف على إنجيلنا الكتابي. وحينما نخفق في أن نكون أدوات تغزل أقمشة السلام لستر عري إنسان العالم، يتحوّل العالم ويعبر عنّا وعن مسيحنا ونكون بذلك حجر عثرة يقف في وجه مَنْ يتحسّسون بدايات طريق الحياة. «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ» (مت5: 9)، قالها المسيح قديمًا ولكن صداها يتردَّد حتى الآن، كإعلان أن البنوّة لله مرهونة بالعمل على نشر أريج سلام الله أينما حللنا. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
أيها المُصلِّي أيها المصلي، المطنطن فوق أزهار الروح، توقف عن الطيران وانصت إلى موجات السكون السابحة من بين جدران زهرة الروح الربيعية.. فها هي تناجيك شارعة أوراقها هيا ارتشف من رحيقها، فبهجتها ملؤك ونشوتها، أن تراك مترنّحًا من فيض الحبّ.. هيا اعدد أوعيتك لتغترف من رحيقها زادًا حينما ترتحل في قفرٍ بلا أزهار.. وتشتد عليك حرارة الشمس الصيفية وتجوع وتعطش وتخور.. وقتها ستدرك قيمة رحيقها الذي كان يناديك وأنت على قارعة الطريق وقتها ستدرك، أنّ رحيق أزهار الربيع كان هو غذائك في قفر الصيف وقتها ستترجّى لحظةً تهنأ بها بين ذراعي أزهار الروح الربيعية.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
كلمات على الطريق 1 نتصافح ونتعانق ونتحاور بينما تبقى قلوبنا أسيرة خلف أسوار قناعاتنا. 2أعجب لجهلٍ ينادي بثوابت العلم، ولإيمانٍ يصدح بغير تواضع الفضيلة، ولمسيحيّة تخاطب بغير لُّغة الحبّ، وبإنسانٍ يقاتل تحت إمرة الحرف!! 3ليس المسيحي هو من يتحمّل الآلام بل هو من يتحمّلها غافرًا كسيّده 4قد نتساءل لماذا يأتي الجرح ممّن أحببتهم ويأتي الصوت الإلهي: ليكن اتكالك عليّ وحدي لا غيري وقتها أعمل فيك وبك لإعلان ملكوتي الحقّ |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
الدين للإنسان لابُدّ للروح الدينيّة الصحيحة من أن تعمل على إذابة الأفراد في حياة الجماعة، وعندئذ يكون في وِسع الفرد أنْ يعلو على فرديّته الضيّقة القائمة على العُزلة والانفصال، لكي يُشارِك في حياة جماعيّة كُليّة تَكْفَل له الشعور بغبطة الحياة. هيجل لقد اعتدنا ترديد مقولة “الدين لله والوطن للجميع”. إلاّ أنّ الدين في حقيقته للإنسان، إنّه وجهة نظر إنسانيّة تجاه الله، واحتياج إنساني وتطلُّع إنساني بالأساس. قد تبدو تلك العبارة للوهلة الأولى صادمة لآذانٍ قد أَلِفَت مأثورات الأقوال وردّدتها، وذلك لأنّنا تعودنا النظر للدين وكأنّه الله ذاته دون أن نضع حدودًا فاصلة بين الله في ذاته والله بمنظار الإنسانيّة النسبي والمُتغيِّر. فالدين هو مجموعة النصوص والشرائع والخبرات المتراكمة والتي من خلالها يحاول الإنسان الاقتراب برؤية الفكر وبصيرة القلب من الله. الدين له صفة الجمعيّة أي أنّه يتشكّل من خلال رؤية الجماعة في مكانٍ ما وزمانٍ ما لنصٍّ من خلال الممارسة، لذا تجد مذاهب وفرق وشيع في المجتمع الواحد، وتخرج من بوتقة النصّ الواحد!! بينما الله يبقى شخصًا للإنسان، لذا فإنّ العلاقة معه تفترض تواصل مباشر حرّ بين الله والإنسان. وبالرجوع للكلمة الفرنسية للدين religion والمشتقّة من جذور لاتينيّة، نجد أنّها مُكوّنة من مقطعيْن: (re) وتعني إعادة، و(lire) وتعني قراءة؛ أي أنّ الدين، من هذا المنظور، هو “إعادة قراءة”. إنّ تلك القراءة الجديدة لمُعطيات الحياة الإنسانيّة في مسيرتها، في الزمان، وما بعد الزمان، بل وما قبل الوجود، تُشكِّل الاعتقاد، وذلك في ظلّ عاملٍ جديدٍ مُطْلَق وهو الله بصفته الأب / المُحبّ. تلك القراءة الجديدة للحياة إنْ تحوّلَت لعلاقة، فإنّها تفتح آفاقاً رحبة في التعامل مع الله بما يسمو فوق النصِّ، وإنْ انطلق منه، لأنّها تستمد فهمها الباطني من الله غير المحدود ذاته، من خلال الشركة، ممّا يضع خيارات لا نهائيّة في التعامل مع الله، ويُصْبِح الله هو البحرُ الذي تَسْبَح فيه المعارف الإنسانيّة وتَنْهَل منه دون أنْ تجد له نهاية، ودون أنْ تتصادم مع الله أو مع بعضها البعض. وأمام تلك الخيارات المُتّسعة في التعرُّف على الله واختبار العَلاقة معه في إطار من المحبّة والخيريّة الإلهيّة، يقف البشر متجاورين ومتحاورين، يُثري كلٌّ منهم الآخر في رؤيته لعلاقته بالله، فتتّسع خبرة الإنسانيّة في تذوُّق الله وتقترب بالأكثر من الله الحقيقي وليس الله المُخْتَلَق من وعيٍّ منقوص ومنغلق على ظاهر نصٍّ وأحرف متراصة مُجرّدة من سياقاتها. ولكن ما يحدث في الواقع غير ذلك؛ فبدلاً من أن يقف البشر متجاورين محُدِّقين ببصيرة قلوبهم الباحثة عن الحقّ في شخص الله غير المرئي للحاسّة الإنسانيّة، نجدهم يقفون متناحرين ومتنازعين ومتخالفين، كلٌّ يريد أن يفرض رؤيته على الآخر، وكلٌّ يريد أنْ يَحصُر الله في خبرته الذاتيّة، ويرفض، بعقلٍ مُتحجِّرٍ، وجود الله، لآخرٍ، خارج دائرة ذاته الإنسانيّة الموصدة، يرفض أنْ يكون الله للبشريّة كلّها، بل ويرفض حقيقة كونه يترك لها الخيار الحُرّ أن تكون له أم لا!! وهنا يبرز دور النصُّ الذي يستحضره البعضُ، لا لشيءٍ إلاّ ليصير مرجعيّة لتشكيل الضمير!! ليتلقّف منه هؤلاء المنغلقين على ذواتهم بعض المقاطع ليُدلِّلون بها على رؤاهم الذاتيّة ومن ثمّ يُجرِّموا خبرات الآخرين وحقوقهم في اكتشاف الله بشكلٍّ شخصي وهنا يتحوّل الدين، فيُصْبِح قراءة قديمة أصوليّة مُنْغلقة!! بدلاً من كونه قراءة مُتجدِّدة مُتّسعة ممتدة فوق الزمان والمكان لصالح الإنسان والحبّ والتعايش الأخوي. فتُشْهَر الأسلحة وتُرفع الرّايات باسم إلهٍ مُنْغَلِق لا يقبل التعدُّديّة والحريّة، فتنشأ الحروب ويموت الإنسان ضحيّة دينٍ وكتابٍ!! ويظهر وكأنّ الله مُحرِّضًا للموت!! فتقوى، في المقابل، شوكة الإلحاد وتزداد حُجَج اللاّدينيّين الذين يرفضون إلهًا تلطّخت يده بالدماء على شاكلة آلهة اليونان التي كانت تخوض الحروب قديمًا، بحسب الأسطورة، ويصبح الدين هو الوقود الذي يُحرِّك قاطرة الإلحاد لترتحل بالبشريّة بعيداً عن الله!! ويقف الله مُتألّماً على الفريقيْن؛ فالأوّل يُدافِع عن ذاتيّته متوهمًا فيها عونًا لله!! ويدافع عن هويّته الكتابيّة متوهّمًا فيها الديانة!!! والآخر، يرفض فكرة الألوهة إجمالاً انطلاقًا من رصده لعقائدٍ تُفرِّق البشريّة وتعود بها إلى جمود وظلمة عصورٍ غابرةٍ. وكلا الفريقان لم يتعرّف بعد على الله الحقّ!! هنا يأتي دورنا كمسيحيين لتقديم المسيحيّة كعلاقة، بالأساس، قائمة على الحبّ المنفتح على الآخر، لتصرُخ في الأطراف المتحاربة، أنّ الله نبعٌ من الحبّ غير المحدود، يدعونا معًا للحياة، يحترم تعدُّديّتنا واختلافنا وتمايزنا، ولنا في مَثَل السامري، ومعجزة الكنعانيّة، وابن قائد المئة، دليلٌ على الحبّ الذي لا يُفرِّق، حبٌّ لا يرى سوى إنسانٍ دون النظر إلى هويّة أو ديانة أو مذهب أو عرق أو لون أو جنس أو ثقافة.. هذا هو الله الذي لو انضوينا تحت لوائه ملتئمين سنتذوّق بهجة المدينة الفاضلة. إنّها دعوة لإعادة النظر في رؤيتنا لله ورؤيتنا للدين على ضياء الغاية؛ تحرُّر الإنسان، ذاك المخلوق على صورة الله ومثاله. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
الشّهادة وعلاقة السلطات بالكنيسة في حياة المسيحيين الأوائل في أورشليم وتخومها وهكذا تحت تأثير القوّة السماويّة، وبعونٍ إلهيّ، أنارت تعاليم المُخلّص كلّ العالم بسرعةٍ كأشعّة الشمس، وللحال خرج صوت الإنجيليّين والرسل المُلهمين إلى كلّ الأرض وإلى أقصى المسكونة كلماتهم تاريخ الكنيسة - يوسابيوس القيصري نقرأ في بداية خدمّة الربّ يسوع أنّه كان عرضة لهجمة شرسة في مجمع الناصرة نتيجة لشرحه النصّ الوارد عند إشعياء وهو الأمر الذي دفع الجموع للهياج المبكِّر على يسوع؛ «فَامْتَلأَ غَضَبًا جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ حِينَ سَمِعُوا هذَا، فَقَامُوا وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَطْرَحُوهُ إِلَى أَسْفَلٍ. أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى.» (لو4: 28-30). ومن وقتها والمجمع اليهودي هو القاسم المشترك في معاناة المسيحيين الأوائل، ومصدر لانطلاق شرارة الاضطهاد على الكنيسة. لم يمر الوقت حتّى بدأت تتحقّق كلمات المسيح؛ «وَقَبْلَ هذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ، وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ اسْمِي» (لو 21: 12). (1)أوّل صدام نرصده بين قادة اليهود والمسيحيّة الناشئة، قدّمه لنا القديس لوقا في سفر الأعمال في الإصحاح الرابع، عقب المعجزة التي أجراها القديس بطرس عند باب الهيكل المدعو بـ“الجميل”، والتي كان من نتائجها التفاف جموع كثيرة في رواق سليمان ليسمعوا ما عزم بطرس على إعلانه. وأثناء الكلمة التي كان يلقيها بطرس؛ « أَقْبَلَ عَلَيْهِمَا الْكَهَنَةُ وَقَائِدُ جُنْدِ الْهَيْكَلِ στρατηγὸς τοῦ ἱεροῦ وَالصَّدُّوقِيُّونَ، مُتَضَجِّرِينَ مِنْ تَعْلِيمِهِمَا الشَّعْبَ، وَنِدَائِهِمَا فِي يَسُوعَ بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَأَلْقَوْا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ وَوَضَعُوهُمَا فِي حَبْسٍ(1) τήρησις إِلَى الْغَدِ، لأَنَّهُ كَانَ قَدْ صَارَ الْمَسَاءُ » (أع4: 1-3). هنا ونلاحظ أنّ ثلاث فئات تجمّعت لإلقاء القبض على التلاميذ، وهم يُمثِّلون ثلاثة تيّارات في المجتمع اليهودي آنذاك؛ فالكهنة يُمثِّلون التعصُّب الديني والارتكان إلى التراث والأصوليّة في التفكير، بينما قائد جند الهيكل يمثِّل الجانب الأمني والمرتبط بالضرورة بالجانب السياسي، ومن الجدير بالذكر أنّ حراسة أبواب الهيكل كانت إحدى وظائف اللاّويين لمنع دخول أي شيء نجس، وقد ورد ذكر قائد جند الهيكل في الكتابات اليهوديّة كـ“رجل جبل الهيكل”، وتأتي مكانته في المجتمع اليهودي بعد رئيس الكهنة مباشرة. أمّا الجماعة الثالثة التي كانت حاضرة لإلقاء القبض على التلميذيْن هم الصدوقيون ويمثِّلون الجناح الرأسمالي والطبقة الثريّة والحاكمة في المجتمع اليهودي. ومن الأمور التي يجب أن تستوقفنا؛ أنّ العدو الأوّل للمسيح في المجتمع اليهودي، كان جماعة الفريسيين، إلاّ أنّ ثمّة تغيُّر كبير حدث إذ بات الصدوقيون هم المقاوم الأوَّل للتعليم المسيحي. وذلك لأنّ محور التعليم الذي جاهر به بطرس بل والرسل أيضًا هو القيامة من الأموات، وهو الذي يمسّ التعليم الصدوقي في جوهره، بل ويقوِّض كلّ دعواهم بأنّه ليست هناك قيامة من الأموات. وبالرغم من كون الصدوقيين(2) ليبراليين منفتحين على الثقافات الأخرى دونما تزمُّت، إلاّ أنّهم هبّوا معًا لمقاومة قيامة يسوع. وبعد أن استفسروا منهم عن مصدر القدرة التي جعلتهم يقيمون الرجل الأعرج، أوضح لهم بطرس أنّ القوّة نابعة من يسوع الذي قتلوه منذ أيامٍ ليست بكثيرة. ويضيف سفر الأعمال؛ «فَلَمَّا رَأَوْا مُجَاهَرَةَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا، وَوَجَدُوا أَنَّهُمَا إِنْسَانَانِ عَدِيمَا الْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ، تَعَجَّبُوا. فَعَرَفُوهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ يَسُوعَ.» (أع4: 13). لقد تعجّب اليهود المجتمعين من قدرّة الرسوليْن على الحديث بالرغم من كونهما «عديما العلم وعاميّان». إنّ “عاميان” وردت في النصّ اليوناني ἰδιώτης وهي تعني الشخص غير المتخصِّص في مجالٍ ما.(3) والعلم المقصود هنا هو الدراسة في المدارس اليهوديّة للتوراة والمشناه وغيرها من نصوص التقليد،(4) والتي تؤهِّل الشخص للحديث في الأمور العقائديّة، إذ كان بطرس يخاطب الناس في رواق سليمان. مَنْ لم ينل ولو قسطًا صغيرًا من التعليم كان في مرتبة متدنّية في المجتمع اليهودي، ومن ثمّ كان يُنظر إليه نظرة دونيّة ولم يكن يُنتظر منه الكثير على أيّة حال. إنّ تلك النظرة كانت هي النظرة إلى المسيح أيضًا، حينما صعد يسوع إلى الهيكل ليُعلِّم؛ «فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: ‘كَيْفَ هذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟’.» (يو7: 15). كان ردّ يسوع عليهم؛ «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو7: 16). لذا فقد كتب يوحنّا الذهبي الفم عن بطرس وبولس المُجاهرين بالقيامة أمام اليهود؛ “لم يكن الرسولان هما المتكلّمان ولكن نعمة الروح.”(5) أي أن قياس كلامهما لا يجب أن يُبنَى على معارفهما بل على معارف الروح اللاّمحدودة، المتكلِّم فيهما. إنّ هاتين الكلمتين؛ «عديما العلم وعاميّان»، تلقيان بالضوء على ردّ فعل قادة اليهود تجاههم فقد دعوهما؛ «وَأَوْصَوْهُمَا أَنْ لاَ يَنْطِقَا الْبَتَّةَ، وَلاَ يُعَلِّمَا بِاسْمِ يَسُوعَ.» (أع4: 18). لقد كان السبب الحقيقي لذلك الحُكم أنهم كانوا خائفين من ردود الأفعال تجاه محاكمة الرسل أو قتلهم، لذا فقد رأوا أن القليل من التهديد قد يكفي تلك المرّة؛ «مَاذَا نَفْعَلُ بِهذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؟ لأَنَّهُ ظَاهِرٌ لِجَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ أَنَّ آيَةً مَعْلُومَةً قَدْ جَرَتْ بِأَيْدِيهِمَا، وَلاَ نَقْدِرُ أَنْ نُنْكِرَ. وَلكِنْ لِئَلاَّ تَشِيعَ أَكْثَرَ فِي الشَّعْبِ، لِنُهَدِّدْهُمَا تَهْدِيدًا أَنْ لاَ يُكَلِّمَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فِيمَا بَعْدُ بِهذَا الاسْمِ» (أع4: 16، 17). ولكن كانت الإشكاليّة هي: كيف سيُقدّمون الحُكم أمام النّاس والذي قد يُنظَر إليه بأنّه تساهُل تجاه تلك الحركة الجديدة، كان عليهم أن يحيكوا المؤامرة جيِّدًا كما اعتادوا؛ «وَتَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ» (أع4: 15)، ولعلّ ما ساعدهم على ذلك أنه كان هناك قانون يهودي في القرن الأوّل الميلادي يمنع معاقبة غير المتعلِّمين على خطأهم الأوّل الذي يكون عادة نتيجة الجهل. ولعلّ هذا الإطار كان مخرجًا لهم أمام إطلاقهم للرسل دون عقوبةٍ.(6) لقد كانت تلك أوّل محاكمة أو بالأحرى شبه محاكمة للمسيحيين. إنّها أوّل حركة من قادة اليهود تجاه المسيحيّة بعد محاولتهم الفاشلة للقضاء على يسوع. لقد كان ردّ بطرس، بل وردّ الكنيسة على تهديدهم؛ «لأَنَّنَا نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا» (أع4: 20). أسباب القبض على بطرس ويوحنّا: شفاء الأعرج والتعليم في رواق سليمان والمناداة بقيامة يسوع مراحل الاستجواب: 1- الاستدعاء الأوَّل (4: 5-12) 2- اجتماع خاص لقادة اليهود (4: 13-17) 3- الاستدعاء الثاني (4: 13-22) (2)بعد مرور وقت قليل على حادثة القبض الأولى على الرسل نقرأ؛ «فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَجَمِيعُ الَّذِينَ مَعَهُ، الَّذِينَ هُمْ شِيعَةُ الصَّدُّوقِيِّينَ، وَامْتَلأُوا غَيْرَةً فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَى الرُّسُلِ وَوَضَعُوهُمْ فِي حَبْسِ الْعَامَّةِ(7)ἐν τηρήσει δημοσίᾳ» (أع5: 17-18) وكان ذلك بعد أن بدأت تنتشر التعاليم بقيامة يسوع، وبدأت الآيات تتزايد وتستقطب الكثيرين من المدن والقرى المتاخمة؛ «وَكَانَ مُؤْمِنُونَ يَنْضَمُّونَ لِلرَّبِّ أَكْثَرَ، جَمَاهِيرُ مِنْ رِجَال وَنِسَاءٍ.. وَاجْتَمَعَ جُمْهُورُ الْمُدُنِ الْمُحِيطَةِ إِلَى أُورُشَلِيمَ حَامِلِينَ مَرْضَى وَمُعَذَّبِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ، وَكَانُوا يُبْرَأُونَ جَمِيعُهُمْ.» (أع5: 14-16)، وهو الأمر الذي استحضر في أذهانهم خدمة يسوع قبل موته؛ ولكن تلك المرّة هناك أكثر من يسوع، وكأنّهم حينما ألقوا بحبّة الحنطة على الأرض لتَمُت، أثمرت أعدادًا متزايدة من ثمارٍ حاملةً آلاف البذار. لم يكن الحبس في حدّ ذاته عقوبة بحسب القانون الروماني الذي يسري على البلاد الخاضعة للحكم الروماني، فقد كان تمهيدًا للعقوبة.(8) وفي السجن حدثت المعجزة الشهيرة التي تفتّحت فيها أبواب السجن على مصراعيها أمام الرسل(9) وكلّمهم الملاك أن عليهم أن يذهبوا لينادوا بكلمة الحياة، وهو ما عملوه في الصباح الباكر. وحينما نما إلى علم رئيس الكهنة وقائد جند الهيكل وكلّ مشيخة بني إسرائيل أنّهم يعلّمون من جديد في الهيكل، ألقوا القبض عليهم مرّة أخرى، ولكنهم لم يستخدموا العنف تلك المرّة خوفًا من الجموع (انظر: أع5: 26). «فَلَمَّا أَحْضَرُوهُمْ أَوْقَفُوهُمْ فِي الْمَجْمَعِ. فَسَأَلَهُمْ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ قِائِلاً:‘أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهذَا الاسْمِ؟ وَهَا أَنْتُمْ قَدْ مَلأْتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ، وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هذَا الإِنْسَانِ’. فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَالرُّسُلُ وَقَالُوا:‘يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ(10). إِلهُ آبَائِنَا أَقَامَ يَسُوعَ الَّذِي أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هذَا رَفَّعَهُ اللهُ بِيَمِينِهِ رَئِيسًا وَمُخَلِّصًا، لِيُعْطِيَ إِسْرَائِيلَ التَّوْبَةَ وَغُفْرَانَ الْخَطَايَا. وَنَحْنُ شُهُودٌ لَهُ بِهذِهِ الأُمُورِ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ أَيْضًا، الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ’. فَلَمَّا سَمِعُوا حَنِقُوا، وَجَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ.» (أع5: 27-33). من كلمات بطرس والرسل يرتسم أمامنا أساس لعلاقة الكنيسة بالسلطات القائمة آنذاك؛ إذ لا يجب الخلط بين طاعة الله وطاعة البشر، حينما يكون هناك تعارض. فالكرازة بكلمة الحياة كانت وصيّة المسيح قبيل صعوده إلى السماء، كما كانت تعليمات السماء بفم الملاك للرسل، وهنا تتعارض الوصيّة مع مطلب السلطات، ويبقَى القانون الذي سارت عليه الكنيسة وأرادات أن تُقدِّمه لنا في كلّ العصور وتحت مختلف الظروف هو أنّ طاعة الله تتقدّم على طاعة البشر. لقد كتب القديس بطرس في رسالته؛ «فَاخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ. إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ الْكُلِّ، أَوْ لِلْوُلاَةِ فَكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ لِلانْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي الشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي الْخَيْرِ. لأَنَّ هكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ: أَنْ تَفْعَلُوا الْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ النَّاسِ الأَغْبِيَاءِ. كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ اللهِ. أَكْرِمُوا الْجَمِيعَ. أَحِبُّوا الإِخْوَةَ. خَافُوا اللهَ. أَكْرِمُوا الْمَلِكَ» (1بط2: 13-17). هنا ويبدو أن هناك تناقض بين ما قام به بطرس وصرّح به الرسل أمام المجمع، وبين تعليم بطرس الرسول فيما بعد. ولكن بنظرة أكثر عمقًا نجد أنّ الخضوع والطاعة والإكرام للسلطات الذي يطالب به القديس بطرس، الكنيسة، هو في إطار القوانين المدنيّة والتي لا تتعارض ولا تتداخل مع القانون الإلهي والوصيّة الإلهيّة؛ ولعلّ استشهاد القديس بطرس على يد السلطات لهو أقوى دليل على ضرورة عدم الخلط بين الطاعة الكاملة للوصيّة الإلهيّة وإن نتج عنه غضب السلطات، وبين الخضوع للترتيب البشري والقانون الوضعي الذي يحكم المعاملات بين الناس في إطار شرعيّة قانونيّة وقضائيّة تُظلِّل على الجانب التنفيذي منه. اجتمع المجمع اليهودي والمكوَّن عادةً من 71 عضوًا يشمل رئيس الكهنة ليتباحثوا بخصوص الأزمة التي بدأت تتفاقم في المجتمع. وكانت تتعالى دعاوى بضرورة القضاء عليهم كما يسوع، لئلا يحدث ما لا يُحمد عقباه. إلاّ أنّ صوتًا عاقلاً وجد له مكانًا في جلستهم الصاخبة؛ هو غمالائيل(11) الشيخ الفريسي، والذي أشار على المجمع المنعقد بأن يتركوا القضاء لله لتظهر أحكامه، فإن كان هذا الأمر من الله سيثبت وإن لم يكن فسوف يتلاشى من تلقاء ذاته(12) مدلِّلاً بحركة ثوداس ومن معه، واستجاب الجمع لرأيه و«دَعُوا الرُّسُلَ وَجَلَدُوهُمْ، وَأَوْصَوْهُمْ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمُوا بِاسْمِ يَسُوعَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ»(أع5: 40). وكان الجلد بحسب القانون اليهودي، أربعين جلدة إلاّ واحدة (حتّى تقبل القسمة على ثلاثة كما تقول المشناه). ومن الغريب أنّ عقوبة الجلد لها ضوابط ومصوغات وأحكام لا تنطبق بأي شكل من الأشكال على حالة الرسل؛ فكما جاء في المشناه(13) أن عقوبة الجلد تتضمّن: 1- التعديات الأخلاقيّة مثل أن يضاجع الرجل / المرأة أشخاصًا مُحرَّمين (في النطاق العائلي). 2- التعديات التشريعيّة مثل التنجُّس بكل أشكاله. 3- التعديات السلوكيّة بالتشبّه بالعادات الوثنيّة، مثل حلق الشعر مستديرًا، الوشم، جرح الجسد.. إلخ. إلاّ أن أسباب القبض على الرسل لم تتضمّن أحد تلك الأشكال، ومن ثمّ فإنّ عقوبة الجلد ههنا تفتقر إلى الشرعيّة اللاّزمة من التشريعات اليهوديّة، وهو ما يدلِّل أن القضاء اليهودي لم يكن هو المتحكِّم في الأمر، فقد تُرك بجملته ليد قادة اليهود لاجتثاث الحركة المسيحيّة من جذورها. أمّا طريقة الجلد نفسها فنقرأ عنها في الموسوعة اليهوديّة: “كان السوط يصنع من جلود العجول، وكان المُعاقَب يُجلَد على الجزء العلوي من جسده؛ ثلث عدد الجلدات على صدره، والثلثان الآخران على ظهره. وكان المُعاقب يقف في وضعٍ منحنٍ بينما الجلاّد يقف خلفه على حجرٍ، وكان يصاحب الجلد ترديد بعض العبارات التذكيريّة والإرشاديّة للمُعاقَب من النصوص المُقدَّسة”.(14) كما نقرأ في المشناه: “لا يُجلَد واقفًا ولا جالسًا وإنّما مائلاً، حيث ورد «ويطرحه القاضي» (انظر: تث25: 2). والجلاّد يجلد بيد واحدة وبكلّ قوّته.”(15) كان الجلد هو أوّل عقوبة أو اضطهاد لجمع من المسيحيين (كلّ الرسل)، ولكنّه في المقابل كان سبب فرح غامر للرسل لأنّهم تألمّوا مع المُخلِّص أو بالأحرى اشتركوا في آلام المخلِّص؛ «وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ. وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ وَفِي الْبُيُوتِ مُعَلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ» (أع5: 41-41). أسباب القبض على الرسل:
ظهر على ساحة الكنيسة فمٌ جهوري جديد يبشّر بقيامة الربِّ بجرأة وقدرة فائقتين؛ إستفانوس أحد الشمامسة السبع، الذي لم تستطِع أن تصمد أمامه ردود قادة اليهود وهو ما أدّى إلى ثورتهم عليه؛ «فَنَهَضَ قَوْمٌ مِنَ الْمَجْمَعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَجْمَعُ اللِّيبَرْتِينِيِّينَ وَالْقَيْرَوَانِيِّينَ وَالإِسْكَنْدَرِيِّينَ، وَمِنَ الَّذِينَ مِنْ كِيلِيكِيَّا وَأَسِيَّا، يُحَاوِرُونَ اسْتِفَانُوسَ. وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُقَاوِمُوا الْحِكْمَةَ وَالرُّوحَ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ. حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجَال يَقُولُونَ:‘إِنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ تَجْدِيفٍ عَلَى مُوسَى وَعَلَى اللهِ’. وَهَيَّجُوا الشَّعْبَ وَالشُّيُوخَ وَالْكَتَبَةَ، فَقَامُوا وَخَطَفُوهُ وَأَتَوْا بِهِ إِلَى الْمَجْمَعِ، وَأَقَامُوا شُهُودًا كَذَبَةً يَقُولُونَ:‘هذَا الرَّجُلُ لاَ يَفْتُرُ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ كَلاَّمًا تَجْدِيفًا ضِدَّ هذَا الْمَوْضِعِ الْمُقَدَّسِ وَالنَّامُوسِ، لأَنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ هذَا سَيَنْقُضُ هذَا الْمَوْضِعَ(16)، وَيُغَيِّرُ الْعَوَائِدَ الَّتِي سَلَّمَنَا إِيَّاهَا مُوسَى’. فَشَخَصَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْجَالِسِينَ فِي الْمَجْمَعِ، وَرَأَوْا وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلاَكٍ» (أع6: 9-15). من المعروف أن مجامع اليهود كانت تعبيرًا عن أصولهم؛ فالسكندريين يُصلُّون معًا وكذلك القيروانيين.. إلخ، إلاّ أن مجمع الليبرتينيين له أهميّة خاصة في فهم موقف اليهود من إستفانوس. والمجمعσυναγωγή قد يُفهَم أنه مكان أو جماعة، ولعلّ الأخيرة أقرب إلى النصّ الذي كتبه القديس لوقا(17). الليبرتينيين هي عن الكلمة اللاّتينيّة libertini وتعني المُحرَّرين، في إشارة إلى اليهود الذي أخذوا إلى روما كعبيد على يد بومبي Pompey 63 ق. م.، وهناك نالوا حرّيتهم فيما بعد وكوّنوا مستعمرة على نهر التيبر في روما(18)، وتمّ ترحيلهم من روما حسب مرسوم طيباريوس(19) عام 19 م. لقد كان هؤلاء هم الأشد عداءً لاستفانوس لأنّ ما يُبشِّر به يعني أنّ ما عانوا من أجله لم يكن يستحق؛ فالأمم سينالون ميراثًا كما اليهود؛ تلك الفكرة كانت تزعجهم حينما يستحضرون في أذهانهم الرومان الذين استعبدوهم ثمّ طردوهم، من هنا كان الصدام مع إستفانوس أكيدًا. ونلحظ هنا أمريْن في غاية الأهميّة:1- الاعتماد على الشهادة الزور للوصول إلى مبتغاهم من النيل من إستفانوس. 2- تهييج الشعب على إستفانوس عن طريق الادّعاء عليه فيما يمسُّ مناطق مقدّسة عند جموع اليهود؛ الموضع المُقدّس، الناموس، موسى. وتلك هي المرّة الأولى التي تتحرّك فيها الجموع ضدّ الكنيسة. وبالفعل تحقَّق لهم ما أرادوا إذ اختطُف إستفانوس بعنفٍ واقتيد إلى المجمع؛ مسرح المؤامرات اليهوديّة. أسباب القبض على إستفانوس:
بعد عظة طويلة استعرض فيها إستفانوس بمهارة ووعي مُجمل التاريخ اليهودي، كانت كلماته الأخيرة بمثابة الوخزة التي دفعتهم إلى الهياج والجنون؛ «يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ، وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ! أَنْتُمْ دَائِمًا تُقَاوِمُونَ(20) ἀντιπίπτετε الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ! أَيُّ الأَنْبِيَاءِ لَمْ يَضْطَهِدْهُ آبَاؤُكُمْ؟ وَقَدْ قَتَلُوا الَّذِينَ سَبَقُوا فَأَنْبَأُوا بِمَجِيءِ الْبَارِّ، الَّذِي أَنْتُمُ الآنَ صِرْتُمْ مُسَلِّمِيهِ وَقَاتِلِيهِ، الَّذِينَ أَخَذْتُمُ النَّامُوسَ بِتَرْتِيبِ مَلاَئِكَةٍ وَلَمْ تَحْفَظُوهُ. فَلَمَّا سَمِعُوا هذَا حَنِقُوا بِقُلُوبِهِمْ وَصَرُّوا بِأَسْنَانِهِمْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، فَرَأَى مَجْدَ اللهِ، وَيَسُوعَ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَقَالَ: ‘هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ’. فَصَاحُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَسَدُّوا آذَانَهُمْ، وَهَجَمُوا عَلَيْهِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ.» (أع7: 51-58). لم يذكر لنا القديس لوقا تفاصيل رجم إستفانوس إذ اكتفى بقوله؛ «وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ»، ولكي نتعرّف على عملية الرجم عند اليهود، والتي تختلف إلى حدٍّ كبير عن الصورة التي في أذهاننا عن تلك العقوبة، نقرأ: “حسب كلام الرابيين، فإنّ المحكوم عليه بالرجم، كان يُوْثَق اليدان، وكان أحد الشهود يلقيه بقوّة حتى يسقط على ظهره، بعدها يلقي الشاهد الثاني عليه، حجرًا، وإن بقى حيًّا بعد ذلك، تبدأ الجموع في إمطاره بوابلٍ من الحجارة حتى تصرعه، ثم يتركوا الجسد معلَّقًا حتى الغروب.”(21) أمّا في المشناه، نقرأ بالتفصيل عن طريقة الرجم، في باب السنهدرين (الفصل السادس)، إذ تقول: “إذا انتهى الحكم، يخرجونه (المتّهم) لرجمه، ومكان الرجم كان خارج المحكمة، حيث ورد؛ «أَخْرِجِ الَّذِي سَبَّ إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ» (لا24: 14).. يخرج (المتّهم) للرجم ويخرج المنادي أمامه، إنّ [فلان ابن فلان] خارج للرجم لارتكابه الجريمة [الفلانيّة]، و[فلان] و[فلان] شاهدان عليه، فكلّ من يرى أنه برئ يأتي ويشهد له.. وعندما يكون (المتّهم) بعيدًا عن مكان الرجم بأربع أذرع يخلعون ملابسه.. إذ يقول الحاخامات: إنّ الرجل يُرجم عريانًا، أمّا المرأة فلا تُرجم عريانه. وكان مكان الرجم مرتفعًا قدر قامتين (لرجل). يدفع أحد الشهود [المتّهم] على ظهره، فإذا انقلب على قلبه يُقلبه على ظهره فإذا مات بهذا فقد تمّت عمليّة الرجم. وإن لم يحدث فإنّ الشاهد الثاني يلقيه بحجر على قلبه فإذا مات به فقد تمّت عمليّة الرجم. وإن لم يحدث فإنّ كلّ الجماعة ترجمه.. كلّ المرجومين يعلّقون طبقًا لأقوال رابي أليعازر. كيف يعلّقونه؟ يغرسون لوحًا في الأرض، وبالقرب من رأس اللوح تخرج خشبة منه، ثمّ يطوّقون يديه ويعلِّقونه..”(22) ومن الواضح أنّ القديس استفانوس لم يمت في المرحلتيْن الأوليَيْن، ولكنّه أصبح عرضة لوابل من الحجارة، تنهال عليه من الجموع الثائرة عليه، ولكن العجيب أنّنا نقرأ أنّه استجمع كلّ قواه ليجثو على قدميه ليقدِّم صلاته الأخيرة من أجل قاتليه؛ عندها رقد في الربّ، وسطَّر أول كلمة في تاريخ الشهادة الممتد حتى اللحظة الحاضرة. إنّ إستفانوس Στέφανον يعني الإكليل، وهو بالحقيقة صاحب التتويج الأوَّل بين جمع الشهداء، صعد إلى السموات وهو مخضّبٌ بدمائه، لكي يلاقي مسيحًا مخضَّبًا بدماء الحبّ؛ ليقوم معه وفيه إلى الحياة الأبديّة والنصرة الدهريّة، وليجلس فيه عن يمين الآب. كان موت إستفانوس نقطة تحوُّل في الكنيسة الأولى، إذ بعد موته مباشرة بدأت موجة من الاضطهاد تلاحق الكنيسة، وصفها يوسابيوس القيصري بأنّها “الأعظم من اليهود على كنيسة أورشليم”(23)، حتى بدأ التشتُّت لساكني أورشليم، ما عدا الرسل؛ «وَحَدَثَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ اضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ الْجَمِيعُ فِي كُوَرِ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ، مَا عَدَا الرُّسُلَ. وَحَمَلَ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ اسْتِفَانُوسَ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ مَنَاحَةً عَظِيمَةً(24)» (أع8: 1-2). لقد بدأت الجموع تشترك مع القادة في مواجهة المسيحيّة؛ من خلال ملاحقة المسيحيين بالإهانة والسرقة والضرب والقبض.. إلخ. لقد بدأت الأوجاع وبدأت معها الأكاليل تُعدّ لمن يصبر إلى المنتهى. ولكن هل كان في التشتت والاضطهاد إضعاف للكنيسة؟ نجد القديس لوقا يوضِّح لنا الأمر جليًّا لئلا تلتبس علينا الأمور؛ «فَالَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِالْكَلِمَةِ» (أع8: 4) فالكرازة كانت تتحرَّك على وقع خطى الاضطهاد، لم يفترقا. وكأن الكلمة كانت تصدح من بين رياح الضيقة ولهيب الاضطهاد. الشّهيد المكرّم الذي لربّنا يسوع المسيح القديس إستفانوس الذي تأويله الإكليل الذي كشف له الله، أسرارًا عظيمةً واستنار وجهه مثل وجه ملاكٍ الذي رأى السموات مفتوحة وربنا يسوع المسيح عن يمين الآب والذين يرجمونه كان يطلب عن خلاصهم صارخًا قائلاً: يا ربّي يسوع المسيح اقبل روحي ولا تحسب هذه الخطيّة على هؤلاء النّاس لأنهم لا يدرون ماذا يصنعون من أجل عمى قلوبهم يا ربّ لا تبكتهم أكمل سعيه ومات على الحقّ ولبس إكليل الشهادة غير المضمحل السلام لك أيها المجاهد الذي لربّنا يسوع المسيح القديس استفانوس الذي تأويله الإكليل اطلب من الربّ عنّا يا رئيس الشمامسة المبارك الشهيد الأوَّل ليغفر لنا خطايانا. (ذكصولوجيّة القديس استفانوس رئيس الشمامسة وأوّل الشهداء) _____ الحواشي والمراجع :(1) جاءت تلك الكلمة عند يوسيفوس بمعنى رهن الاعتقال. Josephus Ant. 16.321 (2) يرى يوسيفوس أنّ الصدوقيين يستميلون الأغنياء فقط بينما الفريسيين يحظون بتأييد جمهور الجموع. Josephus, Jewish Antiquities 13.298 (3) Abbott, Thomas Kingsmill: A Critical and Exegetical Commentary on the Epistles to the Ephesians and to the Colossians. New York: C. Scribner’s sons, 1909, 234 (4) Stern, David H.: Jewish New Testament Commentary: A Companion Volume to the Jewish New Testament. electronic ed. Clarksville: Jewish New Testament Publications, 1996, c1992, Acts 4:13 (5) The Nicene and Post-Nicene Fathers, edit. by: Schaff, Philip,, First Series Vol. XI. (Oak Harbor: 1997), Homilies on the Acts, 65 (6) Richards, Lawrence O.: The Bible Readers Companion. Wheaton: Victor Books, 1991; 712 (7) الكلمة في اليونانيّة تعني رهن الاعتقال، أو بحسب المصطلح الأمني المعاصر؛ على ذمّة التحقيق. ومن الجدير بالذكر أن هناك ثلاث كلمات مستخدمة في هذا الإطار؛ الأولى Τήρησιςوتعني رهن الاعتقال كما أشرنا، أمّا الثانية Φυλακή وتعني تحت الحراسة، بينما الثالثة δεσμωτήριον وهي تعني موضوعًا في قيود. Vincent, Marvin Richardson: Word Studies in the New Testament. Bellingham, Vol. 1, 470 (8) Gary L. Knapp, “Prison,” International Standard Bible Encyclopedia, vol. 3, 975. (9) نقرأ في سفر الأعمال عن ثلاث مرّات يتمّ فيها الخروج من السجن بشكلٍ معجزي (انظر: أع12: 6-10؛ 16: 26-27) (10) لقد وردت نفس العبارة على لسان سقراط أثناء دفاعه عن نفسه أمام القضاة الأثينيين، إذ قال: “ينبغي أن أطيع الله أكثر من البشر” Plato Apology 29D (11) معروف في التاريخ اليهودي بـ“غمّالائيل الكبير” وهو أوَّل من اُطلق عليه لقب “رابان Rabban” بدلاً من “رابي Rabbi”، وهو الأوَّل من بين ستّه دعوا باسم غمّالائيل، كان أشهرهم حفيده غمّالائيل الثاني. غمالائيل هو حفيد الرابي الشهير هلِّل، كما أنّه قائد مدرسة بيت هلِّل Beit-Hillel. وهناك فقره في المشناه بخصوصه تقول: “حينما مات رابان غمّالائيل الكبير، خبا مجد التوراة، حينها توقفت الطهارة والقداسة” Sotah 9:15 Stern, David H.: Jewish New Testament Commentary: A Companion Volume to the Jewish New Testament. electronic ed. Clarksville: Jewish New Testament Publications, 1996, c1992, Acts 5:34 (12) هناك فقرة في المشناه تقول: “أي تجمُّع من أجل السماء سيثبت في النهاية، ولكن أي تجمُّع ليس من أجل السماء لن يثبت في نهاية الأمر.” Pirqe Aboth 4.11 (13) انظر: الباب الثالث من مبحث مكوت (الجلدات)، نزيقين الأضرار، المشناه، ترجمة د. مصطفى عبد المعبود (مكتبة النافذة: 2007)، ص 203-206 (14) H. Cohn, “Flogging,” Encyclopaedia Judaica, vol. 6, p. 1350. (15) الباب الثالث من مبحث مكوت (الجلدات)، المشناه، مرجع سابق، ص 207 (16) إنّ الادّعاء على يسوع بأنّه سيهدم الهيكل وجد له مكانًا في إنجيل توماس الأبوكريفي، أحد مخطوطات نجع حمادي، إذ تقول المخطوطة: “قال يسوع: ‘سوف أدمِّر هذا المنزل ولن يستطيع أحد أن يبنيه’.” Robinson, James McConkey ; Smith, Richard ; Coptic Gnostic Library Project: The Nag Hammadi Library in English. 4th rev. ed. Leiden; New York: E.J. Brill, 1996 , 134 (17) Conzelmann, Hans ; Epp, Eldon Jay ; Matthews, Christopher R.: Acts of the Apostles: A Commentary on the Acts of the Apostles. Philadelphia: Fortress Press, 1987, 47 (18) لقد تحدّث عنهم القديس يوحنّا الذهبي الفم، مطلقًا عليهم “المُحرّرين من الرومان οἱ Ῥωμαίων ἀπελεύτεροι” (العظة 15 على سفر الأعمال. انظر: PG 60.120) (19) Vincent, Marvin Richardson: Word Studies in the New Testament. Bellingham, Vol. 1, 476; Kistemaker, Simon J. ; Hendriksen, William: New Testament Commentary: Exposition of the Acts of the Apostles. Grand Rapids: Baker Book House, 1953-2001 (New Testament Commentary 17), 227. (20) تحمل الكلمة مفهوم المقاومة الإيجابيّة والتي تتضمّن “الهجوم على”. Vincent, Marvin Richardson: Word Studies in the New Testament. Bellingham, Vol. 1, 484 (21) Vincent, Marvin Richardson: Word Studies in the New Testament. Bellingham, Vol. 1, 485 (22) مبحث السنهدرين، الفصل السادس (أ-د)، مرجع سابق، ص 165-166؛ Freedman, David Noel: The Anchor Bible Dictionary. New York: Doubleday, 1996, c1992; Vol. 6, Page 209 (23) The Nicene and Post-Nicene Fathers, edit. by: Schaff, Philip,, Second Series Vol. I. (Oak Harbor: 1997), The Church History of Eusebius, Book I, Chapter I, 8, 104 (24) حسب المشناه فإنّ المحكوم عليه بالموت رجمًا لا يجوز أن تعمل له مناحة. انظر: Sanhedrin 6.6 |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
يا قليلي الإيمان وأمّا الإيمان فهو الثقة بما يُرجَى والإيقان بأمورٍ لا تُرى عب 11: 1 من وحي المعجزة التي وردت في (مر 4: 37 -41) .. بعد يومٍ طويلٍ مُمتلِئ بالمعجزات، في قرية كفرناحوم، دلف الربّ يسوع إلى القارب مع تلاميذه، متوجّهين صوب قريةٍ أخرى، ليُنادي باقتراب ملكوت الله، وليشفي أي مرضٍ وأي وجعٍ في الشعب؛ فقد كان، ليل نهار، يجولُ يصنع خيراً. دخلوا السفينة معاً كالمعتاد. بدأوا في رفع الشراع وتوجيهه إلى قرية الجرجسيّين التي في بيرّيه على الشاطِئ الشرقي من نهر الأردن. جلسوا معاً يستعرضون اليوم الحافل الذي شهدوه مع الربّ يسوع بينما تركهم يسوع ليتّكئ في مؤخِّرة السفينة. كان التلاميذُ يتباحثون حول المعجزات التي أجراها المُعلِّم في ذلك اليوم، وعيونهم تلمعُ من فرط الذهول لما عاينوه من عجائب. فتارةً يتحدّثون عن الأرواح التي كانت تخرجُ بكلمةٍ من فيه، وتارةً يتحدّثون عن شفاء حماة بطرس، ولكن ما استوقفهم، كانت كلمات المسيح لقائد المئة بأنّ له إيماناً أكثر من كلّ الإسرائيليّين، لأنّه آمن أنّ كلمةً واحدةً تكفي لشفاء غلامه المفلوج. كانت كلمات المُعلِّم لقائد المئة مسار جدلٍ بينهم؛ فقد رأى البعض أنّ لهم إيماناً يفوقُ إيمان قائد المئة الأممي، الذي أثنَى عليه يسوع. وبينما هم يتحدّثون، بدأت أمواج البحر تتعالَى، وألقى صفير الرياح بصداه على مسامع التلاميذ. قاموا على الفور للإمساك بالشراع حتى لا ينكسر ولا تتغيّر وجهته، بيد أن الطبيعة كانت قد تعهّدت في تلك اللّيلة أنْ تُهَاجِم قاربهم الصغير، وكأنّها مُكلَّفةً بتلقينهم خبرةً إيمانيّةً جديدةً. تعالت الأمواج، حتى وطأت بقطراتها أرض القارب.. اشتدّت الرياح العاصفة، حتى بدأ القارب في التأرجح وكأنّه دُميةٌ في يدّ أحد الأطفال، يتلهَّى به بتحريكه يميناً ويساراً .. تدافع التلاميذ؛ منهم مَنْ امسك بدلوٍ لإخراج المياه من السفينة. ومنهم مَنْ تشبّث بالشِراع. ومنهم مَنْ وقف في ذهولٍ من تلك الثورة الفجائيّة للبحرِ. ومنهم مَنْ كان يتحرّك دون أن يعمل شيئاً!!.. ولكن، بقدر ما كانوا يحاولون النجاة، بقدر ما كانت الأمواج تتعالَى، والعواصف تتشدّد، والطبيعة تزأر .. وفجأةً، حينما أدركوا أنّهم، لا محالة هالكون، وأنّ محاولاتهم للنجاة، لا تتعدَّى محاولات رضيعٍ أمام مقاتلٍ شديد القوة والبأس.. تذكّروا يسوع!! بدأوا يتساءلون: أين المُعلِّم؟؟.. وجدوه نائماً!! هرول إليه التلاميذ، وأيقظوه في تلهُّفِ واستنكارٍ!! وقال له أحدهم: يا مُعلِّم، أما تبالي أنّنا نهلك؟!! نظر إليهم يسوع بحزنٍ، متذكِّراً إيمانَ قائد المئة الأممي، بكلمته!! قام ووقف في مقدّمة القارب. تلاقت عيناه بالأفق، ثم نظر إلى البحر والموج والعاصفة، وانتهرهم بكلمات سلطانٍ، فهدأت العواصف وسكنت الأمواج، وكأنّها جروٌ صغيرٌ تطيع سيّدها. ساد صمتٌ مطبقٌ بين جنبات الطبيعة وعلى القارب!! ثم التفت إليهم، ورمقهم بنظرة تحمل من المعاني أقسَى ممّا تحمله كلمات التوبيخ، وقال لهم، بنبرة يمتزج فيها الحزن بالعتاب: “ما بالكم خائفينَ هكذا، كيف لا إيمان لكم؟؟“ أما هم فأطرقوا برؤوسهم إلى أسفل، في خجلٍ من عدم إيمانهم، وهم الذين تعجّبوا من الثناءِ الذي لقيه قائد المئة من يسوع، على إيمانه، متوهّمين أنَّ لهم إيماناً.. تركهم يسوعُ وعاد إلى مؤخّرة السفينة مرّة أخرى، بينما بدأت، في تلك اللّحظة، خيوط الإيمان الأولَى تتكَّون في قلوبهم، حينما أدركوا هشاشة إيمانهم، وتيقّنوا من سلطان يسوع الكامل، حتى على الطبيعة.. الإيمان لا يبدأ في ولوج القلب قبل أن يتيقّن الإنسان من هشاشته، بقدر يقينه من قدرة الله وسلطانه |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
القلق من الغد فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره (مت 6: 34) لقد أصبح القلق سِمة نفسيّة للعصر الحالي، والغد هو الرُّعب الأكبر الذي يرهبه الجميع!! يلتقيه البعض بنظرة تشاؤميّة تعكس آلامه الداخليّة، ويستقبله آخرون وهم مذعورون من نَسَمَات هبوبه على الحاضر، ويحاول الكثيرون الهرب من الغد بالانغماس في لذّة اللّحظة الحاضرة؛ إذ” يحسبون تنعُّم يومٍ، لذّة..” (2بط 2: 13)، وكأنَّ اللّذة هي دواء القلب المريض والذهن المُنجرِح بخوف الغدّ!! بيد أن القلق من الغد هو في جوهره بمثابة فقدان للثقة فيمَنْ يبعث لنا بالغدِ، في رسالة الحياة المتجدِّدة كلّ صباح. الخوف من الغد هو يعني خوفٌ من الله الذي يَدفَع لنا بالغد، وكأنّه عطيِّة مُفخَّخة، حالما تَصِلنا، تنفجر في وجوهنا!! هذا لأننا لا نسأل السؤال الصحيح في أغلب الأحيان، إذ نتساءل: ما الذي سيحدث؟؟ ولكن السؤال ينبغي أن يكون: مَنْ الذي سيُحْدِث؟؟ ولعلّ هذا الخوف غير المُبرَّر من الله!! ينبع من شعورنا بالخوف من عواقب يومنا.. شعورنا بالألم من نتائج أخطائنا، وكأنَّ الله يدفع بالغد ليؤدِّبنا ويعاقبنا على يومٍ تلوّث بالخطيئة!! إن لطف الله وإمهاله إنما يقتادنا للتوبة، بحسب ما أكّد لنا القديس بولس، لذا فالغد هو تعبير عن لطف الله ومحبّته المتأنيّة، إنه فرصة مُتجدِّدة لتصحيح أخطاء اليوم، ولتعديل مسار الحياة، ولقبول الله من جديد، ولتحويل الزمن الحاضر إلى ميراث أبدي. بل إنّ الغد هو فرصة ثمينة لنا لتحويل العالم الشاحب، من خلال إطلاق نور الثالوث، ليصير عَالمًا مُضيِئًا وهّاجًا بضياء الأبديّة. والله لم يكن يومًا جلاّدًا قاسيًا يبعث لنا ببرقيّات تهديد ووعيد على أجنحة الغد، فهو إله تُحرِّكه على الدوام، قوى الحبّ الذاتيّة في طبيعته، الحبّ الذي لا يتوقّف من نحونا، حبُّ يصفح عن كلّ أخطاء اليوم المنقضي، ويغفر كل تعديّات الحاضر الساقط في آبار الظلمة. ولنتذكّر كلمات القديس بولس الذي قال:” ونحن أعداء قد صولحنا مع الله، بموت ابنه” (رو 5: 10). فعداوة البشرية لله بالسُكْنَى في أودية الشرّ، لم تمنع الله من التجسُّد وقبول الموت من أجل أولئك الذين أرادهم بنينًا أحرارًا من قيد الخوفِ والقلق والمستقبل. فبالتجسُّد أصبح المستقبل يعني حركة إيجابيّة نحو الأبديّة. وقد يتساءل البعض، عن النصوص المليئة بالتحذيرات الإلهيّة، إنْ لم نرجع عن طرق الشرّ؟؟ إن تلك البرقيات الإلهيّة، هي تحذير بأنّ عاقبة الخطيئة من داخلها، ونتائجها من داخلها. الخطيئة تمامًا كالنّار التي تظل تضطرم من ذاتها وتحرق كلّ ما يمّسها. ومن يضرم النار، بالخطيئة، لا ينبغي أن يصرخ في الله لماذا الألم؟؟ وكأنّ الله مصدر للألم فـ”لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، لأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً “(يع 1: 13). إذ أنّ الألم والقلق والاضطراب يستدعيه الإنسان بذاته حينما يستدعي طيف الخطيئة ويستظلّ به.. فالخطيئة مصدر كلّ قبحٍ وتشوُّشٍ وقلقٍ في الكون. إنّ أعظم تأديبٍ قد يصيبنا من الله هو أن يتركنا لنتائج خطيئتنا داخليًّا وخارجيًّا؛ ولكنّه إذ يعاملنا بعين الأبوّة ينتهج معنا منهج الجرح والعصب، السحق والشفاء. فما من ضربة تصيب أولاد الله إلاّ ويصاحبها ضمادة إلهيّة وحضن دافئ ليؤكِّد، في خضمّ ألمنا، أنّه محبّة. لذا فإنّ مَنْ يرفض الله يرفض عونًا ونعمةً ومعيّة ترافقه على درب الحياة فيكون عرضة أكثر من غيره للألم جرّاء ما يلاقيه من أحداث، بينما معيّة الله، لمن يقبله كلّ يومٍ بتجديد عهد العلاقة معه، قلبيًّا وذهنيًّا وإفخارستيًّا.. تجعله أكثر صمودًا وقوّة على مواجهة الحياة، بل وتجعله ينعم بسلامٍ وإن كان الأتون متصاعد اللّهب؛ فالسلام والراحة هي موقف داخلي لا يعني ورديّة الحياة الخارجيّة، ولكن بالأحرى، تلقِّي آلام الحياة على” أيدي النعمة” التي تمتص الصدمة عن الإنسان وترشده لكيفيّة التعامل معها للخروج دون خسائر تلمس روحه. إنَّ القلق من الغد لو استولَى على إنسانٍ ما، قد يتحوّل إلى مرضٍ يمنعه من اتّخاذ أيّ قرارٍ في حياته. وقد يمنعه من العمل بإيجابيّة من أجل مستقبله؛ لذا فهناك فرقٌ كبيرٌ بين التفكير في الغد والقلق من الغد. التفكير في الغد أمرٌ إنسانيٌّ طبيعي بل وضروري، فيجب على الإنسان أنْ يُخطِّط لحياتِه بشكلٍ مُنظَّم، ويَحْلُم بغدٍ يحمل له بركات اليوم المغمور في العمل. ولكنَّ القلق من الغد هو التحوُّل المَرَضي من التفكير السوي إلى التفكير المريض.. من التفكير الإيجابي إلى التفكير السلبي.. هذا ويجب علينا أن ندرك: إننا لا نستطيع أن نغيِّر الغد بالقلق، ولكنك تستطيع أن نغيِّره بالعمل الجّاد، والطموح الصادق المرتكز على الأعمال لا نتائجها. ولعلّ كلمات المسيح هي أبلغ ردٍّ على الذين يُكبِّلهم القلق بقيوده الحديدية. ها هو يقول: ” ومن منكم إذا اهتمّ، يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدةً” مت 6: 27 وكأنّه يقول لنا اليوم:
إنَّ الغد دائمًا هو وليد اليوم؛ فعمل اليوم نحصد ثماره في الغد، وكسل اليوم نجني ثماره أيضًا في الغد. فلو كان يومك يفوح منه شذى العمل الجاد المُخْلِص (في أيّ مجالٍ، وفي كلّ مجالٍ) الحالِم بغدٍ أفضل، سيحمل لك الغد بالفعل؛ البركة والبهجة والسلام والأمان، داخليًّا، وإن كانت براكين العالم تقذف حممها من الأحداث المُضْطَرِبة والمُقلقة، ولكن إنْ كان يومك أسيرُ الرقاد واليأس واللّهو سيحمل لك الغد، القلق والخوف والشكوك.. ولكنه في جميع الأحوال فرصة ثمينة، للتنعُّم ببركات اليوم المثمر أو لتعديل نتائج اليوم العاقر.. إنّه فرصة لا تتكرّر كثيرًا.. وما يعبر لن يعود من جديد.. فليكن لنا الغد تلاقٍ مع الثالوث، ولقاءَ مع الإنسان، في ثوب الحبّ الفاعل والنابض بالحياة.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المسيحية المعاصرة هناك مَنْ ينظر للماضي وكأنّه قممٌ من جليدٍ متجمِّدٍ لم تعبر عليه شمس التجربة الإنسانيّة.. وكأنّه خيوطٌ أسطوريّةٌ في رداء التاريخ الوهمي الذي نسجته قريحة الشعوب القديمة. وفي المقابل، هناك مَنْ يرَى في الماضي رمادًا ذُرَّ في فضاء التاريخ.. رمادًا لا قيمة له في الحاضر، فاليوم هو الحياة، وكلّ وافدٍ من الأمس، هو ابن قبور الماضي التي لا يجب أن تُفْتَح من جديد. ولعلّ مسيحنا الذي نرَى فيه الله حيًّا مُتحرِّكًا متلامسًا معنا، قد طاله، من قِبَل العالم، ما طال التاريخ من الإسقاط الأسطوري، أو من التهميش التاريخي، وكلاهما كانا بمثابة محاولة مغرضة لعزلنا عن مسيحنا، ومن ثمّ مسيحيّتنا، لإغراقنا في مياه الحيرة أمام دعوتنا الإلهيّة. يحاول العالم الآن أن ينال من المسيح من خلال البحث في التاريخ الممتد عبر إحدى وعشرين قرنًا. لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام بهاء الربّ يسوع وشريعته، فبحثوا عمّن دُعوا على اسمه لعلّهم يجدوا في تاريخهم ما يلقون بأضواء ظلمتهم عليه!! ولكن هل كلّ مَنْ يُدعَى مسيحيًّا يحيا حسبما أوصَى الربّ يسوع، وحسبما يُرشِد الروح؟ بالطبع لا. لذا فإنّ مَنْ يريد أن يواجه المسيحيّة يتوجّب عليه مواجهة المُخلِّص، لا مَنْ تسمّوا باسمه، فهناك مسيحيّون اسمًا بينما قلوبهم لم تتشكَّل على تعاليمه بعد. فاسم الله يُجدَّف عليه بين الأمم بسبب أفعال البعض، تلك كانت كلمات القديس بولس في رسالته إلى الرومان. “كيف أصبح مسيحيًّا؟” كان هو السؤال الذي ردَّده الفيلسوف الدنماركي كيركجارد في كتابه “وجهة نظر” الذي أصدره عام 1849، بل وذهب إلى أن نتاجه الفكري كلّه ليس إلاّ محاولة لفهم كيف يصبح مسيحيًّا. ولعلّ هذا السؤال يراود الكثيرين الآن وخاصة في زمن اختلاط القيم والمبادئ والثقافات.. زمن عولمة الذهن والقلب.. إذ تمّ الخلط عند البعض بين المسيحيّة من حيث هي عَلاقة شخصيّة / ليتورجيّة مع الله، وبين المسيحيّة من حيث هي ديانة بعض الشعوب وميراثهم الفكري والثقافي والحضاري. ذلك الخلط بين المسيحيّة / العَلاقة وبين المسيحيّة / الأيديولوجيّة جعل من الواقع لونًا رماديًّا لا نلمح فيه الخطوط البيضاء أو السوداء بسهولة، وبالوعي المُجرَّد. ولعلّ المسيحيّة / الأيديولوجيّة كانت السبب المباشر في العزوف عن الدين الذي مازالت تعاني منه المجتمعات الأوروبيّة حتّى الآن، حتّى إن البعض يرى أن أوروبا الآن تعيش في مرحلة “ما بعد المسيحيّة” أو مرحلة “عولمة الدين”. كانت محاولة الفصل ما بين المسيحيّة والمجتمع هي ما دعت إليه أستاذة الفلسفة مارجريت نايت في محاضراتها الشهيرة التي قدّمتها بالإذاعة البريطانيّة في خمسينيّات القرن الماضي والتي حملت عنوان: “أخلاق بغير دين”. وقد دعت فيها إلى إمكانيّة قيام أخلاق وضعيّة تحكم السلوك وتوجِّه سير الحياة دون الحاجة إلى الاسترشاد بالمبادِئ والقواعد الدينيّة أو الخضوع لتعاليم الكنيسة!! من هنا ظهر الشعار الذي رفعه دعاة مذهب الحداثة القائل: “إذا أردت أن تكون معاصرًا للحداثة فعليك أن تقول وداعًا للدين”. وقد نشأ في الكنيسة الكاثوليكيّة، كرد فعل، ما يُسمّى بـ“يمين الحداثة” وهو قَسَمٌ يؤدّيه الإكليروس على مختلف فئاتهم، فضلاً عن أساتذة اللاّهوت، وفيه يدينون كلّ ما يتعلّق بالحداثة، وقد كان هذا القَسَمُ معمولاً به حتّى المجمع الفاتيكاني الثاني. مذهب “الحداثة” قائمٌ على الإيمان بكلّ ما هو قابل للاختبار والمُشاهدة.. قائمٌ على العِلم الذي تفجّرت ينابيعه بالثورة الصناعيّة. والحداثة ترى أنّ الكون محدود لذا من الممكن معرفته؛ فالنظريات العلميّة وحدها هي مصدر الحقيقة، لا وجود لما لا يخضع للنظريّات العلميّة.. لذا لا وجود لعالمٍ آخر!! وقد انسحب هذا الفكر على المجال المسيحي والذي كان الألماني شليرماخرSchleiermacher (1768-1834) رائدًا فيه. فقد رأى أن فكرة الخلق من العدم، والأعمال المعجزيّة الواردة في الكتاب المُقدَّس فضلاً عن الميلاد البتولي للعذراء، هي أمور غير مقبولة علميًّا ومن ثمّ يجب أن تُرفَض!! ودعا إلى إعادة هيكلة الوعي والفهم الديني استنادًا إلى العلم!! ظهر بعده الألماني ألبرخت رتشيلAlbrecht Ritschl (1822-1889) والذي نادَى بالحفاظ على البذرة المسيحيّة والتخلُّص من القشرة. والقشرة، في رأيه، كانت أنّ المسيح إله!!! وفي القرن العشرين هاجم الأمريكي هاري إمرسون فوسديك Harry Emerson Fosdick، الميلاد البتولي، في كلمته التي بعنوان “خطر التعبُّد ليسوع”، وقدَّم وثيقة وقَّع عليها ألف ومائتي راعٍ معمداني، مفادها أنّ الميلاد البتولي والمسحة والقيامة ليست من ضروريات المسيحيّة!! لقد ظهرت الحداثة كردّة فعل عنيفة على كلّ الثوابت التي طالبت بها الكنيسة الغربيّة، المجتمع، عبر عِدّة قرون ممّا حال دون التقدُّم والبحث. ولعلّ الشعور بأنّ الإيمان المسيحي ضِدّ العلم كان نتاج بعض الحوادث التاريخيّة التي جرت في أوروبا في العصور الوسطَى نتيجة ارتباط السلطة الدينيّة بالسلطة المدنيّة. ظهر تيار جديد بعد “الحداثة” هو “ما بعد الحداثة” وهو التيار الذي يرفض كلّ تحديد؛ فالحقيقة ليست كونيّة وليست مطلقة وليست قابلة للفهم، كما أنّ اللُّغة لا تُعبِّر عن الحقيقة لأنّها جزئيّة.. ولأوَّل وهلة تبدو تلك الأفكار مقبولة عن التحديدات التي فرضتها الحداثة من خلال رفضها الإيمان بكلّ خيط لا يعبر على التجربة والمشاهدة، إلاّ أنّ “ما بعد الحداثة” أنتجت ما يمكن أن نطلق عليه “ميوعة فكريّة”، وهو الذي تبنّته بعض الكنائس اللّيبراليّة في الغرب، متنصّلة من كلّ تحديد عقائدي أو حتّى أخلاقي!! هنا ونجد أنّها كانت بمثابة محاولة لرأب الصدع بين الأفكار والعقائد والمذاهب المتباينة ولكن من خلال تجريد الإنسان من أيّة قناعة ذهنيّة وفكريّة وروحيّة وهنا الخلط بين ضرورة أن يكون للإنسان عقيدة، وبين الصراع مع مَنْ يخالفون العقيدة.. لقد أجرت مجلّة التايمز حوارًا مع أحد هؤلاء الذين آمنوا بـ“ما بعد الحداثة” ويُدعَى برايان ماكليرين والذي طبّق مفاهيم ما بعد الحداثة على الإيمان والحياة المسيحيّة، وحينما كان السؤال عن موقفه من المثليّة الجنسيّة كان ردّه “أنا لا أستطيع أن أجيب لأنّ أيّة إجابة ستجرح فردًا ما”!! وفي موضعٍ آخر أجاب: “يمكننا أن نكتشف الأمر بصورة أوضح بعد خمس سنوات”!! إيمان ما بعد الحداثة هو إيمان لا يُفرّق بين الصواب والخطأ، بل ويرفض كلّ تحديد وتصنيف أخلاقي للصواب والخطأ تاركًا إياه للمجتمع المدني. وهو بمثابة تنصُّل من المسؤوليّة المسيحيّة والشجاعة المسيحيّة في الإعلان عمّا نؤمن به وإن لم يلق استحسان البعض. ولعلّ خطورة الأخلاق المجتمعيّة تكمن في أن المجتمع يُجدِّد قيمه بين الآن والآخر تبعًا لقانون الإنتاج والاستهلاك المُتحكِّم في أيديولوجيّات الشعوب الآن والخاضعة لرغبة الحكومات في تجنيد الأخلاق لصالح الإنتاجيّة؛ فمثلاً الزنا ليس إشكاليّة ولكن الكذب إشكاليّة في تلك المجتمعات، لأنّ الكذب يُهدِّد منظومة الإنتاج. لذا لن تكون هناك ثوابت أخلاقيّة وهو ما يُنبـِئ بسقوط وانهيار تلك المجتمعات عينها. تلك بعضٌ من الأفكار التي تتحكّم في العقليّة المعاصرة، وهي تتأرجح أو قل تترنّح ما بين الأخلاق اللاّدينيّة، والحداثة الآمنة في أحضان النظريات العلميّة، والميوعة الفكرية والعقائديّة الناتجة عمّا بعد الحداثة، وهو ما دفع ألبير كامو ليقول: “إنّ العقل الحديث يعاني من تشوُّش، لقد امتدّت المعارف إلى مدى أصبح فيه من الصعب على العالم أو الذهن أن يجد موطئًا لقدم، إنها لحقيقة أننا نعاني من العدميّة!!” كان مُحصِّلة هذا التشوُّش أنْ ابتعدت العقليّة المعاصرة عن الله لأنّه غير خاضع للقياس العلمي.. كما توجّست من إقامة عَلاقة معه لئلا تقع أسيرةً لقيود أخلاقيّة تستلزمها تلك العَلاقة.. لذا فإنّ العقليّة المعاصرة يبدو وكأنّها تائهة في آفاقٍ بلا عودة.. المشكلة المعاصرة تكمن في الخلط بين الحياة داخليًّا والحياة خارجيًّا.. الخلط بين الإيمان بالأبديّة والعمل في دائرة الزمن.. بين الروح والجسد.. إنها من جديد مشكلة الخلط بين المسيحيّة / العَلاقة والمسيحيّة / الأيديولوجيّة.. ومن اللاّفت للنظر أنّ المسيح لم يستخدم كلمة “ديانة” مُطلقًا في الأناجيل الأربعة. في المقابل كان مطلبه هو الإيمان به حتى يستطيع البشر أن يخطو أولى خطوات نوال الخلاص؛ « مَنْ يؤمن بي ولو مات فسيحيا ». هنا ويتساءل البعض: هل جاء المسيح ليؤسِّس دينًا وضعيًّا يُعنَى بالنُظُم الأرضيّة تفصيلاً، وهل جاء المسيح ليضع بعض القواعد الأخلاقيّة التي تحكم العَلاقات؟ هل جاء ليوصِد أبواب المعرفة والانطلاق العلمي لصالح الأبديّة؟ هل كان الإيمان يتعارض مع الثورة العلميّة المعاصرة؟؟ وقال له واحدٌ من الجمع: يا مُعلِّمُ، قل لأخي أن يقاسمني الميراث فقال له: يا إنسان، مَنْ أقامني عليكما قاضيًا أو مُقسِّمًا؟ وقال لهم: انظروا وتحفَّظوا من الطَّمع فإنَّه متى كان لأحدٍ كثيرٌ فليست حياته من أمواله (لو 12: 13-15) لقد جاء المسيح ليُحرِّر الإنسان من ربقة الفساد الذي يحيله إلى ترابٍ يومًا بعد يوم. والحريّة هي الغذاء لإعادة البعث الباطني (المتولِّد من فطرة الإنسان الجديد) لتلك الأخلاق الظاهريّة (الاجتماعيّة)، تلك التي لا تنبت من أرضٍ ارتوت بالفداء الإلهي. لذا فإنّ الكتاب المُقدَّس غير معني بحركة العلم صعودًا وهبوطًا.. لا يدينها ولا يُكبِّلها.. فالكلمة الإلهيّة معنيّة فقط بروح الإنسان ونقاوتها. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
مصطلح "آباء الكنيسة".. هل من أصول؟؟ كانت هناك قاعدة في المجامع التي تلت مجمع نيقيه وهي: “إن قانون إيمان مجمع نيقيه كافٍ للحُكْمِ على أرثوذكسيّة أي تعليم”. كما كان القديس كيرلس الكبير كثيرًا ما يستهلّ كلماته بالعبارة الآتية: “آباؤنا المغبوطون علّمونا”. لقد أراد بهذه العبارة التأكيد على أنّه لم يأتِ بجديد، وأنّ ما يعيد صياغته وفقًا لمتغيّرات عصره لم يخالف ما تسلّمه، ولكنه يبني عليه. فالبناء الآبائي قائم على أساس واحد هو المسيح؛ رأس الزاوية. ولكن مَنْ هو المسيح؟ فَهْمُ المسيح هو ما كان يحميه الآباء من تشويهات الهراطقة وادعاءات الجهَّال، « كي لا نكُون فيما بعد أطفالاً مُضطربينَ ومحمولينَ بكلّ ريح تعليمٍ، بحيلة النّاس، بمَكْرٍ إلى مَكيدة الضَّلال » (أفسس 4: 14). لم يكن تعبير “الآباء” وليد الصدفة؛ فلقد أسميناهم آباء لأنهم ولدونا من الروح في المسيح من خلال كرازتهم وتعاليمهم، وبذلك صرنا أبناء شرعيين لآباء شرعيين أجمعت عليهم الكنيسة، لا كالهراطقة الذين وَلَدوا لهم بنينًا من رحمٍ آخر غير كلمة الله الحيّة والباقية إلى الأبد. كثيرًا ما نقرأ في كتابات الآباء العبارات التالية: نحن نؤمن.. كما قال المسيح.. كما تسلّمنا من الرُسُل.. كما تؤمن الكنيسة.. كما تُعلِّم الكنيسة.. إلخ، وهي كلّها عبارات تؤكِّد على أنّ الآباء لم يكونوا أفرادًا منعزلين يُخلِّقون إيمانًا ولاهوتًا، ولكنهم كانوا امتدادًا حيًّا لمَنْ سبقوهم، كما أنّهم بذارٌ حيّة لنا نحن الذين جئنا من بعدهم. لذا فقد كان لآبائنا، آباءٌ، تتلمذوا عليهم وقبلوا الروح من أفواههم. لم يبزغوا فجأة في سماء الكنيسة، ولكنّهم عرفوا كيف يتتلمذوا، لذا صاروا فيما بعد مُعلِّمين. إنّ الأمور التي نتعلّمها في الصبا تنمو مع النفس وتصبح معها واحدًا. فأستطيع هكذا أن أقول في أي مكان كان الطوباوي بوليكاربوس يجلس للتحدُّث. كما أذكر كيف كان يدخل ويخرج ويعيش، وأيًّا كان منظره الطبيعي ومحادثاته إلى الجماعة، وكيف كان يتكلّم على علاقاته بيوحنّا وبالآخرين الذين رأوا الربّ، وكيف كان يُذكِّر بأقوالهم، وما هي الأمور التي سمعها منهم بشأن الربّ ومعجزاته وتعليمه، وكيف حصل بوليكاربوس على كلّ ذلك من شهود عيان على كلمة الحياة، وكان يرويها وفقًا للأسفار المُقدّسة، وتلك الأمور أيضًا بالرحمة الإلهيّة التي صُنعت إليّ، أصغيت إليها بعناية، محافظًا على ذكرها، لا في الورقة، بل في قلبي. (القديس إيريناؤس) كانت عادة قديمة أن يكون المُعلِّم أبًا لتلاميذه، لذا فقد خاطب القديس بولس أهل كورنثوس في رسالته الأولى قائلاً: « لأنّه وإن كان لكم ربواتٌ من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباءٌ كثيرون. لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل » (1كو4: 15). من يتعلَّم من فمٍ آخر، فإنّه يُدعَى له ابنًا، كما يُدعَى الأخير له أبًا (القديس إيريناؤس) والآباء هم الأقرب زمنيًّا لعصر المسيح، يفصلهم عنه بضعة أجيال. منهم مَنْ تتلمذ على تلاميذه المباشرين وذهب ينقل الخبر والخبرة إلى الكنيسة، ومَنْ صار منهم مُكرَّس القلب والذهن تسلَّم من التلاميذ عصا الرعاية، لتبقَى الخبرة منقولة فمًا لأذن، لتشرح وتُفسِّر ما يختلط على البعض من نصوص دوّنها التلاميذ الأوائل. الكلمات وليدة النفس. لذا ندعو أولئك الذين علّمونا، آباء.. وكلّ من تعلَّم هو بمثابة ابن لمعلِّمه (كليمندس السكندري) إنّ البعض يتردَّد في قبول مصطلح الآباء استنادًا إلى كلمات الإنجيل القائلة: « ولا تَدْعُوا لكم أبًا على الأرْضِ، لأنّ أباكم واحدٌ الذي في السّماوات » (مت23: 9). وهذا يدفعنا للتساؤل عن مخاطبة الآباء الجسدانيين بهذا اللّقب؛ فمَنْ منّا لم يدعُ أباه الجسدي: أبي!! هل في هذا النداء الحميمي والذي يُوصِّف العلاقة بين الابن والوالد ما يُناقِض تعاليم المسيح؟؟ إنّ هذا الأمر يلقي بظلاله على إشكاليّة الفهم الحرفي للنصوص الكتابيّة والذي يُصدِّر وجهًا للمسيحيّة به سمات الأصوليّة. ومَنْ يقرأ السياق الذي وردت فيه كلمات المسيح يُدرِك تمامًا أنّ الخطاب كان موجّهًا للكتبة والفريسيين نقدًا وإدانةً لممارساتهم الزائفة؛ فهُم يُحبّون أن يظهروا في الطرقات بملابسهم الفخمة وأهدابهم الطويلة وعصائبهم العريضة على جباههم، ليدعوهم الناس: سيّدي سيّدي “رابي رابي”، إرضاءً لغرورهم الزائف. لذا كانت كلمات المسيح واضحة وقاطعة أنّ المُعلِّم والسيِّد هو المسيح الواحد مع الآب، ومن الآب تستمد كلّ أبوّه قيمتها. كما يُوجد فارقٌ كبيرٌ بين مَنْ يمشي بصولجان العظمة ليستقطب مديح وإعجاب وتكريم الآخرين، وبين مَنْ نالوا التكريم بعد نياحتهم. فتقنين مُصطلح “آباء الكنيسة” جاء في مرحلة لاحقة بعدما انتقل هؤلاء الآباء إلى الأقداس العُليا، وتمّ تقييم تعاليمهم على ضوء الإجماع الكنسي ونقاوة الحياة. هناك دائمًا خلط يحدث حينما يُستخدم التعبير بمعنَى مزدوج؛ فمثلاً نجد أن المسيح أعلن عن نفسه كـ“نور العالم”، ولكنّه دعَى المسيحيين أيضًا “نور العالم” هل هذا يعني أنّ المسيحيين متطابقين مع المسيح؟ بالطبع لا. كذلك نجد أنّ المسيح هو “الكرمة الحقيقيّة”، والعذراء تُلقِّبها الكنيسة بـ“الكرمة الحقيقيّة”، فهل العذراء مساوية للمسيح؟ بالطبع لا. لذا من الضروري أن نُفرِّق بين التعبير النسبي والتعبير المطلق لنفس الكلمة، لنستطيع أنْ نتعرّف إلى فكر المسيح المُدوَّن في الكتاب المُقدَّس. يروي لنا جان بوتي في كتابه “الله أبونا” أنّ الرابيين أرسلوا إلى رابي حنّان حفيد رابي هوني، لكيما يُصلِّي من أجل الأمطار، فلما جاءه التلاميذ أمسكوه من أهداب ثوبه قائلين: “أبَّا أبَّا، أعطنا المطر!” فما كان منه إلاّ أن صلَّى قائلاً: “يا سيّد الكون، افعل هذا لهؤلاء الذين لا يعرفون أن يميِّزوا ‘الأبَّا’ الذي يستطيع أن يمنح المطر، و‘الأبَّا’ الذي لا يستطيع.” فالاثنان آباء؛ ولكنّ ما بين أبوّة الله وأبوّة البشر بونٌ شاسع. وفي التقليد اليهودي نجد أنّ مُصطلح “الآباء” نعني به، بالدرجة الأولى، الآباء الأُوَّل؛ إبراهيم واسحق ويعقوب، فضلاً عن الآباء القدامَى الذي جاء ذكرهم في المشناه اليهوديّة تحت عنوان أقوال الآباء Pirqe Aboth. وفي العهد الجديد نجد أنّ داود هو « رئيس آباء » (انظر: أع2: 29). كما كان كلّ الشعب الفار من مركبات فرعون هم أيضًا « آباء » (انظر: 1كو10: 1). وفي المشناه اليهوديّة، كان اللَّقب الذي يُدعَى به كلّ من شمَّاي وهلِّل صاحبي المدرستيْن الأشهر في التأثير على المجتمع اليهودي قبل ولادة المسيح هو: “آباء العالم”، وهو نفس اللَّقب الذي أُطلق على رابي عقيبا ورابي إسماعيل فيما بعد. وقد كان لقب “أب” يُعطَى لمؤسّسي المدارس اليهوديّة من الرابيين الكبار حسبما جاء في تفسير Pulpit على إنجيل متّى. وبحسب الموسوعة اليهوديّة، كتب سولومون شختر Solomon Schechter وكاسبر ليفياس Caspar Levias أنّ موسَى يُدعَى “أبو الحكمة / أبو الأنبياء” كما كان رابي هوشعيا “يُدعَى أبو المشناه”. لذا فالأبوّة التي رفضها المسيح هي الأبوّة المذهبيّة والتي تنتمي لأحد المدارس اليهوديّة القديمة، تلك التي كانت تستقطب اليهود لتعيد صياغة فهمهم لنصوص العهد القديم وأوامره ونواهيه. لذا فرّق المسيح بين ما هو من موسَى وما هو من الآباء؛ « لهذا أعطاكم موسَى الختان، ليس أنّه من موسَى بل من الآباء، ففي السبت تختنون الإنسان » (يو 7: 22). وفي الخطبة التي ألقاها الشهيد إستفانوس قبيل استشهاده، دعى الحاضرين: « الأخوة والآباء » (انظر: أع 7: 2)، وهو نفس التعبير الذي استخدمه القديس بولس (انظر: أع 22: 1). كما ذكر القديس بولس والقديس يوحنّا، «الآباء»، في سياق الحديث عن العَلاقة بين الأب وبنيه (انظر: أف 6: 4؛ 1يو 2: 13-14). ومن الشهادت المُبكِّرة، نقرأ في وثيقة “شهادة بوليكاربوس” (70 م. - 166 م.) أنّ بوليكاربوس دُعي “أبو المسيحيين”؛ كما كان يُخاطِب أوريجانوس، بعض الأساقفة بكلمة “بابا”، في حوراه مع هيراقليدس، وهو التعبير الذي أصبح يُعبِّر عن البطريرك السكندري أولاً، ومن بعده الروماني، حسبما جاء في “موسوعة المسيحيّة” The Encyclopedia of Christianity في جزئها الأوَّل. ويُحدِّث كليمندس الروماني، الكورنثيين، داعيًا إياهم للعيش في وئامٍ؛ “متناسين الإهانات، سالكين في المحبّة والسلام، ثابتين على الرصانة، في كلّ ظرفٍ، نظير آبائنا (يقصد الرسل) الذين أظهرنا لكم مَثَلَهم”. ومن الجدير بالذكر أنّ تلك الكلمة كانت مُستخدمة في دوائر تعليم الفلاسفة مثل؛ فيثاغورث وسينيكا. يُطالِعنا ديفيد ل. هولمز David L. Holmes بعنوان لمقالٍ مثير للدهشة: “هل لقب الأب / الأم يصلح للقادة البروتستانت؟” وهو المقال الذي نشره في عدد ديسمبر من دوريّة “القرن المسيحي” The Christian Century. ومن اللاّفت للنظر أنّه أكّد، في المقال، أنّ بعض الكنائس البروتستانتيّة في بداياتها التكوينيّة أطلقت على مؤسِّسيها لقب “أب” ومنهم جون ويسلي مؤسِّس الميثوديست والذي أطلقوا عليه لقب “الأب ويسلي”. ويكمل في مقالاته أنّ لفظة “أب” قد تلاشت من القاموس البروتستانتي الحديث كنتيجة لحصول القادة البروتستانت على درجات علميّة فصار لقب من حصل على الدرحة العلميّة؛ “دكتور” وجاءت كلمة “راعٍ” لتتماشَى مع السند الكتابي الذي يبحثون عنه في مواقفهم وقناعتهم الإيمانيّة، حسبما كتب. وفي بحثنا عن استخدام الكلمة بين الجماعات البروتستانتيّة يجب أن نُراعي أنّ المواقف البروتستانتيّة مختلفة من طائفةٍ لأخرى ومتباينة من مجتمعٍ لآخر، فاللّفظة تبقَى خيار الجماعة وليست قانونًا يسري على الجميع. من هنا يمكننا أن نلمح أن الرفض المعاصر لكلمة “أب” لم يكن موقفًا أيديولوجيًّا بروتستانتيًا منذ عهد التأسيس ولكنّه تحوُّلٌ حديثٌ نسبيًّا، ممّا يغلق الجدل حول إمكانيّة استخدام الكلمة من عدمه. فالإشكاليّة البروتستانتيّة مع الآباء هي في دور الأب في الكنيسة ومدى “سلطة” كلماته في التعبير عن الإيمان والحياة. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
هل لصلاتك قوة مغيِّرة؟؟ صلاة الإيمان بها قوّة هائلة كفيلة بأن تَدْفع العالم كله باتجاه الله إن الكثيرين حينما يصلون، يرددون كلماتَ من أجل إراحة الضمير المُثقَّل بالخطيئة، والذي لا يهدأ حتى يُكمِّل الجسد فريضته الغائبة؛ الصلاة!! وهذا التعوُّد على الصلاة، الخارج من عباءة نخس الضمير له فائدة في البدايّات الروحيّة، حينما يحاول الإنسان تكوين عادة الصلاة بشكل يومي، لتسير بالتوازي مع متطلّبات الإنسان الأوليّة، من طعام وشراب وعمل وراحة. ويصبح غذاء الروح ضرورة يوميّة، نستشعر بغيابه حينما تتوقّف الصلاة، ونستشعر بتأثيره حينما نُتمّم الصلاة، هذا هو مفهوم التغصُّب الروحي أو مجاهدة النفس.. ولكن الصلاة أعمق من هذا بكثير.. إنها حوارٌ شخصيٌّ للغاية مع كائنٍ آخر، حاضرٌ في العالم، ومُحرِّك للعالم بشكل غير منظور، ولكنّه ملموس، ومُدرَك بالحدس الإنساني الفطري. وهذا الكائن الإلهي الذي نخاطبه، الله الثالوث، يتميّز بخاصيتيْن في منتهى الأهميّة وهما: الإنصات والاستجابة لذا فإن كل صلواتنا التي يصعدها الروح إلى السماء، هي صلوات مسموعة من الله، لا يطالها النسيان، لأن ذاكرة الله لا تمتلئ ولا تُجهَد ولا تَشيخ. كما أن أية صلاة نُصْعِدها إلى السماء، بأشواق محبّتنا، وصرخات احتياجنا، واتضاع أرواحنا، يختم الله عليها بخاتم الاستجابة لا محالة ؛ أي أن أية صلاة نرفعها إلى العُلا تُولِّد ردّ فعل إلهي، إمّا بالموافقة أو الرفض أو التأجيل، ولكن دائمًا بالحب. لذا فمن الضروري أن نتيقّن أن صلواتنا ليست بخاراً يرتفع قليلاً ثم يتلاشَى في العدم الكوني، دون أن تصل إلى مسامع الله. وهذا اليقين، الذي يجب أن نحرص عليه قبل أن نرفع أية صلاة، يُدعَى الإيمان. وبدون إيمان، لا يمكن إرضاء الله، كما يؤكِّد القديس بولس في غير موضعٍ، ولا يمكن فهم وإدراك الاستجابة التي تحملها إلينا أيدي ملائكة مُرْسَلين لخدمة خلاصنا. وهذا الإيمان الذي يجب أن نتسربل به قبل الترائي أمام الله في الصلاة، هو الثقة أن صلاتنا، إن كانت صادقة، قادرة أن تُغيِّر الأمور. ولنا في ذلك مَثَلْ، وهو طلبة لوط من أجل قرية صوغر.. ” فقال لهما (للملاكيْن) لوط: لا يا سيّد هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظّمت لطفك الذي صنعت إليّ باستبقاء نفسي وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل، لعلّ الشرّ يدركني فأموت هوذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها، وهي صغيرة، اهرب إلى هناك. أليست هي صغيرة فتحيا نفسي فقال له: “إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضًا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها” (تك 19: 18-21) لقد طلب لوط من أجل مدينة صوغر ألاَّ يطولها نيران الغضب الإلهي كما كان مزمعًا أن يفعل مع سدوم وعمورة، فرفع الله وجهه، أي استجاب الله لطلبته، وعدَّل من خطّته من أجل طلبة لوط، ولم يُهْلِك تلك المدينة!!! وقد يقول البعض، أن تغيير خطّة الله لهو أمرٌ مستحيل لأن في ذلك انتقاص من إدراكه الكلِّي للأمور وكأنه يرهن مواقفه بالبشر!!! ولكن ما يعنيه الكتاب المُقدَّس بتعبيرات مثل رجع الله عن حمو غضبه، ندم الله عن الشرّ.. إلخ، أنّه أرجع الأمور إلى نصابها الصحيح بحسب مشيئته الصالحة، فالله لا يفرح بإيلام البشر وإبادتهم، ولكن ذلك يأتي في سياق تلاقٍ بين ما يعرف بالكوارث الطبيعية وخطيئة شعبٍ. فالله لا يتغيّر إذ أن المخطط الأصلي هو الخلاص، وحينما نصلي من أجل العالم، يستغل الله صلاتنا لكيما يعود إلى إطالة مساحة الأناة والصبر على البشريّة، حتى يرجعوا إلى منابع النور. من هنا يمكننا القول بأنَّ الله يترقب صلواتنا ولجاجتنا في الصلاة لكي ما يُغيّر العالم، الله يترقّب صلاة مدفوعة بقوة إيمان، حتى يرفع وجه قائلها، بل ويبتهج بمثل تلك الصلاة التي تترجّى خلاص الآخرين، وتتوسّل من أجلهم، تمامًا كما فعل إبراهيم مع الله حينما بدأ” يُفاصِل “!! (بحسب تعبيرنا الدارج) مع الله من أجل خلاص سدوم وعمورة، حتى وصل مع الله إلى اتفاقية، مَفادها أن وجود عشرة أبرار في المدينة سيكون كفيلاً بخلاصها من الهلاك المترصد إبادتها، إلا أن ذاك الزمان لم يكن زمان أبرار!! لأن الخطيئة تسلّلت إلى كلّ بيت وشوّهت كل جسدٍ، وأماتت روح الحياة في كل قلب. فكانت أمطار النار والكبريت، لتغسل الأرض من الخطيئة التي تعمّقت في تربة البشرية المخلوقة على صورة الله!!! وأيضًا نقرأ في قصة أبيمالك مع إبراهيم والتي وردت في الأصحاح العشرين من سفر التكوين ؛ أنَّ الله أرشد أبيمالك إلى الرجوع لإبراهيم لكيما يُصلّى من أجله”.. إنه نبيٌّ فيصلّي من أجلك، فتحيا“، ويخبرنا سفر التكوين في نفس الأصحاح عن تأثير صلاة إبراهيم:” فصلَّى إبراهيم إلى الله، فشفى الله أبيمالك وامرأته وجواريه، فولدن..”. الإنسان يصلي بينما الله يشفي، تلك هي المعادلة السليمة في فعل الصلاة واستحضار فعل الله في صميم العالم، ومن أجل العالم. إن للصلاة قوة عظيمة لإحياء العالم المحتضر على شفى الهاوية، فصلاتك من أجل العالم لن تعود فارغة، قد يكون لها صدى في مكانٍ ما من الأرض، وفي زمنٍ ما من الأزمنة، إلاّ أنها لن تعود فارغة. لو أدركنا كمسيحيّين أهميّة الصلاة من أجل العالم، وصلَّينا بالفعل من أجله كما ينبغي، لكانت تغيّرت خريطة العالم، ولكانت تغيّرت خريطة الخير والشر في العالم. إلاّ أن بعضنا تعوّد السلبيّة في علاقته بالعالم، إذ يدينه على أخطائه ولا يصلّي من أجله!! ونحن بذلك نكون قد أغفلنا أنّه هو العالم (البشريّة) الذي بذل من أجله، الله، ابنه الحبيب، لكي لا يهلك..” لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة” (يو 3:16) فهل تستطيع أن تترجم محبّة المسيح للعالم إلى صلاة وأنين لكيما يتذوّق معرفة النور الحقيقي عوضًا عن الظلمة التي يرتديها كعباءة. وهل لك إيمانَ أن صلاتك ستكون فارقة في حياة الآخرين، أم تكتفي بترديد العبارة التي تجعلنا نتلذّذ بسلبيّتنا تجاه العالم:” أنا خاطئ، فكيف تكون لصلاتي تأثير!! “ دعني أقول لك أن صلاتك من أجل خلاص الآخرين وصلاتك من أجل خلاصك هما في كفّة واحدة في ميزان محبّتك لله، مرتبطان بعضهم البعض ارتباطًا وثيقًا. فالذي يترجّى الخلاص لا يستطيع إلاّ أن يطلب من أجل العالم لكيما يخلص معه.. في كل عبادتنا الليتورجيّة نصلي من أجل نقاوتنا وتطهرنا ونصلي من أجل العالم أجمع، فما من انسكاب لروح الله للتطهير ومن ثمّ الإنارة، على قلبٍ انعزل في أنانيّة من دون العالم المتألم في ظلمته. صلاتنا من أجل العالم هي فعل حبّ متكامل الأركان. قد لا نرى نتائجها، ولكن لا يجب أن يحرك تحسس النتائج، صلواتنا، بل المبادئ الكتابية التي يحييها فينا روح الله بالفعل. وكما قال أحدهم: إننا سنترائى أمام الله، في السماء، كجمعٍ متشابك الأيدي، كلنا مرتبطون بعضنا البعض بالصلاة والحب فمَنْ يُحب الله ويتطلَّع للأبدية، سيُحب الآخرين ويتطلَّع أن يشاركوه نفس المصير المبهج. فالحب لا يعرف الـ(أنا) بل يعرف فقط الـ(نحن). صلِّ من أجل خلاصك وتوبتك كما تشاء، ولكن لا تنسْ أن تطلب من أجل خلاص العالم بإيمانٍ، أن صلاتك ستتجسّد توبةً في حياة شخصٍ ما على سطح هذا الكوكب. فقط صلِّ واترك النعمة لتعمل عملها فيك وفي الآخرين. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
في ذلك الإنسان من وحي المعجزة الواردة في (متى 12: 10)، (مرقس 3: 1)، (لوقا 6: 6).. في السبت، يوم الراحة العظيم هناك في المجمع، حيث الجماعة منتبهة ومنصتة إلى التوراة والأنبياء حيث التسابيح وصلوات الشكر مرتفعة بمنتهى التدقيق هناك وفي زاوية مظلمة، كان يجلس رجلٌ قد جاء وسط الجمعُ التقي ليُصلِّي ويبارك الله و لكن يداه لم تكن قادرة أن ترتفع إلى العلاء فهي يابسةٌ فكانت صرخات قلبه يدين، تلامس ثوب السماء و كانت عيناه عصفورين، يهيمان في العلاء بحثاً عن شفاء كان يستمع بملء الإيمان إلى البحر الذي انشق و الأرض المبلّلة التي حملت الشعب الهارب على جناحيها حتى أفلتوا من أنياب فرعون الثائر و كان يُصلِّي: مَنْ لي بموسى آخر، يضرب بحار اليأس والألم من حولي؟ هل لي نجاة من فرعون المرض الذي يلاحقني؟؟ و دخل إلى المجمع رجلٌ، أشبه بملاك مُضيء و التقت فيه الأعين بينما الجميع في أماكنهم بلا حراك وقف على المنبر و كأنه قادمٌ للتو، بلوحي الشريعة من الجبل المقدس بدأ الكلام، فكانت كلماته أشبه بنارٍ هادئةٍ تذيب برودة الخطيئة من القلب، و تخيف ذئاب الألم واليأس التي تحيط بالنفس فتجري مهرولة إلى غابات الظلمة، لتختبئ من أعينه النارية كانت كلماته عن الحب والدفء كان يلامس أعماق الإنسان الثائرة.. الحائرة فيروّضها كان يزرع باقة من رجاءٍ حول القلب المنهك بالحزن كانت كلماته حيّة وفعّالة وخارقة للنفس كان الجميع هائمين في سماء كلماته لا يريدون النزول إلى أرض الناموس المُتشدّد الذي اختلقه فريسيو ذاك الزمان لا يريدون أن يتركوا ذلك العالم الجميل فدفء الحب فيه، هو السعادة المطلقة التي يبحث عنها الإنسان في سعيه على الأرض. بينما كان يسوع يعزف أنشودة الحب المختبئة في الكتب المقدسة كانت عيناه تجولان تصنع خيراً كانت نظراته ترياقًا لكسيري القلب ومنسحقي الروح و فجاءةً، توقفت عيناه على تلك البقعة المجهولة من الجميع نحو ذلك الإنسان، الذي لم يدرك أحد إنسانيته من قبل فقد كانوا منشغلين عن الإنسان بالحرف!! هناك، توقفت عينا يسوع و شاهد القلب الذي يدمي في وحدةٍ قاسيةٍ و كأنه في جزيرةٍ، لم تشرق عليها شمسٌ هناك، توقفت عينا يسوع وإلى هناك، التفت الفريسيون والكتبة تحوّلت أعين الجميع عن المنبر و التفتت نحو الإنسان هناك، في ذلك الإنسان الذي يلتمس معونة فلا يجد سوى همهمات يستجدي الحب فلا يجد سوى النصوص والأحرف المتراصة هناك، دارت المعركة في صمت الكلمات السبت أم الإنسان الشريعة أم الحياة الحرف أم الروح مدّ اليد للمعونة أم الاكتفاء برفع اليد في الصلاة!! هناك في ذلك الإنسان اصطدم الحب الغامر الذي جاء به يسوع للإنسان مع القسوة والتشدّد الذي اختلقه الإنسان لموت الإنسان هناك في ذلك الإنسان تسائل الجميع لماذا وجدت الوصايا والناموس والشريعة؟ هل خُلِقَت الوصايا على صورة الله الحرّ فصارت السيّد الذي ينحني أمامه الإنسان؟!! هل وُجِدَت لوأد جنين الحب في القلوب؟ و لزيادة العزلة بين الإنسان والإنسان و بين الإنسان وإله الإنسان؟! هل وُجِدَت لتزيد من قسوة الحياة و تقف شامخة في وجه البشرية في صراعَ بقاءٍ للأقوى؟! لمَنْ وُجِدَ ت الوصية؟ ومَنْ الذي أعطاها؟ أليس هو الله.. إله الحب والدفء والحنان ألم توجد خوفاً على الإنسان من أن يفقد إنسانيّته و يتحوّل من إنسان إلى حيوان يهيم في غريزة وخطيئة ويستوطن أرضًا تلتهمه غدًا في طوفان ألم توجد خوفاً على الإنسان من تخليق آلهة تشاركه فساده وانحرافه وقسوته فتخنق شعلة النور في قلبه وتذيبها ذوبان هناك في ذلك الإنسان كانت الرسالة للبشرية أن الحب هو مقياس الإيمان وقف ذلك الحطام الإنساني وسط الجميع و بدأ التحوّل يجري في القلب الوحيد الشريد فحُبّ يسوع خلق منه كيان و لكن.. هل يمد يده ويُشفَى في سبتٍ؟ هل يُدنّس السبت بقبوله الحياة في يده؟ هناك في أعماق ذلك الإنسان دار صراع آخر فشعاع نور حرية الحياة يريد أن يخترق ظلمة وضبابيّة قيد الحرف و انتصر الحب على السبت و امتدت اليد اليابسة امتدت يد البشرية بالعمل والحياة امتدت لتحتضن ولتساند ولتلامس الجراح الإنسانية امتدت منذ أكثر من ألفي عام و لم تيبس مرة أخرى فحينما تدنو منها تجربة الحرف وحينما تريد الحية أن تهمس في آذانها أن الله يريد مؤلّهي الحرف و متشدّدي الناموس و فريسيو الشريعة تنظر إلى يدها التي انتصرت على الحرف و تنظر إلى قلبها الذي يموج بالحب و تصرخ قائلة: سأحب.. سأحب.. سأحب فالحب يشفي من يحب و من يتقبل الحب |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المزامير كخدمة تعبدية ونسكية لقد كان التسبيح بالمزامير، وسط الجماعة الرهبانيّة، ممارسة نسكيّة خارجيّة exterior هامّة للغاية، مع الصوم والسهر وحفظ الصمت، وكان يُؤكِّد على تلك الممارسات كلّ آباء البريّة تقريبًا، في نهاية القرن الرابع(1). فالتسبيح بالمزامير هو الممارسة التي تشغل يوم الراهب بأكمله، فقد كان السهر (الذي كان يقضيه الراهب، غالبًا، في ترتيل المزامير) مُحدَّدًا بتلك السواعي التي كان من المفترض على الراهب أن ينام فيها، كما كان الصوم مرتبط بالوقت المُخصّص لتناول الطعام، كذلك الصمت يظهر في الوقت الذي يكون متاحًا للشخص أن يشترك في حوارٍ. ولكن، على الجانب الآخر، كان ترتيل المزامير يشغل كلّ وقت اليقظة في يوم الراهب، تقريبًا. لقد كان هناك ميعادان رسميّان للصلاة في كلاًّ من نتريا والقلالي(2)، يوميًّا. فخدمة السهر كان يُحتفَل بها قبل الفجر، بينما خدمة الغروب كانت في أوّل اللّيل (في ساعة الغسق عند غروب الشمس)؛ وكانت الخدمتان ذا صبغة جماعيّة في منطقة القلالي، خاصّةً في نهاية الأُسبوع، بينما كان يُحتفَل بهما بشكلٍ فردي في القلالي الخاصّة بالمتوحّدين، وكان يُرتَّل في كلّ خدمة منهما اثنا عشر مزمورًا “قانونيًّا”(3) وكان يعقب كلّ مزمور، صلاة، بينما كان ترتيل المزامير أو ترديد بعض المقاطع الكتابيّة؛ “الهذيذ” μελετη يمثّل خلفيّة لأيّ عمل يقوم به الراهب في باقي اليوم، أو في السواعي التي يظلّ فيها الراهب ساهرًا باللّيل. لقد ارتكزت تلك الممارسة، الخاصّة بالترتيل غير المُنقطِع للمزامير أو التأمُّل في الكتاب المُقدَّس، على القول الأوّل (4)first apophthegm الوارد في المجموعة (المفهرسة حسب المواضيع) اليونانيّة Greek Systemic Collection فقد ورد فيها: “ذات مرّة، بينما كان القديس أبّا أنطونيوس في الصحراء، أصابه الضجر acedia، وكانت أفكار الظلمة تلاحقه. فخاطب الله قائلاً: ‘يا ربّ، إنّي أريد أن أخلُص ولكن الأفكار لا تتركني. ماذا أفعل في هذه الضيقة؟ كيف أخلُص؟’ بعد قليل، خرج القديس أنطونيوس إلى خارج [مغارته] فوجد شخصًا يشبهه جالسًا يعمل، ثم يقف ليُصلّي، ثم يجلس ليُكمل عمله في ضفر الخوص، ثم يقف ثانيةً ليُصلّي”. إنّنا هنا نجد أن القديس أنطونيوس يُشكِّل المثال archetype لراهبٍ تخلَّص من حالة الضجر acedia، وذلك من خلال ممارسة بسيطة، تتمثّل في قطع العمل اليدوي للصلاة، بانتظام. وبالرغم من أنّ القول لا يلمّح إلى استخدام القديس أنطونيوس للمزامير أو المقاطع الكتابيّة أثناء الجلوس والعمل في ضفر الخوص، إلاّ إنّ هذا الوضع كان قائمًا في أواخر القرن الرابع، في المكان الذي كان يقطنه مار أوغريس، ممّا جعل من ذلك الافتراض أقرب إلى الحقيقة. يصف لنا بلاديوس ترتيل المزامير الذي كان مسموعًا من قلالي الرهبان في نتريا(5)، والذين كانوا يعملون بصناعة الكتّان. وبالمثل يشهد كاسيان أنّ الترديد المستمر “للمزامير وباقي النصوص الكتابيّة” أثناء “العمل اليدوي المستمر”، هو ممارسة مصريّة كان قد تدرَّب عليها(6). ولا يكتفي كُتَّاب الرهبنة المتأخّرين بالإشارة إلى ترديد المزامير أثناء العمل اليدوي، ولكنّهم يُحدّدون بدقّة عدد المرّات التي يتوقّف فيها ترديد المزامير للصلاة(7). وهذا ما يصيغه لنا القديس إبيفانيوس الذي من سلاميس قائلاً: “يجب على الراهب الحقيقي أن يجعل الصلاة وترتيل المزامير في قلبه بلا انقطاع”(8) لقد كان مُدوّني سِّيَر الحياة الرهبانيّة، مُغرمين بتحديد الكمِّ لتلك “الخلفيَّة الإيقاعيّة” background rhythm المصاحبة لترتيل المزامير والتأمُّل في النصوص الكتابيّة والصلاة، في حياة بعض النُسّاك، وعلى سيبل المثال: كانوا يُدوّنون عدد المرّات، يوميًّا، التي يقطع فيها عظماء الرهبنة، ترتيل المزامير للصلاة، سواء في وضع السجود أو الوقوف أو كليهما؛ فالقديس موسَى الحبشي [الأسود] “كان يُصلّي 50 صلاة” يوميًّا(9) كما شاركه في نفس العدد من الصلوات القديس مكاريوس المصري، أثناء ذهابه وعودته من قلاّيته إلى منسكه السرّي(10)، عبر النفق الذي يربط بينهما. بينما كان يُقدِّم القديس بولس (البسيط) الذي من الفرما، 300 صلاة يوميًّا، وكانت طريقته في إحصاء الصلوات هي: وضع عدد من الحصَى، مُعادِل لعدد الصلوات التي يريد تقديمها، في جلبابه، حيث يُلقي بواحدةٍ منها بعد كلّ صلاة(11). إنّ 200 صلاة يوميًّا هو عدد الصلوات التي كان يُقدّمها أبَّا أبوللو(12)، بينما كان يشترك القديس مكاريوس السكندري ومار أوغريس في تقديم 100 صلاة يوميًّا(13)، وقد قام جابريل بانج Gabriel Bunge بحساب المائة صلاة التي أشار إليها بلاديوس في حديثه عن مار أوغريس، فوجد أنّ مار أوغريس كان يرفع صلاةً كلّ 10 دقائق على مدار اليوم؛ وقد تكون تلك الصلوات التي كان يرفعها مار أوغريس هي مزامير أو بعض الصلوات التي كانت تتخلّل المزامير الطويلة(14). إنّ الهدف من ترتيل المزامير والصلاة بلا انقطاع هو إعادة الذهن مرّة أخرى نحو الله، وكذلك التخلُّص من حروب الشياطين. فقد لاحظ دوجلاس برتون-كرستي Douglas Burton-Christie أنّ التشتيت الذي يحدث خلال ترتيل المزامير، يكون بتحريك الشياطين عن طريق ذكريات الماضي والاهتمامات الشخصيّة، لذا فإنّ ترتيل المزامير يهدف إلى استبدال ذكريات الماضي بأفكارٍ مُقدّسةٍ(15). إنّنا نجد عند القديس أثناسيوس في “الرسالة إلى مارسيلّلينوس في تفسير المزامير”، أهدافًا إيجابيّة أُخرى لترتيل المزامير. وبالرغم من أنّ القديس أثناسيوس لم يُوجِّه كتابه للرهبان بشكلٍ خاص، إلاّ إنّه ينقل رؤية “شيخ مُتجرّد في الحياة النسكيّة” تصادف كونه راهبًا(16). يُمثِّل الجزء الأوّل من هذا الكتاب (فصل 1-9) ملخّصًا للكتاب كلّه وبالتالي لتاريخ الخلاص بشكلٍ عام. ونجد في (فصل 10-11) المميّزات الخاصّة بكتاب المزامير، كما نجد في (فصل 13-26) بعض المزامير التي يمكن قراءتها حسب حالة النفس؛ فالمزامير تُمثّل وسيلة لاستعادة الاتّزان والتناغم في النفس (فصل 27-28). المزامير “ليُقرأ وليُرتّل”(17) λεγέτω και ψαλλέτω كوحدة متكاملة كما هي مُدوّنة (فصل 29) بدون تغيير أو إضافة كلمات (فصل 30). إن الصورة الأكثر شعبيّة وتأثيرًا لسفر المزامير، هي أنّ المزامير بمثابة مرآة للنفس: “يبدو لي أنّ المزامير تُصبح لمَنْ يُرتّلها كمرآة، يُدرِك من خلالها تحرّكات روحه، فيتأثّر ويُردّدها”(18) فالمزامير لا تُظهِر، “كما في مرآة”، حياة الإنسان الظاهرة بمداها المُتّسع فقط، ولكنّها قادرة على تعديل الحياة الداخليّة للإنسان؛ وهذا يحدث عندما يجعل المرتل كلمات المزامير وكأنّها كلماته الشخصيّة، إذ “تخترق” وجدانه الداخلي، فيتحرّك بنخس القلب، مُشارِكًا في ذلك، كاتب المزامير التائب: “فيتأثّر ضمير السامع كما لو كان هو المُتكلِّم، ويتحرّك داخليًّا بكلمات الترتيل وكأنّها لسان حاله الشخصي”(19) وأخيرًا، فإنّ كتاب المزامير بمثابة المُعلِّم الأعظم للنفس: “لأنّ كلّ الكتاب المُقدَّس هو بمثابة مُعلّم للفضيلة ولحقائق الإيمان، بينما يحتوي كتاب المزامير -بشكلٍ خاصٍ- صورة الدورة الكاملة لحياة النفس”(20) فكتاب المزامير هو بمثابة الكتاب التطبيقي (السلوكي) للدورة الكاملة لحياة النفس διαγωγη؛ فتنوُّع الصور المُذهِل الذي تستحضره النفس أثناء الترتيل بالمزامير، يعكس ويدعم اتجاهات الحياة الإنسانيّة في كلّ تعقيداتها. لوقا ديسينجر Luke Dysinger _____ الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:(1) إن مصطلح خارجي exterior والمستخدم في النصّ هنا، يميّز بين تلك الممارسات والممارسات الداخليّة interior أو ضبط الذهن ومراقبة الأفكار وفحص الضمير والاتضاع. (2) إنّ تلك الممارسة (القانونية) البسيطة للصلاة مرتان يوميًّا، قد تطوّرت في العقود التالية، حتّى أصبحت صلاة ليتورجيّة ثابتة تتلى كلّ عدّة ساعات وهو الذي يميّز ليتورجيا = السواعي في الشرق والغرب منذ ذاك الحين. ويؤكّد كاسيان في كتابيه الثاني والثالث من المعاهد Institutes على الممارسة القديمة البسيطة في الصحراء المصريّة، فضلاً عن الاتجاه الأحدث في مجامعه (الرهبانيّة) في بلاد الغال، والذي احتوى على صلوات الثالثة والسادسة والتاسعة. ويتعقّب Taft تلك النقلة في الصلاة، وتحوّلها إلى صلاة قانونيّة متكررة في مصر The Liturgy of the Hours in East and West, pp. 57-73 وإلى الخدمات الرهبانيّة التي انتقلت للمدن في الشرق (pp. 75-91) والغرب (pp.93-140). إنّ هناك بعض الاكتشافات الحديثة في منطقة القلالي Kellia التي أوضحت تغييرات في المعمار البنائي والفني والزخرفي في قلالي رهبان منطقة القلالي والتي صاحبت تلك النقلة الليتورجيّة Die Mِnchssiedlung Kellia, pp. 26-39. (3) يدوّن كاسيان عدد المزامير “القانونيّة” التي كانت تقدّم في كلّ ساعة من سواعي الخدمة وذلك في كتاب المعاهد Institutes 2.12.1. (4) يقول العلاّمة كواستن Quasten: “لا يوجد أي عمل آخر يُعطي فكرةً أفضل عن روح الرهبنة المصرية مثل المجموعة المجهولة المؤلِّف (أو المصنِّف) للحِكَم الروحانية المسمّاة: Apophthegmata Patrum وقد جُمِعت هذه المجموعة ربما في حوالي نهاية القرن الخامس، وتحوي أقوالاً لأكثر الآباء ومتوحدي براري مصر شهرةً، كما تحوي أخبار فضائلهم ومعجزاتهم. وقبل أن تُكتَب باليونانية كان يوجد غالبًا تقليد شفاهي عنها باللغة القبطية. وقد نُظِّمت هذه المقتطفات الأدبية المختارة ربما في القرن السادس بطريقة الأبجدية لأسماء الآباء ثم تُرجِمت إلى لغاتٍ عديدة. وهي تعطي صورةً حيّةً للحياة الرهبانية في وادي النطرون بصفةٍ خاصة، فهي تمثل مصدرًا ذا قيمة فائقة يصعب تقديرها لمعطيات التاريخ الديني والمدني”. فردوس الآباء، راهب من برية شيهيت، الجزء الأول، (الطبعة الأولى: 2005)، ص 15. (المعرّب) (5) Palladius, Lausiac History 7.5, ed. Bartelink, pp. 38-40. (6) Cassian, Institutes 2.14-15, SC 109, pp. 82-6 (7) إنّ رسائل برصنفيوس ويوحنّا تعكس الممارسة كما كانت في فلسطين في القرن السادس. أثناء ضفر الخوص كانت هناك صلاة تفصل عمليّة “ترديد المزامير / الهذيذ بالمزامير”، وذلك بعد الصف الثالث (من الضفيرة). Barsanuphius and John, Letter 143, 23-7, SC 427, p. 522 (8) Apophthegmata Patrum, Greek alphabetical collection, Epiphanius 3, PG 165.64 (9) Palladius, Lausiac History 19.6, ed. Bartelink, p. 100. (10) Ibid., 17.10, pp. 74-6. (11) Ibid., 20.1, p. 102. (12) Anon., Historia monachorum in Aegypto 8.5, ed. Festugière, p. 48. (13) يصف القديس مكاريوس نفسه بأنّه: “صانعًا مائة صلاة” ἑκατὸν εὺχὰς ποιω̑ν Palladius, Lausiac History 20.3, ed. Bartelink, p. 104 ويورد بلاديوس عن مار أوغريس أنّه: “كان يصنع صلوات” ἑποὶει δὲ εὺχὰς ποιω̑ν Lausiac History 38.10, ed. Bartelink, p. 200 (14) يرصد Bunge (Geistgebet, pp. 31-2) “الصلوات” التي تشير إلى التبادل المتناغم للمزامير فضلاً عن الصلوات التي كانت تتخللّها، ويشير Bunge إلى القديس أنطونيوس الكبير، وأيضًا لبرصنفيوس ويوحنّا. Letters 40, 140, 143, 150, and 176; Geistgebet, pp. 32-4. كما يشير إلى بعض النصوص في المجموعة الأثيوبيّة من Apophthegmata Patrum (13, 26, 42, and 43, ed. Arras, Collectio monastica, pp. 66 and 70) والتي يرد فيها أن مثل تلك “الصلوات” تتكوّن عادة من صيغة مقتضبة مثل: يا يسوع ارحمني! يا يسوع أعني! أنا أباركك، يا ربي! (Geistgebet, pp. 39-40) (15) Burton-Christie, The Word in the Desert, pp. 117-29, esp. 124-7. (16) لقد وصف Rondeau روح الجماعة الرهبانيّة والتي يعكسها هذا العمل: Commentaires, vol. ii, p. 222; ‘L’ةpître à Marcellinus’, pp. 196-7. (17) Athanasius, Letter to Marcellinus 12, PG 27.41 (18) Ibid., PG 27.24. (19) Ibid., PG 27.21. (20) Ibid., PG 27.25. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
ثمن الخلاص، هل نتذكّره؟؟ بالنسبة للمسيحي يكون الموت الطبيعي خسارة يا له من امتياز أن نحيا ونموت له أيضًا عن خطاب من أحد المسجونين من أجل الإيمان ثمن الخلاص، هل نتذكّره؟؟قبل مجيء المسيح، كنّا غرباء عن الربّ بل و«أَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ» كما يكتب القديس بولس (كو1: 21)، ولكنّنا صولحنا مع الآب بصكٍّ جديد وعهد جديد وُقِّع عليه بدماء الابن الحبيب.. البكر من الأموات.. البداءة.. المسيح يسوع. ذاك الصكّ يعلن أنّ الموت ضريبة الحياة الجديدة التي تنعمون بها، لذا قدّموا لله أثمارًا حسنة إذ تسلكون في جدّة الحياة. قدّموا للربّ أعضاؤكم ذبائح حيّة ناطقة بل وصارخة لمجد الربّ، لأنّكم قد اشتريتم بثمنٍ غالٍ.. بدماء ملكيّة.. بحبًّ فائق للتصوُّر. مَنْ اشتُري بالدماء لا يخشى سفك الدماء.. دماؤه هي وديعته التي تُغتسل بدماء المسيح يومًا بعد يومٍ في انتظار الانسكاب الأخير على مذبح الحبّ.. مذبح الشهادة للموت وللحياة. ولعلّ كلمات كليمندس السكندري تعبِّر عن معادلة الحبّ والشهادة أيّما تعبير إذ يقول: في محبّة الربّ، يفارق [الشهيد] تلك الحياة بمسرّة فائقة. إنّنا ندعو الاستشهاد كمالاً لا بسبب انتهاء حياته على الأرض كما الآخرين، ولكن لأنّه أظهر اكتمال عمل الحبّ. إنّ هناك ثالوثًا مسيحيًّا يشكل قوام حياة الكنيسة على الأرض؛ إنّه العبادة والكرازة والألم. فالعبادة الحقّ تدفع الكنيسة لتخبر عن المسيح.. لتشهد له.. لتعترف به، وهو ما يسبّب لها الألم، لأنّ العالم لا يريد نورًا يفتضحه!! في وعينا الكرازي، لا يمكن أنّ نُصنّف الآخرين إلى أعداء إذ يبغضوننا، لأنّهم قد يصيروا أحبّاء ويظهروا اكتمال عمل الحبّ بقبولهم الإيمان. عينا الله تلك، نتبنّاها، لنرى، بملء الرجاء، إمكانيّة تحوّل الذئب إلى حملٍ وديع يسكن المراعى الخُضر ويشرب من مياه الرّاحة. إنّ كان لنا رجاء في تغيُّر المُضطّهد، بالحبّ، ستتحوّل أنّاتنا الذاتيّة من الألم إلى الكرازة بالمُخلِّص، سيتحوّل صراخنا بكفّ الاضطهاد إلى صراخ بالغفران للمُضطَّهِد. هل يمكن أن يتحقّق ذلك؟؟؟ هل يمكن أن يتولَّد بولس جديد من رحم غفران إستفانوس؟؟ هل يمكن أن نتبنّى كلمات القديس بولس عينه لنقول: «الآنَ أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ الْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لأَجْلِ جَسَدِهِ»، أي الْكَنِيسَةُ؟؟ هل يمكن أن نتحرّر من ألمنا الشخصي إلى طلب بهاء الكنيسة ونموّها؟؟؟ فقط بالروح، إن قبلناه ليُحرِّكنا نحو الحياة الأفضل لنا ولآخرين، وإن تذكّرنا على الدوام أنّنا مولودين من دماء الخلاص المسفوكة حبًّا.. كيف يستطيع الحمل أن ينتصر على الذئب؟ كيف يمكن للمسالم جداً أن يقهر توحش الحيوانات المفترسة؟ نعم، يقول الرب أنا الراعي لهم جميعاً للصغير والكبير، لعامّة الناس وللأمراء، للمعلمين والمتعلمين، سأكون معكم وأساعدكم وأخلصكم من كل شر. سأروِّض الحيوانات المتوحشة، سأغيِّر الذئاب إلى حملان، وسأجعل المضطّهِدين مساعدين للمضطّهَدين، وسأجعل من يسيئون إلى خدامي شركاء في خططهم المقدسة، أنا أصنع كل الأشياء، وأنا أحلها، ولا يوجد شيء يستطيع أن يقاوم إرادتي. (القديس كيرلُّس الكبير) |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
بالحبّ ننتصر قد يسأل البعض: لماذا نتألّم ونحن لم نفعل شيئًا؟؟ لماذا نُظلَم ونحن أبرياء؟؟ دعني أذكّرهم أنّ المسيح حينما تألّم ترك لنا مثالاً لنتبعه.. تلك هي دعوتنا. بل إنّ أوريجانوس ومن بعده ديديموس الضرير يكتبان بلسان المُخلِّص: القريب منّي قريبٌ من النار والبعيد عنّي بعيدٌ عن الملكوت وذلك لأنّ نيران الاضطهاد مازالت تلاحق ثوب المسيح أينما ذهب، ولكن تلك النيران تعلن قرب ملكوت الله. لم تكن حياة المسيح قبل الصليب مقبولة عند جموع اليهود وقادتهم؛ فقد كان اليهود «يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ» (يو7: 1)!!! ولازال العالم آملاً في قتل صورته الحيّة في جسده: الكنيسة. يا لقبح الشيطان الذي يرسِّخ عقيدة الموت في صميم الدين ليطلق الأيدي المغلولة بالضمير، حرّة، لسد منابع الطهر وإبكام أصوات الحقّ!! كانت كلمات المسيح حبًّا فجازوه صلبًا. كانت نظراته بلسمًا فسقوه خلاًّ. كانت لمساته شفاءً فطعنوه كُرهًا. كانت صلاته لهم غفرانًا فجلدوه حنقًا. هذا هو يسوع وذاك هو الشيطان. حتى الآن نفس استرتيجيّة الشرّ سارية وفاعلة.. الشيطان يسعى ليبيد صوت يسوع في أعماقنا لئلا يصدح في العالم المحتضر فيشفى.. لأَنَّكُمْ لِهذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل. الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ (1بط2: 21-24) جلدات المسيح شفاء للبشريّة، وألم المسيحيين إلهام واجتذاب لغير المؤمنين، ومجد للكنيسة عند استعلان ربّنا يسوع المسيح. لم يتحوَّل المسيح قيد أنملة عن ملء الحبّ أمام طوفان البُغضة التي أحاطت به في كلّ موضعٍ حلّ فيه. جاء لخلاص العالم لا لإهلاكه. من المسيح نستلم دعوتنا؛ أنْ نصمد في الحبّ والغفران مهما كلّفنا الأمر. لأنّ المسيح أطلقنا في العالم لنملّحه.. لنحييه.. لنعيده إلى الله. والعالم يبقَى شريرًا حتّى يُلاقي المُخلِّص.. يبقَى مستبيحًا حتى يجالسه على بئر الحياة.. وقتها يتغيّر. لا نتعجّب أمام شرّ العالم، فتلك هي الطبيعة البشريّة بدون المُخلِّص. لنتخطّى ألمنا، ونعلنه حبًّا وغفرانًا وتجديدًا لإنسان العالم. تلك هي نصرتنا.. بل نصرة المخلِّص فينا.. إنّ الله يتدخّل ولكن ليس كما يترجّى البعض؛ فبينما يريد البعض النقمة الإلهيّة وإظهار بأس شعب الله من خلال إذلال المقاومين، نجد أنّ الله يعمل في اتّجاه آخر؛ يعمل على جذب الجميع إلى حضنه؛ المُضطّهِد والمُضطهَد. لكلٍّ مكانه في بيت الآب. نقرأ ما حدث لشهداء ليون بفرنسا (القرن الثاني الميلادي) في الرسالة التي أوردها يوسابيوس القيصري، والمرسلة من ليون Lyons وفيينا Vienne إلى فيرجيه Phrygia (177م)، حينما هاج الوثنيون على المسيحييّن وأعملوا فيهم القتل بمباركة الإمبراطور، نقرأ: “أجساد هؤلاء الذين ماتوا في السجن قد أُلقيت إلى الكلاب وظلّوا [الوثنيون] يراقبون بشغف اللّيل كلّه لئلا يجمع أحدنا شيئًا ليدفنه.. مزقت بقايا هؤلاء إلى قطع صغيرة بواسطة الحيوانات المفترسة. من تفحَّم منهم بالنار وضعوه في كومةٍ في مكانٍ عامٍ ليراها الجميع. حُرست رؤوس وجذوع الآخرين من قِبَل الجنود لضمان بقائها في العراء غير مدفونة لأيّام أخرى.. ظلّ بعضهم يضحكون ويقهقهون وهم يرفعون أصنامهم التي اعتبروها أنّها عاقبت هؤلاء الشهداء!!!” وبدأوا يُشكِّكون المسيحيّين قائلين: “أين إلهكم؟ بما ساعدكم الإيمان الذي أحببتموه أكثر من حياتكم؟ لمدّة ستّة أيام كانت أجساد الشهداء موضع سخرية بكلّ طريقة ممكنة. وفي النهاية أُحرقت وصارت رمادًا وكنست من الأرض التي لم يعد عليها ذرّة واحدة منها لأنّهم كانوا يعتقدون أنّهم بذلك سوف يهزمون الله!! ويفوّتوا عليه فرصة أن يقيمهم ثانية!!!.. كان لسان حالهم يقول: ‘دعنا نرى إن كانوا سيقومون ثانية؟ وإن كان إلههم سيساعدهم؟ وإن كان يستطيع أن يخلِّصهم من أيدينا؟؟’.” إنّ ما حدث في ليون القرن الثاني الميلادي حدث عند الصليب؛ «وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ» (لو23: 35). يروي لنا القديس غريغوريوس اللاّهوتي بكلمات مؤثِّرة ينتفض من هولها القلم، ما حدث مع الكاهن الشيخ مرقص، من أهل الرستن، إذ يكتب: “كان يُقاد ويُسحب سحبًا. يسحبه الأدنياء من كلّ سنٍّ، بل قُل من كلّ المراتب الاجتماعيّة العالية والدنيا. نساءً ورجالاً، شبابًا وشيبًا. الكلّ كانوا يتبارون ويبالغون في القوّة والقحة والفظاظة ضدّ إنسانٍ واحدٍ في ساحة الشهادة، يثبت ويصمد فيغلب مدينة بأسرها وحده. كانوا يجرّونه من ساحةٍ إلى ساحةٍ، يسحبونه بشعره، حتّى لم يبق منه عضوٌ سليمٌ من الألم والأذى. ولم تبق إهانة أو شتيمة لم تنصبّ عليه من أولئك الذين كانوا ينفذون فيه التعاذيب كما في ميترا. كان يُرفع مُعلَّقًا برجليه ويُنْخَس جسمه بأقلامِ قصبٍ حادّةٍ، تجعل مأساته لهوًا ولعبًا. جعلوا يضغطون جنبيه حتّى تتأذّى عظامه إلى حدّ التكسُّر، ويثقبون أذنيه بخيوطٍ صوفيّةٍ دقيقةٍ ويشرمونها شرمًا. ثمّ علّقوه عاليًا في سلٍّ ودهنوا السلّ وجسمه بالعسل والحلوى حتّى تلسعه النحل والزنابير، والشمس تنصبُّ عليه بأشّعتها المحرقة في وسط النهار. وهنا أيضًا شيءٌ يؤثِّر في الذكر والتسجيل، هو أنّ الشيخ، بل الفتى الشجاع في الجهاد، كان يصنع إشارة الصليب، ويمجّد الصليب، وكان يرى نفسه من عَلُ، كأنّه في قدّاسٍ، وليس في نكبةٍ وشدّة!!”. مثل تلك الأمثلة أكّدت بقوّةٍ، كما كتب القديس غريغوريوس، أنّ: مُلكُ المسيح لن يتوقّف ولو جُنّ الأعداء ضدّه لقد كتب أحدهم متهكِّمًا ومُتعجِّبًا: “ربنا موجود!!” بعد حادث الإسكندريّة. وكأنّه يقول: كيف هو موجود وهو غير قادر على حمايتكم.. حقًا إنّ ربنا نحن المسيحيين موجود، لا ليدخل في صراع مع الفانين على أجساد مآلها للتراب.. إنّه ليس كآلهة اليونان يتصارع على بسط نفوذه بإراقة الدماء وإرهاب باقي الآلهة.. إلهنا لا ينفعل ولا يستشعر خطرًا ولا يُفاجَئ بالأحداث، لأنّه عالم بكلّ شيءٍ وهو يتعجّب من رغبة البشر في وضعه داخل عالمهم بقانونهم القائم على منطق الغاب: البقاء للأقوى!! إلهنا يقف على شاطئ نهر الحياة ليتسقبل محبّيه ويورثهم ملكوتًا لا يزول.. لا يمكن لبشرٍ أن يضع للمسيح طريق الخلاص وطريقته؛ فهو الإله العالم بكلّ شيء.. الإله فوق الزمني.. إن كان خلاص المسيح لأبنائه دائمًا بوقف الألم، سيتوقّف معه المجد!! إن وهب لأحبّائه راحة على الدوام، سينضب سرّ الصليب!! فلنتخيّل أنّ الله قد أوقف الألم عن الكنيسة منذ نشأتها، هل كنّا سنحتفل بشهادة بولس وصلب بطرس وتمزيق مرقص وتقطيع مارجرجس وحرق بوليكاربوس والتهام الوحوش لإغناطيوس.. لقد أحبّوا الضيق والشهادة لينالوا المجد، ومن إيمانهم استلهمنا قوّة حياة وقوّة موت لنصمد وسط ضيقات العالم الحاضر. إنْ طالبنا الله بوقف طَرْقَات الألم عن أبناءه فرّغنا كنائسنا من قدّيسيها ورجالها الأشدّاء الذين ذبحوا أجسادهم طواعيّة بحبّ الثالوث قبل أن يذبحها أعداءهم. كلُّ الإنجيل قائم على سرّ الموت والقيامة.. سرّ الألم والمجد.. إنّه سرّ المسيح المائت / القائم. هل نبحث عن إنجيلٍ آخر؟؟ أم نريد إنجيلاً مُجمَّلاً بنقوش الذهب نقرأه في أوقات فراغنا معتقدين أنّنا بذلك مؤمنون!!! أؤمن بالشمس ولو كانت غير مشرقة! أؤمن بالمحبّة وإن كنت لا أشعر بها! أؤمن بالله ولو كان صامتًا!! (عن نقشٍ لسجينٍ على جدار زنزانته) صمت إلهنا بلاغة أبديّة، وجهالته في عين الآخرين حكمة علويّة، وضعفه في نظر البعض هو محبّة متأنيّة.. فهل نفهم لغته وحكمته ومحبّته؟؟ إن أحببنا المسيح، أحببنا حياته وجراحه وموته وقيامته ومجده.. إن أحببنا المسيح دعوناه ليسكن فينا ليضع هو قواعد سكناه.. محبّتنا له لا تُجزِّئه إلى مسيح القدرة والقيامة واللُّطف والمعجزات والتعاليم السامية، ومسيح الألم والإهانة والصلب والقبر.. هو مسيحٌ أوحد.. إلهٌ أوحد.. إنْ قبلناه قبلنا طريقته ليُحرِّرنا من ذواتنا؛ فخلاص المسيح لنا يكمن في تحريره لنفوسنا وإعدادها لملكوته.. لم يُهدِّد المسيح صالبيه بنار تنزل من السماء لتبيد الأعداء، بل حينما كانت تلك طلبة تلاميذه قال لهم: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا!. لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ» (لو9: 55، 56). روح الله يغفر للمسيئين لأنّه يوجِّه البصيرة للمجد. أمام المجد تُنسَى الإساءة بل وتصبح تلك الإساءة عينها قوّة تضرُّع من أجل الأعداء!!! يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ الربّ يسوع (لو23: 34) يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ الشهيد إستفانوس (أع7: 60) حينما كان اليهود يرجمون يعقوب البّار، نادى واحد من الكهنة قائلاً: “قفوا ماذا تفعلون، إنّ البّار يُصلِّي من أجلكم”. وقتها لم يحتمل الشيطان، فتقدَّم أحد الشباب وضربه بهرّاوة خشبيّة على رأسه لئلاّ يُصلِّي!!! لقد صدر حكمٌ بالإعدام على شخص مسيحي في رومانيا، أثناء الثورة الشيوعيّة، وقبل التنفيذ سُمح له بمقابلة زوجته، فكانت كلماته الأخيرة لهم كما يلي: “لا بد لك أن تعرفي أنّي أموت وأنا أحبّ هؤلاء الذين يقتلونني. إنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون. طلبتي الأخيرة لكم أن تحبّوهم أنتم أيضًا. لا تكن هناك مرارة في نفوسكم من جهتهم لأنّهم يقتلون الشخص الذي تحبّونه.. سوف نلتقي في السماء”. لقد أثّرت هذه الكلمات في ضابط البوليس السرّي الذي حضر اللّقاء، وفيما بعد أصبح مسيحيًّا بل وسُجِنَ من أجل الإيمان. لقد أرسل القديس إغناطيوس الأنطاكي رسالة إلى أهل أفسس قبيل استشهاده، قال فيها: صلّوا بلا انقطاع من أجل الآخرين لأنكم تقودونهم إلى الربّ على رجاء التوبة افسحوا لهم المجال ليتثقّفوا في مدارس أعمالكم واجهوا غضبهم بالوداعة وتبجُّحهم بالدّعة وشتائمهم بالصّلاة وضلالهم برسوخ الإيمان وفظاظة أخلاقهم بدماثة الطبع ولا تردّوا لهم شرّهم بشرٍّ كونوا لهم أخوة بالرّحمة ولنحاول أن نتشبّه بالسيّد ولنتبارى في حمل الظلم والمهانة والاحتقار وفي تعليق من أحد الأصدقاء، قال: “مقولته تلك لم تُقَل أثناء تأمُّل روحي في زاوية هادئة، ولكنّها قيلت وسط صليل سيوفٍ، وصراخ يموج باللّعنات والشتائم”. وكان تعقيبي على كلماته أنّ هذا يثبت أنّها كلمات الروح، وتعليمه لكلّ مسيحي. أن نغفر تلك فرصّة للتعليم كما يراها القديس غريغوريوس اللاّهوتي، إذ يقول: “فلنسمو ونرتفع عن أولئك الذين ظلمونا. ليتضّح للملأ ماذا يُعلِّم الشيطان للوثنيّين، وماذا يُعلِّمنا المسيح، وكيف يربينا المسيح. أجل لنغتنم الفرصة للتعليم”. بذلك تتحوّل آلامنا، بالغفران، إلى كرازة بالإنجيل. تلك الرؤية المسيحيّة “فوق قدرات البشر”؛ قد يصرخ البعض!!! بالفعل هي كذلك، ولكن النعمة النابتة من مرارة الألم ترفع قدراتنا فوق إمكانيات الجسد والنفس المحدودة. الحبّ المسيحي لا منطقي لأنّه يفوق المنطق. الحبّ المسيحي لا يعرف إلاّ الغفران من فوق الصليب وسط شماتة وهزء وسخريّة الأعداء. لا نلومن الأعمى على تهكّمه على لاواقعيّة النور.. هو لا يعرف النور لأن الظلمة هي موطنه.. لا نستطيع أن نغفر للأعداء بقرارٍ، ولكن بتضرُّع وصراخ لروح الله. تَوَكَّلُوا عَلَى الرَّبِّ إِلَى الأَبَدِ لأَنَّ فِي يَاهَ الرَّبِّ صَخْرَ الدُّهُورِ إش26: 4 ولعلّ هناك في عصرنا الحالي مَنْ يرى في الغفران الإنجيلي حياديّة ماسخة لا تلائم عصر الانتفاضات الشعبيّة وصراخ الحناجر بأفظع الكلمات طلبًا لحقٍّ مُهدر ودمٍ نازف!!!.. إنه فرار من الصليب!!! إنّ حضور الله كان ملموسًا جدًّا أثناء التعذيب من أجل تلك البلايا أحببنا نفوس الصين أكثر، وصلّينا لمن كانوا يُعذِّبوننا امرأة مسيحيّة ممّن تألموا من أجل المسيح في الصين تلك صلاة نيقولاي فليميروفيتش، الأسقف الصربي الذي تكلّم بشجاعة ضدّ النازية، فأعتقل إبّان الحرب العالميّة الثانية، إذ يقول: الأعداء قادوني إلى عناقك أكثر مما فعل أصدقائي أصدقائي ربطوني بالأرض فيما أعدائي حلّوني من الأرض وبعثروا كل مطامحي الدنيوية أعدائي قد غرّبوني عن الحقائق الدنيوية وجعلوني طارئًا ومقيمًا في هذا العالم غير مرتبط به كما يجد الحيوان المُطارَد مخبئًا أكثر أمانًا من الحيوان غير المُطارَد كذلك أنا، لأحمي نفسي من أعدائي وجدتُ ملاذًا مأمونًا عندما التجأت إلى هيكلك حيث لا الأصدقاء ولا الأعداء يقدرون على تهديد نفسي لذا يا ربُّ بارك أعدائي ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضًا ليس أنا، بل بالأحرى هم، مَنْ اعترف بخطاياي أمام العالم لقد جلدوني عندما تردّدت أمام الجلد لقد عذّبوني كلّما حاولت تجنُّب العذابات لقد وبّخوني في حين أنّي تملّقتُ نفسي لقد ضربوني فيما كنتُ أمدح نفسي من الجهل فبارك أعدائي يا ربُّ ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضا في كلّ مرةٍ قدّمتُ نفسي على أني حكيم كانوا ينادونني بالأحمق في كلّ مرةٍ تقدّمت بها مثل قويٍّ، كانوا يسخرون منّي وكأني قزمٌ كلّما تمنّيت أن أقود آخرين، كانوا يدفعونني إلى الخطوط الجانبيّة كلّما حاولت أن أُغني نفسي، كانوا يمنعونني بيدٍ من حديد كلّما فكّرت بأني سوف أنام بسلامٍ، كانوا يوقظونني في كلّ مرةٍ كنت أحاول أن أبني بيتًا لحياةٍ مديدةٍ هادئةٍ، كانوا يطردونني منه ويهدمونه في الحقيقة، إنّ أعدائي قد حلّوني من هذا العالم ومدّوا يديّ لألامس هُدب ثوبك لذا، بارك أعدائي يا ربُّ ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضًا باركهم يا ربُّ وكثّرهم! كثّرهم واجعلهم أكثر قساوة عليّ ليكون جريي إليك بلا رجعةٍ ليتحطّم كلّ رجاء بالإنسان، كما تتحطّم شبكة العنكبوت ليحكُم السلام المُطلَق على نفسي ليصير قلبي قبرًا لأخويّ الشريريْن: العجرفة والغضب فأخبِّئ كلّ كنوزي في السماوات وأصير مؤهَّلاً للتحرُّر إلى الأبد من وَهْم الذّات الذي أسرني في الشبكة المميتة لهذه الحياة الخادعة الأعداء علّموني، ما يتعلّمه المرء بصعوبةٍ، أنّ ما من عدو للإنسان في هذا العالم إلاّ نفسه وأنّ الإنسان يكره أعداءه عندما يفشل في معرفة أنّهم ليسوا أعداء بل أصدقاء قساة وبلا قلبٍ!! فعلاً، من الصعب عليّ أن أخبر مَنْ الذي نفعني أكثر من الآخر أو آذاني أكثر من الآخر: الأعداء أم الأصدقاء فبارك أعدائي يا ربُّ ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضًا إنّ الإنجيل وكلماته ووعوده عزاء حقيقي للنفس المجروحة وقوّة دافعة للواقع المتلعثم في الخطيئة والإثم. لم يعدنا المسيح بجنائن بل بدماء. لم يترك أرضنا إلاّ من فوق صليب ليعلن أن الصليب هو خنجر العالم لطعن المسيحيين الحقيقيين.. ليست تلك مطالبة بمغفرة خياليّة ومناداة بُحبٍّ حالم، فالحب يتولّد كما بمخاض، يخرج ومعه صديد الكراهيّة العفنة. فالحبّ الحقّ يصارع في تلابيب القلب حتّى ينتصر. يخرج كلمات لا تطاوعها المشاعر حتى يتحوّل إلى مشاعر توجِّه الحياة. لن نستطيع أن نلتقي النعمة وقلوبنا سوداء.. لن نستطيع.. من لا يحمل صليبه لا يقدر أن يكون تلميذًا للمُخلِّص.. قد يريد ويشتهي ولكنّه لا يقدر، ذاك هو تعبير المسيح نفسه. في الحقيقة نحن لا نملك خيارًا؛ فقبول الغفران والحبّ لتسكن النعمة أو الاصطدام بعنفوان الكراهيّة ليملك الشيطان.. لا خيار ثالث. لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ إش30: 15 ولكن الغفران هو مرحلة تتجاوز قبول الألم.. هل يطالبنا الإنجيل بعدم الأنين أثناء الألم؟؟؟ الإنجيل لا يُسفِّه ألمنا البشري ولا يُكمِّم صرخات قلوبنا أمام أنهار الدماء، ولكنّه يُعطي الطريق لتجاوزه. فقط بالنعمة نتجاوز الألم، ذاك هو الطريق الأوحد. وطريق النعمة: القلب النقي. ذاك هو المحكّ الحقيقي الذي ننحصر في أركانه الآن؛ كيف نغفر ونحب وسط أعاصير الكراهية المحيطة بنا ووسط رائحة الموت التي تملأ أنوفنا ووسط مذاقة الغضب التي تستوطن حناجرنا. تلك هي التجربة؛ إن نجونا بالحبّ صرنا مسيحيين على شاكلة المسيح.. على صورته الوديعة، وإن قيُّدنا بالكراهيّة صرنا صورة للشيطان بقبحه. اسبني يا ربّ فأصير حرًّا أجبرني على تسليم سيفي فأكون منتصرًا أغوص في مخاوف الحياة حين أقف وحدي احبسني بين ذراعيك فيشتدّ ساعدي جورج ماثيسون ليت النعمة تعبر بنا تلك التجربة المريرة لنكون مشابهين صورة ابنه متجدّدين على شاكلته، لنعلنه كما هو للعالم، لعودة العالم إلى الله. سنطرح أمامك كلّ “لماذا” تدور في عقولنا سنذيبها في لهب الإيمان سنغرقها في مياه الحب سنطرحها في أعماق النسيان سنجعلها تجثو أمامك لتصير “نعم” و“حقًا” و“ليكن” سنجعلها تقول: آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ رؤ 22: 20 |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
هل ندرك سرّ معموديّتنا؟؟؟ في معموديّتنا نعلن أنّنا مائتون عن العالم وأحياء بالمسيح. فالشهادة إحياء لوعينا الخامل بتعهُّدنا في جرن المعموديّة. لقد تركنا إنساننا العتيق غريقًا في جرن المياه وخرجنا بالجسد الجديد الفاخر الذي يتجمَّل بالروح ليشابه صورة الابن. من تعمّد فهو ميّت عن العالم، والمائت لا يخشى موتًا. لقد كان المسيحيّون في بيرو Peru عرضة للهجمات في ظلّ الحرب الأهليّة بين الحكومة والعصابات المتمرّدة. وكما يقول أحدهم: “لكي تكون مسيحيًّا هنا يجب أن تدرك أنّك ميّت بالفعل في المسيح. ما أن تدرك هذا، حتّى يكون كلّ يومٍ يمرّ عليك مكسبًا. إن بقيت حيًّا هنا لمدة سنة، يكون الله أهداك سنة كاملة لتشهد، ليس فقط بالكلام، بل بالأعمال أيضًا”. لقد قبلنا المسيح في مياه المعموديّة وخرجنا فيه إلى الحياة الجديدة، لذا يكتب القديس بولس بغيرة على التقوى، فيقول: «فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ» (كو1: 6). سلوكنا الجديد يشهد لكيفيّة قبولنا للمُخلِّص. إن قابلناه في المياه ونحن مائتون وأخذ بيدنا ليقيمنا ويجدّدنا بنصرة القيامة، كان سلوكنا لا يخشى موتًا ويترجّى اكتمال الحياة الأبديّة في قلوبنا. لذا فإنّ ميلادنا الجديد هو ميلاد من رحم الرجاء السماوي. نحن مولودين ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات. في المسيحيّة، الرجاء حيّ وهو يحيي فينا قوة القيامة. إنْ متنا معه، سنقوم فيه، هذه هي دعوتنا العليا التي لا يستطيع عالم اللّحم والدم أن يستوعبها. ميراثنا في آفاق الأبد.. ميراث ملؤه البهجة.. لا يفنى ولا يتدنّس ولا يضمحل. ميراثنا المُخلِّص. هو يقف مترقبًا نتائج امتحان الإيمان ومحنته في تجارب العالم، ليُكلّلنا بالمجد. لقد صرخت الشهيدة أجاثونيكا (من برجاموم بآسيا الصغرى. 165م)، أثناء استشهاد كاربوس، حينما عاينت مجد الربّ وأدركت نداء السماء، قائلة: “تلك الوليمة أُعدّت من أجلي. عليَّ أن اشترك بها. يجب أن أقبل وليمة المجد”. وانطلقت لتُسمَّر على خشبة وتُحرق بالنار وهي تتهلّل. بل لقد تركت طفلها موقنة أن الله سيعتني به، وذهبت لتشرب كأس الخلاص في ملكوت الله. قد يرى الأعداء أنّهم يؤذوننا ولكنّهم لا يعلمون أنّهم يزكّون فينا غيرة الإيمان لكيما يخرج من بوتقة النار، مُطهَّر.. مشرق.. لامع.. يصلح لملكوت الطهر السماوي. إن ألقوا بحجارة ليرجموننا ستصير نصبًا يشهد لقوّة الإيمان وثباته، يُثبِّت الأجيال القادمة في محبّة المسيح. إن أعرضوا بوجوههم عنّا وتجاهلونا وهمّشونا في الحياة، سنرى وجه يسوع مشرقًا يؤكِّد لنا ميراث الغلبة ومجد الملكوت في معيّته. إن سلبوا ما لنا وصادروا ممتلكاتنا، سيرتفع رصيدنا السمائي وستعلو مكانتنا بالقرب من العرش. إن أشهروا السيوف وسلّطوها على رقابنا سنقدِّم رقابنا ذبيحة حبٍّ من أجل العالم لنربح على كلّ حال قومًا؛ في حياتنا وفي موتنا. إن دمّروا كنائسنا سيُصيِّر الروح، قلوبنا، هياكل، تصدح فيها تسابيح الغلبة والخلاص. حينما هدّد أحد الجنود مسيحيي بيرو أنّهم سيهدمون الكنائس ولن يبقوا فيها حجرًا على حجرٍ، ابتسموا، وقال أحدهم: “المسيح في قلبي لا يمكن لكم أن تنتزعوه”. لا شيء يؤذي المسيحي.. لا شيء.. فحياته المسيح وألمه المجد وموته الملكوت.. مَنْ يقدر أن يؤذينا؟؟!! صرخة أطلقها القديس يوحنّا الذهبي الفمّ ولا زال صداها يزلزل عروش الظلمة التي تبعث برسائل الإرهاب لجمع الحمل. كتب القديس غريغوريوس اللاّهوتي، في خطابه الأوّل ضدّ يوليانوس: “لأنّنا كلّما تضايقنا، صرنا أشدّ تمسُّكًا بحبّ الغلبة، وسنقف صفًّا مرصوصًا ضدّ الطغيان مأخوذين بحرارة الإيمان.. مثلنا مثل الشعلة، كلّما هبّت عليها الريح، كلّما ازدادت اشتعالاً.. [إنّ] الاضطهادات السالفة جعلت المسيحيّة، بسرعةٍ شديدةٍ، قوّة يُحسب حسابها، بدلاً من أن تضعفها، إذ قويت النفوس بالإيمان، وصارت أكثر صلابة من الحديد المُحمّى بالنار والمسقي بالماء”. وكذلك بنفس الروح قال أحدهم: “نحن المسيحيّون مثل المسامير، كلّما قرعتنا بشدّة ازددنا عمقًا في الربّ. نحن المسيحيّون مثل الأزهار كلّما سحقتنا بشدّة اشتدّت وفاحت رائحتنا. نحن المسيحيّون مثل كرات المطّاط كلّما قسوت في قذفنا إلى أسفل كان ارتدادنا إلى أعلى أكثر علوًّا”. إن الكنيسة لا تعاني خوف الموت بل تتجاسر على الموت لتقول له بصوت المسيح: أين شوكتك يا موت؟؟ هيا اغرسها في الجسد ولكنّها لن تصل لعمق الروح. أين شوكتك يا موت؟؟ التي تُعلِّق عليها راية الإرهاب السوداء المزيّنة بجماجم أسرى الدهور، فرايتك تمزّقت وارتفعت مكانها راية الخلاص على ركام الزمن. أين شوكتك يا موت؟؟ تلك التي تقتل بها الرجّاء في قلوب البشر، فضوء القيامة أشرق ومعه رجاء حي لا يموت في قلوب شعب الله. أين شوكتك يا موت؟؟ تلك التي أخذتها من جسد اللعنة الأولى، فبرّ المسيح أمات اللّعنة على الصليب، مُطْلِقًا أنهار نعمته على أحبّائه في قفار العالم. أين شوكتك يا موت؟؟ التي تجرح بها إنسان العالم الملوّث بالخطيئة والشهوة، فيد المسيح الممدودة على الصليب تحتضن خطاة العالم وترسلهم أصحّاء بطُهر الغفران. فيا لمجد الكنيسة التي يمتحن إيمانها فتوجد صامدة على صخرة هي المسيح.. يا لفرحها حينما يبوَّق في الأرض وتجتمع أرواح القدّيسين، وهي مشرقة بإشراقة المُخلِّص فيها.. يا لفخرها حينما تترائَى أمام الجمع السمائي مُكلّلة بالدماء، والجمع يسأل: «مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ كَأَعْمِدَةٍ مِنْ دُخَانٍ مُعَطَّرَةً بِالْمُرِّ وَاللُّبَانِ وَبِكُلِّ أَذِرَّةِ التَّاجِرِ؟» (نش3: 6). إنّ كنيسة الله الحيّة تُقدِّم أعضاءها طواعية على مذبح الخضوع لملك الملوك، ليشفعوا فيها، ويتضرّعون من أجلها، ويهبّون لحشد ملائكة الله لنجدتها. وعوض أعضاءها المبتورة يُنْبِت لها الروح أعضاءً جُدد.. فتبقَى خضراء.. غضّة.. حتّى موعد لقاء المُخلِّص.. إنّ الكنيسة بسبب محبّتها لله ترسل نحو الآب في كلّ مكانٍ وزمانٍ جماهير من الشهداء.. الكنيسة وحدها تحتمل بنقاوة عار المطرودين من أجل البرّ، والمعذّبين بكلّ نوعٍ حتّى الموت، من أجل محبّتهم لله واعترافهم بابنه. وإن كانت في كلّ حينٍ تُعرَّض للبتر والتشويه، إلاّ أنّها سرعان ما تنمّي أعضاءها من جديد وتستعيد كمالها. (القديس إيريناؤس) لقد كانت بصيرة الرسل منفتحة على الملكوت حينما رجعوا مجلودين مثخنين بالجراح، إذ رأوا أنّ الألم من أجل الربّ هبة لا يستحقونها. انطلقوا فرحين. فرحٌ يُحلِّق فوق أنين الجسد وجراحه. فرحٌ لا يستطيع خوفٌ أن يُرسِّم له حدودًا أو يضع له سدودًا. أفراح المسيحي ترفعه فوق الضيق الحاضر إلى حضن الآب. في كتابه Arrested in the Kingdom، يشرح أوزوالدو ماجدانجال (مسيحي فلبّيني) ما حدث له بعد أن قُبض عليه وتعرَّض لضربٍ مبرح. عاد إلى زنزانته وصلّى لمدّة خمس ساعات متّصلة وهو يُسبِّح على شركة الألم التي وهبها له المسيح، بعدها: “أضاء نور بغتةً. امتلأت الزنزانة بسحابة مجد الله. كان حضورًا محسوسًا. ركع على ركبتيه ولمس جبيني، وقال لي: ‘يا بني، لقد رأيت كلّ شيء، لذلك أنا هنا. اطمئن لأنّي لا أتركك أو أهملك إلى أبد الأبدين’.” قد تنثال المحن على الكنيسة وقد تضرب الرياح قاربها وتهتاج الأمواح عليها ويغطيها ضبابٌ ليحجب عنها رجاء الميناء، ولكن، كما قال المُخلِّص: «أَنَا هُوَ، لاَ تَخَافُوا» (يو6: 20). المياه والأمواج والعواصف لن تعوقه عن عوننا. سيأتي ليطأ تلك المياه التي ترهبنا.. ويبكم عصف الرياح بنظرة إرادته الإلهيّة.. سيصير سكون. السكون قد يكون في قلوبنا وسط العواصف أو في العواصف التي تحيط بقلوبنا.. هو هو سكون الخلاص وقوّته. قال أحدهم: أحيانًا يُهدّئ الله العاصفة وأحيانًا يدعها تثور ويُهدِّئ ابنه قالها لنا المسيح بصوتٍ أبدي ليبثّ في قلوبنا حسّ الشجاعة المسيحيّة: «لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ» (لو12: 4) نحن لسنا أجساد مُجرّدة. إنْ جُرح الجسد من أجل المسيح، التئمت أرواحنا في روح إلهنا حتى الالتصاق بالربّ. إنّ تجسّدت الكراهيّة أمامنا، تولّد الحبّ في قلوبنا. لكلّ فعل شيطاني، ردّ فعل إلهي فائق، إن أثبتنا أنّنا بالحقّ نحبّه. إنْ شهدنا له يعني أنّنا شاهدناه يتعشّى في قلوبنا. ومَنْ يشاهد المُخلِّص يُسبى حبًّا ولو إلى الجلجثة. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
أقنعة الألم دعنا نفكر معًا، الجسد عُرضة للمرض والألم والوهن والحوادث، وكلّها آلام إنسان العالم. ولكنّ نعمة المجد تأتينا في وادي البكاء والدموع.. وادي الألم، لترفعنا من وهاده السحيقة المظلمة. إنسان الله ترفعه النعمة من ألم الاضطهاد إنْ رفع عينيه إلى السماء من حيث يأتي العون الإلهي، أمّا إنسان العالم يعاني ألم الحياة دونما عزاء. المشقّات تأتي للجميع، ولكن الاختيار دائمًا لنا. الألم والمعاناة لا مفرّ منهما، ولكن البؤس أمرٌ اختياري يخشَى البعض من الضيقة، لئلا يطالهم جرح الأعداء، وينسون أنّ المرض يجرح الجسد كما السيف. طلقات الأعداء تُهشِّم الجسد في لحظات، وكذلك المرض. أيّهما أكثر تألمًّا؛ مريض السرطان الذي يعمل المرض في جسده كمشارط حادّة، أم ألم قذيفة تنفجر في جسد مسيحي؟!! ألم الموت في حادثة على طريق لا يختلف عن ألم الموت في حدث يستهدف المسيحي.. كلاهما يتألَّم، دون النظر عن دوافع الحدث أو الحادث. ولكن ما أبهَى الألم المُطعَّم بجواهر الشهادة للربّ. الألم الجسدي له وجهان: أحدهما بقناع المرض والآخر بقناع الضيقة والاضطهاد. كلاهما ألم، بيدْ أنّ الآلام برفقة يسوع أشهى من سلامة العالم الزائفة. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلَهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ (مز84: 10) إنّ الاختبار الفعلي والدقيق لمدى تأصُّلنا في المسيح ومدى سريان حياته في أعماقنا هي ردّة فعلنا تجاه الألم. الألم قد يصبح شبحًا تتراجع أمامه وعود الحياة بالسير مع المخلِّص ولو إلى جسثيماني، وقد يُصبح لآخرين دفعة شديدة لعناق الصليب ومن ثمّ عناق المسيح. علينا ألاّ نحاول تحليل الألم ومحاولة فهم منطقه ومنطق مُطلقيه؛ لن نصل إلى شيء، فهو قانون الحياة؛ يأتي لغير المسيحي مختبئًا في المرض أو الموت.. ويأتي للمسيحي ظاهرًا في الاضطهاد. إنْ قبلنا الألم تنقّت قلوبنا وتحرّرت من الشهوة.. إنّنا لا نخشى الاضّطهاد. في الواقع نحن نرحّب به لأنّه ينقّينا (شهادة من كوبا إبّان الاضطهاد) |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
على مَنْ نلقي رجاءنا؟ إجابة الكتاب لذلك التساؤل واضحة: «مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ وَيَجْعَلُ الْبَشَرَ ذِرَاعَهُ وَعَنِ الرَّبِّ يَحِيدُ قَلْبُهُ» (إر17: 5). البشر لا يستطيعون أن يعينوا من استهدفه الشيطان. صراعنا مع السلاطين مع الرئاسات مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر.. صراعنا على حيازة الروح، وإن كان للجسد نصيبه في المعركة. على مَنْ نستند؟ على ملوك العالم وقادته وحكوماته ومنظمّاته؟!! أم على المُخلِّص؟ المرتل في المزمور أنشدها ورتّلها: «أَسْنِدْنِي فَأَخْلُصَ» (مز119: 117)؛ خلاصنا مرهون بسند الربّ وليس آخر.. لن نعاين الملكوت إن استندنا على آخر غير محبوب النفس. بل إنّ الجمع السمائي لا يتعرّف إلاّ على مَنْ استند على الربّ حتّى النهاية؛ «مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا؟» (نش8: 5) قالها الربّ لشعبه قديمًا، على لسان إشعياء، حينما أراد الشعب أن يفرّ ويتحصّن بالبشر عوضًا عن الربّ: وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى مِصْرَ لِلْمَعُونَةِ (الاتّكال على قوى العالم) وَيَسْتَنِدُونَ عَلَى الْخَيْلِ (الاتّكال على السلاح والعتاد) وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى الْمَرْكَبَاتِ لأَنَّهَا كَثِيرَةٌ وَعَلَى الْفُرْسَانِ لأَنَّهُمْ أَقْوِيَاءُ جِدّاً (الاتّكال على الجيوش) وَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ وَلاَ يَطْلُبُونَ الرَّبَّ.. وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ فَهُمْ أُنَاسٌ لاَ آلِهَةٌ وَخَيْلُهُمْ جَسَدٌ لاَ رُوحٌ. وَالرَّبُّ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَعْثُرُ الْمُعِينُ وَيَسْقُطُ الْمُعَانُ وَيَفْنَيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً. لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي الرَّبُّ: كَمَا يَهِرُّ الأَسَدُ وَالشِّبْلُ فَوْقَ فَرِيسَتِهِ هَكَذَا يَنْزِلُ رَبُّ الْجُنُودِ لِلْمُحَارَبَةِ عَنْ جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَعَنْ أَكَمَتِهَا. كَطُيُورٍ مُرِفَّةٍ هَكَذَا يُحَامِي رَبُّ الْجُنُودِ عَنْ أُورُشَلِيمَ. يُحَامِي فَيُنْقِذُ. يَعْفُو فَيُنَجِّي.. وَيَسْقُطُ أَشُّورُ بِسَيْفِ غَيْرِ رَجُلٍ (بغير قوى العالم) وَسَيْفُ غَيْرِ إِنْسَانٍ (بدون أسلحة العالم) يَأْكُلُهُ فَيَهْرُبُ مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ.. وَصَخْرُهُ (قوّته المرعبة) يَزُولُ مِنَ الْخَوْفِ، وَمِنَ الرَّايَةِ (راية خلاص الربّ) يَرْتَعِبُ رُؤَسَاؤُهُ، يَقُولُ الرَّبُّ الَّذِي لَهُ نَارٌ فِي صِهْيَوْنَ وَلَهُ تَنُّورٌ فِي أُورُشَلِيمَ (إش31: 1-9) مَنْ يُحارَب من الشيطان؟؟ هل نُحارَب نحن الضعفاء العاجزين؟؟ كلاّ، يقول الربّ، إنّه: «يُبْغِضُنِي أَنَا، لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ» (يو7: 7). لا يحتمل الدنس سيرة الطهارة، ولا يحتمل الكذب صوت الحقّ، ولا يحتمل الظلم نصرة البرئ، ولا تحتمل البُغضة إشراقة الحبّ.. لا تستطيع الظلمة أن تقف صامته لترك النور يغزو العالم.. تحاربه لأنّه يشهد على أعمال الظلمة الشريرة.. والناس أحبّت الظلمة أكثر من النور لأنّ أعمالهم شريرة.. لذا مَنْ يحاربوننا هم تكتُّل ظلمة العالم وشرّه. إنّ الظلمة تريد تحويل العالم أجمع إلى مقبرة للأحياء، يحيون فيها بالجسد بينما أرواحهم موتى ووعيهم أسير الشهوة، لا يرى ولا يعرف النور. الحرب دائمة بين جنود النور وعسكر الظلام.. نصرة النور قد تكون غير واضحة للجمع الأرضي لأنّ أفراحها في السماء، ولكن نصرة الظلم ظاهرة لأنّ مجالها الجسد والعالم والزمان الحاضر.. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ (يو16: 33) هل نُصدِّق نصرة المسيح وندخل لنعاينها في مخادعنا أم نُصدِّق نصرة الشرير حينما نبصرها في طرقات العالم؟؟؟ الْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ (1يو2: 17) هل معنى هذا ألاّ نطالب بحقوق مشروعة أهدرها الظلم؟؟ كلاّ بالطبع، ولكن أن نفهم العدو الحقيقي والمعين الحقيقي يجعلنا مُتّزني الإيمان وسط الضيقة. أنْ نطالب لا يعني أنْ نتخلَّى على سلامنا المسيحي.. ولا نفقد حبّنا المسيحي. أنْ نطالب لا يعني أن نقابل الإساءة بالإساءة والجرح بالجرح. أن نطالب لا يعني أن نستلهم معارضة ثوريّة عنفيّة تقيم حقوقها على دماء الآخرين. أن نطالب لا يعني أن نقول كفى للصليب نريد الراحة!!! وقتها قد ننال راحة ولكننا سنفقد معها مجد الصليب. الله هو الذي يُحرِّك البشر يجب أن تكون تلك هي عقيدتنا. نطلب من الله أن يعمل ولو بأيدي البشر. ولكن قلوبنا يتحرّك فيها غضبٌ وقهرٌ وشعورٌ بالظلم، كيف نواجهه لنبقَى مسيحيين؟؟ إنّه عمل النعمة ووقتها.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
نحو الله ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون الى السماء وهو منطلق اذا رجلان قد وقفا بهم بلباس ابيض. وقالا ايها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون الى السماء إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم الى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقا الى السماء. (أع1: 9-11) من أروع عبارات الإنجيل قاطبة، بالنسبة لي، هي قول القديس يوحنا في مستهل إنجيله: “الكلمة كان نحو الله” πρὸς τὸν θεόν. إنّ إعلان الإنجيل عن الله يمكن أن يكون تعبيرًا عن تلك الحقيقة. فالابن نحو الآب في علاقة أقنوميّة فريدة، ولكنه ليس نحو الآب كتطلُّع لمثال أعلى، ولكنّ الـ“نحو” هي تعبير عن العلاقة المتحرّكة بين أقانيم الثالوث. إن كون الابن نحو الآب يجعل من الآب نحو الابن والروح القدس نحو الآب والابن. العلاقة جسّدها روبيلوف في أيقونة الثالوث الروسيّة الشهيرة، في شكل الملائكة الثلاث، الذين يتطلّعون بأعينهم نحو بعضهم البعض. إنّ الصعود يُفهم من تلك الحقيقة، أنّ الابن نحو الآب. فالصعود هو تعبير عن الحالة الأصليّة من العلاقة التي لم يدركها البشر؛ علاقة الحب المتبادل بين الثالوث. الابن يصعد إلى الآب، أو بالحري يُرفع إلى الآب lifted up لأنّ الابن كائن عند الآب منذ الأزل، وباقٍ معه إلى الأبد. فالوجه المنظور للعمل الخلاصي قد تمّ، وينبغي أن يتمّ الإعلان عن اكتمال العمل من خلال صعود المسيح وهو حامل طبيعتنا البشريّة المفتداة والمُقدَّسة في جسده الإلهي. إنّ الصعود من هذا المنطلق هو حلقة من حلقات العمل الخلاصي؛ فما قد تسلّمه المسيح، طبيعة خاطئة، يرتفع به إلى الآب طبيعة مُبرَّرة متجدِّدة، في ذاته. كانت الذبائح في العهد القديم تُصعد من على مذبح المحرقة، أي أنّ دورة التطهير لا تنتهي عند الذبح ولكن عند الإصعاد، إذ يشتمها الله رائحة رضى، فيعفو. رائحة ذبيحتنا كانت عطر المسيح الذكي الذي يجد فيه الآب كمال عبق الحبّ، فهو الحبّ المُتجسِّد، ليرفعنا إلى ملء الحب في شركة الثالوث. من آمن بالمسيح وقبل شركته، دخل في جسده الصاعد إلى الآب، ومن ثمّ صار معروفًا لدى الآب من خلال الابن، إذ يرى انعكاس صورة المسيح فيه، فيصير مقبولاً على الفور. إنّ صعود المسيح هو تعبير عن “نحو الله” التي نقلها لنا القديس يوحنّا عن الروح. إنّه يصعد بنا ومن أجلنا، ويعطينا إمكانيّة الصعود إلى الآب، وبل ويهبنا تلك الحركة الديناميكيّة، في ذاته، والمعبّرة عن حركة الملكوت في قلوبنا. حينما تجسَّد المسيح، كان يستهدف تلك اللّحظة التي يرتفع فيها بالبشريّة إلى الآب. الصعود هو تعبير عن محبّة لا ترضى أن يبقى الإنسان أسير الأرض أبدًا، يدور في فلكها ويتدثّر بترابها عند الممات. لذا فإنّ أي عمل إنساني إن لم يتمّ إصعاده إلى الآب لن يكون مقبولاً كقوّة ملكوتيّة مالكة على قلب الإنسان وفاعلة فيه. الصلاة إن كانت تعبيرًا عن ذواتنا وليست صعيدة حبّ واحتياج للآب صارت كذبيحة لم تُقدَّم على المذبح أي أنها صارت حيوان مذبوح لإطعام الجسد لا أكثر ولا أقل. والحبّ إن لم يكن صعيدة صار ملمحًا اجتماعيًّا يدور في فلك المقايضة والمبادلة والاحتياج المقابل، وفقد شرط اللاشرطيّة في الحبّ، ومن ثمّ تحوَّل إلى تبادل للمنافع الوجدانيّة. آخر ما قاله المسيح قبيل صعوده أنّ تلاميذه سيشهدون له، حينما يقبلوا الروح القدس، في كلّ مكانٍ من المعمورة. أوليس إعلان المسيح يستهدف دفع العالم نحو الله أو بالأحرى صعوده نحو الله. من صعود المسيح نقبل رسالتنا أن نصمد كنور في العالم آملين وعاملين من أجل صعود العالم نحو الله في المسيح يسوع.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
النعمة الحاضرة على الدوام «أَلْقُوا رَجَاءَكُمْ بِالتَّمَامِ عَلَى النِّعْمَةِ» (1بط1: 13)، تلك هي الدعوة المتجدّدة التي يُقدِّمها الروح على لسان القديس بطرس في رسالته الأولى، لنا ولكلّ من هم في تضييق من الشرّ. النعمة تحمل الضعيف، وتقوّي الخائر، وتثبت المرتعش، وتميت الخوف، وتُحيي الرجاء، وتفتح البصيرة، وتشير للمجد، بل وتسكنه في قلوبنا، كعربون. ليس شيء قط يوازي تألق النفس التي حُسبت أهلاً لأن تتألم من أجل يسوع المسيح، مهما كانت الشرور التي تأتي وتنصبُّ عليها (القديس يوحنّا الذهبي الفم) النعمة تهمس في آذاننا على الدوام: أنتم غرباء ونزلاء، فلا تستوطنوا الأرض ولا تجعلوها تستوطن قلوبكم، لا تلقوا بجذوركم فيها، فتُقتلع مع رياح الشرّ التي تضرب الأرض ليل نهار، لا تخافوا إن ذرَّت رماد قسوتها في أعينكم لأن موطنكم هو السماء.. موطنكم هو الأبد. إنّ النعمة قادرة على معونتنا لا من خلال وقف سيل الاضطهاد ولكن برفع الروح إلى العُلى، لرؤية موطنها الأبدي. «أَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (في1: 23)؛ هذا لسان حال الروح التي تلهبها النعمة بشوق الملكوت وسط نيران الضيقة. الألم يفقد قدرته على غربلة قلوبنا إن كنّا نئن مشتاقين لكيما يُبْتَلَع الموت من الحياة، ليلبس الفاسد عدم فساد. اشتياق الانحلال من الجسد والسكنَى في الربّ هي مشورة النعمة لنا وكلماتها التي تحفرها في قلوبنا، وقتها نهتف مع القديس بولس بملء القوّة التي ترتعش لها قوى الظلام: مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ. وَلَكِنَّنَا فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً. وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا (رو8: 35-39) قد يرفضنا الناس ويضايقوننا ويهينوننا ويضطهدوننا بل ويسعون لإبادتنا ولكن الروح يقول لنا: إن كنتم حجرًا مرفوضًا من الناس، لكنكم حجرٌ مختار وكريم في عين الله. الله هو مقياسنا لا العالم. وَلِذَلِكَ يَنْتَظِرُ الرَّبُّ لِيَتَرَأَّفَ عَلَيْكُمْ وَلِذَلِكَ يَقُومُ لِيَرْحَمَكُمْ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهُ حَقٍّ طُوبَى لِجَمِيعِ مُنْتَظِرِيهِ .. لاَ تَبْكِي بُكَاءً يَتَرَأَّفُ عَلَيْكَ عِنْدَ صَوْتِ صُرَاخِكَ حِينَمَا يَسْمَعُ يَسْتَجِيبُ لَكَ وَيُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ خُبْزاً فِي الضِّيقِ وَمَاءً فِي الشِّدَّةِ لاَ يَخْتَبِئُ مُعَلِّمُوكَ بَعْدُ بَلْ تَرَى عَيْنَاكَ مُعَلِّمِيكَ وَأُذُنَاكَ تَسْمَعَانِ كَلِمَةً خَلْفَكَ قَائِلَةً: هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقُ. اسْلُكُوا فِيهَا (إش30: 18-21) ولكن النعمة لا تأتي إلاّ بنداءٍ.. ونداؤنا للنعمة هو صلاة.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
لماذا الآباء إنّ الباحث في نصوص الآباء وخاصّة في لُغاتها الأصليّة أو حتّى في اللُّغات الغربيّة التي تُرجِمَت إليها، فضلاً عن الاطّلاع على الأبحاث والدراسات الخاصّة بالشأن الآبائي، يُدْرِك أوّل ما يُدْرِك أنّ ما وصل إلى أيدينا من نصوص أقل بكثير ممّا فُقِد، لذا أصبح لزامًا علينا أن نرتشف ممّا عندنا علّنا نصل لصورة أكثر وضوحًا لحياة أولئك الذين جاهروا بالحقِّ وأصبحوا أنشودته وسط عالمٍ طالته شظايا الفساد وشوّهت معالمه، فأصبح عالمًا لا يُعبِّر عن خالقه. حينما نغوص في بحار الفكر الآبائي فإننا نجد أنفسنا أمام لآلئ لامعة غنيّة، ولكن هل من لؤلؤ لم يكن وليد دموعٍ وأنَّات؟ فاللؤلؤة هي نتاج تلك المادة العازلة التي يفرزها حيوان اللؤلؤ حول حبّة الرمل التي تنخسه فتؤلمه، فيغطّيها بتلك المادّة البيضاء، التي تلتف حول حبّة الرمل، وتصير لؤلؤة. فحبّات اللؤلؤ، كما يقول أحد الكُتَّاب، “ليست إلاّ دموعًا لحيوانٍ عاش هادئًا مُعلَّقًا في المحيط.. إنّه فنانٌ انطوى، انزوى، وبكَى فنًّا.. فحبّات اللؤلؤ دموعٌ لامعةٌ”. إنّ العالم الآن، كما كان قديمًا، هو مخزنٌ للآلام التي لا تنضب، لا يَتِح لنا لحظات ننعم فيها بالراحة؛ فالآلام تقف مُترصِّدة مَنْ يسير نحو الله، لتصير إكليلهم المتوِّج هامتهم أمام عرش النعمة، تلك كانت قناعة الآباء.
لم يلمع الآباء، كما يلمع عظماء العالم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- لأنّهم داعبوا مشاعر الجموع بكلماتٍ رنّانة سطحيّة مُجوّفة المعنَى وفارغة المضمون، ولكنّهم لمعوا تحت ضياء النعمة التي عكست مجد الخلاص على وجوههم المُنهَكة بالألمِ والمكابدةِ. لقد فرّ الآباء من الجموع ومديحهم فرارهم من الهاويّة، أحبّوا الصحاري لأنّها شهدت صِدق الاختبار والعلاقة الخفيّة مع الثالوث. لم تصنعهم الجماهير، بل صنعتهم النعمة التي رافقتهم طالما كانوا مُجاهرين بالحقِّ قابلين في أجسادهم إماتة الربّ يسوع. لم تكن حياة الآباء سهلة، فلقد عانوا من مختلف الجهات صعوبات جمّة، إذ قد استشهد منهم الكثير، ونُفي آخرون، واضُطهِد كثيرون. فهناك دائمًا هيروديا ترقص ومطلبها دائمًا صوت الحقّ؛ رأس يوحنّا. فها هو القديس يوحنّا الذهبي الفم يُنفَى مرّتين بمرسومٍ إمبراطوريٍّ، ليتنيّح في منطقة نائية بقرب شواطئ البحر الأسود. كذلك القديس أثناسيوس نُفي خمس مرّات، جاب فيها نصف بلدان أوروبا، واختبأ في مغائر صحراء نتريا. كما لاقَى بوليكاربوس وإغناطيوس ويوستين، المسيح، مُخضَّبين بدماء الحبّ.. فمع المسيح كان الآباء مصلوبين.
لم يعبأ الآباء بسلطة الأباطرة، طالما أنّهم على جانب الحقّ الإلهي. لقد بزغ نورهم من بين حطام إنساني، ليعلنوا لنا بآثارهم طريق التتويج في المسيح. هل كانت الحروب والصراعات التي طالت آباءنا، والتي نقل لنا التاريخ قبسًا منها في مجلّداته، بسبب عملهم الدَّؤُوب وسعيهم الحثيث في نشر تعليم الإنجيل كما تسلَّموه وعايشوه؟ يبدو ذلك؛ فالآلام تتزايد على مَنْ يَفْتَضِح الظلمة، والأسهم تُصوَّب على مَنْ يُجاهِرون بالحقِّ؛ أي يجاهرون بالمسيح.
لقد كتب فيليب شاف Phillip Schaff في مؤلّفه “تاريخ الكنيسة”، في جزئه الثالث، عن القديس أثناسيوس، قائلاً: “كان أثناسيوس بمفرده في وقتٍ من الأوقات، وهو محرومٌ من مجمع أساقفة بقرارٍ أمبراطوري. كان وحده الحامل للحقِّ”. فالآباء كانوا رُسُلاً بحقٍّ، يحملون سفارة المسيح على أكتافهم، لا يرهبون موتًا، ولا يخشون ثورات التجارب، إذ لم تستوقِف التجارب أبصارهم التي كانت تُحلِّق في آفاق الحبِّ الإلهي. مَنْ يتذوَّق الحبَّ الإلهي لا يُعاني غصّة الموت الثاني؛ فهو لا يرى الموت إلى الأبد، حسبما وَعَد المسيح.
لذا كلما كان العالم يترصَّد الآباء بالضيقة كلّما جاهروا بحقِّ الإنجيل، وانطلقوا يكرزون بشجاعة مَنْ هم موتَى عن الحياة، ومصلوبين عن أمجاد العالم وأنيابه. لم يبحث الآباء عن راحةٍ وأمانٍ وسلطةٍ يرفلون فيها. أحبّوا سلاسل الأسر، وألفوا السجون الرطبة، ابتسموا وهم متّهمون في إيمانهم الصحيح؛ فالعار عندهم كان الصمت عن الحقِّ والتوقُّف عن الكرازة.
كانت المحبَّة الإلهيّة مُحرِّكهم الأوَّل ودافعهم الأعظم، وخبرتهم الأصدق، ومعاينتهم الأكمل. لم تكن محبّتهم لله فكرًا يسبحون فيه ويدعون الآخرين ليشاركونهم أوهامه، بل كانت محبّة نابعة من الصليب، محروسة بالمخافة الإلهيّة، لذا كانوا أحرارًا من المجد العالمي البارق في عيون الجموع، مكتفين بالإيمان والتقوى ككنز رحلتهم الدهريّة نحو ملكوت الله.
إنّ حديثنا عن الآباء ليس سردًا لوقائع التاريخ، ولكن تتبُّعه ومشاهدته وهو يتكوَّن على أيدي أولئك الذين قادوا قاطرته حيثما أرادوا، وما إرادتهم إلاّ فكر المسيح. لم يكن آباؤنا ممّن كانت تقودهم الحوادث والخطوب إلى قدرٍ محتوم، يستسلمون لها في شكوى العاجز!! ولكنّهم كانوا مشعلاً يقود ظلمة التاريخ حينما تعلو سماءه غيمةٌ من الضيقة. واجَهوا.. جُرِحوا.. ولكنّهم أبدًا لم يجهضوا كلمات الحقِّ قبل أن تولِّد ثورة إلهيّة على عالم الفساد. كانوا عُرضة للكثير من المؤامرات والدسائس، للإطاحة بهم بعيدًا عن قيادة الكنيسة، كما حدث مع القديس أثناسيوس الذي لاقَى الأمريْن ممّن عادوه. من تلك المؤامرات تلك التي رصدها لنا ثيودوريت المؤرِّخ عن مجمع صور (335م) إذ كتب: “في الصباح الباكر حضر أثناسيوس إلى المجمع، وفي هذا اليوم كانت أوّل قضيّة قُدِّمَت: قضية امرأة فاسدة بدأت بوقاحةٍ وتهوُّرٍ وصوتٍ عالٍ تقول إنّها كانت قد نذرت بتوليتها ولكن أثناسيوس جاء إلى منزلها وأفسد عفّتها.. فلما طلبت المحكمة من أثناسيوس أن يرد على الإتّهام، صمت أثناسيوس.” وكان تلميذه تيموثاوس هو مَنْ كشف الخديعة إذ ادّعى أنّه أثناسيوس فما كان منها إلاّ أن كالت له الاتّهامات، فانكشف أمرها. كذلك القديس جيروم الذي كان مُرشّحًا لرئاسة روما خلف البابا داماسيوس (384م) إلاّ أن مناوئوه لفّقوا له تهمةً بدسّ ملابس امرأة في مسكنه، الأمر الذي حدا به إلى مغادرة روما، نافضًا غبار حذائه كوصيّة الربّ. كما كانت كتاباته ضدّ البيلاجيين السبب في حنقهم عليه، فهجموا على مسكنه وأحرقوه بالنّار.. ولسان حاله يردِّد مع الشاعر هوراس: يُنقَضُ الكونُ وأبقَى ثابتًا تحت ركامه في كلّ هذا، لم يخشَى الآباء من مخالب الذئاب بينما كانوا يقودون قطيع المسيح إلى الحظائر السمائيّة، بل كانت مخالب مقاوميهم علامات من نورٍ حُفِرَت على أبدانهم ونفوسهم، شهادةً لتغرُّبهم عن منطق المادة واللّذة وسلطة الزمان الحاضر. وبينما كانت الجموع نائمة كانوا هم يقظون يحرسون حراسات الليل على قطيع الربِّ. فالإكليل لا يحتضن رؤوسًا لم تُفلَّح ببذار اليقظة والسهر.
إن الآباء ليسوا كُهَّان في معابد خيالنا نحرص على تجميلهم وطاعتهم لأنَّهم هويّتنا وجذورنا، ولكنّهم معاول لهدم أوثان العالم التي شكَّلتها يدُ الشيطان في فترات خلو معابد أذهاننا من أيقونة الله الثالوث. هم آلات الروح ولسانه الناطق في هياكلنا بكلمة الله التي تفتضح زيف البشر الذين تجمَّلوا في أروقة العالم بأدوات العالم، ليخفوا قبحهم المتنامي باغترابهم عن ذواتهم وتغرُّبهم عن أصلهم الإلهي النقي. كلّ هيكل جدرانه مزيّنة بنقوش العالم أو بنقوش الله؛ وما نقش العالم إلاّ غرقاه، بينما نقش الله هم بشرٌ وجدوا الميناء ورَسَتْ أزمانهم على ضفاف الملكوت. لم تكن الرعاية منفصلة عن اللاّهوت في كتابات الآباء الأُوَّل، إذ هي الوجه العملي لفهم اللاّهوت ومعايشته. لذا كانت كتاباتهم تحمل حسًّا رعائيًّا بشكلٍ أو بآخر. فمثلاً نجد أنّ الرعاية عند القديس غريغوريوس اللاّهوتي هي: “الاهتمام بالإنسان الداخلي الخفي”. إنّ آباءنا كانوا رعاة بما تحمله الكلمة من حبّ وخوف وإشفاق ومسؤوليّة تجاه الرعيّة. بحس الرعاية كتبوا، وبحس الرعاية جابهوا الهرطقات وتكرَّسوا لمواجهتها. لم تكن مؤلفاتهم “علميّة” بالمفهوم المعاصر للكلمة؛ فليس هناك ما يُسمَّى بمعلومة دينيّة مُجرّدة، وليس هناك ما يُسمَّى بلاهوت نظري، عند الآباء. كلُّ معرفة ترتبط بخيط سري بسؤال؛ كيف سأستفيد من تلك المعرفة في علاقتي بالله الثالوث؟ وكيف ستستفيد الكنيسة من تلك المعرفة في شرح وتوضيح الإيمان؟ هذا ما كان يبحثه الآباء. لذا كان آباؤنا جُزُرًا تُصدِّر نغمات الحقِّ العذبة فتأسر السفن التائهة وتجتذبها إلى بحار معرفة الله. هم خطًّا استوائيًّا نقف على حدوده لنتحسَّس موقعنا من خارطة المعرفة الإلهيّة. إنهم تلك المياه الرائقة الساكنة التي تنظر إليها فتتعرَّف على ذاتك، ترى قبحًا أو جمالاً.. لا يخدعونك.. لا يزيِّفون حقيقتك، فهم قطراتٌ تآلفت بفعل الروح وتجمَّعت في نهر الحبِّ الإلهي ليعبُر عليهم مرتحلو الحياة، بحثًا عن مصداقيّة ما بعد الحواس، وإذ بمَنْ يعبرون ويتكشّفون سِرّ الروح، يندفعون نحو المياه، ليصيروا هم أنفسهم قطرةً في نهر الحبِّ الذي ينبع من الله وينتهي في الله. لم يكن الآباء ممّن وُلِدوا على أسرَّة من نورٍ، لم يعاينوا عليها قُبح الخطيئة ولا هول التعدِّي ولا وخزات الحياة المُحتجَبة تحت سُحُب الظلمة؛ ومنهم مَنْ كانت له خبرات في الشرور يندَى لها الجبين. إلاّ أن نور الحبّ الإلهي حينما يُشرِق على قلبٍ لا يمكنه إلاّ أن يُؤخَذ بذاك الضياء الناعم الهادئ الذي يشير إلى حياةٍ أُخرى في بلدان النور.
تألّم بعضهم حينما واجهته النعمة بخطايا صباه بل وأخطاء طفولته أيضًا، وهل من أخطاء للأطفال؟! إنّه فساد الطبيعة الذي يظهر دون وعي أو إرادة ولكنّه يشهد على الخطيئة التي جازت من آدم إلى الجميع، ففي آدم أخطأ الجميع..
يرى البعض، الآباء، وكأنّهم أنصاف آلهة!! لم يُخطئوا، وكأنّهم وُلِدوا من رحمٍ آخر لا يعرف مَخاض الخطيئة التي تحاصر مَنْ يُؤتَى بهم إلى الوجود!! وهم بهذا يحرموننا من أن نرى فيهم إنسانيّة كالتي لنا، فتصبح القداسة لنا بالتالي، طموحًا أكبر من قدراتنا التي تمسّها أنامل الخطيئة بين الحين والآخر. ولكن، هل كان الآباء كذلك؟ لا أظن، فهم بشرٌ جاهدوا وانتصروا. ها هو القديس غريغوريوس اللاّهوتي يشرح عمّا كان يعتلجُ في نفسه من أفكارٍ زهاء المقابلة الباهتة الباردة التي لاقاه بها هلاَّذيوس، أفكار تتأرجح بين الثورة للذات وإماتة الذات، فيقول:
وانتصرت الإماتة على الثورة والغضب. هنا نرى الصراع بين ما هو إنساني وما هو إلهي في داخله، وهو الصراع الذي نحيا على وقع نغماته كلّ يومٍ، ولكن يتفوَّق الآباء دائمًا في إنهاء الصراع بالخضوع لمشورة الروح. لذا فالآباء كانوا مجاهدين من طراز رفيع، لا يرضوا لأنفسهم بحياةٍ دون الأبديّة ولا بمرشدٍ سوى الروح الإلهي.
لقد كتب ترتليان كتابًا أسماه “في الصبر”، وقال في استهلاليّة الكتاب:
جاء آباؤنا من مختلف البقاع والثقافات وكأنّ الروح استقطبهم كما يستقطب النور فراشات المساء؛ منهم مَنْ جاء من عائلة وثنيّة لم تُولَد في الإيمان ككليمندس السكندري والذي أصبح فيما بعد “رائد الثقافة المسيحيّة” كما أطلق عليه كواستن Quasten، وآخرون جاؤوا من عائلات النبلاء ككبريانوس، وآخرون ولدوا في عائلات أرستوقراطيّة ونالوا قسطًا وافرًا من العِلْم مثل باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي، ومنهم مَنْ كان يرزح تحت ضغط الفقر مثل أوريجانوس الذي كان عليه أن يعيل عائلته (كان الأكبر بين سبعة أشقاء) بعد استشهاد والده، ومنهم مَنْ درس الحقوق وتمرَّس على القانون مثل ترتليان، ومنهم مَنْ برع في الفلسفة كبنتينوس السكندري.. آباؤنا كانوا يستوطنون الغربة منذ أن انطلقوا على آثار المُخلِّص، بعد أن حررَّتهم الكلمة الإلهيّة واغتسلوا في المعموديّة، صاروا متجوّلين على دروب الربِّ. تركوا الأهل والأقارب والأصدقاء والأوطان والطرقات التي شهدت طفولتهم وصباهم.. تركوا كلَّ شيءٍ دون أن يربطهم خيطٌ بالماضي؛ فالكلمة أخذتهم لمناطقٍ غير مأهولة، قضوا حيواتهم يلهثون وراء النعمة، يرتشفون منها فيسكرون حُبًّا، فيدفعهم ظمأ النهم الروحي لطلب المزيد، فيجوبون أميال الصراع والجهاد في قفار الحيرة والمثابرة والسهر، حتّى تملأ النعمة أوانيهم مُجدَّدًا. والنعمة لا تترك إناءً فارغًا دون أن تملأه. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
معجزة الحياة من المستحيل أن نشعر أننا أحياء إذا لم نفكر أيضاً بأننا سنموت يوماً، كما أننا لا نستطيع التفكير بموتنا، دون أن نستشعر، وفي اللحظة نفسها، بالمعجزة الغريبة، معجزة كوننا على قيد الحياة إنَّ الحياة والموت وجهان للوجود الذي نحياه، فلا حياة بدون موت ولا موت بدون حياة، ولعلَّ البعض يخشون من الحديث عن الموت، ويخافون من ارتياد القبور بأفكارهم، وذلك خوفاً من عواقب الحياة المُستهْلَكة في الأرض، أو خوفاً من المجهول، أو خوفاً من المستقبل، أو خوفاً من الموت في حدّ ذاته كَحَدثٍ فارقٍ في حياة الإنسان، ينقله نقلة نوعيّة من الحياة بين جدران المادّة إلى الحياة في ملء الروح. ومهما كانت مخاوفنا من فكر الموت، يبقى الموت حقيقة تحاصرنا كلّ حين، نراها كلّ يوم، وكأنّ الموت كائنٌ في نسيج الحياة.. يجول يحصد أرواحاً ويعبر بها من أرض الفناء إلى أرض الخلود. فالحياة والموت هما خيطان، نسجتهما يدُّ الله يوم نسجت رداء الخليقة الذي غلَّف العدم وصيَّره وجوداً. يرسم لنا أيوب الصديق صورة عن الموت الذي كان يلاحقه، قائلاً: ” احمرّ وجهي من البكاء وعلى هُدبي ظلّ الموت“ (أي 16: 16) إنه الموت الذي يلاحق البشريّة، فلا تستطيع الفرار منه أو الهروب أو الاختباء، فأيدي الموت تصل إلى كل إنسان في كل مكان. تطال الأطفال والكِبار، الرجال والنساء، الأصحّاء والمرضى.. بلا قيود ولا ضوابط، سوى المشيئة الإلهيّة وصدور القرار السمائي.. ولكن، لماذا الحديث عن الموت؟؟ هل نتحدث عن الموت حتى نتوقف عن الحياة ونحيا في سكون الانتظار؟؟ أم نتحدّث عنه لترك الحياة والانطواء داخل أنفسنا في شعورٍ بتفاهة الحياة التي لا تستحق أن نحياها؟؟ أم أننا نتذكّره لتبكيت أنفسنا على تساهلنا مع أنفسنا وتناسينا أن الموت سيعبر بظلاله علينا يوماً، وسوف يحملنا على جناحيه إلى عالم آخر.. عالم جديد؟؟ في الحقيقة، حينما أردت التحدث عن الموت، كنت أكتب عن الحياة، وحينما أتذكر الموت أتذكر معجزة الحياة التي أحياها أتذكر تلك الهدية الثمينة التي أعطاني إياها الله.. يوماً كاملاً جديداً على قارب الحياة.. أربعة وعشرون ساعة كاملة، لأرسِّخ فيها حبّي لله، ولأصبغ العالم من حولي بلون الملكوت الذي نترقبه وننتظره بل ونشتاق إليه.. إن الحياة بالحقيقة هي المعجزة الكبرى التي يجريها الله معنا كل يوم. فهو يجدد لنا الزمن ويجدد لنا معه الفرصة لتجسيد أشواق قلوبنا إلى أفعالٍ تشير إلى الله وتمجّد الثالوث، الذي قد أَسَر قلوبنا بالحبّ يوم آمنّا وعرفنا وتذوّقنا بهجة اللّقاء معه.. في الصلاة.. في الإفخارستيا.. في الحبّ.. في الخدمة.. في العطاء.. في البذل.. في الآخر.. فهل تستوقفك تلك المعجزة التي يجريها معك الرب، كل يوم، فتحني ركبتي قلبك في شكرٍ وخضوعٍ لله ليقودك في هذا اليوم، أم أنك غافل، والحياة المتجدّدة هي أمرٌ طبيعي، ولسان حالك يقول: الغد سيأتي بالتأكيد؟! أقول لك، لا تُغالِ في طمأنينتك، فليس هناك قانون لحركة الموت، وليس هناك استثناءات عنده.. آه، لو أدركت قيمة الحياة التي تتفجّر في داخلك متجدّدة كل صباح مع أشعة النور المتسلّلة من خلف رداء اللّيل، لكنت اشتهيت ألاّ تنام وألاّ تأكل من أجل استثمار تلك العطيّة، والاتّجار بتلك الوزنة، بالفضيلة، في أسواق الملكوت. الحياة هي معجزة تتجدّد.. استقبلها في الصباح بالشكر والتسبيح، وضعها في أيدي الله في المساء مصحوبة بالتوبة، فقد لا تتجدّد شمسك مرة أخرى، وقد تغرب شمسك من الحياة الأرضيّة، لتشرق من جديد، هناك في الأبدية وفي قلب الثالوث.. ستشرق في النور، إن كنت آمنت واستثمرت الحياة بالحياة، والحاضر بالمستقبل، والطموح بالرجاء.. ولكنها ستغرب إلى الأبد إن دفنت وزنتك في رمال اللاّمبالاة والكسل والتأجيل إلى غدٍ قد لا يأتي!! ولتتذكر كلمات الربّ يسوع.. الحمل المذبوح.. الذي ظهر ليوحنا، قائلاً: ”من يغلب، فلا يؤذيه الموت الثاني” (رؤ 2: 11). هيا.. ضع يدك على المحراث، وتمنطق بالرجاء، وثبّت عينيك على الملكوت وعلى وجه الربّ المشرق بضياء الحبّ.. فالمعجزة ستتجدّد والحياة ستمتدّ من أجل تلك الحياة الجديدة التي لا يموت ساكنوها إلى الأبد.. إلى الأبد.. |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
أن نصلي قال المسيح: «هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (مر9: 29). الشيطان الرابض في قلوب الأعداء لن يفارقها إلاّ باتّحادنا في الصلاة وبشركتنا في الصوم. لقد أعطانا المسيح العلاج الأوحد فلِما لا نستخدمه؟!! العدو يخاف من الصلاة لأنّها تُجرِّده من سلاحه الأوّل؛ أي تصدير الخوف إلى قلوب المسيحيين. مَنْ يُصلِّي لا يخشَى شيئًا. لذا فإنّ مخاوف المسيحي هي ردّة فعل إنسانيّة لا تلبث أن تذوب أمام لهب الصلاة. هناك فارق بين الخوف العرضي الإنساني الوقتي، وبين الخوف المتوّج ملكًا على الحياة المتشبّثة بالأرض ومن عليها. لا يملكن الخوف بصولجانه على قلب مسيحي يُصلِّي. لما كنت حرًّا كنت أعمل والصلاة أحيانًا في الخلفيّة. أمّا في السجن [من أجل المسيح] اكتشفت أنّ الصلاة هي كلّ شيء. إنّها مثل استعمال الطيّار قائمة المراجعة قبل الإقلاع. إذا أُغفِلَ البند الأوّل قد تتعرّض حياة الكثيرين للخطر. البند الأوّل في قائمة مراجعتنا يجب أن يكون دائمًا الصلاة. إنْ أغفلناها تعرّضت المهمّة كلّها للخطر (أحد المعتقلين من أجل الإيمان في فيتنام) «أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ» (يع5: 13). تلك الوصيّة الرسوليّة تضع لنا قاعدة ذهبيّة مختصرة أنّ الصلاة هي دواء المشقّة. ويكمل القديس بولس الصورة بكلمات الروح فيقول: «فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ صَابِرِينَ فِي الضَّيْقِ مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ» (رو12: 12). إن عكسنا تسلسل الآية نجدها ترسم طريقًا واضحًا للخروج من فوّهة الضيق. فالمواظبة على الصلاة تستجلب لنا نعمة الصبر إن حلّ الضيق، ومن الصبر ينفجر نور الرجاء ليثبّت قلوبنا في الفرح. لقد عزى البعض ثبات المسيحيين الروس في الهجمات التي طالت الكنيسة طوال فترة الحكم الشيوعي إلى انتظامهم ومواظبتهم على الصلاة قبل أن تحلّ الضيقة.. إنّنا لن نستطيع أن نصبر على الضيق من جرّاء أنفسنا، ستخور أنفسنا سريعًا أمام ثقل الضيق الحاضر المدفوع بيد الشرير. ستشرخ النفس بجرحٍ يصعب مداواته. جرح النفس سيقودنا إلى الانطواء أو العنف، وكلاهما انتكاسة في حياتنا المسيحيّة المجاهرة المسالمة. ولكن إن دخلنا مخدع الصلاة، جعلنا المواجهة بين المسيح والشيطان لا بيننا وبين الشيطان، وقتها نرى المسيح يعمل من وسط خيوط الشيطان العنكبوتيّة ليرسم خلاصًا لأحبائه. لن نخور لأنّ المسيح هو الحاضر في قلوبنا لامتصاص قسوة الحاضر ولدفعنا بقوة الرجاء. صرخة صلاتنا دائمًا للروح، كما طالب اليونانيين، فيلبس، قديمًا: نريد أن نرى يسوع يعمل لنجدتنا.. نريد أن نرى يسوع يعلن عن ملكه على الجميع.. نريد أن نرى يسوع.. قد يتأخرّ ويأتي في الهزيع الرابع من الليل، ولكنه سيهبنا الصبر، طوال الليل، ليكمّل ضفر إكليل المجد لنا. تأخُّر الربّ هو إعداد للمجد. سنتسلّم الصبر من يده. والصبر اقتناء للنفس وعودة بها إلى ثالوث الحبّ. ومن بين سكينة الصبر المُتجدِّد بمواظبة الصلاة سيشرق شمس البرّ والشفاء على جناحيه. سيشرق، فنرى فيه رجاؤنا. وقتها سنفرح وسنرسل تسابيح الفرح إلى أهل العالم فتصير تسابيحنا كرازة فائقة نابتة من الألم والدماء. قَبْل الهبة ضيقٌ. وسط الضيق نوهب الصبر إنْ صلّينا. هكذا كانت الكنيسة الأولى؛ «هَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ مَعَ النِّسَاءِ وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ وَمَعَ إِخْوَتِهِ» (أع1: 14). مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ (كو3: 4) أن نصلي هذا سلاحنا للنصرة.. الصلاة تعالج نفوسنا التي ترزح تحت وطأة الضيق. الصلاة ترفعنا لنرى الأمور بعين الله الخيّرة. الصلاة تُجدّد أشجار حياتنا التي قد أصابها العطب ولفحتها رياح الشمال ولوّحتها شمس التجارب. الصلاة تزيل صدأ علاقتنا بالله وتفتح من جديد قنوات الاتّصال بيننا وبين السماء. الصلاة تُضمِّد جرح القلب النازف بالخوف. الصلاة تزيل هموم الغد الرابضة على عقولنا. الصلاة تُحيي فينا الشعور بسيادة الله على الخليقة. الصلاة تُذكِّرنا أنّه لاشيء يحدث دون علمه الإلهي، ولا شيء يحدث يمكنه أن يؤذي أولاده إيذاءً أبديًّا. ندخل الصلاة بصرخات الخوف ونخرج بترانيم الرجاء ندخل الصلاة بدموع الليل ونخرج بأفراح النهار ندخل الصلاة بمشهد العالم الدامي ونخرج بمشد الربّ يسوع الحاني ندخل الصلاة مُهدَّدين في حياتنا ونخرج منها ثابتين في أبديّتنا ندخل الصلاة بأسماء أحبائنا ونخرج بعونٍ لأحبائنا ندخل الصلاة بجرح الأعداء ونخرج ببركة للأعداء ندخل الصلاة بغضبٍ من قسوة الأرض ونخرج بسلامٍ من روعة السماء. ندخل الصلاة بذواتنا ونخرج بالمُخلِّص.. بعمانوئيل.. بالله معنا.. وَيُقَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: هُوَذَا هَذَا إِلَهُنَا. انْتَظَرْنَاهُ فَخَلَّصَنَا. هَذَا هُوَ الرَّبُّ انْتَظَرْنَاهُ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِخَلاَصِهِ ( إش25: 9) |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
الكرازة فعل حب يكتب ميشيل كواست، قائلاً: إن جسداً يجاهد بدون قلب خفّاق لا يمكنه أن يولِّد الانتصار لأنّ الصراع من غير محبة هو صراعٌ عقيم ويضيف مارتن بوبر Martin Buber في كتابه Je et Tu (أنا وأنت)، قائلاً: إن خير وسيلة لحب الله هي المشاركة الفعَّالة في تحقيق خلاص مخلوقات الله إن الكرازة في جوهرها هي فعل حب عميق نحو الله ونحو العالم. والمحبّة المسيحيّة ليست عاطفة مجرّدة ولكنها قرار والتزام يتحقق عندما ندرك سر الصليب كفعل محبّة يجود بكل شيء حتى الحياة.. يُحكى عن أحد المرسلين الذين ذهبوا لينشروا نور الإنجيل في جزيرة فيجي، التي كان يقطنها آكلي لحوم البشر أنه أثناء الرحلة على متن السفينة، حاول ربّان السفينة أن يثنيه عن عزمه قائلاً: إنك تخاطر بحياتك وحياة الذين معك عندما تذهب إلى أولئك المتوحشين، فأجابه قائلاً: لقد متنا قبل أن نأتي إليهم!! لذا، فإن كانت الكرازة تسير بأي قوة دفع غير المحبة المتساقطة، كقطرات، من فوق خشبة الصليب، صليب الموت المحيَّ، لن تأتي بثمار حية ولن تحقق غايتها والتي تكتمل بخلاص العالم!! إن المسيح قد ائتمننا على العالم لكي ننيره.. لكي نملّحه حتى لا يفسد ويصيبه التعفن بالخطيئة، لذا يجب أن نعيد قراءة الإنجيل برؤية جديدة.. رؤية بأحشاء المسيح التي تشتاق إلى كل نفس لتدرك حبّه الفيّاض، لتعي وصيّة المسيح التي تطلق الكنيسة في العالم، ولا تتركها حتى تأتي مُحملة بثمارٍ لمجد الله الآب. إن المسيح جاء ليقول لنا: “أحبب“ فإن لم نستطع أن نقتني حب المسيح لكل الخليقة، فلن نستطيع أن نعاين ملكوت الله، الذي هو ملكوت الحب الأزلي/ الأبدي. إن الشرط الوحيد لدخول الملكوت - بحسب كلمات الأب جان بول - هو: اعتناق الحب كمبدأ للحياة. إنّ الحب هو طاقة خلاَّقة لا يستطيع الإنسان أن يحيا بدونها أو يتجاهل وجودها في صميم كيانه الداخلي. ويُعرِّف عالم النفس الشهير فرويد Freud، الصحّة؛ بأنها القدرة على العمل وعلى الحبّ وبحسب كلمات د. كارل ميننجر Dr. Karl Menninger: الحب يشفي من يعطي الحب ويشفي من يتقبّل الحب إن لم نتعرف على محبة الله لنا، لن نستطيع أن نحيا حياة سوية في ملء البهجة والرجاء دون النظر إلى العقبات التي تواجهنا في مسيرتنا على طريق الحياة. كما أن من تذوق محبة الله وأراد أن ينعزل بها ولا يشارك أخوته في مسرّة الخلاص، يصبح مريض (الأنا ego)، يتمحور حول ذاته ويتقوقع في عالمه متوهماً القداسة بعيداً عن جسد المسيح الذي هو الكنيسة، إنه يحتاج للمسة شفاء بترياق الحبّ المسيحي. إن الفيلسوف بوير يقول: (الحب هو التلاقي)، لذا فإن كل كرازتنا تستهدف التلاقي مع كل الخليقة في المسيح، تستهدف تحقيق الوحدة البشرية المفقودة نتيجة الخطيئة والعصيان التي أسقطت آدم ومن بعده كل ذرّيته. إن الخطيئة جلبت الانقسام للهيكل البشري، ولعل هذا الإخفاق الذي آلت إليه البشرية هو نتيجة لغياب مصطلح المحبة من القاموس البشري. لذا فقد جاء المسيح ليعيد الرباط الذي يربط البشر بعضهم ببعض، جاء ليعيد اكتشاف تلك القيمة المفقودة، ولكن في أسمى وأبهى صورة ألا وهي المحبة المتألّمة.. إن لنا دعوة عليا لنكون سامرياً آخر يضمد جروح أعدائه، لنكون بولس آخر يُنفَق من أجل الكرازة، أن ننقل فعل المسيح نحو الآخر.. لنبذل ونموت من أجل كل إنسان لكيما يخلص. إن الضرورة الكرازية ليست فرضاً مسيحيًّا نؤديه من أجل إثبات أحقيّتنا بالعضوية في جسد المسيح، ولكنها نابعة من الحب الذي يسري فينا من أول يوم تذوّقنا فيه حب المسيح، لذا فإن القديس يوحنا ذهبي الفم يقول: إن قلت أنك مسيحي ولا تقدر أن تفعل شيئاً للآخرين يكون في قولك هذا تناقضاً وبنفس المعنى يقول الشاعر الفرنسي شارل بيجي Charles Péguy: لا تحاول أن تذهب إلى الله وحدك، فإذا فعلت، سيُطرح عليك السؤال المحرج، أين أخوتك وأخواتك؟ إننا في حاجة الآن إلى صحوة كرازيّة، نابعة من قلبٍ محبٍّ، يعي رسالته من خلال مسيحيّته، ومن خلال الكلمة الإلهية، ومن خلال الصلوات اللّيتورجيّة الكنسية، لنستطيع أن ننطلق بقوة وثبات، ننشد أمام العالم: ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب |
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
الصلاة الكرازية يدون لنا سفر الأعمال، صلاة الكنيسة حينما خرج بطرس ويوحنا من السجن، وشرحا للجميع الحوار الذي دار بينهم وبين قادة اليهود. تقول تلك الصلاة: ”امنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة بمد يدك للشفاء ولتُجر آيات وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع” (أع 4: 29 - 30) لقد كان طلب الكنيسة هو المجاهرة بكلمة الله، والمجاهرة παρρησιας كما جاءت في أصلها اليوناني، تعني الشجاعة والجرأة والثقة النابعة من الحرية. فالكنيسة لم تُصَل من أجل سلامها الزمني، ولم تطلب من أجل إطفاء نيران الاضطهاد المزمعة أن تشتعل، ولكن طلبتها كانت من أجل انتشار كلمة الخلاص بلا عوائق، سواء كانت عوائق خوف أو تردد بشري، من جرّاء الضيق. كما أن الكنيسة طلبت من الرب أن تكون الكلمة مؤيّدة بالآيات والعجائب التي تصنعها يد القدير، باسم الربّ يسوع المُخلّص، حتى تثمر مجداً للرب يسوع وإيماناً بشخصه الإلهي. فالكلمة إن لم تكن مؤيّدة بالروح القدس لن تستطيع أن تحفر لنفسها مكاناً في صخور القلوب القاسية. إلاّ أن مفهوم الكنيسة عن الآيات والعجائب هو مفهوم ممتد يتعدى تطبيب الجسد، فأعظم عجيبة -بحسب قول القديس باخوميوس- هي “توبة الإنسان”. فنحن لسنا في حاجة الآن لكسر قوانين الطبيعة لإعلان صدق كلمة الإنجيل، لأن عقل الإنسان في هذا العصر هو المتحكّم الأول في إيمانه. لذا فإن المعجزات في هذا العصر يعتبرها البعض نوعاً من الغيبية التي تُحقِّر قيمة العقل والعلم، وخاصة في المجتمعات المتقدمة. من هنا تكون الآية والمعجزة التي يصنعها الله والتي تترجاها الكنيسة في طلبتها هي أن تظل كنيسة حية صادقة أمينة حانية عفيفة قانعة محبة، كما تطلب من أجل معجزة خلاص العالم من قيود الظلمة نحو فجر الحرية في المسيح يسوع. إنّ النموذج العملي والتطبيق السلوكي لكلمة الإنجيل، هو المعجزة التي يلتمسها العالم من الكنيسة، وهو الآية القادرة أن تجعله يعيد التفكير في علاقته بالله في المسيح يسوع. إن الكنيسة يجب أن تحافظ على تلك الصلاة دائماً أثناء سعيها وبحثها عن الخروف البشري الضال وعن الدرهم الإنساني المفقود. يجب أن تكون طلبتها المزدوجة والدائمة هي: - خروج كلمة الخلاص بقوة وجرأة وشجاعة من وعائها الإنساني الهش - أن يعمل الله لتأييد تلك الكلمات بآيات وعجائب لمجد اسم المسيح، ليختفي الجميع وليظهر هو وحده؛” ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص” (يو 3: 30) يروي لنا سفر الخروج عن حالة موسى النبي بعد ذلك اللقاء الفريد مع الله، فيقول: ” وكان لما نزل موسى من جبل سيناء ولوحا الشهادة في يد موسى عند نزوله من الجبل أن موسى لم يَعْلَم أن جلد وجهه صار يلمع في كلامه معه. فنظر هرون وجميع بني إسرائيل، موسى، وإذا جلد وجهه يلمع، فخافوا أن يقتربوا إليه” (خر 34: 29 -30) إن ما حدث مع موسى -نبي الخروج- يدعونا للتوقف ؛ فحوار موسى مع الله صيَّر وجه موسى في حالة تجلٍّ.. كان وجهه يضيء بلمعان!! فالحديث مع الله يُقدِّس المادة التي تتألّف منها أجسادنا الترابيّة فتتوهّج بضياء لم تختبره المادة من قبل، وهج الانغماس في الحضور الإلهي، والدخول في أعماق النور غير المخلوق. إن هناك علاقة لُّغوية بين الوجه والحضور، فكلاهما ترجمة لكلمة προσωπον اليونانية، وكأنّ الحضور يُعْلَن في الوجه، فوجه موسى كان يُعْلِن عن حضورٍ إلهيٍّ. لذا فإنّ حضور الله يجب أن يكون له ملامح في وجوهنا، ليس بلمعان الجلد المرئي كما في العهد القديم مع موسى، ولكن بإشراقة الروح المبتهجة. من هنا ندرك سرّ المقولة القديمة أنّ المسيحيين كانوا يُعرفوا من وجوههم، وذلك حينما يلتقون بغير المسيحيين!! هذا الحضور الإلهي يتكثّف بشدة في الصلاة الصادقة النابعة من قلبٍ يشعر بالاحتياج الدائم لله. فالصلاة هي اتّصال بالله الثالوث، بل هي شركة مع الله الثالوث، يحدث فيها حوار إنساني إلهي؛ إنساني من خلال الكلمة والمشاعر والاستجابة لنداءات النعمة وإلهي من خلال الفعل الروح في القلب والحياة.. وإن كانت الصلاة هي استحضار لله، الحاضر دائماً، والكرازة هي محاولة لدفع العالم لتذوّق ذلك الحضور. فتكون الصلاة والكرازة صنوان لا يمكن أن يفترقا. لذا فإن فالكرازة لا يمكن أن تنفصل عن الصلاة، كما أنَّ الصلاة لا تُحلّق في الأعالي إن لم تكن معنيّة بخلاص الآخرين. إن الصلاة التي نختبر فيها أحشاء الله، التي تئن من أجل رجوع خليقته إلى حضنه الدافئ، هي القادرة أن تضعنا في حالة من التجلِّي، هي القادرة على أن تبعث ضياء الروح على قسمات وجوهنا، فيراها الآخرون وينبهروا من ضياء لم يألفوه قبلاً في أزقّة الحياة الأرضية!! ضياءٌ ممتلئٌ بالسلام الذي لا يستطيع العالم أن يهب مثله!! ضياء به قوة جذب نحو الكائن غير المرئي، الذي تتحقّق فيه الإنسانيّة بملئها، وتكتمل فيه الغاية التي يبحث عنها البشر، غاية الوجود.. إن الصلاة، هي ضرورة كرازية لكي ما يتولّد في قلوبنا حسُّ الحبّ نحو الخليقة أجمع، وحينما يتحرّك ذلك الحسّ في قلوبنا، سنذهب ونشهد بكل حياتنا المغمورة في الحضور الإلهي، لذاك الذي افتدانا من اللّعنة القابعة في وادى الموت، ليرينا سرّ الحياة الأفضل.. سرّ الحياة الجديدة في معيّته. “وبقوّة عظيمة كان الرسل يؤدّون الشهادة بقيامة الربّ يسوع ونعمة عظيمة كانت على جميعهم“. أع 4: 33 يروى لنا القديس متى عن حادثة شفاء الغلام المصروع بالشياطين، فيقول: ”ولما جاءوا إلى الجمع تقدّم إليه رجلٌ جاثيًا له وقائلاً: يا سيّد ارحم ابني فإنه يصرع ويتألّم شديدًا ويقع كثيرًا في النار وكثيرًا في الماء. وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه. فأجاب يسوع وقال: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي إلى متى أكون معكم إلى متى احتملكم قدّموه إليّ ههنا. فانتهره يسوع، فخرج منه الشيطان، فشفي الغلام من تلك الساعة” (مت 17: 14 - 18) إنّ حالة العالم بدون مُخلِّص هي حالة ذلك الغلام المصروع بالشياطين. إنّه عالمٌ بلا إرادة ذاتيّة على التحكُّم في المسيرة، بلا قدرة على تجنُّب المخاطر، بلا قوّة تخلّصه من الألم الكياني الذي يُمزّقه ويلقي به على ضفاف الحيرة واليأس والشك. ”إنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح، أجنبيين عن رعويّة إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم، وبلا إله في العالم“ (أف 2: 12) العالم كله قد وُضع في الشرير، هكذا تحدّث القديس يوحنا في رسالته الأولى (1 يو 5:19)، وصار الشيطان يعبث بمقدّرات البشر، فهو رئيس سلطان الهواء، وقادة ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر. صار يجول في أركان العالم المخلوق يصنع شروراً ويخلق عداوات ويُعمي بصائر ويُفجّر ظلمات جديدة. جمَّل الشهوة ليبيعها للبشر، وزيّن الخطيئة ليُزوِّجها للبشر، فصارت البشريّة مستعبدة ومصروعة بالشهوة والخطيئة والإثم والتعدي. ولم يكتف بهذا، ولكنه عمل جاهداً على تقبيح المسيحيّة، والتشكيك في الإنجيل، وبث شعور من استحالة تطبيق الوصيّة في الواقع العملي. كما سعى ليجعل من الربّ يسوع شخصيّة من شخصيّات التاريخ، والمسيحيّة حركة اجتماعيّة حضاريّة وليدة عصر معيّن، والإنجيل كتاب تراثي وتاريخي يحتل مكاناً في المكتبة وسط الكثير من الكتب الأخرى. كل هذا الجهد الشيطاني الدؤوب ونحن غافلون عن العالم الذى يحتاج لمن يلقية في بحيرة النور، ليغتسل من الظلمة التي منعته من رؤية الحق. فالحق وحده هو الذي يوقِظ الوعي الإنساني من جديد، حتى يُقرِّر ذاتيّاً مصيره الأبدي. من هنا كانت الصلاة من أجل العالم هي إحدى دعائم الحركة الكرازيّة الأساسيّة، إنها تُحرِّك اليد التي تُحرِّك العالم كما قيل، إنها بمثابة دخول في المعركة اللاّمرئيّة مع الشيطان، لأنها تقيّد الشيطان وتحد من قدراته في العمل على إهلاك البشريّة. إن هذه الصلاة التي تُحجِّم قدرات الشيطان ضروريّة للغاية حتى يمكن للكلمة بعد ذلك أن تأتي ثمارها في قلبٍ غير منجذب لبؤرة الشرّ الروحيّة، فالصلاة والكلمة هما وجهان لعملة واحدة هي الكرازة. وهو ما أكده التلاميذ حينما كانوا بصدد اختيار شمامسة للخدمة” وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة” (أع 6: 4). إن المسيحي حينما يصلى من أجل العالم المصروع بالخطيئة، يتخذ موقف ذلك الرجل الذي تقدّم إلى الربّ يسوع وجثا عند قدميه. فشعورنا بالعالم يجب أن يكون كشعور الأب ببنيه. حتى نستطيع أن نُصلّي عن العالم بأنين قلبي صادق.. حتى نستطيع أن نثابر في سعي الصلاة عن العالم، ونحن نرى تحرُّكه البطيء المتثاقل والمتردّد نحو الأبديّة. فالشيء الوحيد القادر أن يثبت قلوبنا في الصلاة من أجل العالم غير المكترث بدعوة الإنجيل، هو التزامنا بالعالم بأحشاء أبويّة، حتى لا ننفض غبار أرجلنا على عتبته سريعاً، ونعلن أنه لا فائدة!! إن الرجل الذي تقدّم ليطلب من أجل ابنه، كان جاثياً أمام الربّ يسوع، وصارخاً يا سيّد ارحم.. لقد طلب من التلاميذ أن يشفوا له ابنه، ولم يستطيعوا!! لقد فقدوا قدرتهم على إخراج الأرواح في تلك اللحظة، فكان الحلّ الوحيد هو انتظار يسوع والتضرُّع إليه من أجل شفاء الغلام. إننا في صلواتنا من أجل العالم، إن كنَّا نصلي من أجله بالفعل!! كثيراً ما نردّد تلك الصلوات ترديد شفاه، نذكر خلاص العالم في صلواتنا كطلبة مستحيلة، فتخرج صلاة بلا إيمان، وبلا تضرُّع وبلا سجود وبلا صراخ: ”يا سيّد ارحم”. ولهذا لا نجد الاستجابة الكافية تتحقّق أمام أعيننا، فتفتر صلواتنا بالأكثر، ونسير في دوائر مفرّغة من اللاّإيمان واللاّشعور واللاّصلاة، من أجل العالم. إن أول شروط الصلاة لكيما تستجاب، هو الإيمان بقدرة الله على الاستجابة إن توافقت مع مشيئته الخلاصيّة للعالم، بدون هذا الإيمان لا يمكن لصلواتنا أن تحلّق في الأعالي وتستنزل الاستجابة. لقد كشف المسيح للتلاميذ بعد تلك المعجزة عن سر شفاء الغلام، حينما قال: ”وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم” (مت 17: 21) إن سرّ الانتصار على الشيطان في معركة الكرازة، هو الثبات في الصلاة الواثقة من عمل الرب، والصوم المُكَّرس من أجل الآخرين. وهذا يعني أننا يجب أن نجتهد من أجل تحرير العالم من سلطان الشيطان، يجب أن نبذل عرق الصلاة ونسكب آلام الجوع أمام الرب، فيتحقّق من المحبة التي تسكن قلوبنا من جهة الآخرين. ومن الجهة الأخرى، حينما يرى الشيطان آلامنا وجهادنا من أجل العالم، يتلّوى من الحسرة، فهو لا يطيق أن يرى حبّاً صادقاً مجّانيّاً. وحينها يُرخي قبضته، قسرًا، عن النفوس التي ألقى عليها شباكه، وفي تلك اللّحظة يتدخّل الروح القدس لتقديم حياة جديدة لأولئك الذين عاشوا زمانهم كله في خدمة حياة بالية وفانية. لقد صلّى بولس وسيلا في السجن، فكانت ثمرة صلاتهم إيمان السجّان وأهل بيته، وقبولهم نعمة العماد. فحينما صلّى بولس وسيلا، اهتز السجن بزلزلة عظيمة وانفكّت قيودهم، فكان هذا الحدث كفيلاً بتحفيز الإيمان في قلب السجّان، ثم سأل السؤال الهّام:” ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟؟“، وجواب هذا التساؤل يكون من خلال الكلمة (وجه العملة الآخر)” وكلّماه وجميع من في بيته بكلمة الرب” (أع 16: 32). إذاً فالكرازة تبدأ كفعل سرّي خفي في الصلاة التي تهز أركان العالم، فتهتز الثوابت التي وضعتها البشريّة لمسيرتها، وحينما تهتز تلك الثوابت، يتساءل الإنسان: ماذا أفعل؟؟ هنا يبدأ دور الكلمة الممسوحة بروح الله، لتُعلِّم الإنسان طريق الخلاص. |
| الساعة الآن 01:57 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025