منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=293279)

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:51 AM

رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي

مدخل

لقد كتب ويل ديورانت عن الحضارات القديمة قائلاً: “إنّ ما تراه من بنايات شامخة سيجرفها التاريخ، وستصبح أثرًا بعد عين، كومة من تراب، نجمًا آفلاً، سطرًا في كتاب الذكريات..”.
ومن كتاب الذكريات نتلقّف روائح المدينة السكندريّة القديمة لعلّها توقظ فينا حمية وتنهض فينا همّة؛ فالإسكندريّة القديمة هي اللُّغزُ الساحرُ الذي طالما اجتذب الكُتّاب والباحثين والمُفكّرين والروائيّين والشعراء.
حاولوا أنْ يحفروا في ترابها بحثًا عن إلهامٍ يأتي من حوادث التاريخ أو خيالات الماضي أو جمالات المكان. فيها، كما قال أحدهم قديمًا، يجد الإنسان كلّ شيءٍ؛ ثروةً وملاعبَ وجيشًا كبيرًا، سماءً صافيةً ومعارضَ عامّة وفلاسفة ومعادن ثمينة وشبّانًا ظرفاء وبيتًا ملكيًّا طيّبًا ومجمعًا للعلوم وخمرًا لذيذةً..
هي عالمٌ جرى وراء العلم وتتبّع خطوات اللّذّة العبثيّة وسبح في سماوات المعرفة واستقرّ في أحضان الإيمان. هي الباليوم الفلسفي والتونيك الروماني والطاليت اليهودي.. هي طرقات دينوقراطيس أوّل مَنْ رسّم حدودها ورسم شوارعها.. هي منارة سوستراتوس المهندس العبقري ..
إنّها صيحات كُهّان المعابد وعُزلة مجامع اليهود ورفعة موسيون العلماء وانفتاح كنائس المسيحيين. إنّها خليطُ اللُّغات العجيب؛ اليونانيّة الثقافيّة والرومانيّة السياسيّة واليهوديّة الأصوليّة والمصريّة الدينيّة..
الإسكندريّة هي قصور الأغنياء وأكواخ الفقراء.. هي مدينة التقوى والفجور.. المعرفة والجهل.. اللّذّة والألم.. القوّة والوهن.. الظلم والحريّة.. السادة والعبيد.. الحبّ والبُغضة..
من هذا المزيج تتولّد تلك الرواية التي تجري أحداثها في العقدِ الأخير من القرن الثاني الميلادي بعد تولّي كليمندس السكندري كرسي التعليم في مدرسة الإسكندريّة التي كانت تعني بتلقين الإيمان للموعوظين وهو ما أطلقنا عليه اختصارًا: مدرسة الإيمان. كما كانت تشرح دقائق اللاّهوتيّات للمُتخصّصين والمُعلِّمين. وقد كانت تلك المدرسة بمثابة أوّل معهد علمي حقيقي في العالم المسيحي يقوم عليه مُتخصّصون أكفاء مؤهّلين.
حاولت تقصّي الدقّة قدر المُستطاع فقرأت الكثير من الكتب التي تتحدّث عن الإسكندريّة في تلك الحقبة حتّى تكوّنت لديّ صورة عن هذا المجتمع الذي يحيا حراكًا يوميًّا.. المجتمع الذي شهد توالُد أفضل العقول المسيحيّة على مرّ التاريخ المسيحي حسب تأكيدات العلماء والباحثين.
كما قرأت العديد من أعمال كليمندس السكندري لأقف على تركيبته الشخصيّة الفريدة المنفتحة على الثقافة والراسخة في الإيمان. لذا فإنّ معظم كلمات كليمندس الواردة في الرواية مأخوذة عن فكره وكتاباته لكن مع تصرُّف روائي لتخرج في السياق المنشود.


Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:54 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
2- الفصل الأول: الموسيون



انطلقت أشعّة الشمس تمرح على أقبية المدينة العظيمة، تقفز كطفلٍ صغيرٍ يلهو على أسطح المعابد الشاهقة والبنايات المُمتدة، أُطفِئَت سُرج المساء ليحلّ محلّها نور النهار العابث عبث المدينة المصريّة الإغريقيّة العريقة.
خرج إليوس من بيته الواقع على شاطئ البحر مُتّجهًا إلى الموسيون. كان مُعتادًا أن يسلك الطريق على شاطئ البحر لينعم بهواء الصباح البِكر لعلّه يوقظ فيه أحلامًا جديدة عوضًا عن شعوره بالحزن لفقدان والدته منذ أيامٍ خلت. فالبحر يداوى الجراح، وكأنّ أملاحه تُطهِّر ما رسب في النفس من حزّ الزمان بمبضع الفراق والغياب..
كان إليوس شابًا يافعًا سكندري المولد، رشيق القوام كآلهة الإغريق. ذو ملامح هادئة، عيناه العسليّتان تلتمعان في ضوء الشمس وكأنّ رعشة المعرفة التي تملك قلبه تتحوّل إلى رعشة ضياء في عينيه. حليق اللّحية تشبُّهًا باليونان، شعره جَعُدٌ بلون عينيه. يرتدي التونيك (اللفاعة) الروماني، مُنتعلاً حذاءً جلديًّا مشدودًا في لفّةٍ أفعوانيّةٍ على قصبة ساقه العارية.
والده كان يعمل في القوات المُساعدة والتي تُعاون الفيالق الرومانيّة في تأمين البلاد، وقد نال الجنسيّة الرومانيّة كتكريمٍ له بعد أن قضَى في الخدمة العسكريّة ثلاثون عامًا.
خالط إليوس اليونانيين كثيرًا في المدينة وكان كثير التردُّد على الموسيون، حيث كان الشغف يستبدّ به لفرط حُبّه للعلمِ ولفرط اندهاشه من هذا المجتمع الذي تكرّس تمامًا للتجارب العلميّة، وخاصّة في الفلك الذي كان له سحرٌ خاصٌ، فهو أشبه بجعبة مليئة بالأسرار والغموض تنادي على إليوس ليفكّ بعضًا من ختومها.
من بين الأساتذة الذين كان يُرافقهم على الدوام، بسكينوس، وهو عالمٌ من علماء الفَلك، إلاّ أنّ حُبّه للفلسفة لا يقلّ عن شغفه بالفَلك، عمله الأساسي. لقد كان يرى أنّ البحث العلمي يجب أنْ ينبُع من منظورٍ ورؤيةٍ فلسفيّةٍ، فالفَلك، مخزنُ الأسرار والأساطير، يُؤكِّد على حقيقة غير التي نحياها ههنا على الأرض. فما هو مرئي ليس سوى غلاف للحقيقة، وكلّما تكرّس الشخص للمعرفة الحقّة، ملتزمًا طريقًا أخلاقيًّا مُنضبطًا سيحظَى بمعرفةِ الحقيقة.. وقتها سينعم بسعادة غامرة وتتحقّق إنسانيّته في ملئِها.
كان بسكينوس أحد تلاميذ العالِم الشهير بطليموس الذي وضع كتاب الأطروحة الرياضيّة (المجسطي) في الفَلك، وقد نال هذا الكتاب شهرةً كبيرةً.
لم يكن إليوس قادرًا على فهم نظريّة بسكينوس تمامًا ولكن كلمات الأخير كانت مُحمّلة بنغمة تُريح النفس وتعلو بها فوق المحسوسات وتأخذها في رحلةٍ من النشوة وكأنّها لحظات من الحقيقة المُجرّدة. كان ما يجتذب إليوس طعم الكلمات وسرائريتها.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:54 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
وصل إليوس إلى الموسيون، فخر الإسكندريّة..
الموسيون هو المكان الذي يرتاده العلماء والأدباء والفلاسفة ليركبوا قاطرة العِلم، ويشرف عليه الكاهنُ الأعظمُ الذي لمعبدِ سيرابيس. المكان أشبه بمدينة أكاديميّة كبيرة ينكبّ فيها الجميع على البحث عمّا هو جديد في شتّى المجالات، كما كان موطنًا لمَنْ أراد التتلمذ على أيدي صفوة علماء وأدباء وفلاسفة العالم آنذاك.
كان يشعر حينما يدخل من بوابته العالية أنّه دخل إلى عالمٍ آخر لا يوجد فيه سوى العلم والفكر والثقافة؛ عالم ربّات العلم والمعرفة: آل موساي، بنات الإله زيوس والإلهة منيموسوني، إلهة الذاكرة.
كانت تماثيل ربّات المعرفة تنتشر في المكان؛ فها هي كليو ربّة التاريخ حاملة السجل الكبير، وكاليوب ربّة الشعر الملحمي وصاحبة الصوت الشجي، أمّا إيراتو ربّة شعر العشق والهوى، تقف حاملة قيثارتها وكأنّها تعزف على أوتار القلوب، وكثيرًا ما كانت تُولَد قصص للحبّ تحت أقدامها.
إيوترب ربّة السعادة تحمل في يديها الرفيعتين، فلوت، داعيةً الجميع لقنص لحظات السعادة من بين أجنحة الحياة، وإلى جوارها تقف ملبومين ربّة التراجيديا وهي حاملةٌ لقناعٍ حزينٍ وكأنّها تجسُّد مآسي البشر وجراحهم، وتجاورها بوليمنيا ربّة الألحان ذات النظرة الساجية الساهمة، بينما تربسكور ربّة الرقص والغناء تحمل قيثارتها وكأنّها ترقص على أنغامها، أمّا ثاليا تلك الزهرة المتفتّحة هي ربّة الكوميديا وتحمل قناعًا ضاحكًا، وأخيرًا تقف يورانيا بشموخها وتطلُّعها السمائي.
التماثيل المرمريّة والذهبيّة كانت تحتضن أشعّة الشمس لتُرسِلها عزةً وجلالاً في أعين البشر.
كان يُبهِر إليوس القادمون من كلّ مكانٍ في العالم، إلى الموسيون، ليتعلّموا وليتعايشوا معًا.
كان يحيط بالموسيون باحة كبيرة بها صور وتماثيل من فضةٍ وذهبٍ إغريقيّة الجمال، على ساحتها الفسيحة نَمَت الأشجار وأُقيمت الدهاليز والممار المسقوفة والمكتبات الفرعيّة وحُجرات خاصة بالرجال وأماكن خلوات العبادة.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:54 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
عَبَرَ إليوس الممر ذو الرواق المسقوف، وكان على جانبيه مقاعد قد شغلها بعض العلماء، منهم مَنْ يقرأ في برديةٍ، ومنهم مَنْ كان يُدوِّن خواطره الفكريّة، ومنهم مَنْ اشتبك في حوارٍ مع آخرين، ومنهم مَنْ جلس مُرتديًا التوغا الرومانيّة (الجبّة) وهو ينسجُ في قريحة بعض الشباب أولى خيوط المعرفة.
لم تكن عينا إليوس تشبع من تلك المناظر التي يراها بشكلٍ يوميٍّ، وكأنّه يريد أنْ يخترق كلّ الجلوس لينهب أسرارهم العلميّة ويُخبّئها في خزانة عقله الذاتيّة. الشغف كان أوّل ما يتلقّنه مرتاد المكان، فمَنْ يتجمّد في المعرفة يتراجع إلى الخلفِ. فالمعرفة حركة وتفاعُل ومغامرة وطموح لا ينتهي ولا يشيخ ولا يتوقّف..
كان شغفُ الدارسين للعلوم أشبه بروح تنسلّ إلى كلّ من وطأ المكان بقدميه، وكأنّ روح الإسكندر مُؤسِّس المدينة كانت في المكان لا تفارقه، وهو الذي قال عنه بلوتارخوس إنّه: كان شديد الشغف بالعلم، شغفًا يزداد على مرّ الأيام.. وكان مُولعًا بجميع أنواع المعارف، مُحبًّا لقراءة جميع أنواع الكتب. كما كانت تتردَّد على ألسنة مرتادي الموسيون عبارة أرسطاطاليس أنّ العِلم هو ما يمتازُ به الحيّ عن الميّت.
رقَى درجات السُلَّم حتّى وصل إلى المرصد، كعادته، الذي ازدانت جدرانه بالصور الزاهية المُطعّمة بالحجارة الغالية الثمن. توجّه إلى بسكينوس الذي كان مُنهمكًا في رصد حركة بعض النجوم وتدوين معادلات حركتها حسابيًّا. وحالما رآه بسكينوس، قال:
- مرحبًا إليوس، تأتي في موعدك دائمًا.
- لقد علّمتني أنّ العِلم لا ينتظر أحدًا.. ومَنْ يتأخّر على المعرفة أغضب ربّاتها.
- حسنًا، سنبدأ بعد عِدّة دقائق.
أخذ بسكينوس يُدوِّن ملاحظاته في هدوءٍ ورويّةٍ، ثم أغلق الرقَّ ووضعه على الطاولة، وجلس على مقعده ذو الأرجل العاجيّة المخروطية، وبدأ يتوافد حوله الطلبة حتّى شكّلوا نصف دائرة.
بدأ يشرح لهم الجدول الذي وضعه بطليموس في النجوم والذي يحوي تفاصيل حوالي ألف نجمٍ يدورون في الفضاء الفسيح.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:54 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
حديثهم كان يمتدّ من الفَلك إلى شتّى مناحي العِلم والمعرفة. ونهمهم المُتفجّر لم يكن يشبع من التساؤلات، كما لم يتضجَّر الشيخ من كثرة الأسئلة. كان بسكينوس يتلقّى الأسئلة ليُجيب على بعضها ويحيل ما لا يختصّ به إلى آخرين من معلّمي الموسيون..
كان بسكينوس أفلاطونيًّا، لذا كانت الفرصة سانحة لكيما يعرض إليوس عليه فقرةً قد قرأها لأفلاطون ولم يستوعب مغزاها.
- يا مُعلِّم، لقد قرأت أنّ أفلاطون كان مُتردِّدًا في فهمه لعمليّة الخلق والآلهة.
- وكيف ذلك وهو الذي وضع نظريّة المُثُل، وقال بأنّ الخليقة أوُجدت على يد الصانع؟
- هاك ما قرأته على لسان أفلاطون:
لا تعجبوا إذا نحن عجزنا في وسط الآراء المختلفة عن الآلهة وخلق العالم، الاهتداء إلى آراءٍ تتميّز بدقّتها وتوافقها التّام من كلّ ناحيةٍ.. فعلينا أنْ نذكُر أنّني أنا الُمتحدِّث مُجرّد إنسان من الفانين، كما أنّكم أنتم القائمون بالحُكم مُجرّد أُناس فانون. لذا علينا أنْ نقبل أقرب الحكايات إلى الاحتمال وألّا نسترسل في البحثِ.
لفّ إليوس الرقّ الذي كان يقرأ منه، بينما توجَّهت الأعين إلى بسكينوس.
بعد نظرةٍ عميقةٍ إلى الأرض، ولحظاتٍ من الصمتِ، رفع عينيه إليهم قائلاً: إنّ هذا لسرّ عظمة أفلاطون، إذ أنّه على الرغم من إبحاره العقلي في أسرار الكون إلاّ أنّه يعترف بأنّ نظريته هي أقرب احتمال مُمكن. ولكن، طالما أنكم أردتم التوغُّل في الفكر الأفلاطوني، فعليكم ببلينوس، ستجدونه في الجناح الشرقي، فهو أجدر منّي على شرح فكر مُعلّمنا العظيم أفلاطون، أمّا أنا فلدي رحلة مع الأفلاك والنجوم عليَّ رصدها..
قام الجميع وتفرّقوا، إلاّ أنّ إليوس توجّه إلى بلينوس في المكان الذي أشار إليه بسكينوس.


Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:54 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
كان بلينوس شيخًا صحيح الجسد، ذو لحية كثيفة بيضاء، كثُّ الشعر، بسيط الملبس، تعلو ظهره انحناءة كما للعلماء والمفكّرين، عيناه صغيرتان وكأنّهما ضمرتا من فرط الاستخدام، يُغلّف مجلسه صمتٌ وهدوءٌ.
اشتهر بلينوس في الموسيون ببحثه الدائم عن طبيعة الحياة بعد الموت. ومنذ بضعة أسابيع، اشتعل لهب الحوار بينه وبين أحد زملائه من أتباع المذهب الأورفي (نسبة إلى أورفيوس الذي عاش في تراقيا قبل عصر هوميروس)، إذ رفض بلينوس أنْ يكون مقرّ الروح الأخيرة في مجلسٍ تهنأ فيه بالطعامِ والشرابِ الخالدين. كما رفض أيضًا معتقدهم بأنّ النفس أسيرة الجسد كعقاب قديم للإنسان حينما تذوّق التيتان (مردة وشياطين) لحم ديونيسوس. كان لديه شعور ينسجه العقل أنّ كلّ ما هو مخلوق له هدف وفائدة وقيمة تبرز حينما نتصوَّر غيابه، وأنّ العالم الآخر له طبيعة تختلف عن طبيعة هذا العالم الحسّي الذي يدور في فلك الجسد..
المُعلِّم بلينوس، قال إليوس.
التفت إليه المُعلِّم، ورفع عينيه عن برديّة كان يُطالِعها، وأومأ إليه بالإيجاب.
- لقد جئت بناءً على توصيةٍ من مُعلِّمي بسكينوس، لأنّ لديّ بعض التساؤلات عن فقرةٍ قرأتها لأفلاطون.
قال بلينوس دون أن يرفع عينيه عن البرديّة التي يقرأها: أو قرأت أفلاطون!!
- نعم، وأحاول فهمه على قدر استطاعتي.
التفت إليه بوجهه دون الجسد وقال: إنّه من أجلّ فلاسفة اليونان، وله أيادٍ بيضاء على الحياة الفكريّة في العالمِ أجمع.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:55 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- وهذا ما دعاني لأتعمّق قراءته..
- وما الذي يُحيّرك؟
- لقد قرأت في محاورته مع طيماوس الفقرة التالية.. فَرَدَ الرقّ وبدأ يقرأ..
- وما سؤالك في تلك الفقرة؟
- لماذا يتردّد أفلاطون في طرح فكرته عن الخلق والآلهة وهو الذي صال وجال في مختلف مناحي العلوم والمعرفة؟؟
ابتسم الشيخ واعتدل في مجلسه ليواجه إليوس، وقال:
أنتم الشباب تعتقدون أنّ الإجابات حاضرة لكلّ تساؤلات الوجود، بينما الكون يقذفنا بتساؤلات أكثر من قدراتنا على الإجابة، والعَالِم الحقّ هو الذي يمتلك شجاعة المجاهرة بعدم المعرفة. ولكن على أيّة حال، فإنّ أفلاطون في تلك الفقرة، يُؤكّد على محدوديّة العقل البشري في اختراق سُحُب المعرفة، فأسرار الكون لم تُبِحْ لنا بيقينيّات، لذا فإنّ دورنا أن نستنبط من الموجودات علاقات مع غير المرئيّات، ونستدل من الحوادث الحاضرة على الحوادث الغابرة ونرسم بخيوط معارفنا الحالية صور لأسرار الأزل.
- إذًا فالفلسفة لا تجيب على كلّ التساؤلات؟
- بالطبع لا. ولعلّ المنهج السقراطي في طرح التساؤلات كان أقرب إلى الفلسفة الحقّ القائمة على التساؤل أكثر من التحجُّر في نظريات.
لَفَتَ نظر إليوس البرديّة التي كان يُطالِعها بلينوس، والتي كان عنوانها: إنجيل يسوع المسيح بيد يوحنّا الرسول. فسأله: ما هذه البرديّة؟
- إنّها نصّ مُقدَّس عند المسيحيّين.
- ولماذا تقرأها، هل تحتوي على تعاليم فلسفيّة؟
- لا، ولكني كلّما هممت بمواجهة المسيحيّين، وبدأت أقرأ هذا النصّ، تتملّكني مشاعر وأفكار عن إلههم العجيب الذي قدّم ابنه الوحيد لكي ما يُخلِّص العالم من عنصر الفساد. إنّ حياة يسوع أشبه بدراما الأساطير، ولكنّي سألت وتأكّدت من حقيقة الأحداث والشخوص، وهو ما يجعلني مُتحيّر من أمر اليهود الذين قتلوا إنسانًا بمثل هذا السمو والعظمة والرفعة التي لا يدانيها بشر؟
- أراك مفتونًا به..
- حقًّا، إنّ تعاليمه بقدر بساطتها ولكنّها تحمل هدوءًا وسكينة بعيدًا عن تيّارات الفكر الجامح الذي لا يرسو على ميناء. وكأنّه يأخذك إلى مدارات باطنيّة لتواجه ذاتك.. وحينما تواجه ذاتك تواجه العالم بما فيه من الخير والشر.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:55 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- وهل ترك مؤلّفات؟
- لا، ولكن تلاميذه هم مَنْ دوّنوا حياته وتعاليمه كشهادة عيانيّة.
- فهو أشبه بسقراط إذًا..
- إنّهم يؤمنون أنّه إله تجسَّد وصار في شكل البشر.
- أو هو على شاكلة آلهة جبل الأوليمب؟
- آلهة الأوليمب!! هل تقصد كرونوس الذي افترس أولاده، أم زيوس الذي اتّخذ شكل حيوان لكيما يمارس الزنى مع نساءٍ مائتاتٍ، أم هفايستس الأعرج الذي رمته هيرا والدته من أعالي السماء لبشاعة خلقته، أم هرمس الحسود الجشع، أم ديونيسوس السكّير المارق.. إنّ آلهة الأوليمب لا يعبأون بالبشر، هم أسرى رغباتهم، ويطاردون البشر إنْ وقفوا في طريق رغباتهم المحمومة. هم في صراعٍ مع البشر بسبب الخلود وعدم الموت.. ولكن يسوع الناصري ليس كذلك -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فقد قيل عنه إنه يهب عدم الموت لمَنْ يتبعه إلى المنتهى. ناهيك عن المعجزات التي كان يجريها التي لا يُصدّقها عقل!!
- مثل ماذا؟
- لقد كان يأمر الطبيعة فتطيعه، ويشفي المرضَى من أي مرضٍ، ويحرّر المسكونين من الأرواح الشريرة، بل وقد أقام عدّة موتى..
- هل هذا ممكن؟
- المعجزات هي دائمًا غير الممكن..
- ولكنّي سمعت أنّهم طائفة من اليهود وأنّهم آكلوا لحوم بشرٍ، ويمارسون الزنى في عبادتهم.
- هذا ما سمعته أنا أيضًا هنا في الموسيون، لذا أريدك أن تنزل إلى الحي الذي ينتشرون فيه وتأتي لي بأخبارهم، لأفهم هل تتطابق حياتهم مع تلك التعاليم الرفيعة الواردة في كتابهم المُقدَّس أم الأمر غير ذلك.
- بكلّ سرور.. سأذهب إليهم من الغد لأختلط بهم وأحاول أن آتي لك بكلّ المعلومات..
- إذًا إلى الغدّ..
- إلى الغد..


Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:55 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
رجع إليوس إلى بيته واجم الفكر، يُفكّر في إله المسيحيّين، ويستشرف مُهمّة الغد. كانت كلمات بلينوس عن آلهة الأوليمب صادمة بعض الشيء، فلقد تعوّد التعبُّد دون تفكير، فما يستلمه المرء من تعاليم في ريعان الشباب تصبح عقائد لا يعبر عليها مقياس الفكر لحساب منطقه ومعقوليّته. شعر كأنّ جياد عقله التي تجوب العلوم جيئةً وذهابًا لم تقترب من منطقة الآلهة، الأمر الذي جعله يتساءل عن سبب خوفه من طَرْق هذا الباب الحديدي. لم يجد إجابة يستلقي على عشبها.
جلس على منضدة الطعام ليتناول العشاء مع أخته أبولّلونيا ووالده أفبولوس.
- هل تعلمون شيئًا عن المسيحيّين؟ سأل إليوس.
أجاب أفبولوس وهو يجلس على طاولة الطعام: نعم إنّهم الذين يعبدون إلهًا مصلوبًا..
بدت ملامح الدهشة والاضّطراب على وجه أبولّلونيا، وهي تسأل عن سبب السؤال المُفاجِئ..
شرح لها إليوس الأمر، وما دار بينه وبين الفيلسوف بلينوس.
قالت أبولّلونيا: إنّني أعرف العديد من المسيحيّين، وهم يحيون حياة بسيطة للغاية، ويجتمعون يوم الأحد صباحًا ليتعبّدوا معًا ثم يشتركوا في مائدةٍ بها خبزٍ وخمرٍ بعدها يخرجون وهم يترنّمون وعلامات البِشْر والحبور على وجوههم.
- ومن أين لكِ بتلك المعلومات؟
- من صديقةٍ، كانت تحكي لي عن يسوع الذي يعبدونه.
مدّ إليوس يده إلى الصحفة التي أمامه ليأخذ قطعة من اللّحم، وقال: وماذا عن أكل لحوم البشر؟
انفلتت ابتسامة ساخرة من فم أبولّلونيا وهي تقول: إنّها ترهات الموسيون عنهم، فهم جماعة تقيّة للغاية ولا يغتابون أحدًا ولا يتقوّلون على أحدٍ ولا يؤذون أحدًا ما كان، حتّى من يُسيء إليهم، فهل جماعة بمثل هذه الأخلاق يأتون مثل هذا الفعل الوحشي القبيح!!
كان أفبولوس مُنهمِكًا في الطعام يأكل وكأنّها وجبته الأخيرة، وقال: دعونا من الكلام عن المسيحيّين، قُل لنا يا إليوس كيف كان يومك؟
- جيّد للغاية، فقد كان يومًا أفلاطونيًّا ساخنًا..
- أريدك أنْ تجتهد مع مُعلِّمك، لكي تحجز لنفسك مكانًا هناك..
- بمعونة الآلهة..
قام أفبولوس من على المنضدة وتوجَّه إلى إبريق المياه ليغسل يده، صبّت له أبولّلونيا الماء، وبينما هو يُجفّف يده قال: لنخلد الآن للنوم.
نعم، فالنوم هو الطريق الأقصر للغد حينما نترقّبه بشدّة.
ذهب الجميع إلى النوم، بينما ظلّ الفكر يموج في عقل إليوس ويُلقي بتياراته على قناعاته التي استقاها من الموسيون، وبدأت الصور تدور في عقله؛ برديّة يوحنّا عن يسوع المسيح.. وجه بلينوس.. ومع دورانها كانت الصور تخفت ويخف معها دبيب الأفكار حتّى أخذه النوم إلى عالمه.. عالم الحِلم والخيال..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:55 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
جلس الشيخ بلينوس على طاولته يُطالِع البرديّة للمرّة العاشرة، وهو مأخوذٌ بما جاء فيها، لقد استوقفه المدخل كلّ مرّة. كانت الأفكار تنثال عليه من كلّ صوبٍ وحدبٍ كأنّها مياه تحرّرت من شطآنها فتدافعت لتغزو جيوب صخرة عقله المُقفرة..
في البدء كان اللُّوغوس،
واللُّوغوس كان نحو الله،
وكان الُّلوغوس الله،
هذا كان في البدء عند الله.
كلُّ شيءٍ به كان
وبغيره لم يكن شيءٌ ممّا كان.
فيه كانت الحياة،
والحياة كانت نور النّاس،
والنور أضاء في الظلمة
والظلمة لم تُدركه.
كان يقرأها مِرارًا وتكرارًا ولا يستطيع تركها ليعبرَ على الفقرةِ التي تليها. فاللُّوغوس لم يكن إلهًا حسبما قال الأقدمون بل وحسب تعليم فيلو اليهودي أيضًا. أمّا الآن فالمسيحيّون يقولون إنّ اللُّوغوس إلهًا أي شخصًا واحدًا بسيطًا وليس مُركّبًا!!!
قام من مقعده مُتّجهًا نحو الجهة الشرقيّة للحائط والتي توكّأت عليها مئات البرديّات فوق أرففٍ. هناك وقف بُرهةً ليمدّ يده ويلتقط بعضٌ منها. وضعهم على طاولته، وبدأ يدسُّ عينيه داخل البرديّات وكأنّه على وشك أن يصير حرفًا أو كلمةً في إحداها، وطفق يقرأ..
بعدها جلس ليدوّن أفكاره ويرتّبها..
عند هيراقليتس، اللُّوغوس هو الرابط الذي يربط البشريّة بالكون وبذاته وبالألوهة، هو المبدأ العام الذي تألّفت منه كافة الموجودات الطبيعيّة بينما يراه السوفسطائيون هو قوّة الفكر والحديث والإقناع.
عند بلوتارخوس، اللُّوغوس هو أبولّلو الذي خلق العالم. الرواقيون يرون أنّ اللُّوغوس والإله والطبيعة والقَدَر شيئًا واحدًا، فقد أقرّ زينون مُؤسِّس المذهب الرواقي أنّ اللُّوغوس هو العلّة الأولى للوجود وهو العلّة الفاعلة في العالم كما إنّه صانع كلّ شيءٍ.
عند سقراط وأفلاطون فإنّ الحقّ يُعلَن حينما يُفسِّر اللُّوغوس الأسرار، إنّه يربط ما بين الفكر والكلمة والمادة والطبيعة والكينونة..
عند أرسطو، اللُّوغوس هو مصدر الفضيلة والتقوى في حياة البشر، فالأفعال تحدُّدها القناعات الناتجة عن فهم الأمور، والقناعات تتشكّل بالحديث.
فيلو يراه العقل الروحاني للإله المُتعالي وهو قوّة حاضرة في الوجود الكلّي للإله وفي نظام الكون، يُحقّق التوافق بين الأضدّاد وينشر السلام والوئام في العالم، هو مخلوق أبدي. إنّه النور الفائض من الله. إنه كلمة الله.
أمّا المسيحيّون يرون كلمة الله، اللُّوغوس، شخصًا حيًّا بسيطًا خالقًا غير مخلوقٍ، لا كوسيط أدنى. إنّه مكوّن كلّ شيء وأصل كلّ شيء ونبع الحياة لكلّ حيّ، إنّه الله المُرسَل ليفتدي البشريّة من سلطان الفساد ومملكة الظلمة.
كان بلينوس مُتحيِّرًا لأنّ ما قرأه جديدٌ كلّ الجدّة عمّا اعتاده في النظريات الفلسفيّة عن الإله.
طرق على الباب الخادم الذي أخبره أنّ الوقت تأخّر وأن عليه أن ينل قسطًا من الراحة. فوجئ بلينوس بمقدم الليل وقرب انتهائه. أطفأ السراج الموضوع على طاولته. وخرج ليستنشق بعض الهواء من نسيم ليل الإسكندريّة الساحر، وبينما كانت المدينة تسبح في عوالم النوم، كان فكره يُحلّق بكلمات النسر الإنجيلي..
رفع عينيه إلى السماء، وكأنّه ينشد بمكنونات نفسه في آذان الليل، قائلاً:
أيّها اللُّوغوس الأزلي
إنْ كنت أتيت كنورٍ لمَنْ يسلكون في وهادِ الظلمة
لتُعلِنَ عن فجرٍ جديدٍ في طبيعة البشر
ولترسمَ بأنامل سلطانك الإلهي
خارطة لمملكة البرّ وسط فساد الميول والأهواء
أعلن لي عن ذاتك لأعرفك وأدركك
وقتها سأسير مُخبّرًا عنك وسط معاقل سيرابيس وأتون
وسأقدّمك للفلاسفة حقًّا طالما نشدوه بين بطون الرقوق
التمعت نجوم اللّيل وكأنّها تعلن عن استجابةٍ كونيّةٍ.. كما التمعت صفحة البحر تحت ضياء المنارة الكبيرة. دخل إلى حجرته مُمدِّدًا جسده المُنهَك وعقله الحالم بمعرفة اللُّوغوس..

__________________

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 10:56 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
الفصل الثاني: رواق المسيحيين

في المساءِ ذهب إليوس إلى بلينوس الذي كان يترقّب مقدمه، وابتدره قائلاً: كيف حالك يا إليوس. أتمنّى أن تكون قد وُفّقت في مهمّتك.
- نعم يا مُعلِّم. لقد جئتَ لك بالكثير من التفاصيل والكثير من التساؤلات أيضًا!!
- هات ما عندك..
لقد ذهبت باكرًا إلى رواق المسيحيّين في الجزء الغربي من المدينة أمام باب القمر، حيث أرشدني بعض قاطنو الحي إلى بناية بسيطة يجتمع فيها المسيحيّون للصلاة والتسبيح.
كانت البنايةُ مخزنًا للغلال قديمًا، ولكنّها تحوّلت إلى كنيسةٍ. تُضيئها مسارجٌ جانبيّةٌ تُلقي بظلاًّ خافتًا على الوجوه. أُوقدت المباخر فأطلقت من بواطنها روائح البخور العطِر الذي عبّق المكان. كان يحضر الصلاة عشراتٌ من الرجال والنساء يجلسون في ورعٍ وهدوءٍ وسكينةٍ، بينما يخطب فيهم شخصٌ يقف قبالتهم، عرفت بعدها أنّه الكاهن المسؤول عن إجراء مراسم العبادة الأسبوعيّة.
لم تكن للمسيحيّين ملابسَ خاصة؛ فمنهم من ارتدى التوغا اليونانيّة ومنهم من ارتدى الجلباب المصري الداكن..
جلست في الخلف وأرسلت أذنيّ إلى الكاهن..
كان الكاهن في الخمسينات من عمره، معتدل القوام، يرتدي رداءً من الكتّان الأبيض الفضفاض فوق ملابسه، يتحدّث من رقٍّ وضعه أمامه على طاولةٍ مرتفعة عن الأرض قليلاً.
- ماذا كان يقول؟
- لقد دوّنت كلّ كلمة قالها، لئلا أنسى شيئًا، هاك ما قاله..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:06 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
أحبّائي.. إنّ القديس بولس يؤكّد إنّ الله أعلن عن ذاته للبشر بمختلف الطرق، والتي تشير إلى إله حي حقيقي مُدبِّر للكون والخليقة، يرعَى النفوس حتّى أصغرها وأحقرها، ويتعهّد روح الإنسان بالرعاية الإلهيّة ليُصيّره من أبناء الفردوس، إلّا أنّ البشر رفضوا الإشارات الإلهيّة عن الله وحوّلوها إلى آلهة، فعبدوا المخلوقات المحدودة العاجزة غير العاقلة ونسجوا حولها القصص والأساطير، وبينما يزعمون الحكمة سقطوا في فخ الجهل بالله وبالكون وبطبيعة الأشياء المخلوقة. لقد استبدلوا المجد الإلهي غير الفاني بشبه صورٍ لبشرٍ فانين، واستعبدوا أنفسهم لدوابٍ وطيورٍ وزحّافاتٍ يتطلّعون إليها ويخاطبونها ويُقدّمون لها الأضاحي والتقدمات، ولكنّها لا تُرسِل جوابًا، فأقاموا كهنتهم لتلقّي أجوبة الآلهة، وخدعوا قلوب البسطاء، وأصبح الكهنة لسان الآلهة العجماء..
ولم يكتفْ البشر بهذا ولكنّهم غرقوا في مستنقع الفجور والإثم وبدّلوا العلاقة الطبيعيّة بين الرجل والمرأة بالتي على خلاف الطبيعة؟؟!!
هدأ صوت الكاهن قليلاً، وبعد تنهدٍ عميقٍ، قال:
نعم يا أحبّائي، فالشهوة بئرٌ بلا قرار، ومياهٌ لا تروي، وبحارٌ لا تجف.. لقد امتلأ قلب الإنسان من الإثم والزنا والشرّ والطمع والخبث والحسد والاقتتال والخصام والمكر والبُغضة والكبرياء والقسوة.. هذا هو حال الإنسان البعيد عن عبادة الله الحقيقي.. البعيد عن فداء الربّ يسوع المسيح الذي تجسّد ليُحيي المائت ويرفع الساقط ويقبل التائه ويدفع الخائر ويُعزّي من لفّه الحزن والأسَى..
بدت ابتسامة على وجه الكاهن وكأنّه قد رأى مشهدًا سماويًّا وقال:
إنّ الخلاص فقط بيسوع المسيح.. الابن الوحيد للآب.. مَنْ يَقبْله له حياة أبديّة، ومَنْ يرفضه سيحيا في العدم والقلق والحيرة إلى ملء الدهور.
كانت كلمات الكاهن ناريّة.. صادمة.. وكأنها معولٌ من صوّان يهوي على فكري المُنبسط. لم أكن أتوقّع أنّ أسمع تلك الكلمات التي بها رائحة التقوى. لقد ذهبت إلى هناك وفكري مُحمَّل بممارسات لا أخلاقيّة وطبائع وحشيّة وسفك دماء.. ولكني في المقابل سمعتُ عن الخلاص والتحرُّر من الفساد والخطيئة.. سمعت عن إلهٍ حانٍ يعبأ، بل ويُحبّ البشر..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:09 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- ليت سيرابيس يسمع هذا الكلام ويتعلّم من إله المسيحيّين.. أكمل..
بعد كلمات الكاهن نادى أحدهم على الذين لم يعتمدوا بعد!! أنْ يخرجوا، ولكنّي لم أخرج وقتها، لأرصد ما يحدث. خرج بعضهم ثمّ أُغلقت الأبواب..
- وقف الجميع في الكنيسة بعدما أنهى الكاهن كلماته، الذي حوّل وجهه للشرق وهو يواجه مائدة عليها قطعة مستديرة من الخبز وكأسًا.. كان الصمت يملأ المكان، وكنت أتلفّت حولي لأُطالع ملامح الوجوه فإذ بها مستغرقة في الصلاة..
- ألهذا الحدّ!!
- نعم.. الكلّ في حالة تضرُّع.. الرجال والنساء.. الشيوخ والشباب.. الفقراء والأغنياء.. العبيد والسادة.. الكلّ يتجاور.. الكلّ يُصلي..
- أو تريد أن تُقنعني أنّ السادة يجاورون العبيد، والفقراء يُكاتفون الأغنياء؟؟
- نعم.
- إنّ تلك لمعجزةٍ في مدينةٍ كالإسكندريّة!!
- وقتها ارتفع صوت الكاهن وهو يمسك بيديه قطعة الخبز ويرفعها إلى أعلى، بينما وقف الجميع، وهو يقول:
لأنّ ربّنا يسوع المسيح في اللّيلة التي أُسلِمَ فيها،
أخذ خبزًا على يديه المقدّستين
وشكر، وباركه، وقدّسه،
وقسّمه وأعطاه لتلاميذه ورسله قائلاً:
خذوا كلوا منه كلّكم،
هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم لمغفرة الخطايا.
ثم وضع قطعة الخبز على طاولة مربّعة يسمّونها المذبح وتناول بيده اليمنى الكأس وهو يرفعها إلى أعلى، ويقول:
وهكذا أيضًا بعد العشاء أخذ الكأس، وبارك وشرب منها،
وأعطاها لهم قائلاً:
خذوا اشربوا منها كلّكم،
هذا هو دمي المسفوك عنكم لمغفرة الخطايا.
كلّ مرّة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس،
تُبشّرون بموتي، وتعترفون بقيامتي، وتذكرونني.
وأجاب الجمع في صوتٍ واحدٍ:
آمين. بموتك يا ربّ نُبشّر وبقيامتك نعترف
ودعى الشخص الواقف إلى جوار الكاهن، والذي يُساعِده، الجميع إلى السجود والإنصات، عرفت بعدها أنّه يُدعَى الدياكون وهو المسؤول عن معاونة الكاهن في أداء مراسم العبادة عندهم.
وفجأة علا صوت الكاهن وهو يقول:
هذا الخبز يجعله جسدًا مقدّسًا للمسيح
وهكذا الكأس أيضًا، دمًا كريمًا للعهد الجديد الذي له
وكانت جموع المُصلّين تُردّد بصوتٍ واحدٍ: آمين.
وبعدها قدّموا بعض الصلوات من أجل الجميع؛ من أجل كنيستهم، ومن أجل الشعب، ومن أجل رئيسهم، ومن أجل الإمبراطورية ومن أجل الملك ومن أجل السلام..
- هل يدعون على الإمبراطور؟
- لا، يُصلّون من أجله.
- يا للعجب، لقد لحقهم من أباطرتنا ما يشيب له الأبدان.
- وهذا ما حيّرني أنا أيضًا.
- وماذا حدث بعد ذلك؟
- توافدوا على الكاهن الذي كان يناولهم قطعةً من خبزٍ ورشفةً من الكأسِ، يدعونهما جسد ودم المسيح.
- هل يدعون الخبز والخمر جسد ودم؟
- نعم.
- إذًا ليس ثمّة ذبائح بشريّة.
- لا، لم أرى شيئًا من هذا.
- وبعد الانتهاء وقفوا يُرتّلون، قائلين:

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:09 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
هَلِّلُويَا.
سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ.
سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ.
سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ.
سَبِّحُوهُ حَسَبَ كَثْرَةِ عَظَمَتِهِ.
سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ.
سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ.
سَبِّحُوهُ بِدُفّ وَرَقْصٍ.
سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ.
سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ.
سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ.
كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ. هَلِّلُويَا.
ثم صرفهم الكاهن مُحمّلين بالسلام.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:10 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
بعدها فوجئت بأنّهم يُقدّمون إلى الكاهن رجلاً محمومًا ويُعاني من آلامٍ مبرحةٍ، فما كان من الكاهن إلاّ أن استدعى البعض، وبدأوا يُصلّون معًا، وفي نهاية الصلاة أخذ نقطة من زيتٍ موضوع في قارورةٍ خاصةٍ ودهنَ بها جبهته، وهو يقول: ليكن لك كإيمانك..
وفي الحال فارقته الحُمَّى، وقام الرجلُ ليُقدِّم الشكر للكاهن، فما كان منه إلاّ أنْ طالبه بأنْ يتقدَّم بالشكر لله الذي من خلال الإيمان بابنه أعطاه مثل هذا السلطان، ووقفوا جميعًا عِدّة دقائق يُسبِّحون الله ثم انصرفوا.
- وهل حاولت إقامة حوار مع أحد المسيحيّين؟
- بالطبع، فبعد انتهاء الصلاة، لفتَ نظري شخصٌ وقورٌ بدت عليه إمارات العِلم، له لحية مُعتدلة، قد جلس وبدأ يكتب على رقٍّ، فدفعني الفضول إليه. فبادرته بالسلام، وأجاب بمثله مع ابتسامة رائقة هادئة.
- هل لي في مقاطعتك عِدّة دقائق؟
- إنّ الوقت بعد صلاة الإفخارستيا (الشكر) مُخصّص للتأمُّل والشكر على عطيّة الله.
- هل أعود بعض قليل؟
- لا.. لا بأس، فحوارنا قد يصبح تمجيدًا وسُبحًا لله أكثر من أفكارنا الذاتيّة.
- أراك تُدوِّن شيئًا؟
- نعم إنّها بعضُ التأمُّلات عن الغنوسيّة (المعرفة) الحقّ القائمة على الإيمان والاختبار الحياتي، مع بعض الخواطر التي لاحقتني مؤخّرًا عن بعض العبارات الأفلاطونيّة والتي لها اكتمالات مسيحيّة بالإيمان بالمسيح يسوع.
- وهل قرأت لأفلاطون؟
- بالطبع، فلقد درسته دراسة مستفيضة بعد أن مررت على خيام الرواقيين وقضيت عندهم وقتًا ليس بقليل.
- وكيف بعد هذا العِلم صرت مسيحيًّا؟
- عذرًا؟
- أقصد أولم تشبع من تلك الفلسفات العميقة لتصير ابنًا لأحد مذاهبها وتعمل على نشره!!
- لقد آمنت بالمُعلِّم الأعظم، المسيح يسوع، الإله القدّوس، اللُّوغوس، مُرشد كلّ البشر، الإله المُحبّ.. لذا لن أتركه إلى مجلسٍ آخر ما حييت..
- وماذا عن أفلاطون؟
- وماذا عنه؟
- هل ستتخلّى عنه بتلك البساطة؟
- عزيزي، أفلاطون يُمثّل أحد المراحل الفلسفيّة في الوصول إلى الحقيقة، وقد كان مُلهِمًا في دفع الجموع خطوة نحو الحقّ، ولكن الحقّ لم يكن مكتملاً عنده، فأمام الماورائيّات كانت نظرياته فكرًا مُجرّدًا لا يستند على حقائق. أفلاطون حلقة من حلقات إعلان الحقّ قبل المسيح. ولكن في المسيح، أُعلِن الله للعالم، ليخلُص به العالم. جاء ليفتدي البشر ويعبر بهم إلى الخلود في الملكوت الأبدي.
- إني لمتعجّب، إذ أسمع دائمًا أنّ المسيحيّين رافضين للفلاسفة بل ويعملون على دحض آرائهم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فكيف تتآلف مع الفكر الأفلاطوني وتراه حلقة إيمانيّة على عكس الجميع؟؟
- إنّ ما ترفضه المسيحيّة هو المذهبيّة الوثنيّة المناقضة للعقل من خلال عبادة أكوام من الحجارة المهذّبة بأيدي البشر، بينما الفلسفة من حيث كونها تأمُّل في الكون وبحث عن الحقّ واتّباع الفضيلة فهي محمودة بل وفي صميم الإيمان المسيحي.. ولكن قل لي: ألست مسيحيًّا؟
- لا
- فماذا أنت؟
- أنا أتعبّد لسيرابيس آلهة البلاد العظيمة، وأدرس الفلك في الموسيون على يد بسكينوس، وقد دار بيننا حوار حول إحدى فقرات أفلاطون، فأرشدني إلى أحد أساتذة الفكر الأفلاطوني في الموسيون وهو بلينوس والذي بدوره طالبني أن آتي إلى ههنا لأستوضح له بعض الأمور عن المسيحيين.
- أتقصد تلك الدعاوى المُضحكة بأنّنا نمارس علاقات أوديبيّة (مُحرّمة) وأننا نشترك في ولائم ثيستينيّة (من لحوم البشر)؟؟
- نعم.
- وماذا رأيت؟
- لم أرى سوى التقوى والفرح على وجوه الجميع.
- اذهب إذًا واخبر مُعلِّمك بما رأيت وادعوه ليأت ويرى بنفسه.. عذرًا يجب عليّ الذهاب الآن.
- هل أطمع في لقاءٍ آخر؟
- على الرحب والسعة، يمكنك المجيء للمشاركة في حلقة الدراسة لمبتدئي الإيمان والتي نشرح فيها أساسيّات إيماننا المسيحي. يمكنك الانضمام إن أردت؟
- بالتأكيد، ومتى يكون اللقاء؟
- بعد الغد، في الصباح الباكر، إذ نقضي بعض الوقت في التأمُّل قبل أن نخوض في الشروحات الإيمانيّة.
- وهل تأذن لي بمعرفة اسمك؟
- ردّ عليه بصوت خفيض وكأنّه صدى يتناثر في الآفاق:
كليمندس.. كليمندس السكندري
فرك بلينوس جبهته وهو يقول:
إنّ هذا الاسم يتردّد الآن في المدينة.. يا ترى مَنْ هو كليمندس هذا؟؟
__________________

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:11 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
الفصل الثالث: أبشالوم


جلس أمام الفرن المشتعل وأدخل الزجاج المصهور بعد أنْ قام بنفخه عِدّة مرّات من خلال قضيبٍ من الحديد عند الطرف. كان يُخرِج الزجاج الذائب المُتوهّج ويبدأ في إدارته يمينًا ويسارًا بسرعة شديدة من خلال قضيب الحديد المُتّصل به، بينما كان يمسك بيده اليسرى قضيبًا آخر مثني ذو طرفين يعلوه مقبض خشبي على الناحيتين، كان يستخدمه لإضفاء أطوالاً للزجاج الذائب. كان يضيف إلى الزجاج المصهور أكسيد النحاس لإكسابه ألوانًا برّاقة، الأمر الذي جعله يشتهر في المدينة.
إنّه أبشالوم الشاب اليهودي. كان في النصف الثاني من العشرينات، إلاّ أنّ الوَخَطَ (أوّل الشيب) قد عرف السبيل إلى رأسه ولحيته الصغيرة. يعمل في صناعة الزجاج مع والده إليعازر أحد رجالات المجمع اليهودي. امتلك إليعازر حانوتًا كبيرًا لبيع الأواني والزهريّات الزجاجيّة التي كان يُصنِّعها على اختلاف أشكالها وأنواعها.
كان إليعازر من أثرياء اليهود السكندريين وكان يُعوَّل عليه كثيرًا في سدّ نفقات الاجتماعات والدراسات التي تجري في بيت المِدْرَاش (بيت الدراسة) المُلحَق بالمجمع، كما كانت له أيادٍ بيضاء على المجمع الكبير لتوفير احتياجاته لإعادته إلى سابق عهده قبل التخريب الذي أصابه إبّان الفتنة الكبرى عام 116 م.
كان الحي اليهودي هو الحي الرابع، حي دلتا (Δ)، إذ كانت الأحياء السكندريّة الخمسة تُسمّى بالحروف الأولى من الأبجديّة اليونانيّة، ويقع الحي اليهودي في الجهة الشماليّة الشرقيّة من المدينة.
كان المجمع الكبير يقع في ليونتوبوليس في إحدى ضواحي الإسكندريّة. والمجمع كان بناية ضخمة حتّى إنّ المجتمعين في السبوت لم يستطيعوا سماع القراءات والصلوات فكانت تُستخدم الأعلام حتّى يردّ الجميع بالـ“آمين” عقب البركات، هكذا كان المجمع قبل ما يناله خراب الرومان..
وبالطبع كان أبشالوم ممّن تربّوا على التقليد اليهودي وحلَّق في الخيال مع قصص الأجَّداه (الأمثال والحِكَم والقصص اليهوديّة) وتتلمذ على الرابيين ذوي المكانة المرموقة في المجتمع اليهودي نتيجة لتحفُّظهم في تطبيق الوصايا.
وعلى الرغم من كون الإسكندريّة لوحة تحمل الكثير من الأعراق والأجناس والأفكار والثقافات إلاّ أنّ التشاحن كان يطفو أحيانًا على السطح ليقود لمعاركٍ شرسةٍ بين الفرقِ.
كثيرًا ما كان يشهد الأجورا (السوق) الصراعات والتلاسنات، وخاصةً مع اليهود الذين يبدو عليهم وكأنّهم يأنفون من معاملةِ غيرهم، وهم يشعرونَ بأنّهم عِرقٌ نقيٌّ خاصٌ بالإله؛ يهوه. وفي المقابلِ كان اليونانيون والرومانيون يرون أنّهم أسياد المدينةِ فكريًّا وسياسيًّا وأصحاب الحقوق الكاملة والمناصب الرفيعة، فهم لا يدفعون ضريبة الرأس، بينما كان السكندريون من الأصول المصريّة يرون أنّهم أصل الشجرة الوارفة الظلال وأنّ الفرقتين السابقتين دخيلتان عليهم. وهو الأمر الذي يؤدّي إلى التطاحنِ وقد يصلُ الأمرَ إلى إراقةِ الدماء.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:11 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
لم يكن أبشالوم يَسْلَم من مضايقاتِ شباب اليونانيين. ففي صباح اليوم أثناء ارتياده للأجورا لشراء مستلزمات حِرَفيّة، وقف أحد الشباب مقابله، إذ عرف أنّه يهوديٌ من التيفلّلين (عصائب جلديّة تحتوي على فقرات من التوراة) الذي لفّ به رأسه، مُتعمِّدًا السخرية من اسم يهوه وهو يقول لرفقته في وسط الأجورا: إنّ يهوه استيقظ اليوم من راحته وسُباته بالأمس؛ السبت.. ليته يتلقّن من سيرابيس كيف يقف يقظًا ساهرًا طوال اليوم.. ويتضاحك الجميع وهم يتمايلون.. يرد آخر: لعلّ يهوه كان يجمع الأموال ليدفع الضريبة لجوبيتر(1)!! الأمر الذي يدفع أبشالوم إلى العراك معه، ساخرًا من سيرابيس في المقابل، قائلاً: إنّ سيرابيس يقف منتظرًا مَنْ يذهب به ليغتسل من أتربة الإسكندريّة وعواصفها.. ويتحوّل طيش الشباب إلى تطاحنٍ دينيٍّ يلتئم أتباعه في التوِّ لينتصرَ كلُّ منهم لإلهه..
لم ينس اليونانيون لليهود خيانتهم للإسكندريّة حينما كان يوليوس قيصر مُحاصَرًا في الإسكندريّة، ووصلت حملة رومانيّة لنجدته يتزعّمها مثراداتيس البرجامي، وكان في إمكان حامية ليونتوبوليس اليهوديّة أنْ تقف في وجهها وتردعها بمنتهى السهولة، إلاّ أنّهم ساعدوا الجيش الروماني في الوصولِ إلى قيصر بناءً على توجيهات من أنتيباتر في اليهوديّة. كما كانت موالاة اليهود لأوكتافيوس على حساب كليوباترا دافعًا لتأجيج مشاعر مواطنو الإسكندريّة ضِدّ اليهود الذين كان يبحثون عن مصالح خاصة على حساب مدينة الإسكندريّة.
في المقابل، لم ينس اليهود قرار فلاخوس الوالي في الماضي بإعلان اليهود أجانب وغرباء عن المدينة، وتحديد إقامتهم في الحي الرابع، بل إنّ الحامية الرومانيّة جالت في الحي ودمَّرت المساكن ونهبت المتاجر، وكذلك أوغر الرومان السكندريون صدر الإمبراطور من جهة اليهود إذ راسلوه قائلين: إنّ اليهود يرفضون وضع أيقوناته والتعبُّد لها.. ممّا أدّى إلى قتل الكثيرين في 31 أغسطس المشؤوم من عام 38 م..
كما لم يغفر اليهود ما حدث عام 66 في عهد نيرون، إذ أطلق تبيريوس يوليوس اسكندر الحاكم المصري، فرق جنود الرومان الذين عملوا النهب والسلب والقتل، وقتلوا في ذلك اليوم خمسون ألفًا ولم ينج منهم شيخًا ولا طفل..
كان يعقوب تيودوروس مارًّا من المكان، وحينما رأى العراك، تدخّل وسحب أبشالوم إلى الخارج، وابتعد به عن بؤرة الأحداث قبل أن تتفاقم الأمور ويتدخّل الجند الرومان.
يعقوب تيودوروس من اليهود المُتهللّنين المُتحرّرين، وهو اسم مُركَّب كعادة بعض اليهود في إضفاء صبغة يونانيّة على الاسم ليستطيع التعامل بحريّة في المجتمع التجاري السكندري.
كان يعقوب من الذين اندمجوا في الثقافة السكندريّة متخطيًّا حاجز العرق اليهودي، وكان ممّن يتبعون منهج فيلو الذي جمع بين الإيمان اليهودي والثقافة الإغريقيّة وكأنّه يحاول الخروج بطرفي النزاع في المجتمع إلى برّ الأمان والسلام.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:12 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- ما الذي زجّ بك في هذا العراك؟ سأل يعقوب
- هؤلاء الأوغاد يسخرون من أدوناي
- دعهم يقولون ما يشاءون، فأدوناي قادرٌ على حماية اسمه بين الأمم
- أو لا نغير على إيماننا وإلهنا!!
- إنّ المدينةَ الآن في قبضتهم، وهم يتحيّنون الفرصة لكيما يصبُّوا علينا جام غضبهم ليخرجونا من الإسكندريّة، يجب أنْ نحتاط لهذا الأمر.
- إنّي أفضّل الموت عن الصمت أمام بذاءاتهم..
- يا صديقي، الحكمة تقتضي الصمت إلى أن نسترد عافيتنا وقوّتنا في المدينة.. على أيّة حال، أنا يعقوب تيودوروس، وأنت؟
- أبشالوم بن إليعازر
- سعدت بلقائك، وأتمنّى أنْ أراك قريبًا ولكن ليس في مشاجرةٍ
ابتسم أبشالوم وهو يقول: بالطبع..
- تبادلا السلام وذهب كلٌّ منها في طريقه.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:12 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
كان أبشالوم يلقى الدعم والتشجيع من الرابيين الذين يثنون على حميته على اسم الربِّ الذي يجب الدفاع عنه ضدّ الأمم الأنجاس عابدي الأوثان. فلقد تلقّن من المُعلّمين منذ أن كان في بيت ها سِفِرْ (بيت الكتاب، وهو المكان الذي يتعلّم فيه الصبي، التوراة، في المرحلة الأولى من عمره) أنْ يغير على الربّ واسمه بين الأمم وهو الذي كان يدفعه إلى الدخول في شجاراتٍ دائمةٍ مع اليونانيين والرومان من أهل المدينة.
كان يتذكّر كلمات يوسيفوس عن أولئك الذين سُجنوا وتحمّلوا مختلف الآلامات بل والموت على مسارح الاقتتال من أجل صمتهم وعدم تلفُّظهم بكلمةٍ في حقّ الناموس والنصوص المُقدّسة.
إلاّ أنّ ما يلقاه من إطراء على غيرته البدنيّة جعله يُفكّر: ألا يستطيع أدوناي أنْ يبيد الأمم بنفخة فمه، ويعيد المجد والسيادة لشعب الربّ؟؟ ولكنه كان ينفض غبار التساؤل سريعًا، ويرجع ويقول لنفسه: إنّ ما نلقاه من مضايقات لهو تأديبٌ من أدوناي للشعب بسبب مخالطته للأمم وحيده عن الوصايا.
آه.. متى يأتي المسيّا ليُخلّصنا من هؤلاء الغوغاء وتصير الأرض كلّها لأدوناي ولمسيحه؟؟ سؤال كان يراوده ليل نهار..
كان أبشالوم على موعد مع الرابي موشى الذي كان يلقاه ليُفسِّر له بعض الأمور الغامضة في التَنَخْ (النصوص الكتابيّة). فقد كان الطفل اليهودي يتعلّم منذ نعومة أظافره أقوال الحاخامات القُدامَى عن أهميّة تعلُّم الناموس. ولعلّ كلمات الرابي هِلِّل كانت أكثرها ترديدّا على فم الرابي موشى إذ اعتاد أن يقول:
الرجل الجاهل لا يمكن له أنْ يكون تقيًّا بالحقّ.. ومَنْ يُكثِّر من تعلُّم الناموس تزداد له الحياة، وكلّما ازدادت مدارس تعليم الناموس، ازدادت الحكمة وازداد التعقُّل. إنّ مَنْ يقتني له معرفةً بالناموس يقتني له حياةً في الدهر الآتي.
لم ينس أبشالوم تلك الرحلة التي صحبه فيها الرابي موشى لرؤية رابي يهودا هالنّاسي وهناك رأى العمل العظيم الذي كان يقوم به من تجميع أقوال المُعلّمين وأقوالهم في المُجلّد ذو الثلاثة والستّون فصلاً والذي أسماه المشناه. وهناك سمع منه كلمات ضربت بجذورها في عقله، حينما قال: افتكر بثلاثة أمور فلا تقع في الخطأ؛ أنّ فوقك عينًا ترى وأذنًا تسمع وأنّ أعمالك كلّها مُدوّنة في كتابٍ..
دخل أبشالوم على الرابي مُلقيًا بالتحيّة: شالوم رابي..
- شالوم أبشالوم.. ماذا حدث، يبدو عليك الإنهاك، وما سبب هذا التورُّم الذي في وجهك، هل تعاركت مع أحدٍ؟؟
- نعم يا مُعلّم، فلقد سَخَرَ أحد اليونانيين الحمقَى أتباع سيرابيس من أدوناي متلفّظًا بالاسم المُقدّس بل ومستبيحًا الحديث عن سبت الربّ..
- إنّ الجوييم (الأمم) دائمًا يتربّصون بنا ويحاولون استفذاذنا، إنّهم يريدوننا أنْ نتحوّل عن ديانة آبائنا، وننقض العهد الذي قطعه الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب مع أدوناي، لذا يجب ألاّ نصمت أمام سخافاتهم، بل علينا أنْ نلقنهم درسًا ونُريهم قوّة جند الربّ..
- هذا ما فعلته..
- حسنًا فعلت، وإنك لأشبه بإيليا الذي غار غيرةً للربّ -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- وأغار على كهنة البعل وأوثانه النجسة.
- ومَنْ أنا لأتشبّه بإيليا العظيم..
- مَنْ غار غيرةً للربّ فقد صار من زمرة الغيورين الذين لهم نصيبًا كبيرًا وعظيمًا في مملكة القدّوس القادمة.. على أيّة حال دعنا نترك أمر الأمم لندخل إلى الشاكيناه (المجد الإلهي الذي كان يُظلّل الجبل عند نزول الربّ على الخيمة) ونفتح النصّ المُقدّس لنتعرّف على إلهنا ووصاياه..
فتح أبشالوم الرقّ وهمّ بالقراءة فاستوقفه الرابي قائلاً: دعنا نتلو البركة أولاً.
- عذرًا فقد نسيت.
رفع الرابي موشى يديه في مستوى صدره ملاصقًا اليدين من خلال تماس الإبهامين، وأغمض عينيه وقال:
امنحنا يا أبانا نعمة المعرفة التي هي منك،
وأيضًا الفهم والتمييز من ناموسك.
ردّ أبشالوم وهو مُطامِن الرأس قائلاً:
مبارك أنت أيها الربُّ، يا مَنْ تمنحنا نعمة المعرفة.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:12 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
بدأ الرابي بقراءة نصٍّ من سفر الخروج، وهو يتمايل إلى الأمام والخلف في حركة منتظمة كبندول الساعة. توقّف عن الحركة والقراءة وسأل أبشالوم: قل لي يا أبشالوم، في رأيك هل هناك ما يعوق دراسة الشريعة؟
أجاب أبشالوم بنبرة متردِّدة بعد لحظة تفكير جابت فيه عيناه سقف الغرفة: الفقر!!
أمال الرابي رأسه إلى أسفل رافعًا عينيه إلى أعلى وهو يقول: عندما تقف النفوس قبالة كرسيّ الحكم الذي لله. يبدأ في سؤال الفقراء والأغنياء والشهوانيين عن عُذرهم في عدم دراسة الشريعة. إن تعلَّل الفقير بفقره يتم تذكيره بهلِّل، فبالرغم من أنّ دخله المالي كان قليلاً إلاّ أنّه كان ينفق نصفه ليدفع رسم الدخول إلى مدرسة الشريعة.. وإنّ اعتذر الغني مُتعلِّلاً بشؤون تجارته وثروته يُجاب بأنّ الرابي أليعزر كان يملك ألف حُرج وألف سفينة، ومع ذلك تخلَّى عن مُتع الثروة كلّها، وراح يرتحل من مدينة إلى أخرى بحثًا عن مسالك الشريعة وتفاسيرها.. وإن احتجّ الشهواني بأنّ الشهوة أغوته وحرفته عن جادّة الصواب صوب الرذيلة، يسأله الله هل تعرَّض لغوايةٍ أكثر ممّا تعرض له يوسف..
وقتها سيستدّ فم الكسالى أمام الله..
بدت عينا أبشالوم ساهمة، فبادره الرابي قائلاً: ما لك اليوم يا أبشالوم؟؟
- في الحقيقة يا مُعلّم، عندي بعض التساؤلات التي تستولي على عقلي؟
- عن ماذا أردت أنْ تسأل؟
- لقد دار حوارٌ بيني وبين أحد أتباع يسوع المصلوب والذي قرأ لي نصّ المزمور الثاني والعشرين. هل لي بقراءة فقرة منه الآن؟
- تفضَّل..
- لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ.
جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي.
ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.
أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ.
يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
لقد أخذ يشرح أنّه يتحدّث عن المسيّا، وطبّق هذا المزمور على يسوع الناصري مُدّعيًا أنّه هو هو المسيّا.. وأنّ ثقب اليد والرجل هو الصلب، والعظام التي أحُصيت إشارةً إلى عدم كسر عظامه كما كانت العادة مع المصلوبين، وأنّ اقتسام الثياب وإلقاء القرعة عليها هو نفس ما جرى من الجند الرومان على الجلجثة..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:12 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
كما قرأ لي نصّ إشعياء 53 الذي يقول:
مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟
نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ،
لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ،
وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ،
رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ.
لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا.
وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً.
وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا.
تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا.
كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا.
ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.
كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.
مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ.
وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ،
أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ،
وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ.
أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ.
إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ،
وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ،
وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا.
لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً،
مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ،
وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:13 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
أحمرّ وجه موشى وصاح بغضبٍ: لماذا تخاطب هؤلاء الملعونون؟ لماذا تنصت لترهاتهم؟
- لقد كان يستخدم النصّ المُقدّس، فرأيت أن أحاوره في..
- قاطعه موشى وقد بلغ منه الغضب مبلغه: لا تدخل في حوارٍ مع هؤلاء، فهم يُفسِّرون النصوص المُقدّسة حسب أهوائهم، ويؤوّلون كلّ شيءٍ ليُطبّقوه على يسوع الناصري.. إنّهم طائفةٌ انحرفت عن إيمان الآباء، وقد لقَى زعيمهم الجزاء الذي يستحقّه على يد قادتنا في أورشليم..
- أريد أن أفهم شرح مُعلّمينا لنبوّة إشعياء.
- إنّ من يتحدّث عنه إشعياء هو شعب بني إسرائيل وليس عن شخصٍ محدّدٍ..
- ولكن الكلام ينطبق تمامًا على يسوع الناصري وقد قرأت في ترجوم يوناثان بن عُزّيل عن مسيانيّة هذا النصّ إذ يبدأ في الترجوم بعبارة: عبدي المسيّا!! كما قرأت في المِدْرَاش أنّ كلمة رجل “رجل أوجاع” تعني مسيّا!!
زفر الرابي موشى بكلماته وكأنّها حممٌ بركانيّةٌ قائلاً: المسيّا سيأتي قويًّا وسيُحرِّر شعبنا من سيادة الأمم.
- يا مُعلِّم، إنّ المسيحيين يتزايدون وينمون ويكرزون في كلّ مكانٍ بيسوعَ أنّه المسيّا وأنّه الإله!!
- يا للتجديف.. لقد أُعدِمَ يسوع هذا على الصليب ومات ملعونًا بحسب الشريعة كغيره من المجرمين وانتهى الأمر، وعن قليل سوف يتفرّقون وتنتهي شيعتهم إلى لا شيءٍ..
- ولكنّهم يقولون أنّه قام من بين الأموات..
- أتصدّق هذا؟
- بالطبع لا. ولكنهم ينقلون شهادات كثيرة من أُناس كثيرين شاهدوه بعد الموت قائمًا في نورٍ..
- كذبٌ.. كذبٌ..
- إنّ لهم دلائل على هذا
- كلّه كذب..
- وماذا عن شاول الذي تربّى على يد غمالائيل العظيم، والذي رأى يسوع في طريقه إلى دمشق ودعاه ليصير له تابعًا، وبدأ يكرز بقيامة يسوع من الأموات..
- لقد أغواه المسيحيّون فترك ديانة آبائه، مع أنّ مستقبله كان باهرًا إذ كان سيُصبح مُعلّمًا كبيرًا.. ولكنها غواية المسيحيين كما قلت لك.. وقد لقي جزاؤه على يد الإمبراطور
- وهل بسهولة يتحوّل مُطارِدُ المسيحيّين الأوّل إلى تابعٍ مُخلصٍ لإلههم وهو الذي يشهد له الجميع بالغيرة على ديانة الآباء وبالحرص على عادات الناموس والسير على خُطَى الأقدمين؟؟
- لقد مارسوا معه السحر كما كان مُعلِّمهم يفعل المعجزات مُستخدمًا قوات الشياطين؟؟
- وهل يمكن للشياطين أن تعمل الخير؟؟
- أراك متأثّرًا بما سمعته منهم؟؟ ما بالك تُدافع عنهم؟؟
- إنّها أفكارٌ تدور برأسي، ويجب أن أقتنع لكيما أستطيع أن أجادل الآخرين.
- لا.. لا تدخل في حوارٍ معهم على الإطلاق..
- ولكن..
- لا مناقشة في هذا الأمر.. أنت لازلت صغيرًا على مثل تلك الحوارات.. لا حوار مع المسيحيين مهما كانت الأسباب. يكفي هذا الحوار اليوم..
قام الرابي موشى وهو مُضطّرب وبدأ يطنطن مُردّدًا الفقرة الأخيرة من البركات الثماني عشر، بينما كان مُتّجهًا إلى غرفته، قائلاً:
المرتدّين لا يكن لهم رجاء
ولتسقط وتنقرض مملكة المتعجرفين من أصولها في أيامنا
وليهلك أتباع يسوع الناصري والهراطقة في لمحة عينٍ
ولُيمحَ اسمهم من سفر الحياة
ولا يُحسبوا مع الصدّيقين
مباركٌ أنت يا ربُّ الذي تُذلّل المتكبرين
كانت كلماته تخرج وكأنّها تستنهض همم الأجيال السابقة الذين صلبوا الناصري ليُبعثوا من جديد لصلب كلّ ناصري..
خرج أبشالوم وهو مُمزّقٌ بين فضول الشباب الذي لا يقتنع إلاّ بالدلائل والبراهين والحوار والإقناع، وبين طاعة المُعلِّم التي هي أساسيّةٌ في التلمذة على يد الرابيين.. كان صدى نصّ المزمور يتردّد في أذنيه بينما رسم ذهنه صورة للمصلوب على وقع الكلمات.. كان يُحاول التفلُّت من شقي رحى الكلمات والخيالات إلاّ أنّ ذهنه كان مُمسَكًا بشدّة. ناله الإعياء وهو يصارع الفكر ويقارعه ويدفعه دفعًا خارج حجرة عقله الرحيبة والتي يجب عليه أنْ يُضيّقها ويسدّ منافذها كما أمره الرابي..
ذهب إلى البحر وجلس على شاطئه وكأنّه يستلهم منه قرارًا يأتي سابحًا على موجةٍ من المجهولِ ويدفع بموجاته ما وقر في قلبه من الشكّ والحيرة..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:13 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
الفصل الرابع: المواجهة

أبولّلونيا أخت إليوس فتاةٌ في العشرين من عمرها، نحيلة الجسد، مُشرِقَة المُحيّا، خمريّة الوجه من لفحات شمس الإسكندريّة، ذات ابتسامة هادئة لا تفارق وجهها أثناء الحديث. أضحت أبولّلونيا بين عشيّة وضحاها ربّة المنزل بعد وفاة والدتها بعد صراع دام عدّة أشهر مع المرض. كانت تقضي يومها بين شراء طلبات المنزل من الأجورا وبين التنظيف والطهي، ولكنها أيضًا كانت قارئة جيّدة لكلّ برديات إليوس وأفبولوس، فقد تعلّمت منذ صغرها، اليونانيّة، من إليوس. ولكنها في الفترة الأخيرة كانت تميل إلى العزلة وحدها في حجرتها، وكان هذا الأمر مُلفِت للنظر وخاصة عند إليوس الذي اعتادها تجالسه ليل نهار حينما يعود إلى البيت.
كان إليوس قد فاتحها منذ عِدّة أيام خلت بمطلب سوسينيوس للارتباط بها، وهو أحد الدارسين للطبّ في الموسيون والذي ورث عن والدة عشرات الأفدنة في جنوب الدلتا من أجود الأراضي التي تُدرّ عليه دخلاً كبيرًا. كان رفضها الحديث في الأمر مُحيِّر لإليوس وأفبولوس، فالزواج من أحد الأغنياء والمثقّفين مطمح الفتاة السكندريّة إلاّ أن أبولّلونيا رفضت الأمر برمّته. أعطاها إليوس مُهلة للتفكير، والمهلة تنتهي اليوم.
دلف إليوس إلى المنزل ونادى قائلاً: أبولّلونيا أين أنتِ؟
- لحظة واحدة..
- أنا قادم إليك..
دخل إليوس الحجرة فوجد أبولّلونيا تنهض مسرعة بعد أن دسّت شيئًا ما تحت مرقدها. بدا إليوس وكأنّه لم يرى شيئًا، وداعبها قائلاً: كيف حال قطتي الصغيرة؟
- بخير حالٍ. وأنت كيف كان يومك؟
أحمد الآلهة. وقف إليوس مقابلها وهو يقول بصوتٍ خافتٍ: هل توصّلت إلى قرار؟
- بشأن ماذا؟
- الزواج من سوسينيوس
- أنا لا أُفكّر في هذا الأمر الآن؟
- ولِمَ لا؟
- لم يحن الميعاد بعد؟
- أبولّلونيا، صارحيني، هل هناك آخر؟
- بالطبع لا
- إذًا لماذا الرفض بالرغم من توافر كلّ الصفات التي تطمح إليها أيّة فتاه في المدينة، في سوسينيوس؟؟
- فقط لا أريد الارتباط الآن، فأنا أرعَى شؤون البيت، ولا أستطيع أن أتركك أنت ووالدي دون عونٍ.
- لا تشغلي بالك بنا
- لنؤجّل الأمر إذًا..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:16 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- وماذا أقول لسوسينيوس؟
- اعتذر له وبلّغه أمنياتي أن يلاقي الفتاة المناسبة له.
لم يقتنع إليوس بكلمات أخته، ولم يُصدِّق أنّ رفضها الزواج وعزوفها عن الرجال بسبب رعايته ووالدهما. الأمر أكبر من هذا!!
خرجت أبولّلونيا لتُحضِّر طعام الغداء، بينما بدأ إليوس في تفتيش حجرتها، ونظر تحت المرقد فرأى قصاصة من البردي ملفوفة بعناية في قطعة قماش بيضاء، أخرجها وفردها، وبدأ يقرأ:
فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ،
وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا،
قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.
وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ،
وَلاَ الْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ السَّفَاهَةِ، وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ،
بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ.
فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ،
الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ، لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ.
لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِل، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هذِهِ الأُمُورِ
يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ.
فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ.
لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً، وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ.
اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ.
لأَنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرّ وَحَقّ.
مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ.
وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا.
لأَنَّ الأُمُورَ الْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرًّا، ذِكْرُهَا أَيْضًا قَبِيحٌ.
وَلكِنَّ الْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِالنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ.
لِذلِكَ يَقُولُ: اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ
فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:16 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
أبولّلونيا، صرخ إليوس..
جاءت أبولّلونيا مسرعة.. دخلت إلى الحجرة ووجدت أخيها مُمسكًا بالبرديّة..
نظر إليوس إلى وجهها نظرة حادّة، نابتة عن وجهٍ احتقن بحمرة الغضب، وصاح قائلاً: ما هذا؟
- إنّها برديّة أعطتني إياها صديقةٌ لي..
- أتعرفين ما الذي فيها؟
- بالطبع..
- إنه نصٌّ للمسيحيّين..
- أعرف
- وهل قرأته
- مرارًا
- لماذا؟
نظرت أبولّلونيا مباشرةً في عينيه وأجابته بنبرة هادئة:
- لأنّني مسيحيّة.
نزلت الكلمات على إليوس كالصاعقة. اكفهرّ وجهه، وتحجّر الكلام في حلقه، وتسمّر في مكانه وكأنّها قد ألقت عليه بتعويذة سحريّة ليصير كومةً من حجارة.
بعد لحظات استجمع فيها قواه ونهض من سبات صدمته وأفاق من ترنُّح خمر كلماتها، قال لها: متى حدث هذا؟
- منذ عِدّة أسابيع
- وهل تركت عبادة سيرابيس إلهنا؟
- إنّ الإله ليس قطعة من الحجر نصنعها ونرعاها -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ولكنّه خالقٌ كائنٌ قبل الأزمنة الأزليّة يرعانا ويحمينا ويقودنا إلى ملكوته الأبدي.. إلهنا قد تجسّد حُبًّا بالخليقة التي لمسها الموت والفساد فتغرّبت عن خالقها الحقيقي وتعامت عن حضوره في الكون فخلّقت آلهتها وتعبّدت لها وهي ليست سوى قطعًا حجريّة صامتة صمت الموت..
كانت كلماتها تحمل من الجرأة ما لم يعهده، فهوى بكفّه على وجهها وكأنّه استجمع قوى سيرابيس وغضبه ليكيل لها تلك الصفعة..
سقطت على الأرض وهي تنظر إليه بأعين يمتزج فيها القوّة والتحدّي بالحنو والرقّة، وقالت له:
إنّ الإيمان حريّة، والحريّة عطيّة الآلهة، فإن كانت الآلهة تهبنا تلك الحريّة، فلماذا ترفض أن أمارس حريّتي في اختيار عقيدتي؟؟
- إنها حريّة جوفاء، ستلتهم حضارتنا وثقافتنا وتراثنا، مثل تلك الحريّة لن نسمح بها أبدًا.. أبدًا..
- وهل تخافون من المسيحيين البسطاء المُضطَّهَدين العُزَّل الذين لم يحملوا سلاحًا يومًا لمواجهة حملاتكم المحمومة عليهم وإغارتكم على بيوتهم وأنتم تعملون النهب والسلب وتُصدِّرون لهم المهانة والسباب..
- إنّهم حُثالة المدينة..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:16 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- هل لأنّ بهم الفقراء والعبيد وهم يتمتّعون بنفس حقوق السادة والأغنياء؟
- لا مساواة بين السادة والعبيد.. فالسيّد يبقَى سيّدًا والعبد يبقَى عبدًا.. المساواة تعني خراب المجتمع..
- وماذا عن الإنسان؟ ألا يعنيك خراب الإنسان؟
- إنّ العبيد مخلوقون لمثل هذا العمل..
- هل تُصدِّق هذا؟؟ ألم تأتني يومًا لتقول لي أنّ عبدة الثري لوكيوس تمتلك قدرًا هائلاً من الثقافة ورجاحة العقل وعزّة النفس!!
- إنّها استثناء؟؟
- أو تدري أنّها مسيحيّة، وأنّها تثقّفت في مدرسة الإيمان، وامتلكت عزّة النفس حينما وقفت جنبًا إلى جنبٍ بجوار السادة والأغنياء!!
- إلى ما ترمين؟؟
- البشرُ عجينةٌ واحدةٌ، خليقة الله الحسنة على صورته ومثاله، إنْ نالوا حريّتهم ظهرت قدراتهم وملكاتهم ومواهبهم.. لهذا جاء المسيح ليُحرِّر البشريّة.. إنْ تحرّرنا بالابن صرنا أحرارًا بالحقّ حتّى إنْ كان البعض موثقين بصكّ عبوديّة البشر.
- وكيف يتحرّر من هو عبدٌ لصكٍّ في يد سيّده؟؟
- أتسأل هذا السؤال وأنت المُتأدّب بالعلم والفلسفة؟؟ فالحريّة حُريّة القلب وانطلاق الروح وتطهُّر النفس وإن كان الجسد مستعبدًا.. الحريّة تجديد للسلوك والوعي والبصيرة.. الحريّة هي العطيّة الكامنة في قلب كلّ بشرٍ، تتلمّس ما يُحفّزها لتتفجّر حياةً في مسالك البرّ ودروبه..
بدا على وجه إليوس الحرج من كلمات أبولّلونيا، ولكنه أخفاه بقوله: أتتفلسفين الآن!!.. عليك مراجعة نفسك في هذا الأمر.. إمّا العودة لديانة الآباء وإلاّ..
قاطعته أبولّلونيا: وإلاّ ماذا؟؟ هل ستقتلني؟؟
نظرت في وجهه نظرة صارمة وهي تقول له:
مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟
أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ.
قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ.
وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:16 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
حوَّل إليوس عينيه عن أبولّلونيا التي بَدَت وكأنّها مالكةُ الحقّ وهو المُتّهم. خرج إليوس من البيت متوجّهًا إلى الموسيون، فهناك يجد من رفقة العلم ما يجعله ينسَى همومه وأتعابه. شعر أنّ فكره أشلاء متناثرة أشبه بأشلاء أوزيريس التي تنتظر إيزيس لتجمعها من الأقاليم لتعيد لها الحياة!!
تلك هي أوّل مرّة تمتد فيها يده على أخته أبولّلونيا. بدأ يتذكّر كيف كانت تحبّه وتحنو عليه وتناصره بل وتخفي عن والديها أخطاء مراهقته.. كلّما كانت أطياف الذكريات تضرب بأوتادها في رمال عقله، كلّما كان يشعر بالألم والأسى لما بدر منه تجاه أخته.
كما كان يؤلمه أيضًا أنْ ينفعل إلى تلك الدرجة وهو الذي كان يتدرّب على ضبط النفس كأحد ثمار المعرفة الفلسفيّة الحقيقيّة.. كانت مبادئه القديمة تتعرّض لهزّات عنيفة.. شعر أنّ كلّ شيءٍ يتهاوى..
كان يتملّكه شعورٌ بأنّ المسيحيّة تلاحقه.. تحاصره.. كانت الصور تتواتر على ذهنه المُنهك، ما بين برديّة إنجيل المسيح ليوحنا.. وجه الكاهن وكلماته.. أوجه المسيحيين المُتعبّدين.. وجه كليمندس.. كلمات البرديّة التي وجدها في غرفة أبولّلونيا.. كلمات أبولّلونيا وصلابتها ومنطقها.. كانت رأسه تدور.. رفع عينيه إلى أعلى وهو يقول:
ماذا تريد منّي يا يسوع الناصري
إليك عني..
اتركني وشأني..
لماذا تلاحقني هكذا..
كانت قدماه تتحرّكان نحو الموسيون بينما كان مصيره يتحرّك بعيدًا نحو السرّ المكتوم منذ الدهور..
__________________

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:17 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
الفصل الخامس: كليمندس

في الطريق إلى الموسيون وجد أنّ رجله تحمله إلى موضعٍ آخر، وكأنّه فَقَدَ التحكّم في وجهته، هل كان يقوده الغضب أم الفضول، لم يدرِ، ولكن وجهته تحوّلت عن الموسيون إلى بيت كليمندس حيث يلتقي المسيحيّون ليتلقّنوا تعاليم إلههم..
كان وجهه ذابلاً وكأنّه نبتة صيفيّة لفحتها رياح الشمال وتركتها أطيافًا على أغصانٍ جافّةٍ جامدةٍ..
طرق الباب بعد الكثير من التردُّد. فتح له كليمندس، الذي حالما رآه ابتسم قائلاً: كنت أنتظر مجيئك، تفضّل..
كانت ردّة فعل كليمندس مُحيّره لإليوس..
- ماذا تشرب؟
- شكرًا لك، أنا هنا لأنّ لديّ بعض التساؤلات..
- عزيزي، يمكننا أن نتحدّث بينما نحتسي مشروبًا دافئًا يُلطّف من برودة شتاء الإسكندريّة..
- حسنًا، قليل من النعنع الدافئ.
غاب كليمندس لِعدّة دقائق، بينما كانت أعين إليوس تنتهك حرمة المكان، وبالأخصّ تلك الحجرة التي كان بابها مفتوحًا، وقد بدا أنّها مُكدّسة بالرقوق والبرديّات..
كان المكان مُتّسعًا به العديد من الأرائك غير الوثيرة المستندة على الحوائط، وكانت هناك طاولة وقد تكوّم عليها العديد من الرقوق، بعضها مفتوح والآخر مُغلَق، فضلاً عن محبرة وعِدّة ريشات. لاحظ إليوس وجود بعض النقوش البسيطة الساذجة على الحوائط؛ سمكة.. شخصٌ يحمل حَمَلْ على كتفيه.. مركب ذو شراع.. الألفا والأوميجا.. فضلاً عن بعض الكلمات التي لم يتبيّنها بوضوحٍ في أوّل الأمر. اعتدل في جلسته ليواجهها فوجدها تقول: يسوع المسيح ابن الله مُخلِّص.. ماران أثا.. إنْ لم تؤمنوا فلن تفهموا.. والعديد من العبارات الأخرى ولكنه لم يتبيّنها كلّها من موضعه..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:17 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- هاك النعنع الدافِئ.
- شكرًا لك.
لاحظ كليمندس أن عينا إليوس تسترق النظر إلى تلك الحجرة المليئة بالرقوق، فما كان منه إلاّ أن قال: أراك شغوفًا بالمعرفة.
- نعم أنا كذلك.
- لقد قضيت عمري بين الرقوق ألتهم المعرفة التهامًا، بل وقد تركت عنّي كلّ مباهج الحياة، وجُلْتُ سائحًا ما بين اليونان وسوريا وروما من أجل تحصيل العلم.
لمعت عينا إليوس وهو يقول: هل كنت في اليونان؟
- نعم، وقد كنت أتردّد على الأكاديميّة في أثينا (التي أسّسها أفلاطون) لفترات طويلة حتّى ألممت تمامًا بالفكر الأفلاطوني..
تحوّلت عينا إليوس إلى غرفة الرقوق وهو يقول: أراك فتحت فرعًا للمكتبة الأم هنا في منزلك.
- بالطبع لا، فالمكتبة السكندريّة لا تدانيها مكتبة في العالم أجمع، وحتّى الآن أنا أتردّد عليها..
- ولكني لم آت إلى هنا لأتباحث في أمور الكتب والمعرفة، ولكن لأسأل: لماذا تُغرِّرون بأبناء سيرابيس لتقتادوهم للإيمان بمعتقدكم؟
- هل تعرف أنّ سيرابيس هو أوزير أبيس أي العجل أبيس المُتَّحِد في العالم السفلي بأوزيريس كما تقول الأسطورة؟؟ هل يمكن لعجلٍ أنْ يتَّحِد بإله ليتخلَّق إله جديد؟!! ولكن على أيّة حال نحن نُعلِن عن تعاليم إلهنا لمن يُقْبِل إلينا، ومَنْ يَقْبَل نُرحّب به ونُرشِده للطريق الصحيح، فنحن لا نُصادِر على حُريّات الآخرين..
- وماذا عن الفتيات الصغيرات؟
- وماذا عنهن؟
- إنكم تسلبون عقولهن بمعجزات إلهكم.
- عمّن تتحدّث؟
- عن أبولّلونيا.
- وهل تعرفها؟
- إنها أختي.
ابتسم كليمندس ابتسامة هادئة وهو يقول: إليوس، إنّ أختك تبلغ من العمر عشرين عامًا ومَنْ هم في سنّها مُتزوّجات ولهم أبناء ويحملون مسؤوليّات، فهي ليست طفلة..
- مهما يكن.
- هل تعلم أنّها لم تعتمد حتّى الآن؟
- ماذا يعني هذا؟
- إنّ المعموديّة تهبنا نعمة الاستنارة لتتحوَّل طبائعنا التي كانت رهن قيود الشرِّ إلى طبائعٍ جديدةٍ مُقدّسة تتّجه لله وتتأمّل في النور الإلهي بعد أنْ سقطت عنها أغطية الجهل.. إنّ أبولّلونيا تتعلّم الآن ركائز الإيمان المسيحي، ومتى اكتمل إيمانها وفهمها تستطيع أنْ تنال نعمة المعموديّة المُقدّسة بالماء، وتصير مسيحيّة.
- أو ليست مسيحيّة الآن؟
- إنّها مسيحيّة في قلبها وقناعتها، ولكنّها ستنضمّ إلى الكنيسة لتستطيع أنْ تتناول من جسد الربّ ودمه بعد نوال المعموديّة التي تُحرِّر من الشرّ؛ فالتحرُّر من الشرّ هو بدء الخلاص.
هنا سُمِعَت طرقات على الباب، فاعتذر كليمندس لكي ما يقوم ليفتح للطارق.
كان على الباب شابٌ يحمل له رسالة، أخذها منه شاكرًا، وأغلق الباب. فتحها وحينما بدأ في القراءة، شعر بفرحٍ بدا على وجهه..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:18 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
هل أُعطّلَك عن شيءٍ ما؟ سأل إليوس.
- لا لا، فقط تلك رسالة كنت أنتظرها منذ عِدّة شهور، من مُعلّمي.
- مُعلّمك!!
- نعم، مُعلّمي بنتينوس الصقلّي الذي تتلمذت على يده.
- وهل هو في المدينة؟
- لا لقد ترك المدينة ليذهب كارزًا بالإيمان في الهند.
- في الهند!!
- نعم.
- وما الذي يجعله يترك الإسكندريّة العظيمة ليذهب إلى تلك البلاد البعيدة.
نظر كليمندس في عينيه وهو يقول:
إنّها محبّة الربّ يسوع التي تقتادنا دائمًا إلى الحياة الأفضل..
كان كليمندس أشبه بمُزارِع يغرس الأماني في قلوب البشر ويقتلع منها زوان الأوهام، إلاّ أنّ إليوس لم يكن مستوعبًا ما يحدث، وكأنّه قد سقط في بحرٍ من المتناقضات؛ كليمندس الذي تعلّم في الأكاديميّة في أثينا وجاب العالم يقتطف من زهور العالم أنضرها وأجملها، ينتهي به الأمر مسيحيًّا. شخصٌّ سكندري من أصول صقليّة يذهب إلى الهند مُتغرِّبًا ليُعْلِن الإيمان. أبولّلونيا التي تربّت على عبادة سيرابيس تحوّلت إلى تعاليم الناصري.. ولعلّ كلمات كليمندس الأخيرة زادت من حيرته..
ما لك يا إليوس؟ سأله كليمندس.
- لا شيء.
- إذًا لماذا هذا الوجوم؟
- دعني أصارحك، أنا لا أفهمكم أيّها المسيحيّون. ماذا تعني بمحبّة الربّ يسوع تلك التي تقتلع مواطنًا سكندريًّا ليرتحل إلى آخر العالم ليُبشّر بمعتقدٍ جديد قد يتسبّب في قتله؟؟؟
- يجب أنْ تحكم على الأمور بمقياس إلهي، ألم تتعلّم ذلك من أفلاطون؟
- أفلاطون لم يقل هذا!!
- يبدو أنك لم تطّلع على كلّ ما كتب.
- قُل لي ماذا كتب في هذا الأمر.
- يقول أفلاطون:
إنّ الإله هو الذي يجب أنْ نتّخذه مقياسًا للأشياء كلّها،
ولا نتّخذ من أنفسنا مقياسًا،
وفي الإله يجب أنْ نضع ثقتنا، لا في قدرتنا العقليّة الثاقبة.
أطرق إليوس بوجهه إلى أسفل، وهو يقول: ولكن مَنْ هو الإله الذي يتوجّب أنْ نُقيِّم عليه كلّ أمورنا؟
- إله الرحمة والحبِّ..
- أو ليست آلهتنا رحيمة؟
- ألم تسمع ما كتبه سوفكليس عن آلهتكم؟
- ماذا قال؟

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:18 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- لقد قال بلسان ليلُس أمام جسد هرقليس حينما كان يتلوَّى من الألم:
نحن لم نقترف ذنبًا، ولكنّنا نقر بأنّ قلوب الآلهة خالية من الرحمة،
فهم يلدون الأبناء، ويطلبون أن يُعبَدوا باسم الآباء،
ولكنّهم ينظرون إلى أبنائهم نظرة مليئة بالأحقاد.
صمت إليوس هنيهةً ثم قال: ومَنْ هو إله الرحمة إذًا؟
- هل تريد التعرُّف عليه؟
أومأ إليوس برأسه بالموافقة.
- إذًا يجب أن تتعرّف على المُربّي الحقيقي والمُعلِّم الأعظم.. الإله الكلمة.. يسوع المسيح..
- ومَنْ هو؟ قالها إليوس في اضطرابٍ واضحٍ، وأضاف: إنّي فقط أريد أنْ أفهم ما سرّ جاذبيّته وما سرّ تأثيره عليكم.
- دعني أقرأ لك جزءًا من عظته للجموع على الجبل لتتعرّف على تعاليمه ومن ثمّ تتعرّف عليه.
حرّك إليوس رأسه إلى أعلى وأسفل مُبديًا القبول..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:18 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
فتح كليمندس الرقّ، وبدأ يقرأ:
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ، وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ.
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ.
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.
كانت الكلمات تحفر أخدودًا في قلب إليوس وإذ بالمياه تنفجر منه لتروي نفسه العطشَى. لم يكن يدر أنّه ظَمِئ قبل الآن؛ فطعم مياه الحياة بعثت في نفسه شعورًا بأنّه أحد قاطني القفار. كان يجاهد في إخفاء تأثُّره بالكلمات صادًّا كلّ تحرّكات النعمة ظاهريًّا، أمّا من الداخل فقد كان قلبه يذوب كما لقطعة جليدٍ أمام لهيب مشعلٍ متوهّجٍ. قاوم لئلا ينهزم في حوارٍ وهو ربيب الموسيون!!
وفجأةً، سُمِعَ وقع أقدام متسارعة، ثم طُرِقَ الباب بشّدّة، فقام كليمندس ليستطلِع الأمر. فتح الباب ووجد ديونيسوس الذي ابتدره وهو يلتقط أنفاسه المُتلاحقة ويقول: لقد قبضوا على ميلانيه وإيلارية وماريا وهن في الأجورا!!!
__________________

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:19 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
الفصل السادس: المحنة

لم تكن سمعة النساء في روما أو المدن ذات السيادة الرومانيّة حسنة، فلقد كتب الشاعر جوفنال عن نساء روما قائلاً إنّهن أنانيّات، سليطات، مُخرِّفات، مسرفات، كثيرات الشجار، متعجرفات، مغرورات، مُحبّات للنزاع، زانيات، لا يكدن يتزوّجن حتّى يُطلّقن، ويستبدلن الكلاب المدلّلة بالأطفال. ولم تكن نساء الإسكندريّة سوى صورة من نساء روما ولكن في ثوبٍ شرقي مُتهلّلن. كان القانون الروماني لا يسمح بالزنى إلاّ أنّه أجاز تسجيل النساء كعاهرات في سجلاّت الدولة حتّى يتسنّى لهن ممارسة هذا النشاط الأثيم دونما مُساءَلة أو مُلاحقة قضائيّة. يمكنك أنْ تجدهن في أماكن ارتياد أشراف المدينة؛ عند مداخل المعابد، تحت الأروقة ذات العُمَد، في حلبات المصارعة، في دور التمثيل، في المتنزّهات والحدائق، في الحمّامات العّامّة، في الكثير من الأماكن. إلاّ أنّ أماكن الفقراء والمساكين لم تطأها أرجلهن.
وبالرغم من ثراء مدينة الإسكندريّة كأهم ميناء على البحر وكأكبر مركز علمي في العالم القديم إلاّ أنّ شوارعها الفسيحة كانت تغصّ بالمتسوّلين والمرضَى والمنكوبين ومن أثقلتهم الضرائب فراحوا يتلمّسون قوت يومهم. فالمدينة التي صارت موئلاً للعلوم والفنون والآداب.. ومَحَجّة الترف والمتعة.. وبلدة القصور المنيفة والحدائق الغنّاء.. كانت تعجّ أيضًا بالبؤس والشقاء. كان يتوافد عليها السُّكّان من مختلف أصقاع البلاد أملاً في لقمة العيش وتحسُّن الأحوال، فلا يجدون سوى الأرصفة لهم مسكنًا..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:19 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
كانت ميلانيه وإيلارية وماريا فتيات مسيحيّات من بيوتٍ تحيا في رَغَد العيش. إلاّ أنّهن بحثن عن الطريق الحقيقي المؤدّي إلى ملكوت الله. ذات يوم وهن جالسات في مدرسة الإيمان يتلقّن التعليم المسيحي، سمعن المُعلِّم يقول:
أحبّائي، ليس هناك سوى إله واحد لذا فإنّ الخليقة واحدة في عين الآب، بلا تمييز، اليوناني كاليهودي كالمصري كالروماني، العبد كالحرّ، الفقير كالغني، العالِم كالأميّ، الكلّ مدعو من الآب ومقبول من الآب، بل وأيضًا الرجل كالمرأة.
هل تعتقدون أنّ المرأة أدنى من الرجل كما يشيع المجتمع من حولنا؟ دعوني أقول لكم إنّ فضيلة الرجل هي بعينها فضيلة المرأة، لأنّ إله الاثنين واحد، سيّد الاثنين واحد، يحيون في كنيسة واحدة، يتلقّون حكمة واحدة، يحيون في اتّضاع واحد ويتناولون غذاء واحد، والزواج هو رابطة يخضعون لها على قدم المساواة. أنفاسهم.. بصائرهم.. أسماعهم.. معارفهم.. آمالهم.. طاعتهم.. كلّ شيء بينهم متشابه. لهم نفس الشركة ونفس النعمة ونفس التفكير.. كليهما شريك في الخلاص بقدرٍ متساوٍ.. لقد وحّد الخلاص، الجميع، في الآب.
ولكن مَنْ هي الفتاة المسيحيّة المُجمَّلة بنعمة الله؟؟
يقول أرسطوفان في ملهاتِه عن زينة النساء إنّها: شرائط الشعر ومناديل الرأس وكحل الأعين والثياب الضيّقة واللّفاح ذو الحواف الأرجوانيّة والقلائد.. أمّا مُعلِّمنا فيقول إنّ الزينة الحقيقيّة تكمن في الروح الوديع الهادئ ذو الثمن الغالي في أعين الله.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:20 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
إنّ الجمال الحقيقي ليس في حُلي الذهب والفضة والأحجار الثمينة والأثواب البرّاقة، تلك التي تخفي الجمال البسيط الذي هو عطيّة الله. فالزينة الحقيقيّة هو الكلمة الذي من خلاله وحده يتّضح الذهب المُكلِّل للروح كما يتألّق جمال الروح في نور محضره غير الموصوف.
إنّ مَنْ يتبعن المسيح عليهن أنْ يتمسّكن بالبساطة التي تصل بهم إلى القداسة. فالقداسة لا يمكن أنْ تظهر حينما يتّسع الفارق بين البشر. البساطة تنزع من روح الإنسان العُجب والكبرياء والتعظُّم والتفاخر. هل تردن أنْ تتعلّمن ما هي الزينة الحقيقيّة؟ إنّها الفهم والحكمة لا بكحل الأعين وثقب الآذان. فزينة الآذان هي التعليم الصادق أما كحل الأعين هو الكلمة..
ليكن عطر المرأة الذي يفوح منها هو العطر الملكي الحقيقي الذي من المسيح، لا الناتج عن المساحيق المُعطّرة. لتكن رائحتها دومًا هي التي تنبع من طهرها ووداعتها، إذ تجد لذّتها في الأطايب المُقدّسة التي للروح. هذا هو الزيت العَطِر الذي يُهيّئه المسيح للتلاميذ، ذاك المصنوع والمُركَّب من مكونات زكيّة الرائحة.. سماويّة..
تخلَّت الفتيات عن زينة العالم وقرّرن أنْ يتزيّن بالفضيلة ويرتدين المحبّة لكلّ الخليقة، كثوبٍ برّاقٍ في أعين الجمع السماوي.
لم يكتفين بعدم التحلّي بالحُلي الذهبيّة المُرصّعة بالأحجار الكريمة، ولكنّهن وضعن في قلوبهن الاعتناء بالفقراء ورعاية الذين لاحقهم الدهر بالجوع والفاقة؛ فالفروق بين البشر تتلاشَى حينما تتلامس أيدي الأغنياء والفقراء وتشتبك بالحبّ. كُنّ يقضين وقتهن بين حضور مدرسة الإيمان والصلاة والخدمة في بيت المحبّة كما أسموه لإعلان حبّ الله لكلّ الخليقة.
نزلن إلى الأجورا ليبتعن احتياجات النزل الذي عملن فيه على رعاية الفقراء. وفي الصباح الباكر، في الطريق، لاقين رجلاً مُسنًّا أعرج يستعطي ولا يبالي به أحد، كانت ملابسه مُمزّقة بالية، ويبدو عليه أنّه كان غريبًا بلا مأوى. عرضن عليه المساعدة والإيواء والقليل من الطعام، وحينما سألهن بأعينٍ أغرورقت بالدموع لماذا يبدين له تلك الرقّة المتناهيّة؟ أجبنه إنّهن مسيحيّات وأنّ الربّ يسوع هو الذي أوصاهن برعاية الفقراء والمحتاجين.
كان مارًّا بجانبهن عبدُ كاهن سيرابيس الأعظم وقد ألقَى بآذانِه وسطهم ليلتقط كلمات الحديث، ومن ثمّ نقلها إلى الكاهن الذي يستعلم منه عن أحوال المدينة كلّ يوم.
أخبر العبد سيّده بما دار في الأجورا بين الفقير الأعرج والفتيات المسيحيّات، ممّا أغضب الكاهن الذي أرسل إلى الوالي يُحذّره من حدوث فوضَى في المدينة إنْ لم يتدخّل لمنع الفتيات من اجتذاب الفقراء إلى دين المصلوب.
خاف الوالي من كلمات كاهن سيرابيس ذو السطوة والحظوة عند أشراف المدينة، فأرسل الجنود إلى النزل الذي يُقِمن فيه. اقتادوهن إلى دار الوالي بامتهانٍ وسخريةٍ شديدين.
دخل بهم الجند إلى دار الولاية. أوقفوهن أمام الوالي الذي نزل دركات كرسيه المُذهَّب ودنا منهم، مختالاً، وبادرهم قائلاً: ما لكم وفقراء المدينة، هل تجتذبونهم إلى دينكم المقيت بفتات الطعام؟
أجابت ميلانيه وهي أكبرهن سِنًّا، وقالت: إنّنا نساعد الجميع دون أنْ ندفع أحدًا لاعتناق إيماننا.
- ولكنّكن تُقدّمن الطعام للجوعَى، لكي ما يَقْبلن ما تملوه عليهم فيما بعد.
- إنّنا نُقدّم الطعام لأنّ وصيّة إلهنا تدفعنا إلى هذا.

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:20 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
- وبماذا أوصاكم المصلوب؟
- كلّ مَنْ سألك فأعطه، ومَنْ أراد أنْ يقترض منك فلا تردّه..
ضحك الوالي وهو ينظر إلى ضُبّاط مجلسِه، ويقول: إنّ المصلوب يوزِّع الطعام مجّانًا على الجميع إنّه يريد أنْ يصبح صاحب العطايا عوضًا عن الإمبراطور!!
- إنّ وصيّة إلهنا تدفعنا لأنْ نُحبّ الجميع دونما تمييز، وإنْ كانوا أعداءنا.
- وهل تُحبّين الإمبراطور إذًا؟
- بالطبع، أحبّه وأصلّي من أجل خلاصه ليل نهار..
قال بسخريةٍ: لهذا تأتي المِحَن والبلايا على الإمبراطوريّة..
- إنّ المِحَن والبلايا تأتي بسبب رفض الإله الوحيد وكذلك بسبب شرور روما ومواطنيها في كلّ مكان.
- أتجرؤين على إهانة المواطنين الرومان أسياد العالم.
أجابت بصوت لم يخلو من قوّةٍ وبأسٍ:
يوجد سيّد أوحد للعالم هو الربّ يسوع.
قام من على كرسيه وتوجّه نحوها ولَطَمَها بقسوةٍ وهو يقول: أنا السيّد ههنا وليس آخر..
مسحت بظهر يدها اليمنَى الدم المُنسلّ من فمها وهي تقول:
- لقد قال السيّد الربّ: يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ.. خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هَذَا خَافُوا!.
أنت تسود على ترابٍ سينتهي بنهاية أيامك على الأرض، بينما سيّدي يسود على الكون والخليقة إلى أبد الدهور..
احتدّ الوالي قائلاً: حسنًا سأريكن جُهنّم الحقيقيّة.. أشار لجنودِه وهو ينفث غضبًا ويقول: القوا بهن في السجن وليُمنَع عنهن الطعام حتّى يُدرِكوا مَنْ هو السيّد الحقيقي.
__________________

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:20 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
الفصل السابع: الكنيسة


تدثّر كليمندس بالعباءة والملفحة، والتفت إلى إليوس معتذرًا أنّ عليه الذهاب الآن ليجتمع مع الإخوة. طلب منه إليوس مرافقته، فوافق على ذلك.
لم تكن تلك هي المرّة الأولى التي يُلقَى فيها القبض على مسيحيين بسبب شكايات الوثنيين، فلقد اعتاد مسيحيّو الإسكندريّة على هذا الأمر.
وَضْعُ المسيحيين في المدينة لم يكن بالجيّد، فلقد كان يُنظَر للمسيحيّة على أنّها في صدام مع الإمبراطوريّة ولعل ذلك بسبب رفض المسيحيين التهادن مع الإمبراطوريّة في عبادة الإمبراطور وتقديم البخور له، الأمر الذي كان بمثابة رفض للسيادة الإمبراطوريّة على رعايا البلاد.
في الطريق قال إليوس لكليمندس إنّ هذا ليس طريق الوالي، فأجابه بل هو الطريق إلى الوالي.. ولكن الوالي الحقيقي؛ مَنْ بيده أمور الحياة كلّها.
كانت وِجْهَة كليمندس، الكنيسة، وحالما وصل إلى هناك، كان العشرات من الإخوة مجتمعين. دخلوا إلى صحن الكنيسة واصطفّوا في هدوءٍ في مواجهة المذبح، نحو الشرق، وساد صمتٌ.
لم يكن إليوس يفهم ما الذي يجري. فمَنْ الذي جمع هؤلاء؟ ولماذا يجتمعون ههنا الآن؟ ولماذا لا يذهبون إلى دار الولاية ليُقدِّموا شكواهم إلى الوالي؟ أسئلةٌ خرجت من عُشِّ عقله فلم تجد لها إجابة فعادت إلى الداخل من جديد.
وقف الكاهن مقابلهم وقد علا رأسه وشِاحًا بُنيًّا، وهو يقول:
لقد قال الربّ: إنّ العالم سيضطهدكم لأنّه قد اضطهدني أولًا.. سيقوم أمامكم ملوكٌ وولاةٌ لإرهابكم لترك اسمي.. سيقتادونكم إلى السجون وستلقون الإهانة والذُلّ والهوان من أجل محبّتي.. سيعذّبونكم ويضربونكم بقسوةٍ بلا شفقةٍ، حتّى النساء والشيوخ والأطفال، من أجلي.. سيقدّمونكم للمُحاكمات المُلفّقة وسيقتلونكم من أجلي..
نعم يا أخوتي لقد سبق الربّ فأنبأنا بضيقاتِ العالم الحاضر، ولكن كما قال القديس بولس العظيم: إنّ خفّة ضيقتنا الأرضيّة تُنشِئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبديٍّ.. إنّه المجد الأبدي الذي ننتظره ونشتاق إليه ونترك كلّ شيءٍ.. كلّ شيءٍ.. سعيًا إليه.
مائدةُ الحَمَل مُعدّة لمَنْ يصبرون إلى المُنتهَى.. هناك الخلاص الأبدي والفرح الذي لا يُنطق به ومجيد..
لقد امتحن الربُّ إيماننا اليوم في أخواتنا ميلانيه وإيلارية وماريا، اللواتي كرّسن حياتهن لعون الفقراء والمساكين والمرضَى والمُتألّمين دون أجرٍ، ولكن طُهر الفتيات لم يحتمله سلطان الظلمة، فأوغروا صدر الوالي من جهتهن، وهن الآن في السجنِ.. في القيود.. من أجل الربّ.
إنّ الحبَّ يُختبر في تلك اللّحظات؛ مَنْ كان يُحبّ من كلّ القلب، يجتاز محنة الإيمان، ومَنْ كانت محبّته ناقصة دعونا نُصلّي من أجله ليتشدّد إيمانه..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:21 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
إنّنا نجتمع الآن لأنّ ألمَ أي عضو في جسد المسيح يطولنا جميًعا. إنْ ضُربت ميلانيه تأوّهنا نحن، وإنْ توجّعت إيلارية بكينا نحن، وإنْ جُرِحَت ماريا طُعنّا نحن..
لن نلتجِئ إلى والٍ ولا إلى أحد الأشراف ليُطلق سراح فتيات المسيح.. سنلتجِئ للقادرِ على كلّ شيءٍ.. مَنْ بيده الأرض ومَنْ عليها.. مَنْ يقيس الجبال بكفّه.. مَنْ يمتلك سلطان الحياة والموت. إنْ كانت إرادته الألم سنجثو شاكرين طالبين المعونة، وإنْ كانت إرادته النجاة سنجثو شاكرين أيضًا فرحين في الرجاء..
كانت كلماتُ الكاهن تخرج وتستدرّ معها دمعات على وجنات بعض الفتيات والسيّدات المسيحيّات.. بدا الكلُّ صامتًا.. شعرت بالألمِ يلفّني وكأنّ الفتيات هم أبولّلونيا أختي. كان الغضب يعتصرني وهممت أكثر من مرّةٍ أنْ أصرخَ فيهم بضرورة الثورة على الوالي والتظاهر أمام داره ولكنّني كنت أنظر إلى الوجوه فأراها تحمل سِرًّا.. كنت ألمح فيها مرارة الألمِ وفي المقابل طمأنينة الرجاء.. دموع الأسَى خارجة من مُقلة الانتصار.. قهر الظلم وغلبة الإيمان..
وبدأت الصلاة..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:21 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
الموتُ للمسيحيّات.. الموتُ لأتباع المصلوب..
تلك كانت صيحات الذين تجمهروا حول دار الولاية، وعيونهم تقذف حممًا من الغضب وكأنّهم جوارحٌ تلتمس فريستها لتنهشها نهشًا. كانت المدينة تمور من الهياج وكأنّها تحوّلت إلى ساحةِ وغيٍ أُشهرت فيها سيوف الكلم لدفع سيف الوالي لإراقة الدماء.
لم يكن تجمهر مئات الوثنيّين شيئًا عفويًّا في الإسكندريّة، إذ كان كهنة سيرابيس ومسؤولي الجمنزيوم والعديد من قادة الموسيون ضالعين في الأمر. كانت المسيحيّة تُشكِّل تحديًّا مباشرًا لهم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فالكهنة كانوا ممّن يرون أنْ المسيحيّة تُقوِّض دعائم الإيمان الوثني باختزال الآلهة إلى إله، وبرفضِ قبول آلهة مصر وروما والإغريق. وكان مسؤولي الجمنزيوم يتمّنون اختفاء المسيحيّين الذين يُناهضون إقامة الألعاب القتاليّة الدمويّة في ساحات ومسارح المدينة، إذ قد أطلق المسيحيّون عليها: موضع الوباء ومجلس الطاعون.
الموتُ للمسيحيّات.. الموتُ لأتباع المصلوب..
كان الوالي يسمع تلك الهتافات المزمجرة، ويُدرك تمام الإدراك أنّ أصابع المعبد والموسيون والجمنزيوم خلفها. جَمَعَ الوالي مستشاريه وجلسوا يتباحثون:
قال الوالي: إنّ المدينة ثائرة على المسيحيّات، وعلينا أنْ نتّخذ قرارًا بهذا الشأن.
أجابه أحد شيوخ المجلس: لا تنس أنّ عليك كسب ود كهنة سيرابيس، فهم يملكون الكلمة العُليا عند الشعب والموسيون.
ضرب الوالي بيده على مسند عرشه وهو يقوم قائلاً: أعلم ذلك.. ولكن إلى متى سيحكُم الكهنة المدينة؟
قال أحد الضبّاط المنوط بهم حماية المعبد: إنّ سيرابيس لا يهدأ إلاّ بإراقة دماء المخالفين، وكذا أتباعه.. أنت تعلم هذا..
قال آخر: ولكن الفتيات لم يفعلن شيئًا هذه المرّة، وإنْ مددنا أيدينا لمعاقبتهن سيبدو وكأنّنا نُنفِّذ مُخطّط كاهن المعبد، ولا نعلم ردّة فعل المسيحيّين..
أجاب الوالي: لا تقلق منهم فهم لا يفعلون شيئًا.
فبادره بالسؤال: ولكن إلى متى؟؟
ردّ الوالي: ليس هذا ما يقلقني..
قام أحد مستشاريه مُتّجهًا نحوه قائلاً: ما الذي يدور برأسك؟
أجاب الوالي: إنّ وفدًا من عند الإمبراطور سيأتي في غضون أيام، ولا أريده أنْ يرى المدينة هائجة.
طمأنه ضابط المعبد قائلاً: إنّ لك العديد من الأصدقاء في روما، وهم قادرون على تجميل الوضع أمام الإمبراطور إنْ لزم الأمر.
رفع الوالي يدهُ اليمنى نافيًا بها كلام الضابط وهو يقول: لا، ليس تلك المرّة، فالإمبراطور ليس مُهيّأً لسماع قلاقل في الإسكندريّة.
سأله أحد الشيوخ الجالسين وقد مال بجسدِه نحوه: وما الذي تنوي فعله؟
قال الوالي: لا أدري..
قال آخر: يجب أنْ نُقدِّم كبشَ فداءٍ عن المدينة..
أتقصد المسيحيّات.. سأله الوالي وهو ينظر إلى عينيه..
- نعم..
نظر الوالي من شرفة القصر إلى الساحة المائجة بالاضطراب، وزمزم بشفتيه قائلاً:
سأحاول البحث عن مخرجٍ آخر..

Mary Naeem 25 - 06 - 2014 11:21 AM

رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
 
الفصل الثامن: في السجن


كان السجنُ الذي احتضن ميلانيه وإيلارية وماريا عبارة عن غرفة واحدة مُظلمة رطبة رائحتها نفّاذة وكأنّها قبرٌ تسكنه الأجساد العفنة.. يوجد به طاقة واحدة أعلى الغرفة تجلب نسمة هواء لئلا تختنق الفتيات.
لم تكن الفتيات المسيحيّات وحدهن في المكان، إذ جمع المكان اثنتي عشرة فتاة وامرأة في تلك الغرفة الضيّقة، أغلبهن عبداتَ لسادةٍ أردن تأديبهن لعدم الطاعة أو لخطأ لا يغتفر أو لعدم الموافقة على مُمارسة الخطيئة كمحظيّات.. كان يرتسم على وجوههن الأسَى وكأنّه صار لهن قناعًا..
إلاّ أنّه كانت هناك فتاةٌ تجلس وحيدةً في الركن الغربي من السجن وكأنّها أرادت أنْ تنزوي حتّى عن رفقة الأسَى، كانت أحزان الفتاة تنسدل دموعًا على وجنتيها وتتصاعد تنهّدات وزفرات من أعماقٍ مختنقةٍ بأظافر منايا الدهر المريرة.
لم تنس الفتيات المسيحيّات عملهن الأساسي في محاولة رفع صخور الألم والهمّ عن الصدور..
ذهبت إليها ماريا وهي الصغرى، وقالت لها بوجه باسمٍ، مشرق الأسارير، ملائكي الملامح، وكأنّ الملائكة نفثن فيه لمحة من طهر النور:
- ما لكِ تبكين وتنزوين وحيدة هكذا؟
- لا شيء..
- لا تقلقي فأنا أريد مساعدتك.
نظرت إليها الفتاة وقالت: أنا لا أحتاج مساعدة من أحد.
- ولكننا نحتاج لعون بعضنا البعض حينما يحاصرنا اليأس.
أجابتها وكأنّها تقذف بالخواطر والأفكار خارجًا عن خرائب النفس المتوجّعة: أنا أشكي همومي لأدوناي، وهو الذي يرفع عني الظلم كما نجّا أستير وشعبنا قديمًا.
- هل أنت يهوديّة؟
- نعم، أجابت بقلقٍ
- وما اسمك؟
- سارة..
- آه.. سارة تعني أميرة..
- وأنت؟
- ماريا.. إنّ أدوناي إله حاني يسمع دعوات الصارخين إليه ليل نهار ولا يصمّ أذنه عن صراخ البائس والمسكين.
انفرجت أسارير الفتاة قليلاً وهي تقول بصوتٍ مشوبٍ بأملٍ ذابلٍ: هل أنت يهوديّة أيضًا؟
أجابتها ماريا: إنّ أجدادي كانوا يهودًا ولكنّهم آمنوا بالمسيّا حينما جاء.
- مَنْ تقصدين؟
- الربّ يسوع
تقهقرت سارة بجذعها إلى الخلف وحوّلت وجهها وهي تقول: أنا لا أتحدّث مع المسيحيّات.
- ولم لا؟
- لأنّكم انحرفتم عن ديانة آبائنا وتركتم عبادة أدوناي القدّوس لعبادة إنسان.
مالت نحوها ماريا وهي تقول بصوتٍ ناعم: ليس هذا صحيحًا، فلقد قال الربّ: لم آت لأنقض بل لأُكمّل.. كما أنّ المسيّا ليس إنسانًا ولكنّه الله المُتجسّد من أجل محبّته..
وهل تحفظين السبت؟ سألتها سارة مستنكرة كلامها.
أجابتها ماريا: إنّنا نحفظ الأحد لأنّ فيه قيامة الربّ من بين الأموات، ونحتفل بالقيامة معًا في الكنيسة.
- ألم أقل لك إنكم انحرفتم عن إيمان الأجداد، فلقد أمر الربّ بحفظ السبت كفريضةٍ أبديّةٍ، وأنتم رفضتم كلام الربّ..
ابتسمت ماريا كما لو كانت أمام طفلٍ قد تشبّث برأيه وهي تقول: هل تعلمين أنّ كلمة سبت تعني راحة بالعبريّة؟
- بالطبع.
- إذًا فإنّ الوصيّة هي أنْ نحفظ يومًا للراحة نُكرّسه للربّ، نرتاح فيه من أعمالنا الخاصة لنتفرّغ للصلاة وعمل الخير.
- إنكم تُحوِّلون الوصيّة.
- بل نفهمها حسبما أراد الربّ.
- أنا لا أريد الدخول في جدالٍ معك، فقط اتركيني وحدي.
- وأنا لم آت لأخوض معك في جدلٍ، فقط جئت لأطمئن عليك ولأرى إنْ كنت في حاجة للحديث مع أحدٍ..
- شكرًا.. ولكنّي لا أتحدّث مع مسيحيّات..
ابتسمت ماريا وهي تقول، بينما ترفع عينيها صوب الطاقة أعلى الغرفة: الربّ يملأ قلبك بالسلام والراحة والفرح..
رجعت ماريا إلى ركنها بجوار ميلانيه وإيلارية وبدأن في التسبيح بصوتهن العذب السماوي فتردّد صداه في أروقة السجن ..
الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ،
الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا
وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ.
الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ،
لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ.
الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ.
لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ كَخِرَافٍ ضَالَّةٍ،
لَكِنَّكُمْ رَجَعْتُمُ الآنَ إِلَى رَاعِي نُفُوسِكُمْ وَأُسْقُفِهَا


الساعة الآن 10:09 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025