![]() |
كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
|
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
السفر الأول: النصائح المفيدة للحياة الروحية (أنا نور العالم.. مُنْ يتبعني فلا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة)! "طُوبى لمن يُعلمهُ الحقُّ بذاته... ليصمُت جميعُ المُعلمين، ولتسكت الخلائقُ كُلُها في حضرتك. وأَنتَ وحدكَ كلّمني" (1 اقتداء 3: 1و2). |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الاقتداء بالمسيح واحتقار اباطيل العالم كلها
1 – " مَن يتبعني – يقول الرَّبّ – فلا يمشي في الظلام" (يوحنا 8: 12). ذاك هو كلام المسيح، يحضُّنا به على التَّشبُّه بسيرته وأخلاقه، إن أردنا الاستنارة الحَّقة، والتحرُّر من كل عمىً في القلب. فليكن إذن جلُّ اهتمامنا، التأمل في حياة يسوع المسيح. 2 – إنَّ تعليم المسيح يفوق تعاليم القديسين كلَّها، ومن كان فيه روح المسيح، فإنه واجدٌ في تعليمه المنَّ الخفيّ. بيد أنَّ كثيرين، في الواقع، قلَّما يتأثَّرون بسماعهم المتوتر للإنجيل، إذ ليس فيهم روح المسيح. فمن أراد أن يتفهم جيدًا ويتذوَّق أقوال المسيح، فعليه أن يجتهد في التوفيق بين حياته كُلّها وحياة المسيح. 3 – ماذا يفيدك البحث العميق في الثالوث، إن خلوت من التواضع، بحيث تصبح غير مرضي لدى الثالوث. حقًا ليست الأقوال السامية هي التي تجعل الإنسان قديسًا وصدّيقًا، بل السيرة الفاضلة هي التي تجعله عزيزًا على الله. إني أُفضل الشعور بانسحاق القلب، على معرفة تحديده. لو عرفت على ظهر قلبك كلَّ الكتاب المقدَّس، وأقوال الفلاسفة جميعًا، فأيُّ نفعٍ لك في ذلك كله، إن خلوت من محبة الله ونعمته؟ "باطلُ الأباطيل وكلُّ شيءٍ باطل" (الجامعة 1:2)، ما خلا حُبَّ الله والتعبد له وحده. هذه هي الحكمة السامية: ان يسعى الإنسان إلى الملكوت السماويّ، باحتقاره العالم. 4 – فباطلٌ إِذن طلب الأموال الزَّائلة والاتكال عليها. باطلٌ أيضًا الطمع في الكرامات، والتطاول الى المرتبة الرفيعة. باطلٌ اتباع شهوات الجسد، وابتغاء ما يستوجب لنا أخيرًا شديد العقاب. باطلٌ تمنّي العمر الطَّويل، مع قلَّة الاكتراث لعيشةٍ صالحة. باطلٌ قصر النظر على الحياة الحاضرة، وعدم التبصُّر في الامور المستقبلة. باطلٌ حبُّ ما يزول بكل سرعة، وعدم الإسراع الى مقر الفرح الدائم. 5 – تذكر مرارًا هذا المثل:" ألعين لا تشبع من النظر، والأُذن لا تمتلئُ من السمع". فاجتهد إذن أن تصرف قلبك عن حبِ المنظورات، وتنتقل به إلى غير المنظورات. فإنَ الذين ينقادون للحواس، يدنسون ضمائرهم، ويفقدون نعمة الله. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في استحقار الإنسان نفسه 1 – كلُّ إنسان، من طبعه، يرغبُ في العلم؛ ولكن ماذا ينفع العلم من غير مخافة الله؟ إنَّ الأميَّ الوضيع، المتعبد لله لأفضل، حقًا من الفيلسوف المتكبر، الذي يرصد دوران الفلك، وهو غافلٌ عن نفسه. من يحسن معرفة نفسه، يحتقر ذاته، ولا يلتذُّ بمديح الناس. لو كنتُ أعرف كلَّ ما في العالم، ولم تكن فيَّ المحبة، فماذا يُفيدني ذلك أمام الله، الذي سوف يدينني على أعمالي؟ 2 – كُفَّ عن الرغبة المفرطة في العلم، فإنَّ فيها كثيرًا من التشتت والغرور. إنَّ أهل العلم يرومون أن يظهروا وأن يدعوا حكماء. كثيرةٌ الأمور التي قلَّما تفيد النفس معرفتها، وقد لا يفيدها البتَّة. إنه لعلى جانبٍ عظيم من الحماقة، من يهتم بغير ما يأُولُ إلى خلاصه. كثرةُ الكلام لا تُشبع النفس، بل العيشةُ الصالحةُ تثلجُ القلب، ونقاوةُ الضمير تنشئُ ثقةً بالله عظيمة. 3 – بمقدار ما تزدادُ توسعًا وتعمقًا في العلم، تكونُ دينونتُكَ أشدَّ قسوةً، إن لم تزدد سيرتك قداسة. فلا يزُهونَّكَ علمٌ أو فنّ، بل خف بالحريّ لما أُتيت من معرفة. إن خُيّل إليك أنك واسع العلم، سريع الإدراك، فاعلم مع ذلك أنَّ ما تجهلُ أكثر بكثير. "لا تستكبر" (رومانيين 11: 20)، بل بالحري أقرر بجهلك. لم تريد أن تُفضل نفسك على غيرك، وكثيرون هم أعلى منك، وأفقه في شريعة الله؟ إن أردت أن تتعلم وتعرف شيئًا مُفيدًا، فارغب في أن تكون مجهولًا ومعدودًا كلا شيء. 4 – إن أسمى الدروس وأجزلها فائدة، أن يعرف الإنسان نفسه معرفة حقة، ويزدري ذاته. إنها لحكمةٌ سامية، وكمالٌ عظيم، أن لا يحسب الإنسان نفسه شيئًا، وأن يحسن الظنَّ دومًا بالآخرين ويجلَّ قدرهم. إن رأيت أحدًا يخطأُ جهرًا -وإن خطأً جسيمًا- فلا يحقُّ لك، مع ذلك، أن تعدَّ نفسك أفضل منه، لأنك لا تعلم كم تستطيع أن تثبُت على الصلاح. كلُّنا ضعفاء، أمَّا أنتَ، فلا تحسب أحدًا أضعف منك. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في تعليم الحق 1. طوبى لمن يعلمه الحق بذاته، لا برموز وألفاظ عابرة بل كما هو في ذاته. إن رأينا وحكمنا كثيرا ما يخدعاننا ولا يريان إلا القليل. ماذا يفيد الجدال العنيف في أمور خفية غامضة، لمن نوبخ في الدينونة على جهلنا لها؟ إنها لحماقة عظيمة أن نهمل النافع الضروري ونبالغ في الإقبال على الأمور الغريبة المضرة "لنا عيون ولا تبصر". 2. ما لنا والاهتمام بالأجناس والأنواع؟ إن من يكلمه الكلمة الأزلي ينجو من تعدد الآراء. من الكلمة وحده كل شيء وعنه وحده يتكلم كل شيء: هو المبدأ "وهو الذي يكلمنا". ما من احد بدونه يفهم أو يحكم بالصواب. من كانت عنده كل الأشياء واحدا، ورد كل شيء إلى واحد، ورأى كل شيء في الواحد يستطيع ان يكون ثابت القلب، وان يستمر في الله بسلام.. اللهم أيها الحق اجعلني وإياك واحدًا في محبة دائمة. إني أسأم غالبا لكثرة القراءة والاستماع، ففيك أنت كل ما أريد واشتهي. ليصمت جميع المعلمين ولتسكت الخلائق كلها في حضرتك، وأنت وحدك كلمني. 3. بمقدار ما يخلو الإنسان بنفسه، وتخلص طويته يدرك أمورا أوفر وأسمى، من غير ما عناء، لأنه من العلاء ينال نور الفهم. الروح الطاهر الخالص غير المتقلقل، لا تشتته كثرة الأعمال، لأنه يعمل كل شيء لمجد الله، ويجتهد أن يحجم في ذاته، عن كل سعي لمنفعة ذاته. ما الذي يعوقك ويزعجك، أكثر من أميال قلبك غير المماتة؟ الرجل الصالح العابد يرتب أولا في داخله ما يجب أن يعمل في الخارج، فلا تجره أعماله إلى شهوات الميل الرديء بل هو يخضعها لحكم العقل السديد. أي جهاد أشد من جهاد الإنسان الدائب على قهر نفسه، فهذا ما يجب أن يكون شغلنا: أن نقهر ذواتنا، وأن نزداد قوة في كل يوم، ونحرز بعض التقدم في الصلاح. 4. كل كمال في هذه الحياة يلازمه شيء من النقص، وكل معرفة لنا لا تخلو من بعض الغموض. إن معرفتك لنفسك بالتواضع، لطريق إلى الله، آمن من البحث العميق في العلم. لا ينبغي ذم العلم، ولا أي معرفة بسيطة للأمور لأن ذلك حسن في ذاته، ومرتب من قبل الله، إنما يجب دائما أن يؤثر الضمير النقي، والسيرة الفاضلة. على أن كثيرين، لكونهم يهتمون للعلم، أكثر من اهتمامهم لسيرة صالحة، يضلون غالبا فلا يكادون يثمرون البتة، أو قلما يثمرون. 5. آه! لو كانوا يبذلون لاستئصال الرذائل وغرس الفضائل، ما يبذلون من النشاط لإثارة المناقشات، لما حدثت تلك الشرور والمعاثر الجسيمة في الشعب، ولا ذلك التراخي في الأديار. من الثابت أننا إذا حل يوم الدين، لن نسأل عما قرأنا بل عما فعلنا، ولا عن درجة فصاحتنا في الكلام بل عن مقادر تقوانا في الحياة. قل لي: أين هم الآن جميع أولئك السادة والمعلمين الذين عرفتهم جيدا وهم أحياء زاهرون بالعلوم؟ إن وظائفهم يشغلها الآن آخرون، ولا أدري هل هم يخطرون على بال هؤلاء. لقد كانوا في حياتهم يبدون كأنهم شيء عظيم أما الآن فليس من يأتي بذكرهم. ((سرعان ما يزول مجد العالم)). ليت سيرتهم كانت على وفق علومهم إذن لكانوا أحسنوا الدرس والمطالعة. ما أكثرهم في العالم، أولئك الذين يهلكون بسبب العلم الباطل، وقلة اهتمامهم بعبادة الله! فإنهم لإيثارهم العظمة على التواضع، يضمحلون في أفكارهم. العظيم حقا، من كانت محبته عظيمة. العظيم حقا، من كان صغيرا عند نفسه، وحسب كل ذرى المجد كلا شيء. الحكيم حقا، من عد الأرضيات كلها أقذارا ليربح المسيح. والعالم العالم حقا، من يعمل إرادة الله، ويهمل إرادة نفسه. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في التبصُّر في الأعمال 1- لا ينبغي لنا أن نصدق كل قول، ولا أن نثق بكل هاجس، بل علينا أن نَزِن الأشياء. واحسرتاه على ضعفنا فإنا كثيرا ما نصدق أو نقول الشر في الآخرين، بأسهل مما نصدق أو نقول الخير. أما ذوو الكمال، فلا يطمئنون بسهولة إلى كل محدث، لأنهم يعرفون ما في الضعف البشري، من جنوح إلى الشر، ومن سرعة زلل في الكلام. 2- إنها لحكمة عظيمة، أن يتسرع الإنسان في الأعمال وأن لا يتمسك، بعناد، بآرائه الخاصة. ومن الحكمة أيضًا، أن لا نصدق كل ما يقول الناس وأن لا نعجل فنذيع على مسامع الآخرين، ما سمعناه أو صدقناه. التمس مشورة الرجل الحكيم، الصادق الضمير، وآثر أن يرشدك من هو خير منك، أولى من أن تتبع آراءك الذاتية. السيرة الصالحة، تجعل الإنسان حكيما بحسب الله، وخبيرا في شؤون كثيرة. بقدر ما يزداد الإنسان اتضاعًا في ذاته، وخضوعا لله، تزداد في كل حكمته وطمأنينته. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في مطالعة الكتب المقدسة 1- يجب أن تبتغى في الكتب المقدسة، الحقيقة، لا الفصاحة، وان يقرأ الكتاب المقدَّس كله، بالروح الذي أوحاه. فلنطلب إذن بالأولى، في الأسفار المقدسة، الفائدة لا براعة الكلام. كذلك علينا أن نرتاح لقراءة الكتب التقوية البسيطة، ارتياحنا لقراءة الكتب السامية والبليغة. لا يوقفنك شأن المؤلف: أمن كبار الأدباء هو أم من صغارهم؟ بل فليحملك على المطالعة حب الحقيقة الخالصة. لا تسل عمن قال، بل انظر إلى ما يقال. 2- الناس يزولون، أما ((صدق الرب، فيدوم إلى الأبد)). إن الله يكلمنا بطرق مختلفة، ومن غير محاباة للوجوه. كثيرا ما يكون الفضول عائقا لنا، في مطالعة الكتب المقدسة، إذ نريد التفهم والجدال، حيث ينبغي العبور ببساطة. إن شئت أن تجني نفعا، فاقرأ بتواضع وبساطة وإيمان، ولا تبتغ أبدا سمعة العلم. ارتح إلى السؤال، وأصغ صامتا إلى أقوال القديسين، ولا تسوك أمثال الشيوخ، فإنه لم ينطق بها عبثا. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الأميال المُنحرفة 1- كلما اشتهى الإنسان شيئا على خلاف الترتيب، عاد في الحال قلقا في نفسه. المتكبر والبخيل لا يستريحان أبدا، أما المسكين والمتواضع بالروح، فيعيشان في وفرة السلام. من لم يمت بعد لنفسه موتًا كاملًا، يجرب سريعًا ويغلب في أمور زهيدة تافهة. من كان بعد ضعيف الروح، غير مستكمل التحرر من الجسد، ومائلا إلى المحسوسات، فإنه لا يستطيع من غير صعوبة، أن يمتنع تمامًا عن الشهوات الأرضية. فلذلك كثيرا ما يغتم عند امتناعه عنها، وإن قاومه أحد، غضب بسهولة. 2- وإن نال بغتة، أعنته في الحال توبيخ ضميره، لأنه اتبع هواه فلم ينله الهوى ما طلب من السلام. فسلام القلب الحقيقي إذن، إنما هو في مقاومة الشهوات لا في التعبد لها. وليس من سلام في قلب الإنسان الشهواني، ولا في الإنسان المكب على الأمور الخارجية، بل في الإنسان الروحي، المضطرم العبادة. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الهرب من الآمال الباطلة ومن التشامخ 1- إنه لفاقد اللب، من يجعل رجاءه في الناس، أو في غيرهم من الخلائق. لا تستحي أن تخدم الآخرين حبا ليسوع المسيح، ولا أن تظهر فقيرًا في هذا العالم. لا تعتمد على نفسك، بل اجعل في الله رجاءك. اعمل ما في وسعك، والله يعضد حسن نيتك. لا تتكل على علمك، أو على دهاء أحد من البشر، بل بالحري على نعمة الله، الذي ينصر المتواضعين، ويذل الواثقين بأنفسهم. 2- لا تفتخر بالغنى، إذا توفر لك، ولا بالأصدقاء على أنهم مقتدرين، بل بالله الذي يمنح كل شيء، ويرغب فوق كل شيء، أن يهب ذاته. لا ترتفع لقامتك أو لجمال لجسمك، فإن مرضًا طفيفًا قد يفسده ويذويه. لا تعجب بنفسك لمهارتك وذكائك، لئلا تسوء في عيني الله، الذي منه كل ما فيك من خير طبيعي. 3- لا تحسب نفسك أفضل من الآخرين لئلا تعد شرًا منهم لدى الله "العالم بما في الإنسان". لا تستكبر بأعمالك الصالحة، فإن أحكام الله تغاير أحكام الناس، وما يروق البشر، كثيرًا ما يسوء في عينيه. إن كان فيك بعض الصلاح، فأيقن أن في الآخرين ما هو أفضل، لكي تستمر على التواضع. لا ضير عليك إن وضعت نفسك دون الجميع، لكنه يضرك كثيرا أن ترتفع، وإن على واحد فقط. للمتواضع سلام دائم، أما المتكبر، فالحسد والغضب غالبا في قلبه. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الحذر من الألفة المفرطة 1 – "لا تكشف قلبك لكلِّ إنسان" (ابن سيراخ 8: 22)، بل عالج أمرك مع الحكيم المتقي لله. كن في النَّادر مع الأحداث والغرباء. لا تتلمق الأغنياء، ولا ترتح إلى الظهور أمام العظماء. صاحب الوضعاء والسذَّج، والأتقياء وحميدي السيرة، وكلمهم بما فيه البنيان. لا تؤالف امرأة على الإطلاق، بل استودع الله، إجمالًا، جميع النساء الصَّالحات. تق أن لا تؤالف سوى الله وملائكته، وتجنب أن يعرفك الناس. 2 - المحبة واجبةٌ للجميع، أمَّا المؤالفة فلا تليق مع الجميع. قد يتفق أحيانًا أنَّ شخصًا يشتهر بحسن السمعة، ما دام مجهولًا، فإذا حضر، ساء في عيون الناظرين. قد نظنُّ في بعض الأحيان، أنَّا نسرُّ الآخرين بملازمتنا لهم، على حين نبدأ بالحري نسوء في عيونهم، لما يرون فينا من رداءة السيرة. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الطاعة والخضوع 1 – إنه لأمر عظيمٌ جدًّا، أن يعيش الإنسان في الطاعة خاضعًا لرئيس، وغير مالكٍ زمام نفسه. إنَّ الخضوع لآمن، بكثيرٍ، من الرئاسة. كثيرون هم تحت الطاعة عن اضطرار، أولى ممَّا عن محبَّة، فهؤلاء هم في عذاب، وبسهولةٍ يتذمرون. ولن يحصلوا على حرّيَّة الروح، ما لم يخضعوا، من كل قلوبهم، لأجل الله. جُل حيثما شئت: فإنك لن تجد الراحة، إلاَّ في الخضوع، بتواضع، لتدبير الرَّئيس. كثيرون ظنُّوا أنَّ تبديل الأماكن يفيدهم، فغرهم ظنُّهم. 2 – لا شكَّ أن كلَّ واحدٍ يحبُّ العمل بحسب رأيه، ويميل بالحري إلى الذين يرون رأيه. ولكن، إن كان الله في ما بيننا، فمن الضَّروريّ، أحيانًا، أن نتخلَّى حتى عن آرائنا الذَّاتية، لأجل السلام. ومن تراه صار من العلم، بحيث يعرف كلَّ شيء تمام المعرفة؟ فلا تثق إذن برأيك بإفراط، بل أصغ أيضًا بارتياحٍ لرأي الآخرين. إن كان رأيك صائبًا، وتركته لأجل الله، واتبعت رأيًا آخر، فإنك تجني من ذلك فائدةً أعظم. 3 – كثيرًا ما سمعت أنَّ الإصغاء وقبول المشورة، آمن من إسدائها. وقد يتفق أيضًا أن تكون آراء كلّ واحدٍ حسنة، ولكنَّ رفض مجاراة الآخرين، عندما يقتضيها العقل أو الأحوال، لدليلٌ على الكبرياء والعناد. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في تجنب الكلام الناقل 1 – إجتنب، ما استطعت، جلبة الناس، فإنَّ الأحاديث عن الشؤون العالميَّة تعوق كثيرًا، وإن كانت على نيةٍ سليمة. سرعان ما تدنسنا الأباطيل وتأسرنا! أود لو أني، مرَّاتٍ كثيرة، حفظت الصمت ولم أكن بين الناس. ولكن لم نرتاح جدًا إلى الكلام والتحدث بعضنا إلى بعض، ونحن قلَّما نعود إلى الصمت، من غير انثلامٍ في الضَّمير؟ إنَّا لنرتاح جدًّا إلى الكلام، لأنَّا، بتبادل الحديث، نبتغي التعزية بعضنا من بعض، ونرغب أن ننعش قلبنا، المتعب بمختلف الأفكار. وأكثر ما نرتاح إليه في الحديث والتأمل، إنمَّا هو الأُمور التي نحبها أو نشتهيها بالأكثر، أو تلك التي نراها معاكسة لأميالنا. 2 – ولكن -يا للأسف!- كثيرًا ما يكون ذلك عبثًا وباطلًا. فإنَّ هذه التَّعزية الخارجَّية، إنمَّا تلحق ضررًا جسيمًا بتعزيات الله الدَّاخلية. فيجب إذن السهر والصلاة، لئلاَّ يمرَّ الزَّمن في البطالة. إذا كان الكلام جائزًا ونافعًا، فتكلَّم بما هو للبنيان. إنَّ العادة الرَّديئة، والتَّهاون في أمر تقدُّمنا، لمن أكبر الموانع لنا عن ضبط أفواهنا. على أنَّ المذاكرة التقويَّة في الأمور الرُّوحيَّة، تفيد كثيرًا للتَّقدُّم الرُّوحي، ولا سيما إذا اجتمع في الله قومٌ، قد تماثلوا في القلب والرُوح. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في تحصيل السلام وفي الغيرة على التقدم 1- لولا رغبتنا في الاهتمام بأقوال الآخرين وأفعالهم وبالأمور التي لا تعنينا، لكان في استطاعتنا أن نتمتع بسلام وافر. كيف يستطيع البقاء طويلا في السلام، من يتدخل في مهام الآخرين، أو من يطلب فرص الاندفاع إلى الخارج، ولا يختلي في نفسه إلا قليلا أو نادرا؟ طوبى للسذج! فإنهم يحصلون على سلام وافر. 2- لم بلغ بعض القديسين درجة سامية من الكمال والمشاهدة؟ لأنهم اجتهدوا في إماتة أنفسهم، إماتة كاملة، عن جميع الشهوات الأرضية، فاستطاعوا أن يتحدوا بالله من صميم قلوبهم، ويتفرغوا لذواتهم بحرية. أما نحن، فشغلنا الشاغل في أهوائنا الذاتية، واهتمامنا المفرط في الأمور الزائلة. إنه لمن النادر أن نقمع تمامًا، ولو رذيلة واحدة، ثم إننا لا نضطرم غيرة على تقدمنا اليومي، ولذلك نبقى باردين، لا حرارة فينا. 3- لو كنا أمواتا عن أنفسنا بالتمام، وأقل ارتباكًا في دواخلنا، إذن لاستطعنا أن نتذوق حتى الأشياء الإلهية، ونخبر شيئا من المشاهدة السماوية. إن العائق الأعظم بل الوحيد، هو أننا غير أحرار من الأهواء والشهوات، ولا نجتهد أن نسلك طريق القديسين الكامل. فإذا عرضت لنا شدة طفيفة، فشلنا في الحال وعمدنا إلى التعزيات البشرية. 4- لو اجتهدنا أن نثبت كرجال بأس في القتال، لرأينا بلا ريب، معونة الرب، تنحدر علينا من السماء. فإنه مستعد لنصرة المجاهدين، والمتوكلين على نعمته، لأنه هو الذي يوفر لنا أسباب الجهاد، كيما ننتصر. إن حصرنا تقدمنا الروحي في الممارسات الخارجية فقط، فتقوانا صائرة سريعًا إلى الزوال. ولكن لنضع الفأس على أصل الشجرة، حتى إذا تطهرنا من أهوائنا، نحصل على سلام الروح. 5- لو كنا في كل سنة نستأصل رذيلة واحدة لصرنا سريعا رجالا كاملين. لكننا نشعر غالبا أن الأمر على عكس ذلك: أي أننا في بدء حياتنا الرهبانية قد كنا أفضل وأطهر مما نحن عليه الآن، بعد سنين كثيرة قضيناها في تلك العيشة. لقد كان من الواجب أن تنمو حرارتنا وتقدمنا كل يوم، أما الآن فيحسب أمرا عظيما أن يحافظ أحدنا على شيء من حرارته الأولى. لو كنا، في البدء نغضب أنفسنا قليلا، إذن لكان بوسعنا في ما بعد، أن نضع كل شيء بسهولة وفرح. 6- إنه لأمر شاق الإقلاع عن العادات وأشد مشقة منه، مخالفة الإرادة الشخصية. فإن لم تذلل الآن الصعوبات الصغيرة الطفيفة، فمتى تنتصر على ما هو أشد منها؟ قاوم ميلك في بدئه، واقلع عن العادة الرديئة لئلا تستدرجك رويدًا، إلى صعوبة أشد. آه! لو كنت تدرك أي سلام تجني لنفسك، وأي فرح تجلب للآخرين، إن أحسنت سيرتك، لكنت في ما أظن أكثر اهتماما بشأن تقدمك الروحي. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في منفعة الشدة 1 – حسنٌ لنا أن تنتابنا، أحيانًا، بعض الشدائد والمعاكسات، لأنَّها كثيرًا ما تردُّ الإنسان إلى نفسه، لكي يعرف أنه في المنفى، فلا يجعل، من بعد، رجاءه في شيءٍ من العالم. حسنٌ لنا أن يعاكسنا الناس أحيانًا، وأن يظنوا فينا السُّوء والنقَّص -وإن كانت أعمالنا ونيَّاتنا صالحة- فكثيرًا ما يعود علينا ذلك بالخير، لحفظ التواضع، والوقاية من المجد الباطل. فإنَّنا، إذا استحقرنا الناس في الخارج، ولم يحسنوا بنا الظَّنّ، فحينئذٍ نؤثر أن نتَّخذ الله شاهدًا على دواخلنا. 2 – فعلى الإنسان إذن، أن يوطد نفسه في الله، بحيث لا تعود به حاجةٌ لالتماس كثيرٍ من التَّعزيات البشريَّة. إنَّ الرَّجل الصَّالح الإرادة، إذا حصل في ضيقٍ أو تجربة، أو عنّي بالأفكار الشّرّيرة، فحينئذٍ يدرك شدَّة احتياجه إلى الله، ويرى أنَّه، بدونه، لا يستطيع شيئًا من الصلاح. وحينئذٍ أيضًا، يحزن ويئن ويتضرع، لما أصابه من الشَّقاء. "حينئذٍ يملُّ طول الحياة" (2كورنثيين 1: 8)، ويتمَّنى دنو أجله، لكي "ينحلَّ فيكون مع المسيح" (فيليبيين 1: 23). وحينئذٍ أيضًا، يدرك تمام الإدراك، أنه لا يمكن أن تدوم في العالم طمأنينةٌ كاملة، او سلامٌ تامّ. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في مقاومة التجارب 1 - ما دمنا في هذه الحياة، لا يمكن أن نخلو من الضِّيق والتَّجربة. ولذلك قد كتب في سفر أيُّوب:" تجربةٌ هي حياة الإنسان على الأرض" (أيوب 7: 1). فعلى كلّ واحدٍ أن يجعل همَّه في مجابهة تجاربه، وأن يسهر ويصلّي، لئلاَّ يجد إبليس موضعًا لإغوائه، فإنَّه لا ينعس أبدًا، بل "يجول ملتمسًا من يفترسه" (1 بطرس 5: 8). ما من أحدٍ، أيًّا كان كماله وقداسته، إلاَّ وتهاجمه التجارب أحيانًا، فمن المحال أن نخلو منها تمامًا. 2 – على أنَّ التَّجارب أحيانًا -وإن عنيفةً مرهقة- كثيرًا ما تكون جزيلة الفائدة للإنسان، أنها تذلّله وتنقّيه وتؤدّبه. فالقدِّيسون جميعًا جازوا في المضايق والتَّجارب، فافلحوا. أمَّا الذين لم يقووا على احتمال التجارب، فرذلوا وسقطوا. ما من رهبنةٍ، أيًَّا كانت قداستها، ولا موضعٍ، أيًّا كانت خلوته، إلاَّ وهناك تجارب وشدائد. 3 – ما دام الإنسان في الحياة، فليس له تمام الأمن من التَّجارب، لأن مصدر تجاربنا هو فينا، إذ نحن في الشهوة مولودون. فإن بارحتنا تجربةٌ أو شدَّة، حلَّت مكانها أُخرى، وسيبقى لنا أبدًا مضايق نعانيها، لأنَّ خير سعادتنا قد خسرناه. كثيرون يطلبون الهرب من التَّجارب، فيقعون فيها وقوعًا أشد. بالهرب وحده لا نستطيع الغلبة، لكن الصبر والتواضع الحقيقيّ، يجعلاننا أقوى من جميع الأعداء. 4 – من لم يحد عن الشَّرّ إلاَّ في الخارج فقط، دون أن يقتلعه من أُصوله، فقلَّما يتقدَّم، بل سرعان ما تعاوده التَّجارب، فتزداد حاله سوءًا. الغلبة بالتَّمهُّل والصبر وطول الأناة، أيسر عليك منها بالقسوة واللجاجة. أكثر من طلب المشورة إبَّان التَّجربة، ولا تعامل بقسوةٍ من كان مجرَّبًا، بل عزه كما تودّ أن يصنع لك. 5 – أوَّل جميع التَّجارب الشّريرة، تقلُّب النَّفس وقلَّة الثّقة بالله، فكما أنَّ السَّفينة التي بلا دفَّة، تتقاذفها الأمواج من كل جهة، كذلك الإنسان المتراخي، النَّاكص عن قصده، يمتحن بتجارب مختلفة. "النَّار تمتحن الحديد" (ابن سيراخ 31: 31)، والتَّجربة الرَّجل الصّدّيق. كثيرًا ما نجهل مقدار قوَّتنا، لكن التَّجربة تظهر ما نحن عليه. بيد أن السهر واجبٌ خصوصًا في أول التَّجربة، لأنَّ العدَّو يغلب بسهولةٍ أكبر، إذ منعناه منعًا باتًا عن ولوج باب النفس، وبادرنا، حال قرعه له، نلاقيه خارج العتبة. وقد قال أحدهم في ذلك:" قاوم الدَّاء في أوله، لئلاَّ يزمن بتأخُّر الدَّواء" (اوفيديوس: دواء الحب 91). ففي البدء يخطر على البال فكرٌ بسيط، ثم تصوُّرٌ قوي، ثم اللَّذَّة، فالحركة الرديئة، فالرضى. وهكذا يتغلغل العدو الخبيث، تدريجًا، إلى النَّفس كلّها، إن لم يردَّ من أول أمره. وبقدر ما يتأخر المرء ويتوانى في المقاومة يزداد كل يومٍ ضعفًا في نفسه، فيما عدوُّه يزداد قوةً عليه. 6 – إنَّ بعضًا يقاسون أشدَّ التَّجارب في بدء اهتدائهم، وبعضًا في النهاية، وغيرهم لا تكاد المحن تفارقهم، حياتهم كلها. وهناك أيضًا مَنْ يجربون برفقٍ، على حسب الحكمة والعدل في ترتيب الله، الذي يروز أحوال البشر واستحقاقاتهم، ويسبق فيدبر كل شيءٍ لخلاص مختاريه. 7 – ولذلك ينبغي أن لا نيأس عند التَّجربة، بل نتضرع إلى الله بحرارةٍ أعظم، ليرتضي ويساعدنا في كل ضيقة، فإنه، حقًا، على حد ما يقول بولس، "يجعل مع التَّجربة مخرجًا، لنستطيع احتمالها" (1 كورنثيين 10: 13). " فلنضع إذن تحت يد الله" (1 بطرس 5: 6) في كلّ تجربة وضيق، لأنه "يخلص ويرفع المتواضعين بالروح" (مزمور 33: 19). 8 – في التَّجارب والمضايق يختبر كم تقدَّم الإنسان، وفيها يعظم استحقاقه، وتتضح فضيلته بجلاء أوفر. ليس بعظيمٍ أن يكون الإنسان متعبدًا حارًا، ما دام لا يشعر بعناء، لكنه إن ثبت على الصبر في أوان الشدَّة فله الأمل بتقدُّم عظيم. من الناس من يصانون من التَّجارب الكبيرة، وهم كثيرًا ما يغلبون في التَّجارب الصغيرة اليوميَّة، وذلك لكي يتَّضعوا، فلا يثقوا بأنفسهم في الأمور الخطيرة، حال كونهم يضعفون عن أُمور طفيفة جدًّا. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في اجتناب الدينونة الباطلة 1- حول عينيك إلى نفسك، واحذر أن تدين أفعال الآخرين. عبثا يتعب الإنسان بدينونته الآخرين، وكثيرًا ما يضل، وما أسهل ما يخطأ! أما إذا دان نفسه وناقشها، فتعبه يكون أبدًا مثمرًا. كثيرا ما نحكم في الأمور بحسب قلبنا منها، وما أسهل ما نفقد الحكم الصوابي، بسبب حبنا لذواتنا! لو كان الله، دائما الغاية الخالصة لأمانينا، لما كنا نضطرب بمثل هذه السهولة، إذا قاوم أحد رأينا. 2- ولكن ما يحملنا على العمل هو في الغالب دافع خفي في داخلنا، أو جاذب يأتينا من الخارج أيضًا. كثيرون يطلبون أنفسهم سرًا في أعمالهم وهم لا يعملون. لا بل يبدون موطدين في سلام حقيقي، ما دامت الأمور تجري وفق إرادتهم ورأيهم. فإذا حدث أمر على خلاف ما يشتهون، اضطربوا في الحال واكتأبوا. إن اختلاف الآراء والأفكار، هو الذي كثيرا ما يولد الخصومات بين الأصدقاء، وبين المواطنين بل بين الرهبان وأهل العبادة. 3- العادة القديمة تترك بصعوبة، وما من احد يرضى بالانقياد لما يتجاوز مدى نظره. إن اعتمدت على عقلك ودهائك أكثر من اعتمادك على قوة يسوع المسيح القاهرة، فقلما تبلغ الاستنارة -وإن بلغتها، فبعد الأوان- لأن الله يريد أن نخضع له خضوعًا كاملًا، وأن نتعالى فوق كل عقل باضطرام الحب. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الأعمال الصادرة عن المحبة 1 – لا يجوز أبدًا فعل شيءٍ من الشَّرّ، لأيّ علَّةٍ كانت، ولا جبًّا لأي أحدٍ من الناس. على أنه يسوع أحيانًا، لأجل فائدة المحتاج، أن يرجأ العمل الصَّالح، بل يبدَّل بعملٍ أفضل. إذ بذلك لا ينقَّض العمل الصَّالح، بل يبدَّل بما هو خيرٌ منه. العمل الخارجيُّ، بدون محبَّة، لا يفيد شيئًا، أمَّا ما يعمل عن محبَّة، فمهما صغر وحقر، فإنه بجملته يصبح مثمرًا، لأنَّ الله يقدر الباعث على العمل، أكثر من العمل نفسه. 2 – إنه ليعمل كثيرًا، من يحبُّ كثيرًا. إنه ليعمل كثيرًا، ذاك الذي يحسن عمله، وإنه ليحسن العمل، ذاك الذي يقدّم خير الجمهور، على إرادته الذَّاتيَّة. كثيرًا ما يبدو لنا عمل محبَّة، ما هو بالحري وليد الشهوة، فإن أعمالنا قلَّما تخلو من الميل الطَّبيعيّ، والإرادة الشخصيَّة، وأمل المكافأة، والطَّمع في المنفعة. 3 – من كانت فيه المحبة الحقيقيَّة الكاملة، لا يطلب نفسه في أمرٍ البتَّة، بل رغبته الوحيدة، أن يتمجد الله في كل شيء. وهو لا يحسد أحدًا، لأنه لا يحب أن يختصَّ نفسه بفرحٍ ما، أو يجعل فرحه في ذاته، بل ما يتوق إليه، إنَّما هو التنعم في الله، فوق جميع الخيرات. لا ينسب من الصَّلاح شيئًا لأحد، بل يعيد كل شيءٍ إلى أصله وينبوعه، إلى الله هو غاية القديسين جميعهم، وراحتهم ونعيمهم. آه! من كانت فيه شرارةٌ من المحبة الحقَّة، فإنه يشعر، دون ما ارتياب، أنَّ جميع الأرضيات ملأى من الباطل. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في احتمال نقائص الآخرين 1 – ما لا يقو الإنسان على إصلاحه، في نفسه أو في غيره، فعليه أن يحتمله بصبر، ريثما يدبر الله خلاف ذلك. فكّر أن هذا قد يكون خيرًا لك، لامتحانك في الصبر، إذ ليس لاستحقاقاتنا، بدون الصبر، كبير قيمة. ولكن عليك أن تتضرع إلى الله بشأن تلك العوائق، ليتنازل ويساعدك، فتستطيع أن تحتملها بوداعة. 2- إذا نصحت لأحدٍ مرَّة أو مرَّتين، ولم ينتصح، فلا تخاصمه، بل فوض كل شيءٍ إلى الله، لتتَّم إرادته، ويبدو مجده في جميع عباده، فإنَّه يعرف جيدًا أن يحول الشَّرَّ إلى خير. اجتهد أن تحتمل بصبرٍ نقائص الآخرين وأوهانهم، أيًّا كانت، فإنَّ فيك، أنت أيضًا، عيوبًا كثيرة، يجب على الآخرين احتمالها. إن كنت لا تقدر أن تجعل نفسك كما تريد، فكيف يمكنك أن تجعل الآخرين وفق مرامك؟ نحبُّ أن يكون الآخرون بلا نقص، أما نحن، فلا نصلح عيوبنا الخاصَّة! 3 – نريد أن يؤدَّب الآخرون بشدَّة، أما نحن، فنأبى التَّأديب! يسوءنا ما للآخرين من حريةٍ واسعة، أمَّا نحن، فنأبى أن يرفض لنا ما نطلب! نريد أن يتقيد الآخرون بالقوانين، أمَّا نحن، فلا نحتمل أن يضيَّق علينا بشيءٍ البتَّة! وهكذا يتَّضح جليًّا، أنَّنا قلَّما نكيل بالمكيال عينه، لأنفسنا وللقريب. لو كان الجميع كاملين، إذن فأيَّ شيءٍ كنَّا نحتمل من قبل الآخرين، لأجل الله؟ 4 – أمَّا الآن، فقد دبر الله الأمور على هذا النَّحو، لكي نتعلَّم أن "نحمل بعضنا أثقال بعض" (غلاطيين 6: 2).إذ لا أحد بغير نقص، ولا أحد بغير ثقل، ليس لأحدٍ كفايةٌ بنفسه، ولا أحد في غنىً عن حكمه الآخرين، بل ينبغي لنا أن نحتمل بعضنا بعضًا، ونعزي بعضنا بعضًا، وأن يساعد أحدنا الآخر، ويرشده وينصح له. فمقدار فضيلة المرء، إنما يتضح بجلاء عند الشدَّة، لأنَّ هذه الفرص لا توهن الإنسان، بل تظهره كما هو. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في السيرة الرهبانية 1- عليك أن تتعلم قمع نفسك في أمور كثيرة، إن ابتغيت حفظ السلام والوئام مع الآخرين. ليس باليسير الإقامة في دير أو في جماعة رهبانية والعيش هناك من غير لوم، والثبات على الوفاء حتى الموت. طوبى لمن عاش هناك عيشة صالحة، وختمها بنهاية سعيدة. إن شئت أن تثبت وتتقدم كما ينبغي في هذه السيرة فاحسب نفسك منفيا وغريبا على الأرض. إن شئت أن تعيش العيشة الرهبانية، فعليك أن تصبح جاهلا من أجل المسيح. 2- الثوب الرهباني، وإكليل شعر الرأس، قلما يفيدان، لكن تغيير السيرة، وإماتة الأهواء إماتة كاملة هما اللذان يجعلان الراهب راهبًا حقًا. من طلب شيئا آخر سوى الله وخلاص نفسه فلن يجد غير الضيق والوجع. ومن لا يجتهد أن يكون أصغر الجميع وخاضعا للجميع، فلا يستطيع البقاء طويلا في السلام. 3- أنت ما جئت إلى الدير إلا لكي تخدم لا لكي تحكم. واعلم أنك للظالم والعمل قد دعيت، لا للبطالة والثرثرة. فهنا يمحص الناس، تمحيص الذهب في الكور، هنا ما من أحد يستطيع الثبات، إلا إذا رضي أن يخضع من كل قلبه لأجل الله. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في قدوة الآباء القديسين 1- إعتبر قدوة الاباء القديسين الحية، الذين تلألأ فيهم الكمال والسيرة الرهبانية الحقة، تر كم هو قليل ما نفعله نحن حتى كأنه لا شيء. آه! ما حياتنا إذا قيست بحياتهم؟ إن القديسين وأحباء المسيح، قد خدموا الرب قي الجوع والعطش في البرد والعريفي التعب والكد في الأسهار والأصوام، في الصلوات والتأملات المقدسة في الاضطهادات والتعييرات الكثيرة. 2- آه! ما أكثر وما أشد المضايق، التي قاساها الرسل والشهداء، والمعترفين، وسائر الذين أرادوا أن يقتفوا آثار المسيح! " فإنهم قد أبغضوا نفوسهم في هذا العالم ليحفظوها للحياة الأبدية. آه! ما أضيق وأقشف العيشة التي عاشها الآباء القديسون في القفر! ما أطول وأشد ما قاسوا من التجارب! ما أكثر ما ضايقهم العدو، ما أوفر وأحر ما قدموا لله من الصلوات! ما أشد ما كان إمساكهم! ما أعظم ما كانت غيرتهم ونشاطهم للتقدم الروحي، ما أشد ما كان جهادهم في قهر الرذائل! ما أخلص وأقوم ما كان توجيه نيتهم إلى الله! في النهار كانوا يشتغلون، وفي الليل يتفرغون للتهجد الطويل، وإن لم يكونوا ليكفوا عن الصلاة العقلية أثناء العمل. 3- لقد كانوا يقضون وقتهم كله في ما هو نافع، وكل ساعة يتفرغون فيها لله كانت تبدو لهم قصيرة، ولعذوبة المشاهدة، كانوا ينسون حتى ضرورة القوت الجسدي. لقد زهدوا في جميع الثروات والرتب والكرامات، وفي الأصدقاء والأقارب، ولم يشتهوا امتلاك شيء في العالم، بالجهد كانوا يتناولون ضروريات المعيشة، بل كانوا يغتمون لخدمة الجسد، حتى في ضرورياته. لقد كانوا فقراء في الأرضيات، ولكن أغنياء جدا في النعمة والفضائل. لقد كانوا بالظاهر في عوز، أما في الداخل فنعمة الله وتعزيته كانتا تنعشانهم. 4- كانوا غرباء عن العالم ولكن مقربين إلى الله، وأصدقاء له مؤالفين. كانوا في أعين أنفسهم كلا شيء، وفي نظر العالم محتقرين، أما في عيني الله فكانوا كراما ومحبوبين. كانوا ثابتين في التواضع الحقيقي، عائشين في الطاعة الساذجة سالكين في المحبة والصبر، فكانوا يتقدمون كل يوم بالروح، وينالون حظوة عظيمة لدى الله. لقد أعطوا كقدوة لجميع الرهبان، ومن الواجب ان تستحثنا سيرتهم على التقدم في الكمال، أكثر مما أن يستدرجنا إلى التراخي عدد الفاترين. 5- ما أعظم ما مانت حرارة جميع الرهبان عند تأسيس رهبانيتهم المقدسة! ما أعظم ما كان ميلهم إلى الصلاة، وتنافسهم في الفضيلة! ما أدق ما كان حفظهم للنظام! كم ازدهر احترامهم وطاعتهم، في كل شيء لقانون معلمهم! إن ما بقي من آثارهم يشهد إلى الآن أنهم كانوا في الحقيقة رجالًا قديسين، جاهدوا ببأس عظيم، فداسوا العالم بأرجلهم. أما الآن، فيحسب عظيما من لا يتعدى القوانين، ومن يستطيع أن يحتمل، بصبر، النير الذي قد رضي به من قبل. 6- يا لفتورنا وتوانينا! يا لسرعة انحطاطنا عن حرارتنا الأولى! فقد أصبح العيش نفسه لنا سأما لكلسنا وفتورنا! أما أنت فبعد ما رأيت من قدوة ذوي الورع الكثيرة، فعسى أن لا ترقد فيك تمامًا، الغيرة على التقدم في الفضائل! |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في رياضات الراهب الصالح 1 – لا بد للرَّاهب الصَّالح، من أن تكون حياته غنيَّة بجميع الفضائل، حتى يكون في داخله، على ما يظهر للناس في الخارج. بل يجب أن يكون، في داخله، أكمل بكثير ممَّا يرى عليه في الخارج، لأنَّ رقيبنا هو الله، الذي من واجبنا، أينما كنا، أن نحترمه احترامًا عظيمًا، ونسلك أمامه بطهارةٍ كالملائكة. علينا أن نجدد العزم كل يوم، وأن نستحثَّ أنفسنا على النَّشاط، كما لو كان اليوم بدء اهتدائنا، ولنقل: أيها الرَّبُّ الإله، أعني في عزمي الصّالح، وفي خدمتك المقدّسة، وامنحني أن أبدأ اليوم كما ينبغي، لأنَّ ما فعلته إلى الآن ليس بشيء. 2 – على حسب عزمنا يكون مدى تقدُّمنا، فلا بدَّ من عظيم الهمَّة لمن أراد حسن التقدم. وإن كان شديد العزم كثيرًا ما يخفق، فكيف بواهي العزم أن بنادره؟ غير أنَّ هناك طرقًا مختلفة، نتراجع بها عن عزمنا، فإهمال طفيف في رياضاتنا لا يكاد يمرُّ من غير ضرر. بنعمة الله ينوط الصّدّيقون عزمهم، أكثر ممَّا بحكمتهم الخاصَّة، وهم على الله يتوكَّلون دائمًا في كل ما يباشرون. " فالقصد للإنسان، أمَّا التَّدبير فلله" (أمثال 16: 9)، "وطريق الإنسان ليست في يده" (ارميا 10: 23). 3 – إذا تركنا، في بعض الأحيان، شيئًا من الرياضات الاعتياديَّة، لأجل عمل برٍّ أو لأجل منفعة الإخوة، فمن السَّهل أن نعوض عنه في ما بعد. أما إذا تساهلنا في تركه عن سأم نفسٍ أو تهاون، فذلك ذنبٌ جسيم، سوف نرى وخيم عاقبته. إنَّا، وإن عملنا كلَّ ما في وسعنا، لا نزال نخفق بسهولة، وفي أُمور كثيرة. بيد أنه يجب علينا دومًا أن نقصد قصدًا معيَّنًا، ولاسيما في الأُمور التي تعوقنا بالأكثر. علينا أن نفحص ونرتب خارجنا وداخلنا على السَّواء، لأنَّ في كليهما فائدة لتقدُّمنا. 4 – إن لم تستطيع الاختلاء في نفسك على وجهٍ متواصل، فليكن ذلك، على القليل، بين حين وآخر، وعلى الأقل مرَّةً في اليوم، أي في الصَّباح أو المساء.ففي الصَّباح اقصد مقاصدك، وفي المساء افحص سلوكك: ما كانت اليوم أقوالك، وأفعالك وأفكارك؟ فلعلك قد أسأت بها إلى الله والقريب، مرارًا كثيرة. " تنطّق وكن رجلاَ" (أيوب 38: 3) إزاء المكايد الشيطانيَّة. اكبح الحنجرة، يسهل عليك كبح كل ميل جسدي. لا تكن أبدًا عاطلًا من كل عمل، بل دائمًا مشتغلًا في قراءةٍ أو كتابة، أو صلاةٍ أو تأمل، أو عملٍ آخر مفيد للجمهور. أمَّا الرياضات الجسدَّية، فتجب مزاولتها بتمييز وليس للجميع أن يمارسوها على السَّواء. 5 – لا تظهر، إلى الخارج، شعائر عبادةٍ ليست للجمهور، بل ما كان خصوصيًّا، فالآمن أن يتمَّم في الخفية. ولكن إياك والتكاسل عن الرياضات الجمهوريَّة قصد الإقبال بنشاط أوفر، على عباداتك الفرديَّة. أمَّا إذا أتممت، بدقةٍ وأمانة، كلَّ ما هو واجبٌ ومفروضٌ عليك، ثم تبقَّى لك شيءٌ من الوقت، فاستسلم لما ترغب فيه نفسك من العبادة. لا يمكن الجميع أن يمارسوا الرياضات عينها، بل منها ما هو أكثر ملاءمةً لهذا، ومنها ما هو أكثر مناسبةً لذاك. بل يستحبُّ تنويع الرياضات بحسب الأوقات: فمنها ما يفضل في الأعياد، ومنها ما يؤثر في أيام العمل، ومنها ما نحتاج إليه إبَّان التَّجربة، ومنها ما يلزمنا وقت السلام والراحة. وما يلذ لنا التَّفكُّر به وقت الحزن، هو غير ما يروقنا حين نفرح في الرَّبّ. 6 - علينا، بمناسبة الأعياد الهامَّة، أن نجدد رياضاتنا الصَّالحة، ونلتمس شفاعة القدّيسين، بحرارةٍ أعظم. وعلينا، بين عيدٍ وآخر، أن نقصد مقاصدنا كما لو كنا راحلين، عما قريبٍ، من هذا العالم، لنبلغ إلى العيد الأبديّ. ومن ثم، علينا أن نستعد باهتمامٍ، في أيام التعبد هذه، ونسلك بنشاطٍ أعظم، ونحافظ على جميع الفرائض بدقَّةٍ أشدّ، كأننا مزمعون أن نقبل، عما قليلٍ، من الله، جزاء تعبنا. 7 – فإن مدَّ في أجلنا، فلنعتقد أنَّ استعدادنا غير كافٍ وأننا بعد غير أهلٍ لذلك "المجد العظيم، الذي سيتجلَّى فينا" (رومانيين 8: 18)، في الأجل الذي سبق الله فحدَّده، ولنجتهد أن نحسن استعدادنا للخروج من هذا العالم. يقول لوقا البشير:" طوبى للعبد الذي، إذا وافى سيده، وجده ساهرًا! في الحقيقة أقول لكم: إنه يقيمه على جميع أمواله" (لوقا 12: 37، 44). |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في حب العزلة والصمت 1 – التمس وقتًا ملائمًا، تفرَّغ فيه لنفسك، وأكثر من التفكُّر في إحسانات الله. دع المستطرفات، واختبر لك مطالعات، توليك انسحاق القلب لا اشتغال البال. لو اجتنبت فضول الكلام، والتجول في البطالة، واستماع الأخبار والأحاديث، لوجدت وقتًا كافيًا وملائمًا للعكوف على التأملات الصَّالحة. إنَّ أعاظم القديسين، كانوا يتجنبون معاشرة الناس، قدر استطاعتهم، ويؤثرون التَّعبد لله في الخلوة. 2 – لقد قال أحد القدماء:" ما كنت قطُّ بين الناس، إلاَّ عدت إنسانًا منتقصًا" (سنيكا: الرسائل 7). ذلك ما نختبره غالبًا، بعد المحادثات الطَّويلة. الصمت الكامل أيسر من عدم الإفراط في الكلام. ألانزواء في البيت، أسهل من صيانة النَّفس، في الخارج، على ما ينبغي. فمن رام أن يبلغ إلى الحياة الدَّاخليَّة الرُّحيَّة، فعليه أن " يعتزل الجمع" (يوحنا 5: 13) برفقة يسوع. لا يظهر بأمان، إلاَّ من يرتاح إلى الخفية. ولا يتكلَّم بأمان، إلاَّ من يرتاح إلى الصمت. ولا يكون آمنًا في الرئاسة، إلاَّ من يرتاح إلى الخضوع. ولا يأمر بأمان، إلاَّ من تعلَّم أن يحسن الطَّاعة. 3 – ولا يكون آمنًا في الفرح، إلاَّ من له، في نفسه شهادة ضميره الصَّالح. غير أنَّ طمأنينة القديسين، كانت تملأها أبدًا مخافة الله، ولم يكن سطوعهم بعظيم الفضائل والنعم، لينقص من حذرهم وتواضعهم. أمَّا طمأنينة الأشرار، فأصلها الكبرياء والاعتماد على الذَّات، وعاقبتها غرور النفس. لا تعد نفسك بالطمأنينة في هذه الحياة، مهما خيّل إليك أنك راهبٌ صالح، أو ناسكٌ متعبد. 4 – كثيرًا ما وقع في أشدّ الأخطار، قومٌ أخيارٌ في نظر الناس، وذلك لفرط اعتمادهم على أنفسهم. ومن ثم فخيرٌ للكثيرين أن لا يخلوا تمامًا من التَّجارب، بل أن يهاجموا بتواتر، لئلاَّ يفرطوا في الطُّمأنينة، فيترفَّعوا صلفًا، ويميلوا بإفراطٍ إلى التَّعزيات الخارجيَّة. آه! كم يصون الإنسان نقاوة ضميره، إن هو لم يلتمس قطُّ فرحًا زائلًا، ولم يعكف على المشاغل العالمية! آه! ما أعظم ما يملك من السلام والراحة، من يقطع كل اهتمامٍ باطل، ويتفرغ للتَّفكير في الأُمور الخلاصيَّة الإلهيَّة، ويضع في الله كلَّ رجائه! 5 – لا يكون أهلًا للتَّعزية السَّماويَّة، إلاًّ من يتدرب، بنشاط، على الانسحاق المقدَّس. إن رمت انسحاقًا يبلغ إلى الصَّميم، فادخل مخدعك، وأقص عنك ضوضاء العالم، كما كتب:" تندَّموا في مخادعكم" (مزمور 4: 5). إنك لواجدٌ، في مخدعك، ما تفقده غالبًا في الخارج. إن لزمت مخدعك، وجدته عذبًا، وإن أكثرت من هجره، أورثك السَّأم. إن أقمت به، ولزمته حسنًا، منذ بدء هدايتك، أصبح لك، في ما بعد، الصديق الحبيب، والعزاء الجزيل العذوبة. 6 – في الصمت والسكينة، تتقدَّم النَّفس العابدة، وتتعلَّم مكنونات الكتب المقدسة. هناك تجد مجاري دموع، تغتسل وتتنقَّى فيها كلَّ ليلة، لتزداد ألفة مع خالقها، بقدر ما تعيش بعيدةً عن كل ضجةٍ دنيويَّة. فمن اعتزل المعارف والأصدقاء، دنا إليه الله مع ملائكته القدّيسين. خيرٌ للمرء أن يتخَّفى ويعنى بذاته، من أن يأتي الآيات، وهو غافلٌ عن نفسه. حميدٌ في الرجل العابد، أن لا يكثر الخروج من مخدعه، وأن يتجنب الظهور بين الناس، ولا يرغب في النظر إليهم. 7 – ما بالك تروم النظر إلى ما لا يسوغ لك اقتناؤه؟ "فالعالم وشهوته يزولان" (1 يوحنا 2: 17). رغائب الحواس تدفعك إلى التَّفسُّح، ولكن إذا مرت تلك السَّاعة، فماذا يبقى لك سوى عناء الضَّمير وتشتت القلب؟ ربَّ ذهابٍ في الفرح، عقبه إيابٌ في الحزن، وسمرٍ حافل بالسرور، تبلَّج عنه صبحٌ كئيب! هكذا كلُّ لذَّةٍ جسدية: تستغوي فتدخل، لكنها أخيرًا تلدع فتهلك. ما عساك أن تراه في مكان آخر، ولا تراه هنا؟ ها هي ذي السماء والأرض وجميع العناصر، فمنها كونت جميع الأشياء. 8 – أين تستطيع أن ترى شيئًا يمكن أن يدوم طويلًا تحت الشمس؟ قد تظنُّ أنك ترتوي، ولكنك لن تنال مرامك. لو رأيت جميع الأشياء حاضرةً أمامك، فهل ذلك إلاَّ رؤيا باطلة؟ إرفع عينيك إلى الله في العلاء، وابتهل من أجل خطاياك وغفلاتك. دع الأباطيل لذوي الأباطيل، أما أنت، فاعكف على ما أمرك به الله. أغلق عليك بابك، وادع إليك يسوع حبيبك. أُمكث معه في مخدعك، فإنك غير واجدٍ مثل هذا السلام في مكان آخر. لو لم تستفض إلى الخارج، وتسمع لشيءٍ من لغط البشر، لبقيت في سلام أوفر. أما وقد لذَّ لك استماع الأخبار، فلا بد أن تعاني بسببه اضطراب القلب. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في انسحاق القلب 1 – إن رمت بعض التقدُّم، فاحفظ نفسك في مخافة الله، ولا ترغب في حريةٍ مفرطة، بل أكبح جميع حواسك بقانونٍ حازم، ولا تستسلم للمرح والهوس. أسلم نفسك لانسحاق القلب، فتجد التَّقوى. إنَّ ما يوليناه الانسحاق من كثرة الخيرات، نفقده عادةً، وسريعًا، بالتراخي. من العجب أن يستطيع الإنسان، وهو في هذه الحياة، أن يفرح، يومًا، فرحًا كاملًا، إذ تأمل في منفاه، وفكر في كثرة الأخطار، المعرضة لها نفسه. 2 – إننا لخفَّة قلبنا، وتوانينا عن إصلاح نقائصنا، لا نشعر بآلام نفسنا، بل كثيرًا ما نضحك عن طيش، فيما يجدر بنا أن نبكي. ما من حريةٍ حقَّة، ولا فرح صادق، إلاَّ في مخافة الله، وفي الضمير الصالح. هنيئًا لمن أمكنه أن ينبذ كل تشتُّت عائق، وأن يخلو إلى نفسه، في انسحاق قلبٍ مقدَّس! هنيئًا لمن يعتزل كلَّ ما من شأنه أن يدنس ضميره أو يثقله! جاهد ببأس، فالعادة بالعادة تغلب. إن عرفت أن تترك الناس، يتركونك هم أيضًا تتفرغ لشؤونك. 3 - لا تحول إليك شؤون الآخرين، ولا تتدَّخل في مهام الرُّؤساء. لتكن عينك دائمًا على نفسك قبل كلّ شيء، وانصح أولًا لنفسك، قبل أن تنصح لأحدٍ من أحبائك. إن لم تكن حظيًا عند الناس، فلا تحزن لذلك، بل ما يجب أن يشقَّ عليك، هو أنك لا تسلك في الصلاح والرصانة، كما يليق بخادم الله والراهب المتعبد. إنه لأنفع وآمن، في الغالب، أن لا تتوفر التعزيات للإنسان في هذه الحياة، ولا سيما التعزيات البشرية. أما التعزيات الإلهية، فإن حرمناها، أو لم نشعر بها إلاَّ نادرًا، فالذنب في ذلك علينا، لأنَّا لا نطلب انسحاق القلب، ولا ننبذ، مطلقًا، التعزيات الخارجية الباطلة. 4 – اعلم أنك غير أهل للتعزية الإلهية، بل مستوجب بالحريّ، كثرة الضيقات. متى حصل الإنسان على الانسحاق التام، فالعالم كله، حينئذٍ، يضحي له مرًّا لا يطاق. الرجل الصالح يجد أسبابًا كافية للتوجع والبكاء. فإنه، سواءٌ تأمل في نفسه، أم فكر بقريبه، يرى أن ما من أحدٍ يعيش على الأرض بغير شدَّة. وكلما أمعن في التفكير، ازداد توجعًا. إن لنا، من خطايانا ونقائصنا، مسوغًا كافيًا، للتوجع والانسحاق الداخلي، لأننا منغمسون فيها انغماسًا، يكاد لا يمكننا من النظر إلى السماويات. 5 – لو فكرت في موتك، أكثر من تفكيرك في طول العمر، لكنت، ولا شك، أعظم نشاطًا في إصلاح نفسك. ولو وزنت، قلبك، ما في جهنم أو الجحيم، من عذابات مستقبلة، لكنت، في يقيني، ترتاح إلى احتمال العناء والوجع، ولا تخاف شيئًا من الشدَّة. ولكن بما أن هذه الحقائق لا تنفذ إلى قلبنا، بل نحن لا نزال نحب التمليق، فإنَّا لذلك نبقى باردين كثيري التواني. 6 – إن تذمر الجسد الشقي، لأقل سبب، كثيرًا ما يكون عن فاقةٍ في الروح. فصل إذن إلى الرب بتواضع، ليمنحك روح الانسحاق، وقل مع النبي: "أطعمني، يا رب، خبز الدموع، واسقني العبرات سجالًا" (مزمور 79: 6). |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في التأمل في الموت 1 – سينقضي أجلك سريعًا جدًا على هذه الأرض. فانظر إذن ما هي حالك: أليوم في الوجود، وغدًا ليس من أثر. وإذا ما توارى الإنسان عن العيون، فسريعًا ما يزول أيضًا من الذهن. يا للبلادة والغلظة في قلب الإنسان! فإنه يقصر التفكير على الأمور الحاضرة، ولا يتبصر بالحري في المستقبلة. فما كان أحراك أن تسلك، في كل عملٍ وفكر، سلوك من كان موشكًا أن يموت اليوم! لو كان ضميرك صالحًا، لما كنت تخاف الموت كثيرًا. تجنب الخطايا خيرٌ من محاولة الهرب من الموت. إن كنت اليوم غير متأهب، فغدًا كيف تكون مستعدًا؟ الغد يومٌ غير راهن، وما أدراك أنك تحصل على غد؟ 2 – ماذا يفيدنا أن نعمر طويلًا، ونحن لا نصلح ذواتنا إلاَّ قليلًا جدًا؟ آه! إن طول العمر لا يفيد دائمًا الإصلاح، بل كثيرًا ما يزيد الخطايا. ليتنا أحسنا السيرة، ولو يومًا واحدًا، في هذا العالم! كثيرون يعدون سني اهتدائهم إلى الله، أما الثمار في إصلاح ذواتهم فغالبًا ما تكون قليلة. إن كان الموت هائلًا، فالاستزادة من العمر قد تكون أشدَّ خطرًا. طوبى لمن جعل ساعة موته دائمًا نصب عينيه، وأعد نفسه كل يومٍ للموت! إن رأيت، يومًا، إنسانًا يموت، فاذكر أنك أنت أيضًا ستسلك تلك الطريق. 3 – إذا كان الصباح، فاحسب أنك لن تبلغ المساء. وعند المساء، لا تجسر أن تعد نفسك ببلوغ الصباح. فكن إذا على استعداد دائم، وعش بحيث لا يجدك الموت أبدًا على غير أهبة. كثيرون يموتون فجأة، وعلى غير ما انتظار، لأن "ابن البشر يأتي في ساعة لا يحسب لها حساب1" (لوقا 12: 40). ومتى حانت تلك الساعة الأخيرة، جعلت تفكر في حياتك السالفة تفكيرًا مغايرًا جدًا، وإذ ذاك تتوجع توجعًا شديدًا على إفراطك في التهاون والتراخي. 4 - ما أسعد وما أحكم من يجتهد أن يكون الآن، في حياته، كما يشتهي أن يوجد عند مماته! أما ما يولي الإنسان كبير ثقةٍ بالحصول على ميتة سعيدة، فإنما هو احتقار الدنيا احتقارًا كاملًا، واستعار الشوق إلى التقدم في الفضائل، وحب النظام، ومعاناة التوبة، والإسراع في الطاعة، وإنكار الذات، واحتمال الشدائد، أيًَّا كانت، حبًا للمسيح. ما دمت في العافية، فأنت قادرٌ على كثيرٍ من أفعال الخير، فإذا وهنت، فلا أدري ما يسعك فعله. قليلون يجنون من المرض إصلاحًا لأنفسهم، وكذلك الذين يكثرون من أسفار الحج: فإنهم في النادر يتقدسون. 5 – لا تعتمد على الأصدقاء والأقارب، ولا ترجئ إلى المستقبل أمر خلاصك، فإنَّ الناس سينسونك بأسرع ممَّا تظن. خيرٌ لك أن تتدَّبر أُمورك منذ الآن -والوقت مؤاتٍ- فتبعث أمامك بشيءٍ من الصلاح، من أن تتكل على إسعاف الآخرين. إن أنت لم تهتم الآن بنفسك، فمن يهتم لك في المستقبل؟ ألآن الوقت ثمينٌ جدًا:" ألآن أيام الخلاص، ألآن وقتٌ مرضي" (2 كورنثيين 6: 2). ولكن، يا للأسف! إنك لا تستغله لفائدةٍ أعظم، حال كونك تستطيع أن تستحقَّ به الحياة إلى الأبد. سيأتي زمنٌ تتمنَّى فيه يومًا واحدًا – بل ساعةً واحدة – لإصلاح نفسك، ولا أدري هل تحصل على مبتغاك. 6 – آه! أيها الحبيب، ما أعظم المخاطر التي يمكنك التخلص منها، والمخاوف التي تستطيع اتقاءها، لو عشت الآن دومًا في مخافة الموت والتحذّر منه! فاجتهد أن تعيش الآن عيشةً، من شأنها أن توليك، في ساعة الموت، فرحًا لا خوفًا. تعلَّم الآن أن تموت عن العالم، لكي تبتدئ حينئذٍ تحيا مع المسيح. تعلَّم الآن أن تحتقر كل شيء، لتستطيع الذهاب حينئذٍ بحريةٍ، إلى المسيح. اقمع الآن جسدك بالتوبة، لتستطيع الحصول، حينئذٍ على ثقة وطيدة. 7 – آه! أيها الغبيّ، علام تفكر في طول العمر، وليس لك راهنًا يومٌ واحد؟ ما أكثر الذين خدعوا، فانتزعوا من أجسادهم على غير انتظار! كم مرةٍ سمعت من يقول: فلانٌ قتل بالسيف، وفلانٌ قضى غرقًا، هذا سقط من علٍ فاندقَّت عنقه، وذاك قبض وهو يأكل، وآخر وجد حتفه وهو يلعب، الواحد هلك بالنار، والآخر بالسيف، هذا بالوباء، وذاك بفتك اللصوص. وهكذا، فالموت آخرة الجميع، "وحياةُ البشر كظلٍ تجوز سريعًا" (مزمور 143: 4). 8 – من تراه يذكرك بعد الموت، ومن يصلي لأجلك؟ فاعمل، أيها الحبيب، اعمل الآن كلَّ ما يمكنك عمله، لأنك لا تعلم متى تموت، ولا تعلم أيضًا عاقبتك بعد الموت. ما دام لك الوقت، فادخر لك كنوزًا أبدية. لا تفكر بغير خلاصك، ولا يكن همك إلاَّ بشؤون الله. " اصطنع لك الآن أصدقاء"، بإكرامك قدّيسي الله، واقتدائك بأفعالهم، حتى إذا غادرت هذه الحياة، "يقبلونك في المظالّ الأبدية" (لوقا 16: 9). 9 – أسلك كمغترب على هذه الأرض، ومثل نزيلٍ لا يعنيه شيءٌ من شؤون الدنيا. احفظ قلبك حرًّا مرفوعًا إلى الله، إذ " ليس لك ههنا ميدنةٌ باقية" (عبرا نيين 13: 14). ارفع كل يومٍ، إلى العلاء، صلواتٍ وتنهداتٍ مع دموع، حتى تؤهل روحك، بعد الموت، أن تعبر إلى ربها عبورًا سعيدًا. آمين. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الدينونة وعقوبات الخطأة 1 – في كل شيءٍ تأمل العاقبة، واذكر كيف تقف يومًا أمام الديان الصارم، الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يستعطف بالرُّشى، ولا يقبل الأعذار، بل بموجب العدل يقضي. أيها الخاطئ الشّقيُّ الأحمق، بم تجيب الله، العالم بجميع شرورك، وأنت تخشى أحيانًا وجه إنسان مغضب. فلم لا تتدبر الآن أمرك ليوم الدين، حين لا يمكن أحدًا أن يدافع عن غيره، أو ينتصر له، بل كلُّ واحدٍ يكون، من نفسه، عبئًا كافيًا على نفسه؟ ألآن تعبك مثمر، وبكاؤك مرضيّ، وتنهدك مستجاب، وتوجعك وفائيٌ ومُطَهِّر. 2 – إنه لعقاب عظيم وخلاصي، عقاب الرجل الصبور، الذي، إن لحق به جور، يتوجع لخبث فاعله، أكثر مما للظُّلم اللاَّحق به، ويصلي بارتياح لأجل معاكسيه. ويسامح بالإساءات من كل قلبه، ولا يتأخر عن استغفار الآخرين، وهو إلى الرحمة أسرع منه إلى الغضب. يكثر من قهر نفسه، ويجتهد في إخضاع الجسد للرُّوح إخضاعًا تامًا. ألتطهر من الخطايا، واستئصال الرذائل في هذه الحياة، خيرٌ من اذّخارها والتَّكفير عنها في الآخرة. إنَّا لنغر أنفسنا حقًا، بحبنا الجسد حبًا مفرطًا. 3 – ما عسى أن تلتهم تلك النار إلاَّ خطاياك؟ بمقدار ما تشفق الآن على نفسك، وتتبع أهواء الجسد، وتزداد شدَّة عقابك في ما بعد، ويزداد مقدار الوقود، الذي تذخره لتلك النار. ما خطئ به الإنسان، فيه يكون أشدُّ عقابه: هناك المتوانون يوخزون بمناخس محماة، والنَّهمون يعذبون بشديد العطش والجوع. هناك أهل الخلاعة ومحبو اللذات، يغرقون في زفت مشتعلٍ وكبريتٍ متين، والحساد يعوون بسبب الوجع، مثل كلابٍ هائجة. 4 – ما من رذيلةٍ، إلاَّ ويكون لها عذابٌ خاصّ: هناك يمتلئ المتكبرون خزيًا، والبخلاء يضيق عليهم بالفاقة القصوى. هناك ساعةٌ واحدةٌ في العذاب، أشدُّ من مئة سنةٍ هنا في أشق أعمال التوبة. هناك لا راحة ولا تعزية للهالكين، أما هنا، فقد يستراح أحيانًا من التعب، ويتمتع بتعزيات الأصدقاء. اهتم الآن وتوجع لخطاياك، لتطمئن مع الطوباويين في يوم الدين. " حينئذٍ يقوم الصّدّيقون بجرأةٍ عظيمة، في وجوه الذين ضايقوهم" (حكمة 5: 1) وأذلوهم. حينئذٍ يقوم للقضاء، من يخضع الآن بتواضع لأحكام البشر. حينئذٍ يكون للمسكين والمتواضع ثقةٌ عظيمة، أما المتكبر، فالهلع يحدق به من كلّ صوب. 5- حينئذٍ يتضح أنه كان حكيمًا في هذه الدنيا، من تعلَّم أن يكون جاهلًا ومحتقرًا لأجل المسيح. حينئذٍ كل ضيقٍ احتمل بصبرٍ يبدو لذيذًا، " وكلُّ ظلمٍ يسدُّ فمه" (مزمور 106: 42). حينئذٍ يفرح كلُّ تقيّ، ويكتئب كل خالٍ من العبادة. حينئذٍ يبتهج الجسد المقموع بالإماتة، أكثر مما لو غذّي في الترف. حينئذٍ يتلألأ الثوب الحقير، ويكمدُّ اللباس الناعم. حينئذٍ يمتدح الكوخ الفقير، أكثر من القصر المغشَّى بالذهب. حينئذٍ يكون ثبات الصبر، أجزل نفعًا من كلّ سلطانٍ في الدنيا. حينئذٍ تعظم الطاعة البسيطة، أكثر من كل دهاءٍ عالمي. 6 – حينئذٍ يفرح الإنسان بالضمير الصالح، أكثر من فرحه بالفلسفة العميقة. حينئذٍ يرجح ازدراء الغنى، على كنوز الأرض بأسرها. حينئذٍ تتعزى لذكر صلاةٍ خاشعة، أكثر مما لذكر أكلةٍ طيبة. حينئذٍ تفرح بلزومك الصمت، أكثر مما بالثرثرة الطويلة, حينئذٍ تكون الأعمال المقدّسة، أجزل قيمة من كثرة الكلام المنمق. حينئذٍ تستطاب العيشة القشفة، والتوبة الشاقَّة، أكثر من كل لذةٍ أرضية. تعلَّم الآن أن تحتمل آلامًا يسيرة، لتستطيع، حينئذٍ، أن تنجو من آلام تفوقها شدَّة. جرب هنا، قبلًا، ما تستطيع احتماله في ما بعد. إن كنت الآن لا تقوى على احتمال ألم طفيفٍ جدًا، فكيف يمكنك حينئذٍ أن تحتمل العذبات الأبدية؟ إن كان الآن أخف ألمٍ يفقدك الصبر إلى هذا الحدّ، فما عسى أن تكون لك جهنم حينئذٍ؟ حقًا إنه لا يمكنك الحصول على كلا الفرحين: أي أن تنعم في هذه الدنيا، ثم تملك، بعد ذلك، مع المسيح. 7 – هب أنك قد عشت عمرك كله، حتى هذا اليوم، في الكرامات والترف، فما عسى أن ينفعك ذلك كله، لو اتفق أن تموت الآن فجأة؟ فكل شيء إذن باطل، ما خلا حب الله والتعبد له وحده. فمن أحب الله بكل قلبه، لا يخشى الموت ولا العذاب، ولا الدينونة ولا الجحيم، لأن الحب الكامل يضمن البلوغ إلى الله. أما من لا يزال يتلذذ بالخطيئة، فلا عجب أن يخشى الموت والدينونة. على أنه من الحسن، إن كان الحب لا يردعك بعد عن الشر، أن يردعك عنه على الأقل خوف جهنم. أما من نبذ مخافة الرب، فلا يستطيع الثبات على الصلاح طويلًا، بل سرعان ما يسقط في حبائل إبليس. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في النشاط لإصلاح سيرتنا كلها 1 – كن يقظًا نشيطًا في خدمة الله، وتذكر مرارًا ما حملك على هجر العالم والمجيء إلى الدير. ألم تكن غايتك، أن تحيا لله، وتصبح إنسانًا روحيًا؟ فاضطرم إذن رغبةً في التقدم، فإنك ستنال عما قريب ثواب أتعابك، وحينئذٍ، لن يكون من بعد خوفٌ ولا وجعٌ في تخومك. إنك تتعب الآن قليلًا، لكنك ستجد راحةً عظيمة، بل فرحًا أبديًا. إن بقيت أمينًا ونشيطًا في العمل، فأيقن أن الله سيكون أمينًا وسخيًا في المكافأة. ينبغي لك أن تتمسك بوطيد الرجاء في الحصول على سعف الظفر. ولكن إياك والإخلاد إلى الطمأنينة لئلاَّ تفتر أو تترفع. 2 – رجلٌ كان في حيرة، يتقلب كثيرًا بين الخوف والرجاء، فإذا كان ذات مرةٍ جاثيًا في الكنيسة، يصلي أمام أحد المذابح -وقد أثقله الحزن- جعل يردد في نفسه: لو كنت أعلم هل أستمر على الثبات... وللوقت، سمع في داخله هذا الجواب الإلهي: لو علمت ذلك، فما كنت تود أن تصنع؟ فاصنع الآن ما كنت تريد أن تصنعه حينئذٍ، فتعيش في طمأنينة كاملة. ففي الحال تعزى الرجل وتشدد، وفوض أمره لمشيئة الله، فزال عنه القلق والتردد. وكف عن فضول التقصي في الاستطلاع مستقبله، وأكب بالحري يبحث عن "مشيئة الله المرضية الكاملة" (رومانيين 12: 2)، ليبدأ وينجز كل عمل صالح. 3 – قال النبي: "توكل على الرب واصنع الخير، أسكن الأرض فترعى خيراتها" (مزمور 36: 3). أمرٌ واحدٌ يصد الكثيرين عن التقدم، وعن النشاط في إصلاح السيرة: كره المصاعب، أي عناء الجهاد. فإن الذين يسبقون غيرهم في الفضائل، إنما هم خصوصًا أولئك الذين يجتهدون، بشجاعةٍ أعظم، في قهر ما هو أكثر إرهاقًا ومعاكسةً لهم. فإنه حيثما يزداد قهر الإنسان لنفسه، وإماتتها بالروح، يزداد تقدمه، واستحقاقه لنعمٍ أوفر. 4 – ولكن ما يجب قهره وإماتته ليس متساويًا عند الجميع. بيد أن الرجل النشيط الغيور -وإن كثرت أهواؤه- يكون أقدر على التقدم، من آخر حسن الأخلاق، ولكن أقل نشاطًا إلى تحصيل الفضائل. أمران خصوصًا يفيدان لإصلاح عظيمٍ في السيرة: ألإقلاع بعنفٍ عما تميل إليه الطبيعة الفاسدة، والعكوف بنشاط على تحصيل الفضيلة، التي يحتاج إليها بالأكثر. اجتهد أيضًا أن تتجنب وتقهر بنوع خاص، الرذائل التي تسوؤك غالبًا في الآخرين. 5 – اغتنم، في كل شيء، فرصة لتقدمك، حتى إذا رأيت أو سمعت بأمثلةٍ صالحة، تضطرم رغبةً في أن تقتدي بها. ولكن، إذا رأيت ما يستحقُّ اللوم، فاحذر أن تفعل مثله. وإن كنت قد فعلته في الماضي، فاجتهد في إصلاحه بسرعة. كما أن عينك تراقب الآخرين، كذلك الآخرون أيضًا يراقبونك. ما ألذ وما أعذب رؤية إخوة ورعين، مضطرمين في العبادة، ذوي أخلاقٍ طيبة، يحافظون على القوانين! ما آلم وما أثقل رؤية الذين يعيشون على غير نظام، ولا يمارسون الواجبات التي انتدبوا لها! كم يضرنا أن نهمل ما دعينا إليه، وأن نحول أفكارنا إلى أمور لم يعهد إلينا فيها! 6 - تذكر ما قطعت عليه العزم، واجعل أمامك صورة المصلوب. إذا تأملت في سيرة يسوع المسيح، وجب عليك أن تخجل، لأنك، إلى الآن، لم تجتهد كثيرًا في تصوير نفسك على مثاله، وقد مضى عليك زمنٌ طويل، مذ انتهجت طريق الله. إن الراهب الذي يروض نفسه على التأمل، بجدٍ وتقوى، في حياة الرب وآلامه القدّوسة، ليجد بوفرةٍ، في تلك التأملات، ما هو نافعٌ وضروري له، ولا حاجة به أن يطلب، خارجًا عن يسوع، شيئًا آخر أفضل منه. آه! لو دخل قلبنا يسوع المصلوب، فما أسرع ما كان يعلمنا العلم الكافي! 7 – الراهب المضطرم النشاط، يقبل ويتمم، بطيبة نفس، كل ما يؤمر به. أما الراهب والمتهاون الفاتر، فتصيبه شدَّةٌ على شدَّة، والضيق يكتنفه من كل جهة، لأنه خالٍ من التعزية في داخله، ومحظورٌ عليه التماسها من الخارج. الراهب الحائد عن قوانينه، معرضٌ لسقوطٍ عظيم. من طلب عيشة أكثر رخاءً وأقل عناءً، فهو أبدًا في ضيق، إذ لا بد أن يسوءه هذا الشيء أو سواه. 8 – كيف يعمل سائر الرهبان -وما أكثرهم!- المضيق عليهم تضييقًا شديدًا بقوانين الديورة؟ إنهم قلما يبرحون حجرهم، بل يعيشون في الخلوة، يأكلون كأفقر الناس، ويلبسون خشن الثياب، يشتغلون كثيرًا، ويتكلمون قليلًا، يسهرون طويلًا، وينهضون باكرًا، يطيلون في الصلوات، ويكثرون من القراءة، ويحافظون في كل شيء على القوانين. أُنظر إلى الكرتوزيين والشسترسيين، وإلى سائر الرهبان والراهبات من مختلف الرهبانيات، كيف ينهضون كل ليلةٍ لتسبيح الرب. فمن العار أن تجسر على التكاسل في مثل هذا الوقت المقدس، الذي تبدأ فيه جماهير الرهبان بالإشادة لله. 9 – آه! لو لم يكن علينا من واجبٍ، سوى تسبيح الرب إلهنا بكل القلب والفم! آه! ليتك لم تكن بحاجةٍ إلى الأكل والشرب والنوم، فتستطيع أن تسّبح الله على الدوام، وتنقطع إلى الرياضات الروحية! إذن لكنت أسعد، بكثير، مما أنت عليه الآن من تعبدٍ للجسد وحاجاته المختلفة. ليت تلك الحاجات لم تكن، فنقصر همنا على قوت النفس الروحي، الذي لا نتذوقه -وا أسفاه!- إلاَّ في القليل النادر! 10 – إذا أصبح الإنسان من الكمال، بحيث لا يلتمس تعزيته من خليقةٍ البتة، فحينئذٍ يبدأ يذوق الله تمامًا، وحينئذٍ أيضًا يكون راضيًا جدًا، كيفما جرت الأمور. حينئذٍ لا يفرح بالكثير، ولا يحزن بالقليل، بل يسلم نفسه تسليمًا كاملًا مفعمًا بالثقة، في يدي الله، الذي يكون له كلاًّ في كلّ شيء، والذي لا شيء يزول عنده أو يموت، بل كل شيء يحيا له، ويطيع إشارته من غير ما إبطاء. 11 – أُذكر دائمًا المنتهى، وأن لا عودة لزمنٍ ذهب ضياعًا. إنك لن تحصل الفضائل أبدًا، من غير اهتمامٍ ونشاط. إذا أخذت في الفتور، أخذت حالك تسوء. أما إن استسلمت لحرارة العبادة، فإنك تجد سلامًا عظيمًا، وتشعر بأتعابك قد خفت، بفضل نعمة الله، وحب الفضيلة. الرجل الحار النشيط، مستعد لكل شيء. إن مقاومة الرذائل والأهواء، لأشدُّ عناءً من الكدّ في الأتعاب الجسدية. "من لا يتجنب الصغائر، يزلق شيئًا فشيئًا نحو الكبائر" (ابن سيراخ 19: 1). إنك لتفرح دومًا عند المساء، إذا قضيت نهارك في عمل مثمر. اسهر على نفسك، حرض نفسك، عظ نفسك، ومهما يكن من أمر الآخرين، فلا تهمل أنت أمور نفسك. بقد ما تقهر نفسك، تتقدم. آمين. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الحياة الداخلية 1 – ”إن ملكوت الله في داخلكم″ (لوقا 17: 21)، يقول الرب. “تب إلى الرب بكل قلبك″ (يوئيل 2: 12)، واترك هذا العالم الشقيّ، فتجد نفسك الراحة. تعلَّم أن تحتقر الأمور الخارجية، وتنقطع إلى الداخلية، فترى ملكوت الله يحل فيك. فإنَّ “ملكوت الله سلامٌ وفرحٌ في الروح القدس″ (رومانيين 14: 17)، والكفرة لا يمنحونه. إن أنت أعددت للمسيح في داخلك مقامًا لائقًا، فإنه يأتي إليك ويريك تعزيته. “جميع مجده وبهائه من الداخل″ (مزمور 44: 14)، وهناك مسرته. يكثر الافتقاد لذي الحياة الداخلية: فيحادثه بعذوبة، ويعزيه بلطف ويفيض فيه سلامًا عظيمًا، ويعامله بألفةٍ عجيبةٍ جدًا. 2 – هيا! هيا! أيتها النفس الأمينة، أعيدي قلبك لهذا العروس، لكي يرتضي أن يجيء إليك، ويسكن فيك. فإنه هكذا يقول:”إن أحبَّني أحدٌ، يحفظ كلمتي، وإليه نأتي، وعنده نجعل مقامنا″ (يوحنا 14: 23). فأخل المكان إذن للمسيح، وارفض الدخول لكل من سواه. إن حصلت على المسيح، فأنت غنيٌ، وهو حسبك. هو عائلك الأمين، يهتم لك بجميع شؤونك، فلا تبقى بك حاجةٌ إلى الاتكال على البشر. فالناس يتغيرون سريعًا، وبغتةً يتخلون عنك، أما “المسيح، فيدوم إلى الأبد″ (يوحنا 12: 34)، ويستمر ثابتًا بقربك حتى المنتهى. 3 – لا ينبغي لك أن تعتمد كثيرًا على إنسانٍ ضعيف مائت -وإن نافعًا لك وعزيزًا عليك- ولا أن تغتم كثيرًا، إذا قاومك أحيانًا أو عاكسك. من كان اليوم معك، فقد ينقلب غدًا عليك، والعكس بالعكس، فإن الناس كثيرو التقلب كالريح. ضع ثقتك كلها في الله، وليكن هو خوفك وحبك: هو يدافع عنك، ويفعل حسنًا ما هو الأحسن لك. ”ليس لك ههنا ميدنةٌ باقية″ (عبرانيين 13: 14)، وحيثما كنت، فأنت سائحٌ غريب، ولن تحصل أبدًا على الراحة، ما لم تتحد بالمسيح اتحادًا صميمًا. 4 – ما بالك تجيل النظر في ما حولك، وليس هنا مكان راحتك؟ في السماوات يجب أن تكون سكناك، أما الأرضيات جميعها، فينبغي ألاَّ تنظر إليها إلاَّ كعابر سبيل. كلُّ الأشياء إلى الزَّوال، وأنت أيضًا ستزول معها. حذار أن تتعلق بها لئلاَّ تصطاد فتهلك. لتكن أفكارك موجهةً إلى العلى، وتضرعاتك إلى المسيح بلا انقطاع. إن كنت لا تحسن التأمل في الأمور العميقة والسماوية، فاسترح في آلام المسيح، وأحبب السُّكْنَى في جراحه المقدّسة. فإنك إن لجأت بتقوى إلى جراح يسوع وسماته الكريمة، شعرت بقوةٍ عظيمة في المضايق، ولم تعد تبالي كثيرًا بازدراء الناس، وهان عليك أن تحتمل كلام المغتابين. 5 – فالمسيح أيضًا قد ازدراه الناس حين كان في العالم، وفي أقصى الشدَّة، وما بين التغييرات، تخلَّى عنه معارفه وأصدقاؤه. المسيح قد أراد أن يتألم ويزدرى، وأنت تجسر على التشكي من شيءٍ ما؟ المسيح كان له أضدادٌ وثلاَّبون، وأنت تريد أن يكون لك الجميع أصدقاء ومحسنين؟ بم يكلل صبرك، إن لم يعرض لك أدنى شدَّة؟ وإن لم ترد احتمال معاكسةٍ ما، فكيف تكون صديق المسيح؟ احتمل مع المسيح ومن أجل المسيح، إن شئت أن تملك مع المسيح. 6 – لو ولجت مرةً واحدةً إلى أقصى دواخِل يسوع، وتذوقت شيئًا يسيرًا من حبه المتأجج، إذن لما باليت البتة بما يريحك أو يزعجك، بل بالحري لفرحت باحتمال التعييرات، لأن حب المسيح يحمل الإنسان على احتقار نفسه. من كان محبًا ليسوع وللحقيقة، وكان حقًا رجل حياة داخلية، طليقًا من الأميال المنحرفة، فإنه يستطيع أن يتجه بحريةٍ إلى الله، ويسمو بالروح فوق نفسه، ويستريح متنعمًا. 7 – من حكم في جميع الأشياء كما هي في ذاتها، لا كما يقال عنها أو يظن فيها، فذاك هو الحكيم حقًا، وعلمه من الله لا من الناس. من عرف أن يحيا حياة داخلية، ولم يعر الأمور الخارجية كبير اهتمام، فإنه لا يتطلب الأمكنة، ولا ينتظر الأزمنة، ليمارس رياضاته التقوية. إن رجل الحياة الداخلية يجمع حواسه وأفكاره بسرعة، لأنه لا ينصب أبدًا بجملته على الأمور الخارجية. لا يعوقه العمل الخارجي، ولا المهام التي تقتضيها الساعة، بل كما تجري الأمور يجاريها. من كان في داخله حسن الاستعداد، سليم الطَّوية فإنه لا يكترث للحميد أو القبيح من أعمال الناس. يعاق الإنسان ويتشتت، بمقدار ما يجلب لنفسه من العوائق. 8 – لو كنت على ما ينبغي من الاستقامة والنقاوة، لعاد عليك كل شيء بالخير والفلاح. إن كان ثمة أمور كثيرة تسوءك وتقلقك، فما ذاك إلاَّ لكونك لم تمت بعد عن نفسك موتًا تامًا، ولم تنفصل عن جميع الأرضيات. لا شيء يأسر قلب الإنسان ويدنسه، مثل حب الخلائق الفاسد. إن أبيت التعزية من الخارج، استطعت التأمل في السماويات، وتكاثرت لك البهجة الداخلية. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الخضوع بتواضع 1 – لا تهم كثيرً في من معك أو من عليك، بل في هذا اجعل همك واجتهادك: أن يكون الله معك في كل ما تعمل. كن صالح الضمير فينصرك الله. فإن من شاء الله أن ينصره، لا يقوى خبث أحدٍ على مضرته. إن عرفت أن تتألم وتصمت، فأيقن أنك سترى معونة الرب. فإنه يعرف متى وكيف ينقذك، وما عليك من ثم إلاَّ أن تستسلم له. إن الله النصرة والإنقاذ من كل خزي. كثيرًا ما ينفعنا جدًا، لحفظنا في تواضع أعظم، ان يعرف الآخرون عيوبنا ويبكتونا عليها. 2 – إذا اتضع الإنسان بسبب نقائصه، هان عليه تهدئة الآخرين، واسترضاء الساخطين عليه. ألله يحمي المتواضع وينقذه، يحب المتواضع ويعزيه. للمتواضع ينعطف، وللمتواضع يجزل النعمة، وبعد خفضه يرفعه إلى المجد. للمتواضع يكشف أسراره، يدعوه إليه ويجذبه بعذوبة. المتواضع، وإن لحق به الخزي، يستمر في سلام، لأنه بالله يعتصم لا بالدنيا. لا تظن أنك أحرزت بعض التقدم، إن لم تحسب نفسك دون الجميع. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الإنسان الصالح المسالم 1 – إحفظ نفسك أولًا في سلام، وحينئذٍ تستطيع أن تبث السلام في الآخرين. الإنسان المسالم أكثر نفعًا من العلامة. رجل الهوى يتأول الخير نفسه شرًا، والشر يصدقه بسهولة. أما الإنسان الصالح المسالم، فيحول كل شيءٍ إلى الخير. من كان مواطدًا في السلام، لا يسيء الظن بأحد، أما الذي في الكدر والقلق، فإنه مضطرب بمختلف الظنون. فلا هو في راحة، ولا يدع الآخرين في راحة. يتكلم غالبًا عما لا ينبغي التكلم عنه، ويهمل ما كان الأجدر به أن يفعله. يراقب ما يجب على الآخرين فعله، ويغفل ما يجب عليه هو أن يفعل. لتكن غيرتك أولًا على نفسك، وحينئذٍ تحق لك الغيرة على قريبك. 2 – إنك لتجيد في تمويه أعمالك والاعتذار عنها، لكنك تأبى أن تقبل أعذار الآخرين. ولقد تكون أثر إنصافًا، لو شكوت نفسك وعذرت أخاك. إن شئت أن يحتملك الآخرون، فاحتماهم أنت أيضًا. أنظر ما أبعدك، حتى الآن، عن المحبة والتواضع الحقيقي، الذي لا يعرف أن يغضب أو يسخط، إلاَّ على نفسه. ليس بأمرٍ عظيمٍ العيش مع الصلاح والودعاء: فالجميع، من طبعهم، يستحبون ذلك، والجميع يرتاحون إلى السلام، فيؤثرون من يوافقهم في الآراء، أما استطاعة العيش بسلام، مع قومٍ عنفٍ أردياء. دأبهم المعاكسة والخروج على القانون، فذلك نعمةٌ عظيمة، وعمل مروءةٍ جديرٌ بثناءٍ جزيل. 3 – من الناس من هم في سلامٍ، مع أنفسهم ومع الآخرين. ومنهم من ليسوا في سلام، ولا يدعون غيرهم في سلام، فهم ثقلاء على الآخرين، وأكثر ثقلًا على أنفسهم. من الناس أيضًا من يحفظون أنفسهم في سلام، ويسعون في إعادة السلام للآخرين. على أن سلامنا كله في هذه الحياة الشقية، إنما هو قائمٌ بالاحتمال والتواضع، لا بعدم الشعور بالمعاكسات. فمن كان أكثر صبرًا، كان أوفر سلامًا، إذ هو هو السائد على نفسه، هو سيد العالم، وصديق المسيح ووارث السماء. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في طهارة النفس وخلوص النية 1 – بجناحين يرتفع الإنسان عن الأرضيات: بالخلوص والطهارة. فالخلوص واجبٌ في النية، والطهارة في العاطفة. الخلوص يقصد الله، والطهارة تدركه وتتذوقه. ليس من عملٍ صالحٍ يعوقك، إن كنت، في داخلك حرًا من الأميال المنحرفة. إن كنت لا تقصد ولا تطلب سوى مرضاة الله ونفع القريب فإنك تتمتع بالحرية الداخلية. لو كان قلبك مستقيمًا، لأضحت لك كل خليقةٍ مرآة حياة، وكتاب تعليمٍ مقدَّس. إذ ما من خليقةٍ، مهما صغرت وحقرت، إلاَّ وتمثل جودة الله. 2 – لو كنت في داخلك صالحًا طاهرًا، لرأيت كل شيءٍ وأدركته من غير ما عائق، فإن القلب الطاهر يخترق السماء والجحيم. كلٌّ يقضي في ظواهر الأمور، بحسب ما انطوت عليه سريرته. إن كان فرحٌ في الدنيا، فهو، بلا مراء، نصيب الرجل الطاهر القلب. وإن كان، في موضعٍ ما، شدَّةٌ أو ضيق، فليس أعرف بهما من الضمير الشرير. كما أن الحديد يفقد في النار صدأه، ويصبح كله متوهجًا، كذلك الإنسان التائب إلى الله توبة كاملة، يخلع عنه الفتور، ويتحول إلى إنسانٍ جديد. 3 – إذا أخذ الإنسان في الفتور، أصبح يخاف من أقل عناء، ويرتاح لاستمداد التعزية الخارجية. أما إذا بدأ يقمع نفسه قمعًا كاملًا، ويسير بشجاعةٍ في سبل الله، فحينئذٍ يستخف ما كان يجد من قبل ثقيلًا. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
السفر الثاني: النصائح الجاذبة إلى الحياة الباطنية ”في الصليب الخلاص، في الصليب الحياة، في الصليب الحماية من الأعداء، في الصليب فيضان العذوبة العلويّة، في الصليب قوة النفس، في الصليب فرح الروح، في الصليب تمام الفضيلة، في الصليب كمال القداسة”. (2 اقتداء 12: 2). |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في تبصر الإنسان نفسه 1 – لا يمكننا الوثوق كثيرًا بأنفسنا، إذ كثيرًا ما تنقصنا النعمة والبصيرة. ضئيل النور الذي فينا، وسرعان ما نفقده بتهاوننا. وفي الغالب أيضًا لا ندرك كم نحن عميان في دواخلنا. كثيرًا ما نسيء العمل، ثم نعتذر عنه بما هو شرٌّ منه. إن الأهواء هي التي تحركنا أحيانًا، ونحن نحسبها غيرة. نلوم الآخرين على هفوات صغيرة، ونحن نتجاوز عن ذنوبٍ فينا أفظع منها. إن ما نحتمله من الآخرين، سرعان ما نستعظمه ونتأثر له. أما ما يتحمله الآخرون منا -وما أكثره!- فلا نأبه له. من وزن أعماله بدقةٍ وإنصاف، لم يبق له ما يحكم به بقسوةٍ على الآخرين. 2 – رجل الحياة الداخلية، يقدم الاهتمام بنفسه على كل اهتمام آخر ومن اهتم اهتمامًا جديًا بشؤون نفسه، هان عليه الصمت عن شؤون الآخرين. إنك لن تصبح أبدًا رجل عبادةٍ وحياةٍ داخلية ما لم تصمت عن شؤون الآخرين، وتنعم النظر في نفسك. إن تفرغت لنفسك ولله تفرغًا تامًا، فقلما تتأثر لما تراه في الخارج. أين أنت حين تغيب عن نفسك؟ وإذا استقريت كل شيءٍ وغفلت عن نفسك، فما المنفعة؟ إن ابتغيت السلام والاتحاد الحقيقي بالله، فعليك أن تنبذ كل شيءٍ وراء ظهرك، ولا تضع نصب عينيك سوى نفسك. 3 – إنك لتتقدم كثيرًا، إن حفظت نفسك خاليًا من كل اهتمام زمني. لكنك تتقهقر جدًا، إن أكبرت شيئًا من الزمنيات. لا تحتسب عظيمًا، أو ساميًا أو شهيًا، أو جديرًا بالقبول، إلاَّ الله وحده، أو ما كان من الله. وكل تعزية تأتيك من إحدى الخلائق، فاحتسبها باطلة. فالنفس الحبة لله، تحتقر كل ما هو دون الله. ليس سوى الله أزليٌّ عظيم، مالئٌ كل شيء، وهو وحده تعزية النفس، وفرح القلب الحقيقي. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في فرح الضمير الصالح 1 – ”فخر الرجل الصالح، شهادة ضميره الصالح″ (2 كورنثيين 1: 12) كن صالح الضمير، تتمتع بفرح دائم. ألضمير الصالح يستطيع احتمال شدائد كثيرةٍ جدًا، وفي وسطها لا يبرحه الفرح الجزيل. أما الضمير الشرير، فمتخوفٌ مضطربٌ على الدوام. ما أعذب راحتك، إن كان قلبك لا يبكتك! لا تفرح إلاَّ إذا أحسنت الصنيع. ليس للأشرار فرحٌ حقيقي، وهم لا يشعرون أبدًا بالسلام الداخلي، لأنه “لا سلام للكفرة، يقول الرب″ (اشعيا 48: 22). فإن قالوا:”نحن في سلام، ولا تحل بنا الشرور″ (ميخا 3: 11)، ومن يجسر أن يضرنا؟ – فلا تصدقهم، لأن غضب الله يثور بغتة فتتلاشى أعمالهم، وتهلك تدابيرهم″ (مزمور 145: 4). 2 – ألافتخار بالضيق ليس صعبًا على المحب، لأن افتخار كهذا إنما هو: “افتخارٌ بصليب الرب″ (غلاطيين 6: 14). قصيرٌ المجد الذي يتبادله البشر في ما بينهم، ومجد العالم لا يخلو أبدًا من الكآبة. مجد ذوي الصلاح في ضمائرهم، لا في أفواه الناس. مسرة الصّدّيقين من الله وفي الله، وفرحهم من الحقيقة. من رام المجد الحقيقي الأبديّ، لا يأبه للزمني. ومن طلب المجد الزمني، أو لم يحتقره بكل قلبه فقد أظهر قلة حبه للسماوي. إنه لفي طمأنينة قلبٍ عظيمة، من لا يبالي بالمديح ولا المذمة. 3 – نقيُّ الضمير يقنع ويتدع بسهولة. إنك لا تزداد قداسةً إن مدحت، ولا حقارةً إن ذممت. أنت ما أنت، ولا يمكن أن تحسب أعظم مما أنت عليه في حكم الله. إن اعتبرت ما أنت عليه في داخلك، فلا تبالي بما يقول فيك الناس. ”الإنسان إلى الوجه ينظر، أما الله فإلى القلب″ (1ملوك 16: 7). الإنسان يلتفت إلى الأعمال، أما الله فيزن النيات. حسن الصنيع دومًا مع استصغار الذات، هو علامة النفس المتواضعة، رفض التعزيات من كل خليقة، دليل على طهارةٍ عظيمةٍ وثقةٍ داخلية. 4 – من لا يطلب لنفسه شهادةً من الخارج، يوضح أنه قد استسلم لله استسلامًا كاملًا، إذ “ليس من وصى بنفسه هو المزكى، بل من وصى به الله″ (2 كورنثيين 10: 18)، على ما قال بولس المغبوط. فالسلوك مع الله في الداخل، والتحرر من كل ميلٍ في الخارج، تلك هي حال الإنسان الداخلي. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في محبة يسوع فوق كل شيء 1 – طوبى لمن يدرك ما هو حب يسوع، واحتقار الذات من أجل يسوع! عليك أن تهجر كل حبيبٍ من أجل هذا الحبيب. لأن يسوع يريد أن يحبَّ وحده فوق كل شيء. حبُّ الخليقة خداعٌ لا يدوم، أما حب يسوع فوفيٌّ ثابت. من علق بخليقةٍ واهيةٍ سقط معها، ومن اعتنق يسوع يثبت إلى الأبد. أحبب وصادق من لا يخذلك إذا ارتد عنك الجميع، ولا يدعك تهلك عند المنتهى. لا بد لك أن تنفصل يومًا عن الجميع، شئت أم أبيت. 2 – كن في حياتك ومماتك بقرب يسوع، وسلم نفسك إلى أمانته، فإنه وحده قادرٌ أن ينصرك إذا تخلى عنك الجميع. من طبع حبيبك أن لا يرضى له بشريك، بل يريد أن يكون قلبك ملكًا له وحده، يجلس فيه كملكٍ على عرشه الخاص. لو عرفت أن تخلي نفسك من كل خليقة، لارتاح يسوع إلى مساكنتك. إن ما تضعه في الناس خارجًا عن يسوع، يكاد كله يذهب ضياعًا. لا تعتمد ولا تتوكأ على قصبةٍ تعبث بها الريح، “فإن كل بشرٍ عشب، وكل مجده يسقط كزهر العشب″ (اشعيا 40: 6 ؛1 بطرس 1: 24). 3 – إن أنت قصرت النظر على ظواهر الناس خدعت سريعًا. فإن طلبت لك في الآخرين تعزيةً وربحًا، فلست بواجدٍ، في الغالب، سوى الخسران. وإن طلبت يسوع في كل شيء، فإنك واجدٌ يسوع بلا مراء. أما إذا طلبت نفسك، فإنك واجدها أيضًا، ولكن لهلاكك. فالإنسان، إن لم يطلب يسوع، يكون أعظم إضرارًا بنفسه، من جميع أضداده ومن العالم كله. لمجده تعالى. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في صداقة يسوع ومؤالفته 1 – إذا كان يسوع حاضرًا، فكل شيءٍ مستحب، ولا شيء يبدو عسيرًا، فإذا تغيب يسوع، فكل شيءٍ يكون ثقيلًا. إن لم يتكلم يسوع في الداخل، فالتعزية تافهة، فإن نطق بكلمةٍ واحدة، شعر الإنسان بتعزيةٍ عظيمة. ألم تقم مريم المجدلية، في الحال، من الموضع الذي كانت تبكي فيه، حينما قالت لها مرتا:”ألمعلم حاضرٌ وهو يدعوكِ″؟ (يوحنا 11: 28). ما أسعد الساعة، التي يدعوك فيها يسوع من الدموع إلى فرح الروح! ما أجفك وأشدَّ يبوستك بدون يسوع! ويا لغباوتك وبطلان رأيك، إن اشتهيت شيئًا آخر غير يسوع! أليس ذلك خسارةً لك، أعظم مما أن تفقد العالم بأسره؟ 2 – ماذا يستطيع العالم أن يعطيك بدون يسوع؟ العيش بدون يسوع جحيمٌ لا تطاق، أما العيش مع يسوع، فنعيمٌ عذب. إن كان يسوع معك، فلا عدو يستطيع مضرتك. من وجد يسوع، فقد وجد كنزًا ثمينًا، بل خيرًا يفوق كلَّ خير. ومن خسر يسوع فخسارته عظيمة، بل أعظم، بكثير، مما لو خسر العالم بأسره. إنه لفقيرٌ جدًا من عاش بدون يسوع وغنيٌّ كلَّ الغنى من عاش هانئًا في صحبة يسوع. 3 – علمٌ عظيمٌ معاشرة يسوع، وحكمةٌ ساميةٌ معرفة الإقامة معه. كن متواضعًا مسالمًا، يقم يسوع معك. كن تقيًا ومطمئنًا، فيمكث يسوع معك. سرعان ما تُنفّرُ يسوع وتخسر نعمته، إن شئت الانصراف إلى الأمور الخارجية. وإن أنت نفَّرته وفقدته، فإلى من تلجأ حينئذٍ؟ ومن تلتمس لك صديقًا؟ لا يمكنك العيش سعيدًا بدون صديق، وإن لم يكن يسوع صديقًا لك فوق الجميع، فإنك تكون في كآبةٍ ووحشةٍ عظيمة. فمن الغباوة إذن، أن تجعل ثقتك أو مسرتك في أحدٍ غيره. والأجدر بك أن تؤثر عداوة العالم بأسره، على إسخاط يسوع. فليكن إذن يسوع وحده حبيبك الخاص، من بين أحبائك جميعًا. 4 – ليحبَّ الجميع من أجل يسوع، أما يسوع، فمن أجل ذاته. فإن يسوع المسيح وحده جديرٌ بهذا الحب الخاص، لأنه وحده صالحٌ أمينٌ دون جميع الأصدقاء. فيه ومن أجله أحبب الأصدقاء والأعداء، ولأجلهم جميعًا تضرع إليه لكي يعرفوه جميعهم ويحبوه. لا تشته البتة أن تخص بمدحٍ أو محبة، فإن ذلك لله وحده، وليس له من نظير. لا ترغبن أن تشغل قلب أحد، وأنت لا يشغلنك حب أحد، بل فليكن يسوع فيك وفي كل إنسانٍ صالح. 5 – كن طاهر القلب، حرًا، خاليًا من كلّ تعلقٍ بالخلائق. إن شئت أن تكون حرًا، وتتذوق ما أطيب الرب، فعليك أن تتجرد من كل شيء، وتحمل إلى الله قلبًا طاهرًا. ولكن، إن لم تبادر نعمته وتجتذبك، فإنك لن تستطيع أن تتجرد عن جميع الأشياء وتطرحها، وتتحد أنت وحدك به وحده. فالإنسان متى أتته نعمة الله، أصبح قادرًا على كل شيء، فإذا بارحته، أصبح فقيرًا ضعيفًا، كأنه لم يترك إلاَّ للضربات. فعليه، حتى في هذه الحال، أن لا يفشل أو يقنط، بل أن يستسلم بطمأنينة لمشيئة الله، ويتحمل، لمجد يسوع المسيح، كلَّ ما ينزل به، لأنه بعد الشتاء يأتي الصيف وبعد الليل يعود النهار، وبعد العاصفة هدوءٌ عظيم. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في حرمان كل تعزية 1 – ليس بالصعب احتقار التعزية البشرية، إن وجدت الإلهية. بل العظيم، والعظيم جدًا، أن يطيق الإنسان حرمان كلتا التعزيتين: ألبشرية والإلهية، وأن يصبر على وحشة القلب بطيبة نفس، إكرامًا لله وأن لا يطلب ذاته في شيءٍ البتة، ولا يلتفت إلى استحقاقاته الخاصة. هل من عظيمٍ في أن تكون متهللًا عابدًا حين إقبال النعمة؟ – إنها لساعةٌ يتمناها الجميع. عذبٌ المسير على من حملته نعمة الله. وأيُّ عجبٍ في أن لا يشعر بحمله، من حمله القدير، وقاده المرشد الأعظم؟ 2 – إنَّا لنرتاح إلى شيءٍ يعزينا، والإنسان قلما يتجرد من نفسه بغير صعوبة. إن القديس الشهيد لورنتيوس، في ما جرى له مع أسقفه قد تغلب على العالم لأنه أعرض عن كل ما يبدو مستلذًّا في العالم، واحتمل بوادعةٍ، حبًّا للمسيح، أن يقصى عنه سكتس كاهن الله الأعظم، ألذي كان هو يحبه حبًا جمًا، فغلب حب البشر بحب الخالق، وآثر مرضاة الله على التعزية البشرية. فهكذا تعلم أنت أيضًا، أن تتخلى حبًا لله، عن صديقٍ قريبٍ إليك وعزيزٍ عليك. ولا تغتم إن هجرك الصديق، بل اعلم أنه لا بد لنا جميعًا أن ننفصل أخيرًا بعضنا عن بعض. 3 – على الإنسان أن يجاهد كثيرًا وطويلًا في داخله، قبل أن يتعلم كيف ينتصر على نفسه تمام الانتصار، ويوجه إلى الله جميع عواطفه. إن اعتمد الإنسان على نفسه، جنح بسهولةٍ إلى التعزيات البشرية. أما محب المسيح الحقيقي، ألساعي وراء الفضائل بنشاط، فلا يتهافت على التعزيات، ولا يطلب مثل تلك العذوبات الحسية، بل بالحري الجهادات الصعبة، وتحمل المتاعب الشديدة، من أجل المسيح. 4 – فإذا منحك الله تعزيةً روحية، فاقبلها بشكر، ولكن اعلم أنها عطيةٌ من الله لا حقٌّ لك. لا تترفع، ولا تبطر، ولا يأخذك العجب الباطل، بل كن بالحري، بسبب العطية أكثر تواضعًا وحذرًا وخوفًا في جميع أعمالك، لأن تلك الساعة ستجوز، وتعقبها التجربة. إذا رفعت عنك التعزية، فلا تقنط في الحال، بل انتظر الافتقاد السماوي بتواضع وصبر، لأن الله قادرٌ أن يعود فيمنحك تعزيةً أعظم. وما ذلك بالجديد ولا بالغريب، عند الذين خبروا طريق الله. فإن أعاظم القديسين، والأنبياء الأقدمين، كثيرًا ما عرفوا مثل هذا التقلب. 5 – لذلك قال أحدهم -والنعمة حاضرةٌ لديه-: ”أنا قلت في رغدي: لن أتزعزع إلى الأبد“ (مزمور 29: 7). ولكنه، عند انصراف النعمة، أردف معبرًا عما شعر في داخله: ”حوَّلت وجهك عني، فصرت مرتاعًا“ (مزمور 29: 8)، على أنه، في ارتياعه هذا، لا يقنط أبدًا، بل يبتهل إلى الرب بإلحاح أعظم، قائلًا: ”إليك أيها الربُّ أصرخ، إليك يا إلهي أتضرع“ (مزمور 29: 9)، فجنى أخيرًا ثمرة صلاته، وشهد أن قد استجيب له فقال: ”إستمع الرب ورحمني، ألرب كان لي ناصرًا“ (مزمور 29: 11)، ولكن في أي شيء؟ – فيقول: ”لقد حولت ندبي إلى فرح، ونطَّقتني بالسرور“ (مزمور 29: 12). فإن كان أعاظم القديسين قد عوملوا بمثل ذلك، فعلينا ألاَّ نقنط نحن الضعفاء المساكين، إن كنا حينًا في الحرارة وحينًا في البرودة، لأن الروح يجيء ويذهب بحسب مرضاة مشيئته. ولذلك قال أيوب المغبوط: ”تفقده كل صباح، وفي الحال تمتحنه“ (أيوب 7: 18). 6 – فبأي شيءٍ إذن أنوط رجائي، أم على أي شيءٍ أتوكل إلاَّ على رحمة الله العظيمة، وعلى رجاء النعمة السماوية؟ فإنه سواءٌ عشت بين قومٍ صالحين، أم عاشرت إخوة أتقياء، أو أصدقاء أوفياء، أم قرأت كتبًا مقدسة أو أبحاثًا بديعة، أم سمعت ترانيم عذبةً وأناشيد، فقلما ينفعني كل ذلك، وقلما أتذوقه، إن كنت في وحشةٍ من نعمتك، متروكًا في مسكنتي الخاصة. فليس لي حينئذٍ دواءٌ أنجح من الصبر، والاستسلام لمشيئة الله. 7 – إني لم أجد قط أحدًا قد أصبح من الصبر من العبادة والتقوى، بحيث لا تنقطع عنه النعمة أحيانًا، او لا يشعر بنقصٍ في الحرارة. ما من قديسٍ تسامى في الانخطاف والاستنارة، إلاَّ وقد جرب من قبل أو من بعد. ليس أهلًا لمشاهدة الله السامية، من لم يبتل ببعض المضايق من أجل الله. فإن التعزية اللاحقة، إنما علامتها، عادةً، تجربةٌ سابقة. إذ المبتلون بالتجارب، هم الذين قد وعدوا بالتعزية السماوية: فلقد قال الرب: ”من غلب فإني أُوتيه أن يأكل من شجرة الحياة“ (رؤيا 2: 7). 8 – وإنما تعطى التعزية الإلهية، لكي يزداد الإنسان قوةً على احتمال الشدائد، ثم تعقبها التجربة، لئلا يترفع لصلاحه. إن إبليس لا ينام، والجسد لم يمت حتى الآن، فلا تكف عن التأهب للجهاد، لأن الأعداء عن يمينك وشمالك، وهم أبدًا لا يهدأون. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في الشكر على نعمة الله 1 – لم تطلب الراحة، وأنت مولودٌ للعناء؟ أعدد نفسك للصبر أكثر مما للتعزيات، ولحمل الصليب أكثر مما للفرح. إذ من، من أهل العالم، لا يرتاح إلى قبول التعزية والفرح الروحي، لو أمكنه التمتع بها على الدوام؟ فالتعزيات الروحية، تفوق جميع تنعمات العالم وملذات الجسد. لأن جميع تنعمات العالم، إما باطلةٌ وإما مخزية. أما اللذَّات الروحية، فهي وحدها عذبةٌ شريفة، وليدة الفضائل، يفيضها الله في النفوس الطاهرة. بيد أنه ما من أحدٍ يستطيع التمتع دومًا بتلك التعزيات الإلهية، وفق مرامه، لأن انقطاع التجربة لا يدوم طويلًا. 2 – أما ما يقاوم كثيرًا الافتقاد العلوي، فهو حرية الروح الزائفة، والاعتماد المفرط على الذَّات. إن الله يحسن الصنيع بمنحه نعمة التعزية، ولكن بئس ما يفعل الإنسان، إن هو لم ينسب كل شيءٍ، بشكرٍ، إلى الله. وإن كانت مواهب النعمة لا تجري فينا، فلأنا ننكر إحسان واهبها، ولا نعيد كل شيءٍ إلى ينبوعه الأصلي. فإن النعمة واجبةٌ دومًا لمن يحسن الشكر عليها، أما المترفع، فينزع منه ما يمنح عادةً للمتواضع. 3 – أنا لا أُريد تعزيةً تسلبني الانسحاق، ولا أرغب في تأملٍ يقودني إلى التشامخ. إذ ليس كل سامٍ مقدسًا، ولا كل عذبٍ صالحًا، ولا كل رغبةٍ طاهرة، ولا كل عزيزٍ مرضيًا لدى الله. ولكني أرتاح إلى قبول نعمةٍ، تجعلني دائمًا أكثر تواضعًا ومخافة، وأكثر استعدادًا لإنكار ذاتي. من علمته موهبة النعمة، وأدبه سياط حرمانها، لا يجسر أن ينسب إلى نفسه شيئًا من الصلاح، بل بالحري يعترف أنه بائس عريان. أعط ما لله لله، وانسب إلى نفسك ما هو لك. ومعنى ذلك: أد لله شكرًا على النعمة، أما الذنب فانسبه إلى نفسك وحدها، وأيقن أن ما تستوجبه، إنما هو العقاب العادل على ذنبك. 4 – ضع نفسك أبدًا في المحل الأدنى، تعط الأسمى، لأن الأسمى لا يقوم بغير الأدنى. فإنَّ أعاظم القديسين لدى الله هم أصغرهم لدى أنفسهم، وعلى مقدار مجدهم، يزدادون تواضعًا في أنفسهم. لقد ملأهم الحق والمجد السماوي، فهم لا يطمعون في المجد الباطل. إنهم مؤسسون وموطدون في الله، فلا يمكنهم أن يتشامخوا بوجهٍ البتة. وهم يعزون إلى الله كلَّ ما نالوا من الخير، فلا يطلبون المجد بعضهم من بعض، وإنما يبتغون المجد الذي من الله فقط، ويتوقون فوق كل شيء، أن يمجد الله فيهم وفي جميع القديسين، وهذا ما يقصدون إليه على الدوام. 5 – فكن إذن شكورًا على القليل، فتضحي أهلًا لنيل الكثير. وليكن القليل عندك كالكثير، والحقير الزري كمنحةٍ خاصة. إذا نظرت إلى قدر المعطي، فما من عطيةٍ تبدو لك صغيرة أو حقيرة، لأن ما يعطيه الإله الأسمى لا يكون صغيرًا. يجب أن تشكر له ما يعطيك، وإن عقابًا وضربات، لأن كل ما يسمح أن يحل بنا، إنما يفعله دومًا لأجل خلاصنا. فمن رام أن يحفظ نعمة الله، فليكن شكورًا إذا منح النعمة، صبورًا إذا سلبها. وليصل لترد إليه، وليكن حذرًا متواضعًا لئلاَّ يفقدها. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في قلة المحبين لصليب يسوع 1 – إن ليسوع الآن تباعًا كثيرين، يرغبون في ملكوته السماوي، أما حاملو صليبه فقليلون. كثيرون يبتغون تعزيته، أما مبتغو مضايقه فقليلون. كثيرون يشاركونه في المائدة، أما شركاؤه في التقشف فقليلون. الجميع يرغبون في أن يفرحوا معه، أما الذين يريدون احتمال شيءٍ من أجله فقليلون. كثيرون يتبعون يسوع إلى كسر الخبز، أما تابعوه إلى شرب كأس الآلام فقليلون. كثيرون يكرمون معجزاته، أما الذين يتبعونه في عار الصليب فقليلون. كثيرون يحبون يسوع، ما دامت المحن لا تنتابهم. كثيرون يسبحونه ويباركونه، ما داموا يحصلون على بعض تعزياته؛ فإن توارى يسوع وتركهم قليلًا، سقطوا في التذمر أو في فشلٍ مفرط. 2 – أما الذين يحبون يسوع لأجل يسوع، لا لأجل تعزيتهم الذاتية، فإنهم يباركونه في كل مضايقهم وكرب قلوبهم، كما في أعظم التعزيات. ولو شاء أن لا يعطيهم التعزية أبدًا، فهم، مع ذلك، يسبحونه دائمًا، ودائمًا ويبتغون شكره. 3 – آه! ما أقوى حبَّ يسوع، إذا كان خالصًا لا يشوبه شيءٌ من الحب الذاتي، أو المصلحة الشخصية! أليس من الواجب أن يدعوا جميعهم أُجراء أُولئك الذي يسعون أبدًا وراء التعزيات؟ ألا يثبتون أنهم يحبون أنفسهم أكثر من حبهم للمسيح أُولئك الذين يفكرون دومًا في مصالحهم ومرابحهم الشخصية؟ أين تجد إنسانًا يرضى أن يخدم الله مجانًا؟ 4 – إنه لمن النادر وجود رجلٍ بلغ، من الحياة الروحية، درجة التجرد من كل شيء. لأن المسكين حقًا بالروح، ألمتجرد من كل خليقة، من يجده؟ – “من بعيدٍ ومن أقصى الأقاصي ثمنه″ (أمثال 31: 10). ”لو بذل الإنسان جميع ماله″ (نشيد الأناشيد 8: 7)، فليس بعد شيئًا، ولو قام بأعمال توبةٍ شاقة، فذلك ضئيل أيضًا، ولو حصل كل العلوم. فلا يزال بعيدًا، ولو كان ذا فضيلةٍ كبرى وعبادةٍ مضطرمة الحرارة، فلا يزال ينقصه الشيء الكثير، أي الشيء الأوحد، الذي هو في شديد الحاجة إليه. وما هو هذا الشيء؟ – أن يترك ذاته بعد تركه كل شيء، ويتجرد من نفسه تمام التجرد، ولا يستبقي شيئًا من الحب الذاتي، وإذا عمل كل ما يعرفه واجبًا عليه، أن لا يحسب نفسه قد عمل شيئًا. 5 – ولا يستعظمن ما قد يمكن استعظامه، بل فليعترف، بصدقٍ، أنه عبد بطَّال، كما يقول الحق:”إذا فعلتم جميع ما أُمرتم به، فقولوا: إنَّا عبيدٌ بطَّالون″ (لوقا 17: 10). وحينئذٍ يستطيع، حقًا، أن يكون مسكينًا ومتجردًا بالروح، وأن يقول مع النبي:”إني وحيدٌ وبائس″ (مزمور 24: 16). على أنه ما من أحدٍ أغنى، وما من أحدٍ أقدر، وما من أحدٍ أكثر حرية، ممن عرف أن يترك نفسه وكل شيء، ويضع نفسه في المحل الأدنى. |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
في طريق الصليب المقدس الملكية 1 – إنه لصعبٌ على الكثيرين هذا الكلام: ”أنكر نفسك، واحمل صليبك واتبع يسوع“ (لوقا 9: 23). ولكنه سيكون أصعب جدًا سماع هذه الكلمات الأخيرة: ”إليكم عني يا ملاعين إلى النار الأبدية“ (متى 25: 41). فالذين يرتاحون الآن إلى سماع وصية الصليب واتباعها، لن يخافوا حينئذٍ أن يسمعوا حكم الهلاك الأبدي. ”وإن علامة الصليب هذه ستكون في السماء حينما يأتي الرب للدينونة“ (متى 24: 30). حينئذٍ جميع عبيد الصليب، الذين تشبهوا في حياتهم بالمصلوب، يدنون إلى المسيح الديان، بثقةٍ عظيمة. 2- فلم تخاف إذن من حمل الصليب، الذي به يذهب إلى الملكوت؟ في الصليب الخلاص، في الصليب الحياة، في الصليب الحماية من الأعداء، في الصليب فيضان العذوبة العلوية، في الصليب قوة النفس، في الصليب فرح الروح، في الصليب تمام الفضيلة، في الصليب كمال القداسة. لا خلاص للنفس، ولا أمل في الحياة الأبدية، إلاَّ في الصليب. فاحمل إذن صليبك واتبع يسوع، تبلغ إلى الحياة الأبدية. لقد سبقك هو “حاملًا صليبه“ (يوحنا 19: 17)، ومات لأجلك على الصليب، لكي تحمل أنت أيضًا صليبك، وتتوق إلى الموت على الصليب. فإنك ”إن مت معه، فستحيا أيضًا معه“ (رومانيين 6: 8)، وإن شاركته في العذاب، فستشاركه في المجد أيضًا. 3– ها في الصليب قوام كل شيء، وفي الموت أساس كل شيء، وليس من طريقٍ آخر إلى الحياة والسلام الداخلي الحق سوى طريق الصليب المقدس، والإماتة اليومية. اذهب حيثما شئت، واطلب كل ما أردت، فإنك لن تجد في العلو طريقًا أسمى، ولا في الانخفاض طريقًا آمن من طريق الصليب المقدس. دبر ورتب كل شيءٍ وفق إرادتك ورأيك، ولكنك لن تجد أبدًا شيئًا آخر، سوى أنه لا بد لك من التألم في شيءٍ ما، شئت أم أبيت. وهكذا ستجد الصليب على الدوام. فإما أن تشعر بالأوجاع في جسدك، وإما أن تعاني ضيق الروح في نفسك. 4 – تارةً يجذلك الله، وطورًا يزعجك القريب، وما هو أعظم من كليهما، أنك كثيرًا ما تكون، أنت نفسك، ثقلًا على نفسك. ومع ذلك، فما من دواءٍ ولا تعزيةٍ لتخلصك أو التفريج عنك، بل عليك أن تصبر إلى ما شاء الله. فإن الله يريد تدريبك على احتمال الضيق بدون تعزية، لتخضع له خضوعًا تامًا، وتعود من الضيق أكثر تواضعًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع ما من أحدٍ يشعر حتى صميم قلبه، بآلام المسيح، مثل من أُوتي أن يحتمل آلامًا تشبهها. فالصليب مهيأٌ أبدًا، وهو ينتظرك في كل مكان. لا تستطيع التملص منه أينما هربت، لأنك حيثما ذهبت فأنت تحمل معك نفسك، وتجد دائمًا نفسك. أُنظر إلى ما فوق وانظر إلى ما أسفل، أُنظر إلى ما هو خارج عنك وانظر إلى ما في داخلك، تجد الصليب فيها كلها. فعليك بالصبر في كل مكان، إن شئت الحصول على السلام الداخلي، واستحقاق الإكليل الخالد. 5 – إن حملت الصليب طوعًا، حملك هو، وسار بك إلى الغاية المشتهاة، حيث انتهاء الألم – وإن لم يكن ذلك في هذه الحياة؛ وإن حملته على كراهية، فقد حملت حملًا يزيد في أثقالك، ومع ذلك فلا بد لك من حمله. وإن أطرحت صليبًا، وجدت بلا شك صليبًا آخر، وقد يكون أثقل منه. 6 – أتظن، أنت، أنك تتملص مما لم يستطع قط بشرٌ أن يفلت منه؟ من من القديسين خلا، في حياته، من صليبٍ ومضايق؟ فإنه ولا ربنا يسوع المسيح، قد خلا ساعةً واحدة في حياته كلها من معاناة الآلام. فلقد قال:”كان ينبغي للمسيح أن يتألم ويقوم من بين الأموات، ثم يدخل هكذا إلى مجده“ (لوقا 24: 26، 46). فكيف تطلب أنت طريقًا أُخرى، غير هذه الطريق الملكية طريق الصليب المقدس؟ 7 – حياة المسيح كانت كلها صليبًا واستشهادًا، وأنت تطلب لنفسك الراحة والفرح؟ إنك لفي ضلالٍ لفي ضلال، إن طلبت شيئًا آخر سوى مقاساة المضايق، لأن هذه الحياة المائتة، مفعمةٌ كلها بالشقاء ومكتفة بالصلبان؟ وبمقدار ما يسمو الإنسان في التقدم الروحي، يجد في الغالب صلبانًا أثقل، لأن عذاب منفاه يتزايد بسبب حبه. 8 – غير أن الرجل المبتلى بمثل هذه المحن الكثيرة، لا يكون بغير تعزيةٍ تخففها، لأنه يشعر بتزايد الثمار العظيمة، الناتجة من احتمال الصليب. فإنه عندما يخضع للصليب طوعًا، ينقلب كل ثقل الشدائد ثقةً بالتعزية الإلهية. وبمقدار ما يسحق جسده بالبلوى، تزداد روحه قوةً بالنعمة الداخلية. ولقد يشدده أحيانًا حبُّ المضايق والشدائد، لرغبته في التشبه بالمسيح المصلوب، بحيث لا يريد البقاء بلا أوجاع ومضايق. لتيقنه أنه يضحي أكثر قبولًا لدى الله، بمقدار ما تكثر وتشتد المحن التي يستطيع احتمالها لأجله. على أن ذلك لا يتم بقدرة الإنسان، بل بنعمة المسيح، التي لها من القوة والفعل في الجسد الضعيف، ما يجعله يقبل، بحرارة الروح، على ما كان يتجنب دائمًا، فيحبه بعد إذ كان يكرهه من طبعه. 9 – ليس من طبع الإنسان حمل الصليب وحب الصليب، وقمع الجسد واستعباده، والهرب من الكرامات، واحتمال الإهانات برضى، واحتقار الذات، وتمني الاحتقار من الآخرين، واحتمال الشدائد والمضار، وعدم ابتغاء شيءٍ من النجاح في هذه الدنيا. فإن نظرت إلى نفسك، فأنت لا تستطيع بذاتك شيئًا من ذلك، لكنك إن اتكلت على الرب، تعطى القوة من السماء، فيخضع لسلطانك العالم والجسد. بل إنك لا تخاف حتى عدوك إبليس، إن كنت متسلحًا بالإيمان، ومتسمًا بصليب المسيح. 10 – فمثل عبدٍ للمسيح صالحٍ أمين، أعدد نفسك لأن تحمل ببسالةٍ صليب ربك، الذي صلب حبًا لك. أعدد نفسك لاحتمال شدائد كثيرة، وضيقاتٍ شتى، في هذه الحياة الشقية، فذلك نصيبك أينما اختبأت. ذلك ما لا بد منه، ولا دواء للنجاة من المضايق والشرور والأوجاع، إلاَّ اعتصامك بالصبر. إشرب بشوقٍ كأس الرب، إن اشتهيت أن تكون صديقًا له، وأن يكون لك نصيب معه. فوض إلى الله أمر التعزيات، وليتصرف فيها بما يكون أكثر مرضاة له. أما أنت، فأعدد نفسك لاحتمال المضايق، وعدها كأعظم التعزيات، لأن “آلام هذا الدهر، لا تتناسب والمجد الآتي” (رومانيين 8: 18) فتستحقه لك، ولو استطعت أن تحتملها كلها أنت وحدك. 11 – فإذا أصبحت، من الكمال، بحيث تضحي المضايق لديك عذبةً مستطابةً لأجل المسيح، حينئذٍ، احسب نفسك سعيدًا، إذ قد وجدت النعيم على الأرض. ما دمت تستثقل الآلام وتطلب التملص منها، فأنت في شقاء، وأينما ذهبت، تبعتك المضايق التي تهرب منها. 12 – إن أعددت نفسك لما لا بد منه -أعني التألم والموت- فسرعان ما تطيب نفسًا وتجد السلام. فإنك، ولو ”اختطفت مع بولس إلى السماء الثالثة“ (2كورنثيين 12: 2)، لست لذلك في مأمن من كل بلية، ”فإني سأريه -يقول يسوع- كم ينبغي له أن يتألم من أجل اسمي“ (أعمال 9: 16). فما لك إذن سوى التألم، إن شئت أن تحب يسوع وتخدمه على الدوام. 13 – يا ليتك كنت أهلًا لأن تحتمل بعض الشدَّة، لأجل اسم يسوع! إذن فما أعظم ما كنت تذخر لنفسك من المجد! وما أعظم ما كان ينشأ عن ذلك، من الفرح لجميع قديسي الله، ومن البنيان للقريب! الجميع يوصون بالصبر، فيما الذين يرضون بالاحتمال قليلون. إنه ليحق لك بصواب، أن تحتمل، عن نفسٍ طيبة، يسيرًا من الآلام لأجل المسيح، فيما الكثيرون يحتملون أعظم من ذلك لأجل العالم. 14 – اعلم يقينًا أن حياتك كلها ينبغي أن تكون موتًا، وأنه بمقدار ما يموت الإنسان عن نفسه يبتدئ يحيا لله أكثر فأكثر. ما من أحدٍ أهلٌ لإدراك السماويات، إن لم يخضع نفسه لاحتمال الشدائد من أجل المسيح. لا شيء، في هذا العالم، أكثر مرضاة لله، ولا أعظم فائدة لخلاصك، من التألم بطيبة نفس لأجل المسيح. ولو خيرت، لوجب عليك أن تؤثر احتمال الشدائد حبًا للمسيح، على التمتع بوفرة التعزيات، إذ تكون بذلك أكثر مشابهةً للمسيح، وأشدَّ مماثلةً لجميع القديسين. فإن استحقاقنا وتقدمنا لا يقومان بكثرة العذوبات والتعزيات، بل بالأولى، باحتمال الشدائد والمضايق العظيمة. 15 – لو كان ثمة شيءٌ أفضل وأنفع لخلاص البشر، من التألم لكان المسيح، بلا شك، أرشدنا إليه بالقول والمثال. لكنه يحرض صريحًا على حمل الصليب، التلاميذ الذين تبعوه، وجميع الراغبين في اتباعه قائلًا:”من أراد أن يتبعني، فلينكر ذاته، ويحمل صليبه ويتبعني“ (متى 16: 24). فبعد استقصائنا في المطالعة والبحث، لنستنتج، أخيرًا، أنه “بمضايق كثيرة، ينبغي لنا أن ندخل ملكوت الله“ (أعمال 14: 21). |
رد: كتاب الاقتداء بالمسيح - الراهب توماس أكيمبيس
السفر الثالث: تعزية القلب ”طوبى للنفس التي تسمع الرب يتكلم فيها، وتقبل من فمه كلام التعزية!” (3 اقتداء 1: 1). |
الساعة الآن 08:57 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025