منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=283657)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 05:48 PM

كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
القمص أثناسيوس فهمي جورج

الصوم الكبير كنسيًا

للصوم الأربعيني الكبير مكانة خاصة في كنيستنا، فهو أقدس أيام السنة، ونقول عنه إنه صوم سيدي، لأن سيدنا يسوع المسيح قد صامه، لذا فهو من الأصوام الهامة في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية. وتدخل الكنيسة فيه فترة اعتكافها وتوبتها الليتروجية، فهو ربيع السنة الروحية وزمن الاعتكاف والالتقاء مع الله.

ورسمت كنيستنا هذا الصوم ووضعته في برنامجها تشبها بربنا يسوع المسيح نفسه الذي صام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل شيئا فيها.. لذلك اعتبرته فترة تخزين روحي للعام كله..
ولأهمية الصوم الكبير كان الآباء يتخذونه مجالا للوعظ، مثل القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية، والقديس أغسطينوس إبن الدموع أسقف هيبو واللذان اشتهرت عظاتهما في زمن الصوم الكبير..
بل وكانت الكنيسة تجعل أيام الصوم الكبير فترة إعداد للمقبلين على العماد بالتعليم والوعظ ليتقبلوا نعمة المعمودية، فكانت تقام فصول للموعوظين خلال هذا الصوم تلقى فيها عليهم عظات لتسليمهم قواعد الإيمان وتثبيتهم، وهكذا ينالون العماد في يوم "أحد التناصير"، لكي يعيدوا مع المؤمنين في الأحد التالي أحد الشعانين، ويشتركوا معهم في صلوات البصخة وأفراح القيامة.. وقد اشتهرت عظات القديس كيرلس الأورشليمي لإعداد الموعوظين للإيمان خلال فترة الصوم، ومن ثم أصبح الصوم الكبير من أهم الأصوام وأقدمها أيضا..
والصوم الأربعيني المقدس عبارة عن ثلاثة أصوام، الأربعون المقدسة في الوسط يسبقها أسبوع تمهيدي ويعقبها أسبوع الآلام.
أسبوع الاستعداد
الأربعون المقدسة 55 يومًا
أسبوع الآلام
ولاهتمام الكنيسة بهذا الصوم سمته الصوم الكبير، وإذا كان السيد المسيح قد صام عنا وهو في غير حاجة إليه فكم بالحري نحن، وقد مهدت الكنيسة لهذا الصوم بصوم يونان، لتعدها أولادها للصوم الكبير قبل أن يبدأ بأسبوعين، ولتجعله ربيعا للنفس والكنيسة، حيث تتجدد الطبيعة البشرية لتزهر في يوم الأزهار العظيم يوم عيد القيامة المجيدة الذي هو عيد الأعياد..
ولان الصوم الكبير اكبر الأصوام الكنسية وأقدسها لذا رتبت له كنيستنا طقسًا خاصًا، فله الحان خاصة ومردات خاصة، وله قراءات وقطمارس خاص (قطمارس الصوم الكبير) katameooc، وله ترتيبه وطقسه الخاص (الطقس الصيامي)، في رفع بخور باكر ومطانيات وسجدات وميامر وطلبات ونبوات وقراءات من العهد القديم،وهكذا جعلت الكنيسة للصوم جوا روحيا خاصا، وهو ما سنتأمل فيه عندما عندما ندخل إلى رحلة الصوم الكبير في المنهج الليتورجي التعبدي.
ولما كان هذا الصوم اقتداء بالمسيح لذا رتبته الكنيسة، لتدعونا فيه إلى تبعية المسيح، وبهذا تكون قد أدخلت حياته في جسدها لتكون أفعال حياة رب المجد يسوع هي حياة أعضائها، تقتدي به في منهجها الحياتي، وبهذا تصبح حارسة على سر اللاهوت النسكي الذي أسسه الرب بصومه الأربعين المقدسة، ومن هنا أتت عظمة هذا الصوم في انه يأتي تشبها بصوم السيد المسيح الذي جعلته الكنيسة سرا تسلمه لأولادها العابدين..
وقصدت الكنيسة من وضع هذا الصوم أن يكون موسم توبة جماعية، لأن كنيستنا جموعية، وتدبير هذا الصوم إنما هو تأكيد لمضمون الشركة في جسد المسيح، لتصير توبتنا الجماعية هدف وقصد هذا الصوم من اجل النمو الجماعي والحب الجماعي والحرارة الجماعية والكرازة الجماعية والصلاة الجماعية كما من قلب واحد، في الكنسية مدينة الرب مسكن القديسين ومجمع الأبرار.
لأن كنيستنا ليست كنيسة أفراد، ولكنها كنيسة أعضاء، فهي لا تعرف الفردية ولكنها كنيسة جموعية وكنيسة شركة، (شركة مع الثالوث القدوس، شركة مع القديسين، وشركة مع جماعة المؤمنين أعضاء الجسد الواحد). نتقدم فيها لنأكل جسد الحمل الذي بلا عيب، الذي ينزع خطايا العالم، نأكله في بيت واحد، أي في الكنيسة الجامعة المرشوشة بالحب والحاملة سلاح الفضيلة.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 05:49 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم الكبير تاريخيًا

إن الصوم الأربعيني تقليد رسولي وهو تعليم كنيسة الإسكندرية منذ زمن بعيد فالقديس كيرلس الأول عمود الدين يقول في عظاته بخصوص الصوم الكبير إنه "حسب التقليد الرسولي"، ومن قبله البطريرك ثيؤفيلس يقرر ذلك أيضا في خطاباته الفصحية، كما تحدث القديس ايريانوس "أبو التقليد الكنسي" عن أهمية الصوم الأربعيني الكبير، وأكد انه قديم العهد جدًا، وان طقسه يراعى في أنحاء العالم كله، ويرجع إلى أيام الرسل (Im. Epist. Ad. Vict. ).
فالصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية منذ آدم الاول (تك 2: 16-17)، وقد أثبت ذلك أيضًا القديس يوسابيوس القيصرى في تاريخه (5: 24) وقرر المؤرخ سقراط سوزمين في تاريخه الكنسي (7: 19) ان كنيسة مصر القبطية تصوم هذا الصوم سبعة أسابيع كاملة، ويقول القديس يوحنا كاسيان ان الصوم الكبير يقدم فيه الأقباط عشور السنة صومًا.
وفى قوانين ابوليدس الروماني والمعروفة باسم التقليد الرسولي لهيبوليتس صيغة إخبارية تقول في وضوح وقوة أيام الصوم الكبير التي تثبت هي الأربعاء والجمعة والذي يزيد عليها ينال أجرًا. Hippolytus

وتأتي الديسقولية فتقرر "فليكن عندكم جليلا صوم الأربعين المقدسة"، وتؤكد في الباب العاشر "وان تصوموا في كل عام أربعين يوما كما صام موسى وإيليا النبيان العظيمان، وجميع الأنبياء في العتيقة، وابتدأ سيدنا المسيح بذلك ليعلمنا أن نفعل ذلك قبل آلامه المحيية".
وقد جاء في كتاب مصباح الظلمة "للأب القس أبو البركات المعروف بابن كبر" عن الصوم الكبير:-
"وقد كان الآباء الرسل القديسون الأطهار ومن تبعهم من المؤمنين يصومون الأربعين المقدسة".
ويذكر العلامة أوريجين فيقرر قائلا "الأصوام التي نلتزم بها هي الأربعون المقدسة والأربعاء والجمعة"، كما وذكره روفنيوس المؤرخ ناسبا ذكره إلى العلامة اوريجين في تفسيره لسفر اللاويين.
وقد وضعت الدسقولية عقوبة على من لا يصوم "أي أسقف أو قس أو شماس أو ايبذياكون أو اغنسطس أو مرتل لا يصوم صوم الأربعين المقدسة وصوم يوميّ الأربعاء والجمعة فليقطع ما خلا إذا امتنع لأجل مرض جسدي وإذا كان عاميا فليفرز".
وبعض الآباء القديسين القدامى عندما كانوا يتأملون في الأربعين المقدسة، كانوا يقارنونها بعدد الساعات التي قضاها الرب في القبر وهي أربعون ساعة محسوبة، أي إننا نصوم عن كل ساعة قضاها الرب في القبر يوما كاملا..
فالصوم الأربعيني كان منذ العصر الرسولي، موجودًا منذ القرن الأول المسيحي ومارسته الكنيسة في كل أنحاء العالم وصامه المسيحيون(1).
وقد ورد عن الأربعين المقدسة في الرسائل الفصحية لباباوات الإسكندرية، فنجد أن البابا أثناسيوس الرسولي حامى الإيمان البطريرك العشرين يقرر قاعدة الصوم الكبير في الرسالة الفصحية الثانية وفي الرسالة الثالثة والسادسة والسابعة(2).
ونجد أن طقس تكريس الميرون المقدس، كان يتم في الأربعين يومًا، وهو ما قام به أيضًا قداسة البابا شنودة الثالث أطال الله حياته، فقد قام غبطته بعمل الميرون مرتين في عهده المبارك - في زمن الأربعين المقدسة.
ويتكلم أيضًا البابا كيرلس الكبير عمود الدين في رسائله الفصحية عن الأربعين المقدسة، وهنا تتقرر من رسائل القديس أثناسيوس والقديس كيرلس، وطقس الميرون، قاعدة الصوم الكبير.
كما أشار إليه القانون الخامس من قوانين مجمع نيقية، كشيء ثابت ومقرر في الكنيسة المسيحية في العالم كله،وذكرته قوانين الرسل، وقالت إنه تم إتباعا لما فعله السيد المسيح(3).
لقد كان الصوم الأربعيني من الممارسات الروحية التي مارستها كنيسة الرسل عمود الحق وقاعدته، هيا مع الكنيسة التي هي باب السماء فلك نوح الجديد بل والحقيقي لنخلص لأن كل من كان خارجها هلك (1 بط 3: 20)، ولنتمتع باختبار الصوم الكبير المقدس من أجل بنيان حياتنا وشعبها الحقيقي، فنجتاز الصوم مع المسيح الذي صامه عنا (مت 4: 2)، وكما صام داود النبي (مز 35: 13)، ودانيال النبي (دا 9: 3)، وحزقيال النبي (حز 4: 9)، ونحميا النبي (نح 1: 3)، وعزرا الكاتب والكاهن (عز 8: 21).. فنكون غالبين للعالم والشيطان لأن (هذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة).
_____
الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(1) Dictionary of Christian Antiquities, Vol. 2, p. 972
(2) N. P. N. F. 2nd Series Athanasius Vol. IV, P. 502
(3) Ency. Of Religion and Ethics, Vol. 5, P. 766

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 05:51 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم عقيديًا


هبت على الكنيسة رياح تعاليم غريبة ولكن المسيح الذي اقتنى كنيسته بالدم الكريم قال للريح "اسكت إنكم. فسكت الريح وصار هدوء عظيم" (مر 4: 39)، ومازال المبتدعون والهراطقة والطوائف التي ارتدت عن الإيمان المسلم لنا مرة بالإنجيل (مت 24: 11 وتسا 2: 3).. ينكرون الصوم غير محتملين التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكمة مسامعهم مقاومين الحق الإلهي الكتابي، يجب علينا أن نصحو لهم نعرض عنهم لأنهم إخوة كذبة يندسون بيننا لخداعنا (غلا 2: 4) مستمسكين بالتعاليم التي تعلمناها (2 تسا 2: 2، 2 تيمو 4: 3)..
ولكي نحفظ وديعة الإيمان التي تسلمناها، من أجل خلاص أنفسنا وخلاص الذين نخدمهم وخصوصا في المناطق الشعبية النى نخدمها والتي تنتشر فيها هذه الأفكار المسمومة، لابد لنا أن نرجع إلى كلمة "كيريجما" الكتاب المقدس لأن كنيستنا كنيسة إنجيلية، وجميع عقائدها تستمد أصالتها ونقاوتها من الإنجيل، إنجيل خلاصنا الذي به نقاوم ونغلب المعاندين (أف 1: 13).
* عقيدة الصوم عقيدة إنجيلية
* أصوام جماعية
* الأنبياء والرسل صاموا (الصوم في العهدين)
* عقيدة الصوم عقيدة إنجيلية


الجنس الشرير من الشياطين لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (مت 17: 21).
صوم الأربعين صوم كنسي رئيسي رسمه وصامه السيد المسيح (مت 4: 2).
ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائيين فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين (مت 6: 16).
الأصل في الصوم هو الانقطاع وذلك في معجزة إشباع الأربعة آلاف (مت 15: 32).
لكن ستأتي ساعة أيام يرفع العريس عنهم حينئذ يصومون (مت 9: 16).
الصوم سيرة ملائكية (مر 1: 2).
وإن صرفتهم إلى بيوتهم صائمين يخورون في الطريق (مر 8: 3).
الصوم موضوع من قبل رب المجد يسوع (مر 2: 20).
الصوم في الكنيسة الأولى (أع 13: 3).
الصوم والبركات الروحية (أع 9: 9).
وفى الصوم نظهر كخدام لله (1كو 6: 5).
ويتذرع البعض في إنكارهم للصوم بقول بولس الرسول:- "إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان.. آمرين أن يمتنع عن أطعمة خلقها الله".
وفى الواقع هذا لا يشير إطلاقا إلى بطلان الصوم بل يشير إلى بدع نادى بها بعض الهراطقة تدعى نجاسة بعض الأطعمة وتحريم الزواج.. مانعين عن بعض الأطعمة، ألا أنها ليست محرمة أو نجسة، بل القصد من الامتناع عنها قمع الجسد وإذلاله وترويضه وإخضاعه للروح والسيطرة عليه بالإمساك عن بعض الأطعمة (1كو 9: 27).
* أصوام جماعية

ونجد أن الشعب صام كله في أيام الملكة إستير (إس 4: 3)، وصام الشعب بنداء عزرا الكاهن (عز 8: 21)،وكذلك في أيام نحميا (نح 9: 1)، وصام الشعب أيام يهوشافاط (2 أي 20: 3)، وصام الشعب أيام يهوياقيم بن يوشيا (أر 36: 9). وكذا أيام يوئيل النبي (3: 5)، وأيام يونان النبي (يون 3).
* الأنبياء والرسل صاموا (الصوم في العهدين)

صام موسى النبي (خر 40: 28)، وإيليا النبي (1 مل 19: 8)، وداود النبي (مز 35: 13 & مز 69: 10 & مز 109: 24 & 2 صم 12: 16).
وصام دانيال النبي (دا 9: 3)، وصام حزقيال النبي أيضا (حز 4: 9).
وصام نحميا النبي (نح 1: 3)، وكذا عزرا الكاتب والكاهن (عز 8: 21).
وعن صوم بطرس الرسول (أع 10: 9).
الصوم فعل روحاني وجهاد ممدوح (1كو 9: 27).
صوم بولس الرسول (2كو 11: 27).
وأوصى الرب الإله أدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها (تك 2: 16).
وكان موسى هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء (خر 34: 28).
وأخذوا عظامهم ودفنوها تحت الأثلة في يابيش وصاموا سبعة أيام (1 صم 31: 13).
فسأل داود الله من أجل الصبي وصام داود صوما وبات مضطجعا على الأرض (2صم 12: 16).
ونادوا يصوم واجلسوا نابوت في رأس الشعب (1 مل 21: 9).
وناديت هناك بصوم على نهر أهوا لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب أمام إلهنا لنطلب منه طريقا مستقيمة (عز 8: 21).
اجتمع بنو إسرائيل بالصوم وعليهم مسوح وتراب (نح 9: 1).
كانت مناحة عظيمة عند اليهود وصوم وبكاء ونحيب (أس 4: 3).
أذللت بالصوم نفسي (مز 35: 13).
وأبكيت بصوم نفسي فصار ذلك عارًا على (مز 69: 10).
ركبتاي ارتعشتا من الصوم ولحمى هزل عن سمن (مز 109: 24).
أليس هذا صوما اختاره حل قيود الشر (أش 58: 3-7).
في بيت الرب في يوم الصوم (أر 36: 6).
فوجهت وجهي إلى الله السيد طالبا بالصلوة والتضرعات والمسح والرماد (دا 10: 3).
هكذا قال رب الجنود أن صوم الشعر الرابع والخامس والسابع والعاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجًا وفرحًا وأعيادًا طيبة فأحبوا الحق والسلام (زك 8: 18).
وحنة النبية (لو 2: 27)، وبطرس الرسول (2كو 11: 27 & 2كو 6: 5 & أع 14: 23)، وكرنيليوس (أع 10: 30) كلهم صاموا.
ورب المجد يسوع نفسه صام عنا أربعين يوما بسر لا ينطق به وأوصى بالصوم (حينما يرفع عنهم العريس حينئذ يصومون) (مت 9: 10).

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 05:52 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
برنامج الكنيسة في الصوم الكبير

للكنيسة في الصوم الأربعيني برنامج روحي قوى ليكون فترة نهضة روحية، ومصدر توبة جماعية وشركة عميقة مع رب المجد يسوع في صومه، فالمسيح صام عنا ومعنا، وهو شريك مع كل نفس صائمة في هذا الصوم، يعبر بها من حالة إلى حالة أخرى.
وفى هذا الصوم تمارس الكنيسة فترات الانقطاع، والقداسات اليومية وحياة التوبة والتذلل الجماعي لأنها كنيسة جموعية، ومن ثم جعلت لهذا الصوم برنامجا كرازيًا جماعيًا لتعليم الموعوظين الداخلين في الإيمان حديثاً.
لذلك ينبغي أن يكون هذا الصوم الذي رتبته كنيستنا ضمن إطار القصد الإلهي في حياتنا، لكي تظهر حياة المسيح فينا ونكون شركاء الطبيعة الإلهية، وهذا هو قصد الصوم الذي نعيشه في هذه الأيام المقدسة، لكي نسعى فندرك الذي لأجله أدركنا المسيح.. فهو صام بذاته، صام عنا ليعرفنا أنه سيكون شريكا لنا في الطريق، وكل من يصوم صوما روحانيا يسير في معية الملك المسيح.
وتظهر سمات وخصائص الروحانية الأرثوذكسية في منهج الكنيسة الروحي خلال فترة الأربعين المقدسة، فتقودنا إلى الطريق الواحد الذي بإمكانه أن يقود الأرثوذكسي القبطي إلى باب الحياة الضيق واستقامة التعليم واستقامة الحياة أيضًا أي إلى الأرثوذكسية، فقد جعلت الكنيسة من الصوم لا فترة قهر وحرمان ولكن فترة بهجة وفرح يسميها الآباء فترة الحزن المضيء.. نتخيل فيه الإمساك السلبي عن المأكل ونتحول إلى الانفتاح الإيجابي في طريق الشبع الروحي المفرح.

والصوم الأربعيني هو مدرسة التوبة التي تدربنا فيها الكنيسة بالصلاة وسماع كلام الحياة لكي نتوب ونختبر من جديد القيامة من موت الخطية ونوال الحياة الأبدية في داخلنا، لقد كان الغرض الرئيسي من الصوم الكبير في عصور الكنيسة الأولى هو تعليم الموعوظين -أي المؤمنين الجدد بالمسيح- وتهيئتهم لنوال سر المعمودية التي كانت تتم في عيد القيامة, ولقد بقى المعنى الأساسي للصوم الكبير، ورغم أننا معمدون إلا أننا في اغلب الأحايين نفقد قوة الحياة الجديدة التي كنا قد نلناها في المعمودية، ولذلك فان فترة الصوم هي فرصة رجوعنا من جديد إلى هذه الحياة الإلهية التي وهبها لنا المسيح بمجيئه إلى العالم، والتي نلناها منه في معموديتنا ثم فقدناها في وسط اهتماماتنا وانشغالنا ونسياننا في وسط هذا العالم.
وصوم الكنيسة هذا صوم ناري تلهبنا فيه بحرارة العشق الإلهي وبتعبير جميل يصور القديس أغسطينوس للمعتمدين الجدد كيف صاروا خبزا واحدا فيقول:-
"إن صوم الأربعين المقدسة والصلوات ورغبة الانضمام إلى الكنيسة قد طحنوكم معا كحبوب الحنطة تحت الرحى، ثم بلل ماء المعمودية جبلتكم هذه فعجنتكم معًا وشكلتم خبزًا، ولكن ليس من خبز بدون نار، لقد جاءت النار مع مسحة التكريس التي هي سر التثبيت بالروح القدس، الذي يلهمنا المحبة ويجعلنا نحترق من أجل الله ونحتقر العالم، فالنار تأتى بعد الماء، وأنتم قد صرتم خبزا الذي هو جسد المسيح".
الصوم الكبير رحلة روحية ونهاية هذه الرحلة هو الفصح المسيحي أو عيد القيامة "عيد الأعياد"، فالصوم إعداد للفصح "البصخة"، أو إعداد لرؤية القيامة، وبالصوم نستعيد رؤية الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع، لنتوب ونرجع فنذوق حياة الملكوت الجديدة والشركة،لئلا تصير حياتنا بلا معنى مظلمة وتافهة ومضيعة، وتقدم لنا الكنيسة فعل الصوم مدرسة للتوبة ومعونة لنتمكن به من أن نستقبل عيد القيامة وأفراحها كنهاية للقديم ودخول للجديد القائم.
لقد كان الغرض الرئيسي من الصوم في العصور الأولى للكنيسة، هو إعداد الموعوظين الداخلين إلى الإيمان بالمسيح وتهيئتهم للمعمودية التي كانت تتم في عيد القيامة، فرغم أننا نخون ونضعف ونفقد ما قلبناه في المعمودية، إلا أن عيد القيامة هو رجوعنا كل سنة إلى معموديتنا وهنا يكون الصوم فترة إعدادنا لهذا الرجوع، لكي بالتوبة والصلاة والرحمة والفضيلة مع الصوم نأتي في النهاية إلى "العبور"، عبورنا نحن إلى الحياة الجديدة في المسيح لكي نذوق فرح قيامته ونراها..
إنها رحلة الحزن المضيء لنتطلع إلى فرح القيامة والدخول في مجد الملكوت وهذا هو التذوق المسبق لفرح القيامة الذي يجعل حزن الصوم لامعًا ومضيئًا ويجعل الجهد المبذول في فترة الصوم ربيعًا روحيًا.
ومن ثم نجد أن الصوم في الكنيسة فترة استنارة وإعداد للتوبة والمصالحة والتطهير بواسطة الاعتراف والتناول ومسحة المرضى "القنديل" لتكون فترة الصوم فترة مصالحة مع الله، ومسامحة مع الناس وتجديد للحياة كلها.. وكل هذه التداريب والممارسات تعطى الصوم الأربعيني الصفة العملية، في الاقتداء بالمسيح الذي صام عنا ولأجلنا، فنغلب الشيطان في تجارب الجسد كما غلب المسيح لحسابنا، فهل نحن معه الآن في البرية على جبل التجربة؟ هل نحن هناك؟ ان أساس الصوم هو اختبارنا للفداء، وهدف الصوم الحقيقي ألفتنا وشركتنا مع الثالوث القدوس، ان نكون مع المسيح ليصبح حيا نلمسه نختبره ونتحقق حضوره في داخلنا، وكيف يكون صومنا واعترافنا بدون ذلك؟ لنسأل أين يقيم المخلص لنقيم معه، وبالصوم نلتهب شوقا وحنينا وعشقا له لأنه الحياة بذاتها، وكل من يعرف خزيه يعرف كيف يطلب النعمة.
وكل صوم يقف عند المظاهر الخارجية صوم جسداني بلا ثمر، لأن مخلصنا الصالح يريد الصوم الداخلى الجواني، وملكوت الله هو داخلنا، وان كان الصوم قد ارتبط عند اليهود بالتوبة ويسمى يوم الصوم يوم الغفران، فكيف يكون في العهد الجديد؟ ذلك الصوم الذي تضعه الكنيسة كدرب نسير فيه رحلتنا الروحية لنصل إلى أفراح القيامة، نعيشها ونختبرها ونتمتع بجدة الحياة المقامة في شخص ربنا يسوع، لأنه يوجد دفاع لخلاصنا مادام يوجد المسيح ربنا، وما عدة أسلحتنا إلا المسيح يسوع.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 05:53 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم والتوبة "ميطانيا"

وبداية رحلتنا الروحية في الصوم الكبير تبدأ بالمصالحة والتوبة المستمرة والمحبة التي هي أساس البنيان مع التواضع، وتصفية الشهوات ومحبة العالم، وحمل الصليب مع التشديد على ترويض الجسد، إلى جانب ترويض الروح لان الكنيسة الأرثوذكسية تتطلع وتهتم بالإنسان بكليته، جسدا وروحا.
والصوم الكبير زمان التوبة (ميطانيا) والمصالحة مع الله والندم والتربية الروحية والاستنارة، نسمع فيه بصورة خاصة صوت الله لننصت إليه، ونتذكر فيه بنى إسرائيل في البرية أثناء الأربعين، ونفكر في الحرية والسياحة والمن الإلهي، ونتذكر فيه الأربعين التي قضاها رب المجد مجربا في البرية فيكون صومنا مجاهدة وجهادا حتى الدم ضد الخطية، وبالجملة يكون الصوم تجمعا غنيا ودسما وعميقا للغاية يشتمل على وسائل فعالة من أجل تقديسنا وتطهيرنا واستنارتنا، لتصل بنا الكنيسة إلى القيامة "عيد الأعياد" وكلما كان صومنا صوما روحانيا جديا كلما تمتعنا ودخلنا في سر الفصح ونلنا ثمار وبركات القيامة..
والصوم في معناه الروحي، تقدمة حب من نفس اختبرت محبة المسيح وغنى نعمته الفائق، لذلك تريد أن تقدم كل شيء باسم الابن إلى الآب، كل شيء، القلب والنفس والعقل والجسد والروح، إنها تحس بأنها مديونة بالكل، فلا يكون الصوم فريضة ثقيلة جافة مرفوضة، لكنه حب وحرية ونعمة غزيرة الضياء، زهد اختياري وانتعاش للروح وترك للشهوة واحتياج لازم، وهو ليس حرمانا ولا إذلالًا ولا كبتًا ولا فرضًا..
وفى صوم الرب عنا درس يعلمنا أدوية خلاصنا، لكي يكون لنا هو مثالًا، أن آدم طرد من الفردوس بسبب عدم ضبطه لنفسه، والمسيح صام لا لأجل حاجته بل ليرسم لنا طريق الخلاص، أراد أن يعيننا لكي ننتصر في تجاربنا بقدوته، الذي غلب العالم كله لا بقوة عسكرية بل بجهالة الصليب.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:06 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم والجهاد الروحي

ليس هناك غاية للصوم غير التخلص من الخطية، والجهاد ضد أهواء الجسد، لأن الإتحاد بالمسيح هو صميم الغاية التي من أجلها نجاهد ليس إذلالًا بل قبولا للحياة الجديدة من خلال عمل النعمة، والصوم ليس فضيلة في حد ذاته ما لم يقترن بالصلاة، فتركيزنا كله على الحياة الداخلية وإنساننا الباطني وعلاقتنا الكيانية الصميمة الاتحادية برب المجد يسوع.
إن امتناعنا عن الأكل يجعلنا نرتفع فوق مستوى الجسد والمادة، وما الصوم إلا سلاح غلبة، لأن آدم الأول انهزم بالطعام، وأدم الثاني غلب بالصوم، إذ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله "كيريجما"، وبالصوم يتدخل الله، فقد اختبر هذا الأمر نحميا وعزرا ودانيال واختبرته إستير من اجل الشعب كله، وعاشته الكنيسة في القرن الرابع في عمق مشكلة أريوس الهرطوقي، وأصبح الصوم عقيدة راسخة في ضمير الكنيسة، لأنه فترة مصالحة يتدخل فيها الله ويتحنن، والصوم أيضا مدرسة روحية تدربنا فيها أمنا البيعة على الاستشهاد والشهادة "مارتيريا".. وفعل الصوم هو أولا وأخيرا دليل على محبتنا لله وبه نتقرب إليه، فلا صوم من غير التوبة وأعمال الرحمة والصدقة، ولا صوم من غير الاعتكاف والصلاة والقراءات الروحية والتأمل والمطانيات وقرع الصدر والسهر وتكريس القلب والفكر والإرادة لله، ولا صوم من غير شركة مع المسيح الذي صام عنا، فالصوم بحق فترة تخزين روحي للعام كله..

والصوم هو بداءة طريق الله، وهو الصديق الملازم للفضائل كلها، يحفظ العفة، ويحفز للصلاة، ويساعد على الهدوء والسكوت، ويشوق العقل لعشرة الله، ويجعلنا نتشبه بسيرة الملائكة، نمتنع فيه عن الشهوة والأفكار الرديئة لأنه أيقونة للحياة العتيدة، والصوم يخضع الجسد للروح ويجعلنا ننال نصيبا من جسد القيامة بقيادته إيانا نحو الله، وهو أيضًا طبيعة الحياة في الفردوس قبل السقوط فالإنسان أطاع بطنه فطرد من الفردوس وربنا يسوع كشف لنا الدواء لكي نغلب.. ذلك المدافع عنا، قرن خلاصنا الأكيد الذي يحتضن وجودنا ويحصنا على الدوام.
وليس كل صوم صوما مقبولا، لأنه ينبغي ألا نفعل شرًا، وأن نعبد الرب بقلب طاهر ونحفظ الوصايا بالانقطاع عن كل الشرور سواء بالفعل أو بالقول أو بالفكر وضبط اللسان والكف عن الغضب، وغياب الرذائل، لأن الصوم ليس صوما جسديا بل صومًا روحيًا، يغذى النفس ويهيئها لتجنح وتسمو فوق العالم فتعبر بحر هذه الحياة الحاضرة وتصل إلى نقاوة القلب، وأيضًا الصوم يصعد بالصلاة إلى السماء، وبدون العطاء والصدقة لا يحسب صوما، وليس هناك سلاح أقوى من الصوم، فإن كنا قد انغلبنا في آدم بالأكل فبالإمساك عنه قد غلبنا في المسيح فالأول علة السقوط والثاني موضوع النصرة لأن منه وبه وله كل الأشياء.
والصوم في المفهوم الإنجيلي هو نظرة على الحياة الأبدية من خلال إحساسنا بالموت (جوع - عطش - إماتة) فهو تذوق لمجد القيامة بجسد مائت عن كل شهوات العالم الحاضر.. وجوعنا وعطشنا يجعل عيوننا شاخصة نحو الأبدية في انتظار البر الأبدي، لأننا حتما سنشبع سرًا من دسم الخيرات الغير منظورة التي للحياة الأبدية،ونحن نصوم لأن العريس قد رفع لذلك وجب على العروس أن تصوم، ويعلق القديس كيرلس الأول عمود الدين فيقول "لقد كان مجيء مخلصنا إلى العالم بمثابة عيد عظيم اتحد فيه روحيًا بطبيعة الإنسان كمثل عروس له".
فالاتحاد السري الذي حدث بيننا وبين المسيح مخلصنا بتجسده، جعل صومنا يسمو إلى مستوى الجوع والعطش إليه، وصارت نفوسنا عطشى إليه مثل ارض بلا ماء.. لذلك عندما رفع العريس عنا كان من الحتمي أن نصوم، فالذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات، وبهذا يصبح قبولنا الصوم على أساس الشركة في صليب المسيح.
ولابد أن يكون صومنا صوما روحيا، لأن المسيح صام من أجلنا وصام عنا، وكان يقتاد بالروح في البرية أربعين يومًا، فلنصم صومًا روحيًا لأن مخلصنا قدم نفسه أمامنا نموذج، لان الصوم ليس هدف في ذاته إنما هو مجال للحياة المباركة التي فيها نغلب كما غلب ذاك الذي أحبنا وسلم ذاته لأجلنا، فنسير في أثر خطوات الرب نختط نفس الدرب، ونتحدى الكذاب المحتال إبليس الذي خدعنا بالاعتماد على الطعام ولقمة العيش، ويتحول فينا الجوع لا إلى شيء سلبي بل إلى كلمة الله، جوع لأجل الله، لذلك حرصت الكنيسة على أن تجعل صوم أبنائها مقترنا بالتناول حتى تتقدس ذبيحة صومنا فيكون المسيح هو خبزنا وماءنا وغلبتنا وحياتنا الحقيقية، ولكي يكون صومنا روحيا يجب أن يكون بجدية وإخلاص قلب، لا مجرد شكليات بل حياة ايجابية، لا اكتفاء بما هو خارجي دون التعمق في الداخل.. وأعمق تغير يحدثه الصوم هو أن يغير اتجاه الشخص واتجاه الجماعة ليصبح الكلمة المتجسد هو مصدر حياتهم.
والصوم في المسيحية ليس قهرًا ولا كبتًا ولا قصاصًا ولا حزنًا مريرًا إنما هو استنارة وحزن مضيء وتذوق لغلبة العالم ومجد القيامة، لذلك لا نكون عابسين بل ممتلئين ببهجة الخلاص وفرح الروح.
والصوم أسلوب حياة وسعى نحو الحياة الجوانية المتخلصة من كل تشتت، ليتسع أمامنا مجال التأمل والدخول للعمق والسيطرة على كل ما لا يرضى الله، مع فعل الصلاة والاتضاع والتوبة والمحبة والطهارة والنشاط وعمل الرحمة والعطاء لنتعلم فيه كيف نتواضع؟ كيف نتسامح؟ كيف نرحم؟ كيف ندخل إلى أعماقنا؟ ونقف غلى حقيقة أنفسنا فنستعيد حياتنا الجديدة..

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:07 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم ومعالم الطريق للملكوت

وروحانية الصوم والنسك الجسدي في صوره المتعددة، هي احد الركائز الضرورية اللازمة لتبعية المسيح، وبالصوم نقدم أجسادنا ذبيحة مقدسة مرضية عند الله (رو 12: 1)، وبه نبلغ مجد التجلي المعد للأبرار، فيمتلئ كياننا بالروح القدس، والجسد الحيواني الذي يزرع في الأرض، يبذل وينفق ويهلك في شكله الخارجي لكي يقوم كيانا روحيا، وصومنا هذا يضرم فينا الموهبة الإلهية لتأتى بثمر أكثر فيجعلنا نحيا ونشهد بكل كياننا جسدًا وروحًا عن سر الموت والقيامة الذي يعمل فينا، ونخلع عنا جزئيا طبيعتنا الحيوانية، فنأخذ عربون الثياب النيرة التي أعدت لنا، وكل صور التعفف والنسك والأصوام تجعل لباس أرواحنا التي هي أعضاء جسدنا تنال قوة الطهارة والضياء السماوي كمثال للقيامة من الأموات.

وقد كتب العظيم الأنبا أنطونيوس مشيرًا أن النسك والصوم يؤهل كل الجسد للتغيير ويخضعه لسلطان الروح القدس، ويجعله ينال نصيبا من الجسد الروحي المزمع ان يكون عليه في قيامة الأبرار(1).
وتبعا للتقليد الإنجيلي نجد أن أساس النسك هو الصوم (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) {مت 4: 4}، فنشهد في صمونا على غلبة العالم وان الروح القدس الذي فينا قد روض الجسد وبدل طبيعته الحيوانية البهيمية إلى طبيعة ملائكية سمائية نورانية فعالة، والصوم أيضًا يروض أجسادنا ويحول شهيتنا من الأطعمة الجسدية إلى جوع حقيقي للشبع الإلهي والصوم فعل إرادي نشارك فيه بمحض إرادتنا وحريتنا في هذا التحول الروحي الذي لن يكتمل إلا في المجيء الثاني "باروسيا". أنه لقاء الشبع الروحي، لقاء رفضنا للأطعمة الأرضية لكي نؤهل إلى شركة الثالوث القدوس المحيى، فنكون مدعوين خلال فترة الصوم إلى الجهاد الروحي القانوني بالتوبة "الميكانيا"، وأيضا نكون مدعوين إلى الشبع بكلمة الله "كريجما" التي لنا فيها حياة أبدية باعتبار أنها رسالة الله لخليقته وأنها أيقونة الله،ويربط الآباء بين الصوم والصلاة برباط محكم سواء الصلوات الفردية أو الصلوات الجماعية "ليتروجيا" حتى يكون صومنا ثابتا، قربانا مبذولًا من جهتنا نقدمه بكل كياننا روحا وجيدا، فيصير صومنا ذبيحة وشهادة "مارتيريا" لمحبتنا للذي صام عنا ومن أجلنا، ولما كانت محبتنا عرضة لان تصبح مجرد أفكار نظرية وأحاسيس عاطفية غير حقيقية أو واقعية، لزم في أصوامنا أن تقترن بأعمال الرحمة والمحبة والبذل والانسكاب وخدمة الأعضاء الجروحة "الدياكونيا"، والصوم المقبول أيضًا لا يتم إلا من خلال حياة الشركة "الكينونيا" κοινωνία شركة الثالوث الممجد، شركة القديسين ومعية السمائيين، وشركة المؤمنين في "الأسرار - التعليم - الأغابي"..
والصوم أيضا حالة تجلى، وقد اختار السيد المسيح معه في التجلي اثنين من الصوامين موسى وإيليا، ليرينا أن كبيعتنا ستتجلى في الأبدية بفعل الصوم، لأن السيد المسيح صام (مت 4: 2)، وموسى النبي صام (حز 4: 2)، وإيليا النبي صام (أمل 19: 8)، من أجل ذلك تجلت طبيعتهم النورانية، ونحن بصومنا ننال جزء من هذا الجسد النوراني الممجد ونتذوق جسد القيامة، فنعود للحياة الفردوسية.
والصوم أيضا عمل من أعمال الخليقة الجديدة في الإنسان الذي تقبل تجديد الروح وتغير عن شكله كما يقول القديس كيرلس عمود الدين "إن الذين لم يتقبلوا بعد تجديد الروح، لا يستطيعوا أيضًا أن يختبروا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" أي أنهم عبثا يصومون ويصلون فتكون عبادتهم "ذاتية استعراضية" أنها رقعة جديدة في ثوب عتيق وخمر جديدة في زقاق عتيقة.
_____

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:07 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم والصلاة

الكنيسة تعلمنا باستمرار ارتباط الصلاة بالصوم (الصوم والصلاة هما..)، فالصوم لا غنى عنه للصلاة التأملية فهو ينمى فينا إحساسنا بالأمور الروحية وتذوق العشق الإلهي، والصوم علاقة قوية بالسكون والخلوة والميل للصمت، وكان الآباء يضمون عادة في حياتهم وتوجيهاتهم إلى الصوم والسهر.. فالصوم يرقى فينا الإحساس بتذوق حلاوة الله وهذا التذوق يدفعنا لمجافاة النوم والتضحية براحتنا الجسدية حتى نحظى بنصيب أوفر في الاستمتاع الواعي بالحضرة الإلهية والمناجاة معه، ولا يوجد شيء أفضل من السهر للتعبير عن يقظة الروح وانتباهها حتى لا يباغتها الفتور الروحي، وعن انتظارها الحار المتلهف لمقابلة العريس السماوي وزياراته التي تعدنا لمجيئه في اليوم الأخير، وبالصوم نعيش المضادات الأساسية التي يطوبها المسيح ربنا في الموعظة على الجبل، لان كل من يستطيب حلاوة الحياة مع الله سيمقت كل تنعمات هذا العالم، فلا يمكن لأحد أن يخدم سيدين..

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:08 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
معنى الصوم

ومن المعاني الأساسية للصوم في روحانيتنا الأرثوذكسية، إننا في حالة تحضير وتوقع يتأسس على ما سيأتي بالانفتاح للفرح الآتي، لذا نجد في التقليد الطقسي للكنيسة هذا الصوم الكلى في التهيئة الأخيرة لعيد الأعياد، والذي نجده قبل كل شيء في الصوم الإفخارستي وهي الطريقة الأساسية لتهيئتنا للعشاء على مائدة المسيح في ملكوته.
إن الغاية من الصوم هي تحرير الإنسان من عبودية الجسد، من الاستسلام للشهوة التي هي النتيجة المأسوية لخطية الإنسان الأصلية، ولا هدف للكنيسة إلا أن تجعل حياة الإنسان في شركة ع الله، شركة مع الثالوث القدوس.
وكما أن الطعام في هذا العالم يحقق غايته فقط عندما يهضم ويتحول إلى حياة كذلك حياة العالم الذي سيأتي تعطى لنا بواسطة وسائط النعمة حيث الكنيسة التي لا خلاص لأحد خارجها.
انه من الضروري استعادة الوجه الحقيقي للصوم وروحانيته، وهذا لا يتم إلا بفهم أصيل للطقس الصيامي وللعبادة بكل ما تحتويه من قراءات ومردات وقطع والحان، ويشبه الآباء عادة الصوم كرحلة الأربعين سنة التي قضاها الشعب المختار في الصحراء، لتكون الغاية النهائية من الصوم هي الفصح (أرض الموعد)، أي ملكوت الله بالقيامة.

https://st-takla.org/Gallery/var/albu...fy-Fasting.gif
: كلمة آية "قَدِّسُوا صَوْمًا"(سفر يوئيل 1: 14؛ 2: 15)
ومن الضروري أن نجعل هذه الحياة بجملتها تذوقا مسبقا وتهيئة للملكوت، وان نجعل من إعمالنا علامة وتثبيتا ورجاء بالعالم الذي "سيأتي".. ملكوت الله الذي هو فيما بيننا والذي أيضًا سيأتي، هذا الملكوت الذي نترجاه ونقول:
(ليأت ملكوتك يا ربي وروحك القدوس
يملأ قلبي، هذا رجائي وطلبي، يا أبانا الذي في السموات)
وان كان صومنا في هذه الأيام، لم يعد تهيئة للموعوظين من أجل المعمودية، ولكن بالرغم من أننا معمدون وممسوحون أمازلنا موعوظين؟ أما زلنا نعود إلى هذه الحالة كل سنة؟ ألا نبتعد عن السلوك بحسب الدعوة التي دعينا إليها؟ ألا نحتاج في غربتنا إلى هذه العودة السنوية إلى جذور إيماننا ولنذر معموديتنا بالتوبة التي هي معمودية ثانية، والى المعنى الحقيقي للحياة المسيحية وصليبها لنتمتع بملكوت الله داخلنا.
ويرى القديس كيرلس الكبير "أولئك الذين استناروا بحكمة المسيح طوعا لا كرها بالعمل والتقشف، فأنهم بهذا ينالون غفران ذنوبهم ونوال النعمة وقتل ناموس الخطية القاتلة للنفس والجسد".
لذلك ينبغي أن نعي وندرك ماهية الصوم بفهم جديد يليق بالعهد الجديد لأنه "ليس احد يخيط رقعة من قطيعة جديدة على ثوب عتيق" (مز 2: 21)، "وليس أحد يجعل خمرًا جديدًا في زقاق عتيقة". ومن ثم نقول انه لن يكون لصومنا معنى إلا بممارسة التوبة بكل أعمالها في القلب داخليا في ندامة ومطانيات وصراخ انه الثوب الجديد والزقاق الجديد، وممارسة العبادة بفكر وذهن جديد، وبالجملة يقودنا الصوم إلى تحرير النفس وإنعاش القلب في الداخل بالتحلي بكل الفضائل السليمة والسجايا العالية، مميزين بين الأعمال العتيقة والجديدة محتفظين بالثوب الجديد الذي ألبسه إيانا الرب في المعمودية.
ونحن في الصوم نطل على الحياة الأبدية بجسد مائت عن كل شهوات العالم الحاضر، نجوع ونعطش صائمين عن كل شهوات الجسد وأهواء النفس وعيوننا شاخصة نحو الملكوت في انتظار البر الأبدي، لنشبع من دسم الخيرات غير المنظورة التي للحياة الأبدية، علينا أن نصوم لان العريس قد رفع، نجوع ونعطش إليه، وهذا هو مفهوم الصوم "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24)،لان محبة الله تحصرهم، إذن علينا أن نهتم بما فوق لا بما على الأرض، ونطلب أولًا ملكوت الله وبره، فالصوم عمل من أعمال الخليقة الجديدة في الإنسان الذي تغير عن شكله بتجديد ذهنه، مختبرًا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة كدرع واق، وإذ نصير هكذا مجهزين، عندما يقترب منا الشيطان ننتصر عليه، فنربح كل شيء.
ويوصينا القديس ديديموس الضرير المبصر "كما هو مفيد أننا نتعفف عن أكل لحوم الحيوانات، التي هو التعاليم الفاسدة، والعقائد الخاطئة، كذلك من المفيد والمفضل أن نرفضه ونهرب من "جفنة سدوم" (تث 32: 32)، وكذا أيضًا الخمر المُسْتَخْرَج فيها، فإذ نكمل الصوم بهذه الطريقة يجب أن نستمر فيه بروح النوح (أي قرع الصدر) الممتزج بالتنهدات، فالصوم مرتبطا ارتباطًا صميمًا بالصليب والقيامة والصعود، وكأنه طريق صاعد إلى فوق نحو السماء فإذا علمنا ان المسيح هو الطريق، تمكنّا أن ندرك كيف مهد بحياته الطريق إلى الملكوت بالإقتداء به.
لذلك يعتبر الصوم فعل توبة ورجوع، وفعل محبة بالدرجة الأولى وجزء لا يتجزأ من اختبار الصليب ومدخلا لطريق الحياة "لان من يهلك نفسه من أجلى فهذا يخلصها" (لو 9: 12)، وعندما نشترك سريا في الجسد والدم في القداس الإلهي، بل ونشترك في حياة سرية مبذولة وجسد تدرب بالصوم والنسك على الآلام، ومن له أذنان للسمع فليسمع!!
وهذه هي بعينها العقيدة الأرثوذكسية التي تسلمتها الكنيسة من جهة الجهاد والانسكاب والحرارة والرجولة الروحية والإيمان العامل "لان الله هو العامل فيكم وان تريدوا ان تعلموا" (فى 2: 13).
والمسيح إلهنا الذي احتمل الجوع والصوم، لكي يكون لنا بداءة خلاصنا ونموذجا لحياة لا عيب فيها، يجعل صومنا أيضًا بداءة احتفالاتنا المقدسة، لكي نعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق (1كو 5: 8)، وان حفظنا نفوسنا أطهارًا وأنقياء ملازمين بثبات أسلوب حياة ترضى الله، فإننا مثل العبيد الأمناء سوف نسمع في الوقت المناسب هذه الكلمات:
"نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير" (مت 25: 23).
لان الذين يترجون الله لن تضيع ثمار صومهم، ولن يسمعوا قط تلك الكلمات المخيفة التي قيلت لليهود "أمثل هذا يكون صوما اختاره يقول الرب".
لأنه هكذا يشكوهم عن حق في كلمات إشعياء النبي "تصومون وبصومكم تضربون المسكين، فما هو صومكم لي؟" (اش 58: 4).
والمجد والإكرام للذي صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة بسر لا ينطق به، رئيس الكهنة الأعظم إلى الأبد، أبانا الذي في السموات نعترف له بالقيثارة في كنيستنا التي أسسها ليمنحنا سلامه الذي يفوق كل عقل، ولا يطرحنا على يساره مع الجداء الخطاة، اطرد الشيطان عنا لنكمل بسلام لأنه ليس لنا سواك واجعلنا مستحقين نعمتك أيها المخلص في هذه الأيام، ونحن بلا خطية مع صوم نقى واجعل أبواب الكنائس مفتوحة لنا وكملنا في الإيمان المستقيم، واحفظ لنا وعلينا حياة حبيبنا البابا شنودة الثالث لأنك تسمع الصلاة ويأتي إليك كل بشر.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:09 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
ماهية الصوم (تعريف الصوم) في فكر الآباء

الصوم هو بداءة طريق الله المقدس، وهو صديق ملازم لكل الفضائل.
الصوم يتقدم الفضائل في بداية المعركة الروحية، ويحفظ العفة، فهو أبو الصلاة ونبع الهدوء، ومعلم السكوت ومشرق العقل لعشرة الله.
(مار اسحق السريانى)
أليس الصوم هو والد كل نوع من الفضيلة؟ الصوم هو مشابهة سيرة الملائكة فيه ينبوع التعقل. ويده انضباط النفس.
(القديس كيرلس الكبير - العظة الفصحية)

الصوم غصب الطبيعة، وختان لذة الحنجرة، ومنع الشهوة، اقتلاع الأفكار الرديئة، نقاوة الصلاة، نور النفوس، حارس العقل.
(القديس يوحنا الدرجي - الدرجة 14)
الصوم هو أيقونة الحياة العتيدة، مشابهة حياة عدم الفساد.
(استيروس اسقف اميسا في بنطس سنة 410 م)
الصوم يقود الإنسان نحو الله.
(القديس باسيليوس الكبير - عظة 1: 5)
الصوم حارس الصغار، يعقل الشباب، يعطى الهيبة للشيوخ، صون لرباط الزيجة، مربى البتولية.
(القديس باسيليوس الكبير - عظة 2: 5)
كما أن القيامة تقدم لنا حياة تتساوى مع الملائكة، ومع الملائكة، ومع الملائكة لا يوجد طعام، فان هذا يكفى للاعتقاد بان الإنسان الذي سيحيا على الطقس الملائكي يتحرر من هذا العمل "العبودية للأطعمة والمشروبات".
(القديس إغريغوريوس النيصى)(1)
إن الأمر مخجل بالنسبة لمحبي الجسد والبطنة أن يبحثوا عن الأمور الروحية، تمامًا مثل زانية تتحدث عن العفة!
إن لم يتقدم المسافرين يوما بعد يوم عبر الطريق في رحلتهم، وعلى العكس، إن وقفوا في مكان واحد، فان الطريق أمامهم لن ينتهي أبدًا، ولن يصلوا إلى غايتهم، هكذا الأمر معنا أيضًا!
إن لم نغصب أنفسنا أولا بأول وبالتدريج شيئًا فشيئًا، لن تكون لنا القوة على التخلي عن الأمور الجسدانية لكي ما نتطلع ناظرين نحو الله.
(مار اسحق السرياني)
ليس من المهم أن تصوم بطنك (فقط) بل أن تصوم لسانك عن الكلام، وان تصوم عقلك عن التفكير في الشر وان تمتنع عن الخطية، فهذا هو صوم الروح الحقيقي، والذي ليس من الضروري أن يقترن بصوم الجسد.
(القديس يوحنا ذهبي الفم)(2)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:13 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
لماذا صام المسيح وجرب؟

لما صام يسوع المسيح لم يكن محتاجا إلى الصوم بل ليعلمنا، وكما أن الطبيب عندما يعالج مريض حتى يشفيه يمنع عنه الأشياء التي سببت له التعب، فآدم طرح خارج الفردوس بسبب عدم ضبطه لشهواته، والمسيح لأجل تعليمنا صنع واحتمل كل شيء.. فآدم الأول علة سقوط وآدم الثاني ربنا يسوع وضع النصرة.
(القديس يوحنا ذهبي الفم)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:13 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
أساس فعل الصوم

الإنسان الأول إذا أطاع بطنه لا الله طرد من الفردوس إلى وادي الدموع.
(القديس جيروم)
أتانا الابن الوحيد منحدرًا من السماء إلى الأرض وتجسد، وعرفنا الطريق إلى الخلاص، عاملًا ومعلمًا، وأول درس علمه وعمله لإنارة طريق الخلاص الذي يعتنقنا من سلطان السقطة التي هوت بآدم، أي كسر الوصية بشهوة الأكل، هو الإنفراد في البرية وصيامه أربعين يوما وأربعين ليلة، وغلب الشيطان المجرب مصرحا (هذا الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم).
(القديس يوساب الأبح)
صام ليس لأنه محتاجًا للصوم فهو بطبيعته طاهر، بل لكي يشهد ليوحنا ولنا ويعطى لنا نفسه مثالًا حقًا.
(القوانين الرسولية 7: 22: 5)
من اجلنا صام أربعين يوما، ليكشف لنا الدواء لخلاصنا، وهو لم يستطرد في الصوم أكثر من ذلك لكي لا نشك في تدبيره للخلاص من غرابة المعجزة.
(القديس يوحنا ذهبي الفم)(1)
_____

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:14 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم الحقيقي في نظر الآباء

إن آباء الكنيسة في تعليمهم الرعوي عن الصوم لم يكونوا يكتفون بالصوم الجسداني المادي (الصوم عن بعض أنواع الأطعمة)، بل كانوا يؤكدون دائما على اقترانه بالصوم الروحي، لان فعل الصوم عمل روحاني بالأحرى.
الله لا يرغب في الصوم الباطل، لأن الصائم بهذه الطريقة لا يصنع شيئًا لحياة البر، إنما صوم الله صوما مثل هذا: لا تفعل شرًا في حياتك، واعبد الرب بقلب طاهر، واحفظ وصاياه سالكا في تعاليمه، ولا تدع شهوة الشر تصعد في قلبك، وآمن بالله، فإن فعلت هذا فإنك تصوم صومًا عظيمًا ومقبولًا أمام الله.
(كتاب الراعي - هرماس)

الصوم هو امتناع عن كل الشرور الشائعة عموما سواء تلك التي بالفعل أو بالقول أو بالفكر.
(القديس اكليمنضس السكندري)
لا تظن أن هكذا ببساطة يكون الصوم، لأنه ليس المنقطع عن الأطعمة وحده هو الصانع خيرًا، بل المنقطع عن كل فعل شرير، بهذا يدعى صوم، لأنك طالما أنت تصوم تحفظ فمك عن الثرثرة بالكلام الشرير، فإن كنت لا تطرد الكلام الشرير من فمك الصائم، فلن تنتفع شيئًا.
(القديس أثناسيوس - رسالة إلى العذارى)
الانقطاع عن الأطعمة لا يكفى في ذاته ليكون صومًا ممدوحًا، بل لنصم صومًا حسنا مقبولا لله. الصوم الحقيقي هو الابتعاد عن الشر ومجانيته، ضبط اللسان، الكف عن الغضب، وغياب الرذائل هو الصوم الحقيقي. وبهذا يكون صومك حسنًا.
(القديس باسيليوس الكبير - عظة 2: 7)
فالصوم ليس هو فقط الامتناع عن أنواع من الأطعمة وليس فقط الانقطاع تمامًا من الصباح حتى المساء ولكن الاثنين معًا.. على أن الآباء يؤكدون على الصوم الروحي بجانب الصوم الجسدي.
(القديس أمبروسيوس اسقف ميلان)
الصوم ليس مجرد امتناع عن الأطعمة، بل الخطايا، لأن طبيعة صوم مثل هذا، لا يجنى من يمارسونه ما لم يكن بحسب الوصية (لا يكلل أحد إن لم يجاهد قانونيا) {2 تى 2: 5}.
لذلك فحينما نسلك طريق تعب الصوم، فلن نبلغ في النهاية إلى نوال إكليل الصوم، فالفريسيين صاموا لكنهم ارتدوا فارغين، والعشار لم يصم، لكنه كان مقبولا أفضل من الذي صام،يجب أن نتعلم كيف نصوم ونعرف القوانين حتى لا نركض بغير يقين ولا نضارب الهواء ولا نصارع مع الخيال، الصوم دواء لكن الدواء قد يكون بلا نفع، وكثيرًا ما يصير عديم الفائدة بسبب قلة مهارة مَنْ يستخدمه.
(القديس يوحنا فم الذهب - عن التماثيل 3: 2)
لابد أن يكون الصائم ضابطًا لنفسه، ساكنًا، لطيفًا، متضعًا.
(القديس باسيليوس الكبير - عظة 8: 6)
هل أنت تصوم؟ أرني ذلك بأعمالك. فإن رأيت مسكينا فأشفق عليه. وان رأيت عدوا تصالح معه {ولكن لا يصم فمك وحده بل عيناك أيضا وسمعك وكل أعضاء جسدك}.
(القديس يوحنا ذهبي الفم - عن التماثيل 3: 4)
لا تصم بالخبز والملح وأنت تأكل لحوم الناس بالدينونة والمذمة، لا تقل أنا صائم صوما "نظيفا" وأنت متسخ بكل الذنوب.
(الأنبا يوساب الأبح)
لو اعتقدنا أن الصوم من ضمن قائمة الفضائل، ومجرد الامتناع عنه صالح في حد ذاته، لكان الطعام أمرا شريرا.. فانه ليس فقط لا ننال نفعا من امتناعنا عن الطعام والشراب إنما نسقط في بدعة ميلان.. لأنه ليس شيء نجسا بذاته، ولا أحد سيلام من أجل تناول الطعام، إنما يدان من أجل ارتباطه به أو الاستعباد له، وكما أن هذه الأدوات مفيدة للذين يفهمونها، كذلك فهي غير نافعة للذين يجهلون استخدامها، وكما أنها تعين الذين يستخدمونها، تكون بلا نفع للذين لا يعرفون غرضها بل يتوقفون عن مجرد امتلاكها وليس العمل بها.
(الأب ثيوناس)
إننا مطالبون أن نصوم لا بالجسد بل بالروح أيضًا.. إن صومًا مثل هذا إذا حفظ مقدسًا لا يوصل إلى توبة النفس وحسب، لكنه يعد القديسين ويسمو بهم عن الأرضيات.
(البابا أثناسيوس الرسولي)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:15 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
منافع الصوم روحيًا

الصوم باعتباره امتناعًا عن الطعام هو إشارة لشيء، فالطعام في حد ذاته لا يجعلنا أبرارًا أو أشرارًا أكثر، وبحسب السر فكما تعطى الحياة لكل واحد عن طريق الطعام، هكذا عدم الأكل هو رمز "الموت"، وهكذا يجب أن نصوم عن العالميات لكي "موت" للعالم. وبهذا فإننا بالتالي حينما نتناول من الطعام الإلهي -أي جسد الرب ودمه- نحيا لله.
(العلامة إكلمنضس السكندري)

كل جهاد ضد الخطية وشهواتها يجب أن يبتدئ بالصوم، وإذا ابتدأت بالصوم في جهادك الروحي، فقد أظهرت بغضتك للخطية وصرت قريبا من النصرة.
(مار اسحق السرياني)
الصوم هو غذاء النفس، وكما ان الغذاء الجسدي يشبع الجسد، هكذا الصوم يجعل النفس شديدة الحيوية. فيه تتهيأ للنفس خفة مجنحة، فيسمو بها فوق العالم، ويؤمنها للرفعة إلى ما فوق، فتصير أعلى من الأرضيات.
والصوم يجعل الفكر شديد الاستنارة، ويهيئ النفس -بالخفة- لتعبر بحر هذه الحياة الحاضرة.
(القديس يوحنا فم الذهب - عظة 1: 4 على التكوين)
كل من هو تحت وطأة روح شرير مخرب، لو انه دهن بدواء الصوم لهرب الروح مقيدًا لأنه يخاف من الصوم.. أنظر ماذا يصنعه الصوم؟
فهو يشفى الأمراض، يخرج الشياطين، يطرد الأفكار الشريرة، يزيد استنارة العقل، هو مطهر القلب مقدس الجسد، مقرب الإنسان إلى عرش لله، وعندك الشهادات في الإنجيل (مت 9: 29).
(القديس أثناسيوس الرسولي - رسالة إلى العذارى 7)
يلزم أن نهب عناية كافية للصوم كوسيلة نصل بها إلى نقاوة القلب وليس كفاية.
(الأب يوحنا كاسيان)
لقد أضاء وجه المسيح في التجلي كالشمس، وصار لباسه أبيض كالثلج، وفي الواقع أن لباس أرواحنا هي أعضاء جسدنا التي تنال من قوة الطهارة والأصوام ضياءًا سماويًا كمثال للقيامة من الأموات(1).
_____

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:15 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم لابد أن يقترن بالصلاة

مائدة الإنسان الذي يداوم الصلاة هي أجمل من كل عطر المسك وأزكى من أريج الزهر، ومحب الله يتوق إليها ككنز فائق القيمة!!
خذ لنفسك لحياتك من على مائدة الصوامين السهارى أولئك العماليين في الرب، وانهض نفسك من مواتها.. بين هؤلاء الصوامين يتكئ الحبيب ويقدسهم، محولا مرارة ريقهم إلى حلاوة تفوق حد التعبير، ويجعل السمائيين يعزونهم ويقوونهم.. إني أعرف احد الإخوة رأى ذلك ظاهرا بعينيه.
حينما ينحط الجسد بالأصوام تتشدد النفس روحيا في الصلاة.
(القديس مار اسحق السرياني)
الصوم يصعد بالصلاة إلى السماء، كما لو كان قد صار لها جناحان للعبور بهما إلى فوق.
(القديس باسيليوس الكبير - عظة 1-7)
الصائم يكون خفيفا مجنحا، وهو يصلى صاحيا، ويخمد الشهوات والشرور.
(القديس يوحنا ذهبي الفم - عظة 57: 4 على إنجيل متى)
بمجرد أن يبدأ الإنسان في الصوم، في الحال يندفع بالروح للحديث مع الله. الجسد الصوَّام لا يتحمل أن يقضى الليل كله نائمًا على فراشه، لان الصوم بطبيعته يُحَبِّب له السهر مع الله.
(مار اسحق السرياني "النينوي")(1)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:16 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم يقترن بالصلاة وأعمال الرعاية الاجتماعية

إن كنت تصوم بدون الصدقة، فلن يحسب هذا العمل صومًا.
(يوحنا فم الذهب)(1)
الصوم هو قوة الفضائل الروحية، هو بدء ونهاية الجهاد، هو بالنسبة للفضائل في المقام الأول، وكما أن متعة الضوء تلتصق بالعينين إذا كانتا سليمتين، هكذا الرغبة في العطاء ترتبط تماما بالصوم.. فالصوم والصلاة والعطاء، أشقاء ثلاثة.
(أحد أباء البرية الشيوخ)
حينما تتم ما كتبت لك، فإنك في اليوم الذي تصوم فيه، لا تذق شيئا سوى الخبز والماء، وعليك أن تحسب ثمن طعام هذا اليوم الذي كنت عتيدا أن تأكله، ثم تقدمه لأرملة أو يتيم، أو لأي شخص محتاج، وهكذا تمارس اتضاع الفكر، والذي انتفع من اتضاعك تتشدد نفسه ويصلى من أجلك إلى الرب.
(هرماس أمثلة - 5: 3: 8)
إني احزن من إنكم تفتكرون أن هذا -أي الصوم- الذي هو أدنى الفضائل كاف للخلاص مع أن أمور أخرى أعظم وأهم منه كالمحبة والتواضع والرحمة تترك كلية.
(يوحنا ذهبى الفم - عظة 47)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:17 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
فاعلية الصوم وقوته


أ) سلاح الصوم

ليس سلاح أقوى من الصوم يعطى شجاعة القلب في معركة الأرواح الشريرة. ان من يداوم على الصلاة يكون في كل وقت مشتعلا بالغيرة كالنار.
بسلاح الصوم نال جميع القديسين الأتقياء إكليل النصرة على أعدائهم، لأنه أثناء الصوم يكون العقل مستعدا ان يحتمل أشد الضربات وأسوأ الحوادث المفاجئة دون أن يهتز.
يقال بخصوص الشهداء أنهم حينما كان يبلغوا خبر اليوم الذي ينالون فيه إكليلهم، كانوا لا يذوقون شيئا البتة، ويتوقون وهم صائمون إلى ضربة السيف ليكللوا بإكليل الشهادة.
(مار اسحق السريانى)

لقد جرب آبائنا الصوم كل يوم فوجدوا انه نافع وموافق لنقاوة النفس، ونهونا عن امتلاء البطن من أي طعام حتى ومن الخبز البسيط أو من الماء أيضًا.
(الأب يوحنا كاسيان)
فلنحب الصوم جد، لأن الصوم حصن عظيم - المسيح يطلب منك جسدًا غير دنس ماتا بالصوم.
(البابا أثناسيوس الرسولي - رسالة إلى العذارى 6)
ب) الصوم من أجل الطاعة

نحن نتقبل الصوم بسرور، لأن الذين سبقونا أمرونا به، وبالأكثر لان ممارسة الصوم من أجل الطاعة بمثابة جلد الشيطان بالسياط.
(القديس نيلُس - رسالة 1: 307)
إذا افطرنا يا إخوتي والكنيسة صائمة نكون قد أفرزنا أنفسنا وصرنا سبب انحلال للضعفاء، فلا تفطروا قبل أن تفطر الكنيسة،كذلك لا تصوموا بعد أن تتم الصيام وتفطر الكنيسة، إلا أن تكون قانونًا موضوعًا من معلم التوبة بمشورة معلم مدبر، لئلا يكون صومكم غير مقبول ويجلب عليكم العظمة والافتخار ويولد فيكم الدينونة.
لا تدقق في صوم وتتهاون في آخر، لأني رأيت كثيرين يفطرون الأربعين المقدسة، وفي صوم العذراء يصومون صياما فائقا عن وضع الكنيسة بأهوية قلوبهم وبدون مشورة معلمي البيعة.
(الأنبا يوساب الأبح أسقف جرجا)
أي مسيحي هذا الذي بالرغم من انه في صحة جيدة وقادر إلا أنه يرفض ان يوم مع موسى وإيليا بل ومع الرب نفسه، إنهم لا يقدرون لأنهم لا يريدون، إني أحذركم بل أتوسل إليكم في الرب، لا يأكل أو يشرب أحد قبل العصر ما عدا أيام الآحاد.
(أمبروسيوس - عظة 9 عن الصوم الكبير)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:18 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم كذبيحة

اعتبر الآباء الصوم ذبيحة وكمثل لهذا يقول هرماس في كتابه الراعي: -
إن كنت تحفظ الصوم كما أوصيتك به، فذبيحتك ستكون مقبولة أمام الله، وسوف يسجل لك هذا الصوم، وهذه الخدمة التي قدمتها كذلك، شريفة ومقدسة ومقبولة للرب.
(هرماس - الأمثلة 5: 3: 8)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:19 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم وحياة الفضيلة

الصوم علامة التوبة.
(أوريجانوس - عظة 20: 9)
الصوم كان يمارسه المسيحيون من أجل مضطهديهم.
(الديداخي 1: 3)
وينصح به القديس يوحنا ذهبي الفم وقت التجارب.
(عظة 31: 2 على سفر الأعمال)
الصوم والتعقل وضبط النفس.
(القديس كيرلس الكبير - العظة الفصحية
& القديس يوحنا الدرجي - الدرجة 4)
الصوم وعدم فعل الشر وتجنب الكلام البطال والغضب.
(القديس أثناسيوس الرسولي - رسالة إلى العذارى)
(القديس باسيليوس الكبير - عظة 2: 7)

الصوم القانوني وطرد الأفكار والسكينة واللطف والوداعة.
(القديس يوحنا فم الذهب - عن التماثيل 3: 3)
(القديس كيرلس الكبير - عظة فصحية 1)
(القديس باسيليوس الكبير - عظة 8: 6)
الصوم والأعمال ومحبة المساكين والمصالحة وصوم الحواس.
(القديس يوحنا فم الذهب - عن التماثيل 3: 4)
(الأنبا يوساب الأبح)
الصوم وأعمال الرحمة والرعاية الاجتماعية.
(القديس يوحنا فم الذهب - عظة 57: 6 إنجيل متى)
(هرماس الراعي)
الصوم لابد أن يقترن بالصلاة.
(القديس باسيليوس الكبير - عظة 1: 7)
(القديس يوحنا فم الذهب - عظة 57: 4 إنجيل متى)
الصوم أكبر معين على تهذيب الحواس، لان في البطن الممتلئ بالأطعمة لن يوجد مكان لمعرفة أسرار الله.
(مار اسحق السريانى)
تأكد تماما أن العدو يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن.
(القديس يوحنا كرونستادت)
احذر من خداع البطن إذ تكون مملوءة وتصيح أنها جائعة، واعلم أن الشبع من الطعام هو أبو الزنا وإذا قسونا قليلا على بطوننا تذللت وانغلقت أفواهنا،أما إذا لذذناها بالمأكل فرحت ومرحت عقولنا وانسابت ألسنتنا، واعرف أن الشيطان في أكثر أوقاتنا يجلس في البطن ويرسل لنا شيطان الزنا بعد أن يخبره بما جرى، فإن كنت عاهدت المسيح أن تسلك في الطريق الضيقة فضيق بطنك أولا لان البطن العريض الواسع يستحيل أن يسير في طريق الرب الضيقة.
كن سيدا على معدتك قبل أن تسود هي عليك، الذي يرعى شرهه ويأمل في التغلب على روح الفجور يشبه من يحاول أن يخمد النار بالزيت.
(القديس يوحنا الدرجي)(1)
كل جسد يؤهل للتغيير ويخضع للروح القدس بالصوم، واعتقد انه يجعلنا ننال نصيبا من الجسد الروحي المزمع أن نكون عليه في قيامة الأبرار.
(الأنبا أنطونيوس)
_____

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:20 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم في جنة عدن

يتفق الآباء على أن الصوم كان هو طبيعة الحياة في الفردوس قبل السقوط كما يتضح من قول القديس باسيليوس: -
الصوم أقدم عهدًا من الناموس.. فليكن في اعتبارنا قدم عهد الصوم، فهو من عمر البشرية، قانون الصوم شرع الفردوس. آدم اخذ الوصية الأولى (من شجرة معرفة الخير والشر لا تأكل) كلمة لا تأكل هو قانون الصوم. فلو كانت حواء قد صامت عن الشجرة لما كنا في حاجة إلى الصوم الآن، وطريقة العيشة في الفردوس كان الصوم طابعها.
(القديس باسيليوس الكبير عظة 1: 3)

أن أول وصية وضعت على طبيعتنا في البداية كانت ضد تذوق الطعام، ولكن سقط رئيس جنسنا آدم، لذلك فان أولئك الذين يجاهدون من اجل خوف الله يجب أن يبدأوا البناء من حيث كانت الضربة الأولى.
ومخلصنا الصالح حينما أظهر نفسه للعالم عند الأردن إبتدأ من هذه النقطة فحينما اعتمد، قاده الروح إلى البرية مباشرة أربعين يومًا وأربعين ليلة، وكل الذين يريدون أن يتبعوا خطواته يجب أن يضعوا أساس جهادهم على نموذج عمله.
هذا السلاح "الصوم" قد صقله الله فمن ذا الذي يجترئ على احتقاره؟ وان كان معطى الناموس نفسه قد صام فكيف لا نصوم نحن الذين وضع الناموس من اجلنا؟
(القديس مار اسحق السرياني)
أننا بالأكل قد انغلبنا في آدم وبالإمساك عن الأكل غلبنا في المسيح، والذي ساد قديما على آدم، قد مضى الآن خائبا، لكي ندوسه تحت أرجلنا.
(القديس كيرلس الكبير - تفسير لو 4: 1)
لم يصم المسيح من أجل نفسه هو -إذ هو الإله- بل لأنه صار إنسانا ومشابها لنا، كان يعيد تشكيل طبيعة الإنسان بكاملها في ذاته إلى حياة مقدسة وبلا لوم،فقد صار (هو متقدما في كل شيء) (كو 1: 18) (حتى إننا أيضًا جميعًا نتبع خطواته) (1 بط 2: 21) ننال في أنفسنا إماتته أي اضمحلال قوة الخطية من أجسادنا فنرتقي إلى الحياة التي بلا لوم.
(القديس كيرلس الكبير - تفسير 2 كو 4: 10)
ليخزى الشيطان بواسطتنا، لأن ما يقوله الرب إنما هو لأجلنا، لكي إذ تسمع الشياطين من كلمات كهذه تهرب خلال الرب الذي انتهرها بهذه الكلمات.
(العظيم الأنبا أنطونيوس)

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:21 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم مدخل إلى الفصح (القيامة)

Lent: journey to pascha.
حينما يبدأ الإنسان رحلة ما ينبغي عليه أن يعرف إلى أين هو ذاهب، وهذا هو نفس الأمر بالنسبة للصوم. فالصوم فوق كل شيء وقبل كل شيء، وهو رحلة روحية SPIRITUAL JOURNEY ونهاية هذه الرحلة وغايتها هو الفصح أو عيد القيامة (عيد الأعياد) THE FEAST OF FEASTS فالصوم هو إعداد لتكميل الفصح والبصخة، وإعداد لرؤية القيامة ومعاينة أفراحها التي نتهلل بها في ذكصولوجية عيد القيامة ونقول (حينئذ امتلئ فمنا فرحًا ولساننا تهليلًا لان ربنا يسوع المسيح قام من بين الأموات بقوته أبطل الموت وجعل الحياة تضيء لنا، فلهذا نحن أغنياء بالخيرات الكاملة)، لذلك ينبغي علينا أن نفهم معنى ومغزى الصوم الكبير كرحلة تقودنا إلى عيد القيامة، لأن هذا الفهم يكشف لنا أمرًا أساسيًا وحاسمًا جدًا في حياتنا المسيحية.
والكنيسة قبل أن تعيد لقيامة المخلص تعبر الأربعين المقدسة ثم البصخة والصليب حتى تصل بنا لنوال رؤية القيامة كعربون لقيامتنا الحقيقية.
انه من الضروري أن نعرف أن عيد القيامة هو أكثر من مجرد كونه واحد من الأعياد، وأعمق من أن يكون تذكارًا سنويا لحادث قديم مضى!! إن أي مسيحي اشترك ولو لمرة واحدة في تلك الليلة، ليلة قيامة المسيح (التي هي أكثر إشراقًا ولمعانًا من النهار) BRIGHTER THAN THE DAY. وتذوق الفرح العجيب والفريد فرح رؤية قيامة المسيح في داخله (قام المسيح من بين الأموات ورد أعدائه إلى خلف وأعطاهم عارًا أبديًا، قد قام الله مثل النائم.. يسوع المسيح ملك المجد قام من بين الأموات)، يعرف ان عيد القيامة هو أكثر من مجرد عيد من الأعياد، ولكن ما هو موضوع هذا الفرح؟ ولماذا نرتل في قداس عيد القيامة وفي الخماسين المقدسة (بالموت داس الموت ووهب الحياة الأبدية للذين في القبور) إنها الحياة الجديدة التي أشرقت وبزغت لنا من القبر منذ حوالي ألفي عام، قد أعطيت لنا نحن، ووهبت لكل الذين يؤمنون بالمسيح. (سحق الأبواب النحاس وكسر المتاريس الحديد وأخرج مختاريه بفرح وتهليل) هذا ما نترنم به في ذكصولوجية مديح عيد القيامة المجيد والخماسين.

وقد أُعطيت لنا القيامة يوم معموديتنا التي فيها (دفنا مع المسيح للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات.. هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة) (رو 6: 4). وهكذا فإننا في عيد القيامة نحتفل ونعيد لقيامة المسيح لا كحدث قد وقع في الماضي، بل كحدث لا يزال يحدث لنا إلى الآن، وهو ما يقرره لنا تقليدنا الليتورجى القبطي في إبصالية عيد القيامة (كل جنس البشر جميع طرقهم مستقيمة لأن الكلمة محب البشر. المسيح قام).
كل واحد منا قبل هبة الله الحياة الجديدة هذه لكي يعيش بموجبها تلك الهبة التي تغير تغييرًا جذريًا في موقفنا تجاه كل شيء في هذا العالم بل وتغير موقفنا من الموت نفسه، إنها تجعلنا نستطيع أن نؤكد بفرح: (لقد أُبيد الموت)،رغم أننا نعرف أن الموت لا يزال موجود ولا نزال نواجهه وسيأتي إلينا يومًا ما ليأخذنا، ولكن إيماننا الأكيد هو أن المسيح بموته غير طبيعة الموت نفسها، وجعل الموت عبورًا إلى ملكوت الله، فعندما نصلى من أجل الراقدين نقول (ليس موت لعبيدك بل هو انتقال)، فالمسيح الذي داس الموت بالموت أنعم للذين في القبور بالحياة الأبدية وجعلنا مشتركين في قيامته، تلك التسبحة التي نسبح بها في إبصالية القيامة (يسوع المسيح خلص شعبه من إبليس بذراعه، فرحًا وتهليلًا أعطاهما لنا الله لان ملكنا عمانوئيل. المسيح قام من بين الأموات).
هذا هو إيمان الكنيسة الذي يؤكده ويظهره عدد لا يحصى من قديسيها على مر العصور. (كل أجناس البشر تسبح قيامتك، لوقا الحكيم ويوحنا حبيبه يبشرون جيدًا: يسوع المسيح قام ها أن الرسل رأوا وفرحوا وكرزوا في العالم لان ملك المجد يسوع المسيح قد قام، اله الأنبياء والأبرار والصديقين هو السيد، المسيح قام)
وبعد كل هذه التسبحة ألا نلاحظ في خدمتنا اليومية أن هذا الإيمان الحي نادرًا ما نراه في واقع حياتنا الآن، وأننا في معظم الأحوال نخون (الحياة الجديدة) التي قبلناها وأخذناها كهبة، ونعيش وكأن المسيح لم يقم من بين الأموات، وكأن القيامة الفريدة ليس لها أي معنى بالنسبة لنا؟ إن السبب ضعفنا وتخاذلنا وفتورنا وعجزنا عن أن نحيا بالإيمان والرجاء والمحبة.. وهو ما توجه الكنيسة أنظارنا له في الأحد الأول من الصوم الكبير (اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره) (مت 6: 33) وللأسف نحن غارقون في اهتماماتنا اليومية، ولأننا ننسى فإننا نفشل ونسقط.. وتصبح حياتنا (قديمة) مرة أُخرى، تصير حياتنا مظلمة ومضيعة وتافهة وفي النهاية تصير بلا معنى، تصير الحياة رحلة لا معنى لها ولا غاية، حتى يأتينا الموت فجأة.
ينبغي أن نرجع حياتنا إلى الحياة الجديدة التي أعلنها السيد المسيح لنا وكشفها بل ووهبنا إياها، وفي الحقيقة أننا أصبحنا نعيش كأن المسيح لم يأتي إلى العالم بالمرة، وهذه هي الخطية الحقيقية الوحيدة خطية جميع الخطايا.. إنها مأساة المسيحية الاسمية، فإذا كنا قد أدركنا هذا حينئذ يمكن أن نفهم ما هو الفصح المسيحي ولماذا نحتاج إلى الصوم قبله؟ من أجل إعدادنا وتهيئتنا لعيش القيامة وجدة الحياة المقامة في المسيح يسوع، وهنا يمكن أن نفهم أن طقس العبادة الليتورجية في الكنيسة، بكل دوراتها وخدماتها بحسب نظام السنة الطقسية الليتورجية، إنما هي موجودة لكي تساعدنا على استعادة رؤية الحياة الجديدة وتذوقها -تلك الحياة التي نفقدها ونخونها وننساها ونضيعها- وفي الصوم نستعيد رؤية الحياة الجديدة لكي نتوب ونرجع إليها من جديد، لأنه كيف يمكننا أن نطلب ملكوتًا ليس لنا أي ارتباط به ولا أية فكرة عنه؟ إن عبادة الكنيسة الليتورجية هي وسيلة دخولنا إلى تذوق حياة الملكوت الجديد والشركة فيها..
فنمشى الرحلة إلى حضن الآب (أحد الاستعداد - أحد التجربة - أحد الابن الشاطر - أحد السامرية - أحد المخلع - أحد المولود أعمى (أحد التناصير) أحد الشعانين حتى أحد القيامة العظيم).
إذ أن الكنيسة من خلال عبادتها تعلن لنا شيئا من ذلك الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر الذي أعده الله للذين يحبونه، وفي مركز عبادة الكنيسة ومحور حياتها الليتورجية يوجد عيد القيامة كقلب هذه العبادة وذروتها وقمتها، وهو مثل الشمس يشرق بأشعته في كل مكان وفي كل زمان، لان القيامة هي الباب الذي ينفتح لنا سنة على بهاء ولمعان مملكة المسيح، وهي عربون الفرح الأبدي الذي ينتظرنا وهي مجد الانتظار الذي يملئ الخلقة كلها فمنذ الآن أبيد الموت لذلك نترنم في تسابيح القيامة الكنسية ونقول:-
(من أجل القيامة المقدسة سبحوا وهللوا ورتلوا وبشروا في الأمم، الطغمات تسبحه، تهلل يا جنس ادم بفرح روحي ها البرية كلها تفرح معًا لان اسم الافتخار هو اسمه تهللوا أيها الأنبياء لان السيد غير المدرك إلهنا يسوع المسيح قد قام، السلام للقيامة والقبر والدم الذي سفكه الوحيد يسوع المسيح قد قام). (إبصالية عيد القيامة)
إن عبادة الكنيسة كلها مرتبة ومنظومة حول عيد القيامة الذي هو قلب السنة الليتورجية، والقيامة هي النهاية والغاية وهي أيضًا البداية والنهاية.. ولأهميتها هذه يأتي دور الصوم الكبير، وبالصوم تقدم لنا الكنيسة معونة، تقدم لنا مدرسة للتوبة تمكننا بها من أن نستقبل عيد القيامة وفرح القيامة وفرح القيامة التي هي نهاية القديم ودخول إلى الجديد لذلك نقول: (ويرينا فرح قيامته سنين كثيرة).
وقد كان الغرض الرئيسي من الصوم في العصور الأولى هو إعداد الموعوظين وتهيئتهم للمعمودية، هكذا ظل غرض الصوم.. فإن كان عيد القيامة هو رجوعنا كل سنة إلى معموديتنا، فيكون الصوم هو إعدادنا لهذا الرجوع كل سنة إلى معموديتنا، إعدادنا لهذا الرجوع بالتوبة والمصالحة والصلاة والاعتكاف والميطانيات والمجاهدة، وأعمال الرحمة مع الصوم فنأتي في النهاية إلى العبور، عبورنا إلى الحياة الجديدة في المسيح لكي نذوق فرح قيامته ونراها في اليوم الذي صنعه الرب لنتهلل ونفرح فيه.
وان كانت عبادة الكنيسة في الصوم الكبير لا تزال تحتفظ إلى اليوم بسمات اعداد الموعوظين للمعمودية، فإنما هذا لكي يكون لنا في كل سنة إعادة اكتشاف واستعادة للهبة الإلهية التي وهبنا إياها.. ولا بد أن نركز على جموعية الصوم والصلاة والتوبة لان فيها عمق شركتنا في جسد المسيح.
إنها رحلة وأول خطوة فيها الحزن المضيء حزن الصوم الكبير البهي الذي به ننظر النهاية من بعيد، ونتطلع إلى فرح القيامة والى الدخول في مجد الملكوت، وهذه هي الرؤية وهذا هو التذوق المسبق لفرح القيامة الذي يجعل حزن الصوم لامعًا ومضيئًا ويجعل الجهد المبذول في الصوم ربيعًا روحيًا.. SPIRITUAL SPRING، فالصوم هو بالحقيقة رحلة، يلازمها الحزن اللامع والمشرق للصوم، كهدف بعيد للغاية الأخيرة، انه فرح القيامة والدخول إلى بهاء الأبدية والتذوق المسبق للفصح.
وكل التوجيهات الكنسية الأبوية تبدو ظاهرة واضحة في طقس الكنيسة في فترة الصوم سواء في الألحان أو في الطلبات أو في القراءات الإنجيلية أو في نبوات العهد القديم أو في القدوة التي يقدمها الآباء والرعاة كما رسم لنا المجمع المقدس المسكوني.
وقد جعلت أمنا البيعة الأُرثوذكسية طقسًا للصوم الكبير تقدم فيه روحها من خلال الألحان والمردات (مرد الإنجيل (جى بنيوت) + قسمة الصوم الكبير + التوزيع بالطريقة الصيامي وكذلك قراءات النبوات في رفع بخور باكر بعد (إفنوتى ناى نان) ثم صلاة الطلبة مع المطانيات.. ) وكذلك نجد أن الكنيسة لا تصلى العشيات في أيام الصوم لان القداس ينتهي في الغروب، ووجود الذبيحة المقدسة إلى وقت المساء على المذبح هو المرموز إليه الذي يبطل معه رفع بخور عشية وهو الرمز للذبيحة المسائية (ما عدا عشية السبت)، ومن الإشارات الليتورجية الجميلة التي تدلل على روح الحزن المضيء والعبادة الهادئة الخاشعة أن الكنيسة لا تستخدم الدف في أيام الصوم.. لان الصوم الجماعي يوحد ويؤلف القلوب والأفكار والألسنة في العبادات خلال هذا الربيع الروحي، ليكون بحق صوم الاستنارة والضياء والتربية الروحية وزمن التوبة والمصالحة والرجوع، الذي فيه تأخذنا الكنيسة وتُعيد أمامنا الهدف من المعمودية: أن نرى ملكوت الله ونتذوقه، وظهور هذا الملكوت ودخولنا فيه بالتوبة والرجوع، في صلة حب وشركة صادقة وحارة مع الله، نبعًا روحيًا وفجرًا لامعًا سريًا يشرق في الأفق، فلا تحرمنا من شبعك يا محب البشر الصالح.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:22 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
عبادة الصوم

THE LENTEN WORSHIP
* الحزن المضيء BRIGHT SADNESS

من السمات المميزة للروحانية الأرثوذكسية والتي ترتبط بالصوم، الحزن المضيء تلك الحالة من تغيير العقل والقلب والسلوك والنفس، وتجديد الإنسان بكليته وصيرورته في جو ومناخ جديد ومتجدد، ويوصينا العظيم الأنبا أنطونيوس "ليست الفضائل خارجكم بل هي لكم وفيكم ولا تتطلب منك سوى الإرادة لان ملكوت الله داخلكم".
أن غاية الصوم الأربعيني ليست تتميم فروض شكلية إجبارية، ولكن الغرض أن تلين قلوبنا حتى تنفتح على حقائق الروح فنترك إرادتنا الحسية وتلتزم الهدوء بكل نوع، وذلك الجوع والعطش السري يكون هدفه الإتحاد بالله واختيار العطش والجوع لشركة معه ونوال غفران الخطايا وهو ما نعبر عنه في إبصالية الصوم ونقول [تعالوا لنصوم أصوامًا كاملة لان بالصلاة والصوم يغفر لنا الرب]، وهذا المناخ الأربعيني والجو الصيامي وتلك الحالة الفريدة من الفكر والعقل لا يمكن بلوغها إلا بالعبادة من خلال تلك الأطعمة الروحية المتنوعة التي نأكلها خلال هذا الموسم الليتورجي..

وإذا ما اعتبرت العبادة مجرد طقوس أو مراسيم غير مفهومة وترتيبات شكلية لابد من تتميمها وتكميلها، لن نجنى ثمارها، ولكن إذا ما فهمناها في جملتها وروحانيتها فإنها تكشف وتعلن روح الصوم وبركاته وتجعلنا نرى ونشعر ونختبر ذلك الحزن المضيء الذي هو موهبة الصوم ورسالته الحقيقية، التي هي التفتيش ومحاسبة النفس بلوغًا إلى السلوك بحسب الدعوة التي دعينا إليها.
من خلال الحزن العميق الذي يتخلل الخدمة كلها، فالخدمة أطول من المعتادة وأكثر رتابة [أي على وتيرة ونسق واحد] حيث لا حركة ولا ضجيج، فالنبوات والطلبات والمطانيات والألحان تتم في تناغم وتناوب، والجموع متوسلة منسكبة [اكلينومين تاغوناطو].. ونسجد اثنتي عشر سجدة وعلى فترة يطول مداها نقف بخشوع لنستمتع بغنى الطقس الصيامي ذي الوتيرة الواحدة في حزن تام.. الذي لا هدف منه إلا عيش الحزن المضيء عندما نردد [أخطأت أخطأت يا ربي يسوع اغفر لي لأنه ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران] بلحنها المؤثر الفعال الذي يخترق الآذان والقلوب والنفوس ليهزها ويحركها في طريق التوبة والفضيلة [ونحن أيضا فلنصم بطهارة وبر] من اجل صوم روحاني مبارك..
وهذه التوبة والجهادات بالجوع والعطش توصلنا إلى نوال رؤية القيامة التي هي فعل الحزن المضيء، وعندئذ نتلامس مع عالم آخر، عالم الفردوس والملكوت الذي في داخلنا.
وتلك الرتابة والإطالة في العبادة تجعلنا نتيقن أنه أمر نحتاج إليه إذ كانت رغبتنا فعلًا متمركزة في اختيار السر ومعايشة ذلك "الفعل غير الملحوظ فيا، وتأخذنا العبادة الليتورجية لكي نختبر ونعيش الفعل فتأتى لنا بالنماذج الحية التي عاشت فعل الصوم فأخذت البركات، فنقول في إبصالية الصوم [ايليا أغلق السماء بالصلاة والصوم فلم تمطر، ذبيحة إبراهيم قبلها السيد الإله بالصلاة والصوم وجعله رئيس آباء، ويعقوب من اجل نواياه الصادقة البريئة بالصوم والصلاة نال بركة أبيه، ولوط البار استحق أن يأتي إليه الملاكان وبالصلاة والصوم خلص من الشدة، وموسى أخذ اللوحين بالصلاة والصوم، ونوح أشار إليه الله بالفلك وبالصوم والصلاة خلص من الطوفان]،وهكذا تستحضر الكنيسة في عبادتها الصومية الثلاثة فتية، ويونان النبي، وصموئيل ماسح الملوك، ويوسف العفيف رئيس مصر، والاثني عشر تلميذ، وداود ذا القيثارة وصاحب النبوة وكل الأنفس التي أرضت الرب بأعمال الصوم والصلاة تكون معنا فنعيش شركة السمائيين والقديسين في العبادة الليتورجية، لنتعلم منهم ونسلك كما سلكوا حاذين حذوهم فنفوز بملكوت السموات، فالخلاص والتوبة ليسا احتقارًا للجسد أو إهمالًا له، بل إعادة الجسد إلى نوره الحقيقي كتعبير عن الروح وحياتها، كهيكل للنفس البشرية التي لا تثمن والنسك المسيحي هو حرب من أجل الجسد وليس ضده، لهذا السبب يتوب الإنسان بكليته، بالصلاة والعبادة والسجود..
ورويدًا رويدًا تنفتح مداركنا ونفهم أو بالحري نشعر أن ذاك الحزن هو بالحقيقة حزن مضيء، وان تحولًا سريًا على وشك الحدوث في داخلنا، ويبدو الأمر كما لو كنا قد بلغنا مكانًا اختفت فيه ضوضاء الحياة وضجيجها وجلية الشوارع التي غالبًا ما تملأ أيامنا وليالينا، نبلغ مكانًا لا تصير لهذه الأمور أيه سيادة علينا، وهنا تكمن أهمية الصوم لنا عندما نبلغ حالة ذهنية تملأ كياننا كله، حالة من الترقب والتوتر الحلو تصبح طبيعة ثانية، عندما يختفي القلق والتوتر العالمي بطريقة ما والى مكان ما، فنبدأ نشعر بأنفسنا أحرارًا وأكثر خفة وسعادة.
وهو ما نحس به ونردده في مرد الإنجيل أثناء الصوم الأربعيني [سلام الله الذي يفوق كل عقل يحل في قلوبكم بالمسيح يسوع ربنا].
ليست تلك السعادة السطحية المزعجة ذات الجلية التي تأتى وتنصرف مرات كثيرة، تلك السعادة الوقتية الزائلة الهشة سريعة الزوال، بعكس هذه السعادة العميقة التي مصدرها النفس البشرية التي تلامست مع الملكوت متوقعة انتظار ربنا يسوع المسيح [الباروسيا]، ذلك العالم المصنوع من النور والسلام والبهجة والثقة التي لا يعبر عنها وعجيبة حينئذ نفهم لماذا كانت الخدمات الليتورجية طويلة ورتيبة، أن طولها ورتابتها إنما بهدف عميق ألا وهو دخولنا إلى السكون والاعتكاف الباطني، لأنه من المستحيل أن نعبر حالتنا الراهنة العادية، حالة الفكر الذي صاغته الانشغالات والاندفاع والضوضاء وطياشة الفكر أي تلك الحالة الأخرى الجديدة، دون أن نستعيد في ذواتنا معيارًا جديدًا عن الاستقرار الداخلى، نستمده من عباداتنا، عندما نقر ونشهد في اسبسمس واطس الصوم المقدس [أنا اعرف انك صالح، رؤوف ورحيم، اذكرني برحمتك إلى الأبد. أطلب إليك يا ربي يسوع لا تبكتني بغضبك ولا برجزك تؤدب جهالتي] فتكون عبادتنا.
وهذا ما أكده القديس العظيم الأنبا أنطونيوس "إن الروح القدس يجعل عمل التوبة حلوًا وشيقًا ويأخذنا التي التحول الكامل نحو الله ويصير لنا ملجأ وقوة ويطفئ عنا كل الشرور المتحركة فكل تغير إنما يبدأ من الداخل من الحياة الباطنية لان كل مجد ابنه الملك من داخل.
والآباء الروحانيون الذين صاغوا المنهج الكنسي الليتورجى في الصوم والذين شكلوا أيضًا البنية العامة للعبادات في الصوم الكبير، من قراءات والحان ومدائح وميامر ونبوات وطقس صيامي ومطانيات وطلبات وقداسات متأخرة، أضفوا على ليتورجية الصوم جمالًا خاصًا يليق به، هؤلاء جميعًا كانوا يفهمون ضعف النفس البشرية، فجعلونا نقول في الصوم [بصوتي صرخت إليك يا إلهي فمن أجل الصوم أعطني خلاصًا. أعن ضعفي أيها المخلص. ومن أجل الصوم اغسل أقذارنا]، أن هؤلاء، الآباء الذين وضعوا العبادات والألحان الليتورجية كانوا يعرفون حقًا فن التوبة، وكل عام خلال الصوم الأربعيني يجعلون هذا الفن في متناول كل فرد له أذنان للسمع وعينان للنظر، عندما نطلب ونلح ونترجى ونئن قائلين [أخطأت يا يسوع ربي أخطأت يا يسوع إلهي يا ملكي لا تحسب على الخطايا التي صنعتها]، وكل العبادات أثناء الصوم تحض على التوبة وترسم الطريق لها، لنتطلع إلى فرح القيامة والدخول في مجد الملكوت، هذا هو فكر الكنيسة، لأن جوهر الصوم أن نتذوق العبادات والألحان بوزنها الصيامي لنستنير ونبلغ بإيماننا درجة الكمال، عندئذ نفهم ما هو تعليم كنيستنا الصحيح.
واللاهوت الأرثوذكسي القبطي يؤكد على اقتران الجهاد بالفرح، فرح الملكوت (الاستعداد)، فرح الغلبة (التجربة)، فرح التوبة (الابن الضال)، فرح الكرازة والخدمة (السامرية)، فرح الغفران والشفاء (المفلوج)، فرح الاستنارة ونذر المعمودية (التناصير)، فرح ملكوت المسيح الآتي (الشعانين)، ومن خلال الحزن المضيء يشعر كل أرثوذكسي بالعبادة التي تحث على التوبة وحمل الصليب والجهاد والسلوك بلا عثرة ورفض المشورة الشريرة، عندما يدخل إلى البيعة في أثناء الصوم الكبير، يدرك بسرعة ما يدور، حتى ولو كانت معرفته محدودة، مصدر سلامنا وسكون أنفسنا وراحتها.
أن أولئك الذين يعتقدون أن العبادة الليتورجية هي مجرد "فروض"، وأولئك الذين يلحون في اختصار عدد مرات الذهاب إلى الكنيسة واختصار زمن الصلوات ووقتها، لا يمكنهم أبدًا أن يستوعبوا طبيعة ودسم وغنى وعمق وضياء العبادة التي تأخذنا إلى سر الحضور الإلهي.
عندما نقول في أرباع ناقوس الصوم [ربنا يسوع المسيح صام عنا أربعين يومًا God's Presence وأربعين ليلة حتى خلصنا من خطايانا، أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك ليأت لأن لك المجد إلى الأبد آمين].
وهنا نلمس حضور المسيح في وسطنا، وأنه معنا ونحن فيه خلال صومه الأربعيني، وتستهدف العبادة الكنسية من ذلك أن تأخذنا في بطء وتهيئة وهدوء بالغ رويدًا رويدًا للتمتع بالحضور الإلهي بشكل طبيعي وسوى بالرغم من طبيعتنا الساقطة، وعندما نجد أنفسنا في حضرته الإلهية أثناء العبادة تنتهز الكنسية هذه الفرصة لتتضرع إليه في مرد الابركسيس وتقول له [اذكرني يا رب، اذكرني يا إلهي، اذكرني يا ملكي، إذا جئت في ملكوتك].
وهنا نختبر ذلك التحرر السري أكثر خفة وسلامًا، ويصبح لرتابة وحزن الخدمة التعبدية مغزى فيشرق فينا جمال جواني يشبه الشمس المبكرة التي وهي بعد Transfigured جديد، حيث تتغير هيئتنا.
معتمه في قلب الوادي، تبدأ في إنارة قمة الجبل، هذا النور وذاك الفرح السري يبزغان من أعماق التسبيح والتهليل المتعمق.. وهو ما نقوله في تسبحة ذكصولوجية الصوم [أسبح مراحمك يا ربي إلى الأبد ومن جيل إلى جيل بفمي اخبر بحقك]، فما قد بدل للعيان رتيبًا يستعلن الآن سلامًا، وما كان يبدو طويلًا وكأنه حزن قد اختبرته النفس الآن في أولى حركاتها فاستكشفت عمقه المفقود وهذا ما تصرخ به في تسابيح الصوم في كل صباح أثناء دورة الحمل [فأدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله الذي يفرح شبابي اعترف لك بالقيثارة يا الله الهى اذكر يا رب داود وكل دعته الليلويا].
لقد ارتبط الصوم في العهد القديم بفكرة الحزن والنحيب، ولكن حزننا هذا حزن مضيء حزن برجاء وحنين للفردوس، منطلق ومرتقب للقيامة.
الحزن المضيء حزن منفاي، حزن ما ضاع من عمري، تعبر عنه الليتورجيا في قطع توزيع أيام الصوم [أطلب إليك يا ربي يسوع لا تبكتني بغضبك ولا برجزك تؤدب جهالتي، يا محب البشر سيدي يسوع أسالك لا تطرحني على يسارك مع الجداء الخطاة ولا تقل لي أيضًا إني ما أعرفك اذهب عنى أيها المعد للنار الأبدية.. لأني أعلم بالحقيقة أني خاطئ وأعمالي الرديئة كلها ظاهرة أمامك، أعطني يا رب توبة لكي أتوب قبل أن يسد الموت فمي في أبواب الجحيم وأعطني جوابًا على كل ما فعلته، القاضي العادل يسوع الذي يدينني رؤوف هو مخلصي يتراءف على شعبه كصالح ومحب للبشر، ارحمنا كعظيم رحمتك].
وهنا نتلاقى مع ضياء وجود الله في حياتنا بغفرانه وبهجته، ذاك الاشتياق، الذي تتم استعادته، وسلام ذلك البيت الذي كان مفقودًا، قد صار شعبًا وحزنًا مضيئًا وغنى ورحمة ومصالحة وتقديس من خلال مناخ عبادة الصوم.. التي فيها نعيش قانون توبة جماعي، كما رسمته ليتورجيا الكنيسة التي تشتمل على التسبيح المقترن بالبهجة والفرح الروحي والانسكاب، والقطع التي يغلب عليها الطابع التفسيري والتعليمي لتحث العابدين على النسك والصلوات والمصالحة والمحبة والاتضاع والطهارة والانسحاق والرحمة [تمسكوا بالصوم والصلاة معًا وقوموها بالطهارة التي للقديسين وأحبوا النشاط والبتولية] {إبصالية آدام على تذاكية الأحد }.. وكلها معاني ليتورجية تلف الكنيسة بروح الجهاد القانوني المستقيم الذي يسرى في كنيستنا التي لإخلاص لأحد خارجها.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:23 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الكتاب المقدس في عبادة الصوم

صلاة الكنيسة هي دائمًا كتابية أي أنها تعتمد على لغة ونص وصور ورموز الكتاب المقدس الذي كما يحوى الإعلان الإلهي للإنسان يعبر أيضًا عن استجابة الإنسان الموحى إليه بهذا الإعلان الإلهي، ومن ثم تُصاغ صلواته وتسبحته وتمجيده، فقد انقضت آلاف السنين على كتابة المزامير إلا أن الإنسان عندما يحتاج إلى التعبير عن التوبة ويطلب مراحم الله اللامحدودة لا يجد تعبيرًا دقيقًا ووحيدًا إلا في مزمور التوبة [ارحمني يا الله كعظيم رحمتك] الذي نصليه في كل خدمات السواعي، وكل حالة يمكن تصورها عن الإنسان أمام الله والعالم والآخرين من الفرح المهيمن بكليته، لحضور الله في مواجهة قنوط الإنسان المتغرب عن الله والبعيد والعاجز عن الوصول إليه بسبب تلك الهوة السحيقة، هوة الخطية والغربة عن الله، كل ذلك يجد تعبيره الكامل في تلك البشارة المفرحة "كيريجما".. الكتاب المقدس الذي هو أيقونة الله ورسالته إلى خليقته، التي تركها المسيح وديعة للكنيسة لكي يكون كلام الله المسموع في العبادة والمكتوب هو حياة لنفوسنا.. فنتقبل الكلمة ونطيعها وهو ما يسميه الآباء بالميترجي تقابل الإرادة الإنسانية مع عمل النعمة الإلهية كما سمع العظيم أنطونيوس الوصية وعاشها عندما خرج من الكنيسة..
والكتاب المقدس يشكل دائمًا غذاء الكنيسة اليومي وأداتها في العبادة الليتورجية، لأننا لا نعرف الكتاب المقدس إلا معاشًا بالقديسين مشروحًا بالآباء، وما أحلى أن نسمع لإنجيل الكنيسة في العبادة، فهي صوت الإنجيل الحسي بحسب تعبير القديس باسيليوس الكبير.

وأثناء الصوم الأربعيني المقدس يعطى للبعد الكتابي في العبادة الليتورجية تأكيد متزايد، ويستطيع المرء أن يقول أن الأربعين يومًا هي بمثابة عودة الكنيسة إلى حالة العهد القديم الروحية، إلى زمان ما قبل المسيح، زمن التوبة والتوقعات المتجهة نحو تمامها في المسيح وكأنها فترة انتظار للمسيا المنتظر مشتهى كل الأجيال، زمن تاريخ الخلاص، السائر صوب كمال تحقيقه في المسيح، وهذه العودة ضرورية لأنه حتى ونحن ننتمي إلى زمن ما بعد المسيح ونعرفه وقد "اعتمدنا فيه" إلا أننا دائمًا ما نسقط بعيدًا عن الحياة الجديدة التي نلناها منه، وهذا يعنى أننا نتقهقر مرة أخرى إلى [الزمن العتيق] والكنيسة من جهة قد بلغت فعلًا "بر الأمان" في بيتها لأنها هي "محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وموهبة وعطية الروح القدس"، ومع ذلك فمن جهة أخرى هي في طريقها لا تزال تصبو طويلًا صوب تحقيق كل الأشياء في الله [لأن منه وبه وله كل الأشياء قد خلقت] وعودة المسيح وكمال نهاية الأزمنة عند مجيئه الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء مجدًا.
الصوم الأربعيني المقدس هو الزمان الذي يتحقق فيه فعلًا ذلك الجانب الآخر والمظهر الثاني للكنيسة لحياتها كتوقع ومسيرة، أعني حياتها التي تقضيها في ترقب وترحال، وهنا يستمد العهد القديم عمق مغزاه وملء معناه ليس ككتاب يحوى مجرد نبوات قد تحققت إنما هو نسيج إنسان وخليقة كاملة في طريقها نحو ملكوت الله، والتزمت كنيستنا بقراءة سفر إشعياء النبي كل يوم من أيام الصوم الكبير، ونستطيع أن نقول أن نبوة إشعياء هي رحلة مع آحاد الصوم وكأن إشعياء الإنجيلي كان يرسم للكنيسة بروح النبوة برنامج الصوم الأربعيني.
ونجد أن المزامير أيضًا تشغل مكانًا فريدًا ومركزيًا بالحق في العبادة الليتورجية، فالكنيسة ترى فيها أفضل وأنسب وأكمل تعبير لصلاة الإنسان التائب المنسحق المسيح بل أيضًا الأيقونة الكلامية للمسيح وللكنيسة (ديالوج dialogue)، وتأخذنا القراءات الكنسية الإنجيلية للعبادة الليتورجية في رحلة تقودنا إلى قدس الأقداس في النهاية "البصخة".
ومن هنا نجد أن القراءات الإنجيلية الليتورجية قد أصبحت الأيقونة الفعلية للمسيح والكنسية، فهي استعلان داخل الاستعلان الإلهي، ويقول الآباء في كتاباتهم "المسيح فقط وكنيسته يصليان ويبكيان ويتناجيان في هذا الكتاب"،ومنذ البدء صاغت المزامير أساس صلاة الكنيسة، فكانت هي بمثابة "لغتها الطبيعية"، إذ شكلت المادة الأساسية والبنية الثابتة والدائمة لصلوات السواعي في الأجبية، وأيضا صيغت منها التسبحة والبنية الثابتة للذكصولوجيات والإبصاليات، ولكل الأعياد والتذكارات على مدار السنة الليتورجية، وبالأخص في العبادة الليتورجية أثناء دورة الصوم.
والتزمت الكنيسة بضرورة قراءة سفر إشعياء النبي أثناء الصوم في الأيام التي تقرأ فيها النبوات لكي من خلال الأم MYSTERY OF SALVATION تكشف من جديد ذلك السر العظيم سر الخلاص
وتضحيات المسيح نخلصنا حتى إننا نجدها في الأسبوع الأول من الصوم تبدأ في قراءة الإصحاح الأول من السفر، ويأتي منتصف السفر عند {أش 40} حسب رأى المفسرين مع "أحد السامرية" ويكون سفر أشعياء النبي رحلة مع آحاد الصوم الكبير وكأن أشعياء كان يرسم للكنيسة بالروح برنامج الصوم الكبير، لأنه سفر التوبة والرجوع إلى الله وهذه هي غاية قصد الصوم وهدفه..
وهذه القراءات الإنجيلية لا نزال نصلى بها كخدمات صيامية ليتورجية تعليمية سبق استخدامها للتحضير للمعمودية (إعداد الموعوظين) والتي تتضمن طريق الخلاص الذي يكتمل بالمسيح ويكتمل فيه.
وقد خصصت كنيستنا قطمارس للصوم الأربعيني الكبير katameooc ضم قراءات الإنجيل كلها وفيه تتجمع الوصايا الروحية، وتقدم من أجل حياتنا وبنياننا حتى تتحول فينا إلى ثمار النعمة والخلاص، وأناجيل آحاد الصوم هي تجمع غنى وعميق من اجل تطهيرنا وإنارتنا وتهيئتنا في زمن تربية روحية واستنارة، للبلوغ إلى ذوق فرح قيامة المخلص..
فنجد أن الآحاد حسب التقويم الليتورجي القبطي مرتبة بإلهام الروح القدس وتدبير الآباء العظام، الأحد الأول أحد المخلع ثم أحد المولود أعمى ثم أحد الشعانين إلى أن نصل لذروة السنة الليتورجية القبطية في عيد الأعياد كلها وتاجها حيث قيامة السيد الرب.
فليس الكتاب المقدس مجموعة مناظرات عقيدية وقصص وحكايات تروى على سبيل المعرفة والتسلية العقلية، لكنه صوت الله الحي يتحدث إلينا المرة تلو المرة ليأخذنا دائمًا متعمقًا بنا إلى العمق الذي لا يستقصى، حيث غنى حكمته ومحبته، وليست هناك مأساة أكثر من تلك التي نراها في الإهمال الذي يناله الكتاب المقدس، والأسوأ من ذلك هو لامبالتنا نحن تجاهه، فما كان بالنسبة للآباء فرحًا وشبعًا لا ينتهي ولذة لا تبطل، ونموًا روحانيًا وعقليًا، قد صار اليوم بالنسبة للعديد منا مجرد نص عتيق قد عفا عليه الزمن وصار بلا معنى في حياتنا، وكل أملنا أننا كما استعدنا روح الصوم ومغزاه أيضا، نستعيد قيمة الكتاب المقدس كغذاء روحي حقيقي وشركة مع الله كما جعلته أمنا البيعة مصدرًا وركيزة جوهرية لها مكانتها الفريدة في العبادات.. لذلك نجدها تضع القراءات الدسمة والنبوات من العهد القديم خلال ليتورجيا الصوم الكبير وكأم تعلمت بحذق روحي ومهارة ملهمة كيف تعد غذاء أبنائها بنفسها، تمد يدها لأولادها الجائعين الجالسين بإنصات أمام المنجلية يتغذون بفرح وشغف من طعام الروح..
وإذا التفتنا إلى العبادات بانتباه نجدها تتضمن معرفة للكتاب المقدس وقدرة فائقة على التأمل فيما يعنيه لنا في حياتنا، فنتغذى من ينابيع الكتاب المقدس خلال القراءات الكنسية في الصوم الكبير الذي هو بالنسبة للآباء والكنيسة نبع الإيمان.
وتتجاوب الكنيسة في الصوم مع أساسيات منهجها الليتورجي فتقام القداسات اليومية، ويبحث الكهنة عن الأسر المتخاصمة ليصالحهم، وعن زوجة غاضبة يسعون ورائها ليردها إلى رجلها وأطفالها، وتقام النهضات الروحية لإنهاض الغافلين وإيقاظ وعيهم بالتوبة من اجل يقظة روحية تختزن لبقية أيام السنة، فنعيش إيماننا ودعوتنا بجدية، ونكتشف مجددًا نذر معموديتنا ومسحتنا في معناها وبركتها.
وتدفعنا الكنيسة في الصوم لإعادة النظر في الحياة والسلوك الشخصي والعائلي مع قطع الأهواء والشهوات ورفض المشورة الشريرة، وضبط النفس والتعفف، والنمو في أعمال الفضيلة والخدمات الاجتماعية والرحمة بالمساكين والفقراء، والسهر على كلمة الله، والمواظبة على صلوات المخدع بندم وتضرع وقرع صدر، وإقامة المذبح العائلي الأسرى، وترك الخطايا المحببة إلى غير رجعة، بل في دفء الروح نتقدم لعيش القداسة بمسرة لذيذة.. فلا تتأخر في اخذ نصيبك من هذا الربيع الروحي لتتحول حياتك من حياة حسب الجسد إلى حياة الروح، حتى إذا ما اقبل عيد القيامة يكون قيامة لحياتك.
لا تيأس من الجهاد لأنه هكذا صارت الخاطئة التي مسحت رجل المخلص بشعر رأسها مكرمة أفضل من العذارى، إنها دموع التوبة التي سكبتها حنة النبية عندما كانت شفتاها تتحركان وصوتها لم يسمع، لقد أصبحت راحاب التي كانت زانية قديسة، واللص اليمين القاتل صار أول مواطني الفردوس، هذه هي أعمال الله وإرادته العجيبة! وهكذا صار العشار متى إنجيليًا والمجدف بولس رسولًا وأسيرًا للحب الإلهي.. والساقط موسى صار القوى الأنبا موسى القس الأسود، فلا تيأس من خلاصك، فالذي كان بالنسبة لكثير من الأرثوذكسيين طقس وترتيب قديم بلا معنى لحياتهم، نعيشه الآن على رجاء أنه عندما نكتشف معنى الصوم وروحه، نكتشف أيضًا الكتاب المقدس والعبادة والتقليد والتاريخ الكنسي كغذاء روحي حقيقي وكشركة مع الله.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:25 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم في حياتنا

LENT IN OUR LIFE
* اخذين الأمر بجدية.. TAKING IT SERIOUSLY
طالما نتحدث عن تعليم الكنيسة بخصوص الصوم الأربعيني، الذي تسلمناه أساسًا عن طريق الليتورجية، وجب علينا ان نطرح تلك الأسئلة: كيف نطبق هذا التعليم في حياتنا؟ وكيف يصير الصوم حقيقة في وجودنا وواقعنا [صومًا حقيقيًا]؟ وخصوصًا أن هذه الحياة الليتورجية عندما صيغت، وعندما تأسست هذه الخدمات والألحان والترتيبات الطقسية والقوانين الكنسية كانت في عالك يختلف عن الذي نعيش فيه الآن، فقد اختلف نمط الحياة [الحضر - الازدحام - تصارع المعتقدات والطوائف] ومن ثم يصبح سؤالنا واقعيًا بدرجة أكثر، كيف نستطيع في حياتنا اليومي أن نحافظ على تراث الصوم الكبير المقدس، وميراث روحانية الكنيسة؟
فمن الواضح ان كثير من المؤمنين صارت مشاركتهم في عبادة الصوم شيء مهملا، فلم تعد روحًا فاعلة عاملة فينا، ولم نعد نشعر يقوتها وثقلها في حياتنا، وصار فهمنا للصوم سلبيًا حيث اعتبرناه موسم تحدث فيه تغييرات معينة مثل الانقطاع عن اكل اللحم وتحريم المتع العالمية واستبدال طعام بطعام، ويصير السؤال "ما الذي نقدمه في الصوم؟" أم أننا بلغة إيجابية نرى الصوم عبارة عن الوقت الذي نمارس فيه توبة حقيقية وشركة فعالة حية؟ [لا مجرد أحد الزعف، أحد السامرية، جمعة ختام الصوم] فيكون الصوم مجرد ترتيبات جوفاء لأثمر فيها، لقد ركزت الكنيسة في قطع عشية الصوم ان نترنم بالفضائل التي ينبغي أن نسعى لبلوغها فنقول [الصوم والصلاة يخزيان الشيطان والزهد يهزم طغيانه والمحبة أساس البنيان والتواضع يقوى أركانه وان نطلب ملكوت الله، ونعطى صدقة والى آخره].

ويغيب عنَّا أحيانًا أساس الصوم كَمُمَارسة جموعية تستهدف التوبة الجماعية والشركة الجماعية في التعليم والأسرار والأغابي.. في ممارسات يغلب عليها الطابع الروحي لا الطابع الشكلي, حتى لا يفقد الصوم تأثيره على حياتنا, كَطريق للتوبة والتجديد, وهو ما قصدته الكنيسة في تعليمها الليتورجي الروحي, ولابد أنْ يتماشى المفهوم العام عن الصوم عند الشعب مع روح العبادة الصيامية بدون شكليات لِنَعيش الروحيات, أنَّه بالرغم من اعتيادنا الصوم إلاَّ أنَّنا أَضعنا الكثير من تأثيره في حياتنا وجديتها, فَهل آن الأوان أنْ نُعيد اكتشاف الصوم وأنْ نجعله من جديد قوة روحية في واقع وجودنا وكياننا كل يوم؟ بالحب والتوبة والمصالحة والنسك والحشمة والتعفف والصلاح وأعمال الرحمة والخشوع والسجود وقرع الصدر ورفض المشورة الشريرة والجهاد القانوني والتداريب الروحية.
لقد جعلت الكنيسة في تقليدها الليتورجي القبطي في الصوم تعاليم توصينا بها لِنَعيشها..
واظبوا على الكنائس واتلوا القراءة ودقوا صدوركم في الصلوات.
التوبة مرهم لكل جراح والمحبة تستر كل العيوب.
حبوا الأعداء وسامحوا إخوتكم وباركوا مَنْ يشتمكم ولا تقاوموا مَنْ يطردكم.
اطلبوا ملكوت الله وبره والباقي كله يزاد لكم ويتم.
أعطوا صدقة للمعوزين ولا تسلكوا في الأمور بوجهيْن..
هذه هي التعاليم الليتورجية التي أرادت الكنيسة أنْ توجهها لنا في فترة الصوم الأربعيني لِنَتحلَّى ونتجمَّل بها, وهي تعتمد أساسًا على جديتنا في تناول فعل الصوم, فمهما كانت الصعاب التي نحياها اليوم في ظلّ مجتمعات أكثر تعقيدًا وتشابكًا, فَمَا من مشكلة يمكن أنْ تُشكِّل عقبة حقيقية تجعل الصوم مستحيلًا [الأعذار], إنَّ أصل الفقدان المستمر لِمَغزى الصوم وتأثيره الفعلي في حياتنا يكمُن في أمور أكثر عمقًا من هذا, إنَّه يكمُن في وعينا أو لا وعينا, وفي حصر الإيمان واختزاله،فَيُصبح مجرد ممارسات ورموز وأمور شكلية سطحية تُفقِدَه جديته وفاعليته وبركاته التي تؤثر في حياتنا, تلك التي تجعل للإيمان الحي الاختباري متطلبات وضروريات ينبغي أنْ نلتزم بها ونجاهد من أجلها.. (قانون الصوم).
وهذا الانحصار الشكلي في الصوم هو الاختزال الذي أحدثناه عمومًا في حياتنا الأرثوذكسية, فَكَان بمثابة عدوى وعطب أصابنا من الطوائف الأخرى التي راحت تُبدِّل وتُغيِّر وتختصر في العبادات والطقوس بِحِجة جعلها أكثر مواءمة لظروف الإنسان العصري.. فصار هذا الانحصار والشكلية انحرافًا للتسليم [التقليد المسيحي CHRISTIAN TRADITION] بل وخيانة للإيمان المسيحي نفسه وتصغير له. وهو ما تحرص كنيستنا على التمسك به في صلواتها وأصوامها وتدابيرها الروحية التي ألَّفها الروح القدس واختبرها القديسون.
إنَّ كل مَنْ تذوق الصلوات وتنعم ببركاتها في أعماقه, وعاش اللحن القبطي المؤثر يستطيع أنْ يُعبِّر ويختبر مشاعر التوبة الصادقة والندم الحقيقي والاستنارة السرية الحادثة في الداخل فيكون صومه طاهرًا بخشوع, صومًا ليس معناه الجوع لكنَّه توبة ورجوع, صومًا نستعيد فيه جدة الحياة ومعناها الإلهي وعمقها المقدس.
وفى الواقع إنَّه لَفَخر للأرثوذكسية إذ هي تحفظ تقليدها, حارسة له ولا تساوم مع قياسات الدنيا, إنَّ عظمة ومجد الأرثوذكسية في أنَّها لا تُساق وراء محاولات التعديل حتى تجعل المسيحية سهلة, فالأرثوذكسية هي استقامة الحياة والعقيدة أيضًا, والأرثوبراكسية هي المسيحية العملية, إنَّ مجد الأرثوذكسية لا مجدنا نحن الأرثوذكس يكمُن في ثباتها على التسليم الآبائي, فَلا ينبغي أنْ نُعيد صياغة ليتورجياتنا, حاشا بل نفتخر ونعتز بصلوات آبائنا الذين تلذذوا بترديدها الساعات الطوال دون ملل ولا كلل متذكرين إخوتنا الرهبان في القرون السالفة والحالية, حينئذٍ نكتشف عذوبة الاختبار المسيحي الكنسي ونتعلَّم كيف نعيش مستترين في المسيح ربنا.
أمَّا بِخُصوص الصوم لابد أنْ نطرح على أنفسنا الأسئلة الأساسية, لماذا نصوم؟ وما هو الصوم؟ حتى لا نكتفي بالرموز.
قد يقنع البعض برمزية الصوم فَيَزعم أنَّ المسيح رب المجد صام عنا, إذن فقدْ قام هو بالمهمة عنَّا, ويزعم البعض أنَّنا لسنا المسيح أو لسنا مسحاء وأعضاء جسده السري, من لحمه ومن عظامه, وإنْ كان هو صام عنَّا ولأجلنا, فكم نكون نحن في أمسّ الاحتياج أنْ نصوم لِنَتشبه به.. وقد انطبعت روح الآباء على صلوات الكنيسة فلا تزال البيعة القبطية تدعونا أثناء الصوم أنْ نُثبت أنظارنا على المسيح ربنا فنقول:
[تعالوا وانظروا مخلصنا محب البشر الصالح صنع فعل الصوم مع عظيم تواضعه فوق الجبال العالية بانفراد جسدي, علمنا المسير لكي نسير مثله, وأبطل قوة العدو وحيله وحججه, والمجرب افتضح أمره] {ذوكصولوجية الصوم الكبير}
فالصوم جهاد واختبار وتذوق نترجَّى فيه ونتوب (ميطانيا) ونتطهر بالاعتراف ونُخبئ فيه الكلمة (كيريجما) ونخدم فيه (دياكونيًا) ونشهد فيه للمسيح (مارتيريا) حتى نتدرب على الأبدية (الباروسيا) وبعض المجلات الكَنَسية تُظهر طرق إعداد أطعمة شهية, وبدلًا من أنْ تهتم بغذاء الروح راحت تنشغل بشهوة البطن وبألوان وروائح.. وهي كلها أشياء لا تربطنا بالله في حياة جديدة فيه, إنَّما ما يربطنا به هو أنْ نقتفى آثار وعادات وحياة آبائنا القديسين, الذين تميزت ممارستهم بجدية العبادة, فلم تكن عبادتهم مجرد رموز شكلية للصوم بل حياة عملية وفعلية عاشوها ومارسوها, ويكمن الخطر في تصورنا أنْ نعتبر الصوم مجرد نظام من الرموز والعادات, يجعلنا بذلك نبتعد عن عمق معنى الصوم باعتباره جهاد من أجل حياة جديدة, جهاد يفوق مجرد إعداد وجبات وأكلات الصوم, وبدلًا من استنفاذ الهِمَم في الأكل نتحول إلى المشاركة في واقع الفصح الروحي SPIRITUAL REALITY OF EASTER.
وهذا يعنى أنَّه إنْ لم تكن الطقوس المتَّبعة خلال التقليد الكنسي وثيقة الصلة بمحتوى المضمون الروحي الشامل الذي أفرزها, فلن نستطيع أنْ نُدرك أو نَعِى أو أنْ نأخذ تلك الطقوس التعبدية مأخذ الجدية, وتبقى الكنيسة وقد فقدت اتصالها الحي, ومن ثَمَّ يضعف سلطانها وقوتها التي تؤثر في حياة المؤمنين.. وبدلًا من أنْ نُحوِّل تراثنا الغنى إلى رموز, علينا أنْ نُترجمه إلى واقعًا حيًا معاشًا في صميم كياننا, وعلى كل واحد منَّا أنْ يشترك في قداسات الصوم وفي رفع بخور باكر, إنَّنا مَدعوُّون لشركة أعمق, أنْ نعيش غِنَى العبادة ونفهمها كحدث روحي حقيقي يرفعنا إلى ما فوق, ولا نحرم أنفسنا من جمال الخدمة الصيامية وعمقها وعونها الروحي الضروري.
ولِكَي نأخذ الصوم مأخذ الجدية لابد أنْ نعتبره تحديًا يتطلب استجابة, وقرارًا, وخطة, وجهادًا مستمرًا, ولهذا السبب كما نعلم أعدت الكنيسة وأسَّست أسبوع استعدادًا للصوم الكبير المقدس وأيضًا سبقته بِصَوم يونان.. إنَّه وقت الاستجابة ووقت صنع القرار, ووقت الخطة المدروسة.. وأفضل سبيل لخطة الصوم وأسهلها هو أنْ نتبع خُطى الكنيسة التي لا خلاص لأحد خارجها.. نعيش وِفق خطة البيعة بِحَسب أناجيل آحاد الصوم [الاستعداد التجربة الابن الضال السامرية المخلع المولود أعمى "التناصير" الشعانين].
فهذه الدروس الإنجيلية العملية ليست مجرد حكايات نستمع إليها جالسين مُتثائبين في الكنيسة, ولكنَّها وُضعت لِنَعيشها ونخبئها في قلوبنا ونختبرها على هذا المنوال.. هذه هي حياتي أنا, هذه هي التزاماتي أنا واهتماماتي أنا, فَمَا الابن الضال إلاَّ أنا ومَا السامرية إلاَّ أنا ومَا المولود أعمى إلاَّ أنا.. ، علينا أنْ ننظر إلى الصوم بعمق كتجديد روحي يتطلب جهادًا وانسكابًا وتوبة ودموعًا وسهرًا ومحاسبة للنفس, وقرارًا تصحيحيًا وجهدًا متواصلًا, ولهذا السبب وضعت الكنيسة الترتيب الطقسي لآحاد الصوم الأربعيني, وأفضل الطرق وأسهلها هو أنْ نتبع توجيه الكنيسة الليتورجي.
فليس المقصود من هذه القراءات الإنجيلية زيادة كم المعرفة إنَّما الغاية الأساسية منها كما قصدت الكنيسة أنْ نتنقَّى من كل شائبة, فَكَم تمتلئ أفكارنا وعقولنا بكل صنوف الاهتمامات والتوترات والانطباعات, وهذه القراءات الليتورجية ليست مجرد "وصفات للراحة" وكأنَّنا ننظر إلى الصوم من الخارج, بل الحتمي هنا أنَّنا في الفترة التي تسبق الفصح نرى شيئًا يأتينا من الله ذاته كفرصة تغيير وتجديد وتعميق [CHANGE - RENEWAL - DEEPENING] فرصة نعتبر فيها كلامنا كقوة هائلة لها قدسية لابد أنْ تكون للبنيان لأنَّنا سنعطى عنها حساب, فرصة للعطش والجوع للحياة الأفضل لا بروح العالم وكأنَّنا نمارس عادات كَنَسية دون اختبار عمقها والتمتع بغناها مجاهدين حتى الدم ضد الخطية.
ولكى يتم هذا الاختبار فينا لابد من المشاركة في الخدمات التعبدية في الصوم ولابد من أنْ يكون هناك قرار وجهاد ومتابعة للعبادة الليتورجية والمشاركة فيها PARTICIPATION IN LENTEN SERVICES في كل صلوات باكر عندما نصلى الطلبات [ارحمنا يا الله ضابط الكل ارحمنا يا الله مخلصنا ارحمنا يا الله ثم ارحمنا ثم نصلى من أجل الأحياء والمرضى والمسافرين والأهوية والمياه وخلاص الناس والمواضع وسلامة العالم والملوك والمسبيين والراقدين ومن أجل الصعائد والقرابين والمتضايقين والموعوظين].
ونتضرع في مرد الابركسيس إلى الله الذي يرفع خطايا الشعب من قبل المحرقات ورائحة البخور على الجبل وهو في نفس الوقت الذبيحة والكاهن وهو العطية والمعطى والموهبة والواهب في آنٍ واحد, بل رئيس الكهنة الأعظم إلى الأبد على طقس ملكي صادق الذي نناديه في لحن [ميغالو].. وكأنَّنا في العبادة نتطلع إلى المسيح قائد موكب نصرتنا وهو على جبل التجربة, يُقدم ذبيحة الصوم لأجلنا وعنَّا, وفي ذات الوقت هو الكاهن الأعظم الذي نقدم إليه وبه كل ذبيحة, وتقودنا العبادة إلى خطوة لاهوتية عميقة فَتُقدم لنا المسيح ككاهن يرفع ذبيحة النسك إلى الأقداس السماوية فهو الذبيحة التي ذُبحت عن خطايا العالم كله وهو الذي يُقدم الذبيحة والكاهن في آنٍ واحد وهذا ما تقصده الكنيسة عندما تقول لحن [ميغالو]..

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:27 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
لكن بالصوم والصلاة

BUT BY PRAYER AND FASTING
ليس هناك صوم أربعيني بدون انقطاع وصوم, فَأهداف الصوم الروحية الحقيقية ليست كما يتصور البعض أنَّه امتناع رمزي عن شيء ما وتغيير عادات غذائية معينة.. لكن لابد أنْ نلتفت إلى جهاد الصوم, ولكي نفهم جهاد الصوم ينبغي أنْ نفهم أولًا ما قدمته لنا الكنيسة من تعاليم حول الصوم ثم نسأل أنفسنا كيف نطبق هذا التعليم في حياتنا..
فالامتناع عن الأطعمة بالانقطاع ضروري وجوهري ولكن ليس هو كل الصوم وإلاَّ كان الأكل حرامًا, ولكن المغزى الحقيقي للصوم, أنَّه قبل كل شيء قد استعلن لنا تلك العلاقة الوثيقة بين حدثيْن, نجدهما في الكتاب المقدس أحدهما في بداية العهد القديم والآخر في بداية العهد الجديد, وكثير من الناس يصومون, ولكن المهم جدًا هنا هو أنْ ندرك ونعيش المحتوى المسيحي الفريد للصوم ومضمونه الروحي النسكي..

الحدث الأول كسر الصوم على يد آدم في الفردوس عندما أكل من الثمرة المحرمة, والحدث الثاني مع المسيح آدم الثاني الذي بدأ بالصوم, فآدم الأول جُرِّب وتعثَّر ووقع في التجربة وانهزم, لكن المسيح رب المجد آدم الثاني جُرِّب فانتصر وغلب لحسابنا, وكانت نتيجة فشل آدم الطرد من الفردوس والموت.. أمَّا ثمرة انتصار وغلبة المسيح فكانت إبادة الموت والعودة إلى الفردوس.. وهكذا يُستعلن لنا الصوم كضرورة حتمية وقصوى في أهميتها كأمر حاسم جدًا في جهادنا, وليس مجرد فرض أو عادة.. بل هو وثيق الصلة بصميم سر الحياة والموت نفسه [MYSTERY OF LIFE AND DEATH] وبصميم الهلاك والخلاص والدينونة.. وهو ما تقوله وتؤكده لنا ذكصولوجية الصوم [لأنَّك لا تشاء موت الخاطئ مثل ما يرجع ويحيا.. أسألك يا مخلصي فتدركني مراحمك لتخلصني من الشدائد المضادة لنفسي.. لا تحرق عدم معرفتي مثل سدوم ولا تهلكني مع عمورة لكن يا ربي اصنع معي مثل أهل نينوى الذين صاموا فغفرت لهم خطاياهم]..
وفى التعليم الأرثوذكسي ليست الخطية هي التعدى وكسر قاعدة تستوجب العقاب فحسب بل هي انقطاع عن الحياة التي أنعم بها علينا الله, هي عطب قد أصاب الحياة التي وهبها الله لنا ولهذا السبب فإنَّ قصة الخطية الأصلية الأولى قدمها لنا الكتاب المقدس كفعل الأكل لأنَّ الأكل وسيلة الحياة, إنَّه الذي يحفظنا أحياء ويبقينا على قيد الحياة لكن هنا يكمن السؤال الأساسي, ما معنى أنْ نكون أحياء؟ وماذا تعنى لفظة حياة بالنسبة لنا؟ اليوم هذا المصطلح له معنى بيولوجى بالدرجة الأولى فالحياة على وجه الدقة تعتمد أساسًا على الطعام, وتعتمد عمومًا على الطعام الطبيعي وبأكثر شمولًا على العالم المادي, وبحسب الكتاب المقدس والتسليم المسيحي [التقليد] فإنَّ تلك الحياة بالخبز وحده تعنى الموت لأنَّها حياة مائتة زائلة, لأنَّ الموت مبدأ يعمل فيها دائمًا, والله كما نعلم لم يخلق موتًا لأنَّه مانح ومعطى الحياة, فكيف تُصبح الحياة إذن زائلة مائتة؟ ولماذا الموت والموت وحده هو النهاية الحتمية والقانون المطلق لذاك الذي يوجد ولكل موجود! تجيب الكنيسة: لأنَّ الإنسان رفض الحياة كما قدمها ووهبها الله وكما أعطاه إياها ففضَّل حياة لا تعتمد على الله بل على "الخبز وحده", فالإنسان لم يعص الله فقط وعُوقِب, بل بسقوطه غيَّر صميم العلاقة بينه وبين العالم, لقد أعطاه الله العالم كطعام وكأنَّ العالم مقدمًا للإنسان من الله بمثابة "طعام" أيّ كوسيلة حياة ليكون القصد منها الشركة مع الله [COMMUNION WITH GOD] حيث الحياة هنا تبلغ غايتها بل عمق محتواها فيه [فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس]..
ومن ثَمِّ كان خلق الله للطعام وللعالم كوسائل للشركة معه فإذا ما قبلت من أجل الله منحت الحياة وأعطتها, لأنَّ الطعام في حد ذاته ليس فيه حياة, ولا يقدر أنْ يهب الحياة, الله فقط فيه الحياة وهو وحده عنده الحياة, يهبها لا في الطعام نفسه ولا في السعرات الحرارية لأنَّه هو مبدأ الحياة.. وبالجملة نكون عندما نأكل أو نحيا أو نعرف الله في شركة معه لأنَّ كلها شيء واحد, وهذا هو عمق مغزى تدبير الكنيسة في الصوم..
وكانت مأساة آدم أنَّه أكل من أجل نفسه هو, والأكثر من ذلك أنَّه أكل "معزل عن الله" منفصلًا عنه لكي يصبح مستقلًا عن الله [التأله الكاذب]،وإذ قد فعل ذلك فلأنَّه اعتقد أنَّ الطعام يملك الحياة في ذاته, وأنَّه إذا ما تناول هذا الطعام يستطيع أنْ يصبح مثل الله أي تصير له حياة في ذاته, ولكي نَصِف الأمر ببساطة فآدم "آمن بالطعام", لقد آمن بالطعام مع العلم أنَّ الغرض الوحيد للاعتقاد والإيمان هو الله وحده.
إنَّ الغاية الوحيدة لإيماننا إنَّما تكمن في الاتكال والاعتماد على الله والله وحده الذي فيه شبعنا لأنَّ فيه غنى وشبع وسرور وفي يمينه المجد كل الأيام, واليوم صار العالم والطعام ولقمة العيش هو إله الإنسان ومصدر حياته وأساسها, وصار الإنسان عبدًا لهما [أيّ العالم والطعام], ونقول أنَّنا نؤمن بعمل الله ولكن لابد أنْ نؤمن أنَّ الله حياتنا وطعامنا وملجأنا وناصرنا وشبعنا وغنانا وحياتنا الأبدية معًا.. وهذا ما تلفت عيون قلوبنا له البيعة في موسم الصوم الأربعيني عندما تضع لنا "إنجيل الاستعداد" اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره, وتأخذنا إلى الشبع الحقيقي لكلمة الله في "إنجيل أحد التجربة", وتُعرِّفنا أنَّ المسيح هو الينبوع الحي الذي كل مَنْ يشرب منه لا يعطش "إنجيل أحد السامرية", وأنَّ السيد هو سرّ الشفاء والخلق في أحد "المولود أعمى", وهو الذي يملك على حياتنا في "أحد الشعانين", وبالجملة هو سرّ غلبتنا وقيامتنا في أحد القيامة العظيم.
إنَّ كلمة آدم في العبرانية تعنى (الإنسان) إنَّه اسمي واسمنا المشترك جميعًا, فلا يزال الإنسان هو آدم ولا يزال آدم عبد الطعام.. وقد يزعم أنَّه يؤمن بالله لكن الحقيقة أنَّ الله ليس حياته ولا طعامه ولا محتوى وجوده الذي يشمله بالتمام.. وقد يزعم أنَّه ينال حياته من الله, لكنَّه لا يعيش في الله ومن أجل الله, فقد تأسست كل علوم الحياة واختباراتها وصار وعينا يسير وفق نفس المبدأ [بالخبز وحده].. ينبغي أنْ نعرف أنَّنا نأكل لنظل أحياء لكنَّنا لا نحيا لكي نأكل, وعدم حياتنا في الله هي خطية كل الخطايا وهذا هو حكم الموت الذي يكمن في حياتنا.. فهل من دخول إلى الأحضان الأبوية مع الابن الشاطر في الأحد الثاني للصوم؟ وهل من لقاء مع المسيح عند بئر السامرية؟ وهل من استنارة وبصيرة روحية مع المولود أعمى في أحد التناصير؟
المسيح هو آدم الثاني الجديد الذي أتى لِيُصلح ما فسد في الأرض في حياة آدم الأول, أتى ليستعيد الإنسان إلى الحياة الحقيقية لهذا بدأ بالصوم "فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً" (مت 2:4). وتضع الكنيسة أمامنا المسيح من خلال منهج عبادتها فنقول أنَّه [اعتمد وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة وكان مع الوحوش لمَّا صام في البرية لكي نصنع مثله في زمن وحدتنا]..
والجوع هو تلك الحالة التي نتيقن خلالها من اتكالنا على شيء آخر عندما نحتاج وبشكل ضروري وأساسي إلى الطعام فنعرف أنَّ لا حياة لنا في أنفسنا وأنَّنا لا نملك حياة في ذواتنا, وأنَّه ذلك الحد الذي بعده قد نموت جوعًا ولا نستطيع أنْ نتجاوزه وأسأل: عَلاَمَ تعتمد حياتي وتتوقف؟ وحيث أنَّ السؤال ليس سؤالًا أكاديميًا نظريًا بل نحسه بكامل أجسادنا هنا يأتي وقت التجربة وزمنها.
لقد أتى الشيطان إلى آدم في الفردوس, وأتى إلى المسيح في البرية, أتى إلى اثنيْن جائعيْن وقال كُلا لأنَّ جوعكما دليل على اعتمادكما بالكامل على الطعام وعلى أنَّ حياتكما هي في الأكل والطعام فَصَدَّق آدم الأول وأكل.. ولكن المسيح الكلمة المتجسد رفض التجربة وقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل [بالله الكلمة].. فالحياة تصير بكل كلمة تخرج من فم الله.
لقد رفض المسيح ربنا أنْ يقبل تلك الأكذوبة الكونية التي نشرها الشيطان الكذاب في العالم جاعلًا من تلك الأكذوبة حقيقة بديهية, وتؤكد ذاتها ولا تحتمل الجدل بعد أنْ صارت أساس عالمنا وعلومنا وبذلك استعاد المسيح تلك العلاقة بين الأكل والحياة والله التي كسرها آدم والتي لا نزال نكسرها نحن كل يوم.
فَمَا هو الصوم بالنسبة لنا نحن المسيحيين؟ إنَّه دخولنا ومشاركتنا في اختبار المسيح نفسه الذي صام عنَّا, تلك الخبرة التي بها يحررنا من الاعتماد الكامل على الطعام والمادة والعالم, وقد صار محررنا ونحن بعد نعيش في هذا العالم الساقط, عالم آدم القديم باعتبارنا جزءًا منه لا نزال نعتمد على الطعام وصار موتنا الذي يجب أنْ نجتازه بفضل موت المسيح عبورًا إلى الحياة أيّ فصحًا, والأكل الذي نأكله والحياة التي يسندها هذا الأكل, يمكن أنْ تكون حياة في الله ومن أجل الله..

وهنا نقول, هل اللقمة للإنسان أم هل الإنسان للقمة؟ الإنسان الذي يعيش لِيَأكل كأنَّه سجين يعبد ذاته, ونحن شبعنا في المسيح طعام الأبدية ومصل عدم الموت, لقد صار جزءًا من طعامنا بالفعل [خبز الخلود] جسد ودم المسيح نفسه, وهكذا لن يكون لأتعاب الصوم أيَّة منفعة بدون التمتع بالتناول الذي نُعبِّر عنه بهذا القانون الذي نُردِّده في ختام القداسات أثناء الصوم ونقول:
[هذا هو جسد ودم الإله الوحيد هذان اللذان تناولنا منهما فلنشكره ولنسبح مع الطغمات والأبرار صارخين قائلين: يا مَنْ صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة اقبل إليك الصوم واغفر لي آثامي بطلبات وشفاعات سيدتي القديسة مريم خلصنا.. ], وكل صوم يلزم أنْ ينتهي بالتناول إذ بذلك تكمل ذبيحتنا ويكمل بذلنا [صلوا من أجل التناول باستحقاق. اطلبوا عنَّا وعن كل المسيحيين] {القداس الإلهي}.
فالصوم وحده يُمكنه أنْ يُحقق هذا التحوُّل, ويمنحنا الدليل الوجودي على أنَّ الاعتماد على الأكل والمادة ليس هو الحياة, بل الكلمة والصلاة والنعمة والانسحاق والتقدم إلى السرائر.. , وإذ يقترن الصوم بالصلاة والنعمة, والعبادة والشركة, والتوبة والشهادة والخدمة يصبح صومًا روحيًا.
وإذا ما تعمقنا في فهم هذا كله يصير الصوم الوسيلة الوحيدة التي يستعيد بها الإنسان قامته الروحية الحقيقية, والأمر ليس نظريًا بل هو تحدى عملي لذلك الكذاب الكبير المحتال إبليس الذي استطاع بأنْ يقنعنا أنْ نعتمد على الخبز وحده, وراح يبنى المعرفة البشرية كلها والعلم والوجود على تلك الأكذوبة المضيعة والمضللة, فالصوم هو هدم لتلك الأكذوبة وهو الدليل أيضًا على أنَّه أكذوبة.. ومن المفيد أنْ ندرك أنَّ المسيح خلصنا لمَّا كان صائمًا وواجه الشيطان [إنجيل الأحد الثاني من الصوم "أحد التجربة"], وأنَّه قال فيما بعد أنَّ الشيطان لا يُهزم إلاَّ بالصلاة والصوم.. لذلك تلتزم كنيستنا في عبادتها الليتورجية أثناء فترة الصوم الأربعيني, بصلاة أطول, وإماتة أشد, وتضحية لأبعد مدى وأكثر تجسيدًا.. وهذه هي أعجوبة الصوم التي تجعلنا أكثر اتحادًا وقربًا من الله..
فالصوم هو الجهاد الحقيقي والعراك ضد إبليس لأنَّه تحدى ذلك القانون الواحد الشامل الذي يجعله [رئيس هذا العالم]. وغلبتنا بالصوم والجوع والعطش هي نبع الطاقة الروحية لكي لا تبقى هذه الأكذوبة التي نعيشها منذ آدم إلى الآن!!
أين نحن الآن من مفهوم الصوم الأصيل؟ كم نحن بعيدون الآن عن مفهوم الصوم إذ نعتبره مجرد تغيير للأكل ومجرد شكليات, ما هو مسموح وما هو ممنوع, يا لها من ضحالة ومجرد تغيير طعام!! إنَّ الصوم لا يعنى إلاَّ شيء واحد, أنْ نجوع لنبلغ ذلك الحد (حالة الإنسانية التي تعتمد تمامًا على الطعام.. ) لِنَكتشف في جوعنا أنَّ ذلك الاعتماد ليس هو الحقيقة كلها عن الإنسان وأنَّ الجوع نفسه إنَّما هو أولًا وقبل كل شيء حالة روحية نورانية نذوق فيها الطبيعة الجديدة التي تجلَّت على جبل طابور.. وأنَّ الصوم في جملته جوع من أجل الله ولله, لذلك نجد أُمنا البيعة الأرثوذكسية قد تزينت بأحلى ما عندها من طقوس وألحان وقراءات وممارسات روحية وكلها أطعمة روحية تُعِدَّها لأولادها العابدين الذين حرموا أنفسهم بإرادتهم من طعام الأرض البائد وأغلقوا حواسهم عن كل لذة ترابية وعكفوا ملازمين البيعة بنسك وتقوى لأنَّ العبادة الليتورجية تُحوِّل النسك والصوم إلى عبادة قلب ولذة روح وممارسة وخبرة عملية ومجال سلوكي بحياة الجميع.. فالامتناع عن الطعام غير كافٍ, إذ يجب أنْ يرافقه نظيره الإيجابي, والذي يتحدد وفقًا لبرنامج العبادة الكَنَسية, التي تكون أكثر وضوحًا فيها.
وفى الكنيسة الأولى كان الصوم دائمًا يعنى الانقطاع الكامل, يعنى حالة الجوع يعنى دفع الجسد إلى أقصى ما يمكن من قمع وهنا نكتشف أنَّ الصوم كجهاد طبيعي لا معنى له بدون مغزاه الروحي, فالصوم كجهد جسدي لا معنى له البتة بدون الجهاد الروحي, وبدون تعزية أنفسنا بالحق الإلهي, وبدون اكتشاف اعتمادنا على عمل الله يصبح صومنا انتحارًا.
ولأنَّ المسيح نفسه قد جُرِّب أثناء الصوم لذا فما بقيت لنا فرصة واحدة بعد تجربته لِنَتجنب تلك التجربة فلا مفر منها, والصوم البدني وإنْ بدا ضروريًا فإنَّه يُصبح بلا معنى بل وأيضًا يصبح خطيرًا إذا انفصل عن الجهاد الروحي, وإذا انفصل عن الصلاة والتأمل في الإلهيات, وهو ما نصرخ من أجله في العبادة قائلين [تعالوا نصرخ نحوه ونبكى أمامه كما علَّمنا.. أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك في كل جيل وجيل.. اطرد الشياطين عنَّا لنكمل بسلام لأنَّه ليس لنا آخر سواك].
والصوم فن بل فن الفنون, أبدع فيه القديسون أيَّما إبداع, ويكون الأمر خطيرًا ولا طائل من وراءه إذا مارسنا هذا الفن بدون عناية وحذر, أعنى بدون إرشاد أب الاعتراف والمرشدين الروحيين, والعبادة كلها أثناء الصوم الأربعيني هي تذكرة دائمة بالصعاب والجهاد والتجارب التي تنتظرنا, ولهذا السبب عينه نحتاج لاستعداد روحي للجهاد في الصوم, وهذا الاستعداد يشمل التضرع لله لِيُساعدنا وأنْ يجعل صومنا متمركزًا حوله.. [ربنا يسوع المسيح صام عنَّا حتى خلصنا *أبانا الذي في السموات* أنا أعرف أنَّك صالح ورؤوف اذكرني برحمتك إلى الأبد * اجعلنا مستحقين نعمتك أيها المخلص في هذه الأيام ونحن بلا خطية مع صوم نقى].
لذلك ينبغي علينا أنْ نصوم من أجل خاطر الله [FOR GOD'S SAKE], لِنُعيد اكتشاف جسدنا باعتباره هيكل حلوله الإلهي.. ونُوفِّر وقارًا للجسد والطعام, ولكل منظومة حياتنا, لأنَّنا آنية للسيد, وهياكل مقدسة له.
ولِنُمارس الصوم على صعيديْن: أولًا كصوم كلى, وثانيًا كصوم نسكي, فالصوم النسكي معناه اختزال الطعام حتى الكفاف وأقل من الكفاف حتى تُعاش حالة الجوع الثابت التي تُذكرنا بالله, ونبقى في جهاد ثابت حافظين فكرنا فيه.. وهذا الصوم يجعلنا أكثر خفة ويقظة ونشاطًا وبتولية وتركيزًا وتكريسًا ورقة وفرحًا ونقاوة, وعندئذٍ نتناول الطعام كَهِبة حقيقية من الله لِيَكون منظومة لحياتنا وسماتها كلها, فتتحول الطبيعة بالصلاة والصوم والتذكرة واليقظة والتركيز إلى قوة إيجابية [فالصوم والصلاة هما اللذان عَمِلَ بهما موسى حتى أخذ الناموس والوصايا وهما اللذان رفعا إيليا إلى السماء, وهما اللذان خلَّصا دانيال من الجب وهما اللذان عَمِلَ بهما الأنبياء والصديقون والشهداء]..
والصوم الكلى هو أنْ يتزامن صومنا مع العبادة والمطانيات والهجعات والسجود وقرع الصدر وأعمال التوبة والرحمة والمحبة والخدمات وفترات الانقطاع, فلا صوم من غير انقطاع, ولا صوم من غير ذبائح, ولا صوم من غير اقتداء بالمسيح الذي صام عنَّا.. [اتْبَعْنِي] {مت9:9}

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:28 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
وأخيرًا يصير لنا الصوم نمط الحياة

LENT: STYLE OF LIFE
وأخيرًا يصبح لنا الصوم وممارسة العبادات والصلوات الفردية والجماعية كنمط للحياة كلها, فلا يكون انشطارًا في الوجود أو ثنائية في الحياة, ولكن نمط حياة تُعاش في ديمومة مستمرة, نقتبلها أثناء الصوم كنسق ووتيرة للحياة بجملتها.. لأنَّ الأرثوذكسية هي العيش والاختبار والممارسة والتذوق والتلامس المستمر من غير ازدواج ولا انفصام ولا ثنائية ولا سطحية.. فَلَنا حياة واحدة, لا حياتان ولنا رأى واحد لا رأيان.
إنَّ الصوم نمط حياة تُشدِّد فيه الكنيسة على التوبة كمعمودية ثانية [أعطني يا رب توبة لكي أتوب قبل أنْ يسد الموت فمي في أبواب الجحيم].
والذين يدركون ويعرفون ويفهمون جمال العبادات وعمقها يتمتعون بها, فالجهل بالليتورجيا هو السبب المباشر في ضعف ممارسة الصوم وإدراك غايته فيصبح مجرد مجموعة من فرائض وعادات غذائية, ولا طريق إلى إدراك روحانية الصوم كتدريب يصبح نمط حياة, إلاَّ بالسماع الواعي والاشتراك في العبادات الصيامية (نصلى بالروح ونصلى بالذهن أيضًا), فتصبح عبادتنا خشوعية سهمية تعبدية نسكية بعيدة عن الشكلية والآلية (حينئذٍ لا يتعب فَمُنا, ولا يسكت لساننا, إذ ننطق بكرامة الصوم والصلاة).
إنَّنا ندرك معاني الصوم بالليتورجيا خلال ذكصولوجيات وإبصاليات الصوم, تلك العبادة التي تنكشف من خلالها رؤية الحياة والموت والأبدية, ونترنم فيها بترنيمات الفرح السماوي اللذيذ والأصيل الذي يفصح عن روحانية وأصالة الكنيسة, فبينما نحن صائمون نحس خلال العبادة أنَّنا نرنو إلى شاطئ الوطن السماوي وأنَّ سفينة حياتنا تتهادى حيث تعيَّن نصيبنا كوطن وكمواطنين [أهدنا إلى ملكوتك], نقترب من أرض الأحياء وأهل بيت الله, ممَّا حدا بالآباء أنْ يضعوا ضمن صلواتنا: [نعم يا سيدنا اقبلنا إليك وأعطنا كمالًا مسيحيًا يرضيك ونصيبًا مع جميع قديسيك].

ولا شيء يجعلنا نعيش الصوم بعيدًا عن مفهوم الفريسي التافه الذي يجعل الصوم سلبيًا, إلاَّ التأمل في صلواتنا الكنسية التي استطاعت أنْ تطبع في وجداننا حلاوة هذا الزمن الروحي, حتى أنَّ أعضاء الكنيسة كلها عبر ضفاف النيل, يعيشون روحانية الصوم متشبهين بالقديسين وسكان البراري!! أليس الصوم والتربية النسكية هي التي صنعت شهداء الكنيسة ومُعترفيها, [شهداء المسيح تغلبوا على العذاب بواسطة الصوم واحتمال صبره].
[العذارى الحكيمات المتسربلات بالطهارة كانت مصابيحهن مملوءة زيتًا بالصوم والصلاة].
وأيّ مؤمن ذاق طعم الحياة الليتورجية الحقيقية يدرك يومًا بعد يوم ما معنى أنْ نترجى, وكيف أنَّ المسيحية هي قبل كل شيء رجاء وفرح وتهيئة للملكوت, لذلك تؤازرنا في الصوم قوة الروح القدس لِنُعيد النظر في حياتنا وسلوكنا الشخصي فنقطع الأهواء والشهوات بسكين الروح, ونضبط أنفسنا بتعفف, نامين في الفضيلة والرحمة ساهرين على كلمة الله مواظبين على الصلاة القلبية بندامة قرع صدر.
[تعالوا لِنَصوم صومًا كاملًا لأنَّ بالصلاة والصوم يغفر لنا الرب].
والناظر بعمق إلى منهج كنيستنا الليتورجي, يعرف أنَّ كل مقومات الصوم, ليست مجرد "وصفات" ولكنها اقتراب وذبيحة نقدم فيها ذبيحة حبنا للمسيح العريس السماوي الذي صام عنَّا, حينئذٍ لا ننظر للصوم من بعيد, ولكن كأمر آتٍ إلينا من الله نفسه ليس فيه مساومة, رتَّبته أُمنا الكنيسة كفرصة للتغيير والتجديد والتوبة والتعمق, وهي فرصة نركز فيها أبصارنا نحو ربنا يسوع المسيح الذي صام من أجلنا لكي ما نتغذى به [تعالوا انظروا مخلصنا محب البشر الصالح, صنع فعل الصوم بتواضعه العظيم فوق الجبال العالية بانفراد جسدي, وعلمنا المسلك الذي نسلك مثله, أبطل قوة العدو وحيله وحججه, وافتضح المجرب أمامه].
وتنتهز العبادة خلال فترة الصوم الفرصة لِتُذكرنا وتُحضرنا إلى اكتشاف الحياة المسيحية كجهاد وتوبة مستمرة لا تنتهي, وكذلك تحرص على الجهاد وضبط النفس والمواظبة على الصلوات [قانون الأجبية] وحضور القداسات, وكل هذا يجعلها تفصح عن قانونية الجهاد الروحي الذي ينبغي أنْ يلفّ أعضاء الكنيسة, وهي أيضًا تُشير إلى قوة الصوم وبركاته كسلاح قوى له فاعليته, [المتمسكون بالصوم والصلاة دائمًا بأيديهم سيوف وأسلحة, ربنا يسوع ملك السلام يغبط الصوم وكل من مارسه, جنس الأشرار يهربون ويهلكون بواسطة الصلاة والطلبات مع الصوم, شهداء المسيح تغلبوا على العذاب بواسطة الصوم واحتمال صبره, العذارى الحكيمات المتسربلات بالطهارة كانت مصابيحهن مملوءة زيتًا بالصلاة والصوم].
إنَّ الآباء المسترشدين بالروح القدس الذين وضعوا البنية العامة للعبادة الليتورجية في الصوم أرادوا أنْ يجعلوا من الصوم نموذج ونمط الحياة بجملتها, حتى أنَّ المنهج الليتورجي القبطي رسم للعابدين طريق نموهم الروحي, مؤكدًا على محبة المسيح عريس الكنيسة لكل الخاطئين الذين يشتاق إلى رجوعهم إليه [لأني أعلم بالحقيقة أنِّى خاطئ وأعمالي الرديئة كلها ظاهرة أمامك, أقول بصوت العشار صارخًا قائلًا اللهم اغفر لي أنا الخاطئ].
لأنَّنا بالصوم ننال غفران الخطايا والتطهير [إنَّنا نحن شعبك وغنم قطيعك, تجاوز عن آثامنا كصالح ومحب البشر] [أيها المتحنن على الخطاة من أجل الصوم اغفر لنا خطايانا] [برودة وراحة ونياحًا من أجل الصوم تكون في الدينونة].
والصوامون سيكافأون عن ذبيحة صومهم مثلما نال الغلبة داود بن يسى ومثلما تحنن الرب على حواء وآدم بعد أنْ خدعتهما الحية, وأيضًا مثلما استنار عقل أخنوخ ورُفِعَ إلى السماء, وقبلت السماء صلاة إيليا وذبيحة إبراهيم من أجل الصوم, ومثلما خلص اسحق بتهليل من أجل الصوم, ومثلما نظر يعقوب السلم من أجل الصوم, ومثلما خضعت الأسود لدانيال النبي من أجل الصوم, وطالت أيام صموئيل ماسح الملوك وختامًا نقول أنَّ إله الآلهة يسوع الديان من أجل الصوم ثبَّت المجاهدين.
والعبادة الكنسية تشير إلى قانونية الصوم كممارسة روحية وتدريب إلهي إنجيلي رسولي, آبائي, ومن ثَمَّ يلزم ممارسته, فالذي يعتبره البعض رموز وممارسات وقراءات وتلاوات, هو في الحقيقة عمل وسائط النعمة وأساس الجهاد الروحي.
[بصوتي صرخت إليك يا إلهي فمن أجل الصوم أعطني خلاصًا, أَعِنْ ضعفي أيها المخلص ومن أجل الصوم اغسل أقذارنا].
ووسط الجوع والعطش, تشبعنا الكنيسة أُمنا بمائدة عبادتها حتى نقف عمليًا على عدم مصداقية المبدأ القائل أنَّ الإنسان هو ما يأكل, فتضفى الكنيسة في عباداتها طابع الدالة البنوية وتَرجِّى الميراث الأبدي.
[كل النفوس التي أرضت الرب الإله بالأعمال, بالصلاة والصوم فازت بملكوت السموات]
وفيما نحن نصوم ترفعنا الكنيسة فوق ضعف الجسد وحروبه, لِنَقرن الصوم بالتسبيح [نعم يا سيدنا يا ذا السلطان نسبحك بالمدائح ونسجد لك في الكنائس من الآن وإلى الانقضاء, حينئذٍ لا يتعب فَمُنا ولا يسكت لساننا إذ ننطق بكرامة الصوم والصلاة].
ولِنَسد جوع الجسد بشبع الروح, بالتقدم للزاد السماوي حيث الذبيحة الإلهية [الجسد والدم اللذان لك هما لمغفرة خطايانا مع العهد الجديد الذي أعطيته لتلاميذك] [الآن تناولنا من جسدك ودمك الحقيقيين تجديدًا لقلوبنا وغفرانًا لخطايانا]..
أخيرًا تُقدِّم لنا الكنيسة نماذج من الأنبياء والرسل والقديسين والقديسات الشفعاء, ليكونوا لنا في الطريق آثار غنم, وفي السماء سحابة شهود فنقول:
بالصوم استحق إبراهيم أنْ يضيف الله عنده مع ملائكته الأطهار.
بالصوم أصعد اسحق ذبيحة طاهرة معطيًا إشارة للمسيح.
بالصوم خلص يعقوب من عيسو أخيه وأخذ بركة من أبيه.
بالصوم تراءف الله على عبده الصالح البار أيوب ومنحه الشفاء.
بالصوم ارتفع يوسف وملك على مصر.
بالصوم رفع الله غضبه عن أهل نينوى.
بالصوم تنبأ جميع الأنبياء والأبرار من أجله بأنواع كثيرة.
بالصوم أرسل القديسين لِيَكرزوا في جميع المسكونة.
بالصوم نال الشهداء المجاهدون الأكاليل غير المضمحلة.
وهذه هي الأرثوذكسية, كما أنَّها استقامة الرأي والعقيدة هي استقامة الحياة أيضًا.. ويتم ذلك بالجهاد الروحي لاستعادة العادات المسيحية المستمدة من التسليم والتي تُذكِّرنا دائمًا بما ينبغي أنْ نكون عليه حسب بدايات الحياة المسيحية, فالصوم هو برنامج عمل, لا مجرد عظات ولا صلوات وعادات إنَّما هو توبة ومحبة وزهد ومصالحة وبذل وعطاء.
لابد من أنْ نبدأ من البيت [المذبح العائلي], لابد أنْ نُغير نمط حياتنا ونفرغ هذا المجتمع الضوضائي, ونستبدله بالاعتكاف الإيجابي, من خلال القراءات والمواظبة على الليتورجية, والإقتداء بمعلمي الكنيسة العظام وسير حياتهم كالأنبا أنطونيوس ومريم المصرية والقديس القوى موسى الأسود والأنبا بيشوي حبيب مخلصنا الصالح.
والمجد والإكرام لمن جاع ليظهر أنَّه أخذ الجسد وصار معنا من أجلنا, غير المنظور الذي جاء وأشرق علينا فصيَّر الخاطئ مُبررًا.
ارحمنا ثم ارحمنا وارث لضعفنا واقبلنا وجِدْ علينا بالغفران, واجعلنا لأوامرك طائعين يا صاحب الأمر والتدبير.
نسألك أن تحفظ بيدك العالية حياة البابا شنودة الثالث عمود الدين وكل الآباء والمدبرين.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:28 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
آحاد الصوم الكبير

من اجل فهم أفضل لتقليد الكنيسة الليتروجي ومشاركة أعمق في حياتها، سنتأمل في آحاد الصوم الكبير في هذا الفصل، لأنه لا حياة روحية من غير اختبار وممارسة وحمل للصليب في قانونية الجهاد.
ويعلمنا الإنجيل أن التوبة هي بداية الحياة المسيحية الحقيقية وشرطها الأساسي، فأول كلمات المسيح رب المجد في بدء كرازته كانت "توبوا" (مت 4: 7).
ولكننا في زحمة حياتنا اليومية لا نفكر في التوبة، ونفترض أن كل ما علينا أن نذهب إلى الكنيسة وان نمتنع عن بعض الأطعمة في الصوم، عندئذ نكون صائمين، ولكن أمنا الكنيسة -الأمر الهام- رتبت أسابيع الصوم الكبير، كوقت مخصص للتوبة والجهاد الروحي، من اجل التمتع بفرح القيامة.
وهذا الترتيب الطقسي الليتورجي لآحاد الصوم، يجب علينا أن نعيشه كحياة وعضوية في الكنيسة المقدسة البيعة الأرثوذكسية، لا على مستوى المعرفة بل على مستوى التذوق والتمتع بكل ما تدبره لنا من خلال طقسها الصيامي وروح الصوم الكبير وخدماته، فليس هناك شيء في العالم أجمل وأكثر حلاوة وغنى مما تقدمه لنا أمنا الكنيسة أورشليم الأرضية التي خارجا عنها لا يوجد خلاص.

وهذه الأناجيل (أناجيل آحاد الصوم الكبير) ليست للترديد والإصغاء في الكنيسة فحسب بل القصد منها أن نحملها معنا إلى بيوتنا لنحياها ونلهج فيها ونتهجاها، عندئذ فقط نقف على حقيقة خبرة الصوم ونتأمله بالقياس إلى حياتنا فيطبع الطقس حياتنا اليومية، لان الإنسان المسيحي بجملته كائن ليتورجي عليه أن يتدرب كل حين على الصلاة والتسبيح والتمتع بمعية القديسين وبركة الحضرة الإلهية.
ولأهمية الصوم الكبير، وضعت الكنيسة صوم نينوى قبله بأسبوعين وبنفس الطقس ليكون بمثابة تمهيد واستعداد للجو الروحي المناسب للتوبة ومحاسبة النفس والمواظبة على الصلاة، للتهيؤ لشركة صوم الأربعين المقدسة وأسبوع البصخة إلى أن تشرق علينا بهجة قيامته بسلام.
والمسيح إلهنا عريس الكنيسة يعضدنا ضد خداع الشهوات، رب الكل الذي جرب من العدو إبليس لكي يعلمنا جميعنا فيه كيف ننتصر ونغلب ظافرين به،ويا لها من رحلة تعدنا فيها الكنيسة لنتتبع آثار خطوات الرأس عابرين من البرية إلى الفردوس، ولننظر أية طرق نسلكها، وها هو المسيح مخلصنا في البرية يعلمنا ونحن في برية العالم، ويدربنا ويمسحنا بالدهن المقدس ونحن ندعوه أن يرد لنا بهجة خلاصنا، وكل من يريد أن يقتنى مجد الإنجيل والقيامة، عليه أن يتدخل إلى العمق، ليلمس أن المسيح قد جاع لا إلى طعام بل إلى خلاصنا، فنغلب بالمسيح وفي المسيح بما سبق أن غلب به آدم، فلنحذر الشهوات الحسية والشراهة وسهام العدو، فتتغذى بالكلمة الإلهية ونقتنى طعام كلمة الحياة السمائي الذي بجوهره غير المنظور يثبت قلب البشر (مز 103: 15)، ولنبعد عن تجربة جناح الهيكل، فإبليس لا يستطيع أن يؤذى إلا ذاك الذي يلقى بذاته إلى أسفل حيث شبكة المجد الباطل، بل نفتخر بضعفنا، ونخدم إلهنا حتى يجازينا بثمار الحياة الأبدية، ولنهرب من كل ما هو تحت سيادة إبليس لئلا نقع تحت عبوديته المرة ولا نعود بعد نشقى أو نتثقل بالأحمال بل نرفع أصواتنا باتفاق مقدس في صوم وصلاة وسهر وأعمال رحمة وتمسك بالإيمان الصحيح في مواجهة البدع والهرطقات.
إنها رحلة تأخذنا فيها الكنيسة إلى أحضان الآب السماوي، مرورا بالآحاد الليتورجية.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:29 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الأحد الأول للصوم الكبير | أحد الاستعداد


** الأحد الأول للصوم الكبير. أحد الاستعداد. (مت 6: 20)
تركز الكنيسة في هذا الأسبوع على الاستعداد، وتتحدث عن الصدقة والصلاة والصوم كممارسات تقوية، وعن أبانا الذي في السموات، وعن عدم الاتكال على المال، والبعد عن الرياء والغش والعصيان (أش 1: 3).
فهدف الكنيسة هو العبادة بلا رياء، والعمل في خفاء، والاتكال على الله، والتوبة الإيجابية وأعمال البر، فنرى ملكوت الله وتتدفق فينا الحياة الإلهية.
نسمع المسيح نبع الحياة ينادينا لكي نجعل كل كنوزنا في السماء ويحذرنا من محبة المال، (لا تقدرون ان تخدموا الله والمال، لا تهتموا لحياتكم.. اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم.. فلا تهتموا بالغد).
ويجوز أن نسمى هذا الأسبوع "أبانا الذي في السموات"، حيث نشعر باهتمام الآب بنا، فلا نعود بعد نهتم بالعالم موجهين أنظارنا نحو السماء.. إن سبب الأمراض النفسية والعصبية والقلق والخوف والرعب من المستقبل، هو أن كنزنا في الأرض حيث قبض الريح.
وترفعنا الكنيسة لكي ننشغل بالسماء حيث كنزنا الحقيقي، فنرى الله ونحيا في أحضانه، بعيدًا عن كنوز الأرض التي يفسدها السوس وتتعرض للصدأ وطمع اللصوص، نحيا في عبادة (الصدقة في الخفاء -لقاء الصلاة والحب الداخلى- الصوم والنسك ببهاء وسرور) سماوية نقية نسمع فيها للمشورة الإلهية بأن السماء والأرض تزولان (مت 24: 35).
وتلفت الكنيسة أنظارنا إلى مراحم الله لنلتزم بها، وتطالبنا لنصالح خصمنا ونبعد عن المنازعات، وتكون طبيعتنا هي العطاء بسخاء كطبيعة داخلية تنبع عن حنين مستمر لنقل ممتلكاتنا إلى السماء فيتحول كنزنا إلى فوق.

والصوم هو وضوح الرؤيا ووضوح الهدف حتى لا يضيع العمر ولا تفنى السنين، بل نسعى نحو غايتنا السمائية وننشغل بأيدينا، ولأننا لا نقدر أن نعبد الله ونحب المال في ذات الوقت، لذلك قصدت الكنيسة في أحد الاستعداد أن تختار هذا الإنجيل لتسألنا عن سلامة الإيمان وسلامة القلب، وكل من لا يحترس لنفسه يكون نصيبه مع امرأة لوط، والغنى الغبي، وحنانيا وسفيرة، لذلك نصلى في مديحة الأحد (كونوا في المال زاهدين واتجروا في العشر وزنات ولا تسلكوا في الأمور بوجهين فالله يعلم ظاهرها وخافيها).
وتوصينا الكنيسة في إنجيل هذا الصباح بالتسليم (قال لا تهتموا بالغد بالمرة فالغد بشأنه يهتم، واطلبوا ملكوت الله وبره والباقي يزاد لكم ويتم).
وفيما نتجمع حول الكنز السماوي وطلب ملكوت الله، لابد أن نقتنى البصيرة الداخلية (العين البسيطة) التي تجعل الجسد نيرا، له هدف سماوي لا يتذبذب بين النور والظلمة (فلا تكونوا ذي لسانين والشرائع لا تحابوا فيها) فالعين يشبهها الآباء بالقائد إن سقط أسيرا ماذا ينتفع الجند بالذهب؟ وبربان السفينة الذي إن بدأ يغرق ماذا تنتفع السفينة بالخيرات التي تملأها؟!
والعين البسيطة هي التي لا تنظر في اتجاهين ولا تتضارب أهدفها بل يكون لها هدف واحد وفكر واحد بسيط وفريد غير منقسم ولا متذبذب، تلك العين البسيطة التي لا تعرج بين السماء والأرض لأن حب المال يجرى ورائه كثيرون، فيتسبب في بؤسهم واستعبادهم له، وكل من يخدمه (أي المال) يخضع للشيطان القاسي المهلك، ويصير مهلكا حينما يسحب القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه حيث ظلمة القلق والارتباط بشكليات العالم، فعوض الاهتمام بالحياة ذاتها ينشغل بالأكل والشرب، وعوض الاهتمام بالأبدية ينشغل بالعالم والأمور التافهة.
كفانا عروجًا بين الفريقين، ولنحيا في الكنيسة أمنا ساعيين نحو خلاصنا ولنردد مع القديس أغسطينوس شفيع التائبين "لقد خلقتنا يا رب متجهين إليك وستظل قلوبنا قلقة إلى أن تستريح فيك".. إنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
ولنتأمل الذين كان يذكرهم بولس الرسول بالخير، والآن يذكرهم باكيًا إذ أحبوا العالم الحاضر وغنى هذا الدهر وهم أعداء صليب المسيح،وينبهنا القديس يوحنا الرسول: من أراد أن يكون محبا للعالم فقد صار عدوا لله، ولكن إن أردتم أن تتعلموا احتقار أباطيل العالم. اسألوا إبراهيم أب الآباء الذي كان يمتلك خيرات كثيرة ولكنه كان يرفع وجهه إلى اله السماء وينظر إلى الميراث الأبدي والمدينة التي لها الأساسات.
اسألوا داود النبي الذي لم تشغله مهام الملك، ولا هموم الغنى عن شركته الحقيقية مع الله، وكان يسأل ويلتمس أن يسكن في بيت الرب ويتفرس في هيكله المقدس.
اسألوا الرسل الحواريين الأطهار الذين تركوا كل شيء وحسبوه نفاية وخسارة من أجل فضل معرفة المسيح، وصاروا كفقراء، ولكنهم يغنون كثيرين، وكأن لا شيء لهم وهم يملكون كل شيء.. (ها قد تركنا كل شيء وتبعناك)، اسألوا القديس أنطونيوس العظيم الذي باع 300 فدان وتبع الرب، هل أعوزه شيء في كل أيامه التي عاشها حتى بلغ 105 سنة؟ اسألوا الأنبا بولا أول السواح الذي ترك العالم والأقرباء والميراث، اسألوا الغرباء الصغار مكسيموس ودوماديوس اللذين تركا الملك والغنى والكراسي.
لقد أوصانا الرب بالبعد عن اهتمامنا الباطل بالعالم (لا تهتموا) من أجل التطلع للحياة الأبدية (أهدنا إلى ملكوتك)، لأنه من منا إذا اهتم يقدر أن يزيد عن قامته ذراعًا واحدًا، لأنكم أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد، لأنه ما هي حياتنا؟ إنها بخار يظهر قليلا.. فلا تكون أفكارنا مرتبطة بالأرضيات، نعمل ولا نهتم، ينصب اهتمامنا على ما هو أعظم لأجل بلوغنا الحياة الأبدية الدائمة.
وتمتعنا بالأحضان الأبوية في هذا الصوم يجعلنا نتدرب على الاتكال والتسليم ويقينية الإيمان والرجاء الذي لا يخزى.. أحيانًا كثيرة نكتئب ونحزن ونرتبك وننسى إننا في يد الله الذي يحوط على كنيسته بسور من نار، وأعطاها الوعد الإلهي أن كل أله صورت ضدها لا تنجح وكل لسان يقوم عليها في القضاء تحكم عليه، وإنه هو في وسطها فلا تتزعزع إلى الأبد، وتعلمنا الكنيسة في تقليدها الليتورجي أن نصلى في تسليم كامل لله (اقتتنا لك يا الله مخلصنا لأننا لا نعرف آخر سواك اسمك القدوس هو الذي نقوله فلتحيا نفوسنا بروحك القدوس).. فلنتأمل طيور السماء التي يقويها الآب السماوي، واثقين إنه يعلم احتياجاتنا، فالارتباك بالأمور المنظورة هو نصيب من بلا رجاء في الحياة العتيدة، والذين بلا مخافة من جهة الدينونة المقبلة.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:30 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الأحد الثاني من الصوم الكبير | أحد التجربة

** الأحد الثاني من الصوم الكبير أحد التجربة (مت 4: 1-1)
* كيف امتلأ المسيح من الروح القدس وهو مانح الروح القدس؟
* لماذا صام المسيح وهو غير محتاج للصوم؟
* كيف يجوع السيد المسيح مع انه هو الذي يعطى طعاما للجائعين؟
* ماذا ربحت البشرية من تجربة المسيح الأولى؟
* أراه جميع ممالك المسكونة
* إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل
* ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:32 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الأحد الثاني من الصوم الكبير | أحد التجربة

** الأحد الثاني من الصوم الكبير أحد التجربة (مت 4: 1-1)
* كيف امتلأ المسيح من الروح القدس وهو مانح الروح القدس؟
* لماذا صام المسيح وهو غير محتاج للصوم؟
* كيف يجوع السيد المسيح مع انه هو الذي يعطى طعاما للجائعين؟
* ماذا ربحت البشرية من تجربة المسيح الأولى؟
* أراه جميع ممالك المسكونة
* إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل
* ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل
في هذا الأسبوع تقودنا الكنيسة لندرك مفاهيم التجربة وأعماقها، هدفها تنقيتنا، ووسيلتها روح القضاء والإحراق، ونتيجتها مجد الداخل المغطى.. وبالتربة التي هي روح القضاء ودينونة النفس، وبالجهاد ضد الخطية الذي هو روح الإحراق، تتحول النفس إلى مجد العروس التي جاهدت وتعطرت وتزينت واغتنت بأسرار الكنيسة والإنجيل وعمل الروح القدس، فلا ندع التجارب تفقدنا بركة الصوم والتوبة، وتعطل رحلة الصوم، لأن الصوم هو ميعاد طلب الثمر الجيد والعنب الصالح..
إنه وقت الصراحة في الإيمان، فعندما يوجد صراع متزايد من المجرب يلزمنا أن نصوم حتى يقوم الجسد بالواجب المسيحي في حربه ضد شهوات العالم بالتوبة وحث النفس على النصرة في اتضاع، لذلك نقول في المديح (لأنه مخادع ولعين والساهرين لا سلطة له فيهم، بل في ذرى اللهو المتغافلين وسط أشواكه يرميهم).
ولأن البرية (برية سيناء) كانت برية تجارب انتصر فيها الشيطان، لذا ففي العهد الجديد أخذ المسيح إلهنا شعبه (كنيسته التي هي جسده) وجاز به غالبا الشيطان محطما قوته، وصار ذليلًا مطرودًا.
الشيطان الأفعوان المتمرد جلب علينا الخطية وجعل الموت والفساد يسودان الأرض. وأما المسيح فقد جاء لكي يجعلنا به وفيه نربح الغلبة ونفوز بالنصرة من حيث انهزمنا وسقطنا في آدم، لقد تقابل على الجبل رئيس الخطية مع رب المجد يسوع فلنتهلل ولنسبح مرنمين لإلهنا ومخلصنا المسيح ابن الله، ولنطأ الشيطان والحية تحت أقدامنا رافعين صوت الهتاف والنصرة لأنه الآن قد طرح وسقط، لنتهلل فرحين لان الثعبان الماكر والحية المختالة قد أمسكت في فخ لا فلات منه لان النصرة لحسابنا وحقا كان لائقا بذاك الذي جاء ليحل موتنا بموته، أن يغلب أيضًا تجاربنا بتجاربه ويقول القديس أنبا مقار (إن أول العصيان كان من آدم في الفردوس بسبب شهوة الطعام، وأول الجهاد من سيدنا المسيح في البرية في الصوم.. فصوموا مع المخلص لتتمجدوا معه وتغلبوا الشيطان).
ويقول الأنبا يوساب الأبح (أتانا الابن الوحيد وأول درس عمله وعلمه لإنارة طريق الخلاص ليعتقنا من السقوط الذي لآدم بشهوة الأكل، هو إنفراده في البرية أربعين يومًا).
(أنا يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس).

امتلاؤنا من الروح القدس هو قوتنا في مواجهة تجارب الشيطان، لقد انعم علينا سيدنا بامتياز البنوة وصرنا شركاء الطبيعة الإلهية، لسنا بعد أولادًا للحم والدم بل ندعوه بالحري أبانا السماوي وصار هو بكرا لنا بين إخوة كثيرين نحن الذين قد شابهناه، وهو قبل على نفسه فقرنا وقبل أن يتقدس بالروح القدس مع أنه هو مقدس كل الخليقة ولم يرفض أن يصير إنسانا من أجل خلاص وحياة الكل، بل قد صار شبيها لنا في كل شيء ما خلا الخطية.
* كيف امتلأ المسيح من الروح القدس وهو مانح الروح القدس؟

قد صار جسدًا أي إنسانًا غير محتقر لمسكنتنا، بل لكي نغتني نحن بما له فصار شبيهًا لنا في كل شيء ما عدا الخطية وحدها، لقد قبل أن يتقدس كإنسان من أجلنا وهو الذي يقدس الكل كإله وحل الروح القدس عليه كالتدبير لأجل إنسانيته.
* لماذا صام المسيح وهو غير محتاج للصوم؟

لقد صام ليضع نصب أعيننا أعماله قدوة وليؤسس سر النصرة والغلبة وطريقة سكن البراري، لأن بهذا يغلب.. وهكذا وضع نفسه لنا مثالا يُحتذى به، فهو صام عنا ولأجلنا وانتصر لنا لننتصر به، مؤسسا بصومه سر اللاهوت النسكي والحياة الرهبانية ليلهمنا الطريق الذي نسلك فيه، وفي الواقع نحن في المسيح فزنا بكل هذه البركات، فالسيد يظهر بين المجاهدين بينما هو كإله يمنح الجائزة للفائزين ويبدو بين اللابسين الأكاليل بينما هو الذي يضع الأكاليل على رؤوس الغالبين مكللا بالمجد كل أحد ونحن فيه قد ربحنا كل شيء لحسابنا، لقد غلب وأفحم خبث الشيطان لذالك يدعونا القديسون دائما أن نثبت أنظارنا على مسيح البرية كقائد لنا في حياة النسك.
فيقول مار اسحق "إن المسيح يتقدمنا بنفسه في هذا الموكب النسكي صائمًا معتزلًا مصليًا".
وقد انطبعت روح الآباء هذه في صلوات الكنيسة فلا زالت الكنيسة في عبادتها الليتورجية أثناء الصوم تثبت أنظارنا في المسيح كقائد ناسك مظفر (تعالوا وانظروا مخلصنا محب البشر الصالح صنع فعل الصوم مع عظم تواضعه وعلمنا المسير لكي نسير مثله) ذكصولوجية الصوم المقدس.
* كيف يجوع السيد المسيح مع انه هو الذي يعطى طعاما للجائعين؟

جاع أخيرا مع انه هو الذي طعاما للجائعين وهو الذي يشبع كل الجياع ببره بل هو نفسه الخبز النازل من السماء ولكنه من جهة أخرى لم يرفض فقرنا فكان يليق به أن لا يترفع عن أي شيء يتعلق بمسكنتنا الإنسانية الضعيفة، فهو اخذ الذي لنا وأعطانا الذي له، وهو الذي افتقر وهو غنى لكي نستغني نحن بفقره (2كو 8: 9) لقد جاع ليؤكد حقيقة ناسوته فهو جاع معنا ولنا ليعطينا الشبع والغنى، وبنفس هذا الجوع انتصر على الشيطان، فلم يصعد (إلى البرية) كمن هو ملزم أو من هو أسير إنما صعد باشتياق إلى المعركة، وان كان الشيطان يذهب إلى الإنسان ليجربه، إلا إنه لا يستطيع أن يهاجم المسيح، لذا ذهب المسيح إليه.
قال إبليس: توهم إبليس أن ألم الجوع سيحقق مقاصده الشريرة وقال له (إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا) وهنا الشيطان يجرب المسيح كأنه إنسان عادى أو كواحد من القديسين لأنه كان مرتابًا في أن يكون هذا هو المسيح، فأراد المحتال الماكر أن يتحقق من إلوهيته المسيح معتبرًا أن تحويل طبيعة شيء سيكون من عمل وفعل قوة الله وقدرته، وعلم المسيح دهائه وحيله الماكرة فلم يحول الحجر خبزًا (كما حول الماء في عرس قانا الجليل إلى خمر) وصد إلحاح الشيطان وفضوله قائلا (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان).
* ماذا ربحت البشرية من تجربة المسيح الأولى؟

بشهوة الأكل انهزمنا في آدم وبالتعفف والصوم في المسيح قد غلبنا وانتصرنا، أن الإنسان الأول إذا أطاع بطنه لا الله طرد من الفردوس، لان الطعام الذي ينبت من الأرض يقوت الجسد أما الروح فتتغذى بكلمة الله، فالأرض تغذى الجسد الذي هو منها أما الروح فقوتها كلمة الله والخبز الروحي الذي يشدد قلب الإنسان.
فالنفس الناطقة العاقلة غذائها معرفة الكلمة (اللوغس) لقد أراد الكذاب أن يوهم البشرية أن حياتها كلها لا تقوم بالطعام ولكن الرب علمنا أن الحياة لا تقوم إلا في الابن في شخصه وحده.
* أراه جميع ممالك المسكونة

وقف الشيطان الماكر ليرى الرب كل ممالك المسكونة (هذه كلها لي فإن سقطت وسجدت لي أعطيها لك)، لقد اغتصب احتيالا ممالك الله، لقد قال إشعياء النبي (هل اعد ذلك لكي تملك؟ إنها بحيرة عميقة، نار وكبريت وحطب معد، غضب الرب كبحيرة متقدة بنار وكبريت) (أش 33: 3) فكيف ينسني له وهو الذي نصيبه النار التي لا تطفأ أن يعطى السيد المسيح الممالك التي له؟ فكيف أن الذي تسجد له الكراسي والأرباب سيسجد لهذا المنجوس! انه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد، وهكذا أصابت هذه الوصية من الشيطان مقتلا وهو الذي خدع كل الذين تحت السماء.. لقد بكت السيد المسيح العدو الشيطان على تضليله العالم وعلى جعله الكل يسجدون له، وبهذا وضع حدا نهائيا لعبادة الشيطان، هكذا غلب وانتصر لحساب البشرية كلها.
* إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل

وهى تجربة "المجد الباطل" فهو يسأل عن برهان الألوهية، فأجابه الرب (إنه قيل لا تجرب الرب إلهك) لأن الله لا يسعف الذين يجربونه ولا يعطى المعونة لهم بل للذين يؤمنون به، من أجل ذلك لم يعطى المسيح آية قط للذين يجربونه. (جيل شرير وفاسق يطلب آية لا تعطى له آية) (مت 12: 19).
وهكذا فقد غلبنا في المسيح وفزنا بالنصرة فيه، ورجع إبليس بالخزي الذي غلب آدم وتمكن فيه قديمًا، وقد ذهب الآن خائبًا لكي ندوسه تحت الأقدام لأن المسيح الذي صام عنا ومن أجلنا وجرب لينتصر لحسابنا، وغلب وسلمنا القوة لنغلب وأعطانا القدرة على النصرة والإمكانية على الغلبة، إنها علاقة كيانية حميمة اتحادية لأننا في المسيح الذي قال (ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو) (لو 10: 19) وهنا نرى أن الشيكان يستخدم آيات في حروبه معنا ويستخدم كلام الكتاب لي يخدعنا ويقولها مريدا أن يسقطنا.
* ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل

لقد سكن الرب البرية وصام عنا وجرب من الشياطين وهناك فاز بالنصرة لنا، وسحق رأس التنين، لقد ساد على الشيطان ووضع الإكليل على طبيعة الإنسان في شخصه المبارك بالغنائم التي اغتنمها بنصرته، ثم عاد إلى الجليل ليمارس سلطانه وقوته ويجرى العجائب ويصنع المعجزات لأنه ابن الله. لقد انهزم الشيطان وغلب من المسيح في ثلاث مواقع التجربة على الجبل ويسوع لم يكن وحده يجرب. بل كان لابسا جسدنا متحدا بنا، كنا فيه ومعه وحين ندخل التجربة اليوم لا ندخلها وحدنا، وهو يجرب معنا وفينا، يقول الكتاب (ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين) أي ليستأنف التجربة معه فيما بعد، وهو يتقدم إلينا يمجد اسمه فينا فجين يجربنا الشرير لا يكون هدفه أن يهزمنا فقط بل أن يعبر المسيح الغالب والساكن فينا فنحن في الجهاد والحرب مع الشيطان لا ننتصر بقوتنا بل باسم رب الجنود الذي يحارب معنا وهو المجرب فينا والمنتصر لحسابنا أيضًا ولا يمكن أن تتم النصرة إلا اختبر الإنسان الفداء واقتنى المؤمن قوته من سر التناول، ليمضى المؤمن ويقول للسيد المسيح (تقدم أنت) (تث 5: 27) وواجه هذا التعيير، وانتصر معي ولحسابي، وكل تجربة هي امتحان لبنوتنا لله، فلنحترس إذن لأننا أبناء الله.. وتعلمنا الكنيسة انه لن يكون الصوم بالامتناع عن الطعام بقدر ما يكون بالشبع الروحي من طعام الحياة جسد الرب ودمه لان ملكوت الله ليس أكلًا ولا شُربًا، وليست العبادة مظاهر اجتماعية أو استعلاء على الآخرين، نحن كخدام نخدم في القرى والأحياء النائية علينا في هذا الصوم أن نوصى من نخدمهم بضرورة وحتمية التقدم للأسرار الإلهية خلال فترة الصوم، علينا أن نقدم المسيح الذي فيما هو مجرب قادر أن يعين المجربين، وان ننقل الحياة الكنسية المقررين من خلال العظات والكلمات وتحفيظ الترانيم ومدائح الصوم الكبير ليشبع الجميع بالروح ولنعلم ونعيش واثقين أن غلبة آدم الثاني ربنا يسوع المسيح لعدو جنسنا الشيطان تمت للإنسانية المتألمة لتصير خبرة حياة كل مؤمن بالمسيح ويقبل كلمة البشارة، وهذه هي صورة آدم الأول النفساني الترابي الذي هو علة السقوط وآدم الثاني المحيى السماوي الذي هو موضع النصرة، إن تجارب الشيطان توجه بالأكثر ضد الذين تقدسوا، لأنه يشتاق بالأكثر أن ينال النصرة على الأبرار.
ويعلمنا السيد المسيح أن لا ندخل في حوار الشيطان لان آدم الأول ضل وانهزم بسبب دخوله في حوار مع الشيطان الذي خدعه هو وحواء برجاء كاذب وأقصاهم عن الخيرات الحقيقية، ولكن المسيح رب المجد آدم الثاني رفض مشورة الشيطان -مع أن في قدرته أن يفعلها- حتى يعلمنا أن نرفض فعل أي شيء ارتجالًا أو عبثا.. ونعلم أن المسيح كان حريصا على إخفاء لاهوته في حواره مع الشيطان، لقد اتخذ المسيح جسد طبيعتنا واتحد بنا في علاقة حياتية حميمة كيانية وليس هناك من سبيل على الإطلاق للتمتع بكنوزه المذخرة لنا إلا بالتلامس الاختباري معه، إن السيد المسيح صام عنا ولأجلنا وما تم في التجربة إنما هو لأجلنا ولكي يعلمنا (تعلموا منى) انه ليس تعليم الدرس والتلقين ولكن تعليم الخبرة والممارسة والتذوق والتلامس والاختبار، ولابد أن نتلامس ونمارس ونختبر ليصير التعليم حياة وخبرة فعالة نعيشها لأن يسوع صام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة ولأنه يهدف إلى تعليمنا من كل ما عمله وأجتازه.. نعم أننا نحمل الأسلحة لا لنكون عاطلين بل لنحارب بها، فصوم الرب أربعين يوما يدلنا على أدوية الخلاص، وأصر المسيح على أن لا يصوم أكثر من موسى وإيليا لئلا نشك في أنه أخذ جسدنا (جسد مثلنا) ولقد سمح المسيح لنفسه أن يجرب وهو ابن الله لكي يعيننا فننتصر في التجارب ليس فقط بقدرتنا ولم بمعونته وقدرته (لأنه في ما هو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين) (عب 2: 18) لقد احتمل أن يجرب من الشيطان لكي نتعلم فيه كيف نظفر به، لقد جاع في البرية حتى ما يكفر بصومه عن الطعام الذي ذاقه آدم الأول بعصيانه، فلنتبع إذن آثار خطواته ونحن نعبر من البرية إلى الفردوس، فالآن ها هو المسيح في البرية يدفع الإنسان إليها ليعلمه ويشكله ويدربه، لنتعلم أن نغلب في المسيح ما سبق أن غلب به آدم.. انظروا أسلحة المسيح التي ظفر بها لأجلنا، انه لم يستعمل قوته كإله لأني ماذا كنت أفيد من ذلك! وهو قد اظهر أيضًا في نفس الوقت بقوله (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) انه تجرب بالجسد الذي أخذه وسرقة مجد الله ولنهرب من كل ما هو تحت سيادة إبليس وعبوديته المرة، لقد قام لنا السيد نفسه نموذجا لمصارعة تجارب إبليس والانتصار عليه في تجربته المثلثة على الجبل، وهو الآن يغلب عدو الخير الذي يحاربنا عندما يقف بجوارنا يقوينا ويسندنا في تجاربنا، ولا ننسى أن عدو الخير لم ييأس من فشله هذه المرات الثلاث أمام المسيح لكنه تركه إلى حين، إن الرب أعطانا في تجربته على الجبل كيف نستطيع أن ننتصر، فهو قائدنا الذي سمح لنفسه بالتجربة حتى يعلمنا نحن أولاده كيف نحارب العدو الشرير، لقد غلب تجاربنا بتجاربه، وذهب المسيح إلى الشيطان بحسب قول القديس يوحنا فم الذهب، فالمعركة ضد إبليس من اجلنا ولحسابنا، فالمسيح صام ليقدس أصوامنا بصومه كالأم التي تتذوق الدواء أمام طفلها المريض حتى يشرب منه، من اجل هذا تقدس الكنيسة هذا الصوم بكونه قد تقدس بصوم السيد نفسه، وتقدم موضوع التجربة في قراءات الأسبوع الثاني من الصوم لتعلن لأولادها انه حيث يوجد الجهاد تقوم الحرب وحيث توجد الحرب يلزم الجهاد الروحي.
وعلينا أن ننتبه كخدام إلى التجربة الثالثة التي تمس العبادة ذاتها لان العدو يقدم لنا كلمات الكتاب مشوهة ليحول عبادتنا وخدماتنا إلى شكليات واستعراضات ورياء حتى عرض أن نصعد منطلقين نحو السماويات ننطرح من جناح الهيكل إلى أسفل لان الشكل والرياء تحول عن الغاية الحقيقية التي هي خلاص نفوسنا والذين يسمعوننا أيضًا.. لقد انتصر المسيح لحسابنا، لندوس العدو بالأقدام ولنسهر إذن على خلاص أنفسنا، والمسيح إلهنا الذي غلب العالم والشيطان يحفظنا بلا لوم لحين ظهوره.. بصلوات حبيبنا البابا المكرم الأنبا شنودة الثالث.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:33 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الأحد الثالث للصوم الكبير | أحد الابن الضال


تركز الكنيسة في هذا الأحد على قصة الابن الضال، لترينا حنان الأب، وخطايا الابن وتوبته، فتلك القصة تكشف لنا عن قلب الأب المحب الشفوق، الذي يشتاق إلى رجوعنا، وترينا الأرض الضيقة حيث الجوع الروحي والظلام وعيشة الغربة عن الله، حيث ارض الخنازير، وثمار الخطية، ونلتفت في هذه القصة إلى التوبة والرجوع والخضوع للآب والتلمذة للوصايا الإلهية والشهادة لعمل نعمة المسيح ومخافة الرب وحياة القداسة حيث فرح التوبة (ينبغي أن نفرح) (لو 15: 33)، (وتفرح الملائكة) (لو 15: 7)، وحياتنا بلا توبة هي حياة خالية من الفرح.
ومن اخطر ما يواجهنا إحساسنا مع الابن الضال أننا فُهماء وحكماء، لكن هل تفتخر الفأس على القاطع بها أو يتكبر المنشار على مردده! (اش 10: 15)، من اخطر ما يواجهنا قساوة القلب والارتباك الباطل والاستهتار، فنقول لله أعطني لأعمل جميع إرادتي، لذلك تركز الكنيسة في الأحد الثالث على (بر الآب للخطاة الراجعين الذي يفوق البر الذاتي لمن يظنون في أنفسهم إنهم أبرار)، وها عقوق الابن يقابله رحمة الآب، وبر الابن الأكبر لم يجعله يفرح بعودة أخيه الأصغر الذي لا بر له إلا بالآب.
هذا المثل غنى للغاية بمعانيه، ويتضمن جوهر روحانياتنا المسيحية، فكثيرا ما نتحول عن الطريق ونمضى إلى كورة بعيدة، لقد كان الابن الأصغر المذكور في الإنجيل يعتبر الله "شيء"، وهذه هي خطيتنا، أن نصير مالكين لأنفسنا ونتحول عن الله سر الحب، ونمضى إلى الأرض حيث نحن مالكين لأنفسنا ونتحول عن الله سر الحب، ونمضى إلى الأرض حيث خداع العالم والأباطيل والغواية وتعظم المعيشة، ولكن ما أن فحص الابن الضال نفسه وجها لوجه (محاسبة النفس)، وبدأ ينظر إلى داخله، بعيدًا عن كل إغراء أو جذب، خلوا من خداع وحيلة وأصدقاء السوء، حيث ظن أن في البعد هناك الحرية، تلك التي أفقدته حياته وجعلته شريدا بلا مأوى أو دفء حتى قام وترك خلفه كل السقطات، ومضى إلى بيت أبيه وعقد النية أن يلقى بنفسه عند أقدام مراحمه، تلك الأبوة التي تكرر ذكرها خمس مرات في مثل الابن الضال.

إن أول كلمة نطق بها الابن البعيد، عندما عاد "أبتاه" لقد تذكر أن حب أبيه له قد وهب له مجانًا، وإن كل حب وصلاح وبركة ونعمة ومحبة مصدرها هذا الحب الأبوي، تلك الأبوة التي أعطته الرجاء وجعلته يسرع إلى بيت أبيه (الكنيسة)، وفي هذا الاسم (اسم أبيه) يكتشف طبيعة توبته الحقيقية، لأن التوبة الحقة تمزج رؤية الإنسان لخطاياه مع ضمان الغفران، لأن مراحم الله لا تفتر، هي جديدة في كل صباح وهي من دور وإلى دور، لأنه لا يشاء موت الخاطئ مثل ما يرجع ويحيا-
وعودة الابن الضال إلى بيته، هي عودتنا إلى بيتنا الكنيسة أمنا جميعًا، حيث تطهيرنا بسر الاعتراف (يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن ادعى لك ابنًا!! اجعلني كأحد أجرائك)، فمع التوبة والرجوع (الميطانيا) يكون الاعتراف والإقرار بالخطايا التي جاهد لنقلع عنها في سر التوبة والاعتراف، وعندئذ نأخذ عطية المغفرة..
وعندما نقترب من البيت (الكنيسة)، يرانا الآب السماوي ويقابلنا ويقبلنا، فكم من المرات وقف ينتظرنا مراقبًا عودتنا إلى بيته، ونحن عائدون ممزقون تعترينا الكآبة والفم مُحملون بماضٍ مخجل..
إنها العودة إلى الحياة بعيدًا عن الظلمة الخارجية، حيث نلبس الحُلة الأولى والخاتم في أيدينا والحذاء في أرجلنا، تلك الحُلة الأولى التي يقول الآباء إنها المعمودية التي كثيرًا ما نسلك بعكس نذرها ودعوتها، وننسى أننا قطيع صغير وأننا خميرة وأننا نور وأننا ملح وأننا سفراء وأننا رائحة المسيح الذكية. تلك العودة إلى بيت الآب السماوي بعد فترة التشرد التي فصلته عنه، جعلته يأخذ الخاتم الذي هو ختم الكفالة والضمان، يضع حذاء في رجليه حتى ينتعل "باستعداد إنجيل السلام"، وما العيد الذي تعيد إلا عيد القيامة عيد الحياة الأبدية عُرس الحمل عُرس الملكوت، فالابن البعيد رجع إلى أحضان أبيه رجع إلى بيته حيث الخلاص وملكوت المحبة، وحيث البيعة المقدسة التي تنادي البعيدين وتبحث عن الضالين، ليستيقظوا ويستنيروا ويرجعوا، فالوقت وقت مقبول وزمن خلاص، يفرح به كل راجع يأكل ويشرب من عطايا العريس، وينعم بالخلاص، وهو ما نعبر عنه في مديح هذا الأسبوع عندما نقول:
(قوموا يا كهنة هيئوا الحُلة، ليلبسها ابني ويتحلى، المعمودية هي الحُلة وهي أول الخيرات، كللوا ابني بإكليل النور والبسوه خاتمًا من ذهب وفير ليكون بختم الروح مستور محروسًا من كل الزلات).
واحدة هي الحلة للآخرين والأولين واحدة هي لله، وواحدة هي الحلة التي تعطي للمعتمدين داخل الماء، واحد هو الذبيح الذي تطهر به جميع الخطاة، وبخاتم واحد يختمون خزان بيت الله، واحد هو حذاء العروس التي صعدت من داخل الماء، حذاء النور الذي تدوس به الحيات، الآب المتحنن بسط مراحمه عن الخطاة.
ورجوعنا إلى الآب السماوي يأتينا من واقع الرجاء واليقين والثقة، وما نعرفه عنه وما نلمسه فيه، فحتى لو فقدنا امتياز بنوتنا، هو لا يفقد شيئًا من أبوته، فمحبته الحانية هي التي تتوسط وتتوسل وتلح في أعماقنا، إن أحشاءه الأبوية هي التي تدفعه أن يتبني من جديد، ويصدر الصفح الكامل ويستر،وبدلًا من أن يقاضي غلبت عليه أبوته وحكم على الفور بالبراءة هذا لأنه يود رجوع الابن لا هلاكه، وبدلًا من أن يعطي عقوبة يقدم قبلة، فقوة المحبة لا تقيم وزنًا للخطية، بقبلته يغفر ذنوبنا وبعواطفه الأبوية يغمرنا، هو لا يفضحنا ولا يشهر بنا، بل يضمد جروحنا تمامًا حتى لا تترك أثر أو عيب (طوبى لمن غفر إثمه وسترت خطيته) (مز32: 1).
ونحن أيضًا في أحد الابن الضال (الأحد الثالث من الصوم الكبير)، علينا أن نتمتع بعفو الآب، مهما كان إفلاسنا الروحي المطلق، فلنقم مهما كانت حالتنا، ولنرجع إلى من هذه أبوته متشجعين بهذا المثال، (وإذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبّله) إني اسأل: أي مكان هنا لليأس؟ أو أي مجال حتى للاعتذار أو مظهر للخوف، إلا إذا كنا نعتقد عكس محبته الأبوية، ذلك الفكر المضاد لخلاصنا.
لقد فتح المسيح لنا بهذا المثل باب السماء أمام الخطاة وكشف عن فرح الآب الشديد وسروره برجوعنا، وهو ما نعبر عنه في مديحة الأسبوع الثالث من الصوم:
طبيب النفوس والأجساد احتضنه وفي حبه زاد
عندما رجع له باستعداد انعم عليه بكل البركات
وبدون البنوة لا تكون توبة ولا رجاء ولا حياة ولا رجوع ولا تمتع بأحضان الآب لذلك فالمعمودية هي بنوتنا لله وأساس توبتنا، ولذلك يعلمنا الآباء أن التوبة معمودية ثانية، وكلنا عندما نتغرب ونبعد ونذوق الخرنوب نخسر أنفسنا، ولكن مراحم الله الإلهية جديدة وهي من دور وإلى دور، هذه تعبيرات بلغة بشرية عن أمور إلهية لا توصف، لذلك نصلي (ليس شيء من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر)، فهو لا يطيق أن يرانا في ذل وعبودية، وعندما يرانا قادمين إليه في ثياب الخطية يغلب عليه تحننه وتغلبه محبته، ويقبلنا بقبلات فمه لأن حبه أطيب من الخمر، ويحتوينا في أحضانه ويلبسنا ثوبنا الأول معموديتنا الطاهرة ونقاوتنا الأولى وفكرنا البسيط، يعطينا بره كثوب ليكسونا بعد أن عرانا العالم والخطية، نخلع ثوب الخزي ونلبس ثوب الكمال لابسين المسيح، يلبسنا خاتم مسيحه لنعمل بعد للملكوت والحياة الأبدية، ولنخدم عمل الحصاد، يلبسنا خاتم القداسة لنعمل عمل الرب بقوة وبدون رخاوة، خاتم الخطبة والملكية عوض المسمار الذي في يد المسيح، كم هو ثمين هذا الخاتم، الذي ما هو إلا كلمة الله، أما أرجلنا التي أدمتها أشراك الخطية فقد لبست استعداد إنجيل السلام بعد أن صارت مغسولة بيد المسيح إلهنا، فلا تعرج في السير بل تبقى محفوظة من الزلل، ويا لفرحة السماء، ويا لوليمة الآب (الذبيحة) ذبيحة الفرح وطعام الحياة الأبدية، التي بها نُفرح قلب الآب بتوبتنا وبرجوعنا، بعد ذل الكورة البعيدة، نتمتع بأحضان الآب وذبيحة ابنه يسوع وفرح السمائيين الغير موصوف..

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:37 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الأحد الرابع للصوم الكبير | أحد السامرية


** الأحد الرابع للصوم الكبير (أحد السامرية) (يو4: 1- 42)
كان يسوع قد تعب
* الكنيسة كلها ولدت من جنب المسيح المطعون
* ماذا يعني الرب بقوله: أدعي زوجك؟
* السجود لله بالروح والحق
* "أنا الذي أكلمك هو" المسيا
* ها الحقول قد ابيضت للحصاد
يُقرأ إنجيل السامرية (يو4: 1-42) في كنيستنا ثلاث مرات في السنة القبطية الليتورجية: في الأحد الرابع من الصوم الكبير، والأحد الثالث من الخماسين المقدسة، والسجدة الثالثة يوم عيد العنصرة.
ونترنم في المديحة التي نصلي بها أثناء التوزيع في القداس الإلهي للأحد الرابع (رب الجيوش العلوية اتضع وأخذ جسم إنسان وتكلم مع المرأة السامرية قال لها اسقيني فاني عطشان)، عندئذٍ نتطلع إلى المسيح رب المجد ينبوع الماء الحي الذي كل من يؤمن به تجري من بطنه أنهار ماء حية، فتتحول حياتنا كما كان مع تلك السامرية التي أخبرت أهل السامرة انظروا إنسان قال لي ما قد فعلت، من خاطئة إلى كارزة ومبشرة لكل أهل السامرة.
ومن أجل ربح السامرية، تكلف الرب رحلة مشقة وتعب احتملها من أجل السرور الموضوع أمامه، لذلك في كل مرة ندخل فيها الكنيسة نتلاقى مع المسيح، وفي كل وقفة صلاة وقراءة إنجيل نشبع من الينبوع الحي، وليس من العجيب أن نرى ربنا يسوع المسيح هو البادي بالحديث مع السامرية لأنه ينبوع كل عطية صالحة وكل موهبة تامة، وهو يسعى إلينا (أعطيني لأشرب)، يعطش لنفوسنا ويجوع لخلاصنا.

ولننظر مجرد نظرة بالروح للنفوس التي حولنا، سنجدها حقولًا ابيضت للحصاد لا تحتاج إلى جهد لأن آخرين تعبوا ونحن دخلنا على تعبهم، نفوس ناضجة تحتاج إلى لقاء مع المسيح، تحتاج أن نقدمه لها، فقط يلزمها حصادين وخادمين مثمرين لكي يفرح الذين زرعوا والذين حصدوا.
"كان يسوع قد تعب"

يسوع في طريقه إلى الجليل كان لابد أن يجتاز السامرة فأتى إلى سوخار، فإذا كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر، وكان نحو الساعة السادسة (12 ظهرًا) هنا تبدأ الأسرار، لأنه لم يكن بدون هدف أن يتعب المسيح: قوة الله التي بها يستريح المتعبون تصير منهكة، كيف يتعب ذاك الذي بدونه نصير متعبين، وفي وجوده نتقوى ونتشدد؟!
أنه لأجلك قد تعب رب المجد من السفر إليك، وها نحن نراه قويًا وضعيفًا متعبًا: قوي لأنه كلمة الله الذي (كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيئًا مما كان) (يو1: 3)، إذن فمن يكون أقوى منه؟ لذلك فإن كانت قوة المسيح هي التي خلقتك، فضعفه هو الذي أعاد خلقتك من جديد، قوة المسيح أوجدتك من العدم وضعف المسيح وهبك الخلود ومنع عنك الهلاك الأبدي.
لقد أخذ يسوع على عاتقه أن يتعب في رحلته إليك بعد أن أخذ جسد وأن كان هو قد صار ضعيفًا بالجسد فلا تصر أنت ضعيفًا بل تقوى في ضعفه لأنه مكتوب: (ضعف الله أقوى من الناس) (كو1: 25).
* الكنيسة كلها ولدت من جنب المسيح المطعون:

إن آدم في وقت ضعفه، وهو نائم، وُهبت له زوجة من أحد ضلوع صدره، هكذا المسيح وهو مطروح على الصليب، وبعد أن رقد "باكورة الراقدين" وخرجت نفسه من جسده، أي في أكثر حالات ضعفه على الإطلاق، خرجت عروسه، الكنيسة، من جنبه المفتوح الذي طُعن بالحربة، أي خرجت السرائر التي تمارسها الكنيسة لخلاص الإنسان وحياته من جنب آدم الثاني وهو مستسلم للموت مثل أضعف مخلوق،إذن فضعف المسيح هو الذي يجعلنا أقوياء!
لقد تعب المسيح وباتضاعه جاء إلى البئر، جاء متعبًا لأنه حمل جسدًا ضعيفًا، وإلى بئر أي عمق أرضنا هذه التي نحن نسكنها، ولهذا قال المزمور: (من الأعماق صرخت إليك يا رب) (مز13: 1)، وجلس هناك بسبب اتضاعه.
* ماذا يعني الرب بقوله: أدعي زوجك؟

فلنستفسر إذًا عن زوج النفس، لماذا لا يكون السيد نفسه هو الزوج الحقيقي للنفس؟ إن ما نريد أن نقوله لا يدركه إلا المنتبهون جيدًا!! إذًا يا أخوتي، إن تكون لنا نفس ولا يكون لنا فهم، أي أن لا نستخدم هذا الفهم أو لا نعيش طبقًا له، فهذه حياة حيوانية، إن السامرية لا زالت مخطئة إذ لا زالت تفكر في هذا الماء الزائل، في حين أن الرب كان يكلمها عن الروح القدس، ولماذا كانت مخطئة إلا لأنها لم يكن لها زوج بل عشيق؟ فتجردي إذا من هذا العشيق الذي يفسدك، و"أذهبي وأدعي زوجك"، ادعه وتعالي!
* السجود لله بالروح والحق:

لذلك(صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب انتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم، لان الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة) متى؟ (وهي الآن) أية ساعة؟ (حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له) ذلك لأن (الله روح)، فلو كان الله جسدًا لكان بالحق يرغب أن يُعبد في مكان مادي كالجبل أو الهيكل ولكن (الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا).

قد تقول في قلبك "ألا أطلب جبلًا عاليًا منفردًا؟ لأنني اعتقد أن الله لكونه في الأعالي فهو يسمعني بالأحرى من مكان عال" ألا أنك على جبل عال فأنت تتصور انك قريب من الله، وإنه سيسمعك سريعًا لأنك تدعوه من مكان قريب إليه؟ حقًا أنه يسكن في الأعالي، ولكنه ينظر إلى المتواضعين (قريب هو الرب) ممن؟ (المنكسري القلوب) (مز34: 18)، (الرب عال ويعاين المتواضعين، أما المتكبرون فيعرفهم من بعد) (مز138: 6) وبقدر ما يكون الرب أقل قربًا من المتكبرين بقدر ما يرون أنفسهم مرتفعين! أتبحث عن جبل؟ انزل واتضع لكيما تقترب إليه. أتريد أن تصعد؟ اصعد، ولكن لا تبحث عن جبل: (طوبى للرجل الذي معونته من عند الرب، رتب في قلبه أن يصعد في وادي البكاء)(مز48: 6) والوادي هو الاتضاع، وعلى ذلك فليكن عملك كله في داخلك، وإذا طلبت مكانًا عاليًا ومقدسًا، اجعل من نفسك هيكلًا لله في داخلك: (إن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو) (1كو3: 17) أتريد أن تصلي في الهيكل؟ صل في داخلك، ولكن كن أولًا هيكلًا لله، لأنه يسمع لمن يصلي إليه في هيكله! فهو الساكن في الأعالي والناظر إلى المتواضعات.
* "أنا الذي أكلمك هو" المسيا:

لقد سمعت المرأة ذلك وتقدمت خطوة، فدعت الرب نبيًا، لقد لاحظت أن هذا الذي كانت تتكلم معه قد نطق بأمور ترفعه إلى مستوى الأنبياء، فماذا كانت إجابتها؟ (قالت له المرأة أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذلك يخبرنا بكل شيء) ما هذا؟ لقد قالت منذ قليل أن اليهود يختلفون معهم بخصوص الهيكل وهذا الجبل! ولكن في الحقيقة أن الرب عندما يأتي سيزدري بالجبل وسيقلب الهيكل، لأنه سيعلمنا كل شيء حتى نعرف كيف نعبد بالروح والحق، لقد علمت المرأة من هو الذي يمكنه أن يعلمها، ولكنها لازلت تجهل ذاك الذي كان يعلمها، ها هي قد استحقت الآن أن تقبل ظهوره وإعلان ذاته لها، الآن قد مُسح المسيا لأن كلمة "ممسوح" باليونانية تعني "المسيح" وفي اللغة العبرية "مسيا"
قال لها يسوع: (أنا الذي أكلمك هو) الآن بدأ إيمان المرأة يتكون ويثبت ويسود على قلبها لكي تبدأ أن تعيش باستقامة، وذلك لأنها استدعت زوجها، فبعد أن سمعت: (أنا الذي أكلمك هو) ماذا تحتاج أن تسمع أكثر من ذلك؟ لقد شعر الرب إنها مستعدة لأن تؤمن، فبمشيئته أعلن ذاته لها (وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة) أتتعجبون من كون ذاك الذي جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك يطلب الآن نفس السامرية؟ لقد تعجبوا من صلاحه ولم يتوقعوا منه أمرًا فيه خطيه(ولكن لم يقل أحد ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها وللحال (تركت المرأة جرتها) بمجرد أن سمعت أنه المسيا، لأنها بمجرد أن قبلت المسيح الرب في قلبها فماذا يمكنها أن تفعل سوى أن تنزل جرتها وتسرع لتبشر بهذه البشارة المفرحة؟ لقد ألقت عنها شهواتها وأسرعت لتعلن الحق، فليتعلم من يريدون أن يبشروا بالإنجيل أن يلقوا عنهم جرارهم عند البئر.
هكذا تركت المرأة جرتها التي لم تعد في حاجة إليها بل أنها صارت ثقلًا عليها لأنه بهذا القدر صار تلهفها على الارتواء من الماء الحي، وإذا ألقت حملها عن كاهلها وصارت قادرة أن تُعرف الناس بالمسيح: (مضت إلى المدينة وقالت للناس هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت) وقد جاء إعلانها لهم ودعوتها هذه بالتدريج لذلك اندفعت قائلة بصيغة الاستفهام: (ألعل هذا هو المسيح؟ فخرجوا من المدينة وأتوا إليه) (وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين: يا معلم كُل) لأنهم (كانوا قد ذهبوا إلى المدينة ليبتاعوا طعامًا) ورجعوا (فقال لهم أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه انتم فقال التلاميذ بعضهم لبعض: ألعل أحد أتاه بشيء ليأكل) إذًا فلا نتعجب من أن المرأة لم تفهم كلام الرب عن الماء فها هم تلاميذه أنفسهم لم يفهموا معنى الطعام، ولكنه علم بأفكارهم، وهو الآن يعلمهم كسيد، ليس عن طريق غير مباشر كما فعل مع المرأة عندما كان يطلب زوجها ولكنه قال لهم مباشرة معلنًا: (طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني واتمم عمله) وقياسًا على ذلك فإن شرابه الذي طلبه من المرأة كان هو أن يعمل مشيئة الذي أرسله. وهذا هو سبب قوله: (أعطيني لأشرب لأني عطشان) ومعنى ذلك بالتحديد هو: أن يعمل الإيمان به وأن يشرب هو من إيمانها، بل وأن يطعمها في جسده. لأن جسده، هو الكنيسة.
* ها الحقول قد ابيضت للحصاد:

(أما يقولون أنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد؟) لقد كان الرب متلهفًا على العمل وكان يعد لإرسال فعلة، وكأنه يقول لهم "إنني أريكم حصاد آخر قد ابيض وصار جاهزًا للعمل".
(لذلك ها أنا أقول لكم ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد).
لقد كان على وشك أن يرسل الحاصدين، (أنه في هذا يصدق القول أن واحدا يزرع والآخر يحصد لكي يفرح الزارع والحاصد معا. إذا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه، آخرون تعبوا وأنتم دخلتم على تعبهم). لقد أرسل الحاصدين، أليس هو أيضا الذي كان أرسل الزراع؟ فإلي أين يذهب الحاصدون إذا؟ بالطبع إلي حيث تعب الآخرون "الزراع"، لأنه حيثما وجد تعب وجهد مبذول فلابد أن يكون هناك زرع، وما زرع قد صار الآن ناضجا ويحتاج إلي منجل الحصاد وآله الدرس، فإلي أين ينبغي إرسال الحاصدين؟ إلي حيث كان الأنبياء قد كرزوا لأنهم كانوا هم الزراع. لأنه لو لم يكونوا هم الزراع فمن أين عرفت السامرية: (أنا أعلم أن مسيا يأتي)، لقد صارت تلك المرأة ثمرة ناضجة والحصاد قد أبيض في الحقول ويحتاج إلي المنجل ولكن لاحظوا يا أخوة ما قاله الرب: (لكي يفرح الزارع والحاصد معا) أن تعب كل منهما يختلف عن الآخر ولكنهما سيبتهجان بفرح متساو لأن كلا منهما سيأخذ أجرا واحدا هو الحياة الأبدية، يسوع هو ماؤنا، يسعي لخلاصنا ويذهب إلي البئر، ليجعلنا خادمين معه نفعل مشيئة أبيه.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:38 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الأحد الخامس للصوم الكبير | أحد المخلع

عندنا ثلاث آحاد: أحد المخلع، أحد السامرية، أحد المولود أعمي، فيها شيء أساسي مشترك هو التأكيد والتشديد على أن المسيح هو ابن الله، ولابد أن نلتفت إلي أن يوحنا الإنجيلي الحبيب عندما تحدث لم يقل شيئا عفوا، لكنه تحدث عن المخلع وبركة الماء، وعن السامرية وبئر الماء أيضا، وعن المولود أعمي وبركة سلوام، إذا: ماء، ماء، ماء، ولا حاجة بنا أن نذكر أنه خلال ماء المعمودية نجد طريق الخلاص، وفي هذه الآحاد الثلاثة يضعنا الإنجيلي أمام المخلص إلها خالقا، ويضعنا أمام كون لا يزال في حاجة إلي الخلق.
ليتنا ندرك نظرة ربنا إلينا، نظرته الرحيمة المخلصة، نظرته الحانية، أنها ليست نظرة عادية كما ينظر الناس، بل كما هو مكتوب (الإنسان ينظر إلي العينين، أما الرب فينظر إلي القلب)، ونظرة الرب تحتوي على كل مشاعر الأبوة نحونا.. تلك النظرة التي جعلته يتحنن على التي أمسكت في ذات الفعل، والتي جعلته يتحنن على زكا، تلك النظرة التي تطلعت إلي بطرس الرسول بعد أن أنكر.
تري أية نظرة هذه التي يوجهها الرب نحو هذا المريض الملقي على الفراش لمدة 38 سنة، وقد أوضح الرب بعد ذلك ان الخطية هي السبب الرئيسي لهذا المرض المضني (لا تعود تخطئ). ومن المؤكد أن الرب نظر إليه نظر إليه نظرة السامري الصالح وهي نفس النظرة التي نظرها يسوع لأرمله نايين.
أن منظرنا ونحن منطرحين على فراش المرض، وشلل الأعضاء عن العمل الروحي وعدم القدرة على السير في طريق الفضيلة، أو تحريك اليدين للصلاة، أو الرجلين للسجود، أو العينين في النظر إلي فوق، وفقد كل مقدرة على الحركة نحو الله، هنا الشلل الروحي يثير شفقة الرب نحونا جدا، فيوجه إلينا نظرة وحنان مملوءة شفاء ويقترب منا ليقول (أتريد أن تبرأ).

فالسيد لا يسألنا عن حالنا في الخطية، ولا يثير أسئلة كثيرة عن المرض، لكنه يتكلم مباشرة عن الشفاء وعن أدوية الخلاص.. أنها قضية خلاصنا وأرادتنا، هو جاء ليخلصنا ولكن ليس لنا أن نتمتع بشيء من كل من كل هذا إلا بإرادتنا الخاصة وقبولنا واستجابتنا وجهادنا، فإرادة الإنسان هي المسئول الأول.. فالمسيح لا يغصب أحد ولا يضغط على أحد، واقف يقرع على الباب، بل العكس قد جاء خصيصا ليمنحنا حرية إرادتنا التي أستعبدها الشيطان.. فالإنسان له أرادة الشفاء، والشفاء الحقيقي هو أن تقبل إرادتنا عمل نعمة المسيح الفادي وقوة خلاصه المحيي، حينئذ تصبح إرادتنا مقدسة وقوية بالمسيح قادرة على هدم حصون الشرير والخطية، وتصبح مشيئة الله فينا هي مسرتنا وإرادتنا لأنه هو العامل فينا أن نريد وأن نفعل، وهذا التوافق في أن تصبح مشيئة المسيح وإرادته هي ما نريده نحن، هو تمتعنا بالشفاء والخلاص والسلام، لذلك نصلي (لتكن مشيئتك)..
وفي هذه المعجزة (معجزة شفاء مفلوج بركة بيت حسدا) صورة حية لعمل السيد المسيح داخل الكنيسة، أنه الطبيب الحقيقي الذي لأنفسنا وأجسادنا وهو مدبر كل ذي جسد وهو الذي يتعهدنا بخلاصه، إذ يغفر الخطايا واهبا النفس الشفاء متمتعة بالبنوة لله وبأبوة الله لها، وفي هذا نجد مثالا لأنفسنا الراقدة المريضة وقد خارت قواها، وها هي تتقدم في الأحد الخامس من الصوم إلي الطبيب الكامل ليهبها الشفاء، بعد استعدادها وطلبها للملكوت وبعد غلبتها ورفضها المشورة الشريرة، وبعد توبتها ورجوعها إلي بيت الآب، متمتعة بالماء الحي الذي من يشربه لا يعطش أبدا.
لقد شفي الرب أولًا جسد مفلوج بيت حسدا (يوحنا 5)، ثم طالبه ألا يخطئ بعد أنه محب البشر الذي يقدم لكل ابن ما هو لبنيانه، يتعامل مع كل مريض حسب ما يتناسب معه، وهذا المفلوج الذي له 38 عاما في المرض ليس له من يسنده ولا من يعينه، تحطمت نفسه، فهو محتاج إلي مجيء السيد إليه، وشفاء جسده وحياته الداخلية.
وهوذا مرض بيت حسدا يصرخ اليوم يشكو من أنانية الإنسان (ليس لي إنسان)، ولكن في الوقت الذي يتخلي فيه الجميع، نجد الرب واقفا يحمل أمراضنا ويتحمل أوجاعنا،هو أقرب من الصديق، قريب للذين يدعونه، ينصف مختاريه الصارخين إليه، يأتينا في الهزيع الرابع وبعد 38 سنة لأنه رجاء من ليس له رجاء ومعين من ليس له معين، يسعي وراء الرافضين (السامرية)، يذهب إلي المقيدين (المفلوج)، ويعلن ذاته حتى لغير المؤمنين (المولود أعمي) إنه الخادم الحقيقي.
فلا يأس ولا فشل بعد، لقد قام المخلع وحمل سريره بعد 38 سنة مرضًا، بعد 38 شللًا وخطية، ولنسحب أنفسنا مع أصحاب الساعة الحادية عشر، لأنه ليس في المسيحية شيخوخة ولا يأس، بل أمل متجدد، أنها لا تعرف التوقف أبدا أنها جديدة في كل صباح وهي من دور إلي دور.
ولنردد قائلين:
طبيب الرواح ساكن فينا
بعلاجه الشافي يداوينا
فلنسأل منه أن يعطينا
مرهما يشفي الجراحات
غناك يا نفسي عند فاديك
فهو من الأسقام يداويك
كمريض بيت حسدا يشفيك
من آلام الخطايا والمعصيات

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:40 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الأحد السادس للصوم الكبير | أحد المولود أعمى | أحد التناصير


** الأحد السادس للصوم الكبير (أحد المولود اعمي) (يوحنا 9)
* أحد التناصير
* كنت أعمي والآن أبصر
* وفيما هو مجتاز رأي إنسانا أعمي منذ ولادته
* رؤية المسيح
* لكي تظهر أعمال الله فيه
* بركة سلوام
* لنسأل أنفسنا
* المعمودية هي النور والبصيرة
* أحد التناصير

لقد كان الغرض الرئيسي من الصوم الأربعيني الكبير في عصور كنيستنا الأولي هو تعليم الموعوظين أي المؤمنين الجدد بالمسيح، وتهيئتهم لنوال نعمة المعمودية، وحينما اختفى نظام الموعوظين، بقي المعني الأساسي للصوم الكبير كما هو، فرغم أننا معمدون إلا أننا في أغلب الأحوال نفقد قوة الحياة الجديدة التي سبق فنلناها في جرن المعمودية، ولذلك فإن المنهج الكنسي اليتورجي والفكر التعبدي للكنيسة جعل من فترة الصوم الأربعيني المقدس فرصة رجوع من جديد إلي هذه الحياة الإلهية التي وهبها لنا المسيح ونلناها منه في المعمودية لأننا نسينا قوتها وفاعليتها وقيمتها وسط اهتماماتنا وانشغالنا وسط مشاغل هذا العالم.
وأنجيل قداس الأحد السادس (أحد التناصير) هو إنجيل النور إنجيل المولود أعمي الذي خلق له المسيح البصر من جديد ونجد أن الكنيسة الواعية الملهمة بالروح تضع إنجيل (أحد التناصير) (أحد المولود أعمي) ضمن قراءات الصوم الكبير إذ معروف في طقس الكنيسة أنها في العصور الأولي ربطت بين إنجيل المولود أعمي وبين طقس المعمودية ربطًا شديدًا، ويوجد في سراديب روما التي من القرن الثاني نقوش بالفريسكو لإنجيل المولود أعمي تحت عنوان المعمودية كشرح لعملها السري، كذلك يربط الآباء جميعا بين إنجيل المولود أعمي وطقس المعمودية في عظاتهم مثل القديس أمبروسيوس في المقالة على الأسرار.
ورؤية الله هي هدف رحلة الصوم، والكنيسة تطالبنا بالرؤيا الروحية من خلال إنجيل المولود لأن بنقاوة القلب نعاين الله وهذه هي ثمار الصوم المقدس.
* كنت أعمي والآن أبصر

أن تبدأ عيون قلوبنا الروحية تري الله تري إرادته، تري أحكامه وأعماله، عندئذ نثبت نظرنا في المسيح ونسجد له كما فعل المولود اعمي.
وهكذا يقودنا الفكر الليتورجي الكنسي خلال فترة الصوم إلي الاستعداد + التواضع والمحبة وصلاة المخدع.
قبول التجربة لأن السيد المسيح أنتصر لحسابي + المياه الحية التي تشبع النفس التي كل من يشرب منها لا يعطش + حتى نصل إلي رؤية الله بقلب مفتوح ومعاينة المسيح وتجديد البصيرة الروحية ونوال بركات مفاعيل المعمودية وخيراتها ثم مشاركة المسيح في آلامه في أسبوع البصخة.
ويمر أمامنا في هذا الإنجيل، المسيح رب المجد نحن الذين فقدنا البصر الروحي لكي يخلق لنا يخلق لنا قلبا جديدا وعيونا جديدة وبصيرة مستنيرة لنري بها ملكوت الله، ونحن لا يمكننا أن نبصر المسيح ونعرفه حقا إن لم نذهب ونغتسل فيه هو الذي يهب الحياة، لأنه غير ممكن أن نغتسل مرة أخري عن طريق المعمودية -لأننا سبق أن اعتمدنا باسمه- فاغتسالنا الآن في المسيح إنما هو تطهير التوبة والانسحاق كما نردد في ليتورجيات الكنيسة في الصوم (أخطأت أخطأت يا ربي يسوع المسيح أغفر لي لأنه ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا مغفرة).
فالتوبة معمودية ثانية نستعيد بها هبة الحياة الجديدة التي سبق أن أعطاها لنا السيد المسيح في معموديتنا، فنؤهل بالتوبة خلال فترة الصوم لنتذوق فرح قيامته.
ويتضح من عظات القديس كيرلس الأورشليمي للموعوظين وأيضا القديس جيروم أن الصوم الأربعيني كان يخصص ليشرح قانون الإيمان بنوع خاص حتى يقبل بعدها الموعوظين الذين هم "جنود الرب الجدد" بحسب تعبير العلامة ترتليان إلي دخول شركة الكنيسة بالمعمودية فيكونوا من المستنيرين، لذلك خلال الصوم الكبير كان الموعوظ يذهب إلي الكنيسة ليتلقي التعليم استعدادًا للمعمودية ولطقس جحد الشياطين والكنيسة كلها تشترك في الصوم مع الموعوظين الذين يتلقون التعليم لأعدادهم لنوال نعمة المعمودية وهذا ما يؤكده كلا من الشهيد يوستينوس والعلامة ترتليان وأيضا القديس كيرلس الأورشليمي والقديس أغريغريوس النيزنيزي.

من أجل هذا كان الفكر الليتورجي والمنهج الكنسي التعبدي وقراءات الكنيسة يعطي اهتماما كبيرا في الصوم الكبير لموضوع تجديد النفس ودعوة الإنسان إلي الله وهو الهدف الذي تبرزه روحانية كنيستنا الأرثوذكسية الشرقية أثناء الصوم الأربعيني.
وكما كان الصوم الأربعيني في القديم يعد الموعوظين لنوال نعمة المعمودية هكذا كنيستنا خلال فترة الصوم ترجع كل نفس وتأتي بها عند المعمودية لتدرك النعمة الإلهية.
واليوم في إنجيل الأحد السادس من الصوم الكبير (إنجيل المولود أعمي) في أحد التناصير تبرز لنا الكنيسة أن عطية المعمودية هي عمل إلهي هي ولادة ثانية، هي مسحة داخلية من الروح القدس هي استنارة وخلاص وختم وختان للعهد الجديد وهذه كلها أسماء لاهوتية أطلقها آباء الكنيسة على المعمودية فعكست هذه الأسماء قوتها وفاعليتها.
ونجد أيضًا أن القديس كيرلس السكندري قام بتفسير معجزة المولود أعمي طقسيا وليتورجيا.
* وفيما هو مجتاز رأي إنسانا أعمي منذ ولادته

لأن ربنا يسوع المسيح مملوء بالحب للإنسان ومهتم بخلاص النفس، كان يجول يصنع خيرا ولم يتأخر عن أي عمل من أعمال الرحمة، فصنع آية غير عادية حتى إن المولود أعمي شهد وقال بعد أن أبصر: (منذ الدهر لم نسمع أن أحدا فتح عيني مولود أعمي).
لقد أبصر السيد الأعمى فذهب إليه ليخلصه من العمي، أنه يبحث عن الخروف الضال ويفتش عن الدرهم المفقود وينتظر رجوع الابن الشارد، ويسعي وراء السامرية، ويشفي المخلع، واليوم يخلق البصر من جديد للمولود أعمي (المسيح الخادم).
وهكذا رتبت أمنا البيعة الأرثوذكسية في الأحد السادس من الصوم الكبير (أحد المولود أعمي) لكي تنبه أذهاننا بأن المخلص قام بالمعجزة دون أن يطلب منه أحد، أو حتى دون أن يترجاه أحد لقد قرر أن يشفي المولود أعمي، وهذه المعجزة ترينا جموع الأمم التي لم تترجي الله رغم أنهم كانوا خطاة ولكن الله بالطبيعة صالح، بإرادته وحده جاد وأظهر رحمته ناحيتهم، لقد أظلمت عقولهم بظلمة كثيفة جعلتهم غير قادرين على رؤية النور الحقيقي.
وهذا ما نراه بوضوح لأن الرجل الذي شفي كان مولودا أعمي فهو لا يعرف ولا يقدر على رؤيته ولكنه بعمل محب البشر حصل على رجاء عظيم، وهذا ما حدث للأمم بالمسيح يسوع.

لقد حدثت هذه المعجزة في يوم السبت آخر أيام الأسبوع لأن الابن الوحيد ربنا يسوع سكن بيننا وأعلن ذاته للكل في نهاية الزمن وآخر الدهور، ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعتها.

أنه محب البشر الصالح الذي لا يشاء موت الخاطئ مثل ما يرجع ويحيا الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون، وهكذا تجذب الكنيسة أنظار المؤمنين في الصوم إلي المسيح الذي صام ليقدس صومي ويكمله (صام عنا) الذي أنتصر على جبل التجربة لحسابي ومن أجلي، الذي يتعطف على الخطاة ويقبل الراجعين مع الابن الضال إلي الأحضان الأبوية، تشد ألحاظ المؤمنين إلي المسيح الذي تعب ومشي وسعي وراء السامرية ليخلصها ويحولها إلي مبشرة وكارزة بعد أن كانت كارثة.
واليوم تشد ألحاظ المؤمنين إلي المسيح الخالق المحب الذي خلق أعين للمولود أعمي وأعطاه البصيرة الروحية وما صار المسيح رب المسيح رب المجد إلا عني ليكمل ضعف صومي (صام عنا) وما الخروف الضال إلا أنا وما الدرهم المفقود إلا أنا وما الابن الضال إلا أنا وما السامرية إلا أنا وما هذا الأعمى إلا أنا، يا لها من كنيسة عظيمة تلك التي رتبت لنا هذه المائدة الدسمة الغنية بالقراءات والألحان والعبادات لتسد جوع الجسد بشبع الروح.
* رؤية المسيح

الإنسان بعد أن خلقه الله ليحيا في النور ويري النور سقط بالعصيان وصار في الظلمة أي فقد الإمكانية الداخلية لرؤية نور المسيح نفسه، لذلك يقول المسيح عن نفسه أنه النور الحقيقي الأتي إلي العالم وهذا الإنجيل (المولود أعمي) هو إنجيل نور العالم وإنجيل أبناء النور.
أن عيوننا الروحية قد أصيبت بالعمى فلم تعد تري الله أو تحس به من أجل هذا تجسد المسيح ليشفي عيون البشر الداخلية من العمي (نورا تجلي للأمم) وفي إنجيل المولود أعمي (يو 9) يقدم لنا السيد صورة محسوسة لشفاء عيني الإنسان عموما من العمي، لقد تفل السيد المسيح في التراب كالفخاري العظيم الذي يعيد تشكيلنا من جديد بواسطة يده الإلهية البارعة،لقد خلق السيد المسيح أعين جديدة فنقل المولود أعمي من ظلمة العمي إلي نور النظر إشارة وتأكيدا للوضع الروحي (النور أضاء في الظلمة) وهو جعل الذي كان بلا عين أصلا منذ ولادته الأولي يبصر.
وهنا يظهر المسيح القادر أن يعطي حواسا جديدة للإنسان، حواسًا جديدة على المستوي الجسدي وعلي المستوي الروحي أيضا، ينقلنا من الضعف إلي القوة ومن النقص إلي الكمال ومن الظلمة إلي النور، ومن الضلالة والعبودية إلي حرية مجد أولاد الله.
* لكي تظهر أعمال الله فيه

لقد أعاد الرب للمولود أعمي بصيرته.. مظهرا عمله لتظهر أعمال الله فيه، إن الرب إلهنا هو الطبيب الذي يشفي طبيعتنا ويصحح حياتنا لكي يظهر قوته الإلهية ومن الذي يقدر أن بخلق أعين للمولود أعمي إلا الله الكلمة، لقد قال الرب عن نفسه (لتظهر أعمال الله فيه) وهنا نري أن المسيح رب المجد يتكلم عن نفسه، وعن أعماله.
لأنهم سمعوا أن الله حينما خلق الإنسان أخذ ترابا من الأرض لذلك أيضا صنع المسيح طينًا وبالرغم من انه لم يكن محتاجا للمادة عند خلق العينين ولكنه فعل ليعرفنا بذاته أنه هو الخالق منذ البدء لأنه خلق أعين من جديد وكأنه يقول: أن هو الذي أخذت التراب من الأرض وصنعت الإنسان، فلو كان قد قال ذلك لظهر كلامه صعبًا على السامعين أن يصدقوه لذلك أراد أن يريهم ذلك بالعمل، فاخذ التراب وخلطه بالتفل فأظهر بذلك مجده المخفي وأظهر ألوهيته.
فلم يكن هينًا أن يعتبروه خالقًا ولكنه بخلقته للعينين أثبت أنه خالق الكل، خلق العينين بذات الطريقة الأولي التي خلق بها الإنسان.
ولما كانت العين سراج الجسد، من أجل هذا نحن نطلب من الرب يسوع خالق الكل أن يهبنا الأعين الروحية المستنيرة والبصيرة الحية كما صنع مع المولود أعمي في هذا اليوم لأنه قادر أن يتمجد في الضعف، لذلك كل الأمور التي حولنا مهما كانت صعبة تجارب، أحزان، بلايا، أمراض، فشل، مضايقات، اضطهادات، لنثق إنها ستؤول لمجد الله..
لقد قال السيد (يجب أن أعمل مادام نهارًا).
إن عمل المسيح أن يتمم مشيئة الآب السماوي الذي أرسله، لذلك هو يعمل في النهار حيث النور والإيمان والاجتهاد والتوبة.
أن الله يعمل في أبناء النور وفي أبناء النهار، أبناء المعمودية الذين يقبلون الكلمة، فلنقبل الكلمة الموضوعة على المذبح الجسد والدم، ولنقبل كلمة الله التي نسمعها من المنجلية لنسلك في النهار وفي النور لأن إلهنا لا يسكن إلا في النور، لأنه هو النور الحقيقي الآتي إلي العالم، كل من يعيش بعيدًا عنه ينطرح في الظلمة الخارجية.
إن الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا، لنبصر النور، ولنعاين النور، ولنعمل أعمال النهار، ولنسير في النور، نور الحياة الجديدة نور الوصية ولا نسلك في ظلمة الخطية القاتلة للنفس، ولا في ليل العدو الشرير.
ولنخبر بفضل الذي دعانا من الظلمة إلي نوره العجيب فنكون كمصباح منير في موضع مظلم إلي أن ينفجر نور النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبنا.
فها هو المولود أعمي، ونحن جميعا معه نولد عميان ليس لنا مقدرة على رؤية الله بسبب الفساد الذي دخل طبيعتنا منذ سقوط أبينا آدم ولكن لصلاح الله ومحبته، يتقدم المسيح من نفسه دون أن يطلب منه أحد، ليخلق البصر للمولود أعمي، بل ويعلن أنه ينبغي أن يعمل أعمال الرب لكي تظهر في هذا الرجل قائلا (مادامت في العالم فأنا نور العالم) والطريقة التي شفي بها المسيح رب المجد المولود أعمي تشير إلي طريقة إعطائنا البصر الروحي الذي به نستطيع أن نراه (بنورك يا رب نعاين النور) وهنا المسيح يعلن لنا عن ذاته ويصالحنا مع الله، وفي هذه المعجزة يقدم لنا نفسه شافيا لعين الجسد التي لإنسان مولود أعمي لكنه في ذات الوقت يقدم نفسه للعالم والعميان بحسب الروح وللجالسين في الظلمة وظلال الموت لأن معرفة المسيح هي معرفة النور وكل من يتبعه لا يمشي في الظلمة وتلك هي بركات المعمودية وخيراتها في حياتنا لذلك من تدابير كنيستنا المقدسة أن يقرأ هذا الفصل من إنجيل المولود أعمي في يوم اقتبال نفوس كثيرة لنعمة العماد لكي ندرك أسرار ملكوت الله.
والنور في اللاهوت الأرثوذكسي مرتبط صميما بالحب والحق والفرح والحياة والنهار والسلوك بلا ميل ولا عثرة، أننا أبناء نور وأبناء نهار وأبناء قيامة.
* بركة سلوام

أن الاغتسال من بركة سلوام إشارة إلي المعمودية باسم المسيح وقد ذكر الإنجيل أن سلوام تفسيرها أي معناها "مرسل" أي أن الاغتسال من المعمودية هو اغتسال في المسيح أبن الله المرسل من الآب لخلاصنا.
وبدون المعمودية لن تكون لنا الأعين الروحية لكي نري نور الله، وهذا الإنجيل الذي تقرأه الكنيسة يوم أحد التناصير يوم تعميد الداخلين الجدد في الإيمان يجعل تفتيح عيني المولود أعمي مذكرا لكل مسيحي معمد بالنور الذي أعطاه لنا المسيح بتجسده ومجيئه وصليبه وقيامته، وإن الكنيسة تذكرنا في الأحد السادس من الصوم أننا نلنا نور البصر الروحي في المعمودية.
ومجرد الاغتسال من بركة سلوام الذي تفسيره مرسل إشارة تتجه نحو المسيح نفسه مباشرة، أي أن الاغتسال في بركة سلوام سر فاعليته من صميم رسالة المسيح.
وكذلك معروف أنه في عيد المظال هذا الذي صنع فيه المسيح معجزة المولود أعمي كان يعمل فيه طقس تذكار الصخرة (الصخرة كانت المسيح) (1 كو 10: 4) حيث كان رئيس الكهنة يملئ بنفسه جرة فضية -عوض الصخرة في برية سيناء- من ماء سلوام ويصبها على المذبح، فماء سلوام هو المسيح نفسه الذي يقدس ماء المعمودية لكي يعطينا الحياة والاستنارة والحواس الجديدة التي من فوق فنؤهل لرؤية الملكوت وقبول الأبدية.
وإنجيل قداس المولود أعمى يشرح لنا عمل المسيح في المعمودية بصفته النور والحياة في ماء سلوام، وماء المعمودية هو لنا جميعا ماء سلوام الروحية، ماء المرسل ماء المسيح الماء الحقيقي الحي، الذي يعطي الحياة الجديدة والبصيرة السمائية وموهبة الحياة الجديدة والاستنارة لأنه هو مصدر الحياة ومصدر النور.
فتأخذنا الكنيسة إلي عمق الفكر الليتورجي لكي نراجع حياتنا وقلوبنا من جديد وننظر إلي هدف حياتنا ببصيرة روحية واعية مستنيرة خلال ربيع السنة الروحية في الصوم الكبير.
* لنسأل أنفسنا:

هل نحن نتمتع بإشراقة نور المسيح؟
هل نحن نعيش بركات المعمودية؟
لقد أعطانا المسيح أن ننال معرفة الثالوث القدوس الواحد في الجوهر، وأعطانا أن نكون شركاء جسده وإن نجحد الشيطان ومملكته في المعمودية المقدسة.
سلوام صورة المعمودية المقدسة التي بها نصير بنين مخلصين ووارثين ومجددين ولابسين ثياب البر، نتعرف على شخص المسيح الذي يهبنا الولادة الجديدة بالمعمودية لأنه هم المرسل، ولأنه هو الذي يقدس الأسرار، نتعرف عليه في سلوام (جرن المعمودية) سابحا بطريقة غير منظورة فوق سطح مياه المعمودية المقدسة لنغسل التلوث والنجاسة التي في عيون الذهن، وننظر الجمال الإلهي بنقاوة ومحبة الصلاح.
لقد أسرع الرجل الأعمى ليغتسل من بركة سلوام الروحية التي نتقابل معها في جرن المعمودية، لقد خلق السيد أعين للمولود أعمي دون أن يطلب، يا للعجب أن مسرة قلبه أن نعيش فيه ونري النور، لقد جاء من أجل الجميع من أجل الضالين والخطاة والمشتتين والعمي ومن أجل الشحاذين والعميان.
أن الكنيسة تأخذنا اليوم في الأسبوع السادس من الصوم الكبير أحد التناصير (المولود أعمي) إلي رؤية المسيح ومعاينة النور الإلهي في داخلنا.
* المعمودية هي النور والبصيرة

البصيرة الجديدة التي وهبها لنا الله في مياه المعمودية، البصيرة الروحية التي تقبل أعمال الله في الأسرار بلا مجادلة ولا شرشرة، البصيرة الروحية التي بها نستطيع أن نري جيش الملائكة النورانية، ونعيش في شركة الثالوث القدوس وفي شركة السمائيين، فنتأكد أن الذين معنا أكثر من الذين علينا.
تلك البصيرة الروحية التي أخذناها في المعمودية لنستطيع بها أن نقول أننا ناظرين إلي الرب بوجه مكشوف، تلك المعمودية التي أهملناها وحولنا أنظارنا إلي العالم والمشتهيات والأباطيل، ولا نعود نعرف حقيقة ضعفنا.
أن توبتنا هي معموديتنا المتكررة التي نسترد بها بصيرتنا واستنارتنا لنعرف الطريق التي نسلك فيها.
وكما أن الذين يتعمدون يعانون من الضيق والاضطهاد والآلام، كذلك كل الذين يدعي عليهم أسم ربنا يسوع المسيح أبناء المعمودية يتضايقون ويتعيرون، وهكذا نري في قصة المولود أعمي أنه بعد أن فتح الرب عينيه أصطدم بمقاومات ومحاكمات من الفريسيين ومن رؤساء الكهنة فالشيطان يرصد حركاتنا لأنه عدو الخير وعدو أولاد الله فيهيج من حولنا ويثير الناس ونجد أن الفريسيين الذين شاهدوا المعجزة، أدانوها واحتقروها لأنهم كانوا عميانا بسبب الحقد والكراهية، أما المولود أعمي فقد كشف الرب بصيرته فشهد للحق، ويكفي إنه قال:
أنا أعلم إنني كنت أعمي والآن أبصر.
لقد كان هذا الرجل مولود أعمي وأبواه أيضًا، والكلمة هذه تتكرر المرة في القراءة الإنجيلية في (أحد التناصير) لقد أبصر مستنيرا بعد ظلام وعتمة طويلة، لكن اليهود أخرجوه خارجًا، فوجد المسيح ينظره خارجًا وكفاه.
وكل من استنار وأبصر يسلك في النور بروح القيامة متحدثا عن فضائل ذلك الذي دعانا من الظلمة إلي نوره العجيب، وها قد تركنا كل شيء وتبعناك مع هذا المولود أعمي، لنشهد بعمل الله ونخبركم بكم صنعت بنا ورحمتنا ولسان حالنا أننا لا نعرف شيئا إلا أننا كنا عميان والآن نبصر.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:41 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الأحد السابع للصوم الكبير | أحد الشعانين

أحد الشعانين هو احد الأعياد السيدية الكبرى السبعة (أحد السعف)، وتصلي الكنيسة باللحن الشعانيني، ذلك اللحن والنغم والوزن الروحاني الخصب الذي يلهمنا ويقربنا من حدث دخول السيد المسيح ملكًا في هذا اليوم، وهذا اللحن والنغم الشعانيني الذي وضعه طقس الكنيسة الليتورجي لأحد الشعانين يجعلنا جسدًا واحدًا يتجاوب مع الحركة والانفعال الروحي، ويعدنا ويفتح أذهاننا لقبول كلمة الوعظ والتعليم، وعندئذ نحيا هذا الحدث الخلاصي سرائريًا ونشترك فعليًا في حياة المسيح مخلصنا الذي علمنا طرق الخلاص، فتصير حياة المسيح عريسنا السماوي لا مجرد تذكارات وأحداث وقعت في الماضي نجتمع لنتذكرها ونحتفل بها، بل هي حياتنا وخلاصنا ورجاؤنا كلنا، نعيشها ونتذوقها ونشعر بها ونتلامس معها، وهنا تكمن حيوية كنيستنا وخبرتها الداخلية التي تجعلنا مسيحيين ومسحاء نولد بالمعمودية وننمو بالأسرار، ولما كانت الكنيسة هي أمنا لذلك فهي تشير لنا دائمًا إلى أبوه المسيح لنا، وألحان الكنيسة العذبة التي ألفها الروح القدس بكل إبداع روحي وقدسي وأثرى الكنيسة بها منذ أجيالها الأولى، تجعلنا نعيش في أحد الشعانين، دخول المسيح لا إلى أورشليم ولكن إلى قلوبنا وحياتنا. لا كملك عليها (أي أورشليم) بل ملك على قلوبنا وحياتنا.
فتنتعش حياتنا بالنعمة ومشاعر التوبة والتقديس، وما هذه الإلحان والتسابيح إلا دموع القديسين وشركة النساك وتسبيح المتوحدين التي ادخرتها لنا أمنا البيعة الأرثوذكسية نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور.
ونحن في هذا اليوم نسير(الكنيسة كلها) في موكب دخول المسيح لأورشليم نطوف بتهليل قلب مقدمين ذبيحة التسبيح ثمار شفاه معترفة باسمه ونعلن ملكوت المسيح ربنا، فنبارك الرب ربنا وملكنا لأنه ليس الأموات يسبحونك يا رب..

ولما كان هذا اليوم عيد سيدي كنسي، جعلت له الكنيسة طقس خاص به، نتقدم فيه إلى المسيح (مسيح الكنيسة) مؤكدين بنوتنا له مبتهجين بأبوته وبالوزن الشعانيني الذي يبتهج به القلب مقدمًا كل مشاعره وأحاسيسه وحبه للملك الجديد، فنستعيد به وحدة سلامنا وندخل إلى المصالحة مع السماء بل نصير نحن سماء، إنها ترجمة تعبيرية لحالة التهليل والتسبيح التي تعبر عن حالة الكنيسة التي بدأت بالاستعداد فالتجربة فالابن الشاطر فالسامرية فالمخلع فالتناصير فالشعانين، إنها أيضًا التعبير عن مجيء المسيح وخلاص العالم..
إنها صرخة التلهف نحو الله والتمجيد للجلال والمجد الإلهي ونحن حاملين في أيدينا سعف النخل والورود والأيقونات أثناء زفة أيقونة دخول المسيح أورشليم، ويا لها من دورة توصل وتؤصل الحدث في قلوبنا نحن المؤمنين في كل كورة مصر وتأتي الصلوات والقراءات والألحان والقطع والمدائح كتعبير عن الفرح الروحاني الذي ليس من هذا العالم والذي يجعلنا ننفتح على أشعة شمس البر المشرقة، نحو عريسنا الإلهي الذي نقدم له ذاتنا بالكلية، ونصحبه على مدى سني حياته الأرضية بلوغًا إلى المجد السماوي، نتقدم للشمس التي لا مغيب لها شمس بهجتنا واستقرارنا وطوباويتنا نعبده ونسبحه كما بصوت صادر من الظلمة إلى النور ومن المريض إلى الطبيب الشافي يسوع الملك الذي دخل اليوم ملكًا إلى أورشليم وهو سيد الحياة وواهبها، صلاة من الفقر والعوز إلى ذاك الذي يملأ الكل، إنها تسابيح الفرح والرغبة الملحة في التحرر من قيود الزمان والمكان تطلعًا إلى المجال الإلهي والحياة النورانية حينئذ نرى جلال الموكب الإلهي ويسوع داخل أورشليم ملكًا، ملكًا على سلوكنا فنفعل ما يرضيه أمامه، ملكًا على قلوبنا فلا نعرف آخر سواه، ملكًا على حواسنا فلا نحب العالم ولا شهوات العالم، ملكًا على حياتنا فلا نحيا بآخر سواه، به نحيا ونوجد ونتحرك، مستأثرين كل فكر لطاعة المسيح يسوع.
اليوم الجالس على الشاروبيم ركب على جحش ووصل إلى أورشليم- من أفواه الأطفال والصغار الرضعان أعددت سبحًا بإرادتك يا رب- لا تخافي يا ابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك راكبًا على جحش- اليوم كملت النبوات قومًا اخذوا سعف النخيل وأغصان الزيتون وآخرون فرشوا ثيابهم في الطريق أمامه قائلين (أوصنا يا ابن داود مبارك الآتي باسم الرب، هوشعنا لابن داود في الأعالي لملك إسرائيل) وكلها قطع وذكصولوجيات وضعتها الكنيسة تأخذنا في رحلة أورشليم وتشركنا في موكب المسيح فعليًا وحياتيًا واختباريًا ومن ثم نفرح ونشبع بالتذكار الليتورجي على المستوى الباطني.
ويقول القديس يعقوب السروجي:
حبك أنزلك من المركبة إلى الجحش. عوض جنود الكاروبيم غير المفحوصين، يبجلك جحش.
أنزلتك المراحم من بين العجل والوجوه وأجنحة اللهب لكي تجلس على ابن الأتان، أنت الذي يجاهر السمائيون ببهائك، وهنا الجحش الحقير المزدري به يحملك بين السمائيين.
كاروبيم النار يباركونك طائرين، وهنا الأطفال يمجدونك بتسابيحهم،ملائكة النور بريش النور يهيئون طريقه، والتلاميذ هنا يلقون قدامه ثيابهم. نزل الجبار من عند أبيه ليفتقد مكاننا، وبإرادته بلغ إلى منتهي الاتضاع، ركب الجحش ليفتقد بالاتضاع شعبه.
زكريا النبي حمل قيثارة الروح، وأسرع قدامه بترتيل نبوية بابتهاج، شد أوتاره وحرك صوته وقال: افرحي يا ابنة صهيون واهتفي واصرخي، لأن ملكك يأتي راكبًا جحشًا ابن أتان (زك9: 9).
ويا لعظمة هذا اليوم الذي أرسل فيه الرب التلميذين بسلطان إلهي ليحلا الأتان والجحش، وهكذا يرسلهما إلينا ليحلونا من اهتمامات العالم، لأن الرب يتطلع للنفس لا كمن يتعالى عليها بل كمن هو يطلبها لتكون موضوع تعطفاته ومحبته يسكن فيها، فتصير حياتنا مركبة سماوية تحمله، كما يليق بنا أن نخضع له ونقدم له أنفسنا، بعد أن أعلن حبه لنا، لا بمركبات وخيل ورجال ولا بعجلات وفرسان ولا بالأبواق والناي ولا بمركبة نارية، بل بحب واتضاع عجيبين..
وكل من يلقي ثيابه القديمة يتمتع بالسيد المسيح نفسه كثوب البر الذي يلتحف به، وكل من يتقدم ويتبع المسيح الملك يتمتع بالغلبة والنصرة على الموت والخطية وهزيمة رئيس هذا العالم، وهكذا يدخل ربنا يسوع إلى أورشليمنا الداخلية ليقيم ملكوته فينا، أنه يوم الانتصار، يدخل فيه المسيح ملكًا إلى أورشليم، وهو آت ليكمل الخلاص الذي من أجله جاء إلى العالم، الراعي والفادي والمخلص جاء ليقدم نفسه ذبيحة عن الشعب في مدينة أورشليم التي هي كنيسته فيصنع خلاصًا وفداء لشعبه.
مبارك الآتي باسم الرب، الرب الذي يرحم صنعة يديه، الرب المتحنن الكثير الرحمة الجزيل التحنن الذي يخلص جميع البشر، يرفع عنهم آثامهم ويرسل النور لأولئك الذين ضلوا طريقهم في الظلام، فهو مبارك لأنه جعلنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت نبصر نوره العجيب، وهو ما تعبر عنه الكنيسة في قسمة أحد الشعانين: (أيها الرب ربنا مثل عجب صار اسمك على الأرض كلها، لأن قد ارتفع عظيم بهائك فوق السموات، من أفواه الأطفال والرضع هيئت سبحًا)
مبارك هو الذي أعطانا ذاته ليخلص شعبه إلى التمام، ينقذ الفقير من أيدي ظالميه، ويسكب خمرًا وزيتًا على ذاك الذي وقع بين أيدي اللصوص، هو مُسبح في كل العالم، لأنه الجالس بين تسبيحات إسرائيل، جاء لكي يملك ملكًا عجيبًا جدًا قدام له المجوس ذهبًا ولبانًا ومرًا، ملك غريب وعجيب يملك لا بالسيوف والغزوات بل بالتواضع والمحبة، ملك باك على خلاصنا يسعى لتكون حياتنا أفضل، ملك قوي ارتجت له المدينة، ملك على الصليب (لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين يا عمانوئيل إلهنا وملكنا).

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:42 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
الصوم الكبير والإفخارستيا

تعد القداسات الإلهية اليومية في ساعات متأخرة من أوقات النهار من أهم القواعد الطقسية التي تخص صومنا الكبير، وتأتي أهميتها من كونها مفتاح فهم التقليد الطقسي الليتورجي بروحانيته الأرثوذكسية، بعيدًا عن خطر العقلانية الغربية.
وحرص الكنيسة على دوام يومية القداسات ينير لنا التقليد الليتورجي الأرثوذكسي القبطي بكامله، ولكي نفهم هذا التدبير الكنسي لابد أن نشير إلى أن الإفخارستيا دائمًا طابعها الفرح والتعييد، إنها بالدرجة الأولى سر مجئ المسيح وحضوره، سر القيامة وبرهانها، بر الإعلان (لو24: 13)، والتناول هو نبع المعرفة الكنسية الاختياري والوجودي لقيامة ربنا يسوع المسيح، والقداسات الإلهية اليومية تؤكد على فرحنا بجهاد الصوم.
الإفخارستيا هي المجيء والحضور نفسها، والمعرفة الفائقة العقل والمطلقة في كسر الخبز، حيث ملكوت الله حاضر منذ الآن في الإفخارستيا بالمشاركة في ملكوت الفرح والسلام والغلبة ملكوت الثالوث القدوس المبارك.
ففي الصوم بينما نحن نجوع للطعام الجسدي نأخذ طعام الأبدية وبينما نحن نمتنع عن الخبز البائد نُطعم الخبز السماوي، وبينما نحن نحرم أنفسنا أن جاز أن نقول هذا، فنحن نأخذ كل الغنى والشبع، والتقديس، نصوم لا عن اضطرار بل ببهجة قلب، من أجل حضور المسيح وبشارة الفرح الأبدي لملكوت الله، تاركين الاهتمام الجسداني متطلعين إلى السماويات حيث وطننا الأصلي. وبالتالي نصعد إلى حيث صعد المسيح ربنا لنأكل لا خبز الأرض الذي نصوم عنه بل لنأكل ونشرب على مائدة المسيح في ملكوته الأبدي، ملكوت الفرح والنعيم والإشراق والمجد.

إننا بالتناول المتواتر أثناء رحلة الكنيسة في الصوم الأربعيني، نكتشف مجددًا أن حياتنا نستمدها لا من الخبز والأكل والشرب إنما من الجسد والدم الذي كل من يأكله ويشربه يُعطي حياة أبدية، فالإفخارستيا في مفهومنا الأرثوذكسي هي غناء حياتنا الروحية كأناس روحيين نسلك بالروح، وهي أيضًا بالضرورة بداية جهادنا الروحي، والموهبة الإلهية التي تؤهلها أن نعرف ونشتاق ونتطلع لشركة أكمل في النهار الذي لا يغرب للملكوت الأبدي، أننا نعرف هذا الملكوت الآتي ونشارك فيه الآن، فصومنا عن الأطعمة يجعلنا نشتاق إلى ما فوق زاهدين هذا العالم كغرباء، وفي تقدمنا للذبيحة نرى ونذوق مسبقًا المجد الآتي ونحن ما زلنا على الأرض، وصومنا هذا إنما تدريب نبدأه منذ الآن لرحلة طويلة نحو يوم الرب الأخير (الباروسيا).
ونحن في رحلة غربتنا نحتاج إلى سند ومعونة إلى زاد الطريق إلى قوة وتعزية، لأننا في الحرب مع (رئيس هذا العالم) الذي لم يستسلم بعد، الذي غلبه السيد المسيح على جبل التجربة. بصومه أربعين نهارًا وأربعين ليلة،ذلك الشيطان الذي هزمه المسيح على الصليب ظافرًا به، يخوض ضدنا حربًا شرسة ملتمسًا من يبتلعه، تلك المعركة العنيفة التي يحاول الشيطان أن ينتزع فيها قدر ما يستطيع من الناس، المعركة صعبة لأنها ليست مع دم ولحم ولكنها مع أجناد الشر مع أبواب الجحيم، وما هذه الحرب إلا الباب الضيق الذي لابد أن نعيشه ونجتازه، ولا عون لنا إلا بالجسد والدم ذلك الزاد السماوي مصل عدم الموت الواهب حياة لا كحياة أولئك الذين يحيون للعالم ولكن الذين يحيون للحياة الدائمة، فملكوت الله ليس طعامًا أو شرابًا بل هو فرح وسلام بالروح القدس.
وجوعنا وعطشنا لا يسده طعام وشراب إنما يسده ذلك الغذاء الجوهري الذي يحفظ حياتنا الروحية ويقويها، بالرغم من جميع الحروب والتجارب التي تجعلنا نكلل بعد جهادًا قانونيًا.
ويعلمنا القديس ديديموس الضرير المبصر عن أولئك الذين يرفضون تناول جسد الرب ودمه، الذي هو خبز الحياة الحق النازل من السماء الذي يُعطى كطعام للحياة، يكون صوم هذا مدان وغير مقبول.
إن الرب يقول لأولئك الذين صاموا بطريقة رديه (إن صومكم في الشهر الخامس والسابع طوال هذه السبعين سنة التي قضيتموها في بابل لم يرضيني، لقد أكلتم وشربتم ما يروق لكم دون أن تراعوا أقوال الأنبياء السابقين).
لذلك يلزم أن ينتهي الصوم الذي هو البذل الناقص بسبب الضعف والخطية، بالتناول وبالشركة في جسد الرب ودمه الأقدسين ليصير جهادنا بذلًا كاملًا، لذلك نجد أن كل تناول من الجسد والدم يسبقه صوم، وكل صوم يلزم أن ينتهي بالتناول، إذ تكمل ذبيحتنا ويكمل بذلنا ويستر عرينا ويسند ضعفنا (صلوا من أجل التناول باستحقاق، أطلبوا عنا وعن كل المسيحيين) (القداس الإلهي).
وفي الصوم الكبير لابد أن نكثف جهادنا، لأن الأمر عائد إلى أننا حسب الإنجيل وجهًا لوجه أمام عدو الفرح، عدو كل خير الشيطان وكل قواته الشريرة، ولذا نحن بحاجة خاصة إلى هذه النار الإلهية إلى جسد الرب ودمه الأقدسين، سلاحنا في الجهاد، وهي بالفعل المن السماوي الذي يحفظنا أحياء في رحلتنا في صحراء جبل التجربة.

Mary Naeem 23 - 05 - 2014 06:42 PM

رد: كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
 
مراجع البحث


  • صومًا روحانيًا (روحانية الصوم) - قداسة البابا شنودة الثالث
  • كتابات الأب الموقر القمص تادرس يعقوب ملطي
  • كتاب الصوم الكبير - الكسندر شميمان
  • رحلة الصوم المقدس - المتنيح القمص بيشوي كامل


الساعة الآن 02:34 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025