منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=282531)

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:08 PM

كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين
القمص أثناسيوس فهمي جورج


مقدمة ومدخل




إنَّ غاية التربية المسيحية في فِكْر الآباء الأوَّلين، أن نُقدِّم للرب تقدُمات مُقدسة وقُربان مُبارك، خلال المناهِج التعليمية والتلمذة.
فهدف التربية الآبائيَّة هو أن نذوق وننظُر ما أطيب الرب ونعيش الوصيّة عمليًا، تلك التي صاغها آباء البريَّة النُّسَاك في منظومة تربوية تشتمِل على طُرُق تعليمية تستعمِل تارة التعليم اللفظي من وعظ وحوار وإرشاد ونُصح وتوبيخ وتأديب، وتارة أخرى تستعمِل الأمثال والتشبيهات الرمزية والأقوال، إلى جوار الوسائل التعليمية غير اللفظية من قدوة صامتة وتطبيقات عملية ومُمارسة الاعتراف وفحص الذات.
لا شك في أنَّ اختبار الكنيسة التلقائي المُعاش وخصوصًا عند آباء البريَّة مملوء من نماذج المُرشدين الروحانيين الذين عرفوا جيدًا طاقات وقصور الطبيعة البشرية – أدركوا إمكانياتها وحدودها – فانتهجوا نهجًا تربويًا سابقًا لعصرهِم وجيلهم وكأني بهم يقرأون فِكْر المُعاصرين من التربويين في القرن العشرين.
لذلك نجدهم وقد أخذوا بأسباب العِلْم وبالأساليب العلمية في التنشِئة... فتحدَّثوا عن الوراثة والبيئة وعن إمكانية التربية ونمو الشخصية ودور الأنشطة التربوية وأهدافها، مُؤكدين على عمل النِعمة الإلهية.
فجمعت نظريات الآباء في التربية بين الفِكْر المنهجي (النظرية) وبين التلمذة العملية والطُرُق التعليمية (المُمارسة)، وكانت خطَّتهم تستهدِف بُناء الكيان المسيحي... فهم يُعلِّمون ويُسلِّمون منهج حياة ويُدبرون ويقودون ويرشدون، كروُاد وكسبّاقين في الأُبوُّة والتربيَّة.
وفي هذا البحث الذي استعنّا فيه بكتاب ”Early Church Fathers As Educators“ لمؤلِفه Elias Matsagoras، نتناول آباء البريَّة من منظور جديد، ذلك هو المنظور التربوي، لنرى كيف كانوا مُربيين حُكماء... وبالتأكيد لم يكُن للآباء موضِع في النظام التربوي في زمانهم بل أنَّ الناظر إليهم في نُسكهم وجهادهم يُخالُ إليه أنهم لا يُمكن أن يكونوا أبدًا مُربيين، إلاَّ أنَّ أقوالهم وكتاباتهم تُظهِر أنهم كانوا ولا زالوا مُربين حقًا.
وهكذا نجد في ذلك مثالًا آخر للحقيقة المعروفة أنَّ الكنيسة بفكرها وخبرتها، لها دومًا إسهاماتها الخلاَّقة في مجالات الفِكْر والثقافة والتربية والفن...
لقد انتهج الآباء نهجًا تربويًا مُتكاملًا عملًا وعِلْمًا،؟ مُمارسة وخبرة... بتنوُّع غني في المناهج التعليمية والطُرُق التربوية المُتدرِجة والمُتنوعة التي تتناسب مع القامات والنفسيات المُختلفة كلٍّ حسب استجابته وإمكانياته وقُدرته الشخصية على النمو.
ويرى الكثير من عُلماء التربية المسيحية أنَّ النمط المدرسي في التربية المسيحية قد فشل في أن يصنع مسيحيين حقيقيين، لذا ذهب المُحدِثون إلى إعادة وإحياء الأُسُس التعليمية التي أرستها الكنيسة الأولى، بالتركيز على أُسلوب التلمذة والإقتداء بالمثال والسلوك، مع التأكيد على دور الوسط والبيئة في مجال التهذيب والتربيَّة.
وتأتي هذه الدراسة المُتخصصة ضمن قصد سلسلة إخثوس ΙΧΘΥΣ في تعميق المعرفة الآبائيَّة قولًا وعملًا عند الخُدَّام والمُربيين وعند الدارسين بالمعاهِد اللاهوتية، وأيضًا للاستفادة بما جاء فيها في خدمة التربيَّة الكنسية... من أجل نمو مسيحيين كاملين يتربون تربية كنسية آبائيَّة، يقودنا فيها جميعًا آباء البريَّة، يقودونا إلى الأمام، يغذونا بالتعليم، يروُونا بالماء الحي، يُقيمونا من سقطاتنا، يُعلِّمونا الطريق ويُداومون على تنشئتنا جميعًا حتّى نُقدِّم أثمارًا، ثم يرشدونا إلى الراحة والأمان.
وهذه الدراسة نافعة:
1) ينتفِع منها أي طالب يدرس تاريخ التربية، وهي حقًا تسِد فراغًا في الدراسات الموجودة.
2) هي مُقدمة نافعة لبعض الموضوعات الأساسية في تاريخ الكنيسة الأولى ومُقدمة لتاريخ الرهبنة واتجاهاتها.
فهي تشتمِل على تاريخ النُسك وتاريخ التربية المسيحية، وتجمع بين طُرُق التعليم النُّسكي ونظام التربية الرهبانية، لذا تنطوي على الجمال الحي المُتمثِّل في سيرة أجيال الكنيسة الأولى، الذين تم غرسهم وبناءهم بطريقة سَوِيّة، ألوانًا وأزهارًا وأثمارًا.
نُقدِّم هذا البحث ضمن سلسلة إخثوس ΙΧΘΥΣ، ونضعها في يد النِعمة لتأتي بثمر كثير في حقول الخدمة، راجين أن يقبلها المسيح سيدنا وإلهنا وملكنا، ويجعلها سبب بركة ومنفعة روحية لكلّ من يقرأ، بصلوات صاحب القداسة البابا شنوده الثَّالِث بابا المدينة العُظمى الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقُسية ألـ 117 أطال الله حياته.
إننا نشكُر الله إلهنا الذي سمح لنا لنُقدِّم هذه الخدمة بحسب رحمته ونتضرَّع إلى عظمته أن يُبارِك كلّ الجهود التربوية التي تُقدِّمها التربية الكنسية والمعاهد اللاهوتية المُتخصصة ووحدة التربية بمجلس كنائس الشرق الأوسط، فتكون نهضة تربوية في بلادنا وكنائِسنا.
يسوع المسيح ربنا وإلهنا المُربي والمُعلِّم الصَّالِح، يقود خدمتنا ويُهدي أقدامنا ويُعين ضعفاتنا ويشِد أنظارنا إلى أعالي السماء، فنفتح أعيُن قلوبنا على المجد الأبدي وتستضِئ أذهاننا بالنور السماوي ونتذوق معرفته الخالدة غير المائتة فنخدمه كما يليق بعظمته.
وللثَّالوث القدوس المُبارك المجد والكرامة
أنطون فهمي چورچ
إخثوس ΙΧΘΥΣ
7 نوڤمبر 1995 م

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:10 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
هدف الدراسة



يتناول هذا الكتاب تاريخ التربية الذي رغم أنه لن يحِل مشاكل اليوم، إلاَّ أنه يُمكن أن يُساعد على الوصول لفهم أفضل للتربية وعلى تقديم أهدافًا أكثر قيمة للطُّلاب.
ولمَّا كانت التربية نقل لتُراثنا الفكري والروحي، لذا لابد أن يتعرَّف المُربون بصورة كاملة على أُصول وتطور هذا التُراث، مِمّا يجعلهم قادرين على دراسة أصول وتطور كلّ مشكلة، وبالتالي على الوصول لأفضل فهم لها.
والهدف الأساسي من هذه الدراسة هو التربية في القرون الأولى من حياة الكنيسة، كما تتضح وتتمثَّل في الأنشطة والكتابات التربوية للآباء، إذ أنَّ لهذه الحُقبة من حياة الكنيسة مكانتها الهامة في تاريخ المسيحية، ليس فقط بسبب مراقيها وقاماتها الروحية، بل وأيضًا لأنها كانت فترة تكوينية تشكيلية للفِكْر المسيحي وللعديد من المُؤسسات المسيحية.
وقد صار فِكْر الآباء الأوَّلين عاملًا جوهريًا وحاسمًا في تشكيل الحضارة الغربية (1)، التي تدين بالفضل للفِكْر الآبائي من أجل بعض ملامحها الهامة، سواء بصورة مُباشرة أو غير مُباشرة.
وإحدى القنوات التي من خلالها أثرت المسيحية الحضارة الغربية كانت الرهبنة، وظهرت هذه في القرن الثَّالِث، وسُرعان ما صارت قُوَّة جبارة مُؤثرة في حياة الكنيسة، وبدأ تأثير الرهبنة في القرن الرَّابِع بكتاب القديس أثناسيوس الرسولي "حياة أنطونيوس Vita Antonii“ والذي نال شُهرة واسعة في الثقافة البيزنطية وثقافة العصور الوسطى، كما اشتهر أيضًا في روسيا وكان له تأثيره على الحياة الروحية والفكرية هناك.
وتُعرف الشخصيات الرهبانية باسم ”آباء البريَّة Desert Fathers“ وهم يُمثِّلون مجموعة مُتميزة وهامة بين آباء الكنيسة، وفي هذه الدراسة نُوليهم اهتمامًا خاصًا، إذ لم تتناولهم أي دراسات منهجية سابقة من منظور تربوي بحت، رغم أنَّ سِيَرِهِمْ تتضمن عمليات مُستمرة من التعلُّم والتعليم، فالرهبنة – بل والكنيسة كلَّها – كانت مدرسة قوية بنظامها وأنشطتها التربوية، ورغم أنَّ أحدًا من آباء الكنيسة الأولى، بما فيهم آباء البريَّة، لم يكتُب قط أي عمل تربوي، إلاَّ أنَّ هناك الكثير من الأفكار التربوية مُتناثرة في كتاباتِهِم، وقد تناولوا الكثير من الموضوعات الهامة مثل الوراثة والبيئة، وربطوا بين النمو الروحي والنمو التربوي، وتحدَّثوا عن طُرُق التدريس، وأجابوا عن السؤال الخاص بإمكانية التربية.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:11 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
تاريخ الرهبنة



سنستعرِض هنا رؤية سريعة لتاريخ الرهبنة، بما فيه من أصولها وروحها ونموها، كخلفية تاريخية ضرورية لموضوع دراستنا:-
  1. أصول ونشأة الرهبنة
  2. نمو الروح الرهبانية

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:12 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
أصول ونشأة الرهبنة



لم تكُن الرهبنة نوعًا جديدًا من المسيحية، بل نبعت من حياة الكنيسة، ويُمكننا أن نتتبّع جذورها في العهد الجديد.
فقد تحدّث السيِّد المسيح عن هؤلاء الذين اُعطوا نعمة كافية لكي يخُصُّوا أنفُسهم لأجل ملكوت السموات (مت 19: 12)، والقديس بولس الرَّسول مدح كثيرًا حياة البتولية (1كو 7: 29 – 34)، وفي موضِع آخر علَّم السيِّد المسيح تلاميذه أن يعيشوا حياة الفقر (مت 19: 21)، وفي رسائِله تحدَّث بولس الرَّسول مُمتدِحًا حياة النُسك والتكريس (رو 6: 8، غل 5، كو 3، 2كو 4، تي 2: 12)، والتي جاهد المسيحيون الأوَّلون والرُّهبان ليحيوا بحسبها، هذا بجانب تعاليم السيِّد المسيح ودعوته لترك العالم المادي والتحرُّر منه، كما كانت حياة النُسك التي عاشها إيليَّا ويوحنَّا المعمدان نموذجًا سعى النُّسَاك الأوَّلون ليحتذوا به (2)...
وهذه النماذج الكِتابية تُقدِّم نذرين من نذور الرهبنة الثَّلاثة الأساسية، أي البتولية والفقر، أمَّا النذر الثَّالِث فهو الطاعة، وله أيضًا مراجعه وأصوله الكِتابية كما يتضح من الفصل الثاني.
ويُعتبر القديس كلِمنضُس السكندري مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية وتلميذه العلاَّمة أوريجانوس علامتين مُتميزتين في اللاهوت النُّسكي، إذ جعلا الرهبنة -بل والمسيحية بصفة عامة- أكثر وضوحًا للعالم المُتحدَّث باليونانية والمُفكِر بها.
ولم ينظُر النُّسَاك الأوَّلون إلى حياتهم كنوع جديد من المسيحية، بل على العكس رأوا فيها عودة إلى الحياة الرَّسولية (3)، واعتبر كلٍّ من القديس الأنبا أنطونيوس الكبير (251-356 م.) والقديس يوحنا كاسيان (تنيَّح 433 م.) مُؤسس رهبنة الغرب، أنَّ الرهبنة هي استمرارية لحياة كنيسة الرسل الأولى (4)، والقديس چيروم، والذي كتب في الأعوام الأخيرة من القرن الرَّابِع، قال أنَّ المسيحيين الأوَّلين اعتادوا أن يعيشوا حياة نُسكية كما كان يفعل الرُّهبان في زمانه (5)، فالنُسك ملمح أساسي للرهبنة في كلّ مكان وكلّ زمان، لكن الكنيسة الأولى وكنيستنا الأُرثوذُكسية حتّى هذا اليوم، فهمت وعاشت المسيحية كديانة ذبيحة وكحياة نُسكية، أمَّا الرهبنة فهي مُحاولة لتحقيق وتتميم كلّ الوصايا الموضوعة على كلّ مسيحي بجانب النذور التي يتعهد بها في معموديته.
فحياة الرُّهبان النُّسكية لم تكُن شيئًا ”خاصًا“ أو ”إضافيًا“ بل تحقيق للمُتطلبات والضرورات الموضوعة على سائر المسيحيين، ولذلك كان يُنظر للرهبنة أنها ”معمودية ثانية“.
وثمة سمة أخرى للمسيحية الأولى، ذلك أنَّ الكنيسة كانت جماعة الذين جحدوا ”العالم“ واعتبروا أنفسهم غُرباء في الأرض ومواطنين في المدينة العتيدة، وقد كتب العلامة ترتليان الأفريقي (انظُر كتابنا ”العلاَّمة ترتليان الأفريقي“، الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ) ”ليس شيئًا غريبًا عنَّا أكثر من أمور العالم“ (6) وهذا مثال واضح لتعليم الكنيسة الأولى، وعندما بدأ اضطهاد ديسيوس في عام 250 م، أطاع الكثير من المسيحيين أساقفتهم وهربوا إلى البراري حيث عاشوا هناك حياة نُسكية تحت ظروف قاسية، وصاروا أوَّل نُسَاك مسيحيين، وعندما انتهى الإضطهاد، لم يرجع البعض إلى مُدُنِهِم بل ظلُّوا في البراري حيث وجدوا فيها أفضل موضِع لجهادهم الروحي، ويُعتبر اضطهاد ديسيوس السبب التاريخي الذي جعل المسيحيين الغيورين في الكنيسة الأولى مُتدربين ومُعتادين على حياة الوحدة في البراري والجبال (7).
وعندما انقضى زمان الإضطهادات وُجِدَت الرغبة القوية في الاستشهاد كما ترسمها لنا أعمال الشُّهداء، تعبيرًا عنها وتحقيقًا لها في حياة جحد الذات التي يعيشها الراهب، وكانت الحياة الرهبانية في ذلك الحين تُعتبر ”الشهادة البيضاء“ أي شهادة بدون سفك دم، والقديس مقاريوس الكبير كان يأخذ الآباء إلى قلاية مكسيموس ودوماديوس ويقول ”هلُّموا بنا نُعايِن شهادة الغُرباء الصِغار“ (8) وكان للقديس باخوميوس أيضًا نفس هذا الفِكْر (9).
وكانت الرهبنة – ولا تزال – جزءً عُضويًا من الكنيسة، فالقديس أثناسيوس الرسولي في كتابه ”حياة أنطونيوس“ يتحدَّث عن التوقير الكبير الذي كان القديس أنطونيوس يكِنُّه لطغمات ورُتَبْ الكنيسة، والقديس باسيليوس (330 – 379 م) رئيس أساقفة قيصرية الكبَّادوك وأحد أهم واضعي قوانين الرهبنة، جعل الرهبنة في خدمة الكنيسة والمُجتمع بصفة عامة (10).
وبالجُملة، كانت القُوَّة الأساسية الدافِعة وراء الرهبنة هي الروح الرَّسولية التي كانت – كما أسلفنا – نُسكية، تميل للاستشهاد، ومليئة بالاشتياقات المجيئية الإسخاتولوچية، وهذه الروح انتقلت إلى براري وجبال مصر حيث استمرت حياة الكنيسة الأولى، ووُلِدَت الرهبنة التي كان جهادها الأوَّل هو ”ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يُؤدي إلى الحياة“ (مت 7: 14).

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:13 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
نمو الروح الرهبانية



إنَّ سِيَر وأعمال مشاهير آباء البريَّة، والذين كان لهم دورًا هامًا في تشكيل وصياغة الرهبنة، تُقدِّم لنا بوضوح صورة عن تطور ونمو الفِكْر والحياة الرهبانية.
وكان الأنبا أنطونيوس أوِّل شخصية مُؤثرة وهامة في الرهبنة الأولى، ويُعتبر ”أبو الرهبنة“ رغم أنه لم يكُن الأوَّل في ذلك المجال، فقد سبقهُ آخرون في حياة الرهبنة وعاشوا على حدود قُرى مصر ومنهم أخذ القديس أنطونيوس إرشاده (11)، ولكن هؤلاء المُجاهدين لم يعرفوا البريَّة البعيدة، أمَّا الأنبا أنطونيوس فقد دخل إلى ”البريَّة الجُوانية“ (12) وبعد عشرين عامًا من حياة الوحدة، خرج القديس أنطونيوس وقام بإرشاد الرُّهبان الذين عاشوا مُتتلمذين له مُلتفين حوله.
وبسبب شُهرة فضائله، كان للأنبا أنطونيوس تأثيره الكبير على مُعاصريه و”أقنع الكثيرين أن يختاروا حياة الوحدة، فنشأت الأديُرة حتّى في الجبال، وصارت البريَّة مدينة مليئة بالرُّهبان الذين تركوا مُدُنِهِمْ ودخلوا في المواطنة السمائية“ (13).
وفي البراري القبطية بمناخها الدافئ الجاف، وبمغائرها الطبيعية في الجبال، وجد الآلاف من الرُّهبان الموضِع المثالي لهم ليجاهدوا فيه، ففي جبل نتريا وحده كان هناك خمسة آلاف راهب يعيشون بطُرُق مُتنوعة كما يُخبرنا بالاديوس (14).
أمَّا الخطوة التالية نحو تنظيم أفضل للرهبنة، فقد قام بها القديس باخوميوس أب الشركة (292 – 346 م) والذي أنشأ أوَّل أديُرته في طبانيس Tabennisi (طبانيس: أو كما يُلقِبها البعض طبانسين معناها نخيل إزيس وهي تقع على الضفة اليُمنى للنيل أمام بلدة دندرة في المكان الذي يتجه فيه النيل إلى الغرب) عام 323 م، وعند نياحته كان القديس باخوميوس قد أسَّس تسعة أديُرة للرُّهبان، وديرين للرَّاهبات، وكان إجمالي عدد هؤلاء الرُّهبان والرَّاهبات نحو عشرة آلاف.
والقديس الأنبا باخوميوس أيضًا هو أوَّل مُشرِّع رهباني، وكانت الفكرة الأساسية في قانونه هي أن يضع قانون جهاد روحي مُشترك يستطيع جميع الرُّهبان أن يُتمموه ويُبلِّغوه، ثم يُشجعهم بعد ذلك أن يرتقوا في جهاداتِهِم لقامات أعلى، كلٍّ بحسب اشتياقاته وقُدراته (15).
وبعد الأنبا باخوميوس، كان القديس الأنبا شنوده رئيس المُتوحدين (348 – 466 م) أهم شخصية في الرهبنة القبطية، وكان مُشرِّعًا شهيرًا وكاتبًا معروفًا باللُغة القبطية، وفي قانونه، اختلف عن باخوميوس وتحدَّث عن نذر رهباني مكتوب يُوقَّعه الرُّهبان.
أمَّا القديس باسيليوس الكبير (330 – 379 م) أبو الرهبنة الشرقية، فقد قدَّم بقانونه فكرة الأديُرة الصغيرة التي يضُم كلٍّ منها ما بين ثلاثين إلى أربعين راهبًا، وأكَّد بالأكثر على التعليم وعلى الثقافة.
وكذلك انتشرت الحركة الرهبانية في كلّ منطقة الشرق الأوسط، وكان هناك رُهبان في وسط وصعيد سوريا بحسب سوزومين المُؤرِخ (16). وأرمينيا وفارس (إيران)، كان إيلاريون (انظُر كتابنا ”القديس إيلاريون الكبير“، الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) ويوستاثيوس وشاريتون Hilarion, Eustathius and Chariton هم رُواد الرهبنة في فلسطين بينما قدَّم چيروم (340 – 420 م) ويوحنا كاسيان (انظُر كتابنا ”القديس يوحنَّا كاسيان“، الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) الرهبنة للغرب ونشراها فيه، وسُرعان ما صارت الرهبنة جزءً من خريطة حوض البحر الأبيض المُتوسط، وغدت قُوَّة فعَّالة تستخدمها الكنيسة في مواجهة الهراطقة والوثنيين (17).
وكلمة رهبنة monasticism، والتي تعني المُؤسسة التي تُقيم وتُنظِّم الظروف النُسكية والاجتماعية للحياة المُشتركة أو لحياة الوحدة التأمُلية، تأتي من الكلمة اليونانية ”موناخوس Monacos“ التي تعني أصلًا ”وحيد أو مُتوحد“ وفيما بعد (ربما في بدايات القرن الرَّابِع) صارت تعني الإنسان الذي يحيا حياة رهبانية حتّى لو كان يحيا مع آخرين، ويبدو أنَّ أوِّل استخدام لكلمة موناخوس بمعنى ”راهب“ كان في ”حياة أنطونيوس“ بقلم البابا أثناسيوس، الذي يستخدم أيضًا كلمة ”دير - Monastery“ رغم أنه في سيرة الأنبا أنطونيوس يجب أن تُفهم هذه الكلمة بالمعنى اللغوي الضيِّق أي قلاية مُتوحِد، وليس مسكن لجماعة من الرُّهبان كما صارت تعني بعد ذلك.
وكلمتي ”راهب“ و”دير“ نقرأهُما في كتاب ”الأقوال Apophthegmata“ وفي كتابات بالاديوس وباسيليوس ونيلوس، وتُسمَّى حياة الراهب أو الراهبة باسم ”الحياة الرهبانية“ وفي سوريا تُسمَّى ”أبيلوثا Abbiloutha“ أي ”الحُزن“، وسوف نُقدِّم في الفصل الثاني من هذه الدراسة مُصطلحات أكثر خاصَّة بالتدابير والرُّتب الرهبانية.
كان هذا عرضًا موجزًا للغاية للرهبنة الأولى، التي استمرت وعاشت عبر القرون، ولا زالت حيَّة قوية مُزدهرة حتّى الآن.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:14 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
مراجع



1) F. woodhouse, Monasticism: Ancient and Modern, London, 1896, p. 2.
2) Bios Pachomiou. V.H.P.XL, p. 129.
3) J. Hannay, The Spirit and the Origin of Christian Monasticism, London, 1903, p. 108.
4) O. Chadwick, John Cassian, Cambridge University Press, 1968, p. 51 – 52.
5) Jerome, Illustrious Men, II, P.N.F., II, p. 365.
6) Tertullian, Apology, 38,3, P.L., 1,52B.
7) Eusebius, Historia Ecclesiastica, 6.42, P.G.20, 613A.
8) Apophthegmata, P.G. 65, 277B.
9) Bios Pachomiou. V.H.P.XL, P. 199.
10) K. Kirk, The Vision of God, London, 1941, p. 117.
11) Athanasius, Vita Antonii (The Life of Antony), P.G. 26, 884.
12) Ibid., 915.
13) Ibid., 865, tr. D. Chitty, The Desert a City, Oxford, 1966, p.5.
14) Palladius, Historia Lausiaca, P.G. 34,1020.
15) E. Morrison, Basil and His Rule, London: Oxford University Press, 1912, p.40.
16) Sozomenus, Historia Ecclesiastica, P.G.67, 1396.
17) P. Brown, The World of Late Antiquity, London, 1971, p.96.
الإختصارات المُستخدمة في المراجِع
A.N.F. = Ante- Nicene Fathers, ed. Al. Roberts (Buffal; 1885 ff).
F.T.CH. = The Fathers of The Church, ed. R. Deferrari (Washington: 1947 ff).
P.G. = Patrologia Graeca, ed. J.P. Migne (Paris: 1857 – 1967).
P.L. = Patrologia Latina, ed. J.P. Migne (Paris: 1844 – 1855).
P.N.F. = Nicene and Past- Nicene Fathers, ed. Schaff (N. York: 1894ff).
P.OR. = Patrologia Orientalis, ed. F. Graffin (Paris: 1903 ff).
V.H.P. = Vivliotheke Hellenon Pateron, ed. Apostolike Diakonia tes Ekklesias tes Hellados (Athens- Greece: 1955 ff).

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:15 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الأنشطة التربوية في الكنيسة الأولى
Educational Activities in The Early Church




يُفهم موضوع هذه الدراسة الحاضرة أفضل فهم مُمكن داخل مضمون الحركات الفِكرية في الكنيسة في ذلك الوقت، ولذلك يهدِف هذا الفصل إلى تقديم الخلفية الفِكرية اللازمة، من خلال مُناقشة ثلاث نِقاط هامة:
1) الهيلِّلينية والمسيحية، أي موقف الكنيسة من الفكر والثقافة اليونانية.
2) موقف الكنيسة من المدارس والتربية الوثنية الكلاسيكية.
3) التربية المسيحية: معناها، هدفها، ومُمارستها.
  1. الهيللينية والمسيحية
  2. المرحلة الأولى في موضوع الهيلينية و المسيحية
  3. المرحلة الثانية بين المسيحية والهيللينية
  4. موقف الكنيسة من المدارس والتربية الوثنية الكلاسيكية
  5. التربية المسيحية
  6. دور الأسرة في المسيحية
  7. دور الكنيسة في التربية المسيحية
  8. مدارس الموعوظين
  9. المدارس التعليمية
  10. مدرسة الأسكندرية
  11. مدرسة أنطاكية
  12. مدرسة نصيبين | مدرسة أديسا

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:17 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الهيللينية والمسيحية Hellenism- Christianity



إنَّ الصراع الفِكري بين المسيحية والعالم الوثني، والذي بدأ بعظة بولس الرَّسول لشعبها، استمر خلال القرون الثَّلاثة التالية أو أكثر، في المُدُن الكُبرى مثل الأسكندرية، حيث تواجهت هاتان القُوَّتان في ذلك التقاطُع التاريخي، وبالنسبة للكنيسة الأولى، لم يكُن الفِكْر الكلاسيكي مُجرَّد سلاح يستخدمه الوثنيون ضد المسيحية، بل كان يُمثِّل أيضًا جِدالًا داخل الكنيسة ذاتها، لأنَّ الكثير من المسيحيين الذين نالوا تعليمًا كلاسيكيًا راقيًا أرادوا أن يستخدموه للوصول لفهم أفضل للإيمان المسيحي، بل وأيضًا للدفاع عنه أمام هجوم وعداء الوثنيين، وهكذا كان على المُدافعين الأوائِل أن يتكلَّموا اليونانية، حرفيًا ومجازيًا، إذ كانوا يُخاطبون العالم اليوناني وكان عليهم أن يُعبِّروا عن الرسالة الجديدة بمُصطلحات يفهمها المُفكِرون المُعاصِرون لهم، وكان تعليم اللاهوت المسيحي وظهور المُفكرين المسيحيين الذين حاولوا أن يجمعوا بين الفلسفة اليونانية والفِكْر المسيحي، أحد نتائج هذا الصراع بين المسيحية والعالم الوثني، وسوف نُقدِّم هنا عرضًا مُوجزًا للمراحل المُتتالية لهذا الصراع الفكري، وذلك بتقديم بعض المدارس التي يُمثِّل كلٍّ منها إتجاهًا فِكريًا مُتميزًا.
  1. المرحلة الأولى في موضوع الهيلينية و المسيحية
  2. المرحلة الثانية بين المسيحية والهيللينية

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:17 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
المرحلة الأولى في موضوع الهيلينية و المسيحية



يُعتبر القديس يوستين الشهيد (انظُر كتابنا ”القديس يوستين والآباء المُدافِعون“ ضمن الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) (استُشهِد عام 165 م) أهم مُدافعي القرن الثاني، ويُعتبر أيضًا مُؤسِس الفلسفة المسيحية، وقد حاول أن يمِد جسرًا بين الفلسفة اليونانية والفِكْر المسيحي، شارحًا أنَّ المسيح، اللوغوس الأزلي، كان يعمل في التاريخ البشري، مُعلِّمًا الحُكماء الصَّالحين في كلّ مكان، يونانيين ويهود على السواء. (1)
وهكذا كتب يوستين قائلًا أنَّ الكتابات الأفلاطونية والإنجيل قد عبَّرا كلاهما أساسًا عن نفس العقيدة المُختصَّة بالله والعالم، أي أنَّ الله مُنزه، ليس له اسم، غير جسدي، غير مُتغيِّر، غير مائِت، بل ويمتدح تعليم أفلاطون عن علاقة النَّفْس بالله، وإرادتها الحُرَّة، وعن الأصول الإلهية للعالم المادي، ومع ذلك يُؤكِد يوستين أيضًا أنَّ الكتاب المُقدس هو الاستعلان الإلهي الكامل، ولا يتردَّد في أن يرفُض الأفكار الفلسفية اليونانية التي تتعارض مع تعاليم الكتاب المُقدس، وبصفة عامة، يكِنْ يوستين احترامًا كبيرًا لأغلب الفلاسفة، إذ يرى أنهم بحسب حياتهم الفِكرية يُعتبرون مسيحيين حتّى ولو كان يُنظر إليهم كمُلحدين. (2)
وفي هذا الإتجاه الذي يُؤمن بالعلاقة بين الفلسفة والمسيحية، نجد أيضًا القديس كلِمنضُس السكندري (160 – 215 م) وتلميذه العلاَّمة أوريجانوس (185-254 م.) اللذين استمرا في نفس خط يوستين الفِكْري. وقد كتب كلِمنضُس قائلًا أنَّ أفلاطون كان مُقلِدًا غيورًا لموسى (3)، وقال العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الفلاسفة يُمكن أن يسهموا في فهم الكتاب المُقدس، وانطلاقًا من هذا الأساس، قدَّم هذان الاثنان خدمة جليلة للمسيحية وذلك بتقنينِهِما للفلسفة كوسيلة للدفاع عن الإيمان، وبالرغم من أنَّ المسيحيين الأقل معرفة وتعلُّمًا كانوا يرتابون من الفلسفة وكانوا ضدها، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. إلاَّ أنَّ كلِمنضُس – المُعلِّم العظيم في الكنيسة – استخدم الأدب الكلاسيكي اليوناني لأغراض تربوية، بينما استخدم أوريجانوس، العالم الشهير والمُفكِر الأصيل، الأدب اليوناني ليصل لفهم وتعبير أفضل عن العقيدة المسيحية، فقد أرادا أن يُظهِرا أنَّ الإيمان والمعرفة ليسا مُتناقضين، وهكذا كان كلِمنضُس وأوريجانوس من أوائِل الآباء الذين حاولوا التوفيق والربط بين الإيمان المسيحي والفلسفة اليونانية.
وقد اتَّبع العديد من آباء الكنيسة اللاحقين زمنيًا هذا المِنهاج الفكري مثل يوحنا الدمشقي (القرن 7 – 8) ونيقولا كاباسيلاس (القرن 14).
وعند مُقارنة المسيحية بالفلسفة اليونانية، يُمكننا أن نقول أنَّ المسيحية نافعة للجميع على السواء، لأنَّ حلولها لمشاكل المُجتمع والأفراد مبنية على أساس الطبيعة الأخلاقية للإنسان، وعلى الإيمان، وهو بدوره مُتاح للناس جميعهم، بينما كانت الفلسفة اليونانية مُتاحة فقط للمُتعلمين والمُثقفين، وقدَّمت حلولها لعدد ضئيل من المُفكرين (4).
كذلك كان التعليم الكلاسيكي يهدِف لإعداد الإنسان للحياة الحاضرة فقط، بينما رأت المسيحية الإنسان كابن لله ووريث لملكوت السموات، لذلك كان مفهومها عن التربية أوسع من المفهوم الوثني لأنها تضمنت بُعدًا جديدًا ألا وهو البُعد الروحي.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:18 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
المرحلة الثانية بين المسيحية والهيللينية



أفسحت حكمة وفِكْر المُعلِّمين السكندريين الطريق ومهَّدته للآباء الكبَّادوك الذين عاشوا في العصر الذهبي في الكنيسة، وكان هؤلاء الآباء مُتحفظين نوعًا ما تجاه التربية الكلاسيكية، خاصَّة القديس يوحنَّا ذهبي الفم (347 – 411 م) أشهر آباء أنطاكية الذي كتب قائلًا: ”لقد تركت عني هذه الخُرافات (يعني الفلسفة) لأنَّ الإنسان لا يُمكنه أن يقضي كلّ حياته في لعبة أطفال“.
أمَّا أهم الآباء الكبَّادوك أي القديس باسيليوس (330-379 م.) وأخوه القديس إغريغوريوس النيصي (335-385 م.) وصديقه القديس إغريغوريوس النزينزي (330-390 م.) فقد كانوا أقل تحفُظًا تجاه الفلسفة (5)، ورغم أنَّ القديس باسيليوس يُنبهنا أن نكون حذرين ونختار ما ندرسه من الأعمال الكلاسيكية (6)، إلاَّ أنه لا يستطيع أن يُخفي إعجابه بالتعليم الكلاسيكي، وقد كتب ذات مرَّة (7) إلى السوفسطائي الشهير ليبانيوس Libanius مُعبِرًا عن إعجابه به وبخطبته وبالفلسفة والتعليم الكلاسيكي.
وعندما نُقارِن بين هؤلاء الآباء الكبَّادوك الثَّلاثة العِظام ، نستطيع أن نقول أنَّ القديس إغريغوريوس النزينزي كان شاعرًا نبيل النَّفْس، وصديقه الحميم باسيليوس، المُعلِّم المسكوني، كان رجُل عقيدة وعمل، أمَّا القديس إغريغوريوس النيصي أخو باسيليوس فقد كان فيلسوفًا مُتصوفًا... هؤلاء هُم الكبَّادوكيين الثَّلاثة الذين كان لاسهاماتِهِم في الفِكْر اللاهوتي وفي حل مُعضلة ”الهيللينية والمسيحية“ وفي نشر الحياة الرهبانية أثرًا دائمًا على الكنيسة الجامعة كلَّها (8).
على أيَّة حال، لم يكُن هؤلاء الآباء جميعهم قادرين تمامًا على دحض الحِجَج التي قدَّمها المُعارِضون لـ ”الفلسفة العالمية“ منذ البداية، ومن هؤلاء كان العلاَّمة الأفريقي ترتليان الذي كتب مُتسائلًا: ”أي اتفاق بين أثينا وأورشليم؟ بين الأكاديمية والكنيسة؟“ (9) كذلك تُعبِّر دسقولية الرُّسُل Didasclia Apostolarum– هي وثيقة من القرن الثَّالِث – عن مُعارضة قوية للفلسفة وتقول:
”لا يكُن لك أي صِلة بكُتُب الوثنيين...
فأي صِلة يُمكن أن تكون للمسيحي مع كلّ هذه الأخطاء التي تتضمنها؟
الكتاب المُقدس ليس فقط يُغذي الحياة الروحية.
بل وأيضًا يُشبِع الاحتياجات الثقافية...
كلّ هذه الكُتُب السِمجة لابد أن تُرمى بعيدًا“ (10).
في ذلك الوقت لم يكُن الأدب اليوناني مُجرَّد ميثولوچيا (أساطير) قديمة مائتة، بل كان أداة في يد الوثنية وديانة الدولة ضد المسيحية التي اضطرت أن تُجابهه، وهذا يُفسِر لنا لدرجةٍ ما سبب هذا الرفض له، وفي نفس الوقت يُوضِح عظمة عمل وتعب الآباء في الجمع بين الجمال الكلاسيكي والحق المسيحي.
وباختصار، نظر مُفكِرو الكنيسة الأولى إلى المسيحية كديانة ذات أبعاد مسكونية، وأدركوا أنه لابد أن يحدُث تلاقي بينها وبين الثقافة المُتوارثة الموجودة في العصر قبل أن تستطيع أن تغيَّر العالم اليوناني الروماني..وهكذا بينما كانت الكنيسة تُعمِّد العالم المُتحدِّث والمُفكِر باليونانية، صارت هي نفسها هيللينية يونانية إلى حدٍ ما، وكانت الخطوة الأولى التي اتخذتها المسيحية في طريقها نحو الهيللينية هي استخدام اللُغة اليونانية، وعندما دخل إلى الكنيسة بعض الفِكْر الفلسفي الذي لم يتعمَّد أي لم يتنقَّى ويتفِق مع الإيمان القويم، أدَّى ذلك إلى ظهور الهرطقات والبِدَع، ويقول ترتليان: ”حقًا الهرطقات نفسها نابعة من الفلسفة“ (11).

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:20 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
موقف الكنيسة من المدارس والتربية الوثنية الكلاسيكية
The Church's Stand with Regard to Classical Schools and Education




يتضِح مِمّا سبق أنَّ آباء الكنيسة الأولى أدركوا لدرجةٍ ما فائدة ونفع الفلسفة والثقافة الكلاسيكية، وأيضًا الحاجة للمعرفة العالمية غير المسيحية وهذا النوع من المعرفة كان يُقدَّم في المدارس غير المسيحية، والتي كانت بالتأكيد ذات سِمة وطابِع وثني في منهجها وموادها، ومن المُدهِش أنَّ الكنيسة في عصرٍ ما بعد الرُّسُل – مع بعض استثناءات – لم تبذُل أي جهد جاد لتأسيس مدارسها الخاصَّة لتعليم أبنائها الأدب والمواد الأخرى العالمية، بالرغم من أنه كان أمامها مثال اليهود الذين أنشأوا مدارس خاصَّة بهم (12).
وعدم وجود مدارس مسيحية في ذلك الوقت تسبَّب في حدوث حيرة:
1) هل يجب أن يلتحِق الأطفال المسيحيين بالمدارس الوثنية، بالرغم من الخطر القائم باحتمال أن يتأثَّروا بالمدرسة ويتزعزع إيمانهم؟
2) هل تسمح الكنيسة للمسيحيين أن يقوموا بالتدريس في مدارس وثنية؟
وردًا على السؤال الأوَّل، جاءت إجابة مُعظم آباء الأطفال بالإيجاب، فكانوا يُرسِلون أبنائهم إلى المدارس الوثنية، لكن بعد أن يوعُّونهم ويُنبهونهم إلى السُّم المُقدَّم هناك، وحتّى ترتليان المُتشدِّد وافق على ذلك.
لكن ترتليان، ومن بعده القديس يوحنَّا ذهبي الفم وضعا على الوالدين مسئولية أن يكونا مُتعلمين حسنًا في الإيمان المسيحي، حتّى لا يصير للتعليم والأدب الوثني تأثير سلبي على الأجيال المسيحية الصغيرة، وإذ وضع المسيحيون ذلك في أذهانهم، استمروا في استخدام المدارس الوثنية الكلاسيكية دون أن يقبلوا الثقافة التي تُقدِّمها، ومع ظهور المدارس الرهبانية، وجد الوالدان طريقًا بديلة يُعلِّموا بها أبناءهم دون المُخاطرة بإيمان الأطفال.
وبالإضافة إلى المدارس الرهبانية -وأحيانًا قبلها- كانت توجد مدارس في عدَّة إيبارشيات، فيُخبرنا ثيؤدورت أسقف قورش عن المدرسة التي أسَّسها القِس بروتوجينس Protogenis (القرن الرَّابِع) حيث كان يُدرس فيها الكتابة والاختزال بجانب التعليم المسيحي، وكان بروتوجينس يستخدم المزامير وتعاليم الرُّسُل كمادة للقراءة، وليس النصوص الأُسطورية الميثولوچية. (13)
كذلك لدينا تسجيلات عن شخص آخر يُدعى أيضًا بروتوجينس، وهو كاهن من أديسا (نحو عام 150 م) وكان يُعلِّم أطفال كنيسته أوليات المواد المسيحية والكتابة والقراءة والترتيل. (14)
ومثل هذه المدارس كانت قليلة العدد وفي الغالب نتيجة لمجهودات بعض الكهنة النُشطاء، وفيما بعد أمر مجمع قرطاچ المكاني (419 م) الكهنة بإنشاء المدارس وتعليم الأطفال القراءة (15)، ونفس هذا التشريع كرَّرته مجامِع مكانية أخرى.
لكن كما ذكرنا قبلًا، لم تكُن مدارس الأديُرة والكنائس كثيرة، ولذا كان استخدام مدارس العالم ”شرًا ضروريًا“ وكان هناك دومًا من يعترِض عليه، ومع ذلك حتّى باسيليوس ابن الأسقف درس في مدرسة عادية، وقبله أرسل ألكسندروس بطريرك الأسكندرية تلميذه أثناسيوس إلى مدرسة غير مسيحية.
كان هذا هو حل المُشكلة الأولى المذكورة عاليه.
أمَّا المُشكلة الثانية، بخصوص المُدرسين المسيحيين، فكانت مُعضِلة صعبة فعلًا، ولم يكُن هناك إجابة واحدة لهذا السؤال يتفق عليها الجميع.
في البداية كان التدريس موضوعًا ضمن قائمة الأعمال التي يجب على الموعوظ أن يترُكها قبل أن يستحِق نوال نعمة المعمودية، ويشرح ترتليان أسباب ذلك، بينما نرى هيبوليتس الروماني أكثر مرونة في الحالات التي لا يكون فيها للموعوظ عمل أو تجارة أخرى يعمل بها. (16)
وفي الغالب، يُعبِّر هيبوليتس عن الفِكْر العام للكنيسة في هذا الصدد والذي كان مرنًا تمامًا، ومن المعروف أنَّ أوريجانوس كان استاذًا للنحو، وأناطوليوس Anatolius (من القرن الثَّالِث) والذي صار أسقفًا للادوكية Laedocia، كان يشغل كرسي الفلسفة الأرسطوطالية في الأسكندرية، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. والكاهن مالكيون Malchion أيضًا كان مُدير مدرسة في أنطاكية، وفي زمان يوليان الجاحِد (362 م) كان المسيحيون يشغلون كراسي الفلسفة في أثينا وروما، وهذا يُوضِح كيف كانت الكنيسة تقبل أن يعمل المسيحيون بالتدريس.
وأخيرًا مِمّا هو جدير بالذِكر أنَّ كنيسة سوريا وكنائِس ”الأُمم البربرية“ أي غير اليونانية، قامت بمهمة تطوير أدبهم القومي ونظامهم التعليمي والتربوي وبصفة عامة حضارتهم وثقافتهم القومية، فالأسقف رابولا Rabboula (تنيَّح 435 م) أسَّس مدرسة سُريانية في أديسا Edessa (17) والتي لم تكُن مدرسة للموعوظين، وفرمنتيوس Frumentius (القرن 4 – 5) ارتقى بالأثيوبية إلى مُستوى اللُغة المكتوبة، وميسروب Mesrob – بحسب التقليد – صنع هذا الأمر عينه مع اللُغة الأرمنية والغريغورية، وإلفيلاس Ulfilas مع اللُغة الچرمانية.
لقد احتاجت الكنيسة – كمُؤسسة تربوية – أن يكون أعضاؤُها مُتعلمين لدرجةٍ ما حتّى تستطيع أن تقوم بعملها ومُهمتها، ومتى كان الأعضاء غير مُتعلمين، كانت الكنيسة تقوم بتعليمهم، وهكذا قدَّمت المسيحية الثقافة الكلاسيكية إلى المواطن العادي البسيط.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:23 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
التربية المسيحية Christian Education

بالنسبة للمسيحيين الأوَّلين، كان تعبير ”التربية المسيحية“ يعني نوال معرفة عميقة ترقى فوق المعرفة العقلية، الشعورية والعلمية، بل هي ”معرفة اختبارية“ لـ ”استعلان الحق“ كما عبَّر عنه الكتاب المُقدس وعقيدة الكنيسة، وفي الوقت عينه، كانت التربية المسيحية تعني أيضًا التداريب والحياة الأخلاقية بحسب القوانين والوصايا المسيحية، ويُمكننا أن نجد فكرة التربية المسيحية في رسائل القديس بولس الرسول ”أنتُم أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم بل ربُّوهم بتأديب الرب وإنذاره“ (أف 6: 4).
وكان القديس كلِمنضُس الروماني (96 م.) هو أوِّل من استخدم تعبير ”التربية المسيحية“ في رسالته إلى أهل كورنثوس إذ يقول: ”لابد أن يشترك أطفالكم في التربية المسيحية“ (18) ويُعلِّم أغناطيوس أيضًا بأنَّ واجب الوالدين هو أن يُقدموا لأبنائهم تعليمًا وتربية (19)، وقد استجابت لهذه الدعوة مونيكا والدة القديس أُغسطينوس، ونونا Nona والدة إغريغوريوس النزينزي، وأنثوسا Anthusa والدة الأساقفة الثَّلاثة (القديس باسيليوس وإغريغوريوس النيصي وبطرُس) والقديسين الأربعة، وقد كتب عنهُن ليبانيوس Libanius البليغ بإعجاب قائلًا: ”يا آلهة اليونان، كم رائِعات هُنْ نِساء المسيحيين“. (20)
  1. دور الأسرة في المسيحية
  2. دور الكنيسة في التربية المسيحية
  3. مدارس الموعوظين
  4. المدارس التعليمية
  5. مدرسة الأسكندرية
  6. مدرسة أنطاكية
  7. مدرسة نصيبين | مدرسة أديسا

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:24 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
دور الأسرة في المسيحية

كان القديس باسيليوس يُؤمِن أنَّ الوالدين لابد أن يُقدِّما التربية الأوَّلية للطفل خلال أعوامه الأولى، وأكَّد على أهمية دور الأُم، وشرح فم الذَّهب أنَّ الطفل لو تعلَّم في صِغَره عادات أخلاقية حسنة، فإنَّ تعليمه وتربيته الأخلاقية فيما بعد لن تكون بالأمر الصعب، بل أنه مضى قُدُمًا وحدَّد الطُرُق المُناسبة للتربية المسيحية مثل استخدام الأمثال، التأديب، الوصايا، إلخ... وكان فم الذَّهب يرى أيضًا أنَّ أحد طُرُق التربية المسيحية الهامة هي القراءة في الكتاب المُقدس وترتيل المزامير، والتي يُمكن أن يكون لها تأثيرًا طيِبًا على نفس الطفل.
وقد نصح يوسابيوس القيصري (انظُر كتابنا ”يوسابيوس القيصري“ ضمن سلسلة آباء الكنيسة إخثوس ΙΧΘΥΣ) أيضًا (263 – 340 م) (21) بترتيل المزامير وقبله القديس يوستين الشهيد، وفي كتابه التربوي ”الطريقة الصحيحة للوالدين لتربية أطفالهم The Right Way for Parents to Bring Up Their Children“ ينصح فم الذَّهب بسرد ورواية القصص الكتابية للأطفال كوسيلة تربوية فعَّالة، بل وشرح كيفية رواية هذه القصص، وهكذا تُعتبر تعاليم الوالدين من ناحية، وقُدوتهم كنموذج للحياة المسيحية الفاضلة من الناحية الأخرى، أساسًا للتربية المسيحية التي يجب على الكنيسة تتميمها وتكميلها.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:25 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
دور الكنيسة في التربية المسيحية



https://st-takla.org/Pix/Ethiopia/Eth...-Church-03.jpg
  1. مدارس الموعوظين
  2. المدارس التعليمية
  3. مدرسة الأسكندرية
  4. مدرسة أنطاكية
  5. مدرسة نصيبين | مدرسة أديسا

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:26 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
مدارس الموعوظين Catechumenal Schools

وجدت الكنيسة الأولى أنَّ مُعظم الذين يُريدون قبول الإيمان كانوا من أُسَرْ وعائلات وثنية وبالتالي لم يكونوا قد تلقوا تعليمًا مسيحيًا أوليًا ولا كانت لهم معرفة بالإيمان الجديد، وكي تُعالِج الكنيسة ذلك، أخذت على عاتقها مُهمة تعليمهم قبل معموديتهم، وكان ذلك التعليم المنهجي – وهو مرحلة إعدادية للمعمودية – يُسمَّى ”وعظ“ وأثناء فترة الوعظ، كان الشخص يتعلَّم الأوليات البسيطة في الإيمان والأخلاقيات المسيحية (تهيئة وإعداد)، وفيما بعد في القرن الرَّابِع، كان الموعوظ يُعطى شرحًا للأسرار المسيحية العميقة، كما يتضح في العِظة الرَّابِعة من عِظات القديس كيرلُس الأورشليمي للموعوظين، وكان لابد أنَّ طالب المعمودية يُقدِّمه أحد المؤمنين يُسمَّى إشبين، ولابد أن يختبره المُعلِّمون المسئولون عن الموعوظين لكي يتأكدوا من أنَّ الدوافع التي قادته للكنيسة والإيمان المسيحي دوافع روحية خالصة، والإشبين الذي يُزكي الموعوظ للمعمودية، كان يلعب دورًا هامًا للغاية أثناء تلقيه تعليم الموعوظين بل وحتّى بعد معموديته.

وكانت فترة التعليم الوعظي تمتد من 2: 3 سنوات بالنسبة للشباب (22) وأربعة سنوات للأطفال الذين من أُسُر مسيحية، وهؤلاء الذين كانوا يُعبِّرون عن رغبتهم (حديثًا) في الإنضمام للكنيسة، كانوا ينالون تعليمًا خاص بهم وحدهم Privately ويستلمون عناصر الإيمان المسيحي الأولية، أمَّا الذين كانوا قد قُبِلوا فعلًا كـ ”مُستمعين“ فكان يُسمح لهم أن يحضروا جزء من الليتورچيا (قُدَّاس الموعوظين) يتضمن:
1) قراءات من الناموس والأنبياء والمزامير.
2) دروس من أعمال الرُّسُل والرسائِل والإنجيل وعظة يُلقيها الأب الأسقف.
وبعد عِظته، يُبارِك الأب الأسقف الموعوظين، ويقول الشماس: ”اخرجوا أيها الموعوظون في سلام“ ثم تُستكمل الليتورچيا بعد ذلك (قُدَّاس المُؤمنين)، فتعليم الموعوظين وأيضًا تعليم المُؤمنين كان مُرتبطًا بالعبادة ارتباطًا صميميًا لدرجة أنه من الصعب الفصل بينهما.
أمَّا الذين كانوا مُستعدين لنوال صبغة المعمودية، فقد كانوا يتلقون تعليمًا خاصًا سابقًا للمعمودية يتضمن الصلاة الربانية وقانون الإيمان وعقيدة الثَّالوث القدوس والتجسُّد (23)، وكان المُدرسون يختبرونهم عن طريق الأسئلة، وبالإضافة إلى ذلك، كان يُطلب من الموعوظين أن يتدربوا على الحياة النُسكية والفضائِل الأخلاقية.
وكان تعليم الموعوظين يتم عدَّة مرَّات كلّ أسبوع في رِواق الكنيسة، وكان المُدرسون من رجال الإكليروس أو من المؤمنين العاديين، وكانت هذه المدارس تُسمَّى مدارس الموعوظين، وكانت توجد في كلّ مكان يوجد فيه مسيحيون منذ البداية الأولى للمسيحية، وكانت مفتوحة لأي إنسان جاد يتقدَّم طالبًا الإلتحاق بها، من أي طبقة اجتماعية ومن أي جنس ومن أي سِنْ.
وعلى أيَّة حال، لم يكُن هذا التدريب والدراسة ينتهي بالمعمودية، بل كان يستمر طُوال الحياة، مُتعمقًا أكثر فأكثر في معنى وجوهر الحياة المسيحية.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:26 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
المدارس التعليمية Catechetical Schools

بجانب مدارس الموعوظين، كانت هناك أيضًا مدارس تعليمية، وهذه كانت مُؤسسات تُقدِّم مستوى مُتقدِّم من التعليم اللاهوتي المسيحي ومن التعليم الكلاسيكي أيضًا.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:27 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
مدرسة الأسكندرية

تُعتبر مدرسة الإسكندرية اللاهوتية من أشهر المُؤسسات التعليمية في التُراث المسيحي، ويبدو أنها كانت موجودة في زمان مُبكِر جدًا، وفي مُنتصف القرن الثاني الميلادي صارت مدرسة هامة للغاية للاَّهوت المنهجي، وكان العلاَّمة بنتينوس (180 م.) وكلِمنضُس السكندري وأوريجانوس وديديموس الضَّرير (انظُر كتابنا ”ديديموس الضَّرير“ – الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) من أشهر الأسماء التي اقترنت بها، وإلى أوريجانوس يرجع الفضل في تطويرها وتحديثها، لكن كلِمنضُس مُعلِّمه هو الذي مهَّد الطريق له، وقد قسَّم أوريجانوس المدرسة إلى قسمين، الأوَّل تحت اشراف هيراكلاس (24)، والثاني للدراسات المُتقدمة وكان يُدرَّس فيه مُستوى مُتقدم في اللاهوت والتفسير والفلسفة والهندسة والرياضيات، كما كان هناك أيضًا مواد أخرى مثل النحو والبلاغة والموسيقى والفَلَكْ (25)، وكان الطُّلاب يستخدمون مكتبة جامعة الأسكندرية والمعروفة باسم ”الميوزيم Museum“.
ولم تكُن مدرسة الإسكندرية هذه -والتي كانت تُعرف باسم ”الديدسكاليون διδaskaleιon أي مدرسة“- مدينة بنجاحها لمُعلميها الأفذاذ المشهورين فقط، بل وأيضًا لمناخ المدينة بجُملتها، والذي كان مناخًا ثقافيًا مُتميزًا، فقد كان الناس يعيشون فيها لأجل الأداب والمعرفة فقط (26)، وأخيرًا لم تكُن مدرسة الإسكندرية مُجرَّد مدرسة، بل كانت تُمثِّل حركة فِكرية لاهوتية ظهرت وبلغت ذروتها في الأسكندرية وتبعت أوريجانوس إلى قيصرية.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:28 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
مدرسة أنطاكية

وكانت هذه ثاني أهم مدرسة، وقد أسَّسها لوسيان (240 – 312 م)، وقدَّمت للكنيسة مُفسرين عُظماء مثل يوحنَّا فم الذَّهب، أبيفانيوس (انظُر كتابنا ”إبيفانيوس“ – الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ )، كيرلُس الأورشليمي، كما قدَّمت أيضًا رئيس الهراطقة آريوس.
كذلك كانت أنطاكية مركزًا للمعرفة اليونانية مِمّا أتاح للاَّهوتيين الأنطاكيين إمكانيات رائعة لدراسة الفلسفة والبلاغة.
وقد تميَّزت مدرسة الإسكندرية باستخدام المنهج الرمزي في التفسير بينما استخدمت مدرسة أنطاكية المنهج النقدي والحرفي.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:28 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
مدرسة نصيبين | مدرسة أديسا

كانت مدرسة أديسا أشهر المدارس غير الناطقة باليونانية، ويروي التقليد أنَّ القديس مارِآفرآم السُرياني هو الذي أسَّسها عندما نقل مدرسته من نصيبين إلى أديسا والتي كانت داخل حدود الإمبراطورية البيزنطية، وكان ذلك عندما سقطت نصيبين في يد الفُرس عام 363 م، ولكن مدرسة نصيبين سقطت في النسطورية إذ عندما وجد العديد من النساطرة الحِماية تحت حُكم الفُرس، اجتمعوا فيها.
وكانت تغلِب على مدرسة أديسا السِمة الرهبانية، بل وحتّى مبانيها كانت مُنظمة كأنها دير (27)، وكان المنهج يتضمن دراسات كِتابية وتاريخية وتفسير وفلسفة يونانية وبلاغة.
بجانب هذه المدارس التي تناولناها، كانت هناك مدارس أخرى عديدة مثل مدرسة قيصرية التي أسَّسها العلاَّمة أوريجانوس، ومدرسة سلوقيا Seleucia ومدرسة روما، وبعض من هذه كانت معاهد للإكليروس، لكن لم يُضاهي أيٍ منها مدرسة الإسكندرية أو أنطاكية في الأهمية.
كما أنَّ الكنيسة نفسها يُمكن أن تُسمَّى مدرسة ذات أهمية عظيمة، فالمسيحية كانت تُريد أن تُغيِّر العالم، واتخذت من تعليمها وسيلة أساسية لتحقيق ذلك.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:29 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
المراجع



https://st-takla.org/Pix/Books/Genera...References.gif
1) Justin the Martyr, Apology, II, 13, A.N.F. I, p. 193.
2) __________, Apology, I, 46, P.G. 6, 39.
3) Clement of Alexandria, Paedagogus, II. 2, V.H.P., 7, p.214.
4) P. Monroe, History of Education, N. York, 1906, p.222.
5) W.Jaeger, Two Rediscovered Works of Ancient Christian Literature: Gregory of Nyssa and Macarius (Leiden: 1954) p. 34.
6) Basil, Quod Mundanis …., P.G. 31, 563 – 590.
7) Basil, Letter to Libanius, P.N.F., VIII, p. 325.
8) J. Quasten, Patrology, 1950-1960, III, p. 203.
9) Tertullian, Against Heretics, 7, A.N.F., III, p. 246.
10) Didascalia Apostolorum, ed. Fr. Funk, II. P. 51.
11) Tertullian, Against Heretics, VII, A.N.F., III, p. 246.
12) H. Marrou, A History of Education in Antiquity, N. York, 1964, p. 422.
13) Theodoret, Historica Religiosa, IV. 15, P.G. 82, 1157.
14) P. McCormick, History of Education, Washington, 1957, p. 214.
15) Balsamon, Canonical Questions, P.G. 138, 978.
16) Gr. Dix, The Treatise on the Apostolic Tradition of St. Hippolytus, 2nd ed. London, 1968, p. 25.
17) Vie D`Alexandre L`Acemete, II. 22, P.OR., VI, p. 673.
18) Clement of Rome, Letter to Corinthians, 21, P.G. 1,257.
19) Ignatius , Epistula ad Philadelphios, 4,P.G. 5, 825.
20) Fr. Eby, History and Philisophy of Education, Englewood Cliffs, 1958, p. 602.
21) Eusebius , Apologetica, 12.60, P.G.21, 985 and 988.
22) "Constitutiones Apostolorum" 8.32, ed.Fr. Funk, Didascalia Apostolorum, p.175.
23) L. Sherril, The Rise of Christian Education. N. York, 1944, pp. 175,184 and 192.
24) Eusebius Historia Ecclesiastica, VI.29/IV.15, P.G.20, 582 and 533. See also Jerome, Lives of Illustrious Men, 38, P.N.F., IV, p.371.
25) Eusebius, Historia Ecclesiastica, VI.18, F.T.C., XXIX, p.33.
26) Ch. Cruttwell, A Literary History of Early Christianity, London, 1893, p.430.
27) A. Voobus, History of Asciticism in the Christian Orient, Louvain, 1960, p.413.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:30 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
النظريات التربوية عند الآباء



https://st-takla.org/Pix/Saints/01-Co...Anthony-06.jpg
لم يكتُب أي من الآباء الأوَّلين كتابًا خاصًا عن النظريات والتساؤلات التربوية، لكن أفكارِهِم التربوية مُتناثرة في صفحات الأدب المسيحي الغزير ولذلك من الضروري أن نبحث عن هذه الأفكار والنظريات في كِتابات آباء الكنيسة الأوَّلين ونُحلِّلها ونصيغها منهجيًا حتّى نحصُل على صورة كاملة لنظامهم ومنهجهم ونظرياتهم في التربية.
وفي سعينا لتحقيق ذلك، سوف نتناول النِقاط التالية:
1) الوراثة والبيئة.
2) النِعمة الإلهية.
3) إمكانية التربية.
4) هدف التربية الرهبانية.
5) الحياة النُّسكية كوسيلة للتربية الرهبانية.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:32 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الوراثة والبيئة

بكلمة ”وراثة“ نعني انتقال بعض العناصر واستمراريتها من جيل لجيل، وهذا المُصطلح لم يكُن معروفًا للآباء بل بدلًا منه كانوا يستخدمون كلمة ”طبيعة – فيزيس Φυsιs - nature“ للإشارة إلى نفس المعنى والمضمون الذي لكلمة ”وراثة“.
أمَّا المُصطلح الثاني ”البيئة“ فواسع للغاية وليس تعريفه بالأمر السهل، لكننا نستخدمه هنا في هذه الدراسة ليدُل على كلّ ما هو خارج الفرد، أي الأشخاص الآخرين، المُجتمع ببنيته ومُؤسساته، النباتات، الحيوانات، إلخ... ورغم أنَّ الآباء لم يستخدموا هذا المُصطلح بمعناه الواسع، إلاَّ أنهم استخدموا مُصطلحات أخرى تُشير إلى أجزاء من هذا المُصطلح الواسع مثل ”التدريب“ ”الإرشاد“ ”التربية“ ”التفاعُل الاجتماعي“ إلخ... وهم يُشيرون إلى البيئة الاجتماعية أكثر مِمّا للبيئة المادية.
وكان آباء الكنيسة على وعي وإدراك تام بأنَّ للوراثة والبيئة دورهما الهام للغاية في النمو الشخصي لكلّ فرد، وبحسب الآباء، يرِث الإنسان الضعفات وأيضًا الاستعدادات، وقد كتب القديس يوحنَّا الدَّرجي مُعلِّم النفوس الشهير، مُعبِّرًا عن هذا الفِكْر بوضوح في كِتابه ”السُّلَمْ“ فيقول:
”إنَّ البعض – لا أعرف لماذا – هم بالطبيعة، إن جاز أن أقول، ميّالون إلى ضبط النَّفْس أو الصمت أو النقاوة أو الاتضاع أو الوداعة أو الحُزن، بينما هناك آخرون يغصِبون على أنفسهم بأقصى قُدرتهم (لاقتناء هذه الفضائِل) رغم أنَّ طبيعتهم عينها تُقاومهم في ذلك“. (1)

وهذا القول يُدهِشنا تمامًا، لأنه يشرح بوضوح أنَّ الإنسان يرِث الاستعدادات والميول الصَّالِحة، وهي فكرة نادرًا ما نجدها في أعمال الآباء، فالأدب الآبائي في تعليمه عن الخطية، يُؤكِد دومًا على الجانب السلبي للوراثة، أي أننا نرِث الضعفات والميول الرديئة والتي تُعتبر نتائج لـ ”الخطية الأصلية“ أو خطية آدم، أي الاختيار المُتعدي والخاطئ الذي صنعه الإنسان الأوَّل آدم، عندما أكل من الثمرة المُحرَّمة، وهكذا بعصيانه وتعديه، حُرِم من الشَرِكَة مع الله وفسدت طبيعته، وصار هذا الفساد ينتقِل من جيل إلى جيل وساد في الطبيعة البشرية بجُملتها، النَّفْس والجسد، ويقول القديس أبو مقار الكبير أنَّ هذا الفساد موجود في سائر البشر (2) ويدفعهم نحو الخطية، وهو يُمثِّل ”الناموس الآخر“ ”ناموس الخطية“ الذي في أعضائنا كما كتب القديس بولس الرَّسول (رو 7: 23) والذي يُحارب ”ناموس العقل“، ولذلك الإنسان ”مُستعد وميَّال لأن يشترِك في الشر“ (3) أكثر مِمّا في الخير، وتختلف درجة هذا الميل الشِّرِّير من شخص لآخر، وطبيعته ليست إجبارية بقدر ما هي تعرض وتُقدِّم، وقد عبَّر القديس مقاريوس عن هذا الفِكْر عندما قال في إحدى عِظاته الشهيرة: ”إنَّ طبيعتنا قادرة على قبول الخير والشر، وقُوَّة الشر تغوي وتعرِض ولا تُكره أو تُجبِر“. (4)
كذلك يشرح الأدب الآبائي أنَّ الإنسان حُر في قبول ”الشهوات“ أو رفضها، وهذه حقيقة تجعل الإنسان مسئولًا عن أعماله (5)، وحياة الراهب ليست أكثر من جهاد مُستمر ليغلِب هذا الميل الشِّرِّير، أمَّا التعليم والتربية الرهبانية فتهدِف – من ناحية – إلى وضع هذا الجهاد في إطار منهجي مُنظم، ومن الناحية الأخرى إلى إنماء الميول والاستعدادات الصَّالِحة والتي يرثها الإنسان أيضًا من آبائِهِ وأجداده، وبعض هذه الاستعدادات هي ”الذكاء“ و”الفضائِل“ (6)، ويقول القديس باسيليوس: ”إنَّ الفضائِل توجد فينا أيضًا بالطبيعة، والنَّفْس تنجذِب لها ليس بالتربية بل بالطبيعة نفسها“. (7)
ومُصطلح ”بالطبيعة“ هنا إنما هو مُرادف لمُصطلح ”بالميلاد“، وفي القرن الرَّابِع شرح الأنبا بفنوتيوس بوضوح أنَّ بعض الناس لهم ميول فِكرية، بينما هناك آخرون لهم ميول أخلاقية (8)، لكن الفضائِل لا توجد في درجتها العالية المُتقدمة، بل كبذرة وكـ ”ميل“ و”استعداد“، ويتضح هذا الفِكْر أيضًا في كِتابات كلِمنضُس السكندري: ”وفوق كلّ شيء، يجب أن يعرفوا أننا بالطبيعة نميل إلى الفضيلة، وليس معنى هذا أننا نملُكها بالميلاد، بل أننا مُستعدون ولائقون لكي ننالها“. (9)
وتعتمد درجة تقدُّم الإنسان في الفضيلة على التدريب الذي يتلقاه وعلى جهاده الشخصي، وقد كتب القديس مقاريوس قائلًا: ”لقد وضعت النِعمة الإلهية تدبيرًا يجعل كلّ أحد يُشارِك في التقدُّم والنمو الروحي بحسب رأيه الشخصي وإرادته هو، وبحسب عمله وجهاده هو“. (10)
والاستعدادات الموروثة، والضعفات والسِمات الأخرى الموروثة أيضًا، هي ما يُميِّز الإنسان عن الآخر ويجعل كلّ إنسان فريدًا، وقد وضعت قوانين الكنيسة هذه الفرادة في اعتبارها، عند تحديدها للسِنْ الذي يصير فيه الطفل مسئولًا عن أعماله، وهكذا نجد البابا تيموثاوس السكندري في إجاباته القانونية Canonical Answers يقول أنَّ الطفل يُصبِح مسئولًا عن أعماله عندما يبلُغ نضوجًا مُعيَّنًا، عادة نحو سِنْ 10 أو 11 عامًا... فلم يُحدِّد البابا تيموثاوس سِنًا مُعيَّنة لأنَّ هذا يتوقف على طبيعة الطفل. (11)
أمَّا فيما يختص بالبيئة، فنجد أنَّ العديد من النصوص النُّسكية تُوضِح أنَّ آباء الكنيسة كانوا ينظرون إلى ”البيئة environment“ كعامِل مُؤثِر وهام في تطور ونمو الشخصية، ويُلاحظ القديس يوحنَّا الدَّرجي مُندهشًا أنَّ المُعاشرات الاجتماعية – والتي هي جزء من بيئة الشخص – قوية للغاية لدرجة أنها تُؤثِر على الإنسان وتسحبه بعيدًا عن توجهاته الطبيعية بسرعة فائقة، ولعلّ كاتِب ”السُّلَمْ إلى الله“ – لأسباب تعليمية – أكَّد بشدة على الدور القوي الذي تلعبه البيئة في تشكيل الشخصية، ولم يكُن يُعبِّر عن الرؤية العامة لهذا الموضوع، ورغم أنَّ الآباء لم يشرحوا إلى أي مدى تُؤثِر البيئة على تطور ونمو الإنسان، إلاَّ إنه يتضح لنا أنهم لم يعتبروه عاملًا فائق القُدرة في تشكيل الشخصية (12)، بل وحتّى القديس يوحنَّا الدَّرجي نفسه في موضِع آخر من كِتابه ”السُّلَمْ“ يقول أنَّ الوراثة تُشكِّل الإطار الذي فيه تُقدِّم البيئة تأثيرها وصياغتها للشخصية، وعلى أيَّة حال، رأى الآباء أنَّ البيئة الصَّالِحة يُمكن أن تكون نافعة للغاية للإنسان، وأنَّ البيئة الرديئة يُمكن أن تكون مُدمرة للإنسان، وفي ”الأقوال Apophthegmata“ نقرأ: ”إنَّ من يذهب إلى محل العطور، حتّى ولو لم يشتري شيئًا، يشترك في الرائحة العَطِرة“. (13)
لذلك أخذ آباء البريَّة خُطوات جادَّة نحو خلق بيئة ومناخ صالح ونافع في أديُرتهم، وشجَّعوا تكوين العلاقات الحميمة بين المُبتدئين والرُّهبان المُتقدمين الذين هم ”محل عُطور“ بالنسبة للراهب، وكان على الرُّهبان أن يجاهدوا لأجل إقامة مثل هذه العلاقات، ولأجل أن يتفادوا أي مُعاشرة مع ”الأُخوة الكذبة“ (14).. وهذه البيئة كانت أيضًا نتيجة للبنية العامة للحياة الرهبانية.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:33 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
النعمة الإلهية

رأى الآباء أنَّ للنمو الإنساني أبعاد ثلاثة، الأوَّل هو الوراثة والثَّاني هو البيئة، وهذين قد ناقشناهُما، أمَّا البُعد الثَّالِث فهو النِعمة الإلهية، وفي اللاهوت المسيحي، مُصطلح ”النِعمة الإلهية“ يعني محبة الله المجانية كما تُستعلن في خلاص الخُطاة ومنح البركات، وتعمل النِعمة أساسًا في هؤلاء الذين لهم ارتباط عضوي بالكنيسة والذين يُجاهدون ليعيشوا بحسب تعاليمها، لكن النِعمة تعمل أيضًا خارج الكنيسة في هؤلاء الذين غالبًا ما يتجاهلونها ولا يبذلون أي جهد لاقتنائها.

وقد اعتبر الآباء أنَّ النِعمة الإلهية أهم العوامل التي تُؤثِر على تطور ونمو الشخص، بل وبجانب أنَّ لها تأثيرها المُباشِر على الإنسان، فهي كذلك تحكُم العاملين الأخرين (الوراثة والبيئة)، وهكذا كان هناك أمور كثيرة رأى الآباء أنها نتيجة وثمرة للنِعمة بينما رأى الدارسون والباحثون المُحدِثون أنها نتيجة لعاملي البيئة والوراثة، وفي الأدب الآبائي، نجد وثيقة رهبانية مُبكِرة للغاية تُؤكِد بجلاء على أهمية وأولوية النِعمة الإلهية، تلك هي ”سيرِة القديس باخوميوس Vita Prima of St. Pachomius“ فنقرأ فيها كلمات تلاميذه المملوءة بالإعجاب والدهشة:
”اعتدنا أن نعتقِد أنَّ كلّ القديسين كانوا بتدبير الله قديسين منذ أن كانوا في رَحِم أُمهم ولا يُمكن أن يتغيَّروا، وليسوا قديسين بإرادتهم الحُرَّة وأنَّ الخُطاة لا يُمكن أن يعيشوا بسيرة صالحة لأنهم خُلِقوا هكذا، لكننا الآن نرى صلاح الله واضحًا في حالة أبونا هذا إذ وهو من والدين وثنيين صار خائفًا لله للغاية، وهو مُلتحِف بجميع وصايا الرب... فلنمُت ولنحيا مع هذا الإنسان لأنه يقودنا بالصواب إلى الله“. (15)
ونجد هذا القول عينه أيضًا في كتاب ”الأقوال“... وبحسب الآباء، كانت النِعمة الإلهية هي القُوَّة التي تقود عاملي البيئة والوراثة، وهي التي تُعطي الجهود التربوية والتعليمية إمكانية النجاح، وكانت كلمات السيِّد المسيح ”بدوني لا تقدِروا أن تفعلوا شيئًا“ (يو 15: 5) دومًا في أذهانِهِم.
ولكي نلخص هذا الفِكْر الآبائي، يُمكننا أن نقول أنَّ آباء الكنيسة رأوا أنَّ نمو الإنسان وصياغة شخصيته كان نتيجة لعوامل ثلاثة: الوراثة – البيئة - النِعمة الإلهية... ولذلك كتب القديس مقاريوس الكبير قائلًا: ”لا يستطيع الإنسان أن يتقدَّم بالقُوَّة والنِعمة الإلهية فقط دون تعاونه وإرادته الحُرَّة، وكذلك لا يُمكنه بقُوَّته وجهاده فقط، دون معونة الروح القدس أن يُتمِّم إرادة الله الكاملة ويصل إلى مِلء الحُرية والنقاوة“. (16)
ورغم أنَّ النصوص الآبائية لا تُوضح لنا إلى أي مدى يسهم كلّ عنصر من هذه العناصر المُؤثِرة في نمو الإنسان وشخصيته، إلاَّ أنَّ الآباء أكَّدوا بشدَّة على دور النِعمة الإلهية، واضعين إياها فوق العاملين الآخرين.
والآن عندما نُقارِن بين تعليم الآباء وبين نظريات العِلْم الحديث، نجد أنه في موضوع الوراثة والبيئة ودورِهِما التشكيلي والتكويني للشخصية، تتفق أفكار وتعاليم الآباء مع العِلْم الحديث، ومن الآراء العِلمية الحديثة المقبولة في هذا الصدد، القول بأنَّ ”الشخص، أي شخص، وكلّ سِماته الجسمية والعقلية والثقافية، هو نِتاج تفاعُل الطبيعة والتنشِئة، الوراثة والبيئة“ (17)، أمَّا بالنسبة للنِعمة الإلهية فمن الجلي أنَّ العُلماء لا يقبلونها كعامِل مُؤثِر في صياغة الإنسان وشخصيته.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:35 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
إمكانية التربية

إنَّ كون الإنسان يتصِف منذ ولادتِهِ ببعض الميول الطبيعية الرديئة والصَّالِحة، من ناحية، وإمكانية تغييره وتطويره عن طريق بيئته واتصالاته مع الأخرين، من ناحية أخرى، يُؤكدان على إمكانية التربية وأيضًا على ضرورتها، ويُسلِّم الأدب الآبائي بأنَّ للتربية تأثيرها الكبير على شخصية الإنسان، ويقول كلِمنضُس السكندري أنَّ التربية السليمة تقود إلى السماء، وكتاب ”الأقوال“ يذكُر أنَّ الكلمة الصَّالِحة لها من القُوَّة ما يجعل من الشِّرِّير بارًا، والكلمة الشِّرِّيرة تستطيع أن تجعل البار شريرًا (18)، كذلك كان آباء البرية يُؤمنون أنَّ التربية تعني بالجسد وأيضًا بالنَّفْس كليهِما، وأنَّ لها تأثيرها القوي على الحياة بجُملتها، ويُؤكد أبو مقار الكبير أنَّ بالتدريب السليم، يُمكننا أن نقتني الفضيلة، ويقول القديس يوحنَّا الدَّرجي أنه بالتدريب الحَسَنْ يُمكننا أن نحِد حتّى من احتياجاتنا الطبيعية، مثل الأكل والنوم إلخ (19)... لكن الآباء يُنبهون إلى أنَّ مهمة التربية صعبة للغاية، وأنها تتطلّب وقتًا ولابد أن تتم بصبر وبالتدريج وبرفِق. (20)
وفي تناولهم لموضوع السِنْ، رأى الآباء أنَّ التربية تأتي بنتائِج أفضل عندما تتم في السنوات الأولى من حياة الطفل، إذ أنَّ كلّ ما يُطبع على النَّفْس في تلك المرحلة المُبكِرة، عندما يكون من السهل تشكيل النَّفْس وتكون لينة وطيِّعة مثل الشمع، يُصبح من الصعب محوه فيما بعد.
وهكذا يجب أن تبدأ تربية الشخص في سِنْ مُبكِر، عندما – كما يقول القديس باسيليوس – تكون طبيعة الطفل طيِّعة للغاية وسهلة التشكيل (21)، ويُردِّد القديس يوحنَّا الدَّرجي نفس هذا التعليم ويذكُر أنَّ التربية التي تلقاها وهو طفل كان لها تأثير حاسِم، سواء إيجابي أو سلبي، على نموه في الحياة الرهبانية (22)، وأخيرًا في كِتابه ”عن المجد الباطِل والطريقة الصحيحة للوالدين لتربية أطفالهم“ يتناول فم الذَّهب نفس هذا الموضوع مُوضحًا السبب الذي يجعل السنوات الأولى أكثر أهمية من أي سِنْ آخر، فيقول أنه في ذلك السِنْ تكون ”النَّفْس رقيقة“ وعندما يُطبع التعليم الصَّالِح على مثل هذه النَّفْس، لا يستطيع أحد أن يمحوه، إذ من الصعب محوه، تمامًا كما أنه من الصعب محو الأختام، وبالمثل السنوات الأولى في حياة المُبتدئ في الرهبنة أساسية جدًا لأجل نموه فيما بعد، وهكذا كان يُنظر إلى فترة البداية في النذر الرهباني كمرحلة حاسمة، ولذلك لابد أن تُعطى اهتمامًا فائقًا من الأب ومن التلميذ.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:36 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
هدف التربية الرهبانية

من الأهمية بمكان أن نُميِز بوضوح بين هدف التربية الرَّهبانية وبين هدف الرهبنة، ويُمكن أن نفهم الأوَّل أفضل عندما نفهم الثَّاني.
هدف أو غاية الرهبنة هو نفس هدف المسيحية، ذلك أن تُشكِّل في الناس شخصيات مسيحية ليكونوا لائقين ومُستعدين لدخول ملكوت السموات، وللرهبنة وسائلها لبلوغ هذه الغاية، وبالرغم من أنَّ آباء البرية شرحوا أهدافهم بطُرُق مُختلفة، إلاَّ أنه في التحليل النهائي لأهداف وغايات كلٍّ من الرهبنة والمسيحية، نجد أنها أهداف مُتماثلة.

https://st-takla.org/Pix/Jesus-Christ...f-Jesus-38.jpg
St-Takla.org Image: Jesus Christ in contemplation
فبالنسبة للنُّسَاك الأوَّلين، كانت الغاية النهائية من نذرِهِم وتكريسهم هي استعادة حالة آدم قبل السقوط (23)، وفي سيرة العظيم الأنبا أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس نقرأ أنَّ القديس أنطونيوس أمر الحيوانات ألاّ تُزعِج سلامه أو تُفسِد حديقته، وهكذا ترسم أمامنا صورة للعلاقة بين أنطونيوس الكبير والحيوانات، والتي تدُل على استعادته لحالة آدم قبل السقوط.
كذلك شرح آباء آخرون أنَّ غاية الرهبنة هي الوصول إلى حالة الهيزيخيا Hyschia أي السكينة، أو حالة الأباثيا (24) والتي تعني اللاهوى أي ضبط الإنسان الكامل لشهواته وأهوائه، وإذا بلغ الراهب حالة الأباثيا Apatheia، يُمكنه أن يكرَّس نفسه لحياة الثيؤريا Theoria أي التأمُّل.
وبالإضافة إلى هذا وذاك، علَّم بعض الآباء أنَّ هدف الحياة الرهبانية هو أن ينال الراهب عطايا الروح القدس، وهذا الرأي ردَّده القديس سيرافيم ساروفسكي النَّاسِك الروسي في القرن التاسِع عشر.
وبجانب ذلك، كان آباء البريَّة يُؤمنون أنَّ هدف التربية الرَّهبانية هو أن تُساعد المُبتدئ على الوصول لأهدافه بأقصى سُرعة مُمكنة، ولذلك استخدموا كلّ الطُرُق والوسائل المُناسبة المُتاحة لهم في سعيهم لمُساعدة تلاميذهم في مُهمتهم الصعبة.
وسوف نُناقِش بدقة أكثر – في فصل آخر – المناهج والطُرُق العديدة التي استخدموها، أمَّا الآن فسوف نتناول أهم هذه الوسائل وهو ”النُّسْك Ascesis“ من زاوية نظرية.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:37 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الحياة النسكية كوسيلة للتربية الرهبانية


إنَّ تعبير ”الحياة النُّسكية ascetical life“ يعني المنهج النُّسكي في الحياة والذي يتضمن ضبط النَّفْس في الأكل، السهر، الصمت، عدم الرَّاحة، الطاعة، التلمذة، إلخ... وأساس هذه الحياة النُّسكية مُتأصِل في العهدين القديم والجديد، وتظهر عناصر الحياة النُّسكية في كِتابات الآباء الرَّسوليين بالترتيب التالي:
1) تحديد أيام مُعيَّنة للصوم.
2) تحديد ساعات مُعيَّنة للصلاة. (25)
3) عدو الزواج، وخاصَّة الزيجة الثَّانية. (26)
4) جحد العالم، أي العالم المادي.

وفي المصادر الرَّهبانية الأولى، تتماثل الحياة الرَّهبانية كثيرًا مع ”النُّسْك“ الذي يعني ”تدريب – مُمارسة – تمرين، إلخ..“ ويُستخدم هذا المُصطلح في النصوص الآبائية للدلالة على الحياة الرَّهبانية والنُّسْكية ومُمارستها (27)، ويُدعى الرُّهبان ”نُسَّاك“ أي هؤلاء الذين تركوا العالم وعاشوا في عفة وبتولية وحياة فقر زاهدة (28)، وقد كانت هذه الكلمة تُستخدم في الأدب اليوناني عادةً للإشارة إلى ”الإنسان الذي يتدرّب أو يُمارِس إحدى الفنون“ والراهب بحسب تعريف القديس يوحنَّا الدَّرجي هو ”ذاك الذي في جسده التُرابي يُجاهد ليبلُغ رُتبة وحالة الكيانات غير الجِسدانية، الراهب هو ذاك الذي يضبط طبيعته تمامًا ويُلاحظ حواسه على الدوام... الراهب هو نفس حزينة مشغولة في نومها ويقظتها بغير انقطاع بذِكْر الموت“. (29)
وهذا التعريف يُردِّد بوضوح صدى أفكار النُّسَاك الأوائِل، كما عبَّر عنها أنبا زكريا حينما قال أنَّ الراهب هو الذي يغصِب نفسه في كلّ شيء (30)، وهكذا يُمكننا أن نرى كيف كان للنُّسْك دورًا أساسيًا وجوهريًا في الحياة الرَّهبانية.
وكانت أتعاب الجسد وجهاداته هي الثمن الذي يدفعه الراهب لأجل نوال عطايا الروح القدس، ولذلك تُوضح ”الأقوال“: ”اعطِ دمًا وخُذ روحًا“ (31) فهذه الأتعاب هي وسائل نوال الفضيلة، أو بالأحرى هي وسيلة للبلوغ إلى هدف الرهبنة، لأنها تُنقي القلب والذهن وتجذِب النِعمة الإلهية. (32)
لكن الحياة النُّسكية لم تكُن قط هدفًا في ذاتها، فالنُّسْك ببساطة هو مُساهمة من الجسد في جهاد النَّفْس وسعيها لبلوغ غايتها وهدفها، كما شرحه القديس إيسيذروس الفرمي (انظُر كتابنا ”إيسيذروس الفرمي“ – الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) في إحدى رسائله، وإذ كان بعض الرُّهبان يتخذون من النُّسْك هدفًا في ذاته، كان الأدب النُّسْكي يُحذِّرهم دومًا مُوضِحًا أنَّ قيمة النُّسْك نسبية فقط (33)، وعلى سبيل المثال، عندما وجد الأنبا ثيؤدوروس أحد الأخوة يتفاخر في المجمع بأصوامه الشديدة قال له: ”خير لك أن تأكُل لحمًا في قلايتك، من أن تتفاخر هكذا وسط الأخوة“.
ويُميِّز الأدب الرَّهباني بوضوح بين النُّسْك الإلهي والنُّسْك الشيطاني، فالأوَّل يتصِف بالتعقُّل والاعتدال، بينما الثَّاني نُسْك بلا تفكير ولا تعقُّل ومُغالى فيه، ولذلك لا يقود إلى نقاوة القلب بل إلى الذاتية الشيطانية، وكان القانون الذهبي للرُّهبان أن يتحاشوا كلّ التطرُّفات المُغالى فيها (34)، فمن الضروري أن يتلازم النُّسْك مع التمييز والإفراز الذي يُسميه نيلوس ”مصدر وأصل ورأس كلّ فضيلة“ والذي يُسميه صفرونيوس الأورشليمي (تنيَّح عام 638 م) ”مَلِكة الفضائِل“، إذ أنَّ هدف النُّسْك هو إماتة الأهواء الشهوات وليس قتل الجسد، كما قال الأنبا بيمن ذات مرَّة للأنبا إسحق ”لقد تعلَّمنا ألاَّ نكون قَتَلَة للجسد بل قَتَلَة للشهوات“. (35)
وعلى أيَّة حال، كانت المزية الكُبرى للحياة النُّسْكية أنها تسمح للراهب أن يحيا في شَرِكَة دائمة غير مُنقطِعة مع الله وذلك بتكريس دائم مُستمر لحياة الصلاة.
ولابد أن نوضح أنَّ العقل الرَّهباني، بخلاف فِكْر الغنوصيين أو المانيين، لم يُعتبر قط المادة شرًا في ذاتها، لأنَّ الله هو خالق كلَّ الأشياء، والثُّنائية اليونانية ”الخير - الشر“ لم تصِر قط إيمانًا في المسيحية الأُرثوذُكسية، فليس هناك شيء ردئ، لأنَّ الله لم يكُن ليخلِق شرًا (36)، لذلك يجب ألاَّ يترُك الإنسان المُقتنيات لأنها ببساطة شر في ذاتها، بل يجب أن يوزعها بتعقُّل وبلياقة لأنها يُمكن أن تكون أدوات للخطية.
كذلك لم يرفض الرُّهبان إمكانية الخلاص خارج إطار النُّسْك الرَّهباني، وكثيرًا ما كانت الملائكة تتراءى للرُّهبان لتُخبرهم أنَّ بالرغم من أنهم يعيشون حياة نُسكية لسنوات طويلة في البريَّة، إلاَّ أنهم لم يبلُغوا بعد القامة الروحية التي لبعض المؤمنين العاديين الذين يعيشون في العالم. (37)
لقد كان النُّسْك تربية جسدية سلبية، تهدِف إلى إضعاف الجسد الفاسد بالخطية وتنقيته وإعداده للقيامة، وكان الرُّهبان يُؤمنون أنه ”بقدر ما يضعُف الجسد، بقدر ما تزهر النَّفْس“.
ومن الناحية الأخرى، أكَّد القديس باسيليوس أنَّ الرَّاهب يجب أن يحتفظ بجسده في حالة صحية جيدة وإلاَّ لن تستطيع النَّفْس أن تُعايِن الإلهي.
وهكذا... رغم أنَّ أحدًا من آباء البريَّة لم يفرِد كِتابًا خاصًا عن التربية، إلاَّ أنه من البيِّن أنهم كانوا واعيين تمامًا بالمفاهيم التربوية، وكان لهم أفكارهم ورؤيتهم الخاصَّة لها، وهذه الآراء والأفكار تتماثل في مناح عديدة مع آرائنا وأفكارنا، وعلى أيَّة حال، قدَّموا عاملًا جديدًا في تشكيل الشخصية الإنسانية ألا وهو النِعمة الإلهية.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:38 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
مراجع الجزء السابق

1) John Climacus, The Ladder of Divine Ascent, tr. Moore, London, 1959, p. 206.
2) Macarius the Egyptian, Homily LXXV, V.H.P., XLII, 93.
3) Gregory of Nazianzus, Oration II,2,P.N.F. VII, 207.
4) Macarius the Egyptian, Homily XXVII, 10, V.H.P., XLI, 286.

5) John Climacus, Ladder. XXV, p. 188, See also Macarius the Egyptian, Homily XV, V.H.P., XLI, 230, And Irenaeus, Against Heretics, XXXVIII. A.N.F., I, 519.
6) Palladius, Historia Lausiaca, XCV, P.G.34,1201. John Climacus, Ladder, XXV, p.180.
7) Basil, Hexaemeron, Homily IX. 4, N.P.F., VIII, 103.
8) Macarius the Egyptian, Homily LIV, V.H.P. XLII, 42.
9) Clement of Alexandria, Stromata, VI, I I and 12, V.H.P., VIII, p.213-4.
10) Macarius the Egyptian, Letter, V.H.P., XLII, p.146.
11) G. Ralles, Syntagma Hieron Kanonon, Athens, 1825-1859,IV, p.341.
12) John Climacus, Ladder. XXVIII, p.189 and 206.
13) Apophthegmata, V.H.P., XLII, 256.
14) Ibid. P.G.LXV, 77, 116, 361.
15) Vita Parima Pachomii, quote., in Chitty`s The Desert A City, Oxford, 1966, p.21.
16) Macarius the Egyptian, Letter, V.H.P., XLII, p.146.
17) Dobzhansky, Th., Heredity and Nature of Man, New York, 1964, p.4.
18) Apophthegmata, P.G.65, 281.
19) Clement of Alexandria, Instructor , I, 12, A.N.F., II, 235. See also: Macarius the Egyptian, Ascetic Homily, V.H.P., XLII, p.188, and John Climacus, Klimax, I I , p.78.
20) Varsanuphius and John, Question XIII, P.OR. XXXI, Fsc 3, 469.
21) Basil, Reg. Fus., XV, P.G. 31, 956A.
22) John Climacus, Klimax, XXVI, Athens, 1970, p.148.
23) Chrysostom, Homilia, LXVIII, 3 IN Mt., P.G. 58, 643 D.
24) Diadochus of Photices, (451 A.D.), On Spiritual Perfection, 54. See also: Palladius, Historia Lausiaca. P.G. 34, 1003.
25) Didache VIII, V.H.P., II, p.217-18.
26) Ignatius, Letter To Polycarpus. II, ed. K. Bihlmeyer, Die Apostolischen Vater, Tubingen, 1924, p.112.
27) Basil, Constitutions, P.G. 31,1388 A.
28) Athanasius, Vita Antonii, P.G. 26,632A, and 889A.
29) John Climacus, Ladder I, p.50.
30) Apophthegmata, V.H.P.,XLII, 269.
31) Ibid., P.G.65, 257.
32) Ammonas, Peri Psyches, V.H.P., XL, 272 and 4th Letter, V.H.P., XL. P.54.
33) Apophthegmata, P.G.65, 204A.
34) Ibid., 425C.
35) Ibid., 368A.
36) Basil, Reg. Brev., 92, P.G. 31, 1145. Reg. Fus. P.G.31, 965B.
37) Apophthegmata, P.G.65, 168 and 156.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:39 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الأب والتلميذ


تبرُز في الرهبنة المُبكِرة والحديثة أيضًا رُتباتان رهبانيتان أساسيتان هما:
الأب Elder
والتلميذ Disciple
وتظهران كرُتبتين هيرارخيتين في الأدب الرَّهباني المُبكِر وفي التقليد الرَّهباني، فالآباء جميعهم لابد أن يبدأوا من رُتبة التلميذ ويتدرجوا حتّى يبلُغوا درجة الأب، وهذا الانتقال يستغرِق زمنًا ليس بالقليل، وتُقدِّم لنا اللُغة اليونانية العديد من المُصطلحات التي تصِف رُتبة الأب ورُتبة التلميذ ودور كلٍّ منهما، وكلٍّ من هذه المُصطلحات يعكِس مفهومًا لهاتين الدرجتين في الفترة التي ظهر فيها المُصطلح، فمثلًا: اللقبان ”شيخ Geron“ و”أب Pater“ كانا يُستخدما لوصف الأب في الفترات المُبكرة جدًا، وقد وَرَدْ أولهما ”شيخ Geron“ مرَّات عديدة في كتاب ”الأقوال“ وفي كِتابات القديس إيڤاجريوس البُّنطي المُلقب بمارِأُغريس (انظُر كتابنا ”إيڤاجريوس البُّنطي“ – الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ )، ويُستخدم هذا المُصطلح للتعبير عن حكمة ونُضج الأب أكثر مِمّا للتعبير عن سِنُّه وتقدُّمه في الأيام، أمَّا المُصطلح الآخر ”أب Pater“ فكان يُستخدم للدلالة على محبته الأبوية، واهتمامه بتلميذه الذي هو ابنه الروحي.
بالإضافة إلى ذلك، استخدم الأدب الرَّهباني كلمتي ”هيغومينوس Hegoumenous“ و”آباس Abbas“ وهذه الثَّانية كلمة سريانية من أصل سامي كانت تتداول في الأوساط الرهبانية بمعنى ”أب روحي“ حتّى عام 330 م كما يتضح من ورودها الكثير في شكلها القبطي في مُراسلات عديدة (1)، وهي ترِد مرارًا في العديد من المصادر الرَّهبانية المُبكِرة ولا تزال مُستخدمة حتّى الآن كما هو الحال مع جميع المُصطلحات التي أسلفناها (2).
والمُصطلح الآخر ”هيغومينوس Hegoumenous“ يعني ”رئيس دير“، وقد بدأ استخدامه عندما تحوَّلت الرهبنة من طابِع الوحدة إلى حياة الشَرِكَة، وقد استخدم باخوميوس هذا المُصطلح في قانونه (3)، وأيضًا نيلوس النَّاسِك ويوحنَّا الدَّرجي وأخرون كثيرون.

وبينما كان مُصطلح ”رئيس“ يُطلق فقط على رئيس الشركة الرهبانية، كان مُصطلح ”أب“ يُطلق على أي ناسك له تلميذ أو أكثر تحت إرشاده، أو على الرُّهبان الموقرين بسبب فضائلهم وجهاداتِهِم، أمَّا عن لقب ”آباس Abbas“ فكان يُعطى فقط للرُّهبان المُتميزين الذين بتعاليمهم وسِيَرِهِم صاروا مُعلِّمين للرهبنة كلّها، ومن الجدير بالذِكْر أنَّ الفصول الأولى من سيرة الأنبا باخوميوس لا تستخدم لقب ”آباس“ في الإشارة إليه لأنه كان يُعتبر صغيرًا جدًا.
وأخيرًا، كان هناك مُصطلحان آخران يُستخدمان في الإشارة إلى رئيس الشَرِكَة (4)، أحدهما هو ”أرشمندريت Archimandrite“ ويعني ”أن ترأس قطيع“ كما كانت الأديُرة تُسمَّى في سوريا والميصة، وهذا يدُل على أنَّ اللقب قد خرج في الغالب من سوريا، وقد وَرَدْ مرّتين في التاريخ اللوزياكي لبالاديوس، كما وَرَدْ في كِتابات باسيليوس وفي كتاب ”خزانة الدواء أو البناريون Panarion“ للقديس إبيفانيوس أسقف سلاميس وفي نصوص أخرى قديمة، وفي بعض الأحيان، كان الأرشمندريت رئيسًا لمجموعة من الأديُرة، وذلك بصفة خاصَّة في فلسطين (5).
أمَّا المُصطلح الثَّاني فهو ”برويستوس Proestos“ ويعني ”أن تكون رأسًا لـ...“ وصار يُستخدم بمعنى رئيس دير (6).
نأتي الآن إلى التلميذ، فنجد أنَّ مُصطلح ”أركاريوس Archarios“ كان يُطلق عليه وهو يعني ”مُبتدئ“ وفيما بعد عندما تأسَّست حياة الشَرِكَة وكان يُنظر إلى فضيلة الطاعة كأهم فضيلة لازمة للراهب، خاصَّة المُبتدئ، بدأ استخدام لقب ”هيبوتاكتيكوس Hypotaktikos“ والذي يعني ”الشخص الذي يطيع“ أو ”تحت الطاعة“ للدلالة على أنَّ عمل التلميذ الأوَّل هو أن يطيع أباه الروحي، وأخيرًا كان مُصطلح ”ماثيتيس Mathetes“ والذي يعني ”الشخص الذي يتعلَّم“ أو ”تلميذ“ يُستخدم هو الآخر باتساع (7).
والألقاب القبطية الرَّهبانية للأب هي: ”هيللو Hello“ وتعني ”شيخ“ ولقب ”ناج Nag“ ويعني ”عظيم“ وبدلًا من كلمة ”آباس“ استُخدِم لقب ”آبا“.
والإصطلاحات السريانية نافعة أيضًا، فالمُصطلح السرياني لكلمة ”هيغومينوس“ هو ”ميشاب لاڤا meshab lava“ ويعني ”قائد“ وكلمة ”ريش ديرا resh daira“ وتعني ”رئيس دير أو أرشمندريت“.
والمُبتدئ يُسمَّى ”تلميدا Talmida“ أي ”تلميذ أو شخص يتعلَّم“ والرُّهبان بصفة عامة يُدعون ”ديرارا dairara“ أي ”ساكن دير“.
وفي هذا الفصل سندرس أولًا مكانة الأب في الرهبنة ودوره ومُقوماته ثم سنتناول التلميذ وشخصيته والدوافع وراء خروجه إلى البريَّة وحاجته إلى الأب وأخيرًا فرادته الشخصية.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:40 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الأب | المُعَلِّم


دلالة ودور الأب
لقد أدرك الرواد الأوائِل للرهبنة مثل الأنبا أنطونيوس والأنبا باخوميوس وغيرهم، حاجتهم إلى مُرشد روحي، إذ عرفوا مدى صعوبة حياة الرَّاهب وأنه من المُستحيل تقريبًا أن يتعلَّم المرء هذه الحياة بدون إرشاد أب مُعلِّم، ومن هناك أكَّد التقليد والأدب الرَّهباني بقوة عظيمة على ضرورة أن يكون للإنسان أب مُرشِد، والقديس مقاريوس الكبير يقول في إحدى عِظاته أنَّ تلاميذ ملكوت السموات يحتاجون دومًا إلى مُرشِد (8)، وإلاَّ سيكون تعبهم باطلًا، ومن الأمثال الرَّهبانية الشهيرة، ذلك المَثَلْ الذي سجَّله لنا بالاديوس والقائِل ”الذين بلا مُرشِد يسقطون كأوراق الشجر“، كذلك القديس يوحنا كاسيان، والذي يعكِس أفكار آباء براري مصر، يقول أنه من الحماقة أن يظُن الإنسان أنه ليس من الضروري أن يكون له مُعلِّم في جهاده ونذره الروحي لأنَّ كلّ مهنة في العالم تحتاج إلى مُعلِّم، والقديس يوحنَّا الدَّرجي المشهور بتشبيهاته يكتُب بحرارة في سُلَّمه قائلًا: ”نحن الراغبين في الخروج من مصر هربًا من وجه فرعون نحتاج حتمًا إلى موسى آخر يتوسط لنا عند الله فيقف بين العمل والتأمُّل ويرفع يديه من أجلنا إلى أن نعبُر بإرشاده بحر خطايانا ونهزم عماليق أهوائنا، فالذين يتكلون على أنفُسهم ويتوهمون أنهم لا يحتاجون إلى مُرشِد يُرشدهم هم مخدُوعون“. (9)
وليس فقط المُبتدئون بل وأيضًا الرُّهبان المُختبِرون، كان عليهم أن يُطيعوا ويخضعوا للإرشاد، وألاَّ يُعطوا هم القوانين لأنفسهم، فالأب – والمُعتبر أداة في يد الله – هو الوسيلة الوحيدة التي بها يُمكن أن يبلُغ الإنسان إلى درجة السكينة (الهيزيخيا) والتي هي مرحلة مُتقدمة للغاية في الحياة الروحية.
وبثقة التلميذ في أبوه الروحي يجد السلام في طاعة قوانينه (10)، ولا يُمكن الاستعاضة عن الأب الروحي بالكُتُب لأنَّ دوره ليس فقط أن يُلقي عِظات، بل أن يعرف ويُحلِّل الأفكار والأعمال الباطنية التي يُفكِر فيها التلميذ أو يفعلها، وكذلك يُدبر حياة التلميذ بالطريقة التي يراها مُثلى، ومن الواضح أنَّ هذا العمل الهام جل صعب وملئ بالمسئولية، وكما يُلاحظ القديس إغريغوريوس النزينزي، هذا العمل أصعب من مُجرَّد أن يتعلَّم الإنسان كيف يخضع نفسه لقانون (11)، وقد شرح القديس نيلوس سبب ذلك فذكر أنَّ هذه الصعوبة تنتُج من ”تنوُّع العادات الإنسانية“ ومن ”خِداع أفكارنا“ وكذلك برصنوفيوس (من القرن السَّادِس) في إحدى رسائله المُوجَّهة لتلميذه يوحنَّا يصِف دور الأب مُوضحًا مدى صعوبته وتعبه.

اختياره
في المرحلة الأولى من رهبنة الوحدة، كان الراهب يُعطى لقب وسُلطان الأب بحسب تقدُّمه في حياته الروحية، أمَّا في رهبنة الشَرِكَة الأولى، فعندما كانت تحين لحظة نِياح رؤساء الأديُرة، كانوا في العادة يقترحون أو يُعيِّنون خُلفائِهِم، كما يتضح من سيرة الأنبا باخوميوس، أمَّا في ”المؤسسات“ للقديس يوحنا كاسيان (12)، وفي فترة لاحقة، نجد أنَّ رئيس الدير – والذي كانت له مكانة مُعادلة لمكانة الأب – كان يُنتخب من قِبَلْ الإخوة الكِبار في المجمع وأيضًا يختاره الآباء الروحيون من الأديُرة الأخرى، كما يُوصي بذلك القديس باسيليوس مُشرِّع الرهبنة الشرقية، وكان رئيس الدير ”أبًا روحيًا“ للشَرِكَة وعلى عاتقه تقع المسئولية ليس فقط عن المتاعب الروحية بل وأيضًا المادية مثل التمويل والتنظيم والإدارة، وتستمر رئاسته مدى الحياة، هذا إلى جانب أنَّ أخًا ثانيًا كان يُنتخب نائبًا عنه ليحل محله إذا كان مريضًا أو غائبًا.
وإذا حدث وأخطأ رئيس الدير، ينصحه الأُخوة الكِبار في الدير ويُعالجونه، وأي خطأ صغير يقع فيه الرئيس لا يُعطي للأُخوة حق تغييره، لكن إذا سقط في هرطقة أو بدعة، كانوا يعزلونه بحسب القانون السَّابِع لمجمع أفسس عام 431 م، والذي يأمر بأنَّ الأساقفة والإكليروس يجب أن يُعزلوا من مناصِبهم إذا قبلوا إيمانًا مُختلفًا. (13)
مُقوماته
لمَّا كان تأثير الأب على التلميذ حاسمًا، لذلك يُقدِّم لنا الأدب النُّسكي وصفًا دقيقًا لِمَا يجب أن يكون عليه الأب، وأوِّل مُقوماته هي أن يكون مُفعمًا بالحُب تجاه تلاميذه لدرجة أن يكون مُستعدًا ومُشتاقًا أن يُحرق ويُسحق لأجلهم (14)، ويجب كذلك أن يكون توَّاقًا إلى العمل باجتهاد عظيم كـ ”أب رحيم“ وكَوَصي صالح على منفعة التلاميذ الذين يعتبرهم ”أبناء الملك“ أي أبناء الله، وفي الوقت عينه لابد أن يتمتَّع الأب بمعرفة عميقة، نظرية واختبارية في كلّ ما يخُص الأمور الروحية (15)، ولذلك كان من اللازم أن يكون للأب خبرة ومُمارسة عملية في مجال خدمته هذه، وهي المُتطلبات الأساسية في أي مُعلِّم.
فمُجرَّد معرفة عوائد ومُمارسات الحياة النُّسكية أي متى وكيف نُصلي، نظام الطعام، إلخ، لم تكُن بالتأكيد كافية لأن يصير الراهب أبًا مُرشدًا، وكان مطلوبًا منه باستمرار أن يعمل ذهنه وأن يدرس بنفسه ويتأمَّل، ولا يضطلِع بأي مسئولية تربوية قبل أن يجد في نفسه الاستعداد اللائق لحل المشاكل والأتعاب التي تُواجه الرُّهبان في حياتهم النُّسكية (16)، لأنَّ الجهل خطأ لا يُغتفر للمُربي إذ يقول الدَّرجي ”من يفعل عن جهل ما يستوجِب العقاب، سوف يُعاقب على عدم إقباله على المعرفة (أي لأنه لم يتعلَّم)“. (17)
وبالتالي، كان على الأب أن يحصُل على خبرة طويلة في البريَّة ويعرف أسرارها، وأيضًا يجب أن يقتني بقداسته مواهب نِعموية تُعينه على إرشاد المُبتدئين بل وحتّى الرُّهبان المُختبرين – الذين لم يبلُغوا بعد كمال الحياة الرهبانية – كيف يجتازون الصِعاب والمتاعِب التي تعترضهم.
وكي يقتني الراهب هذه المُقومات التي ذكرناها، حتّى يستطيع أن يقوم بتعليم وقيادة الأخرين، يجب أن يكون مُتقدمًا في الأيام شيخًا، ويكون قد تمرَّس في مُعترك الحياة النُّسكية عشرات السنين، وفي سيرة أنبا باخوميوس نقرأ قصة تُوضِح الرأي الرَّهباني المُبكِر فيما يخُص سِنْ المُعلِّم، فقد حدث أنه بينما اجتمع جميع رُهبان دير أنبا باخوميوس كعادتهم ليستمعوا لعِظته، طلب باخوميوس من أحد الرُّهبان ويُدعى تادرس – والذي صار خليفته فيما بعد – أن يعِظ الأُخوة، وعندما سمع بعض الأُخوة الكِبار ذلك قرَّروا أن يغادروا المجمع قائلين في أنفسهم ”لأنه مُبتدئ ويُعلِّمنا لن نستمع له“ (18) لكن نفس هذه القصة عينها تُخبِرنا أنَّ تادرس كان يعيش في الدير منذ عشرين عامًا، ومع ذلك كانوا لا يزالوا ينظرون إليه كمُبتدئ بعد عشرين عامًا في الحياة الرَّهبانية!!
والعناصر المذكورة عاليه تُمثِّل الخلفية والسِمات والمُقومات الواجب توافُرها في الأب المُرشِد، فلابد أن يكون رقيقًا، صبورًا، مُحتمِلًا لضعفات وأخطاء الأخرين، ولا يليق بالأب أبدًا أن يغضب لأنَّ مثل هذا الراعي ”يُزعِج ويُهلِك النفوس العاقلة“ (19) بحسب قول القديس يوحنَّا الدَّرجي، وبرصنوفيوس يتساءل ”إذا كُنت أنا لك أبًا ومُعلِّمًا، فلماذا أكون أيضًا غضوبًا؟“. (20)
كذلك يجب أن يكون الأب رؤوفًا ولا يمتحن كلّ موقف بسيط وإلاَّ فلن يكون مُقتديًا بالله، وبجانب ذلك، لابد أن يكون الأب أيقونة حيَّة لكلّ الفضائِل كما يطلُب منه القديس نيلوس النَّاسِك، فيجب أن يُعلِّم بحياته الفاضلة وليس بكلماته، وبصفة خاصَّة لابد أن يكون قُدوة لتلاميذه في الاتضاع التام، ولا يكون قط أنانيًا أو ساخرًا. (21)
ويجب ألاَّ تصدُر التوبيخات والتأديبات عن رغبة خفيَّة في السيطرة على تلاميذه لأجل أغراضه وأهدافه هو الشخصية، بل بدافع اهتمامه بهم وبمنفعتهم، وسلطاته الأوتوقراطية المُطلقة يجب ألاَّ تجعل منه شخصًا مُستبدًا، ولذلك يقول القديس باسيليوس ”يجب ألاَّ يرتفع الرئيس بمنصبه العالي لئلاَّ يفشل في نوال البركة التي وُعِد بها المُتضِع، ولا يرتفع بكبريائه لئلاَّ يسقُط في دينونة الشيطان“. (22)
ويُقدِّم لنا التقليد الرَّهباني مثالًا رائعًا لرئيس الدير المُتضِع في شخص القديس باخوميوس الذي اعتاد أن يقول: ”تمامًا كما أنَّ الميِّت لا يقول (شيئًا) للموتى الآخرين، كذلك أنا قائدكم لم أعتبِر نفسي قط أبًا للأُخوة، بل (أعتبِر) أنَّ الله وحده هو نفسه (أبوهم)“. (23)
وإذ وضع آباء البريَّة في أذهانِهِم الصعوبات السالفة الذِكر الخاصَّة بالعمل التربوي والمُقومات والسِمات الشخصية المُتطلبة فيه من ناحية، ومن الناحية الأخرى حقيقة أنَّ الأب سيُعطى حسابًا أمام الله عن كلّ واحد من تلاميذه، رفضوا بشدة وتصميم أن يقبلوا القيام بدور الأب، واعتبروا أنفسهم غير قادرين ولا مُستحقين بدرجة كافية لتتميم مثل هذا العمل الهام، وأفضل مثال على ذلك هو الإجابة التي قالها أحد الرُّهبان عندما طُلِب منه أن يتولى رئاسة الدير: ”اغفروا لي يا آبائي لكي أحزن على خطاياي، لأني لستُ شخصًا مُناسبًا لأهتم بالنفوس فهذا العمل للآباء العِظام أمثال الأنبا أنطونيوس“ (24) وكتب برصنوفيوس أيضًا: ”لا أريد أن أصير رئيسًا على أحد ولا مُعلِّمًا لأحد، اغفروا لي يا إخوتي وصلُّوا لأجلي“. (25)
وهكذا كان من المُفترض أنَّ ”الكاملين“ فقط هم الذين يصيرون مُعلِّمين للصِغار، ولم يكُن أحد يعتبِر نفسه راهبًا كاملًا، ويروي لنا أيضًا هذا التقليد النُّسكي أنَّ بعض رُؤساء الأديُرة تركوا أديُرتهم سِرًا ومضوا إلى أديُرة أخرى دون أن يكشِفوا عن هويتهم الحقيقية وطلبوا أن يُقبلوا كرُهبان مُبتدئين، ولم يكُن دافعهم وراء ذلك مُجرّد رغبتهم القوية في أن يعيشوا حياة الاتضاع، بل وأيضًا المسئولية الجسيمة التي شعروا بها أمام الله عن كلّ واحد من تلاميذهم، وهكذا نجد باسيليوس الكبير، وهو يعكِس فِكْر رهبنة القرن الرَّابِع في هذا المنحى، يخُط في أحد قوانينه: ”ذاك الذي أُوكلتُ إليه مسئولية الجميع لابد أن يتذكّر أنه سيُعطي حسابًا عن كلّ أحد، فإذا سقط أحد الإخوة في خطية، ولم يُخبِره الرئيس بدينونة الله، أو إذا أصر على خطئه ولم يُعلِّمه الرئيس طريق التوبة والتكفير عن هذه الخطية، فسوف يطلُب دمه منه (من الرئيس)“. (26)
ومن هنا كان جهاد الأب مزدوجًا:
ليُخلِّص نفسه هو
وأيضًا ليُخلِّص نِفوس تلاميذه.
وأخيرًا، من الجدير بالذِكر أنَّ آباء البريَّة كانوا يُدعون ”مُعلمين ومُربيين“ كما يتضح من تكرار هذين اللقبين في ”الأقوال“ وفي سيرة القديس ألكسندروس التي تروي أنه ”صار مُربيًا ومُعلِّمًا لكلّ أحد“ (27)، وهذه الإشارات جميعها تُثبِت أنَّ هؤلاء الآباء كانوا واعيين بدورِهِم كمُربيين وأنَّ مُعاصريهم أيضًا أدركوا أنهم مُربيون، وسوف نتناول نظرياتهم التربوية ومنهجهم في تطبيقها في فصل آخر.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:41 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
التلميذ


لقد كان هؤلاء الذين خرجوا من مُدُنِهِم ودخلوا البريَّة مسيحيين غيورين من سائر الطبقات الاجتماعية، كانوا رِجالًا ونساءً من جميع الأعمار ومن كلّ مُستويات التعليم، وبالنظر إلى الدوافِع وراء تركِهِم العالم وخروجِهِم للبريَّة، نجد أنَّ أوَّل هذه الدوافِع هو اشتياقِهِم العميق والقوي لأن يلتقوا مع الله الذي قاد خطواتِهِم إلى البريَّة.
أمَّا النُّسَاك اليونان أو الذين كانت لهم رؤية يونانية للحياة، فقد عبَّروا عن سبب خروجِهِم للبريَّة بطريقة أكثر عُمقًا وبلاغة إذ قالوا أنهم يسعون للبلوغ إلى حالة الثيؤريا Theoria أي التأمُّل كما يشرح القديس إيڤاجريوس البُنطي في عمله عن الصلاة وفي أعماله الأخرى، ونفس هذا المُصطلح ”ثيؤريا“ يُستخدم في ”الأقوال“ في سيرة الأنبا أرسانيوس: ”عندما كان الأنبا أرسانيوس في القصر صلَّى إلى الله قائلًا: يارب إرشدني كيف أحيا، فأتاه صوت قائلًا: أرسانيوس اهرب من الناس وأنت تحيا، وعندما كان أرسانيوس يعيش الحياة النُّسكية في الدير، صلَّى إلى الله نفس الصلاة، وأيضًا سمع ثانية صوت يقول له: أرسانيوس اهرب، اصمُت، وعِش حياة التأمُّل الصامِت السَّاكِن“. (28)
وترِد كلمة ”تأمُّل“ كثيرًا في كِتابات الإخوة الكبَّادوك باسيليوس وإغريغوريوس، وأيضًا في كِتابات بطرُس الدمشقي Damascene (القرن الثَّامِن) وفيما بعد في كِتابات إغريغوريوس السينائي (من القرن الثَّالِث عشر)، لكنها لا ترِد كثيرًا في ”الأقوال“ لأنَّ هذا الكتاب يتناول بالأكثر الرُّهبان الأقباط، والذين بالتأكيد لم يكُن لهم نفس تعليم اليونانيين هذا، بل استخدموا كلمة أخرى هي ”هيزيخيا Hesychia“ وتعني ”السَّكينة“ وهي مفهوم أبسط يفترِض مُسبقًا التكريس الكامل لله وأخيرًا جحد العالم والخروج منه، وبجانب ترك العالم، كي يبلُغ الراهب حالة السَّكينة، عليه أن يجحد ذاته ويصير ”إنسانًا مائِتًا“ أي إنسان بدون شهوات أرضية، ونقرأ في ”الأقوال“ قصة عن راهب طُلِب منه أن يُعطي كلمات قليلة لينصح بها بعض الناس، فأجاب ”ليس لديَّ ما أقوله، لأني مُتُ، والميِّت لا يتكلَّم“ (29)، وعندما سألوا راهب آخر أن يذهب لقريته ويرِث ثروة أبيه لأنَّ أباه كان يحتضِر، أجاب: ”أنا نفسي مُتُ قبله عن العالم والإنسان الميِّت لا يرِث من إنسانٍ حي“ (30).

وقد استخدم مُصطلح ”هيزيخيا“ كلٍّ من العلاَّمة أوريجانوس والقديس باسيليوس وأخوه غريغوريوس النيصي والقديس يوحنَّا ذهبي الفم ونيلوس النَّاسِك والعديد من خُلفائِهِم، وحياة النَّاسِك الذي يعيش في هيزيخيا تُسمَّى ”حياة السَّكينة“ كما نجد في كتاب بالاديوس ”حياة القديس يوحنا فم الذَّهب“ وفي كِتابات نيلوس ويوحنَّا الدَّرجي وفي العديد من الأعمال الأخرى (31).
أمَّا عن الكلمات والمُفردات التي استخدموها ليُعبِّروا عن خروجِهِم من العالم، فنجد أنهم استخدموا مُصطلحات مُتنوعة، وأكثرها شيوعًا ”يهرب - هروب“ وهذه إشارة إلى الهروب الذي قاموا به ليُخلِّصوا أنفسهم مِنْ أخطار ومهالِك هذا العالم، وفي سيرة القديس الأنبا أنطونيوس نقرأ عبارة ”اخرُج من خاصتي“ (32) وقد ردَّدها أيضًا القديس مارِأفرآم السُرياني، واستخدم القديس أثناسيوس الرسولي كلمة apostassein والتي تعني ”أن يجحد“ وهي ترِد أيضًا في رسائل القديس باسيليوس وكِتابات القديس فم الذَّهب وفي التاريخ اللوزياكي لبالاديوس، كما استُخدِمت بالمثل كلمة aparneisthai وهي تعني ”أن ترفُض أو تُنكِر شيئًا“ وتُلازمها دومًا كلمة ”العالم“ أو ”نفس“.
وأخيرًا، أكثر الألفاظ التي استخدمها النُّسَاك شيوعًا كانت كلمة anachorein وكلمة anachoresis، الأولى تعني ”أن ينسحِب، أن يتوحد، أن يهرب“ أمَّا الثَّانية فتعني ”انسحاب أو هروب“ ونجد هاتين الكلمتين في سيرة الأنبا أنطونيوس وفي كتاب ”بُرهان الإنجيل“ للعلاَّمة يوسابيوس القيصري، وفي رسائِل القديس إيسيذروس الفرمي، وفي كتاب ”الأقوال“ وفي كِتاب بالاديوس ”حياة فم الذَّهب“ وفي رسائِل نيلوس، وفي العديد من المصادر المُبكرة، كما استخدمه القديس باسيليوس الذي شرح أنَّ ”التوحُّد“ لا يتضمن فقط التغيير المكاني للإقامة بل بالأكثر تغييرًا تامًا في طريقة حياة الإنسان بجُملتها (33).
البحث عن أب The Search for an Elder
كانت المزية التي يتمتَّع بها المُبتدئ في الحياة الرَّهبانية، وهي في الوقت عينه الواجب الموضوع عليه، أن يقرع أبواب رجال الله القديسين ويطلُب نصائحهم، وقد جعل القديس باسيليوس المُشرِّع الرَّهباني العظيم ذلك واجبًا على كلّ مَنْ يدخُل الحياة الرَّهبانية، أي أن يبحث عن أب مُرشِد ويلتصِق به: ”اطلُب باهتمام كثير وتفكير إنسانًا يكون مُرشِدًا آمنًا لك في طريقة حياتك، (إنسانًا) يعرِف جيدًا كيف يقود هؤلاء المُسافرين نحو الله، غني في الفضائِل... وحكيم في الأسفار المُقدسة“ (34).
وكان الراهب يقوم برحلات طويلة على الأقدام، سواء وحده أو مع مجموعة من الإخوة، كي يجد أبًا مشهورًا معروفًا، وكان هؤلاء الرَّحالة يقولون دومًا للأب ”لقد أسرعنا لنأتي إليك لأننا وجدنا في كلماتك أشياء كثيرة لم ترِد قبلًا حتّى على أذهاننا“ (35)، ثم يضعون أنفسهم تحت إرشاد الأب وكلَّهم ثقة عظيمة في أنَّ هذا الأب الروحي يملُك ”كلمات الحياة“ ويُحِب الناس.
وكان لابد من اهتمام وتدقيق جل عظيم في اختيار الأب الروحي، حتّى يستطيع الراهب أن يختار الأب المُناسِب الذي يستطيع أن يعينه ليتغلَّب على أخطائه وضعفاته، ولذلك يكتُب القديس يوحنَّا الدَّرجي: ”لنفحص طبيعة أهوائنا وطاعتنا... ثم نختار أبونا الروحي بحسبِهِما“ (36) وكان مسموحًا بفترة تجريبية قبل الاختيار، وبعد ذلك، ليس للراهب أي حق أن يحكُم على منهج الأب على الإطلاق حتّى وإن بدا غريبًا، وإذا لم تكُن أوامر الأب مُخالِفة بوضوح لكلمة الله، فإنَّ على المُبتدئ أن يطيعها حتّى إلى الموت (37)، وكذلك لم يكُن مسموحًا بتغيير الأب بعد الاختيار بل يجب أن يظل الراهب تحت إرشاد نفس الأب مدى الحياة، ويقول يوحنَّا الدَّرجي: ”الراهب الذي وحَّده يسوع المسيح مع رئيسه (أي أبيه) برباطات الإيمان والمحبة، يجب أن يحفظ هذا الاتحاد حتّى لو كان الثمن دمه“ رغم أنه يبدو في موضِع آخر أكثر مرونة (38).
وعلى أيَّة حال، كان من المُمكن أن يرفُض الأب قبول المُبتدئ تلميذًا له، والأدب النُّسكي ملئ بهذه الأمثلة، ومن القصص المُميزة في هذا المِضمار سيرة القديس الأنبا بولا البسيط الذي ظلَّ بدون أكل لمُدة أربعة أيام خارج قلاية الأنبا أنطونيوس لأنه رفض قبوله تلميذًا له، وشبيهة بذلك هي أيضًا قصة القديس باخوميوس عندما قرع على باب النَّاسِك الأنبا بلامون: ”يا أبتي أشتاق أن تسمح لي أن أصير راهبًا معك“ فلم يُرحِب الشيخ به بأيدي مفتوحة، بل على النقيض تمامًا حدَّثه حديثًا مُثبطًا عن الدعوة الرَّهبانية وصعوبتها ”لا تستطيع أن تصير راهبًا لأنه ليس أمرًا هينًا أن تقتني الحياة الرَّهبانية“ (39) ومضى بلامون قُدُمًا ليقول أنَّ آخرين كثيرين من الذين جاءوه لنفس الهدف لم يستطيعوا الثبات فيه ورجعوا مخزيين عندما وصف لهم باختصار هدف وطريقة الدعوة الرَّهبانية:
”قوانين الرهبنة التي سلَّمها لنا الآباء الأوائِل الذين سبقونا في هذا الطريق تتضمن السهر الدائم إلى مُنتصف الليل وأحيانًا كثيرة الليل كلّه حتّى الصباح، وقراءة كلمة الله على الدوام، بالإضافة إلى عمل اليدين مثل غزل الصوف أو صُنْع القُفَفْ، حتّى لا ننام وحتّى نُوفي حاجات الجسد، وما يزيد عن حاجتنا نتصدَّق به على الفُقراء... فالآن بعد أن أخبرتك بقانون النُّسْك، اذهب وامتحِن نفسك أولًا في كلّ ما قُلته لك“. (40)
ويوحنا الدمشقي أيضًا من (القرن التَّاسِع) واجه نفس الصعوبات عندما قرَّر أن يستبدِل مكتب الوزير بالقلاية الرَّهبانية.
ولم يكُن هذا الرفض نابعًا من عدم رغبة الأب في مُساعدة المُبتدئ، بل – كما قُلنا في الصفحات السابقة – كان بسبب وعي آباء البريَّة بأنَّ عمل الأب صعب للغاية، وبسبب اقتناعهم المُخلِص الصَّادِق بعدم قُدرتهم على تحمُّل مسئولية هذا العمل من ناحية، ومن الناحية الأخرى إنطلاقًا من إيمانهم بأنَّ اقتناء الإنسان للحياة الرَّهبانية ليس بالأمر الهيِّن، وكان هذا الرفض في الوقت عينه اختبارًا لرغبة طالِب الرهبنة وصِدق دعوته، فإذا كان حماسه بسيطًا مُؤقتًا فسوف يتلاشى ويخمِد أمام أُولى الصعوبات التي سيُواجهها، ولكن أيضًا هذه الصعوبات تُقوِّي وتُلهِب اشتياق ورغبة هؤلاء الذين يُريدون حقًا أن يترهبوا، ومن هذا المُنطلق، كان ذلك إعدادًا رائعًا للنذر الرَّهباني.
وفي أعمال يوحنَّا كاسيان مُؤسِس رهبنة الغرب نقرأ أنَّ: ”طالِب الرهبنة لابد أولًا أن يكون خارج الباب لمُدة عشرة أيام“ وأنَّ ”كلّ واحد (من الرُّهبان) يُنادي طالِب الرهبنة " ذاكَ الذي جحد العالم "“.
والخطوة التالية هي اختبار المُتقدِّم للرهبنة إذا كان قد ترك كلّ ثروته وأُسرته أم لا، وبعد ذلك يُعلِّمونه قوانين الدير ويُلبِسونه الزي الرَّهباني الذي كان يتكوَّن من جلاَّبية ومنطقة (41)، ثم يُوضع المُبتدئ تحت إرشاد أحد الآباء دون أن يُسمح له بالاختلاط بالرهبان، وكان عليه أن يخدم الزوار في بيت الضِيافة لمُدة عام، رغم أنَّ المرء يتوقع أن يقرأ أنَّ المُبتدئ لم يكُن له أي اتصال بالمُؤمنين الذين يعيشون في العالم، ولعلَّ ذلك كان أيضًا لاختبار قرار المُبتدئ أن يترهب ومدى ثباته فيه، ولا تزال هذه العادة قائمة في أديُرتنا حتّى الآن.
وفي قوانينه القصيرة، يصِف القديس باسيليوس ضرورة أن يُقرِّر سائِر أعضاء الشَرِكَة الرَّهبانية قبول الطالِب أو رفضه، ولابد أن يكونوا حاضرين عند قبول الراهب المُبتدئ، وهكذا لم يكُن لرئيس الدير القُدرة على قبول راهب جديد بدون معرفة الإخوة، وكان القبول في العضوية الكاملة في مجمع الإخوة يأخذ وقتًا لأنَّ الإجراءات كانت مُتدرِجة، وكان لابد للمُبتدئ أن يقضي فترة الاختبار كي يعتاد على حياة الدير ومعناها وهدفها، وأيضًا لكي يُعطي رئيسه الفرصة لمُلاحظته، ويُحدِّد قانون القديس باخوميوس فترة الاختبار هذه بأنها لابد أن تكون ثلاث سنوات.
وبعدما يختار المُبتدئ أباه الروحي في حالة الرهبنة التوحُدية، أو يضعه رئيس الدير تحت إرشاد أحد الآباء في حالة رهبنة الشَرِكَة، كان عليه أن يعتبره – بحسب التقليد الرَّهباني – شخصًا سرائريًا تقريبًا وأن يطيعه ”ليس بسبب رِئاسته أو حِكمته أو فضيلته، بل كرمز لربنا نفسه“ (42).
كان التلاميذ واعيين ومُدركين تمامًا أنَّ أباهم الروحي يُحِب إخوته كما تُحِب الأُم أطفالها، ولذلك كان المُبتدئ يفتح قلبه لأبيه المُرشِد ويضع نفسه بين يديه تمامًا مثل المادَّة المرنة (العجينة) في يد الفنان، وتُحذِّر ”الأقوال“ التلميذ من إساءة استخدام محبة أبيه أو فُقدان احترامه أو طاعته له، ويقول الأنبا إيسيذروس أنَّ المُبتدئ يجب أن يُحِب مُعلِّمه كأب ويخافه كحاكم.
لكن إذا كان هناك أيَّة كلمة تُعبِّر بوضوح ودقة عن علاقة التلميذ بأبيه، فهي كلمة ”طاعة“ فالطاعة هي أحد النذور الرَّهبانية الثَّلاثة، وبحسب يوحنَّا الدَّرجي، كانت الطاعة بين الأمور الأولى التي يجب على الراهب المُبتدئ أن يتعلَّمها بعد جحده للعالم، ويُعرِّفها الدَّرجي بأنها: ”هي الجحد التام المُطلق للنَّفْس، ونُعبِّر عنه بوضوح في أعمالنا الجسدية...“ (43) والطاعة في الفِكْر والمنظور الرَّهباني لا تلغي الحُرية، بل تقود إلى تنقية الذِهن والقلب وهذه هي الحُرية الحقيقية كما يُعرِّفها القديس كلِمنضُس السكندري ”الحُرية هي أن نضبِط شهواتنا“ (44).
فطاعة هؤلاء الآباء لم تكُن طاعة عمياء أو سلبية أو غير عاقلة، بل كانت طاعة ثقة في أنَّ أباهم يُعلن إرادة الله ويعرِف الطريق الحقيقي المُؤدي للسلام ونقاوة الذهن والقلب، وهذه بدورها كانت هي الحُرية الحقيقية بالنسبة لهم.
ومن الأمثلة المُميزة عن الطاعة، ما أورده يوحنَّا كاسيان في كِتابه الرَّهباني ”المُؤسسات“.
”نسمع عن أخ يُدعى يوحنَّا القصير، عندما أمره أبوه أن يسقي خشبة من حطب النار، قضى عامًا بأكمله في هذا العمل، وهو يحمل الماء لمسافة ميلين، كما لو كان ذلك وصية إلهية“. (45)
ويدع يوحنَّا كاسيان الأنبا يوحنَّا القصير يُقدِّم تفسيرًا كِتابيًا لطاعته هذه قائلًا:
”يجب ألاَّ أُفكِر قط في الحُزن (بسبب الطاعة)، إذ في إخضاعي لنفسي تمامًا لرئيس الدير، أقتدي لدرجة ما بذاك الذي قيلَ عنه " وضع نفسه وأطاع حتّى الموت " (فل 2: 8) وهكذا أستطيع باتضاع أن أستخدِم كلماته " لأني قد أتيت ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني " (يو 6: 38)“. (46)
ويشرح التعليم اللاهوتي الخاص بالطاعة – والذي تطور فيما بعد – أنه إذ سقط آدم بسبب عِصيانه وعدم طاعته لوصية الله، لذلك يجب علينا نحن أن نسلُك الطريق المُضاد، أي طريق الطاعة لنصل إلى حالة آدم قبل السقوط، والتي كانت – كما رأينا – هدف وغاية الرهبنة (47).
وفي بعض الحالات كان يُطلب من المُتقدم للرهبنة أن يُقدِّم طلبًا مكتوبًا للقبول في مجمع الرُّهبان وكان لابد أن يُعلِن في هذا الطلب أنه سيسلُك في حياة الطاعة كما يتضح من إحدى المخطوطات القبطية. (48)

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:45 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
فرادة شخصية التلميذ The Disciple's Individuality

ربما يظُن القارئ بعد كلّ ما أسلفناه عن إنكار الذات والطاعة والحياة النُّسكية التي يعيشها الراهب، أنَّ شخصية المُبتدئ تختفي وتُمحى تمامًا بيد أنَّ هذا الفِكْر ليس له أي أساس من الصحة كما سنرى، إذ لم ينسَ آباء البريَّة قط أنَّ ”الإنسان كيان مُتنوع للغاية له عديد من العادات“ كما يقول القديس إغريغوريوس النزينزي.

وإذ كانوا مُربيين، حاول الآباء أن يستخدموا ما يُسمَّى اليوم باسم ”المنهج المُتفرِّد في التعليم individualized“ (49) وفي ”الأقوال - الأبوفثيجماتا“ ينعكس احترامهم الكبير لتنوُّع الدعوة من شخص لآخر، ولاختلاف المناهِج الشخصية، ولذلك لم يسعوا لوضع قوانين ثقيلة عامة على المُبتدئين بجُملتهم.
فكان الآباء يُقدِّرون ويحترمون ”المناهِج“ المُختلفة و”تنوُّع العطايا“ إيمانًا منهم بأنَّ الروح الواحد هو هو يعمل ويقسم نصيبًا لكلّ إنسان حسبما شاء، وقد اتفق مُعظم الآباء على وجود الاختلافات الفردية بين الإنسان والآخر وعلى تنوُّع النِفوس، فوافق على ذلك كلِمنضُس (50) ويوحنَّا الدَّرجي وإيسيذروس الفرمي (من القرن الخامِس) الذي يقول: ”لا يُسَرْ الناس جميعهم بنفس الأمور، ولا يشفون جميعهم بنفس الأدوية“ (51).
وكانت شخصية طالِب الرهبنة ونموه الروحي يُؤخذان في الاعتبار، عندما يساعده أبوه على اختيار أفضل طريق حياة يُناسبه، والقديس يوحنَّا الدَّرجي يُقدِّم لنا صورة للرؤية الناضجة التأمُلية للرهبنة الأولى ويكتُب في سُلَّمه:
”على الذين عزموا على خدمة المسيح حقيقةً أن يُعمَّدوا قبل كلّ شيء آخر إلى اختيار المكان والطريقة والسُّكنى والمُمارسات النُّسْكية التي تُلائِمهم، وذلك باستطلاعِهِم الشخصي ومعونة الآباء الروحيين، لأنَّ الأديُرة ذات المعيشة المُشتركة لا تُوافق كلّ الناس من جهة الشراهة، وكذلك فإنَّ مواضِع العُزلة والسكون ليست للجميع من جهة الغضب...“ (52).
وأيضًا من بين العوامل الأخرى التي كانت تُدرس عند قبول المُبتدئ، كان عامِل السِنْ، ونقرأ في سُلَّم الدَّرجي أنَّ الرُّهبان يجب ألاَّ يعيشوا جميعًا في موضِع واحد، بل في أماكن مُختلفة بحسب سِنَّهم، ونفس هذا الكتاب يُخبرنا أيضًا أنَّ الأنبا أنطونيوس وضع قوانين أصوام مُتنوعة لتلاميذه حسب حالتهم (53)، وباخوميوس أيضًا قسَّم تلاميذه بحسب شخصياتِهِم (54).
وبجانب السِنْ والاحتياجات الجسدية، والنمو، والشخصية، إلخ... كان الجنس أيضًا يُوضع في الاعتبار كما يتضح من كِتابات جناديوس إذ يقول في معرض حديثه عن إيڤاجريوس: ”وضع أيضًا عقيدة للحياة المُشتركة مُناسبة لرُهبان الشَرِكَة والمجمع، ووضَعْ للعذراء المُكرَّسة لله، كِتابًا صغيرًا مُناسبًا لدينها وجِنسها“ (55).
إنَّ الدراسة المُدقِقة للماضي تُظهِر وتُثبِت أنَّ كثيرًا من ”الأفكار الحديثة“ مُتطابقة ومُتماثلة مع أفكار التُراث الكلاسيكي والمسيحي، ومن الجلي أنه في الرهبنة الأولى كان هناك تمييز واضح بين الآباء والتلاميذ، ويُؤكِد الأدب النُّسْكي على دلالة دور الأب ويُحدِّد صِفاته ومُقوماته وواجباته، والمُصطلحات العديدة التي كانت تُستخدم للإشارة إلى الأب تُوضِح أنَّ دوره كان بالدرجة الأولى تربويًا، وفي الوقت عينه، المُصطلحات الأخرى التي اُطلِقَت على المُبتدئ تدُل على أنَّ حياته يجِب أن تكون تلمذة وتعليم مُستمر، وكان للتلميذ حُريته التامة في أن يختار أباه، لكن كان من الضروري بالمِثْل أن يظل معه ويُطيعه في سائر الأمور، وفي مدرسة البريَّة، كانت شخصياته وفرادة كلّ مُبتدئ تجد كلّ رعاية واهتمام بها.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:45 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
مراجع هذا القسم

1) D. Chitty , " Some Lexicographical Notes", Studia Patristica III (1962) p.263.
2) For the above terms see: Apophthegmata, P.G.65, 73, 137, 153, 177, 256, 257, AND 336. See also: Palladius, Historia Lausiaca, P.G. 37, 1043 and 1081.
3) Pachomius` Rule, P.G. 40, 952, AND 949.
4) Epiphanius of Cyprus, Contra Haereses. P.G. 42, 765.
5) __________________, Panarion, P.G. 41, 156.
6) Basil, Reg. Fus., XXXV, P.G. 31, 1005C and 988A.
7) Isidorus of Pelusium, Epistolarum Lib., P.G. 78, 345C.
8) Macarius of Egypt, Homily LVIII, V.H.P. XLII, 361.
9) John Climacus, Ladder I, p.51.
10) E. Budge, The Paradise of the Fathers, London, 1907, II.p.161.
11) Gregory of Naz., Oration LXXVII, 10, P.N.F. VII, 207.
12) Basil, Reg. Fus., P.G. 31, 1029A, 1032, 988.
13) H. Percival, The Seven Ecumenical Councils, N.P.F. XIV, 231.

14) Apophthegmata, P.G.65, 203.
15) Gregory of Naz., Oration XI, P.N.F., VII, 214 and 37.
16) Theodotus, Excerpts, A.N.F., VIII, 47.
17) John Climacus, Klimax XXXI, p.177.
18) Peri Pachomiou Kai Theodorou, V.H.P. XL, 193.
19) John Climacus, Klimax XXXI, p.176.
20) Varsanuphius and John, Question 23, tr. D. Chitty, P.OR. Tom 31, Fasc 3, p. 480.
21) John Climacus, Klimax XXXI, p.179 and 175.
22) Basil, Reg. Fus., XXX, P.G. 31, 992- 993.
23) Life of St. Pachomius, V.H.P., XL. 172.
24) John Moschus, Leimon VII, P.G. 87, pp. 111 and 2857.
25) Varsanuphius and John, Question 67, p. 539.
26) Basil, Reg. Fus., XXV, P.G. 31, 984C.
27) Vie d`Alexandre l`Acemete, p. 689.
28) E. Budge, Paradise II. P.3.
29) Apophthegmata, P.G.65,245.
30) Ibid.
31) Palladius, Vita Chrysostomi, P.G. 47, 29.
32) Athanasius of Alexandria, Vita Antonii , P.G. 26, 865, and Ephraem Syrus, Opera Omnia, ed. D.S.Assemani, Rome, 1732-1746, p. 315.
33) Basil, Epistula. P.G. 32, 225B.
34) E. Morrison, St. Basil and his Rule, London, 1912,p. 52.
35) I. Hausherr, John the Solitary (Rome:1939), p.32.
36) John Climacus, Ladder, p.19.
37) Nilus the Ascetic, De Monachorum Praestantia, P.G. 79, 1060A.
38) O. Sumner, "John Climacus", The Guid of Pastoral Psychology, No. 63, London, 1950, pp. 14-15.
39) W, Nigg, Warriors of God, London, 1939, p. 52.
40) L. Lefort, Saint Pachome, pp. 84-85.
41) John Cassian, Institution, IV, 3-7, P.N.F., XI, p. 219ff.
42) John Climacus, Ladder, p.19.
43) Ibid. p.69.
44) Clement of Alexandria, Stromata II, 23, P.G. 8, 1096.
45) E. Workman, The Evolution of Monastic Ideals, London, 1896, p.71.
46) Cary – Elwes, Law, Liberty and Love, p.61.
47) Cyril of Alexandria, Explanatio in Rom., P.G., 74, 789.
48) W. Crum, Varia Coptica, No. 6, p.9.
49) Histoire de St. Pachome. P.OR.IV, Fs. 5, No. 19, 434.
50) Clement of Alexandria, Stromata I, 1, A.N.F., II, 30.
51) Isidorus of Pelusium, Epistolarum Libr., P.G. 78, 1484.
52) John Climacus, Ladder, I, p. 56.
53) John Climacus, Klimax XXXI, p.117 and 180.
54) Pachomius` Rule, tr. G. Schodde. "The Rule of St. Pachomius" Presbyterian Review, 1885, p. 682.
55) Gennadius, Lives of Illustrious Men, P.N.F., III, 388.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:46 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الوسائل التعليمية في التربية الرهبانية
Teaching Methods in Monastic Education


  1. https://st-takla.org/Gallery/var/albu...n-His-Cell.gif

    St-Takla.org Image: A Coptic Orthodox monk sitting in his cell, reading and praying
    صورة في موقع الأنبا تكلا: راهب قبطي أرثوذكسي يقرأ في قلايته ويصلي
    الوسائل التعليمية
  2. الطرق التعليمية وأكثرها انتشارًا
  3. التعليم بالوسائل اللفظية الشفاهية والمكتوبة
  4. الوسائل العامة
  5. العظة | الوعظ
  6. الحوار | المحاورات
  7. التوبيخ
  8. النصح والإرشاد
  9. وسائل خاصة لحفظ الأفكار
  10. المَثَل
  11. المجاز والرمزية
  12. الأقوال
  13. التعليم بوسائل غير لفظية
  14. رمزية الزيّ الرهباني
  15. الوسائل الصامتة في التعليم
  16. التأمل في الطبيعة
  17. القدوة الشخصية
  18. اختبار النظام الرهباني
  19. فحص الذات
  20. الاعتراف
  21. التلمذة في النظام التربوي الرهباني
  22. العقوبات الرهبانية
  23. أنواع العقوبات
  24. الجِعالات | المكافأة

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:48 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الوسائل التعليمية


إنَّ الدراسة المُتأنية للأعمال التربوية الرَّهبانية كما تتضح في ”الأقوال“ وفي الأدب الرَّهباني بصفة عامة، تُظهِر أنَّ آباء البريَّة كانوا يُراعون للغاية ”فرادة individuality“ المُبتدئ، وهم في ذلك لم يستخدموا طريقة واحدة أو حتّى بضعة طُرُق، بل استخدموا تنوعًا غنيًا من المناهج والطُرُق، حسبما يتفق مع المُبتدئ الذي يُرشدونه (سِنُّه وحالته الروحية وشخصيته، إلخ..) واضعين في اعتبارهم مُجمل شخصية الإنسان الذي يتعاملون معه (المُتلقِّي)، وكذلك كان لنوع الحياة الرَّهبانية الذي اختاره المُبتدئ – سواء الوحدة أو الشَرِكَة – تأثيره على طريقة ومنهج التعليم، وفي مُقدمة كتاب ”برصنوفيوس ويوحنَّا“ (من القرن السَّادِس) نقرأ:

”ولكن عندما ننوي أن نقرأ الأمور المكتوبة في هذا الكتاب، يجب أن نعرِف أنَّ بعضًا منها قد قيل للمُتوحدين، وبعضًا للذين في الشَرِكَة، وبعضًا آخر للذين في الخورس، وبعضًا أيضًا للكهنة ولقطيع المُؤمنين المُحبين للمسيح، وبعض للشباب الصِغار أو المُبتدئين، وبعض للمُتقدمين فعلًا في السِنْ والمُتدربين في الزي (الرَّهباني)، وبعض لهؤلاء الذين يقتربون من كمال الفضيلة، كما يُناسب كلّ أحد أن يسمع، لأنَّ التعاليم عينها لا تُناسِب الجميع بنفس القدر...“ وتقول المُقدمة أيضًا أنَّ الإجابات على الأسئلة الروحية ستكون بحسب مُستوى السائِل لئلاّ يُصاب بصِغَر النَّفْس (1).
وقبل هذا الكتاب بقرنين، شرح القديس إغريغوريوس النزينزي (330-390 م.) أحد مشاهير الآباء في الحياة الرَّهبانية أنَّ النِفوس المُختلفة لابد أن تُعطي تعليمًا وإرشادًا مُتنوعًا، فالبعض تقودهم العقيدة، والبعض ينفعهم التعليم البسيط، البعض يحتاجون للمِهماز، والبعض الآخر الشكيمة، البعض ينتفعون من المديح، والآخرون ينتفعون من التوبيخ، لكن كلا الأمران يجب أن يُستخدما في الوقت المُناسب، وإلاَّ إذا لم يُستخدما في وقت مُناسب أو استُخدِما بلا سبب صارا ضارين، ويقول: ”إلاَّ أنَّ هناك مَنْ يحتاجون للتشجيع، وآخرون يحتاجون للتوبيخ، علنًا أو سرًا بحسب الشخص“ ويشرح أيضًا أنه في بعض الأوقات يجب أن يُلاحظ الأب بتركيز حتّى أدق التفاصيل، وفي أوقات أخرى يجب ألاَّ يُلاحظها، بل بينما يرى، يظهر كأنه لا يرى، وبينما يسمع، يظهر كأنه لا يسمع وفي بعض الحالات يجب حتّى أن يغضب دون أن يشعُر بالغضب، بحسب طبيعة الفرد الذي يتلقّى الإرشاد، وأخيرًا، هناك آخرون ينالون أفضل معونة من مُعلِّم يسلُك باتضاع مُعامِلًا تلاميذه بمستوى مُناسب مُساعدًا إيَّاهم أن يقتنوا سريعًا رجاءً للأمور الأفضل (2).
ويُمكننا أن نجد أفكار إغريغوريوس هذه في الكِتابات الآبائية الأولى، مثلًا في كِتاب ”المُربي“ للقديس كلِمنضُس السكندري حيث يقول أنَّ مُربي الإنسانية، أي المسيح، يُستخدم كلّ وسيلة مُمكنة، مثل اللوم والتأنيب والتعنيف والتوبيخ والوعيد والصفح والعفو و.... إلخ. (3)
وكذلك القديس يوحنَّا الدَّرجي، وهو ينصح سميُّه رئيس دير رايثو Raithu، ينبهه أن يكون ذا تمييز وإفراز، وألاَّ يقول لكلٍّ من تلاميذه أنَّ طريق حياة الراهب ضيِّق وكرب، وألاَّ يُخبِرهم جميعهم أيضًا أنَّ النير سهل، لكن يختبرهم جميعًا ويعِظ كلّ واحد بما يُناسبه. (4)
وهكذا لم يكُن العمل التربوي عند آباء البريَّة روتينًا سهلًا يُمكن استخدامه بنفس الطريقة مع جميع التلاميذ، بل كان عملية شاقة تتضمن العديد من المناهج والطُرُق التي كانت تُستخدم بأساليب مُتنوعة بحسب طبيعة التلاميذ.
وهذا دليل جل واضح على أنَّ آباء البريَّة، بينما عاشوا في عصر كان الاهتمام فيه بالفرد ضئيلًا للغاية، أكَّدوا بكلماتِهِم وأعمالِهِم على ضرورة التربية المُتفردة، ويُعتبر تنوُّع المناهِج وطُرُق التعليم، بجانب التنظيم الذي استخدمه الرُّهبان، أهم سِمَتين من سِمات النظام التربوي الرَّهباني.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:49 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الطرق التعليمية وأكثرها انتشارًا



https://st-takla.org/Pix/Saints/01-Co...Anthony-03.jpg

St-Takla.org Image: The Egyptian Saint Anthony the First Monk, modern Coptic art icon
صورة في موقع الأنبا تكلا: أيقونة قبطية حديثة تصور القديس أنبا أنطوني (الأنبا أنطونيوس المصري) الراهب الأول في العالم
وفي هذا القسم سنتناول أهم الطُرُق التعليمية وأكثرها انتشارًا، وذلك تبعًا للترتيب التالي:
1) التعليم بالوسائِل اللفظية
أ) وسائِل عامَّة:
1) الوعظ
2) الحوار
3) التوبيخ
4) النُّصح والإرشاد
ب) وسائِل خاصة لحِفْظ الأفكار
1) المَثَلْ
2) المجاز والرمزية
3) الأقوال
2) التعليم بالوسائِل غير اللفظية
1) رمزية الزي الرَّهباني
2) الوسائِل الصامتة
3) القدوة الشخصية
3) اختبار النظام الرَّهباني
1) فحص الذَّات
2) الاعتراف

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:55 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
التعليم بالوسائل اللفظية الشفاهية والمكتوبة

إنَّ أهمية وضرورة التعليم اللفظي لهي واضحة للغاية، إذ يُشكِّل ويُكوِّن الأساس الذي عليه يجب أن ينبني كلّ عمل في حياتنا بل وحياتنا كلّها نفسها، وفي العهد الجديد نجد تأكيدًا على أهمية التعليم اللفظي الذي نظر إليه آباء الكنيسة كخطوة أولى في طريق الخلاص، ولذلك كرَّسوا أنفسهم دومًا لعمل التعليم، فجاءت ثمرته ذلك الأدب الآبائي الغزير، وكان آباء البريَّة – على وجه الخصوص – يُؤمنون جدًا بقوة وعمل الكلمة، وفي ”الأقوال“ كان الطلب ”قُلْ لي كلمة“ شائعًا للغاية وكان يقوله المُبتدئون والشيوخ على السواء لمشاهير الآباء مُعلِّمي البريَّة. (5)
وبحسب النصوص الآبائية، هناك مبدأن أساسيان لابد أن يُراعا تمامًا أثناء التعليم:
الأول: مبدأ النمو التدريجي gradual progress
الثَّاني: مبدأ تعليم الفرد individual instruction
وقد أكَّد القديس باسيليوس الكبير على أهمية المبدأ الأوَّل، إذ ذَكَرْ أنَّ التعليم والتربية بصفة عامَّة لابد أن يتم بصورة مُتدرجة تبدأ من الدروس الأولى السهلة وتتدرَّج إلى الدروس المُتقدمة (6)، ونجد صدى هذا الفِكْر عند القديس إيسيذروس الفرمي (7) المُعاصِر للقديس باسيليوس، وأيضًا عند يوحنَّا الدَّرجي بعدهما بقرنين (8).
أمَّا المبدأ الثَّاني فقد أكَّد على أهميته أخو باسيليوس أي القديس إغريغوريوس النيصي، وأيضًا صديق باسيليوس الحميم القديس إغريغوريوس النزينزي في عِظَته الكُبرى، ويُؤكِد الأوَّل أي النيصي على ضرورة التعليم لكن يذكُر في الوقت عينه أنه لا يُمكن استخدام نفس المنهج الواحد مع جميع الناس (9)، بينما كان سميُّه النزينزي أكثر تفصيلًا في هذا الصدد وكَتَبْ قائلًا أنَّ الرجال والنساء، الصِغار والكِبار، الأغنياء والفُقراء، الحُكَّام والمحكومين، الحكيم والجاهل، الناجحين والفاشلين، الجبان والشُّجاع، لا يحتاجون لنفس التعليم والتشجيع... (10) ومن هنا كان استخدام آباء البريَّة للعديد من وسائل التعليم وأهمها: الوعظ، الحوار، التوبيخ، النُّصح والإرشاد.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:55 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الوسائل العامة General Methods



https://st-takla.org/Pix/People-Chris...ed-Beshara.gif

St-Takla.org Image: Coptic monk teaching some youth, by Ghada Magued Beshara
صورة في موقع الأنبا تكلا: راهب قبطي يرشد بعض الشباب، المرشد، إرشاد - رسم غادة ماجد بشارة
1) الوعظ
2) الحوار
3) التوبيخ
4) النُّصح والإرشاد

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:56 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
العظة | الوعظ

رغم أنَّ الوعظ كان شائعًا جدًا في الكنيسة الأولى، إلاَّ أنه لم يكُن مُستخدمًا في الدرجة الأولى من الرهبنة أي الوحدة، على الأقل بطريقة رسمية، لكنه دخل الرهبنة مع تأسيس رهبنة الشَرِكَة، ربما لأنَّ العدد الكبير لإخوة الشَرِكَة كان يتطلّب طريقة مُناسبة للتعليم الجماعي، وقد أمر القديس باخوميوس ”أب الشَرِكَة“ بأن يقوم ”الوُكلاء“ (11) داخل كلّ دير بإلقاء ثلاثة عِظات أسبوعيًا، واحدة يوم السبت واثنين يوم الأحد بجانب عِظتين أُخرتين يُلقيهُما رُؤساء المنازِل يومي الجُمعة والأربعاء، وكانت هذه العِظات شبيهة بتعليم الكنيسة الأولى وعِظاتها، فكان الإخوة يجتمعون حول المُعلِّم، يستمِعون له وهو يشرح الكتاب المُقدس ثم يرجع كلّ واحد إلى قلايته في سكون وصمت ليتأمَّل فيما سمعه وليحفظه عن ظهر قلب (12)، وكان لهذه العِظات سِمة العُمومية أي كانت للجميع، مُتناولة أمورًا عديدة مُتنوعة.
أمَّا عن اسلوب الآباء في الوعظ، فقد حاولوا أن يكون بسيطًا قدر الإمكان حتّى يُمكن للجميع أن يفهموه، وبجانب العِظات الِشفاهية، كان هناك عِظات مكتوبة مأخوذة من كُتُب مُتنوعة، وأيضًا كان يتم تبادُل الرسائِل عندما كان يستحيل التعليم الشِفاهي، فمثلًا كِتاب ”السُّلَم“ ليوحنَّا الدَّرجي هو عبارة عن ”رسالة“ منه إلى سميُّه رئيس دير رايثو الذي سأله أن يكتُب شيئًا لمنفعة رُهبان ديره، ومثال آخر هو كِتاب ”برصنوفيوس إلى يوحنَّا“، وأخيرًا، هناك الألف رسالة التي خطَّها القديس إيسيذروس الفرمي أو البيلوزمي (انظُر كتابنا ”إيسيذروس الفرمي“ ضمن الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ حيث تجد دراسة تفصيلية عن هذه الرسائِل) وهي نِتاج روح مُثقفة وقلب مُلتهِب... هذه جميعُها – بجانب أُخريات – أمثلة تُوضح كيف أدرك الرُّهبان أهمية التعليم المكتوب بجانب التعليم الشِفاهي.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:56 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
الحوار | المحاورات

كان الحوار منهجًا آخر استخدمه آباء البريَّة، وكان يتم بين الأب وأحد تلاميذه، ويختص بصفة عامَّة بالتساؤُلات الخاصة والمشاكل الشخصية التي يطرحها الراهب التلميذ أمام أبيه المُرشِد، وفي سيرة القديس باخوميوس يتضح أنه قبل الراحة في المساء، كان هناك وقت للتحدُّث والحوار الذي كان يدور حول موضوع التعليم الذي اُعطِيَ أثناء النهار، وفي ”الأقوال“ أيضًا نجد منهج الحوار، وفي أحيان كثيرة، كان الآباء بدلًا من أن يُقدِّموا إجابة عقيدية لأسئلة تلاميذهم، يبدأوا حوارًا معهم ويتبعون اسلُوب سُقراط وذلك بأن يسألونهم أسئلة أخرى تجعلهم يُقدِّمون إجابات لأسئلتهم نفسها (13).
وهكذت، عندما سأل رجُل عسكري الأنبا ميوس Mios عمَّا إذا كانت هناك توبة للخاطئ أجابه: ”اخبرني، عندما تتمزَّق عباءتك هل ترميها؟“ فأجاب الرجُل: ”لا أنا أرقعها واستخدمها“ وعندئذٍ قال له الأنبا ميوس: ”إذا كُنت أنت لم تترُك عباءتك، فهل يترُك الله خليقته هو!!“. (14)
لقد كان الحوار اسلوبًا بسيطًا مُؤثِرًا مِمّا جعل اليونانيين يستخدمونه قبل آباء الكنيسة بأمد طويل، ذلك أنه يجعل التلميذ واعيًا بجهله، ثم يقوده إلى الحقيقة العميقة، والتي لم تُقدَّم إليه في صورتها النهائية، بل استُخلِصَت واستُخرِجت من عقله هو، كذلك كان من نتائج هذا الاسلوب أن يتمسَّك التلميذ بهذه الحقيقة جدًا لأنه هو نفسه – بمُعاونة مُعلِّمه – الذي اكتشفها.

Mary Naeem 19 - 05 - 2014 03:57 PM

رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
 
التوبيخ

لم يكُن النُّسَاك الأُوَلْ يرغبون أن يُوبِخوا أو يلوموا المُخطئين من الإخوة إلاَّ إذا طلب منهم هؤلاء الإخوة النُّصْح والإرشاد، ونرى ذلك عندما وبخ القديس سيرابيون بأُبوَّة وصبر أحد الإخوة. (15)
أمَّا رُهبان الشَرِكَة فكان لهم رُؤية ومنظور مُختلِف لهذا الأمر، إذ شعروا أنهم مسئولون عن إخوتهم ولذلك يجب أن يلوموهم عندما تكون هناك ضرورة لذلك، وقد ألقى القديس باسيليوس بمسئولية كبيرة على عاتِق الآباء المُرشدين الذين لا يلومون ولا يُوبخون الإخوة المُخطئين (16)، وهذه إحدى نِقاط الإختلاف بين رهبنة الوحدة ورهبنة الشَرِكَة.


الساعة الآن 02:15 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025