منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=263484)

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:17 PM

كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي
الأنبا بيشوي

كلمات البابا شنوده الثالث عن كتاب: تأملات في حياة وخدمة السيد المسيح

كلمات قداسة البابا عن الطبعة الأولى من الكتاب بعنوان "تأملات في حياة وخدمة السيد المسيح"
في مجلة الكرازة العدد رقم 13، 14 للسنة الرابعة والعشرون بتاريخ 12/4/1996م نشر قداسة البابا شنودة الثالث ما نصه:
صدر هذا الكتاب في 368 صفحة من الحجم الكبير، مزودًا بالصور الجميلة. ويشمل حياة السيد المسيح، من ميلاده إلى عماده إلى صومه وتجربته وخدمته بتفاصيلها ومعجزاته وتجليه.
ومن ص 97 إلى ص 304 يتكلم عن آلام السيد المسيح وموته ودفنه. وبهذا يكون صدوره مناسبًا لأسبوع الآلام. ثم بعد ذلك يتحدث عن قيامة السيد المسيح، وصعوده إلى السماء، وإرساله الروح القدس.
ومما يميز أسلوب نيافة الأنبا بيشوي أنه يمزج التفسير بالروحيات وباللاهوت فتشمل كتابته هذه العناصر الثلاثة معًا.
وقد سبق أن نشرت مادة الكتاب كمقالات في مجلة الكرازة. نهنئ نيافته على صدور هذا الكتاب.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:19 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
مقدمة الطبعة الأولى


نشكر الرب الذي أعاننا
هذا الكتاب هو ثمرة لتعاليم وتشجيع وتوجيه صاحب القداسة البابا شنودة الثالث. وهو مجموعة مقالات عن "حياة وخدمة السيد المسيح" نُشرت بأعداد مجلة الكرازة في المدة من 10 يناير 1992 إلى 16 مارس 1996، تحت إشراف قداسة البابا. فلقداسته كل شكر وتقدير.


هي تأملات في قصة الحب الذي تواضع للنهاية: من ميلاد السيد المسيح إلى صعوده إلى السماء، وإرسال الروح القدس للكنيسة، وإرساله لتلاميذه القديسين.
من يستطيع أن يضع قصة ذلك الحب المتضع في كتاب واحد..؟!! إن العالم كله لا يسع الكتب المكتوبة..
ومن يستطيع أن يعبِّر عن ذلك التجسد الإلهي الذي يفوق الوصف والإدراك؟!!.. ومن يستطيع أن يتكلم عن الفداء الذي صنعه الله الكلمة بتجسده، وموته، وقيامته وصعوده إلى السماء؟!!..
من يمكنه أن يصف ذاك الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا؟!!.. ومن يمكنه أن يعبِّر عن لجة محبته، وعن خدمته، وعن معجزاته، وعن حروبه مع الشيطان، وعن تعاليمه السامية وكلماته الخالدة، وعن رقته، وعن حزمه وحنانه، وعن لطفه وتواضعه، وعن قداسته وكماله، وعن صداقته ووفائه، وعن بساطته وحكمته، وعن فرحه وبكائه..
إن حياة السيد المسيح هي "قدس أقداس" نقترب منها بشوق وبمخافة.. يجتذبنا الحنين لرؤياه، وتملؤنا الرهبة في لقياه.. ونتذكر حالة التلاميذ عند بحر الجليل بعد قيامة السيد المسيح حينما ناداهم إلى الشاطئ ليشاركوه طعامًا أعدَّه لهم، طالبًا منهم أن يقدموا مما عندهم، إذ لم يجسر أحد منهم أن يسأله من هو، لأنهم عرفوا أنه هو الرب.
وقبلها حينما ظهر لهم في عشية أحد القيامة وأراهم آثار الجراحات في يديه ورجليه، وبينما هم غير مصدقين من الفرح قال لهم جسِّوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. كان السيد المسيح قد احتفظ لجسد القيامة -قبل الصعود- بما يثبت لتلاميذه أنه قد قام حقًا من الأموات.. أي أن جسده الذي صلب قد قام حقًا منتصرًا على الموت إلى الأبد.
أضع كلمات هذا الكتاب بين يدي القارئ العزيز طالبًا من الروح القدس أن ينقل الحق المختفي وراء ضعف التعبير وقصوره إلى فكر وقلب القارئ. لأن الروح القدس باعتباره روح الحق هو المعلم الحقيقي.. وليسامحني الرب على كل ضعف وتقصير.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:20 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية (مزيدة)
نشكر الرب الذي أرشدنا
هذا الكتاب هو ثمرة لتعاليم وتشجيع وتوجيه صاحب القداسة البابا شنودة الثالث وهو مجموعة مقالات بعنوان "تأملات في حياة وخدمة السد المسيح". نشرت بمجلة الكرازة في المدة من 10 يناير 1992 إلى 17 مارس 2006، تحت إشراف قداسة البابا رئيس التحرير، فلقداسته كل شكر وتقدير. وقد أضفنا إلى ذلك مقالًا عن "ظهور الرب ليشوع بن نون" تم إعداده تحت إشراف وتوجيه قداسة البابا.
ونظرًا لأن موضوعات الكتاب قد تطرّقت إلى ظهورات المسيح السابقة للتجسد وعلاقتها بظهوره في الجسد في العهد الجديد، كان من المناسب أن يكون عنوان الكتاب: المسيح مشتهى الأجيال – منظور أرثوذكسي.

أما ما نشر في مجلة الكرازة عن "المسيح في سفر إشعياء" فسوف يصدر عن ذلك كتاب خاص عند الانتهاء من هذه السلسلة من المقالات. ويمكن أن تضاف بعد ذلك إلى الطبعة التالية من هذا الكتاب بمشيئة الرب.. فالكتاب ممتد ومفتوح إن شاء الرب وعشنا.
وقد تم دمج المقالات التي نُشرت بعد 16 مارس 1996 م ضمن الكتاب في مواضعها، بحيث أن الطبعة الحالية من الكتاب ليست جزءًا ثانيًا من كتاب "حياة وخدمة السيد المسيح" الذي تم طبعه سنة 1996 م لأن المقالات الأحدث قد دُمجت في مواضع متعددة تناسب موضوعاتها.
ونظرًا لأن الكتاب يشمل مقالات نشرت على مدى 18 عامًا فإنه من المناسب أن يصدر على جزئين إلى جوار المجلد الجامع للجزئين معًا، مع ملاحظة أن ترقيم الصفحات في الجزء الثاني سوف يكون استمرارًا للترقيم في الجزء الأول مع استخدام الحروف الأبجدية في ترقيم المقدمات.
وإذ نقدّم هذا الكتاب المتواضع للقارئ العزيز ندرك تمامًا أن السيد المسيح لا تسعه كل الكتب المكتوبة في العالم، بل أن العالم نفسه لا يسع الكتب المكتوبة. لأن المسيح هو الذي وضع قوانين الطبيعة والحياة وهو الذي به نحيا ونتحرك ونوجد وله في حياة كل إنسان وكل مخلوق عمل عجيب. كل ذرة في الخليقة تدين بوجودها ونظامها للإله الكلمة الذي "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو1: 3).
أيضًا كل ما يعمله المسيح في حياة كل إنسان: في معرفته، في صلواته، في توبته، في خدمته، في علاقته مع الله... كيف نحصر هذا المحيط اللانهائي المملوء بالأسرار؟!
ومع ذلك فإن هذا الكتاب يركّز على ما ورد في الكتب المقدسة عن السيد المسيح. بقصد التأمل في حياة وخدمة السيد المسيح وأسمينا كل مقالاته "أضواء من الإنجيل". وحتى في حديثنا عن المسيح في العهد القديم فقد فعلنا ذلك في ضوء الإنجيل الذي هو بشارة الخلاص الذي أعده الله من قبل تأسيس العالم.
إذًا مع السيد المسيح نتأمل في عمله وظهوراته عبر العصور منذ عصر آدم ومن بعده البطاركة الأولْ، مرورًا بعمله مع موسى، وإنذاره لبلعام، وعمله مع يشوع والقضاة والأنبياء (مثل ظهوره لإشعياء النبي في الرؤيا)، ثم في تجسده وولاته من العذراء مريم، ونشأته، وعماده، ومسحه بالروح القدس، وصومه على الجبل، وهزيمته للشيطان هناك، وبداية خدمته ودعوته للآباء الرسل، ومعجزاته، وشروحاته اللاهوتية عن الآب وعن نفسه باعتباره الابن الوحيد وعن الروح القدس، وحواراته مع اليهود، وتعاليمه السامية، وكلماته الخالدة، ومناجاته مع الآب، وتأسيس سر العشاء الرباني وآلامه، ومحاكمته، وصلبه، ودفنه، وقيامته، وتعاليمه عن الأمور المختصة بملكوت الله، وشرح أسرار الكنيسة، وإرساله الرسل إلى العالم، وإرساله الروح القدس إلى الكنيسة قبل أن يبدأ الرسل إرساليتهم حسب موعد الآب السماوي. ثم مجيئه الثاني في نهاية العالم، وما يسبق هذا المجيء الثاني من علامات.
وليرافق الرب يسوع المسيح حياتنا جميعًا بنعمته بصلوات صاحب القداسة البابا شنودة الثالث معلِّم هذا الجيل، أطال الرب حياة قداسته، ومتّعه بموفور الصحة على مدى الأيام، حارسًا للإيمان وراعيًا للقطيع إلى بر الأمان.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:22 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
السيد المسيح وظهوراته في العهد القديم

كلما ظهر الرب في العهد القديم كانت هي ظهورات للابن الوحيد سابقة لتجسده في ملء الزمان من القديسة مريم العذراء. فالذي ظهر لأبينا إبراهيم مع الملاكين عند بلوطات ممرا هو السيد المسيح، لكن كان ذلك قبل التجسد. كذلك الذي ظهر لأبينا يعقوب عند مخاضة يبوق في صورة إنسان وصارعه حتى الفجر، ثم باركه وقال له: "لماذا تسأل عن اسمي" (تك32: 29) هو أيضًا السيد المسيح قبل التجسد. والذي ظهر لمنوح والد شمشون وصعد في نيران الذبيحة كان هو السيد المسيح قبل التجسد. والأمثلة كثيرة عن هذه الظهورات السابقة للتجسد، وكلها كانت تمهد لمجيء الابن الوحيد متجسدًا من الروح القدس والعذراء مريم لخلاص العالم. وهذا ما عبّر عنه القديس بولس الرسول بقوله: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد" (1تى3: 16)،كذلك قال القديس يوحنا الإنجيلي: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله.. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.. والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًا" (يو1: 1، 3، 14).

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:25 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ظهور السيد المسيح لأبينا إبراهيم

أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي

قال السيد المسيح لليهود: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح" (يو8: 56). وقد تعجب اليهود وقالوا له: "ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم" (يو8: 57). فرد عليهم السيد المسيح قائلًا: "الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8: 58). وقد أثار هذا القول اليهود وحاولوا وقتها أن يقتلوا السيد المسيح ولم يتمكنوا، لأن ساعة موته الخلاصي لم تكن قد حانت بعد.
ويهمنا في هذا المجال أن نبحث: متى رأى إبراهيم يوم السيد المسيح؟
لم يقل السيد المسيح أن إبراهيم قد اشتهى فقط أن يراه.. بل أن يرى يومه.
وهنا نتساءل:

ما هو يوم الرب؟

يقول المزمور "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنبتهج ونفرح فيه" (مز117: 24).
ويقول يوئيل النبي: "تتحول الشمس إلى ظلمة، والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم الشهير (المخوف)" (أع2: 20، يؤ 2: 31).
ويقول ملاخي النبي: "ويأتي بغتةً إلى هيكله السيد الذي تطلبونه، وملاك العهد الذي تُسرُّون به، هوذا يأتي قال رب الجنود. ومن يحتمل يوم مجيئه" (ملا 3: 1، 2).
كما يقول أيضًا: "هأنذا أُرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف" (ملا 4: 5).

إن يوم الرب في معناه الشامل هو يوم الخلاص.
سواء يوم صلب السيد المسيح، أو يوم قيامته من الأموات، أو يوم إرسال الروح القدس المعزى لتوصيل مفاعيل الخلاص إلى الكنيسة، أو يوم استعلان ملكوت الله في مجيء السيد المسيح الثاني للدينونة، ولخلاص القديسين من متاعب هذا العالم الحاضر ومن جسد الفساد.
هناك علاقة وثيقة تربط بين يوم الصليب وإدانة الخطية بذبيحة الفداء، وبين يوم الدينونة في نهاية العالم، أي اليوم الأخير..
ففي يوم الصليب استوفى العدل الإلهي حقه.
وفى يوم الدينونة سيُطالب السيد المسيح بحقه فيما أوفاه من دين على الصليب من الذين استخفوا بدمه المسفوك لأجل خلاصهم، ومن الذين طعنوه.
فمعنى قول السيد المسيح "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي" (يو8: 56)، أن إبراهيم قد اشتهى أن يرى يوم الفداء.. يوم الرب العظيم.
متى رأى إبراهيم يوم الفداء؟

عن هذا يخبرنا سفر التكوين أن إبراهيم حينما أطاع الأمر الإلهي وأوشك أن يقدّم ابنه إسحق ذبيحة "ناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم إبراهيم.. الآن علمت أنك خائف الله؛ فلم تُمسِك ابنك وحيدك عنى" (تك22: 11، 12).
وهذا يعنى أن ملاك الرب (في النص العبري "ملاخ يهوه" بمعنى "سفير يهوه") الذي ناداه هو السيد المسيح -الابن الوحيد- وليس ملاكًا من الملائكة المخلوقين مثل ميخائيل وجبرائيل وغيرهم من الملائكة. فكلمة "ملاك" تعنى "مفوّض" أو "سفير" أو "مُرسل".
ولاشك أن السيد المسيح هو مُرسل من الآب إلى العالم مثلما قال مرارًا أن الآب قد أرسله (انظر يو5: 37، يو6: 39، 44).
والدليل أن الذي نادى إبراهيم هو الابن الوحيد؛ هو قوله لإبراهيم "فلم تُمسك ابنك وحيدك عنى" (تك22: 12)،ولا يمكن أن يكون إبراهيم قد أوشك أن يقدّم ابنه الوحيد لملاك من الملائكة العاديين، بل ليقدّمه قربانًا لله.
في هذا التوقيت رأى إبراهيم يوم الرب؛ أي أبصر بروح النبوة المسيح المصلوب القائم من الأموات. لذلك فقد أطلق على المكان الذي قدّم فيه الكبش عوضًا عن إسحق ابنه "يهوه يِرأَه" كما هو مكتوب: "فدعا إبراهيم ذلك الموضع يهوه يِرأَه. حتى إنه يُقال اليوم في جبل الرب يُرى" (تك22: 14) أي أنه قد رأى الرب.
لقد رأى إبراهيم الرب عند تقديم ابنه إسحق، وهذا ما اشتهاه وألح في طلبه كقول السيد المسيح عنه "تهلل بأن يرى يومي؛ فرأى وفرح" (يو8: 56).
فما أروع ما رآه إبراهيم حينما سلك في طريق الطاعة للرب الذي وعد: "الذي عنده وصاياي ويحفظها، فهو الذي يحبني. والذي يحبني؛ يحبه أبى، وأنا أحبه وأُظهر له ذاتي" (يو14: 21).
قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن

وقد رأينا كيف اشتهى أب الآباء إبراهيم أن يرى يوم الرب، ورأى وفرح حسبما ذكر السيد المسيح في كلامه مع اليهود. ولكن هل كان ظهور السيد المسيح لإبراهيم قبل التجسد الإلهي هو لإبراهيم فقط؟ أم ظهر لكثير من الشخصيات المذكورة في الكتاب المقدس؟
إن ظهورات السيد المسيح قبل تجسده وولادته من السيدة العذراء لها أهمية ومدلولات كثيرة وتؤكّد فكرة التجسد الإلهي، كما تؤكّد رسالة المسيح الخلاصية التي صنعها بنفسه في ملء الزمان.
وقد اقترنت هذه الظهورات الإلهية بأحداث عجيبة، ومواقف مصيرية. كما أنها تحمل بُعدًا نبويًا يشير إلى المستقبل.
وكما ظهر السيد المسيح لأنبياء، هكذا أيضًا ظهر لأشخاص آخرين بعضهم قديسين وبعضهم ليسوا قديسين، ولكن كان لهم دورهم البارز في أحداث تاريخ البشرية. وهذا ما سوف نحاول أن نتناوله بالشرح إن سمحت عناية الله.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:26 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ظهور السيد المسيح لموسى النبي

من أقوى ما ورد عن السيد المسيح من ظهورات؛ هو ظهوره لموسى في العليقة المشتعلة بالنار. وقد ورد ذلك في سفر الخروج لموسى النبي كما يلي: "وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان، فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى: أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم. لماذا لا تحترق العليقة؟ فلما رأى الرب أنه مال لينظر، ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى، موسى. فقال: هأنذا. فقال: لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله" (خر3: 1-6).
لا يمكن أن ينطبق هذا الظهور على أقنوم الآب لأن الكتاب يقول "ظهر له ملاك الرب" (خر3: 2). وكلمة "ملاك" في اللغة العبرية تعنى "مُرسل" أي من هو مرسل من آخر. ولا يجوز أن يُقال عن الآب أنه مرسل من الرب ولكنها تقال عن الابن باستمرار كقوله لليهود في أكثر من موضع (انظر يو5: 37، يو6: 39، 44، يو7: 16).
ومما يؤكد أن الظهور في العليقة كان يخص الابن الوحيد هو قوله لموسى بعد ذلك "إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم. إني علمت أوجاعهم، فنزلت لأنقذهم" (خر3: 7، 8). ومعروف أن الرب قد نزل لخلاص البشرية بتجسد الابن الوحيد في أحشاء العذراء مريم والدة الإله. وبهذا نقول أن الابن هو الذي "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى2: 7، 8).
النار والعليقة


إن لهيب النار الذي ظهر وسط العليقة يشير إلى لاهوت السيد المسيح باعتباره الابن الوحيد الجنس أي الذي له نفس جوهر الآب وطبيعته بالولادة من الآب قبل كل الدهور لأنه مكتوب إن "إلهنا نار آكلة" (عب12: 29).
أما العليقة نفسها فتشير إلى ناسوت السيد المسيح المأخوذ من السيدة العذراء بفعل الروح القدس؛ والذي تكوّن في أحشائها في نفس لحظة اتحاد الله الكلمة بهذا الناسوت. ولكن الناسوت لم يحترق لسبب اتحاده باللاهوت. وهذا ما عبّر عنه القديس بولس الرسول بقوله "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16). حقًا إنه شيء عظيم يفوق العقل أن تتحد الطبيعة الإلهية بالطبيعة الإنسانية الخاصة بالسيد المسيح دون أن تحترق هذه الطبيعة الإنسانية بالرغم من التفاوت الهائل في خواص الطبيعتين، وقد كونتا معًا طبيعة واحدة لتجسد الله الكلمة حسبما علّم القديس كيرلس الكبير Mi,a fu,sij tou/ Qeou/ Logou/ sesarkwme,nh (ميا فيسيس تو ثيئو لوغو سيساركومينى) أي "طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة" هذه الطبيعة الواحدة تجمع بين خصائص الطبيعتين ولكن دون أن تتحول إحداهما إلى الأخرى بالامتزاج أو بالامتصاص بل استمرت كل طبيعة في الوجود محتفظة بخصائصها بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا انفصال ولا تقسيم.
اسم الرب

عندما أبصر موسى هذا المشهد العظيم الذي يرمز إلى التجسد الإلهي، وأراد الرب أن يرسله لخلاص شعبه. قال موسى لله: "ها أنا آتى إلى بنى إسرائيل وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى: أهيه الذي أهيه،وقال هكذا تقول لبنى إسرائيل أهيه أرسلني إليكم. وقال الله أيضًا لموسى: هكذا تقول لبنى إسرائيل: يهوه إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد وهذا ذكرى إلى دور فدور" (خر3: 13-15).
وهكذا أعلن السيد المسيح لموسى النبي أن اسمه هو "يهوه" أي "الكائن" مثلما قال القديس يوحنا الإنجيلي في سفر الرؤيا "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء" (رؤ1: 8). نفس الاسم ينطبق على الآب والابن والروح القدس الإله الواحد.
بصواب قال الشاعر الفرنسي دي لامارتين: [إن كينونة يهوه لا تحسب بالشهور والأيام، فيومه يوم أزلي، وهو الكائن على الدوام].
إن اسم "يسوع" في اللغة العبرية هو يهوشع بمعنى "يهوه خلّص" وهذا ما قاله الملاك جبرائيل للقديس يوسف خطيب العذراء مريم "يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت1: 20، 21). وبهذا تحقق قول الرب (يهوه) لموسى "إني قد رأيت مذلة شعبي.. فنزلت لأنقذهم" (خر3: 7، 8).
إن شعب يهوه هو شعب يسوع لأن يسوع هو يهوه.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:31 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ظهور السيد المسيح لموسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعين شيخًا

من ضمن ظهورات السيد المسيح السابقة للتجسد ظهوراته لموسى النبي. ولم تكن كل هذه الظهورات لموسى وحده، بل في إحدى المرات ظهر له ومعه هارون وناداب وأبيهو وسبعون شيخًا من شيوخ بنى إسرائيل.
وقد ورد ذِكر هذا الظهور في سفر الخروج كما يلي:
"وقال لموسى: اصعد إلى الرب أنت وهارون وناداب وأبيهو، وسبعون من شيوخ إسرائيل، واسجدوا من بعيد. ويقترب موسى وحده إلى الرب، وهم لا يقتربون، وأما الشعب فلا يصعد معه.. ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكَذَات السماء في النقاوة. ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بنى إسرائيل، فرأوا الله وأكلوا وشربوا" (خر24: 1، 2، 9-11).
هذه تقريبًا هي المرة الوحيدة التي ظهر فيها الرب ظهورًا واضحًا أمام عدد كبير من شعب إسرائيل؛ مثلما ظهر لنبوخذ نصر ملك بابل ومن معه عند إلقاء الثلاثة فتية في أتون النار، إذ ظهر معهم في وسط الأتون شخص رابع قال عنه الملك (على حد تعبيره) إنه "شبيه بابن الآلهة" (دا 3: 25).

جاء ظهور الرب لموسى ولمن معه بوضع خاص جدًا وذي معانٍ جليلة. ومن الواضح أنه ظهر في هيئة إنسان لأن هناك ذِكر لرجليه ويده.
ومن المعلوم أن الآب لم يره أحد قط، لذلك فالرب إله إسرائيل الذي ظهر لهم هو الابن الوحيد الجنس المولود من الآب قبل كل الدهور.
أما عبارة أنه "لم يمد يده إلى أشراف بنى إسرائيل" (خر24: 11) فهي دليل على أن أكل وشرب شيوخ إسرائيل المذكورين في هذه الواقعة لم يكن هو العشاء الرباني. وأن المصالحة بالفداء لم يكن قد آن أوانها.
في العشاء الخاص بليلة آلام الرب يسوع المسيح؛ أخذ خبزًا وشكر وباركه وقسمه وأعطاه لتلاميذه القديسين ورسله الأطهار المكرمين قائلًا: "خذوا كلوا هذا هو جسدي" (مت26: 26)، وهكذا الكأس أيضًا بعد العشاء " قائلًا: اشربوا منها كلكم" (مت26: 27)، إذن لقد مد الرب يده إلى تلاميذه ومنها أكلوا وشربوا.
أما في حالة موسى النبي ومن معه فإن الرب لم يمد يده إليهم، بل يقول الكتاب "رأوا الله، وأكلوا وشربوا" (خر24: 11)،مجرد رؤية أعقبها أكل وشرب هو رمز للإفخارستيا، مجرد رمز وليس له أي حقيقة إفخارستية لأن الرب لم يمد يده إليهم.
يوجد رمز آخر في المشهد الذي رآه موسى وشيوخ بنى إسرائيل، وهو منظر العقيق الأزرق الشفاف كذات السماء في النقاوة تحت رجلي السيد المسيح الذي ظهر لهم.. وهذا رمز للمعمودية المقدسة التي بها يمكننا أن نصل إلى ملكوت الله. وهى ميلاد فوقاني سماوي. وقد قَبِل السيد المسيح العماد لأجلنا ليرسم لنا طريق الخلاص بالمعمودية. لهذا كان منظر العقيق الأزرق الشفاف تحت رجليه.
بعد رؤيتهم لمنظر شبه المعمودية تحت رجلي الرب الذي ظهر لهم، أكلوا وشربوا رمزًا للإفخارستيا. لذلك فالإنسان لا يمكن أن يأكل من مائدة الرب في العهد الجديد إلاّ بعد أن ينال سر العماد المقدس في مياه المعمودية التي هي مثل العقيق الأزرق الشفاف كذات السماء في النقاوة.
وكما كان في فلك نوح والطوفان والحمامة التي بشرت بعودة الحياة مرة أخرى رموز جميلة للمعمودية المقدسة، هكذا أيضًا في هذا الظهور العجيب.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:32 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ظهور السيد المسيح ليشوع

* البعض لا يعتبرون ظهور السيد المسيح ليشوع بن نون في هيئة "رئيس جند الرب" والذي ورد في سفر يشوع (يش5: 13-15) ظهورًا إلهيًا. فهو في رأيهم ظهور لرئيس الملائكة ميخائيل حسبما هو وارد في سنكسار الكنيسة القبطية cuna[arion تحت يوم 12 هاتور ويوم 12 بؤونة، وفي إحدى مدائح الملاك ميخائيل بالعربية، وفي سنكسار كنائس عائلة الروم تحت يوم 8 تشرين الثاني (نوفمبر). ويحدد ميمر منسوب للقديس يوحنا ذهبي الفم (مكتوب باللغة القبطية ومحفوظ في مكتبة الفاتيكان تحت رقم مخطوط قبطي 58) يوم 26 بؤونة تذكارًا لظهور الملاك ميخائيل لإنقاذ لوط، وظهوره ليشوع عند أسوار أريحا.
* أما الأدفنتست وشهود يهوه فيدّعون خطأ أن الذي ظهر ليشوع هو المسيح نفسه وهو نفسه الملاك ميخائيل.
* أما نص ما ورد في سفر يشوع مترجمًا من اللغة العبرية فهو كما يلي: "وحدث لما كان يشوع عند أريحا أنه رفع عينيه ونظر وإذا برجل واقف قبالته وسيفه مسلول بيده. فسار يشوع إليه وقال له هل أنت لنا أو لأعدائنا؟ فقال: كلا؛ بل أنا رئيس جند الرب، الآن أتيت. فسقط يشوع على وجهه إلى الأرض وسجد، وقال له: بماذا يكلم سيدي عبده، فقال رئيس جند الرب ليشوع: اخلع نعلك من رجلك لأن المكان الذي أنت واقف عليه هو مقدس ففعل يشوع كذلك. وكانت أريحا مغلقة مقفلة بسبب بنى إسرائيل لا أحد يخرج ولا أحد يدخل. فقال الرب (يهوه) ليشوع انظر قد دفعت بيدك أريحا وملكها، جبابرة البأس" (يش5: 13-15، 6: 1، 2).
وقد شهد الكثيرون من آباء الكنيسة الجامعة بأن هذا الظهور كان ظهورًا للرب نفسه في هيئة رئيس جند الرب. وكمثال لذلك:
1- تشهد الدسقولية (بالعربية باب 31، والأثيوبية باب 30)، وكذلك السنن الرسولية (5: 20) عن مسيح الله أنه هو الذي رآه يشوع بن نون كرئيس جند الرب متسلّحًا لمساعدتهم ضد أريحا، وأن له خرّ وسجد (يشوع) كما يفعل العبد لسيده.
2- ويشهد يوستينوس الشهيد (الحوار مع تريفو 61) عن ابن الله أنه "يُدعى بالروح القدس أحيانًا مجد الرب، وأحيانًا الابن، وأيضًا الحكمة، وأيضًا ملاكًا، ثم الله ثم الرب والكلمة. وفي مرة أخرى هو يدعو نفسه قائدًا (رئيس جند) عندما ظهر في شكل بشرى ليشوع بن نون.
3- والقديس هيلارى أسقف بواتييه الملقب بأثناسيوس الغرب في معرض عن ظهورات الله في أشكال متنوعة في كتاب عن الثالوث (12: 47) يذكر الظهور ليشوع بن نون باعتباره (أي باعتبار يشوع) نبيًا يحمل اسم الرب يسوع (الاسم يشوع هو بعينه يسوع، وكلاهما بمعنى "يهوه خلص").

* فالرأي الصائب إذن هو أن رئيس جند الرب الذي ظهر ليشوع هو الرب نفسه. وذلك لأن يشوع سقط على وجهه وسجد وقال له: "بماذا يكلّم سيدي عبده". فمن وَصْفْ طريقة سجود يشوع وأسلوبه في الحديث؛ نرى توقيرًا بالغًا يزيد عن المعتاد، يدل على أن سجوده كان سجود عبادة. كما تنكشف الصفة الحقيقية للشخص الذي ظهر، من قبوله السجود من يشوع مما يؤكد أنه ليس مجرد ملاك مخلوق (قارن رؤ19: 10، 22: 8-9، أع10: 25-26). كذلك فإنه طالب يشوع بأن يخلع حذاءه لأن الموضع قد تقدّس بحضوره، تمامًا مثلما حدث مع موسى في أمر العليقة حين ناداه ملاك الله وأمره بأن يخلع حذاءه من رجليه (خر3: 4-5)،وهذا يؤكّد أن رئيس جند الرب الذي ظهر ليشوع ليس سوى الرب (يهوه) نفسه، لأن الأصحاح الخامس من سفر يشوع لا يذكر الرسالة التي حملها رئيس جند الرب إلى يشوع، لكنها مذكورة في بداية الأصحاح السادس مسبوقة بجملة اعتراضية تفصل بين الظهور وبين الرسالة، هي: "وكانت أريحا مغلقة مقفلة بسبب بنى إسرائيل، لا أحد يخرج ولا أحد يدخل"، يليها مباشرة نص الرسالة منسوبة إلى الرب هكذا: "فقال الرب (يهوه) ليشوع: انظر قد دفعت بيدك أريحا وملكها" (يش6: 1-2).
* لأنه طالما أن المسيح ظهر مرارًا في هيئة ملاك، وكان هو الملاك السائر أمام بنى إسرائيل في البرية مشهودًا له بأن اسم الله فيه (خر23: 20-23)، فليس ما يمنع من أن يتخذ هيئة رئيس جند الرب، ويظهر في صورة قائد محارب، سيفه مسلول بيده. قارن في هذا المجال ظهور ملاك يهوه لبلعام وسيفه مسلول في يده (عد22: 23)، قارن أيضًا ظهور السيد المسيح بمجده في سفر الرؤيا (رؤ1: 16) "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه ووجهه كالشمس وهى تضئ في قوتها" كذلك أيضًا ظهوره في نفس سفر الرؤيا (رؤ19: 11-16) جالسًا على فرس أبيض وهو "يدعى أمينًا وصادقًا وبالعدل يحكم ويحارب.. وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله. والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزًا أبيض ونقيًا. ومن فمه يخرج سيف ماض.. وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب". (قارن أف4: 8، كو2: 15).
فنظرًا لأن السيد المسيح كما ورد في (رؤ 19: 11-16) بالعدل يحكم ويحارب، وهو يركب فرس أبيض والأجناد الذين في السماء يتبعونه على خيل بيض، ومن فمه يخرج سيف ماضٍ، فإن ذلك يعنى أن السيد المسيح هو أيضاً رئيس لجند الرب في المعارك الكبرى. ولا يفوتنا أن القائد العام للقوات المسلحة وهو وزير الدفاع، ليس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو رئيس الجمهورية، فكل منهما قائد أو رئيس جند، ولكن مع اختلاف مستوى الرئاسة. وهكذا أيضًا بالنسبة لقواد فروع الجيش، مثل الطيران والبحرية والمشاة والمدفعية والدفاع الجوى. فليس معنى أن ميخائيل هو رئيس أن يكون هو الرئيس الأعلى للقوات السمائية، ففي حديث السيد المسيح مع يشوع بن نون قال له عن نفسه أنه هو "رئيس جند الرب" بمعنى أنه هو "القائد الأعلى للقوات السمائية"، أما رؤساء الملائكة مثل ميخائيل وغبريال ورافائيل وسوريال وسراسيال وأنانيال وسداكيال؛ فإن كل منهم رئيس طغمة ومن الممكن أن نفهم أن ميخائيل هو الأول بينهم. أما رئيس كل الرؤساء وملك كل الملوك ورب كل الأرباب فهو السيد المسيح، هو الذي خاض معركة الفداء والخلاص، وانتصر على مملكة الظلمة الروحية، كما كتب معلمنا بولس الرسول عن السيد المسيح: "إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو2: 15). وكذلك قرب نهاية العالم قيل عن الوحش "ضد المسيح": "وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه" (2تس2: 8). بمعنى أن الذي سيبطل عمل الوحش الذي سيظهر حينما يُحَلْ الشيطان من سجنه "والذي مجيئه بعمل الشيطان" (2تس2: 9)، هو المسيح الرب الذي سيأتي "في مجده وجميع الملائكة القديسين معه" (مت25: 31).
أما عن ادعاء شهود يهوه والأدفنتست السبتيين بأن السيد المسيح هو الملاك ميخائيل؛ فإن هذا غير مقبول على الإطلاق، لأنه مكتوب "أما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم إبليس محاجًا عن جسد موسى لم يجسر أن يورد حكم افتراء بل قال لينتهرك الرب" (يه9). فكيف لا يجسر الرب يسوع المسيح أن ينتهر الشيطان؟ هذا غير معقول، ولذلك فليس ميخائيل هو السيد المسيح.
ولذلك يقول القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات في نص قداسه الإلهي مخاطبًا الابن الوحيدربنا يسوع المسيح: [لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبيًا ائتمنته على خلاصنا، بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست..] (صلاة الصلح).
كما أنه لم يرِد أي لقب من ألقاب السيد المسيح الإلهية عن الملاك ميخائيل بالكتاب المقدس مثل: "ملك الملوك"، و"رب الأرباب"، و"الابن الوحيد الجنس"، و"اللوغوس (الكلمة)".
وكتب معلمنا بولس الرسول مقارنًا بين السيد المسيح والملائكة في فاتحة رسالته إلى العبرانيين يقول: "لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابني أنا اليوم ولدتك" (عب1: 5).
إن السيد المسيح يمكنه أن يظهر في هيئة ملاك أو إنسان وأن يأخذ لقب "ملاك يهوه" أي "سفير يهوه" (انظر خر3: 2، قض 6: 11، 14، قض13: 15، 22) ولكنه ليس من الملائكة. كذلك من الجانب الآخر، فإن الملاك ميخائيل لا يمكنه أن يأخذ لقب "ابن الله الوحيد".

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:33 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ظهور السيد المسيح لبلعام

لم يظهر السيد المسيح قبل التجسد لأناس أبرار فقط، بل ظهر أيضًا لأناس آخرين مثل لابان خال يعقوب أب الآباء، وكان لابان يعبد الأصنام؛ ولكن ظهر له إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ليحذّره من أذية يعقوب ابن شقيقته رفقة، بعد هروبه منه ومعه زوجتيه بنات لابان (انظر تك31: 24-32).
كذلك ظهر السيد المسيح لبلعام بن بعور -النبي الأحمق- ثلاث مرات وأراد أن يقتله لولا أن الأتان قد حادت عن الطريق، هذا إلى جوار ما رآه بلعام في نبواته عن السيد المسيح.
فزع موآب من الشعب الخارج مع موسى النبي، فأرسل بالاق ملك موآب رسلًا إلى النبي بلعام بن بعور ليأتى ويلعن هذا الشعب لكي يتمكن من الانتصار عليهم. فقال لهم بيتوا هنا الليلة فأرد عليكم جوابًا كما يكلّمني الرب.
"فأتى الله إلى بلعام وقال من هم هؤلاء الرجال الذين عندك. فقال بلعام لله: بالاق بن صفور ملك موآب قد أرسل إلىّ يقول: هوذا الشعب الخارج من مصر قد غشى وجه الأرض. تعال الآن العن لي إياه لعلى أقدر أن أحاربه وأطرده. فقال الله لبلعام: لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك" (عدد22: 9-12).
ففي الصباح قال بلعام لرؤساء بالاق أن الرب أبى أن يسمح له بالذهاب معهم فذهبوا وأخبروا الملك بالاق الذي عاد وأرسل أيضًا رؤساء أكثر وأعظم من أولئك مع وعود بعطايا كثيرة. فطلب منهم أن يمكثوا هذه الليلة ليعلم ماذا يعود الرب أن يكلّمه به.
"فأتى الله إلى بلعام ليلًا وقال له إن أتى الرجال ليدعوك؛ فقم اذهب معهم. إنما تعمل الأمر الذي أكلمك به فقط. فقام بلعام صباحًا وشد على أتانه وانطلق مع رؤساء موآب" (عدد22: 20، 21). "فحمى غضب الله لأنه منطلق. ووقف ملاك الرب في الطريق ليقاومه وهو راكب على أتانه وغلاماه معه. فأبصرت الأتان ملاك الرب واقفًا في الطريق وسيفه مسلول في يده؛ فمالت الأتان عن الطريق ومشت في الحقل. فضرب بلعام الأتان ليردها إلى الطريق" (عدد22: 22، 23).

وتكرر الأمر في خندق للكروم بين حائطين، وفي مكان آخر ضيق حتى ربضت الأتان تحت بلعام، وفي كل مرة كان بلعام يضرب الأتان. وأخيرًا فتح الرب فم الأتان وعاتبت بلعام على ضربه إياها ثلاث دفعات "ثم كشف الرب عن عيني بلعام فأبصر ملاك الرب واقفًا في الطريق وسيفه مسلول في يده، فخرّ ساجدًا على وجه. فقال له ملاك الرب: لماذا ضربت أتانك الآن ثلاث دفعات.. لو لم تمل من قدامى لكنت الآن قد قتلتك واستبقيتها. فقال بلعام لملاك الرب: أخطأت إني لم أعلم أنك واقف تلقائي في الطريق. والآن إن قبح في عينيك فإني أرجع. فقال ملاك الرب لبلعام: اذهب مع الرجال وإنما تتكلم بالكلام الذي أكلمك به فقط. فانطلق بلعام مع رؤساء بالاق" (عدد22: 31-35).
من هو ملاك الرب الذي ظهر لبلعام؟

كما ذكرنا سابقًا فإن كلمة "ملاك" باللغة العبرية (ملاخ) تعنى مرسل أو سفير أو مفوض ولا تعنى بالضرورة أحد الملائكة العاديين مثل الملاك ميخائيل أو الملاك جبرائيل. وعبارة "ملاك الرب" هي في النص العبري (ملاخ يهوه) أي "سفير يهوه" واستخدمت في بعض المواضع للإشارة إلى السيد المسيح في ظهوراته السابقة للتجسد، مثل ظهوره لمنوح والد شمشون وجدعون وغيرهما.
ونلاحظ أن الله قد أتى إلى بلعام ليلًا وقال له "تعمل الأمر الذي أكلمك به فقط" (عدد22: 20). ثم حينما لاقاه ملاك الرب في الطريق قال له "إنما تتكلم بالكلام الذي أكلمك به فقط" (عدد22: 35) ففي كلتا الحالتين الله هو المتكلم، وملاك الرب هو المتكلم، لأن السيد المسيح هو الذي تكلم مع بلعام في كلتا الحالتين في ظهوراته السابقة للتجسد الإلهي. فالسيد المسيح هو الذي يمكن أن يأخذ لقب "سفير الرب" لأنه مرسل من الآب.
عندما وصل بلعام قال لبالاق الملك "الكلام الذي يضعه الله في فمي به أتكلم" (عدد22: 38).
وبعد أن أصعدت الذبائح على سبعة مذابح "وضع الرب كلامًا في فم بلعام وقال ارجع إلى بالاق وتكلم هكذا" (عدد23: 5)
وبدأ بلعام يبارك الشعب فقال له بالاق "لتشتم أعدائي أخذتك وهوذا أنت قد باركتهم. فأجاب وقال أما الذي يضعه الرب في فمي احترص أن أتكلم به" (عدد 23: 11، 12). وهذا يؤكد أن ملاك الرب الذي تكلم مع بلعام هو الرب الإله. وتكرر الأمر ثلاث مرات في مباركة الشعب. وفي المرة الثالثة كان روح الله على بلعام "فنطق بمثله وقال: وحى بلعام بن بعور. وحى الرجل المفتوح العينين. وحى الذي يسمع أقوال الله" (عدد24: 3، 4).
وبالرغم من كل هذه البركات والنبوات إلا أن بلعام قد جعل الشعب يخطئ بمشورة رديئة.
السيد المسيح في رؤى بلعام

تكلمنا عن ظهورات السيد المسيح لبلعام بن بعور وغضبه عليه، وتحذيراته له، وعدم تمكن بلعام من أن يلعن الشعب بروح النبوة. ولكن يتساءل البعض: لماذا حمى غضب الرب على بلعام عندما انطلق لمقابلة بالاق ملك موآب، مع أن الرب في المرة الثانية سمح له بالذهاب؟!
وللرد على هذا التساؤل نقول إن بلعام كان نبيًا للرب ولكنه كان محبًا للمال ويتصرف بحماقة كما شهد الكتاب المقدس عنه (انظر 2بط 2: 15، 16).
في نبواته لم ينطق بشيء مخالف لما يريد الرب أن يُقال، ولكنه في مقاصده الشخصية ونواياه كان ميالًا لمحبة المال بصورة أغضبت الرب عليه ووضعته في مصاف الحمقى والمخالفين. وقد وصل به الأمر أنه قد أشار على الملك بالاق الموآبى بمشورة رديئة أسقطت عدد كبير من شعب إسرائيل في الزنى وعبادة الأوثان وتسببت في غضب الرب عليهم وسقوط أربعة وعشرين ألفًا من القتلى بالوباء، مع أن بلعام لم يقبل أن ينطق بلعنات إلهية على هذا الشعب قبل أن يشير على بالاق الملك بمشورته الرديئة. بل بالعكس لقد بارك الشعب عدةمرات بحسب كلام الرب. ثم حل عليه روح الرب وتنبأ عن تجسد السيد المسيح بنبوءة في منتهى الروعة، ذكر فيها أنه قد رآه بروح النبوة من بعيد.
في بداية الأمر منع الله بلعام من الذهاب مع رسل الملك وبالفعل لم يذهب إليه. فعاد الملك ووعده بوعود مالية أكبر بكثير، فعاد يسأل الله إن كان يذهب فسمح له.
وهذا درس للجميع في عدم محاولة سؤال الله عن شيء ضد مشيئته والإلحاح عليه في الطلب سعيًا وراء تحقيق المآرب والشهوات الشخصية.
وأمام إلحاح بلعام في الذهاب وافق الله ولكنه أمره بألاّ ينطق إلاّ بالكلام الذي يضعه في فمه،وفرح بلعام وشد على أتانه وذهب مع رسل الملك، وفي الطريق لاقاه السيد المسيح في ظهور من ظهوراته السابقة للتجسد وشرع في أن يقتله ثلاث مرات وأنقذه الحمار.. وفي المرة الثالثة بدأ الحمار ينطق بكلام كأنه إنسان بطريقة معجزية موبخًا بلعام. وكان ذلك كله لكي يظهر السيد المسيح له أنه غاضبٌ عليه وعلى مسلكه المحب للمال مع تحذيره من أن ينطق شيئًا مخالفًا لما يضعه في فمه.
وبالفعل نفَّذ بلعام أوامر السيد المسيح حرفيًا؛ وبارك الشعب ولم يلعنه، بل وتنبأ عن تجسده في ملء الزمان. ولكنه اكتفى بحرفية تنفيذ الوصية. أما قلبه فلم يكن مع السيد المسيح مثلما قال الله "هذا الشعب يكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا" (مر7: 6).
من الناحية الرسمية نفَّذ بلعام الوصية، ولكنه بقلبه وفكره ومشورته لم ينفذها بل عمل عكسها. والله لا يخدعه بالطبع التنفيذ الشكلي للوصايا بل قال "يا ابني أعطني قلبك ولتُلاحظ عيناك طُرقي" (أم 23: 26).
ما ورد في العهد الجديد عن بلعام

في سفر الرؤيا قال السيد المسيح لملاك كنيسة برغامس: "عندك هناك قومًا متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلِّم بالاق أن يلقى معثرة أمام بنى إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا" (رؤ2: 14).
وفى رسالة يهوذا الرسول يقول عن الناس الأشرار: "ويل لهم لأنهم سلكوا طريق قايين وانصبوا إلى ضلالة بلعام لأجل أجرة وهلكوا في مشاجرة قورح" (يه 11).
وفى رسالة بطرس الرسول يقول عن المعلمين الكذبة الذين يدسّون بدع هلاك: "لهم قلب متدرب في الطمع، أولاد اللعنة. قد تركوا الطريق المستقيم فضلّوا تابعين طريق بلعام بن بصور الذي أحب أجرة الإثم. ولكنه حصل على توبيخ تعديه إذ منع حماقة النبي حمار أعجم ناطقًا بصوت إنسان" (2بط2: 14-16).
ويتضح من هذه الآيات التي وردت في العهد الجديد أن بلعام قد أشار على الملك بالاق أن يرسل نساءً زانيات في وسط محلة بنى إسرائيل ليسقط الأجناد في الزنى وعبادة الأوثان. فيحل غضب الرب عليهم. وهذا بالفعل هو ما ورد في سفر العدد عما فعله الملك إذ أرسل نساءً زانيات وضرب الرب الشعب بالوباء لسقوطهم في الخطية "وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب. فدعوْن الشعب إلى ذبائح آلهتهن فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن" (عد 25: 1، 2).
رؤية بلعام عن تجسد السيد المسيح

بالرغم من الوضع المأساوي الذي فعله بلعام إلا أنه قد سبق فتنبأ عن ظهور السيد المسيح بالجسد في ملء الزمان. وهذا يجعلنا لا نتكل على مواهب الروح القدس مثل موهبة النبوة لأن السيد المسيح قد أكّد على أهمية حفظ وصاياه وأن كثيرين سيقولون له في اليوم الأخير: "أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟" فيقول لهم: "إني لم أعرفكم قط اذهبوا عنى يا فاعلي الإثم" (مت 7: 22، 23).
وكانت نبوة بلعام هكذا "فكان عليه روح الله. فنطق بمثله وقال: وحى بلعام بن بعور وحى الرجل المفتوح العينين. وحى الذي يسمع أقوال الله الذي يرى رؤيا القدير.. وهو مكشوف العينين. ما أحسن خيامك يا يعقوب مساكنك يا إسرائيل..! أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريبًا، يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ويهلك كل بنى الوغى" (عد24: 2-5، 17). والمعروف أن كوكب يعقوب الذي ظهر في ملء الزمان هو السيد المسيح.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:35 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ظهور السيد المسيح لجدعون

اشترط جدعون أن يعطيه الرب علامة على أنه سوف يكون معه للانتصار على جيش المديانيين الذين جاءوا بمئات الألوف بينما كان مع جدعون عدد أقل منهم بكثير.
طلب جدعون أن يضع جزّة الصوف على الأرض المتسعة بحيث تمتلئ الجزة بندى الليل وتبقى الأرض المحيطة بها كلها جافة بلا ندى. وقد حقق له الرب طلبه. وكان هذا إشارة إلى تجسد الله الكلمة في بطن العذراء القديسة مريم دونًا عن كل البشر. كما أنه إشارة إلى اتحاد اللاهوت بالناسوت المأخوذ من العذراء مريم بالروح القدس لتجسّد الكلمة دون أن يحدث ذلك مع أي طبيعة بشرية أخرى أي خصوصية ناسوت السيد المسيح وتفرده بالاتحاد باللاهوت.
عاد جدعون فطلب من الرب أن ينزل الندى في الليلة التالية على كل الأرض المتسعة، ولا ينزل على جزة الصوف بحيث تبقى جافة. وعاد الرب فحقق له طلبه وتمت هذه العلامة أيضًا. وكانت رمزًا لحلول الروح القدس على كل شعوب الأرض الذين آمنوا بالسيد المسيح واعتمدوا على اسمه دونًا عن الأمة اليهودية الرسمية التي رفضت الإيمان بالمسيح. ولذلك قال لهم "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت23: 38، لو13: 35).

ومعروف طبعًا أن عبارة "جبل صهيون" ترمز إلى كلٍ من العذراء مريم وإلى أورشليم التي بنى هيكل الرب فيها مثل قول المزمور "صهيون الأم تقول إن إنسانًا إنسانًا صار فيها، وهو العلّى الذي أسسها" (مز86: 5). لذلك فجزة الصوف هي نفسها قد رمزت في المرة الأولى إلى العذراء مريم، وفي المرة الثانية إلى الأمة اليهودية التي ملأها الغرور بهيكل الله الذي كان مجرد رمز لأمجاد العهد الجديد في المسيح يسوع.
قبل هذه الأحداث كان السيد المسيح قد ظهر لجدعون ضمن ظهوراته السابقة للتجسد.
تحت شجرة البطمة

وردت قصة هذا الظهور العجيب للسيد المسيح في أحد ظهوراته السابقة للتجسد في سفر القضاة كما يلي:
"أتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة التي في عفرة التي ليوآش الأبيعزرى. وابنه جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين. فظهر له ملاك الرب وقال له: الرب معك يا جبار البأس. فقال له جدعون: أسألك يا سيدي إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه.. والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان. فالتفت إليه الرب وقال اذهب بقوتك هذه وخلّص إسرائيل من كف مديان أما أرسلتك" (قض6: 11-14).
بعد ذلك مباشرة دخلت المسألة في مرحلة ثانية أن جدعون أراد أن يتأكد أن الرب هو الذي ظهر له والذي ذكر عنه السفر باللغة العبرية أنه "ملاخ يهوه" (ملاك الرب = سفير يهوه) وأنه هو "الرب"كما ورد في النص السابق (قض6: 14).
قال جدعون للرب "أسألك يا سيدي بماذا أخلّص إسرائيل. ها عشيرتي هي الذُلَّى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبى. فقال له الرب إني أكون معك وستضرب المديانيين كرجل واحد. فقال له إن كنت قد وجدت نعمةً في عينيك فاصنع لي علامة أنك أنت تكلمني. لا تبرح من ههنا حتى آتى إليك وأخرج تقدمتي وأضعها أمامك. فقال: إني أبقى حتى ترجع" (قض6: 15-18).
وبالفعل دخل جدعون "وعمل جدي معزى وإيفة دقيق فطيرًا. أما اللحم فوضعه في سل، وأما المرق فوضعه في قدر، وخرج بها إليه إلى تحت البطمة وقدّمها" (قض6: 19). ونلاحظ أن جدعون قد قرّب التقدمة إلى الجالس تحت شجرة البطمة وتعامل معه على أنه هو الرب.
"قال له ملاك الله (بالعبرية "ملاخ إلوهيم") خذ اللحم والفطير وضعهما على تلك الصخرة واسكب المرق ففعل كذلك. فمد ملاك الرب طرف العكاز الذي بيده ومس اللحم والفطير فصعدت نار من الصخرة وأكلت اللحم والفطير وذهب ملاك الرب عن عينيه،فرأى جدعون إنه ملاك الرب فقال جدعون: آه يا سيدي الرب لأني قد رأيت ملاك الرب وجهًا لوجه. فقال له الرب السلام لك لا تخف لا تموت. فبنى جدعون هناك مذبحًا للرب ودعاه يهوه شَلوم (بالعبرية أي الرب سلام)" (قض6: 20-24). لقد أدرك جدعون أن سفير يهوه الذي ظهر له هو ظهور للرب، ولذلك خاف أن يموت لأنه رآه. فطمأنه الرب وأعطاه السلام. فبنى مذبحًا للرب في الموضع الذي قبل فيه السيد المسيح تقدمته عند الصخرة ودعا اسم المذبح "الرب سلام".
لذلك لا نعجب أن السيد المسيح قال لليهود "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهى التي تشهد لي. ولا تريدون أن تأتوا إلىّ لتكون لكم حياة" (يو5: 39، 40).
كيف يمكن أن يفسر اليهود أن "سفير يهوه"المذكور في الأسفار المقدسة هو هو نفسه يهوه الله إلاّ إذا كان سفير يهوه هو الابن الوحيد الذي أرسله الآب في ظهورات العهد القديم وفي تجسد العهد الجديد حينما كلّمنا الله في ابنه وليس من خلال الأنبياء والقضاة كما في العهد القديم.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:36 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ظهور السيد المسيح لمنوح وزوجته

كان ظهورًا عجيبًا لزوجين من الأبرار في العهد القديم، وقد وردت قصة هذا الظهور في الأصحاح الثالث عشر من سفر القضاة، إذ تبدأ القصة كما يلي: "ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عينيّ الرب؛ فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة. وكان رجل من صرعة من عشيرة الدانيين اسمه منوح وامرأته عاقر لم تلد" (قض13: 1، 2).
وقد ظهر السيد المسيح للمرأة وقال لها "ها أنت عاقر لم تلدي، ولكنك تحبلين وتلدين ابنًا.. فدخلت المرأة وكلّمت رجلها قائلة: جاء إلىّ رجل الله ومنظره كمنظر ملاك الله مُرهب جدًا، ولم أسأله من أين هو، ولا هو أخبرني عن اسمه" (قض13: 3، 6).
نلاحظ هنا أن المرأة قد شاهدت رجلًا يكلمها ولكن منظره كمنظر ملاك الله مُرهب جدًا، بمعنى أنه سفير إلهي لأن كلمة ملاك في اللغة العبرية (ملاخ) كما أوضحنا سابقًا تعنى "سفير أو مفوّض أو مُرسِل" ولا تعنى بالضرورة أحد الأجناد الملائكية مثل الملاك جبرائيل مثلًا، فمنظر السيد المسيح المرهب عند ظهوره قبل التجسد قد عبّر عنه البعض بأنه كملاك الله، وعبّر عنه البعض بأنه "شبيه بابن الآلهة" (دا3: 25) مثلما قال نبوخذ النصر الملك عندما رأى السيد المسيح في وسط الثلاثة فتية في أتون النار في مملكة بابل وسجل ذلك دانيال النبي في سفر نبوته.

وبعدما أخبرت امرأة منوح زوجها بما رأته وسمعته "صلى منوح إلى الرب وقال أسألك يا سيدي أن يأتي أيضًا إلينا رجل الله الذي أرسلته، ويعلّمنا ماذا نعمل للصبي الذي يولد. فسمع الله لصوت منوح" (قض 13: 8، 9).
وبعدما ظهر السيد المسيح أيضًا لزوجة منوح التي أسرعت ودعت زوجها وتكلّم معه بكل ما هو مطلوب للصبي الذي يولد كنذير للرب، قال له منوح: "دعنا نعوِّقك ونعمل لك جدي معزى" (قض13: 15).
فأجاب السيد المسيح قائلًا "ولو عوقتني لا آكل من خبزك، وإن عملت محرقة؛ فللرب أَصعِدهَا. لأن منوح لم يعلم أنه ملاك الرب. فقال منوح لملاك الرب: ما اسمك حتى إذا جاء كلامك نكرمك. فقال له ملاك الرب: لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟" (قض13: 16-18).
المقصود بملاك الرب هنا كما أوضحنا هو "سفير الرب" الذي في هذه الواقعة هو "الابن الوحيد" أي "السيد المسيح" الذي قال عنه الرب بفم إشعياء النبي "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام" (إش9: 6).
لقد سأل يعقوب أب الآباء السيد المسيح عن اسمه عندما صارعه طوال الليل عند مخاضة يبوق. فقال له السيد المسيح "لماذا تسأل عن اسمي؟" (تك32: 29).
وحينما سأل منوح أيضًا كما ذكرنا "ما اسمك؟" أجاب السيد المسيح: لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب. ولا غرابة في ذلك. فقد قال الآب عن ابنه "يدعى اسمه عجيبًا" (إش9: 6)،بل أكثر من ذلك لقد تساءل الكاتب في الأصحاح الثلاثين من سفر الأمثال عن الله وعن ابنه، فقال "من ثبَّت جميع أطراف الأرض ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت؟" (أم 30: 4).
إن اسم الله الذي أُعلن في العهد الجديد هو "الآب"، واسم ابنه الذي أُعلن في العهد الجديد هو "يسوع". وقال الملاك الذي أعلن الاسم: إن سبب ذلك إنه "يخلص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21) لأن اسم "يسوع" في اللغة العبرية هو يهوشع أي "يهوه خلّص"بمعنى "الله خلّص".
بعد ذلك "أخذ منوح جدي المعزى والتقدمة وأصعدهما على الصخرة للرب، فعمل عملًا عجيبًا. ومنوح وامرأته ينظران. فكان عند صعود اللهيب عن المذبح نحو السماء؛ أن ملاك الرب صعد في لهيب المذبح، ومنوح وامرأته ينظران، فسقطا على وجهيهما إلى الأرض. ولم يعد ملاك الرب يتراءى لمنوح وامرأته حينئذ عرف منوح أنه ملاك الرب. فقال منوح لامرأته نموت موتًا لأننا قد رأينا الله" (قض13: 19-22).
إذًا فحينما عرف منوح أن السيد هو ملاك الرب؛ لم يكن المقصود ملاكًا عاديًا لأنه قال "قد رأينا الله" (قض13: 22). إذًا لقد فهم منوح أن سفير الرب هو المسيح، أي هو الله الابن الذي ظهر له ولزوجته التي طمأنته بقولها: "لو أراد الرب أن يميتنا لَما أخذ من يدنا محرقة وتقدمة. ولَمَا أرانا كل هذه، ولَمَا كان في مثل هذا الوقت أسمعنا مثل هذه" (قض13: 23).
إن صعود السيد المسيح في نار الذبيحة؛ قد أشار إلى تقديم نفسه صعيدة ومحرقة وقربان لله أبيه عند تجسده في ملء الزمان "المسيح الذي بروح أزلي قدّم نفسه لله بلا عيب" (عب9: 14).

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:37 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ظهور السيد المسيح لإشعياء النبي في الهيكل

بدأ سفر إشعياء بالنص التالي "رؤيا إشعياء بن آموص التي رآها على يهوذا وأورشليم في أيام عُزيّا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا" (إش1: 1).
ثم جاء إلى رؤياه التي شاهد فيها السيد المسيح فقال: "في سنة وفاة عُزيّا الملك رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل" (إش6: 1).
السيد المسيح على عرشه

الذي رآه إشعياء هو السيد المسيح قبل تجسده من العذراء مريم. رآه جالسًا على عرشه في الهيكل ويطير حوله السرافيم يسبّحون تسبحة الثلاثة تقديسات، وشَعَر إشعياء بالخوف لأنه إنسان خاطئ وعيناه قد أبصرتا الملك رب الجنود.


وقد وصف الموقف كما يلي:

"رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة: باثنين يغطى وجهه، وباثنين يغطى رجليه، وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال: قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض. فاهتزت أساسات العتب من صوت الصارخ وامتلأ البيت دخانًا. فقلت ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود. فطار إلىّ واحد من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح. ومس بها فمى وقال إن هذه قد مسّت شفتيك فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك" (إش6: 1-7).
ونلاحظ في هذا النص الملاحظات التالية:

1- إن السيد الجالس على الكرسي العالي يحمل لقب "الملك رب الجنود"وهو من ألقاب الله الخاصة به وحده.
2- إن الذي رآه إشعياء ليس هو الآب السماوي لأن يوحنا الرسول الإنجيلي يقول: "الله لم يره أحد قط؛ الإله الوحيد الجنس (عبارة "الإله الوحيد" بحسب أقدم النسخ والترجمة القبطية) الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو1: 18) والمقصود بقوله "الله" في هذا النص هو "الله الآب". بينما يقول إشعياء: "لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود" فالذي رآه هو الابن بالتأكيد.
3- إن الذي رآه إشعياء هو واحد من الأقانيم الثلاثة لأن الملائكة (السرافيم) قد سبّحوا قائلين: "قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض"، ويستحيل أن تُقال تسبحة الثلاثة تقديسات إلاّ للواحد من الثالوث القدوس.
4- إن الكرسي العالي في هذه الرؤيا لم يكن في السماء بل على الأرض. لأنه يقول عن السيد الجالس أن أذياله تملأ الهيكل، كما أن التسبيح قيل فيه فقط أن "مجده ملء كل الأرض"ومعروف طبعًا أن مجد الرب يملأ السماء أيضًا. ولكن هذه الرؤيا كانت على الأرض. كما ذُكر اهتزاز أساسات العتب وامتلاء البيت دخانًا. وكل هذا يدل على أن الرؤيا كانت في هيكل الرب في أورشليم في ذلك الزمان. يُضاف إلى ذلك وجود المذبح وعليه الجمرات المتقدة؛ وهذا أيضًا كان في خدمة الهيكل بأورشليم.

5- إن تطهير فم إشعياء بجمرة من على المذبح يرمز إلى سر الافخارستيا حيث يؤخذ التناول من جسد الرب ودمه من على المذبح بواسطة الكاهن. ويُعطى خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه. وكل ذلك يجرى في الكنيسة الحاضرة هنا على الأرض كعربون للحياة الأبدية؛ وتكون الملائكة حاضرة حول المذبح في خدمة القداس الإلهي في الكنيسة التي هي بيت الله الحالى في الزمان الحاضر.
6- امتلأ البيت دخانًا، وهذا يرمز إلى البخور الذي يملأ الهيكل عند إصعاد القرابين في الكنيسة.
7- إن إشعياء النبي قد اعترف بخطاياه وخطايا شعبه قبل أن ينال التطهير والتكفير. وقد سمع السرافيم اعترافه، فلم يقدّم إشعياء هذا الاعتراف للسيد الرب وحده. لذلك قام الملاك الذي يرمز إلى خادم ذبيحة القداس الإلهي بأخذ الجمرة من على المذبح بملقط؛ ومس بها فمه. وهذا يرمز إلى خدمة الأسقف في الكنيسة (ملاك الكنيسة) بمساعدة القسوس في سر الافخارستيا.
وأكمل إشعياء النبي رؤياه فقال: "ثم سمعت صوت السيد قائلًا: من أُرسِلُ ومن يذهب من أجلنا. فقلت هأنذا أرسِلنِي" (إش6: 8).
شيء رائع أن يستمع إلى الدعوة ويستجيب لها بعد أن تطهّر من خطاياه بقوة المذبح. وها هو صوت الرب ينادى باستمرار "من أُرسِلُ ومن يذهب من أجلنا؟".. ألم يقل السيد المسيح إن "الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون، فاطلبوا إلى رب الحصاد أن يُرسل فَعَلة إلى حصاده" (مت9: 37، 38)؟
ليتنا نكون مستعدين للاستماع إلى صوت الرب ودعوته، ومستعدين أن نعمل معه في بناء الملكوت ونردد مع إشعياء إذ يدعونا عندما نكون مستعدين "هأنذا أرسِلني"..
الارتباط بين الرؤيا وتابوت العهد

كان تابوت العهد يوضع داخل قدس الأقداس في خيمة الاجتماع التي صنعها موسى النبي حسب أمر الرب، وأيضًا بعد ذلك في الهيكل الذي بناه سليمان الملك في أورشليم.
ومن الأمور اللافتة للنظر أن الملائكة الذين ذكرهم إشعياء في رؤياه؛ قد ورد عنهم عبارة "وهذا نادى ذاك"، مما لا يخفى على القارئ أنه يتكلم عن ملاكين يتبادلان تسبحة الثلاثة تقديسات.
في قبر السيد المسيح، بعد قيامته المجيدة من الأموات، أبصرت مريم المجدلية "ملاكين بثياب بيض جالسين واحدًا عند الرأس والآخر عند الرجلين" (يو20: 12). وقبل ذلك النسوة أيضًا اللواتي أتين إلى القبر بعد قيامة الرب ووجدن الحجر مدحرجًا عن القبر "فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع. وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة. وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض قالا لهن لماذا تطلبن الحي بين الأموات. ليس هو ههنا لكنه قام" (لو24: 3-6)، وكان المنظر الذي رأته النسوة هو منظر ملاكين.
مسألة وجود ملاكين عند أو في قبر السيد المسيح، ووجود ملاكين في رؤيا إشعياء النبي ليست مصادفة لأن الرب أمر موسى أن يضع ملاكين على غطاء تابوت الشهادة (أي تابوت العهد) في قدس الأقداس،وقد ورد ذلك في وصف الرب لموسى كيف يعمل ذلك في سفر الخروج:
"وتصنع غطاءً من ذهب نقى طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف. وتصنع كروبين من ذهب صنعة خراطة تصنعهما على طرفيّ الغطاء. فاصنع كروبًا واحدًا على الطرف من هنا وكروبًا آخر على الطرف من هناك. من الغطاء تصنعون الكروبين على طرفيه. ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق مظللين بأجنحتهما على الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى الآخر نحو الغطاء يكون وجها الكروبين. وتجعل الغطاء على التابوت من فوق. وفي التابوت تضع الشهادة التي أعطيك. وأنا أجتمع بك هناك وأتكلم معك من على الغطاء من بين الكروبين اللذين على تابوت الشهادة بكل ما أوصيك به إلى بنى إسرائيل" (خر25: 17-22).
إذن فتابوت العهد يشير إلى العرش الإلهي الذي تحيط به مظلة الكاروبيم.
ولكن الأمر اللافت للنظر هو أنه في رؤيا إشعياء وفي وصف تابوت الشهادة (تابوت العهد) قد قيل أن الملاكين كانا فوق العرش أو فوق غطاء التابوت.
وما معنى أن يظلل الملائكة فوق العرش الإلهي "مظللين بأجنحتهما" (خر25: 20)؟
وقد وردت هذه العبارة أيضًا في سفر حزقيال إذ يقول الرب لزُهرة بنت الصبح "أنت الكروب المنبسط المظلل، وأقمتك" (حز28: 14، انظر إش14: 12).
هل يحتاج الرب إلى مظلّة. وما فائدتها..؟! إن المظلة تحمى من المطر أو من الشمس. ولكن الرب لا يحتاج لمثل هذه الأمور.
وقد قال بطرس للسيد المسيح على جبل التجلي: "يا معلّم جيد أن نكون ههنا فلنصنع ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة وهو لا يعلم ما يقول. وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظللتهم.. وصار صوت من السحابة قائلًا هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا" (لو9: 33-35). فماذا كان يقصد بطرس الرسول بعمل المظال..؟!
إن ما يمكننا أن نفهمه عن مظلة الكاروبيم فوق العرش الإلهي هو أنها لا تحمى العرش إطلاقًا، بل تعكس المجد والبهاء الصادر عن الله لتنبهر به الخليقة المتطلّعة نحو العرش. مثلما تحاط المصابيح والكشافات المتقدة بالنور بمظال تعكس ضوءها. لهذا قيل عن حادثة التجلي "إذا سحابة نيّرة ظللتهم" (مت17: 5).
ألم يقل السيد المسيح عن نفسه أنه هو نور العالم، ثم عاد يقول أنتم نور العالم. وقيل عن السيد المسيح "كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم" (يو1: 9). فالسيد المسيح هو النور الحقيقي، أما القديسون فيعكسون هذا النور لأنهم ليسوا هم مصدره (كما شرح ذلك قداسة البابا شنودة الثالث- أطال الرب حياة قداسته).
فوجود الملائكة فوق العرش لا يعنى أنها تعلوه في المقام، بدليل أن كل واحد منهم (كما ورد في سفر إشعياء النبي) بجناحين يغطى وجهه، وباثنين يغطى رجليه، وباثنين يطير. فهو يغطّى وجهه من بهاء عظمة مجد الرب الذي لا يحتمل التحديق فيه، ويغطى رجليه بمعنى الخجل والاحترام، ويطير باثنين ليكون قادرًا على تنفيذ مشيئة الرب في الحال، ويشبه في ذلك السيد المسيح معلقًا وهو فاتح ذراعيه على الصليب طاعةً لأبيه السماوي.
رؤيا إشعياء كتمهيد للنبوات

بالرغم من أن هذه الرؤيا قد وردت في الأصحاح السادس، إلاّ أنها تشير إلى بداية خدمة إشعياء النبي؛ بدء دعوة الرب له. لأن السيد قال على مسمع منه: "من أُرسِلُ ومن يذهب من أجلنا" (إش6: 8). فردّ إشعياء وقال: "هأنذا أرسِلني" (إش6: 8). وبالطبع فإن الدعوة تسبق الإرسالية.
لم يذكر إشعياء الرؤيا في بداية سفر نبوته لئلا يبدو الأمر وكأنه متمركز حول أموره الخاصة، ولكنه ذكرها بالروح القدس قبل أن يبدأ نبواته المحددة عن تجسُّد الكلمة (أي تجسُّد السيد المسيح وميلاده من العذراء مريم لأجل خلاصنا) والتي وردت في الأصحاحين السابع والتاسع.
وأراد الروح القدس بهذا أن يوضح أن رؤية إشعياء للسيد المسيح في الهيكل وسط تسابيح الملائكة هي التمهيد الطبيعي لنبواته عن التجسد الإلهي.
فظهورات السيد المسيح في العهد القديم كانت تمهيدًا واضحًا لظهوره بالتجسد الفعلي في ملء الزمان.
وكان ملء الزمان هو الموعد الذي أعدّ فيه الله الآب كل شيء لإرسال ابنه الوحيد إلى العالم متجسدًا وفاديًا ومخلصًا؛ كقول بولس الرسول "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأةٍ، مولودًا تحت الناموس.. لننال التبّني" (غل4: 4، 5).
ولقداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته- تأملات جميلة جدًا ونافعة حول موضوع ملء الزمان، وكيف أعد الله البشرية لاستقبال الكلمة المتجسد بكثير من الرموز والنبوات، وأعد الأشخاص الذين يعاصرون مجيئه في الجسد مثل العذراء القديسة مريم والقديس يوحنا المعمدان والتلاميذ الرسل القديسين، وحتى هيرودس الملك ويهوذا الإسخريوطي وقيافا وحنانيا وبيلاطس الحاكم الروماني، وغيرهم الكثيرين بحيث يؤدى كل واحد من هؤلاء دوره بإرادته الحرة؛ ويكون مسئولًا عن تصرفاته بدون إجبار.. إنها ملحمة رائعة لا يمكن احتواء أبعادها بفكرنا المحدود، ولكننا نقف أمامها مبهورين بما عمله الرب؛ وبما شرحه قداسة البابا.
لماذا إشعياء بالذات؟

ولكن لماذا اختار الرب إشعياء بالذات ليظهر له في الهيكل، ويرسل واحدًا من السرافيم لتطهيره، ويدعوه ويرسله، ويسكب عليه هذا الفيض العجيب من النبوات عن السيد المسيح؛ حتى دُعى إشعياء النبي بالنبي الإنجيلي ودُعى سفر إشعياء بالإنجيل الخامس، لكثرة ما ورد فيه من نبوات عن المسيح الرب..؟!!
نلاحظ أن إشعياء كان من العابدين بعمق وملازمًا للعبادة؛ لأن الرؤيا التي ظهرت له كانت في الهيكل بأورشليم كما شرحنا..
وبالإضافة إلى ذلك كانت مخافة الرب واضحة في كلامه عندما قال: "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود" (إش6: 5).
كان إشعياء إنسانًا متواضعًا معترفًا بخطاياه. ولكن الشيء العجيب أنه قد حمل هموم شعبه عند رؤيته للرب؛ فاعترف بخطاياه وخطاياهم معًا.
كان إشعياء مثقلًا بهموم شعب إسرائيل.. مثقلًا برؤيته لخطاياهم، وحيرته في أمر خلاصهم.. وحيرته في كيفية تحقيق وعد الرب بالخلاص لمثل هذه البشرية التي الجميع فيها قد "زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد" (رو3: 12).
لقد تمرر إشعياء بسبب خطايا شعبه وصلّى كثيرًا إلى الرب مذكّرًا إياه بمواعيده للآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، ومن قبلهم وبعدهم كثير من الذين انتظروا خلاص الرب شاعرين بحاجتهم للخلاص.
كان إشعياء يتطلع نحو مجد الله، ويترجى شوقًا أن يصير مجد الرب راية للشعوب.. وانطلق ببصره النبوي خارج إطار الأمة اليهودية ومملكة إسرائيل إلى كل شعوب الأرض، مثل ما ورد في الآيات التالية:
"ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا" (إش11: 10).
"التفتوا إلىَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر" (إش45: 22).
كان إشعياء قلب يشتعل بالحب نحو الله ونحو البشرية جمعاء. لذلك فعندما أوحى إليه الروح القدس بنبواته الرائعة "ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله. ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم؛ روح المشورة والقوة؛ روح المعرفة ومخافة الرب. ولذته تكون في مخافة الرب فلا يقضى بحسب نظر عينه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه. بل يقضى بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه" (إش11: 1-5).
وأيضًا "وتقول في ذلك اليوم: أحمدك يا رب لأنه إذ غضبت علىَّ ارتد غضبك فتعزيني. هوذا الله خلاصي فاطمئن ولا أرتعب لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصًا. فتستقون مياهًا بفرحٍ من ينابيع الخلاص. وتقولون في ذلك اليوم: احمدوا الرب ادعوا باسمه، عرِّفوا بين الشعوب بأفعاله، ذكِّروا بأن اسمه قد تعالى. رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرًا ليكن هذا معروفا في كل الأرض. صوتي واهتفي يا ساكنة صهيون لأن قدوس إسرائيل عظيم في وسطك" (إش12: 1-6)؛ فقد شملت نبواته هذه جميع الأمم بصورة لم يكن يتقبلها الشعب اليهودي بسهولة، حتى في بدايات الكنيسة في العهد الجديد. وهو الأمر الذي عمل فيه الروح القدس حتى أوضح لكنيسة الرسل مقاصد الرب بصورة متدرجة.
واختص إشعياء في نبوته، مصر وشعبها بنبوات رائعة مثل قوله: "في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها" (إش19: 19)، وقوله: "بها يُبارِك رب الجنود قائلًا: مبارك شعبي مصر" (إش19: 25).

كان إشعياء شاعرًا وكانت حياته أنشودة حب؛ لذلك ظهر له الرب في رؤيا مع السرافيم أي المتقدين بالنار-نار الحب الإلهي. فالكاروب معناه "الممتلئ أعينًا" أي الممتلئ معرفة. والسرافيم معناه "المتقد بالنار" أي بالحب.
حقًا ينطبق على إشعياء النبي شعر قداسة البابا شنودة الثالث عن المتنيح الأرشيذياكون حبيب جرجس:
هذه تقواك: إيمانٌ فحب هذه دنياك: أشواكٌ وصلبُ
أنت، من أنت؟ رسولٌ ههنا؟ أنت أبهى من رسولٍ، أنت قلبُ
أنت قلبٌ واسعٌ في حضنه عاش جيلٌ كاملٌ أو عاش شعبُ
أنت نبعٌ من حنانٍ دافقٍ أنت عطفٌ، أنت رفقٌ، أنت حبُ

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:39 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
نبوة زكريا الكاهن

افتقد وصنع فداءً لشعبه

حينما ولد يوحنا المعمدان امتلأ زكريا أبوه الكاهن من الروح القدس وتنبأ قائلًا: "مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه. وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه. كما تكلّم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لو1: 68-70).
كان زكريا يتكلم عن تجسد الله الكلمة في بطن العذراء القديسة مريم الذي بدأ قبل كلامه هذا بنحو ثلاثة أشهر، ولم يكن السيد المسيح قد وُلد بعد من العذراء. ولكن الروح القدس نطق على لسانه بكلمات هذه النبوة.
والعجيب أنه قال إن الرب الإله قد افتقد وصنع فداءً لشعبه كما لو كان الخلاص قد تم. ولكن كثير من النبوات ذُكرت بصيغة الماضي قبل حدوثها بآلاف أو مئات السنين.
فمثلًا قيل عن مجيء السيد المسيح إلى مصر "من مصر دعوت ابني" (هو11: 1).
وقيل عن صلبه "ثقبوا يديّ ورجلي.. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز22: 16، 18).
وقيل عن ذبح أطفال بيت لحم "صوت سُمع في الرامة نوح بكاء مر. راحيل تبكى على أولادها وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين" (أر31: 15).

ولكن لأن مواعيد الله هي بلا ندامة ولأنه معلوم عند الله أعماله منذ الأزل وكما قيل عن صلب السيد المسيح "مُسلَّمًا بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق" (أع2: 23). لذلك فإن النبوة ترتفع فوق الزمان وتتكلم عن الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة، أو عن الأشياء التي بدأت وكأنها قد تمت بالفعل.
كان الخلاص قد بدأ بتجسد الكلمة في بطن العذراء وتكلم زكريابالروح القدس وقال إن الرب الإله قد "افتقد وصنع فداءً لشعبه" (لو1: 68).
وحينما دخلت السيدة العذراء إلى الهيكل وهى تحمل الطفل يسوع بعد ولادته بأربعين يومًا حمله سمعان الشيخ على ذراعيه وبارك الله وقال "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل" (لو2: 29-32). كان سمعان الشيخ قد "أتى بالروح إلى الهيكل" (لو2: 27) ونطق بهذه الكلمات بوحي من الروح القدس الذي كشف له أن هذا الطفل هو المسيح مخلص العالم. وقال إن عينيه قد أبصرتا خلاص الرب لأنه أبصر الكلمة المتجسد. وإن كان قد أوضح أيضًا أنه هو الخلاص المعد أمام وجه جميع الشعوب، فالخلاص من الناحية الزمنية لم يكن قد أكتمل بعد، ولكنه من ناحية تحقيق الوعد قد بدأ بتجسد الكلمة. والنبوة كما قلنا ترتفع فوق الزمان لأنها بوحي من الروح القدس.
ونلاحظ أن زكريا الكاهن قد أشار بالروح القدس إلى أهمية تحقيق النبوات التي أوحى بها الروح القدس بقوله "كما تكلّم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لو1: 70).
لم تكن النبوات قد قيلت في زمن قريب بل منذ آلاف السنين، ودوِّنت في الأسفار أي الكتب المقدسة، بداية من سفر التكوين إلى سائر أسفار العهد القديم واستغرق كتابتها قرابة ألف وستمائة عام قبل مجيء السيد المسيح بالجسد.
إن أحد أسباب قوة المسيحية هو استنادها إلى عديد من الرموز والنبوات الواضحة التي تحققت في مجيء السيد المسيح، والتي مازالت محفوظة إلى يومنا هذا في أيدي اليهود الذين رفضوا السيد المسيح وناصبوه العداء وحكموا عليه بالموت.
بأحشاء رحمة إلهنا

أكمل زكريا الكاهن أقواله النبوية الرائعة إلى قوله "بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء ليضئ على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدى أقدامنا في طريق السلام" (لو1: 78، 79).
إن الله قد سبق أن قال لموسى النبي عندما ظهر له في هيئة نار مشتعلة في عليقة في البرية "إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم،إني علمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم" (خر3: 7، 8).
ما أجمل عبارة "بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا".. إن أحشاء رحمة الرب تعنى رحمته العميقة الناشئة عن محبته الجياشة والفياضة التي تتحرك نحونا باستمرار. وقد استخدم أيضًا القديس بولس الرسول هذا التعبير بقوله: "فإن الله شاهد لي كيف أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح" (فى1: 8).
إن الرب يشعر بآلامنا ومذلتنا وأوجاعنا.. وقد رأى كيف تمزّقت البشرية في مخالب الشيطان القاسي الذي لا يرحم.. وتحركت أحشاء رحمته ونزل ليخلصنا وينقذنا من فم الأسد، كما خلّص داود النبي أحد خرافه من فم الأسد والدب (انظر 1صم17: 34-37). ولازال الرب هو نفسه يرى آلام شعبه ويعمل من أجل راحتهم ونجاتهم.
والرب نفسه قال أيضًا: "من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم يقول الرب أصنع الخلاص علانية" (مز11: 5).
إن صراخ البشرية قد وصل إلى أذني رب الجنود وقام الآب السماوي بتجهيز كل شيء من أجل خلاص البشرية، "لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس.. لننال التبني" (غل4: 4، 5). وفي إعداده للخلاص أعطى وعودًا وعهودًا.. وكان الثالوث القدوس يعمل بكل قوة من أجل إتمام الخلاص. فكل ظهورات الله في العهد القديم هي ظهورات للابن الوحيد قبل التجسد وكل النبوات نطق بها الروح القدس على فم الأنبياء القديسين الذين هم منذ الدهر. والآب السماوي أرسل ابنه الوحيد لإتمام الفداء، وأرسل موعده بالروح القدس ليقود الكنيسة لاقتناء الفداء، كما أنه قد دبّر مع الابن والروح القدس كل شيء من أجل خلاص البشرية ومنحها المواهب والعطايا النازلة من عند أبى الأنوار.
أما في قول زكريا الكاهن "المشرق من العلاء" فإن هذا يذكرنا بقول ملاخي النبي "ولكم أيها المتّقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها" (ملا4: 2). إن شمس البر هو السيد المسيح الذي فتح ذراعيه مثل جناحين على الصليب من أجل شفائنا من مرض الخطية. وهو الذي أظهر لنا نور الآب بل أنه هو نفسه بهاء مجد الآب "الذي وهو بهاء مجده.." (عب1: 3)، كما أن الروح القدس هو الذي ينير عقولنا وقلوبنا حتى نتغنى ونقول مع المرنم "بنورك نرى نورًا" (مز36: 9).

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:40 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
عجيبًا في ميلاده

السيد المسيح كان عجيبًا في ميلاده.. إذ وُلد بعيدًا عن مظاهر الكرامة العالمية. وُلد السيد المسيح بين الأغنام والحيوانات التي كانت تُقدَّم كذبائح للرب في الهيكل بأورشليم. مؤكّدًا منذ اللحظة الأولى لميلاده متجسدًا أنه هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم كله. وهذا هو المشهد العجيب للميلاد:
الحمل في وسط الحملان والذبائح

# وُلد في الحظيرة لأنه ينبغي أن يكون الراعي وسط الخراف. إذ هو الراعي الصالح الذي "يبذل نفسه عن الخراف" (يو10: 11) وهل يمكن أن يوجد الراعي بعيدًا عن خرافه؟!
هو الحمل وهو الراعي في آنٍ واحد وهو عجيب في ميلاده! هو الهيكل الحقيقي وهو القربان! هو الكاهن وهو الذبيحة في آنٍ واحد! لذلك دعى اسمه "عجيبًا" (إش9: 6).
جاء السيد المسيح إلى العالم، وإذ لم يجد له مكانًا في قلوب غالبية البشر ولد بين الخراف غير الناطقة، ليحوّل الخراف غير الناطقة (أي البشر قبل الفداء) إلى خراف تعقل الحق؛ تنطق باسمه وتهتف لمحبته فتشاركه مجده الحقيقي!
# وحينما بشّرت الملائكة البشر في ليلة ميلاده، بشّرت الرعاة الذين يسهرون على رعاية الذبائح التي تقدم في هيكل الرب. لكي يأتي الرعاة لينظروا الراعي الحقيقي، راعي الرعاة، مخلص العالم، ابن داود الراعي الذي تعب وسهر في رعاية خرافه وحارب الأسد والدب ليخلّصها.

# وُلد السيد المسيح في بيت لحم مدينة داود. وهى أصغر مدن المملكة. وكان داود هو الأصغر بين إخوته لأن السيد المسيح قد اختار طريق الاتضاع ليملك على القلوب بتواضعه. "أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي، الذي يكون متسلطًا على إسرائيل. ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (مى5: 2). "لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل" (مت2: 6).
وُضع الرب يسوع، كلمة الله المتجسد وهو طفل في المذود.. في الموضع الذي تأكل منه الحيوانات في الحظيرة. ليؤكّد أنه جاء طعامًا لحياة العالم الذي كان غارقًا في ظلمات الجهل والخطية،وكان البشر يسلكون فيه مثل البهائم التي تباد. وقال عن نفسه إنه هو الخبز "خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم.. فمن يأكلني فهو يحيا بي" (يو6: 33، 57).
هذه الحظيرة التي كانت حقيرة في مظهرها، تحوّلت بحلول الكلمة المتجسد فيها إلى كنيسة للمجد والبهاء، وهى كنيسة المهد في بيت لحم، حيث اقترب ملايين البشر من الأسرار المقدسة في التناول من جسد الرب ودمه على مر العصور.
عجيبة هي والدة الإله القديسة مريم العذراء التي شاهدت وسمعت وكانت تحفظ كل هذه الأمور متفكرة بها في قلبها (انظر لو2: 19). كانت الكنيسة -العروس المحبوبة- ممثلة في شخص السيدة العذراء وهى تعاين خلاص الله بين ذراعيها نورًا متألقًا لحياة العالم.
هذا هو مجد الروح الذي لم يبالِ بالمجد الخارجي، بل عاش متمتعًا في الاتضاع، والانسحاق، والبعد عن كل مظاهر العظمة والكرامة.
هناك في الحظيرة.. هناك بين الحيوانات.. هناك حيث لم يدرك البشر وقتذاك.. هناك تلتقي النفس بالحقيقة الخالدة أن "الكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقًا" (يو1: 14).

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:41 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
مسيح بيت لحم

حملت مدينة بيت لحم اسمًا نبويًا يشير إلى ميلاد السيد المسيح حيث "بيت لحم" باللغة العبرية معناها "بيت الخبز". ونظرًا لأن السيد المسيح قد قال عن نفسه "أنا هو خبز الحياة" (يو6: 35). وقال أيضًا "لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم" (يو6: 33). وأضاف "هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 50، 51).
أراد السيد المسيح أن يوضح لليهود الفرق بين الخبز الذي أكله آباؤهم في برية سيناء وماتوا وبين الخبز الحي النازل من السماء الذي يهب الحياة الأبدية. لذلك قال لهم: "آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت" (يو6: 49، 50).
وقارن بين ما أعطاه موسى لشعب إسرائيل في برية سيناء وعطية الله في العهد الجديد في المسيح الذي ولد في بيت لحم (بيت الخبز) "فقال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم: ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبى يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء" (يو6: 32). من خلال حوار السيد المسيح مع اليهود نلمس شدة اهتمامه بإبراز العلاقة بينه وبين الخبز- ولكن ليس أي خبز بل الخبز السماوي.
مدينة بيت لحم

بيت لحم هي مدينة صغيرة مبنية على أكمة تبعد 6 أميال إلى الجنوب من أورشليم وهى محاطة بتلال تكسوها الأشجار والنباتات الجميلة. وفيها مياه عذبة تتفجر من أراضيها المخصبة.
وقد ولد داود النبي والملك في بيت لحم ونشأ وتربى فيها وكان راعيًا لغنم أبيه في مراعيها الخضراء. وكان داود في الجوانب المقدسة من حياته رمزًا للسيد المسيح.
وقد ورد في سفر راعوث أن أليمالك رجل من بيت لحم ذهب ليتغرب في بلاد موآب هو وامرأته وابناه. وبعد وفاته تزوج ابناه من عُرفة وراعوث، وبعد موت الابنين عادت نعمى وأصرّت راعوث أن تعود معها وقالت لحماتها "شعبك شعبي وإلهك إلهي" (را 1: 16). فذهبتا كلتاهما حتى دخلتا بيت لحم في ابتداء حصيد الشعير. وجمعت راعوث وراء الحصادين من السنابل في حقل لرجل من عشيرة أليمالك اسمه بوعز. وكان رجلًا فاضلًا وتزوج راعوث، وأنجب منها عوبيد الذي هو أبو يسى أبى داود (انظر را 4: 17).
إن أمام الرب مسيحه


قال الرب لصموئيل النبي "املأ قرنك دهنًا وتعال أرسلك إلى يسى البيتلحمى، لأني قد رأيت لي في بنيه ملكًا" (1صمو16: 1).. "ففعل صموئيل كما تكلم الرب.. وقدّس يسى وبنيه ودعاهم إلى الذبيحة. وكان لما جاءوا أنه رأى اليآب، فقال: إن أمام الرب مسيحه. فقال الرب لصموئيل: لا تنظر إلى منظره وطول قامته لأني قد رفضته.. وعبرّ يسى بنيه السبعة أمام صموئيل، فقال صموئيل ليسى: الرب لم يختر هؤلاء. وقال صموئيل ليسى: هل كملوا الغلمان؟ فقال: بقى بعد الصغير وهوذا يرعى الغنم. فقال صموئيل ليسى: أرسل وأتِ به.. فقال الرب: قم امسحه لأن هذا هو. فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته. وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا. ثم قام صموئيل وذهب إلى الرامة" (1صم 16: 4-13).
في بيت لحم ولد الملك داود.. وفي بيت لحم مسح صموئيل النبي داود ملكًا، وبدأت مملكة داود التي كملت بمجيء السيد المسيح.
لذلك قال الملاك جبرائيل للعذراء مريم عن المسيح الرب الذي سوف يولد منها "ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لو1: 32، 33).
وحينما دخل السيد المسيح أورشليم راكبًا على أتان وعلى جحش ابن أتان استقبلته الجموع بهتاف قائلين "مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب" (مر11: 10)"أوصنا لابن داود، مبارك الآتي باسم الرب، أوصنا في الأعالي" (مت21: 9).
وعندما بشّر الملاك الرعاة في مراعي بيت لحم بميلاد السيد المسيح قال لهم: "ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب" (لو2: 11). وتنبأ ميخا النبي عن مولد السيد المسيح في بيت لحم قائلًا "أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل" (ميخا 5: 2).
إن مدينة بيت لحم قد اكتسبت عظمتها ليس لأن داود الملك قد ولد فيها، بل لأن الله الظاهر في الجسد قد وُلد فيها ليملك إلى الأبد على قلوب شعبه. حتى وإن كان داود قد صار رمزًا للسيد المسيح من حيث رعايته للأغنام وللشعب بعد ذلك كملك، وبالرغم من أن مزاميره قد حملت الكثير من النبوات عن السيد المسيح. ولكن لم تعد بيت لحم بعد أن تم تحقيق النبوات هي مدينة داود بل هي مدينة الخبز الحي النازل من السماء الذي هو مخلص كل العالم.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:42 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
زيارة المجوس

المجوس كانوا حكماء مملكة بابل، وأيضًا حكماء مملكة مادي وفارس، وكُتِبَ عن دانيال النبي في حديث الملكة إلى بلطشاصر ملك بابل ما نصه "يوجد في مملكتك رجل فيه روح الآلهة القدوسين، وفي أيام أبيك وجدت فيه نيّرة وفطنة وحكمة كحكمة الآلهة. والملك نبوخذ نصَّر أبوك جعله كبير المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين. أبوك الملك من حيث أن روحًا فاضلة ومعرفة وفطنة وتعبير الأحلام وتبيين ألغاز وحل عُقد وجدت في دانيال هذا الذي سماه الملك بلطشاصر" (دا5: 11، 12)
واستمر شأن دانيال مرتفعًا بعد ذلك في مُلك داريوس المادي وفي مُلك كورش الفارسي كقول الكتاب"فنجح دانيال هذا في مُلك داريوس وفي مُلك كورش الفارسي" (دا6: 28). واستمرت نبوات دانيال ومواهبه وإعلانات الله له "في السنة الثالثة لكورش ملك فارس كشف أمر لدانيال الذي سُمى باسم بلطشاصر. والأمر حق والجهاد عظيم وفهم الأمر وله معرفة الرؤيا" (دا10: 1).
تعين دانيال كبيرًا للمجوس ولكنه لم يلجأ إلى السحر مثل السحرة، بل كان يشع بنور الإعلان الإلهي في وسط ظلمات الوثنية القاتمة.
وتنبأ دانيال عن مجيء السيد المسيح وعن مملكته وحدد زمن مجيئه، وترك كل نبواته الصادقة في سفره المسمى باسمه. واحتفظ شعب إسرائيل بهذا السفر، كما احتفظ به المجوس الذي كان دانيال كبيرًا لهم في ممالك السبي.
وقد ورد في نبوة دانيال ما يلي:
"سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك، وعلى مدينتك المقدسة، لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدي. ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القدوسين. فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا.. يُثبِّت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يُبطّل الذبيحة والتقدمة" (دا9: 24، 25، 27).
والمقصود بالأسابيع هنا أسابيع سنين وليس أسابيع أيام (أي أن الأسبوع يساوى سبع سنين). وقد تمت هذه النبوة بالفعل كما ذكرها دانيال النبي.
وقد انتظر المجوس متوارثين عبر الأجيال مجيء السيد المسيح الرئيس ملك اليهود مشتهى الأجيال.

الذين آمنوا من المجوس بإله دانيال كانوا يحترمون ما كتبه دانيال من أقوال إلهية. ويتضح احترامهم لذلك الإله من قول الكتاب "ثم كتب الملك داريوس إلى كل الشعوب والأمم والألسنة الساكنين في الأرض كلها. ليكثر سلامكم. من قِبَلي صدر أمر بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال لأنه هو الإله الحي القيوم إلى الأبد وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى. هو ينجى وينقذ، ويعمل الآيات والعجائب في السماوات وفي الأرض" (دا6: 25-27).
كان المجوس الذين عاشوا في مملكة فارس يعلمون ما هو الوقت الذي صدر فيه الأمر لتجديد أورشليم وقاموا بحساب الزمان وعرفوا متى يأتي السيد المسيح على وجه التقريب فهو سيبدأ عمله عند مسحه في سن الثلاثين، وهذا في بداية الأسبوع الأخير من السنين المذكورة. أي بعد تسعة وستين أسبوعًا من السنين من خروج الأمر لتجديد أورشليم. أي 483 سنة. وبطرح 30 سنة التي هي عمر السيد المسيح في بداية خدمته تكون المدة هي 453 سنة من خروج الأمر لتجديد وبناء أورشليم إلى ميلاد الفادي يسوع المسيح.
كان لابد أن يُمسح السيد المسيح في سن الثلاثين حسب شريعة موسى لأن بنى لاوي لم يمارسوا عملهم في الخدمة إلا بعد سن الثلاثين كقول الكتاب "جميع المعدودين اللاويين الذين عدهم موسى وهرون ورؤساء إسرائيل حسب عشائرهم وبيوت آبائهم. من ابن ثلاثين سنة فصاعدًا إلى ابن خمسين سنة. كل الداخلين ليعملوا عمل الخدمة وعمل الحمل في خيمة الاجتماع" (عد4: 46، 47). وهكذا أيضًا بالنسبة لبنى هرون من الكهنة من سبط لاوي.
وأيضًا داود الذي اختاره الرب ومسحه ملكًا على شعبه والذي جاء السيد المسيح ملكًا من نسله حسب وعد الرب له كان قد ملك على يهوذا وهو في سن الثلاثين كقول الكتاب "كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك. وملك أربعين سنة. في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر وفي أورشليم ملك ثلاثًا وثلاثين سنة. على جميع إسرائيل ويهوذا" (2صم5: 4، 5).
ولهذا كُتب عن السيد المسيح "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة" (لو3: 23).
حينما اقترب موعد ميلاد السيد المسيح حسب النبوات كان المجوس الذين آمنوا بنبوات دانيال وحفظوها ينتظرون شيئًا يخبرهم عن هذا المجيء.
وأراد الرب أن يكلمهم باللغة التي يفهمونها فأرسل إليهم كائنًا مميزًا، له صفات عجيبة؛ ربما يكون ملاكًا لامعًا يبدو في هيئة نجم.
كان النجم واضحًا مميزًا عن باقي النجوم وفهموا من منظره ومساره أنه نجم ملك عظيم هو ملك ملوك الأرض.
لهذا أعدوا العدة لرحلة طويلة من بلاد فارس في المشرق إلى اليهودية لينالوا بركة هذا المولود الإلهي الذي كتب عنه دانيال النبي ما نصه:
"كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض" (دا7: 13، 14).
كانت دعوة صريحة لهؤلاء المجوس الأمميين لكي يتعبدوا للمولود الموعود به من الله. وكان أمرًا واضحًا أن يتعبدوا له ليصيروا أعضاءً في ملكوته الأبدي.
إذن لم يكن السيد المسيح ملكًا لليهود فقط بل دعى "ملك اليهود" واتسع مفهوم هذا اللقب ليشمل جميع الذين آمنوا به "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه" (يو1: 12). صار المعنى بالمفهوم الروحي هو لكل من يقبل حب الله المعلن بواسطة تجسد ابنه الوحيد مخلص العالم فيملك الله على قلبه وحياته ويصير مسكنًا لروحه القدوس.
قال الملاك جبرائيل للعذراء مريم "ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لو1: 32، 33).
وصار بيت يعقوب هو كل شعب الله وليس نسل يعقوب فقط لأن بولس الرسول يقول "ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون. ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعًا أولاد.. أي ليس أولاد الجسد هم أولاد الله. بل أولاد الموعد يحسبون نسلًا.. ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد. التي أيضًا دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضًا. كما يقول في هوشع أيضًا سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والتي ليست محبوبة محبوبة. ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي أنه هناك يدعون أبناء الله الحي" (رو9: 6-8، 23-26).
هكذا تحققت النبوات الإلهية وجاء الرعاة من اليهود معترفين بملكهم ومخلصهم في ليلة ميلاده،كما جاء المجوس من الأمم يقودهم النجم العجيب بعد مولده بفترة وقبل هروب العائلة المقدسة إلى مصر ليتعبدوا ويسجدوا للابن المولود "ملك الملوك ورب الأرباب" (رؤ19: 16).
أتينا لنسجد له

لماذا جاء المجوس من المشرق إلى أورشليم قائلين "أين هو المولود ملك اليهود، فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له" (مت2: 2)؟
لقد سجد المجوس للسيد المسيح وهو طفل، وسجد له تلاميذه في السفينة قائلين له "بالحقيقة أنت ابن الله" (مت14: 33)، وسجد له المولود أعمى بعد أن خلق له عينين ووجده السيد المسيح بعد أن طرده اليهود وقال له "أتؤمن بابن الله؟ أجاب ذاك وقال: من هو يا سيد لأؤمن به؟ فقال له يسوع قد رأيته والذي يتكلم معك هو هو. فقال أؤمن يا سيد وسجد له" (يو9: 35-38).
وقيل عن السيد المسيح "لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فى2: 10-11).
وأيضًا قيل عنه "متى أَدخَل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله" (عب1: 6).
وفى رؤيا القديس يوحنا إذ ارتفع بالروح إلى المشهد السمائي قال "وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر؛ كل ما فيها سمعتها قائلة: للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين. وكانت الحيوانات الأربعة تقول آمين. والشيوخ الأربعة والعشرون خرّوا وسجدوا للحي إلى أبد الآبدين" (رؤ5: 13-14).
السجود للمسيح

إن عبادة السيد المسيح هي شيء لازم وضروري مهما تكلّف الإنسان في سبيل ذلك من مشقات.
وها هم المجوس وقد جاءوا من بلاد فارس إلى جبال اليهودية لينالوا شرف وبركة السجود أمام القدوس الحق الذي جاء إلى العالم فاديًا ومخلصًا. وليعلنوا أن الله قد أعطاهم العلامة المؤيدة بنبوات دانيال النبي "كبير المجوس" (دا4: 9) عن هذا العظيم الذي ملكوته ملكوت أبدى لا يزول. كما أخبر دانيال النبي وقال: "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13-14).
وقد تحققت هذه النبوة بصورة مبدئية بسجود المجوس للسيد المسيح؛ وكانوا في ذلك رمزًا لكل الشعوب والأمم والألسنة إلى جوار شعب إسرائيل.
أما سمعان الشيخ "كان قد أعلم بوحي من بالروح القدس أنه لن يرى الموت قبل أن يعاين المسيح الرب، فأقبل بالروح إلى الهيكل. ولما دخل بالطفل يسوع أبواه ليصنعا له كما يجب في الناموس، حمله سمعان على ذراعيه وبارك الله قائلًا: الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب. نورًا تجلى للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل" (انظر لو2: 26-32).
لم يغفل سمعان الشيخ في كلامه إذ كان منقادًا بالروح القدس؛ أن السيد المسيح هو نور إعلان للأمم إلى جوار مجيئه لخلاص بنى اسرائيل ولتحقيق وعود الله للآباء؛ لإبراهيم ونسله من بعده.
والكنيسة لا تغفل في صلواتها أهمية السجود للسيد المسيح وتقديم العبادة له مع الآب والروح القدس.
ففي القداس الإلهي يصلّى كل الشعب في نهاية لحن "بشفاعة والدة الإله القديسة مريم" ويقول: (نسجد لك أيها المسيح مع أبيك الصالح، والروح القدس؛ لأنك أتيت وخلّصتنا).
وهكذا أيضًا في قانون الإيمان نقول (نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحي المنبثق من الآب، نسجد له ونمجده مع الآب والابن).
فالسجود يقدَّم للآب والابن والروح القدس الإله الواحد. وأيضًا التمجيد يعطى للثالوث القدوس. ففي كل قطع صلوات الساعات نقول بعد القطعة الأولى من كل صلاة [المجد للآب والابن والروح القدس].
نقدم عبادة واحدة للثالوث، ونقدم ذوكصا (تمجيد) واحد للثالوث.. وهكذا.
إن الخضوع للمسيح فيه خضوع للآب والروح القدس أيضًا (لسبب وحدانية الجوهر الإلهي).
وتكريم السيد المسيح فيه تكريم للآب والروح القدس أيضًا (لسبب وحدانية الجوهر الإلهي).
والسجود للمسيح فيه سجود للآب والروح القدس أيضًا (لسبب وحدانية الجوهر الإلهي).
وعبادة المسيح فيها عبادة للآب والروح القدس أيضًا (لسبب وحدانية الجوهر الإلهي).
المسيح هو الذي أظهر السجدة للثالوث بظهوره في العالم، وهو الذي أظهر الثالوث في معموديته في نهر الأردن (عيد الظهور الإلهي = الإبيفانيا).
اعتقادنا بوحدانية الجوهر للأقانيم الثلاثة لا يمنعنا إطلاقًا من فهم حقيقة التمايز الأقنومي بينهم. فلكل أقنوم دوره المتمايز في العمل الواحد. ولكل أقنوم خاصيته الخاصة التي تميّزه عن الأقنومين الآخرين. والحب المتبادل بين الأقانيم الثلاثة هو من أبرز الدلائل على تمايزهم الأقنومي بالرغم من جوهرهم الواحد واسمهم الفريد الواحد، وهو "الكائن" أي "يهوه" الذي كينونته غير منقسمة.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:43 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
السيد المسيح كخادم للختان

كان الختان هو علامة العهد بين الله وإبراهيم (انظر تك17: 10-14). وقد صار السيد المسيح خادمًا للختان، ليؤكد أن العهد هو بسفك دمه المقدس الذي سوف يتم سفكه بالكامل على الصليب.
ولكن ما رآه الناس في ذلك الوقت -حسب الظاهر- هو أنه اختتن حسب الوصية السابقة ليحسب ضمن شعب الله.
فلنتأمل أيها الأحباء "قدوس القدوسين" (دا9: 24) وهو يطلب الانتماء بعلامة العهد إلى شعب الله.. أي اتضاع يكون مثل ذلك بعيدًا عن العظمة الظاهرية!!

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:44 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
تقديم ذبيحة عن المسيح في الهيكل

كانت حياة الابن البكر الذكر ملكًا للرب "كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوسًا للرب" (لو2: 23)، وذلك بحكم أن الرب كان قد افتدى الأبكار في ليلة خروج الشعب من أرض مصر (ليلة الفصح والعبور).
وقد استعاض الرب عن أولئك الأبكار بتقديم ذبيحة عنهم في الهيكل، وهذه الذبيحة ترمز بالطبع إلى ذبيحة الفداء، حيث إن الرب قد اشترانا من الموت حينما وفىّ دين الخطية الذي علينا في الصليب.
فما أعجب أن نرى السيد المسيح الذي هو الذبيحة الحقيقية والمخلص الفادي، يُقدِّم عن نفسه وعن نجاته مع الأبكار ذبيحة في الهيكل، مع أنه هو موضوع النجاة وبدونه لم يخلص بشر على الإطلاق، وكل الذبائح كانت رمزًا لذبيحته المانحة للحياة، ولم يكن هو محتاجًا إلى النجاة ولا إلى الخلاص، لأنه بلا خطية وحده وقدّم نفسه عن آخرين.
ألا يقف العقل حائرًا أمام اتضاع السيد المسيح الذي تمم عنا كل بر..؟!
البعض يقدمون الذبائح في الهيكل ويتباهون بها وبعظمتها وكبر حجمها.. كلٌ بحسب غناه واقتداره.
أما السيد المسيح فقد قدّم ذبيحة بسيطة جدًا، تماثل بساطة موضع مولده العجيب في الحظيرة مع الخراف.
كانت أقل ذبيحة تقدم في الهيكل من حيث مظهرها هي "يمامتين أو فرخيّ حمام" (لا12: 8، انظر لو2: 24)، وهذا بالفعل قدّمه من جاء فقيرًا ليغنينا بمجده الذي فاق كل أمجاد العالم الظاهرة،لأن المجد الحقيقي هو مجد الروح المتضع والقلب النقي الخاضع لمشيئة الآب السماوي.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:46 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
الهروب إلى مصر

كما رأى المجوس الذين جاءوا من المشرق السيد المسيح وقدموا له العبادة والقرابين والسجود، هكذا ذهب السيد المسيح بنفسه إلى أرض مصر حيث عاش سنوات ارتجفت فيها أوثان مصر، ومن المصريين من قدَّم له الضيافة والعبادة والسجود. وتم تهيئة المجال لينتشر الإيمان بالمسيح فيما بعد بكرازة مار مرقس. ولكن السيد المسيح قد وضع بنفسه أساسات الكنيسة العتيدة في مصر.
كانت السحابة السريعة هي مريم العذراء القديسة والدة الإله التي سبق أن قيل عنها بعد البشارة بميلاد المخلص "فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلمت على أليصابات" (لو1: 39، 40).
كانت العذراء مريم دائمًا سريعة في استجابتها لقيادة الروح القدس. وكانت هي المركبة المطوبة جدًا أكثر من الشاروبيم والسرافيم.
لقد اختار السيد المسيح مصر ليحضر إليها بنفسه وليراه المصريون بأعينهم.. هناك حيث كان معقل العبادة الوثنية العريقة العاتية. وكان ذلك كله ليهز مملكة الشيطان ويمهد الطريق لانتشار المسيحية حتى تغنى إشعياء النبي وقال "مبارك شعبي مصر وعمل يدي أشور وميراثي إسرائيل" (إش19: 25).
الرب في مصر

جاء السيد المسيح إلى أرض مصر تحقيقًا للنبوات. فقد تم بذلك قول الكتاب "من مصر دعوت ابني" (هو11: 1، مت2: 15). وكذلك نبوءة إشعياء النبي "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه" (إش19: 1).
وقد أكّد القديس متى الإنجيلي أن النبوة التي وردت في سفر هوشع (11: 1) قد تحققت بمجيء السيد المسيح إلى مصر إذ قال إن "ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر. وكان هناك إلى وفاة هيرودس. لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: من مصر دعوت ابني" (مت2: 13-15).

إن مجيء الرب يسوع المسيح إلى مصر قد هز العبادة الوثنية الجبارة التي عاشت في مصر آلافًا من السنين، ولم يكن من السهل إطلاقًا اقتلاعها من حياة المصريين. كانت الحضارة المصرية عميقة جدًا في جذورها وتعانقت هذه الحضارة مع عبادة ذات فلسفة قوية تداخلت معها الفلسفة الهللينية، بداية من عصر الإسكندر الأكبر وفي عصور البطالمة، وكذلك الفلسفة الرومانية في العصر الروماني. وتكوّنت بذلك مجموعات عجيبة من الآلهة المصرية واليونانية والرومانية جعلت من أرض مصر مرتعًا للعبادة الوثنية في أقوى معانيها. وهكذا ارتجفت أوثان مصر من وجه الرب لأن "كل آلهة الأمم شياطين" (مز95: 5).
مذبح للرب في مصر

من بعد إقامة الهيكل في أورشليم لم يكن مُصَرّحًا حسب شريعة العهد القديم بتقديم ذبائح خارج الهيكل. فالعبادة التي أمر بها الرب موسى في خيمة الاجتماع الراحلة في البرية قد استقرت في وضعها الثابت حينما بُني الهيكل ووُضع فيه تابوت العهد وباقي محتويات خيمة الاجتماع. والعجيب أن إشعياء النبي قد تنبأ عن مذبح للرب في وسط أرض مصر في وقت لم يكن مسموحًا لبنى إسرائيل أن يقيموا مذبحًا مثل ذلك خارج أورشليم. ومازال اليهود يقرأون سفر إشعياء النبي إلى يومنا هذا ويعترفون به كأحد أسفار الكتاب المقدس الموحى بها من الله، ولكن للأسف لا يفهمون معنى هذه النبوة التي صارت حقيقة في العهد الجديد بعد إتمام الفداء في أورشليم وانتشار المسيحية في أرجاء المسكونة ووصول المسيحية إلى مصر.
وقد اكتُشِفَت نسختان كاملتان من سفر إشعياء في حفريات البحر الميت بوادي قمران داخل أواني من الفخار، ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وهذه المخطوطات موجودة حاليًا في الجامعة العبرية عند اليهود ووجدت مطابقة للنص العبري المتداول لسفر إشعياء.
والآن لنتابع ما ورد في هذه النبوة العجيبة الواردة في سفر إشعياء:
"وحي من جهة مصر: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها.. في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود، يُقال لإحداها مدينة الشمس (هليوبوليس)، في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود للرب عند تخمها. فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر.. فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به" (إش19: 1، 18-21).
والعجيب في نبوة إشعياء أنه لم يقل إن المصريين يقدمون ذبائح للرب عندما يعرفونه بل "يقدمون ذبيحة وتقدمة" وذلك لأن المسيحيين في العهد الجديد لا يقدمون ذبائح عديدة ومتكررة مثلما كان يحدث مع شعب إسرائيل في العهد القديم، بل يقدمون ذبيحة وصعيدة أي تقدمة واحدة هي ذبيحة الشكر في القداس الإلهي التي هي نفسها ذبيحة صليب ربنا يسوع المسيح بجسده ودمه الأقدسين. وذبيحة الشكر (الإفخارستيا) هذه هي ليست تكرارًا لذبيحة الصليب، بل امتدادًا أو استعلانًا لها في سر الشكر تحت أعراض الخبز والخمر. لذلك دُعي السيد المسيح رئيس كهنة على طقس (نظام) ملكي صادق الذي قدّم قربانًا من الخبز والخمر عندما بارك إبراهيم (انظر تك14: 18-20).
بالنسبة لليهود يجب أن يسألوا أنفسهم السؤال التالي: كيف يمكن أن يوجد مذبح للرب في وسط أرض مصر؟ وكيف تقدم عليه ذبيحة وتقدمة؟
إن اليهود قد مضى عليهم قرابة ألفى عام منذ هدم الهيكل في أورشليم وهم لا يقدمون ذبائح على الإطلاق. بينما تقدم ذبيحة الخلاص الحقيقية في مصر وفي كل مكان انتشرت فيه المسيحية والإيمان المسيحي المستقيم.
ألا يدعو هذا الأمر اليهود إلى مراجعة النفس وكيف هُدم الهيكل حسب قول السيد المسيح لهم "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (لو13: 35)؟ وكيف صارت الذبيحة تقدم في مصر حسب نبوة الكتاب. بل كيف وصل الأمر أن يقول الرب في نفس الموضع من السفر "بها يبارك رب الجنود قائلًا: مبارك شعبي مصر" (إش19: 25). فلماذا يحاول اليهود بناء الهيكل القديم؟
إن اليهود يعتقدون أنهم هم شعب الله. أفلا يسألون أنفسهم عن معنى هذه العبارة "شعبي مصر"؟ كيف صار في مصر شعب لله يفرح به قلبه ويبارك به؟ مصر التي كانت ترزح تحت نير الوثنية الرهيبة كيف صارت محبوبة ويُعرف الرب فيها "ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به" (إش19: 21).
أما عن عبارة "وسط أرض مصر" الواردة في النبوة فهي تشير إلى انتشار المسيحية في مصر كلها، كما أنها تشير إلى مذبح كنيسة العذراء الأثرية بالدير المحرق حيث جلس السيد المسيح ووعد أمه العذراء مريم بأن يصير هذا الحجر الكبير مذبحًا له على اسمها، وكنيسة مباركة.
كذلك فقد أوردت النبوة عبارة "عمود للرب عند تخمها". وهذا العمود هو عمود مار مرقس الرسول عند تخوم مصر الشمالية في الإسكندرية. العمود الحقيقي الذي بدأ مع مار مرقس واستمر إلى يومنا هذا عبورًا بالقديس أثناسيوس الرسول والقديس كيرلس عامود الدين.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:47 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
مصر وأشور

كما اهتم الرب بتهيئة الأوضاع لنشر الكرازة بالإنجيل في الإمبراطورية الرومانية وباللغة اليونانية التي انتشرت منذ فتوحات الإسكندر الأكبر. كما شرح لنا قداسة البابا شنودة الثالث (عن مجلة الكرازة فبراير 1996 (العدد 3، 4صفحة 4)).
هكذا اهتم أيضًا بحضارتين رئيسيتين من العالم القديم هما الحضارة الأشورية والحضارة المصرية.
وكانت الحضارة والديانات الأشورية في مملكة بابل ومن بعدها مملكة مادي وفارس لا تقل في ثقلها عن حضارة وقوة الديانات في مصر القديمة الفرعونية.
كان السيد المسيح قد جاء إلى العالم، ليخلص العالم كله من ظلمات العبادة الوثنية التي استطاع الشيطان أن ينشرها في أجزاء كبيرة من العالم. ولهذا اهتم بالشعوب الأممية كما اهتم بشعب إسرائيل.
على الصليب كان مكتوبًا عنوان علّته فوق رأسه بأحرف عبرية ويونانية ولاتينية. وهى أهم اللغات التي سادت في منطقة الشرق الأوسط والإمبراطورية الرومانية. لتأكيد أن السيد المسيح قد صلب فداءً عن الجميع.

ومنذ البداية ارتبط ميلاد السيد المسيح بسجلات الدولة الرومانية إذ صدر أمر من أوغسطس قيصر في روما بأن يكتتب كل المسكونة. وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية. فذهب يوسف خطيب العذراء مريم إلى بيت لحم وهى مدينة داود ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهى حُبلى لكونهما من بيت داود وعشيرته وفيما هما هناك تمت أيامها لتلد (انظر لو2: 1-6). وتم تسجيل المولود الجديد في سجلات الدولة الرومانية بناءً على الأمر الذي أصدره أوغسطس قيصر. وثبت رسميًا أن يسوع الناصري قد ولد في بيت لحم اليهودية.
أما كتابة غالبية أسفار العهد الجديد فقد كانت باللغة اليونانية الغنية بتعبيراتها اللاهوتية العميقة،والتي كتب بها أيضًا أعظم لاهوتي الكنيسة في القرون الأولى للمسيحية أمثال القديسين أثناسيوس وكيرلس وساويرس.
وكما شرح لنا قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الله حياته- فقد دبر الرب ترجمة أسفار العهد القديم من اللغة العبرية التي لم تكن منتشرة في العالم إلى اللغة اليونانية وذلك بأمر بطليموس فيلادلفوس، البطليموس الثاني من خلفاء الإسكندر الأكبر في مدينة الإسكندرية بالترجمة التي عرفت باسم الترجمة السبعينية. وساعدت في إعداد الفكر اليوناني لقبول ما في العهد القديم من تمهيد لميلاد السيد المسيح.
وكما اهتم الرب بالعالم الحديث في وقت ميلاده -أي الرومان واليونانيين- كذلك اهتم بالعالم القديم أي الأشوريين والمصريين.
وقد وردت نبوة عن ذلك في سفر إشعياء في الأصحاح 19 هذا نصها:
"في ذلك اليوم تكون سكّة من مصر إلى أشور.. ويعبد المصريون مع الأشوريين. في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثًا لمصر ولأشور بركةً في الأرض. بها يبارك رب الجنود قائلًا: مبارك شعبي مصر وعمل يديَّ أشور وميراثي إسرائيل" (أش19: 23-25).
وقد تحقق قول إشعياء النبي "تكون سكة من مصر إلى أشور.. ويعبد المصريون مع الأشوريين" أولًا حينما انتشرت المسيحية في بلاد مصر وأشور، وبعد ذلك توثقت العلاقة بين كنيسة الإسكندرية وكنيسة أنطاكيا السريانية الأرثوذكسية

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:48 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
نبوخذنصر ملك بابل
دبر الرب في مرحلة السبي أن يتعرف ملوك بابل ومادي وفارس على أنبياء الرب أمثال دانيال النبي الذي حكى وفسّر لنبوخذ نصر الملك حلمه المختص بالممالك التي سوف تتعاقب إلى مجيء السيد المسيح. وكان حلم الملك أن تمثالًا عظيمًا بهيًا جدًا وهائلًا، رأسه من ذهب جيد. صدره وذراعاه من فضة. بطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد. وقدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف. وبينما كان ينظر الملك قُطع حجر بغير يدين وضَرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلًا كبيرًا وملأ الأرض كلها (انظر دا 2: 31-36).

وقد أطلق نبوخذ نصر على دانيال النبي اسم "بلطشاصر" (دا4: 8) وعيّنه كبيرًا للمجوس (انظر دا 4: 9) في المملكة وظل يشغل هذا المنصب أيضًا في مملكة مادي وفارس التي جاءت بعد مملكة بابل.
كان الحجر الذي صار جبلًا كبيرًا هو رمز للسيد المسيح الذي ولد بغير زرع بشر وهو ملك الملوك ورب الأرباب،وكان التمثال يرمز إلى الممالك المتعاقبة من مملكة بابل إلى مملكة مادي وفارس ثم ملك الإسكندر الأكبر وما أعقبه من ممالك أربعة والإمبراطورية الرومانية التي جاء بعدها المُلك الروحي الإلهي للسيد المسيح الذي فاق كل عظمة ممالك الأرض.
وبناءً على حلم الملك نبوخذ نصر وتفسيرات ونبوات دانيال، جاء المجوس من المشرق ليسجدوا للملك المسيح ويقدموا عبادتهم وقرابينهم. وبهذا وضع السيد المسيح في بلاد المشرق أساس الإيمان بملكوته السمائي. وحينما بدأت الكرازة بالإنجيل في تلك البلاد كان الأساس موجودًا في واحدة من أقدم الحضارات الوثنية وأعتاها.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:50 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
نشأة السيد المسيح

كما كان السيد المسيح عجيبًا في ميلاده، هكذا أيضًا كان عجيبًا في نشأته وباقي أمور حياته وخدمته.
فقد هرب من وجه هيرودس الملك الذي أراد أن يقتله. وذهب السيد المسيح متغربًا في أرض مصر وتباركت مصر بحضوره إليها. وارتجت أوثان مصر وذاب قلب مصر داخلها (انظر إش19).
كان من الممكن أن يصطدم السيد المسيح بهيرودس الملك، لأن المسيح أقوى منه بكثير، ولكن في إخلائه لذاته، فضَّل أن يهرب -مع ما في الهروب من مظاهر الضعف وعدم المواجهة- لأن السيد المسيح لم يكن منشغلًا بمظاهر القوة والعظمة الخارجية، بل بتحقيق الانتصار غير المنظور ضد مملكة الظلمة الروحية، فأظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة.
#وبعد مذبحة أطفال بيت لحم بدا للناس وكأن السيد المسيح الذي رأى المجوس نجمه، قد ذُبح وانتهى أمره. وبهذا قَبِلَ السيد المسيح أن يصير مذبوحًا في نظر الناس، وكأنه غير موجود، وهو الحامل لكل الوجود، والذي به "نحيا ونتحرك ونوجد" (أع17: 28). قَبِل المسيح هزيمة مؤقتة أمام هيرودس، في نظر الناس.
فمن الواضح أن مذبحة الأطفال وهروب السيد المسيح إلى أرض مصر قد صنعا معًا فاصلًا بين ميلاده ونشأته في الناصرة، حتى ظن اليهود فيما بعد أن السيد المسيح من الجليل. وقالوا مستنكرين "ألعل المسيح من الجليل يأتي. ألم يقل الكتاب إنه من نسل داود ومن بيت لحم القرية التي كان داود فيها يأتي المسيح؟" (يو7: 41، 42). وحتى نثنائيل الذي دعاه السيد المسيح، قال في البداية "أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟!" (يو1: 46).
ولكن حينما كُتب الإنجيل فيما بعد اتضح أن السيد المسيح لم يكن من الجليل ولا من الناصرة في ميلاده، بل من بيت لحم اليهودية مدينة داود الملك حسب الكتب المقدسة.
وأعطى القديس لوقا الدليل القاطع الذي يستطيع أن يرجع إليه كل إنسان في ذلك الزمان الذي كتب فيه إنجيله، بأن ذكر أن السيد المسيح قد تسجّل ضمن الاكتتاب الأول الذي أمر به أوغسطس قيصر.. إذ أمر بأن تكتتب كل المسكونة "وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية" (لو2: 2)، مشيرًا في أي سجلات المواليد ينبغي أن يبحث الإنسان عن زمان ومكان ونسب السيد المسيح.

قيل عن السيد المسيح أنه "كان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو2: 52). وأيضا "كان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة وكانت نعمة الله عليه" (لو2: 40).
أخلى السيد المسيح ذاته آخذًا صورة عبد "وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه" (فى2: 8). ولذلك قَبِل أن يوجد في صورة طفل رضيع تحمله السيدة العذراء بين ذراعيها وتمنحه الغذاء حينما أرضعته من لبنها. وقَبِل أن ينمو قليلًا قليلًا بشبه البشر وأن يتعلم المشي والكلام وهو المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة والعلم، وهو اللوغوس (الكلمة).
# خضع السيد المسيح لنواميس الطبيعة بلا خطية وخضع لقواعد الحياة ونواميسها،فكان خاضعًا لأبويه (أى العذراء وخطيبها يوسف)، مطيعًا لهما (انظر لو2: 51). وبهذا أكمل الوصايا الإ‎لهية بما في ذلك وصية "أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض" (خر20: 12) "التي هي أول وصية بوعد" (أف6: 2).
لم يقدّم السيد المسيح في تجسده خضوعًا للآب السماوي فقط، بل وضع نفسه وأطاع من أوصى الرب بطاعتهم من البشر. مقدمًا المثل الأعلى في التواضع وإنكار الذات.
# وبالرغم من أن السيد المسيح هو قدوس القديسين، وهو رئيس كهنة الخيرات العتيدة، وهو رئيس الخلاص، وهو رئيس السلام، وهو راعي الخراف العظيم، وهو ملك الملوك ورب الأرباب، وهو مشتهى الأجيال، وهو خلاص الله الذي أعده قدام كل شعوب الأرض. إلا أنه لم يبدأ خدمته الخلاصية المبشرة بالإنجيل وباقتراب ملكوت الله إلا بعد بلوغه سن الثلاثين.
في تلك السن مسح الآب السيد المسيح بالروح القدس في نهر الأردن ليُستعلَن السيد المسيح كخادم للخلاص وككاهن مدعوًا من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق.
كان أبناء هرون لا يبدأون في ممارسة خدمتهم الكهنوتية في خيمة الاجتماع حسب الشريعة إلا بعد بلوغهم سن الثلاثين. وهكذا فعل أيضًا السيد المسيح.
إن العقل يقف حائرًا أمام هذه الأعوام الثلاثين التي قضاها السيد المسيح بدون خدمة رسمية، بل اقتصرت خدمته على حياته وقدوته الحسنة ومعاملاته الطيبة. وتمتعت السيدة العذراء بعشرة طويلة مع ابنها الوحيد يسوع المسيح القدوس الذي "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا" (كو2: 9).
من يستطيع أن يحكى عن حلاوة تلك الأيام والشهور والسنين الطويلة؟! وأي قلب بين البشر أحب السيد المسيح مثل قلب العذراء القديسة التي حملته في بطنها، كما حملته في قلبها وعقلها ووجدانها؟! ويكفى أنها كانت تراه في كل يوم وكل ساعة ملء العين والقلب والفكر على مدى ثلاثين عامًا.
كان يعمل نجارًا، يستجيب لمطالب الناس ويعمل في الخير ما يرضيهم.
كم من البيوت امتلأت من فنه وعمل يديه؟! وهو الذي "قاس السماوات بالشبر" (إش40: 12) والمسكونة هي عمل يديه..
ما أعجب اتضاعك أيها السيد النجار..؟! في صمتك، في هدوئك، في وداعتك وأنت تعمل من أجل بناء الإنسان وأنت المهندس الأعظم..

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:50 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
عماد السيد المسيح

قبل أن يبدأ السيد المسيح خدمته التبشيرية بملكوت الله ذهب ليعتمد من يوحنا المعمدان في نهر الأردن. كان الشعب يذهبون ليعتمدوا بمعمودية التوبة لغفران الخطايا في نهر الأردن، وذهب معهم السيد المسيح في اتضاع عجيب، ضمن جموع التائبين الذين يغتسلون بالماء من خطاياهم، مع أنه لم يفعل أية خطية.

(هنا ونشير إلى حقيقة أن الغفران بذبائح العهد القديم أو بمعمودية يوحنا غفرانًا ينتظر ذبيحة صليب السيد المسيح وفاعليتها، إذ لم ينتقل البشر من الموت إلى الحياة، ومن الجحيم إلى الفردوس إلا بعد إتمام الفداء على الصليب).
ذهب مخلص العالم البار القدوس الذي بلا خطية وحده، ليُحسب (في نظر الناس) مع الخطاة والتائبين الذين يغتسلون من خطاياهم، مثلما قيل عنه "وأحصى مع أثمة" (إش53: 12).
حقًا يا رب لقد حملت خطايانا، وقبلت ذلك بكل اتضاع لكي نحمل نحن الخطاة صورة برك وقداستك وكمالك.
إن العقل يتساءل: ما الذي فكرتْ فيه تلك الجموع، حينما أبصرتْ السيد المسيح آتيًا إلى معمودية التوبة من يوحنا..؟! ذلك المشهد العجيب الذي تحيّرت أمامه أفهام الملائكة العلوية.
حاول يوحنا أن يمنع السيد المسيح من ذلك وقال له: "أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتى إلىّ؟!" (مت3: 14). ولكن السيد المسيح أجابه في اتضاع عجيب بعيد عن كل مظاهر العظمة والافتخار: "اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر" (مت3: 15)، "حينئذ سمح له (يوحنا)" (مت3: 15).
لقد دار ذلك الحديث بينهما ولم يسمعه غالبية الجمع، ولكن ما أبصرته الجموع هو ذلك الحمل الوديع وهو يضع نفسه أمام الآب في طاعة عميقة صامتة، حاملًا صورة الإنسان الذي أخطأ وجاء لكي يطلب الاغتسال والمغفرة.. ونزل السيد المسيح إلى الماء، واعتمد من يوحنا الكاهن.
وهنا لم يكن ممكنًا للسماء أن تصمت أكثر من ذلك، فللوقت وهو صاعد من الماء "وإذا السماوات قد انفتحت له.. وصوت من السماوات قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 16، 17).
وقف يوحنا المعمدان ليرى بعينيه الروح القدس آتيًا من السماء التي انشقت ومستقرًا على رأس السيد المسيح، وليسمع بأذنيه صوت الآب السماوي وهو يشهد لابنه الوحيد الذي تجسد، بأنه هو فتاه الذي اختاره وحبيبه الذي سُرَّت به نفسه (انظر مت12: 18)،ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا صار يوحنا يشهد للسيد المسيح ويرشد الناس إليه..
حقا قال الآباء: [إن من يسعى وراء الكرامة تهرب منه، ومن يهرب منها تسعى خلفه وترشد جميع الناس إليه].

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:51 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
قد رأيت الروح

قال يوحنا المعمدان: "إني قد رأيت الروح نازلًا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه. وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمّد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله" (يو1: 32-34).
كانت هذه هي العلامة التي أعطاها الله لنبيه يوحنا، أن الذي يرى الروح أثناء عماده نازلًا من السماء ومستقرًا عليه، فهذا هو المسيح ابن الله، حمل الله الذي يحمل خطية العالم ليخلّصه.
وقد حل الروح القدس وظهر "بهيئة جسمية مثل حمامة" (لو3: 22) إذ "السماوات قد انشقت" (مر1: 10) ونزل الروح القدس واستقر على رأس السيد المسيح (انظر يو1: 32). كان المنظر مبهرًا وجميلًا جدًا؛ فالسماوات التي انفتحت قد جاء منها الروح القدس، وصوت الآب قائلًا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 17).
ولاشك أن يوحنا قد انبهر وفرح بهذا المشهد العجيب، مع صوت الآب وتسابيح الملائكة، والمناظر السمائية حينما انفتحت السماء،مشهد لا يقل بالطبع روعة عن حلم الأب يعقوب حينما أبصر السلم المنصوب على الأرض ورأسه يمس السماء، والملائكة صاعدة ونازلة عليه، والرب واقف عليه بمنظر مخوف يتكلم مع يعقوب.
كان سلم يعقوب إشارة إلى التجسد الإلهي، وإشارة إلى انفتاح السماوات على الأرض. وها هو يوحنا يبصر بعينيه، ليس في منام، بل في يقظة، السماوات مفتوحة بكل ما فيها من أمجاد روحانية لتعلن أن الصاعد من مياه الأردن هو الابن الحبيب الذي سُرّ به قلب الآب، والذي عليه يكون رجاء الأمم والشعوب.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:52 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
لماذا سُرَّ الآب بابنه الحبيب؟

من المفهوم طبعًا أن الابن في تجسده كان موضوعًا لسرور الآب نظرًا لقداسته المطلقة وطاعته الكاملة. لهذا قال السيد المسيح: "الذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه" (يو8: 29). وفي مناجاته مع الآب السماوي في ليلة صلبه وآلامه قال له: "أنا مجّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.. أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم.. وعرّفتهم اسمك وسأعرّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" (يو17: 4، 6، 26).
لاشك أن السيد المسيح قد أرضي قلب الآب بتقديم مثال الإنسان الكامل الذي تمم كل رغبات الآب وأطاع حتى الموت موت الصليب.
ولكن هناك بُعدًا آخرًا لسرور الآب من نحو ابنه الوحيد الجنس المولود منه قبل كل الدهور وقبل خلق الملائكة والبشر وكل ما في العالم من موجودات. وذلك لأن الابن في ولادته الروحية الأزلية من الآب قد حمل في أقنومه الخاص كل الصفات الإلهية التي للآب مثل الحق والحكمة والصلاح والقداسة والحب والقدرة على كل شيء والعدل والقوة.. ولأن المحبة هي من صفات الجوهر الإلهي؛ فينبغي أن تمارَس بين الأقانيم الثلاثة قبل كل الدهور لهذا قال السيد المسيح للآب: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو17: 24).
فالابن -والحال هكذا- هو موضوع لحب الآب ولمسرته.. لأن الآب يرى في الابن كل الكمالات الإلهية التي يحبها.
وقد يسأل سائل كيف يستطيع الآب أن يرى الابن بينما نعلم أن الابن هو في الآب حسب قوله لتلاميذه: "صدقوني أنى في الآب والآب فيَّ" (يو14: 11)؟
ونجيب على ذلك بأن الرؤية الإلهية لا تخضع للمقاييس المادية. وعلى سبيل المثال: فإن الفكر يولد من العقل في العقل ومع ذلك فإن العقل يستطيع أن يرى الفكر المولود منه وفيه. ويعجب به مثلما يقول قائل عن فكرة أعجبته [أنا أرى أن هذه الفكرة جميلة] أو عن فكر صائب [أنا أرى أن هذا الفكر سليم]. فالعقل يرى الفكر ومن الممكن أن يحبه ويعجب به. فكم بالأولى يكون الحال بين الآب الوالد للابن، والابن الكلمة المولود منه الذي هو العقل الإلهي منطوق به؟!!
إن الابن هو موضوع سرور الآب منذ الأزل أي قبل كل الدهور وهو موضوع فرحُه الدائم. وكل ما يمكن أن يُسر قلب الآب بالنسبة للخليقة هو من خلال مسرته بالابن.
لهذا قال معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس إن الآب قد باركنا في المسيح واختارنا قبل تأسيس العالم في المسيح فكتب يقول: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة،إذ سبق فعيّننا للتبنّي بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب" (أف1: 3-6).
لقد بارك الله الآب قديسيه في المسيح لأنهم صاروا أعضاء في جسده أي الكنيسة، واختارهم في المسيح لأنهم باغتسالهم بدمه قد نالوا سلطانًا أن يصيروا أولاد الله. لهذا قال: "إذ سبق فعيّننا للتبنّي بيسوع المسيح.. الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا" (أف1: 5، 7).
وقد كتب القديس أثناسيوس الرسولي يقول: (الآب يفعل كل شيء من خلال الكلمة (أى الابن) في الروح القدس) (الرسالة الأولى إلى سرابيون). وهذا ما يؤكده قول معلمنا بولس الرسول: "مخلصنا الله.. بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا" (تى3: 4-6). وأيضًا قوله عن قدومنا إلى الآب بالابن في الروح القدس "المسيح يسوع.. به لنا كِلَينا قدومًا في روح واحد إلى الآب" (أف2: 13، 18).
إن الله لم يبارك قديسيه ويختَرهم فقط في المسيح، بل أكثر من ذلك أنهم قد خلقوا به وله. كقول معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي عن الابن: "الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلِقَ الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل وهو رأس الجسد الكنيسة" (كو1: 15-18).
إن الخليقة قد خلقت من أجل الابن.. ليس فقط كل شيء به كان، بل كل شيء لأجله أيضًا كان. أليست الخليقة هي نتيجة الحكمة الإلهية والابن هو الملقّب "حكمة الله" (1كو1: 24)؟!

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:53 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
ما بين الظهور والتجسد

لم يكن ظهور الروح بهيئة جسمية مثل حمامة معناه أن الروح القدس قد تجسّد.. لأن الروح القدس لا يتجسد مثلما تجسد كلمة الله. بل إن الظهور شيء، والتجسد شيء آخر. فالمسيح كلمة الله قد ظهر مرارًا في العهد القديم دون أن يكون ذلك تجسدًا على الإطلاق.
وفى هذا المقام نذكر على سبيل المثال ظهور السيد المسيح مع ملاكين لإبراهيم عند بلوطات ممرا في هيئة ثلاثة رجال. وتكلم إبراهيم معه ودعاه وأعطاه الرب الموعد بميلاد إسحق بعد عام من هذا الظهور. ثم سار إبراهيم مع السيد المسيح بينما ذهب الملاكان إلى سدوم وعمورة وتحدث الرب مع إبراهيم عما كان مزمعًا أن يفعله بالنسبة لشر سدوم وعمورة الذي كان قد تزايد جدًا (تك18).
ونذكر أيضًا ظهور السيد المسيح ليعقوب أب الآباء عند مخاضة يبوق، إذ ظهر له في هيئة إنسان، وصارعه إلى طلوع الفجر وباركه في النهاية وأعطاه اسمًا جديدًا ودعا يعقوب اسم ذلك المكان فنيئيل قائلًا: "لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونُجِّيت نفسي" (تك32: 30).
لم تكن هذه الظهورات تجسدًا على الإطلاق، بل ظهر السيد المسيح بهيئة جسمية مثل إنسان. ولكنه حينما حل في بطن العذراء مريم، فقد أخذ طبيعة بشرية حقيقية كاملة بلا خطية وجعلها في وحدة حقيقية تامة مع لاهوته بغير اختلاط ولا تغيير.
التجسد يعنى أن يأخذ الرب جسدًا حقيقيًا مساويًا لطبيعتنا في الجوهر بلا خطية.. جسدًا حقيقيًا بروح عاقلة أي طبيعة بشرية كاملة، وهذا الجسد الإنساني أو هذه الطبيعة البشرية لها كل خواص الطبيعة البشرية، بما في ذلك القابلية للحزن وللألم وللجوع وللموت، وكذلك للفرح والراحة وما يشبه ذلك من أمور بشرية بلا خطية.
لهذا ينبغي أن نرى الفارق الواضح بين الظهور والتجسد.
ولم يكن مجيء ابن الله في الجسد مجرد ظهور، ولكنه كان تجسدًا بمعنى الكلمة، ولهذا قال الإنجيل: "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا" (يو1: 14). ولكن التجسد طبعًا يتضمن الظهور أيضًا كما هو مكتوب "الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16). أما ظهور الروح القدس عند نهر الأردن فكان ظهورًا فريدًا.. ظهر فيه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، ليكون ذلك علامة فريدة على نزوله واستقراره على السيد المسيح إتمامًا للنبوات، وإعلانًا لبدء عمله الكهنوتي النبوي الملوكي لخلاص البشرية.
في هذه المناسبة الفريدة ظهر الثالوث القدوس بأجلي بيان.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:54 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
عيد الظهور الإلهي

صوت الآب من السماوات المفتوحة، والابن المتجسد صاعد من مياه الأردن، والروح القدس آتيًا ومستقرًا عليه مثل حمامة. لهذا تسمى الكنيسة هذا اليوم "يوم الظهور الإلهي" (عيد الإبيفانيا).
وقد ظهر الروح القدس مرة أخرى في يوم الخمسين على هيئة ألسنة منقسمة كأنها من نار، مقترنًا بصوت كما من هبوب ريح عاصف وملأ كل البيت حيث كان التلاميذ مجتمعين (انظر أع2: 1-3).
كان منظر الألسنة التي تشبه منظر النار إشارة إلى عمل الروح القدس في التطهير وفي محبة الله. وصار منظر كل واحد من التلاميذ كأنه مصباح أو شمعة متقدة بالنار لتنير للعالم من فوق المنارة.
كما إنه لم تكن مصادفة أن تبدأ خدمة السيد المسيح الخلاصية في سن الثلاثين لأن هذا هو سن الكاهن حسب شريعة موسى في بداية خدمته الكهنوتية (انظر عد4: 23، 35) و(1 أي 23: 3). ولم تكن مصادفة أن يمسح السيد المسيح بالروح القدس من قِبل الآب السماوي عند عماده من يوحنا المعمدان. ولم تكن مصادفة أيضًا أن يستعلن الثالوث القدوس بهذه الصورة الواضحة في بداية خدمة ومسح قدوس القدوسين.
لقد تجسد الله الكلمة لكي يعرفنا الثالوث

فباعتباره هو الابن الوحيد الجنس من الآب فقد أظهر لنا ذاته حينما تجسد. ولهذا قال معلمنا بولس الرسول: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رفع في المجد" (1تى3: 16).
أما عن الآب فقد خبّرنا عنه بكل الوسائل ولهذا قال في مناجاته مع الآب قبل الصلب: "أنا مجدتك على الأرض.. أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني.. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" (يو17: 4، 6، 26).

وبالنسبة للروح القدس فقد أفرد حديثًا طويلًا مع تلاميذه في ليلة آلامه عن الروح القدس سجّله القديس يوحنا في إنجيله ومن أمثلة ذلك قول السيد المسيح: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" (يو14: 15-17) وقال أيضًا: "وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26)،وكذلك قال: "ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الابتداء" (يو15: 26، 27).
وهكذا عبّر القديس غريغوريوس النازينزي في قداسه العظيم قائلًا عن السيد المسيح: (الذي أظهر لنا نور الآب، الذي أنعم علينا بمعرفة الروح القدس الحقيقية).
إن معرفة الآب والابن والروح القدس هي الوسيلة الحقيقية للوصول إلى الحياة الأبدية.
فعن معرفة الآب والابن قال السيد المسيح: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو17: 3).
وعن معرفة الروح القدس قال: "روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" (يو14: 17).
المعمودية والثالوث

ارتباط المعمودية بالثالوث واضح من أمرين:
الأمر الأول: هو إعلان الثالوث أثناء عماد السيد المسيح.
والأمر الثاني: هو قول السيد المسيح لتلاميذه قبيل صعوده إلى السماء: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت28: 19). أي أن المعمودية تتم على اسم الثالوث القدوس لأنها مرتبطة بالإيمان بالثالوث القدوس الواحد في الجوهر.
إن خدمة السيد المسيح قد بدأت بمسحه بالروح القدس وإعلان الثالوث. ثم وصلت إلى غايتها حينما صالح الآب مع البشرية بدم صليبه وأخذ موعد الآب بإرسال الروح القدس في يوم الخمسين وبذلك دخلت الكنيسة إلى شركة الحياة مع الثالوث القدوس.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 05:59 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
التجربة على الجبل والصوم الأربعين

لم يبدأ السيد المسيح خدمته مباشرة بعد أن تعمد في نهر الأردن، بل اقتيد "بالروح في البرية أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2).
بعد الإعلان السماوي العجيب حينما أتى صوت الآب من السماء المفتوحة "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 17)، والروح القدس الذي ظهر بهيئة جسمية مثل حمامة آتيًا من السماء ومستقرًا على رأسه؛ كان من المتصور أن يبدأ السيد المسيح خدمة مجيدة قوية مؤيَّدة بالإعلان السماوي وروحه القدوس ولكن ما حدث هو العكس..
خرج يسوع بقوة الروح القدس إلى البرية أربعين يومًا في القفر، ولم يأكل أو يشرب طوال هذه المدة، بل كان مع الوحوش وحيدًا.. بعيدًا عن الناس.. بعيدًا عن إعجابهم ومديحهم وإطرائهم.. بلا مؤنس بلا تعزية من البشر.. لا أحد يخدمه أو يقدم له شيئًا من الراحة.
إن العقل يقف حائرًا أمام هذا المشهد الغريب والعجيب: الابن الوحيد الأزلي للآب السماوي، كلمة الله الذي تخضع له كل الخليقة وهو الذي يحملها بقدرته الإلهية. حينما أخلى ذاته ووضع نفسه، واقتيد بالروح في البرية القفرة، إذ أنه تجسد فوجد في الهيئة كإنسان وأطاع إلى المنتهى.. وسمح للشيطان أن يُجرِّبه.
كان اتضاع السيد المسيح هو سبب تجاسر الشيطان في أن يتقدم ليجربه، لأنه حينما صام في البرية صار في حالة من الإعياء والتعب الشديد، إذ جاع جوعًا شديدًا -من حيث إنه شابهنا في كل شيء ماخلا الخطية وحدها- فلم يمنع عن جسده التعب والجوع.. ولهذا اعتقد الشيطان إنه من الممكن أن يُجرّب السيد المسيح كإنسان.
أمام هذا السر العجيب الذي لتجسد الكلمة، انحمق الشيطان وتقدم ليُجرِّب السيد المسيح في جسارة عجيبة، انتهت بهزيمته في البرية، تمهيدًا للهزيمة الكبرى عند صليب الجلجثة.
كان السيد المسيح يريد أن يرسم لنا طريق الانتصار بالاتضاع ولهذا لم يبدأ خدمته بعد مجد الظهور الإلهي عند نهر الأردن وهو الظهور الذي أعلن سر الثالوث القدوس، ولكن بدأ خدمته في ساحة التجربة في البرية في القفر.

حقًا "كل مجد ابنة الملك من داخل" (مز44: 13)، فالمجد الداخلى لازم وضروري لإثبات أصالة النفس البارة المقدسة. أما من يسعى وراء الأمجاد الخارجية ومديح الناس فإنه يكون عرضة للسقوط في الكبرياء والمعصية.
البعض للأسف يبحثون في خدمتهم عن مظاهر خلابة تجذب الناس وراءهم.. ويهتمون ويفرحون بالأمور الخارقة للطبيعة التي تبدو في ظاهرها مؤيدة لإرساليتهم، ويسقطون في خداعات الشياطين، لأن الشيطان يستطيع أن يغير شكله إلى شبه ملاك نور.
المسلك المتضع الهارب من المجد والمظاهر الخارجية، هو برهان صدق الإعلان السماوي وصدق المعجزات الخارقة.
ينبغي أن تُختبَر أصالة الخدمة في ساحة الاتضاع وإنكار الذات أولًا، لأن الذهب النقي يختبر بالنار.
المحبة الحقيقية تُختبر بالألم، والخدمة السماوية تُختبر بالاتضاع وإنكار الذات وبالطاعة والمسكنة والخضوع.
هل هناك من هو أعظم مجدًا من الابن الوحيد الذي هو "بهاء مجده ورسم أقنومه" (عب1: 3).. ومع ذلك فإنه حينما تجسد وصار إنسانًا مثلنا، قدّم لنا مثالًا في خدمته الخلاصية بأن بدأها بالاتضاع. فما الذي يمكن أن يفعله الرب أكثر من ذلك ليحذرنا من غواية الشياطين في خدمتنا؟.
إن الروح القدس هو الذي يستطيع أن يقود أفكارنا ونحن نفحص أصالة كل خدمة وبرهان تأييد السماء لها، لهذا يقول معلمنا يوحنا الرسول:
"أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله" (1يو4: 1). "وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون.. منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا. وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء" (1يو2: 18-20).
لماذا صام؟

من المعلوم طبعًا أن السيد المسيح لم يكن محتاجًا إلى الصوم لتدريب جسده أو تقويمه لأنه هو الوحيد الذي بلا خطية بين البشر جميعًا. ومن المعلوم أن الصوم بالنسبة لنا يساعدنا على التحرر من رغبات الجسد وتغليب رغبات الروح، وعلى تدريب الإرادة على ضبط النفس أي قمع الجسد، كما أنه يساعد في تذللنا أمام الله مثلما صام أهل نينوى من الكبير إلى الصغير ولبسوا مسوحًا وتضرعوا إلى الله بالتوبة فرحمهم الله ورفع غضبه عنهم. ولم يكن السيد المسيح شخصيًا محتاجًا إلى أي شيء من هذه الأمور جميعًا.
نقول في ألحان التوزيع في الكنيسة في الصوم الكبير (يسوع المسيح صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة)، إذن فإن السيد المسيح قد صام نيابة عنّا وليس عن نفسه.
لم يكن السيد المسيح طبعًا محتاجًا للصوم ولا للتجربة على الجبل لأنه "قدوس القدوسين" (دا9: 24)..لكنه صام وسمح للشيطان أن يجرّبه لكي يعلّمنا.. أراد أن يرسم لنا طريق الجهاد والنصرة على الشيطان. وقال لتلاميذه إن "هذا الجنس (أي جنس الشيطان) لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم" (مر9: 29، انظر مت17: 21).
كما أنه أراد أن يعلّمنا أهمية الصلاة قبل البدء في الخدمة، لذلك أراد أن يختلي وقتًا طويلًا في مناجاة عميقة يعبّر فيها عن محبته للآب، ويطلب فيها من أجل نجاح مناداته بالتوبة والإيمان بالإنجيل في قلوب سامعيه، حينما تبدأ خدمته بعد عودته من البرية.
صام ليسجل انتصارًا على الشيطان لحسابنا عندما سمح للشيطان أن يجربه. أي ليلقن الشيطان درسًا من خلال طبيعتنا التي تباركت فيه أي باتخاذه إياها ليعبر بنا فيها من الهزيمة إلى النصرة، ومن الموت إلى الحياة. فكما أنه مات عنا ولم يكن مستوجبًا الموت؛ ولهذا داس الموت بالموت؛ وقام منتصرًا من الأموات. وكما كانت القيامة من الأموات أمرًا حتميًا بانتصاره على الموت "إذ لم يكن ممكنًا أن يمسك منه" (أع2: 24) هكذا كان انتصار السيد المسيح على الشيطان في التجربة أمرًا حتميًا، إذ لم يكن ممكنًا أن ينهزم منه لأنه هو نفسه "قدوس القدوسين" (دا 9: 24).
وبذلك علّمنا أن الصوم والصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين ويقهران سلطانهم اللعين.
وصام ليبارك الصوم وليبارك طبيعتنا بالصوم (باركت طبيعتي فيك، أكملت ناموسك عنى) (القداس الغريغوري).
باركت طبيعتي فيك

عندما تجسد ابن الله الكلمة ووجد في الهيئة كإنسان، فإنه قد بارك الطفولة في طفولته، وبارك سن الشباب في شبابه، وبارك سن الرجولة في رجولته.
عندما أكل بارك الطعام، وعندما صام بارك الصوم.
عندما نام بارك النوم، وعندما سهر الليل كله بارك السهر..
عندما حضر عرس قانا الجليل بارك الزواج، ولأنه ولد من عذراء فقد بارك البتولية..
عندما ولد في حظيرة للخراف واضطجع في المذود بارك الفقراء، وعندما تقبل هدايا المجوس بارك الأغنياء الأسخياء.
عندما عمل كنجار بارك العمل، وعندما تفرغ للخدمة بارك التكريس.
عندما مشى على الأرض، بارك الأرض. وعندما مشى على المياه بارك المياه..
عندما تكلّم بارك الكلام. وعندما صمت بارك الصمت..
قوة الصوم

لهذا فقد أعطى السيد المسيح بركة وقوة للصوم حينما صام. وفي الأربعين يومًا التي صامها أدخر لنا قوة النصرة في حروب الشياطين بواسطة الصوم المقترن بالصلاة والتأمل والإيمان بالمسيح وأسرار الكنيسة.
الصوم يسبق المعمودية المقدسة، ويسبق التناول من جسد الرب ودمه، ويسبق مسحة الميرون، ويسبق سيامة الكهنة وخدمة الكهنوت، ويسبق سر مسحة المرضى الذي تكثر الكنيسة من ممارسته في الصوم المقدس وفي يوم جمعة ختام الصوم.
ما أجمل التناول من الأسرار المقدسة بعد الصوم، حيث يقدّم الإنسان جسده كذبيحة في الصوم على مثال ذبح إسحق. ثم يتناول من الحمل المذبوح عوضًا عن إسحق، ليعود إسحق حيًا بإيمان القيامة.
الصوم الكبير

في الصوم الكبير المقدس تُذكِّرنا الكنيسة بأهمية التوبة. ويقترن الصوم بالتوبة وممارسة سر الاعتراف،وتخصص الكنيسة أسابيعَ من الصوم المقدس تدور قراءاتها حول التوبة وأهميتها مثل أحد السامرية وأحد الابن الضال وأحد المخلّع.
وفى مدائح الصوم الكبير نسمع كثيرًا في الكنيسة عن التوبة:
تُب يا إنسان عن جهلك وارجع إلى الله وتقدّم
عسى بالله تبلغ أملك واترك خطاياك وتندَّم
ضيّعت زمانك وأفنيته كنزك في التراب أخفيته
ومصباحك من عدم زيته طفى وبقيت في الظلمات
وتتحدث هذه المدائح عن أهمية ممارسة الرحمة لينال الإنسان رحمة من عند الرب فيأتى القرار:
طوبى للرحما على المساكين فإن الرحمة تحل عليهم
والمسيح يرحمهم في يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم
إن الصوم بالنسبة لنا يستمد قوته وفاعليته من صوم السيد المسيح، والنصرة الروحية في الصوم تأتى من رصيد النصرة الذي حققه لنا مخلصنا الصالح الذي صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة.
وبهذا الإيمان نبدأ رحلة الصوم والعبادة الروحية فيه بقوة الروح القدس.
في البرية
ربما يتساءل البعض عن ارتباط الرهبنة بالبرية.. وها نحن نرى السيد المسيح وهو يرسم طريقًا واضحًا للجهاد النسكي في ارتباطه بالبرية.
فبعد عماده في نهر الأردن أُقتيد "بالروح في البرية أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2).
لم يأكل السيد المسيح، ولم يشرب شيئًا في تلك الأيام.. وارتبط الصوم بالبعد عن المشاغل الموجودة في العالم بما في ذلك الانشغال بخدمة الآخرين بصورة مباشرة.
كان الوقت مخصصًا للتأمل والصلاة مع الصوم.. هكذا نرى الصوم في أبهى صوره حسب قول الكتاب "قدسوا صومًا. نادوا باعتكاف" (يؤ2: 15).
الصوم مع الاعتكاف هو صوم لجميع الحواس الجسدية.. ليس فقط حاسة التذوق، بل أيضًا حاسة السمع، وحاسة النظر، وحاسة اللمس، وحاسة الشم.
في البرية تتفرغ الحواس جميعًا للعمل الروحي..
بالنسبة لنا نحن نحتاج إلى صوم الحواس.. وكما قال أحد الآباء [إن مجرد نظر القفر، يبطل في النفس الحركات العالمية]. وقد أراد السيد المسيح أن يجتذبنا نحو القفر حينما نتبع مسيرته في البرية أربعين يومًا في جهاد من أجلنا.
نحن نحتاج إلى القفر.. بل يجب أن يعيش القفر في قلوبنا خاصة أثناء الصوم.
وفى القفر نردد على وزن منظومة قداسة البابا شنودة الثالث عن الوطن [إن القفر ليس قفرًا نعيش فيه، بل هو قفر يعيش فينا].. هذا هو حال القلب الزاهد في الأمور الدنيوية.. وبالقفر نعيش الفقر الاختياري.. أو بالفقر نعيش القفر متحررًا من محبة العالم وكل ما فيه.
قضى السيد المسيح أربعين يومًا في القفر لكي يدخل القفر إلى قلوبنا.. ولكي نرى القفر فردوسًا روحيًا نحيا فيه مع الله.
لأن الفردوس الأول الممتلئ بالخيرات (جنة عدن)، كان مكانًا سقط فيه آدم الأول.. والبرية مكان انتصر فيه آدم الثاني، ليجعل من البرية فردوسًا روحيًا لموكب المنتصرين.
أيام في البرية

بالرغم من أن السيد المسيح قد جاء لخلاص العالم، إلا أنه قد ذهب إلى البرية للاختلاء والصوم والمناجاة مع الآب قبل أن يبدأ خدمته بين الناس.
وهو بهذا قد أرسى مبدأ أهمية الوجود في البرية بعيدًا عن الانشغال بالخدمة ومتطلباتها وذلك من أجل خدمة قوية ناجحة ينهزم فيها الشيطان أمام إنسان البرية.
لهذا قيل عن الكنيسة المقدسة "من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطّرة بالمُر واللبان وبكل أذرة التاجر" (نش3: 6).
معطّرة بالمُر واللبان: أي بالصوم والصلاة، وهى طالعة من البرية متشبهة بالسيد المسيح في صومه في البرية وفي مناجاته للآب السماوي من أجل الكنيسة ونصرتها على الشيطان.
لقد هزم السيد المسيح الشيطان في البرية ليسجل انتصارًا لحساب الكنيسة.. لحساب البشرية التي انهزمت قبل ذلك طويلًا أمام الشيطان، وبعدها صار الشيطان يرتعب من رؤية السيد المسيح ويصرخ ويقول "آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا، أنا أعرفك من أنت؛ قدوس الله" (مر1: 24). وكان السيد المسيح ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون لأنه لا يقبل الشهادة من الشيطان كما أنه كان يريد أن يخفى لاهوته عن الشيطان، وقد حقق ذلك بالفعل فيما بعد بحكمة عجيبة.
ولكن ما يستوقفنا هنا؛ هو أن السيد المسيح في البرية قد واجه تساؤلًا مكررًا من الشيطان "إن كنت ابن الله..؟!" (مت4: 3، 6، لو4: 3، 9). وبعد المواجهة التي حدثت في البرية صار يواجه عبارة مختلفة "يا يسوع الناصري.. أنا أعرفك من أنت قدوس الله" (مر1: 24، لو4: 34). لقد صنعت البرية الكثير في نظرة الشيطان للسيد المسيح كخادم. بل صارت البرية بذكريات صوم السيد المسيح وصلاته فيها مكانًا للنصرة على الشيطان بعد أن كانت مكانًا مهجورًا تهيم فيه الشياطين التي لا تجد لها مكانًا يتسع لأعدادها الكبيرة في البشر.
وقد علّق السيد المسيح على ذلك بقوله: "متى خرج الروح النجس من الإنسان؛ يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة. وإذ لا يجد؛ يقول أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده مكنوسًا مزيناً. ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أُخر أشر منه، فتدخل وتسكن هناك. فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله" (لو11: 24-26).
لقد تقدّست البرية بحلول السيد المسيح فيها وبصومه وبصلاته وبنصرته على الشيطان عن الإنسان. وصار القديسون يجدون مجالًا للنمو في حياة القداسة في البرية.. وصارت مسكنًا للملائكة الذين رافقوا صلوات وتسابيح هؤلاء القديسين الذين سكنوا في الجبال والمغاير وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح.
الجسد والنفس والروح

في البرية قدّم السيد المسيح مثالًا لنا للزهد في رغبات الجسد، ورغبات النفس، لكي نحيا في الروح.
فبالنسبة للجسد أعطانا فكرة أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4: 4).
وبالنسبة للنفس أعطانا فكرة عن الزهد في أمجاد العالم الزائلة، وأن نخدم الله لا المال أو الجاه أو السلطان.
وقد رفض كل ممالك العالم التي رآها من فوق الجبل حتى لا يتعطل الصليب.
كما أن الجسد يحتاج إلى الطعام المادي ليعيش وينمو، هكذا أيضًا الروح تحتاج إلى الغذاء الروحي لكي تعيش ولكي تنمو.
لهذا قال السيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4:4). وبقوله: "ليس بالخبز وحده" كان يقصد أنه إلى جوار الخبز المادي اللازم لحياة الإنسان من ناحية جسده، فإن هناك كلمة الله لحياة الإنسان من جهة روحه.
وقال أيضًا السيد المسيح: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63). وقال: "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 51).
عمومًا الروح تحتاج إلى الغذاء الروحي لتحيا وتنمو تمامًا مثلما يحتاج الجسد إلى الطعام الجسدي ليحيا وينمو.
فبالنسبة للروح أعطانا السيد المسيح فكرة عن الزهد، حينما رفض أن يطير من فوق جناح الهيكل لينظره الناس سابحًا في الفضاء محمولًا على أيدي الملائكة.
إن الصعود بالنسبة للسيد المسيح هو من خلال الصليب. وقد قال: "أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع" (يو12: 32). ورآه كثيرون معلقًا فوق الإقرانيون، محتملًا الاحتقار والذل والعار.. وكان الارتفاع فوق الصليب هو الطريق الحقيقي نحو المجد غير المنظور.
وبعد القيامة صعد السيد المسيح أمام أعين تلاميذه. ولكن لم يكن الصعود بالنسبة للسيد المسيح نوعًا من التباهي. ولكنه كان صعودًا باعتباره الذبيحة المقدسة المقبولة إلى المقدس السماوي، حيث دخل السيد المسيح كسابق لنا، ليكون هو رئيس الكهنة الذي يشفع في جنس البشر أمام الله الآب كل حين "دخل.. فوجد فداءً أبديًا" (عب9: 12).
قبل أن يصعد السيد المسيح بيمين الآب إلى السماء، كان قد أصعد ذاته على الصليب ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا.. لهذا كان لابد للصعيدة أن تصعد.
وقد صعد السيد المسيح في البرية.. إلى جبل التجربة.. أربعين يومًا يجرب من إبليس.
وكانت حياة السيد المسيح صعودًا متتاليًا.. صعد إلى جبل التجربة، وصعد إلى جبل التجلي، وصعد إلى جبل الجلجثة، وصعد إلى جبل الصعود، ثم صعد إلى عرش الله.
ولكننا نراه صاعدًا وهو يحمل الصليب، مكللًا بالأشواك.. كما بجهاد الصوم والصلاة.
ونرى عروسه الكنيسة وهى تحمل صورته، كما رسمها في سفر النشيد وتغنى بها، "من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطّرة بالمُر واللبان وبكل أذرة التاجر" (نش3: 6).
هكذا تصير الكنيسة مثل صعيدة من البخور (أعمدة من دخان) معطرة بالصوم والصلاة (المر واللبان).. نراها طالعة من البرية مستندة على ذراع حبيبها (انظر نش8: 5) الذي صام عنها ويعطيها نعمة الصوم لتتحلى به كعروس "جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية" (نش6: 10).
ما أحلاك أيتها الكنيسة العروس، وأنت مشرقة بحب عريسك الحبيب..!!
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان

كانت الوصية الأولى للإنسان تحمل في مضمونها وصية صوم "لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشر" (انظر تك2: 16، 17، تك3) فالإنسان مكوّن من روح وجسد وليس هو جسدًا فقط..
وكما أن الجسد يحتاج إلى طعام لكي يحيا ويعيش، هكذا الروح أيضًا لها غذاء تحتاج إليه وتحيا به وهو كلام الله.
لهذا قال السيد المسيح للشيطان حينما طالبه قرب نهاية صومه بأن يحوّل الحجارة إلى خبز: "مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله" (لو4: 4).
لم يقل السيد المسيح "ليس بالخبز يحيا الإنسان" لأن هذا هو الواقع الطبيعي للإنسان.. بل قال: "ليس بالخبز وحده" أي أن هناك مصدرًا آخر لحياة الإنسان وهو الله.
الله الذي "به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع17: 28).
الله الذي تغتذي به وبالعشرة معه أرواحنا، وترتقي حتى تأكل طعام الملائكة الروحانيين.
الله الذي يحيينا بكلامه، وينير عقولنا "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63).
لهذا يقول المرنم "من كل قلبي طلبتك، فلا تبعدني عن وصاياك. أخفيت أقوالك في قلبي لكي لا أخطئ إليك"..
وقال أيضًا: "اذكر لعبدك كلامك الذي جعلتني عليه أتكل. هذا الذي عزاني في مذلتي. لأن قولك أحياني".. "خيرًا صنعت مع عبدك يا رب بحسب قولك، صلاحًا وأدبًا ومعرفة. علّمني فإني قد صدّقت وصاياك".. "ناموس فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة".. "الذين يخافونك يبصرونني ويفرحون، لأني بكلامك وثقت".. "تاقت نفسي إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت".. "يا رب كلمتك دائمة في السماوات إلى الأبد".. "لو لم تكن شريعتك تلاوتي لهلكت حينئذ في مذلتي. وإلى الدهر لا أنسى وصاياك، لأنك بها أحييتني، يا رب. لك أنا فخلصني. يا رب لأني لوصاياك طلبت".. "إن كلماتك حلوة في حلقي. أفضل من العسل والشهد في فمي".. "مصباح لرجلي كلامك، ونور لسبلي".. "يا رب أحيني كقولك".. "ورثت شهاداتك إلى الأبد، لأنها بهجة قلبي".. "أعضدني حسب قولك فأحيا".. "لأجل هذا أحببت وصاياك أفضل من الذهب والجوهر".. "فتحت فمي واجتذبت لي روحًا، لأني لوصاياك اشتقت".. "أضئ بوجهك على عبدك وعلّمني حقوقك".. "عادلة هي شهاداتك إلى الأبد، فهمني فأحيا".. "بحسب أحكامك أحيني".. "من أجل كلامك أحيني".. "أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة".. "توقعت خلاصك يا رب، ووصاياك حفظتها. حفظت نفسي شهاداتك وأحببتها جدًا".. "ككلمتك أحيني.. تفيض شفتاي السبح إذا ما علمتني حقوقك".. "لتكن يدك لخلاصي، لأنني اشتهيت وصاياك".. "تحيا نفسي وتسبحك، وأحكامك تعينني".. (المزمور118).
هذه بعض أجزاء من المزمور الكبير الذي يؤكد ويوضح بمعاني جلية أن كلام الله فيه حياة لنفس الإنسان مثل قوله "لأن قولك أحياني".. في هذا المزمور يتأكد للمصلى أهمية كلام الله بالنسبة له كمصدر لحياته، وكمصدر للمعونة والإنقاذ، وكمصدر للبهجة والرجاء والنصرة، وكمصدر لتذوق حلاوة العشرة مع الله، وكمصدر للثقة والاتكال على الله، وكمصدر للفهم والمعرفة، وكمصدر للنور الذي يضئ الطريق، وكمصدر للتسبيح الذي تنطق به النفس نحو الله بقوة كلمته العاملة فيها.
ليتنا ننتفع من كلمات هذا المزمور الذي رتبته الكنيسة في صلاة نصف الليل مع إنجيل العذارى المستعدات للقاء العريس.
مواجهة مع إبليس

في التجربة على الجبل استخدم إبليس وسيلتين لمحاولة معرفة حقيقة السيد المسيح من جهة ألوهيته.. ولكنه فشل إلى جوار هزيمته الواضحة أمام الرب المتجسد.
لم يكن من السهل على إبليس أن يفهم معنى إخلاء الذات بالنسبة للإله الكلمة الذي هو ابن الله الوحيد الجنس.
ولم يكن مفهومًا بالنسبة له أن يخفى الابن الوحيد مجده الإلهي، ولا أن يقدم طاعة للآب وهو المساوي للآب في المجد والكرامة والقدرة والعظمة والسلطان بسبب وحدانية الجوهر من حيث لاهوت السيد المسيح.
كانت مسألة التجسد محيّرة للشيطان.. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد" (1تى3: 16).
وقال أيضًا عن تدبير الخلاص بعد أن تم: "وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح. لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا" (أف 3: 9-11).
ولكن ينبغي أن نلاحظ أن الإنارة دائمًا تكون للمستقيمي القلوب والأفهام. فالمعرفة السليمة للأمور الإلهية ترتبط بالمحبة لأن "الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" (1يو4: 16).
هناك من يدرك قدرة الله ويخشاها ويرتعب منها ولكنه لا يفهم أعماق الله وأعماق محبته إلا بالروح القدس "لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله" (1كو2: 10، 11).
الوسيلة الأولى

كانت الوسيلة الأولى التي استخدمها إبليس لمحاولة معرفة حقيقة السيد المسيح هي أنه قال له عندما رآه جائعًا بعد صوم طويل لمدة أربعين نهارًا وأربعين ليلة "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت4: 3).
والواضح من العبارة التي قالها إبليس أنه كان يتساءل عن بنوة السيد المسيح لله من خلال الاستدلال بقدرته على استخدام قدرته الإلهية للخلاص من الجوع ومتاعب الجسد المنهك من الصيام الطويل.
ولكن السيد المسيح اتجه في إجابته إلى ما يخص إنسانيته وليس ما يخص لاهوته مستخدمًا آيات الكتاب المقدس إذ رد وقال: "مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4: 4).
كان الهدف من تساؤل إبليس هو أن يعلن السيد المسيح عن ألوهيته وبنوته لله. ولكن السيد المسيح أكّد إنسانيته وكيف أن الطبيعة الإنسانية يلزمها الغذاء الروحي للروح بكلام الله، كما يلزمها الغذاء الجسدي للجسد بتناول الخبز. وبهذا فشل إبليس في الوصول إلى هدفه الخبيث.
الوسيلة الثانية

وكانت الوسيلة الثانية التي استخدمها إبليس هي الاستفزاز بأسلوب غير لائق. ولكن السيد المسيح أضاع عليه الفرصة باتضاعه العجيب. في الوسيلة الأولى كان هناك نوع من التساؤل باحترام أما في الوسيلة الثانية فكانت هناك جسارة بالغة تكشف عن الكم الهائل من الوقاحة التي يتصف بها إبليس إذ أُتيحت له الفرصة بسماح من الله.
قال إبليس للسيد المسيح بعد ما أصعده على جبل عال وأراه جميع ممالك العالم ومجدها "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت4: 9).
هل هناك جسارة واستفزاز يفوق ذلك القول؟ ولكن السيد المسيح استمر في إخفاء حقيقة لاهوته عن الشيطان متوشحًا بالاتضاع الذي التحف به في مجيئه إلى العالم من أجل خلاص البشرية. أجاب السيد المسيح: "اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت4: 10)
لقد وضع السيد المسيح الوصية الإلهية المعطاة لبنى البشر في مواجهة استفزازات إبليس. ومع كون السيد المسيح هو ملك الملوك ورب الأرباب المسجود له من الملائكة والبشر ولكنه إذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان تكلّم عن واجب البشر في السجود لله وحده، ولم يتكلم عن السجود اللائق له هو شخصيًا. وهكذا استمر في إخفاء لاهوته عن الشيطان.
المسيح أقوى من الشيطان

قال السيد المسيح: "لا يستطيع أحد أن يدخل بيت قوى وينهب أمتعته إن لم يكن يربط القوى أولًا وحينئذ ينهب بيته" (مر3: 27). وقد دل السيد المسيح بهذا الكلام أنه أقوى من الشيطان بما لا يقاس، وهذا أحد أسباب التجسد الإلهي، إذ لم يكن ممكنًا لطبيعتنا البشرية أن تحقق الانتصار الساحق على الشيطان، إلا بتجسد الله الكلمة نفسه "الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل" (2تى1: 10).
ما أجمل رد قداسة البابا شنودة الثالث على السبتيين الأدفنتست الذين يدعون أن السيد المسيح قد ورث الميل إلى الخطية بوراثته للخطية الأصلية في ولادته من العذراء مريم، إذ قال قداسته (إن الميل للخطية لا يتفق مع لاهوت هذا المولود، فكيف يتحد اللاهوت مع جسد فيه ميل إلى الخطية؟! مستحيل) (مجلة الكرازة السنة الثلاثون العددان 13، 14 بتاريخ 29/3/2002).
إن الأدفنتست قد فاقوا في ضلالهم الكثير من الهراطقة لأن نسطور حينما نادى بنفس تعليم وراثة المسيح للخطية الأصلية والميل الطبيعي للخطية لم يكن يؤمن بأن الإنسان المولود من العذراء مريم هو هو نفسه الله الكلمة بالحقيقة مثلما يؤمن السبتيون الذين يجدّفون بذلك على الله.
لذلك ينبغي أن نحذر الشعب المسيحي في كل مكان من بدعة السبتيين الذين يقدسون يوم السبت مثل اليهود، وليس يوم الأحد الذي قام الرب فيه منتصرًا من الأموات.
إن نصرة قيامة السيد المسيح وأهميتها غائبة عن أذهانهم تمامًا مثلما غابت عن أذهانهم حتمية الانتصار في التجربة على الجبل.
دعاوى الأدفنتست السبتيين

يدعى الأدفنتست أن السيد المسيح قد حمل طبيعة بشرية فيها إمكانية الخضوع للخطية (The possibility of yielding to sin) ويستدلون على ذلك بواقعة التجربة على الجبل ويقولون إن التجربة على الجبل تصبح في حكم التمثيلية لو لم يكن احتمال سقوط المسيح واردًا فيها.
وهم في عقيدتهم الخاطئة هذه يرددون تعليم نسطور الذي قال إن يسوع المسيح قد قدّم على الصليب ذبيحة وكفارة عن نفسه وعن الآخرين لأن الله الكلمة قد اتخذ إنسانًا محتاجًا للخلاص مثل سائر البشر.
ونرد على هرطقة السبتيين فنقول لو كان السيد المسيح هو نفسه الله الكلمة الذي تجسد لأجل خلاصنا. فإن القول بإمكانية خضوعه للخطية بحسب طبيعته البشرية يكون تجديفًا خطيرًا ضد الله نفسه. لأن الله الكلمة حينما أخلى ذاته آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس قد قَبِل الموت والآلام بحسب الجسد لأجل خلاصنا، ولسبب أن يسوع المسيح هو نفسه الله الكلمة بالحقيقة، صار يُنسب إلى الله الكلمة الميلاد من العذراء والآلام والموت بحسب إنسانيته، دون أن ينُسب ذلك إليه بحسب ألوهيته. لكن الآلام والموت من الممكن قبولها كعمل من أعمال المحبة من قِبل أقنوم الله الكلمة المتجسد. أما أن ينسب إليه إمكانية الخضوع أو الميل للخطية فهو أمر مستحيل لأنه لا يحمل أي مجد بل يعتبر إهانة صريحة لأقنوم الله الكلمة المتجسد وتجديف على الله غير مقبول. وهذا يعنى أن السبتيين لا يؤمنون إيمانًا حقيقيًا أن يسوع الناصري هو الله الكلمة وليس آخر.
هناك فرق بين أن يخفى الله الكلمة مجده في التجسد، أو أن يحتمل الآلام إنسانيًا من أجل من أحبهم إلى المنتهى، وبين أن يصير معرَّضًا للخطية أو السقوط وهذا ليس في إطار أمجاد المحبة الباذلة.
لقد حمل السيد المسيح -وهو برئ- خطايا الآخرين وأوفى الدين عنها. ولكنه هو نفسه قد حمل طبيعة خالية تمامًا من أي نوع من نوازع الخطية. لهذا قال الملاك للعذراء عن ميلاد السيد المسيح منها: "فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو1: 35).
لا يمكن أن يفدى العالم إلا من كان خاليًا تمامًا من كل عيب، وخاليًا تمامًا من أي ميل نحو الخطية. ولا يمكن أن تتبارك طبيعتنا فيه إلا إذا كانت هذه الطبيعة التي اتحدت باللاهوت في التجسد هي طبيعة خالية تمامًا من كل نوازع الشر والخطية.
ولا يمكن أن يحدث اتحاد حقيقي، طبيعي وأقنومي بين اللاهوت والناسوت في المسيح إلا إذا كان الناسوت خاليًا تمامًا من كل ما يتعارض مع قداسة اللاهوت وصلاحه. إذ كيف يجتمع النور مع الظلمة؟!
لقد خاطب السيد المسيح أباه السماوي في ليلة آلامه قائلًا: "أنا مجدتك على الأرض.. والآن مجدّني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو17: 4، 5). لقد تمجّد الناسوت عند صعود السيد المسيح إلى السماء ودخوله إلى مجده بأمجاد اللاهوت وذلك لسبب الاتحاد التام والطبيعي بين اللاهوت والناسوت. لم يعد الناسوت يخفى مجد اللاهوت حينما تمجّد يسوع وجلس عن يمين الآب في السماوات.
أسباب التجربة

إن التجربة على الجبل لم تكن تمثيلية كما يدّعى السبتيون. ولكن السيد المسيح قد لقّن الشيطان درسًا لن ينساه حينما سمح له أن يجربه وهو في صورة الإنسان. أي أن السيد المسيح قد أعاد للإنسان هيبته وكرامته بانتصاره على الشيطان في التجربة على الجبل أولًا ثم بعد ذلك بصورة حاسمة في الصليب كما هو مكتوب "إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (أي في الصليب)" (كو2: 15).
لقد قدّس السيد المسيح الصوم بصومه مانحًا إياه قوة فائقة للطبيعة لهزيمة الشياطين. ولقد رسم السيد المسيح لنا مثالًا لنقتفى أثر خطواته ولنتشبه به في الصوم وفي الانتصار على الأرواح الشريرة.
كذلك أعطانا السيد المسيح دروسًا في الحرب الروحية وكيفية مجابهتها. فمثلًا حينما استخدم الشيطان آية من الكتاب المقدس، رد عليه السيد المسيح بآية من الكتاب المقدس أيضًا بقوله: "مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك" (مت4: 7). ونحن نرى اليوم كثير من النقاد وبعض الدارسين (Scholars) يستخدمون آيات الكتاب المقدس بطريقة خاطئة ضد العقائد السليمة والتسليم الرسولي. وينبغي علينا أن نرد عليهم بآيات من الكتاب. كذلك أعطانا السيد المسيح فكرة عن عدم استخدامه لسلطانه الإلهي من أجل إراحة جسده، وكذلك فكرة عن عدم استخدام أمجاد وسلطان الأرض من أجل نشر الكرازة بالإنجيل وعدم التنازل عن المبادئ في الخدمة مهما كان المقابل المادي.
لماذا التجربة؟

كان السيد المسيح "يقتاد بالروح في البرية، أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2) هل كان السيد المسيح يحتاج أن يختبر. أو أن يجرب؟!
وإذا كان يسوع المسيح هو الله الكلمة المتجسد فما فائدة التجربة؟!
أليس هو نفسه الرب الذي هو "غير مُجرَّب بالشرور، وهو لا يجرِّب أحدًا" (يع1: 13)؟
أليس هو الله الظاهر في الجسد، والذي هو بلا خطية وحده؟
كل هذه الأسئلة وكثير غيرها، قد يذكرها البعض متسائلًا: ما فائدة التجربة بالنسبة للسيد المسيح؟ لأنه من المعلوم مقدمًا أنه لابد أن ينجح في الاختبار حتميًا وبغير نقاش.
وقد يتساءل البعض عن ما هو مفهوم التجربة في الكتاب المقدس لأنها تَرِدْ أحيانًا بمعنى الآلام، وأحيانًا بمعنى محاربات الشيطان. وقد تأخذ محاربات الشيطان الآلام وسيلة لها في بعض الأحيان. وللإجابة على ذلك نقول:
أولًا: إن السيد المسيح قد جاء في الجسد، لينوب عن البشرية في أمرين أساسيين:
الأمر الأول: أن يغلب الشيطان في جسم بشريتنا لحساب الجنس البشرى، مقدمًا الصورة المثالية للإنسان في طاعته الكاملة لله الآب.
والأمر الثاني: أن يموت على الصليب نيابة عن الكل، ليوفى العدل الإلهي حقه بالكامل، ويكفّر بذلك عن خطايا جميع البشر الذين يقبلوه كفادٍ ومخلص.
لهذا كان ينبغي أن ينوب عنا في محاربة إبليس، وينتصر عليه لأجلنا.
ثانيًا: أن السيد المسيح أراد أن يخفى لاهوته عن الشيطان، ولهذا فقد سمح للشيطان أن يجربه مثل سائر البشر؛ في المجال المناسب وبدون أن يخطئ وبعد ذلك "لما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين" (لو4: 13).
وعبارة "إلى حين"تعنى أن الشيطان بعد هذه المعركة، قد ذهب ليستعد للمعركة الكبرى عند الجلجثة..
كان صوم السيد المسيح وتجربته على الجبل، هي المعركة التي أثارت إبليس، لكي يعلن الحرب القصوى ضد السيد المسيح. فهناك فرق بين معركة تقديم المغريات، وبين معركة توجيه الضربات.
على الجبل كان الشيطان يقدّم عروضًا اختيارية بدون ضغط.. أما في معركة الجلجثة الكبرى، فقد استعمل السوط، والمسمار، والأشواك، والآلام الرهيبة الجسدية والنفسية، والتعييرات. وجاء إبليس وهو يحمل معه سيف الموت مشهرًا بجسارة تتعجب أمامها الألباب!!
ولكن هوشع النبي قد تغنى مُلهَمًا بالروح القدس في القديم، وهو يرى بعين النبوة نتائج هذه المعركة "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (انظر هو13: 14، 1كو15: 55).
حينما. خرج مسيح الرب داود وهو شاب صغير لملاقاة جليات الجبار، أخذ السيف الذي كان بيد جليات وقطع رأسه بنفس هذا السيف.
وكان هذا رمزًا وإشارة إلى ما فعله السيد المسيح الذي أباد سلطان الموت بسيف الموت الذي كان إبليس يستخدمه ضد جميع البشر.
وقد شرح معلمنا بولس الرسول ذلك بقوله: "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب2: 14، 15).
وهكذا أيضًا تتغنى الكنيسة في لحن القيامة (بالموت داس الموت).
بعد التجربة على الجبل ذهب إبليس ليحشد كل قواه، وليتآمر بأقصى ما يستطيع على السيد المسيح. وكان الهدف هو موت المسيح، أو أن يهرب من الموت منهزمًا.
ولكن لم يكن ممكنًا للمعركة أن تبدأ على هذا المستوى الخطير، لولا أن السيد المسيح قد أخفى لاهوته عن الشيطان.
الصوم الأربعيني

وحتى على جبل التجربة، كان الصوم هو الوسيلة التي اجتذب السيد المسيح بها الشيطان لمحاربته.
اختار هو بنفسه ساحة المعركة؛ في البرية؛ ومع الصوم الكبير. الأمر الذي جذب انتباه الشيطان ليتساءل:
هل هذا موسى جديد يصوم أربعين يومًا على الجبل؟! أم إيليا آخر يصوم مثله؟! أم لعل هذا هو المسيح الذي تنبأ عنه موسى والأنبياء؟!!
وما العمل أمام من ترنمت الملائكة في يوم مولده بتسابيح لم يسبق لها مثيل؟!
ما سر أفراح الملائكة بهذه الصورة غير المسبوقة منذ سقوط الإنسان الأول؟!
وما سر هذا الميلاد العذراوي العجيب؟.. وكيف تحققت كثير من أقوال الأنبياء القديسين الذين هم منذ الدهر..؟!
وإن كان يسوع هو الله الظاهر في الجسد، فكيف ولد في المذود المتواضع بين الحيوانات..؟! وكيف هرب من بطش هيرودس الملك..؟! وكيف ذهب مع يوسف وأمه العذراء ليسكن في الناصرة، تفاديًا لغضب الملك الجديد ابن هيرودس..؟! وكيف عاش هذه السنوات حتى سن الثلاثين مثل إنسان عادى يعمل نجارًا بسيطًا..؟! ولماذا تقبل العماد في وسط التائبين من يوحنا في نهر الأردن؟!
كثير من الأسئلة أدخلت الشيطان في الحيرة.. ولم يفهم في كبريائه معنى أن السيد المسيح كلمة الله "إذ كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاسًا. لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت - موت الصليب" (فى2: 6-8).
لذلك صدق القديس بولس الرسول حينما قال: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى؛ الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16).
حقًا عظيم هو سر التقوى.. إنه سر عجيب، لم يفهمه الشيطان لسبب كبريائه.. ولن يفهمه..!!

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:00 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
المسيح في بداية خدمته

رجع بقوة الروح

بعد العماد والتجربة في البرية "رجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل، وخرج خبر عنه في جميع الكورة المحيطة، وكان يعلم في مجامعهم ممجدًا من الجميع" (لو4: 14، 15).
من المعلوم أن السيد المسيح هو كلمة الله الممجد مع الآب والروح القدس ولكنه إذ أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، فإنه "إذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه" (فى2: 8) ليقبل قيادة الروح القدس. وذلك كما حدث في خروجه إلى البرية "رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس. وكان يُقتاد بالروح في البرية" (لو4: 1).
بعد الأربعين يومًا التي قضاها في البرية منقادًا بالروح، هكذا أيضًا رجع بقوة الروح ليبدأ خدمته في الجليل.
ما هذا الاتضاع العجيب؟! إن قوة الروح القدس هى نفسها قوة الكلمة الأزلي، فالأقانيم متساوية في كل القدرات والصفات المختصة بالجوهر الإلهي الواحد.. ولكن السيد المسيح كان يحلو له أن ينسب القدرة للروح القدس، وأن ينسب العمل إلى الآب السماوي لأنه لم يحسب مساواته لله اختلاسًا، ولهذا أخلى ذاته وأخذ صورة عبد (انظر فى2: 6).
ولكننا نسمع الآب يشهد للسيد المسيح أنه هو ابنه الحبيب الذي سُرت به نفسه، كما نلاحظ كيف جاء الروح القدس ليشهد للسيد المسيح بعد صعوده إلى السماء.. هكذا كان ينبغي أن يمجد الابن الوحيد من الآب ومن الروح القدس، بعد أن أخلى ذاته لأجل خلاصنا.. إننا نتعبد في خشوع أمام الثالوث القدوس، ونحن نتفكر في هذا الحب الأزلي العجيب الذي بين الأقانيم المتساوية في الجوهر الإلهي الواحد.
يقول معلمنا بولس الرسول عن نتيجة طاعة السيد المسيح واتضاعه: "لذلكرفَّعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب" (فى2: 9-11).
فى مجمع الناصرة

أراد السيد المسيح في إخلائه لذاته، أن يبرز انقياده للروح القدس، ومسحه بالروح القدس فجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر إشعياء النبي. ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه "روح الرب علىَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفى المنكسري القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لو4: 18، 19، انظر أيضًا إش61: 1، 2).
"ثم طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم. وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه" (لو4: 20-22).

أراد السيد المسيح أن ينسب كل ما في خدمته من قوة وبركة وتأثير للآب وللروح القدس؛ فقال: "روح الرب علىّ لأنه مسحني لأُبشر المساكين.." (لو4: 18).
الابن الوحيد الحبيب هو الذي تجسد، وهو الذي تألم، وهو الذي قدّم ذاته ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا.. وها نحن نراه يُخفى نفسه ويقول: "روح الرب علىّ لأنه مسحني.. لأُنادى للمأسورين بالإطلاق.. وأكرز بسنة الرب المقبولة".
وها نحن أيضًا نسمعه ينادى الآب في اتضاع ويقول: "أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم.. الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم.. أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته" (يو17: 6، 8، 4).
لقد علّمنا السيد المسيح كيف يمكن أن نمارس الاتضاع من خلال المحبة. لأن الذي يحب حقًا يمكنه أن ينكر نفسه. لأن المحبة "لا تطلب ما لنفسها" (1كو13: 5)، بل إن المحبة الكاملة هي العطاء الكلى للذات.
هناك من الأسرار الروحية ما يقف العقل أمامها مبهورًا، مشدودًا نحو التأمل في سر الأبدية مع السيد المسيح وفي السيد المسيح، حيث نور معرفة الله الذي تخشع أمامه النفس، وتستر وجهها من بهاء عظمة مجده.
فى عرس قانا الجليل

كان هناك عرس في قانا الجليل، وكانت السيدة العذراء أم يسوع هناك.. ودعى أيضًا السيد المسيح وتلاميذه إلى العرس (انظر يو2: 1، 2).
كان السيد المسيح في بداية أيام خدمته، بعد عودته من الجبل بعد صومه الأربعيني المقدس، وقد وافق أن يقبل الدعوة لحضور العرس ومعه تلاميذه.. وهناك وبتوسط العذراء أمه، صنع أول معجزات خدمته أمام تلاميذه، إذ "لما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر" (يو2: 3)، فحوّل السيد المسيح الماء إلى خمر بناءً على طلبها. فكانت "هذه بداية الآيات فعلها يسوع.. وأظهر مجده فآمن به تلاميذه" (يو2: 11).
اختار السيد المسيح أن يبدأ معجزاته في وسط تلاميذه، بناء على طلب من السيدة العذراء، ليعلّمنا أن شفاعتها التوسلية لديه مقبولة في كل حين وفي مقدمة كل الشفاعات.
لم يكن السيد المسيح متعجلًا أن يصنع معجزات يظهر بها قوته الإلهية.. مع أن الفرصة كانت متاحة له لصنع معجزة. إلا أنه مكث في العرس دون أن يفعل شيئًا. حتى جاءت أمه القديسة فائقة الكرامة مريم، الشفيعة المؤتمنة على جنس البشر والمكرمة جدًا أكثر من الشاروبيم والسيرافيم.. جاءت ترجوه في حب وثقة أن يفعل شيئًا من أجل أصحاب العرس، الذين تورطوا في حرج شديد حينما فرغت الخمر (غير المسكرة) التي يقدمونها للمدعوين.
الخمر في الكتاب المقدس تشير إلى محبة الله كقول عروس النشيد "أدخلني إلى بيت الخمر، وعلمه فوقى محبة" (نش2: 4)،وهكذا دائماً تطلب العذراء من أجل فيض محبة الله أن يتجدد في أحشائنا بقوة شفاعتها غير المرفوضة.
كم هو جميل أن ندعو سيدنا يسوع المسيح ووالدته العذراء إلى عرس حياتنا حتى تتدفق فينا محبته بغزارة، وبحلاوة عجيبة.
قال السيد المسيح لأمه: "ما لي ولك يا امرأة" (يو2: 4) بمعنى أنه لا يمكن أن يرد طلب للعذراء الطاهرة المرأة التي أعادت اللقب الأول لحواء قبل السقوط "هذه تدعى امرأة لأنها من امرءٍ أخذت" (تك2: 23). لأنها آمنت وأطاعت وقبلت أن تصير أمًا لمخلص العالم. وترنمت بالروح القدس قائلة: "تبتهج روحي بالله مخلصي" (لو1: 47).
فهمت السيدة العذراء أن المخلص قد قبِل توسلها وطِلبتها، وأنه سوف يصنع المعجزة، مع أنه قال: "لم تأتِ ساعتي بعد" (يو2: 4)، فقالت للخدام: "مهما قال لكم فافعلوه" (يو2: 5).
وصنع يسوع المعجزة، وحوّل الماء إلى خمر شهد لها رئيس المتكأ. وقال الإنجيل عن هذه المعجزة "هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه" (يو2: 11).
في اتضاعه العجيب لم يفعل هذه الآية إلا بتوسل السيدة العذراء، ولهذا حسب أن ساعة صنعه للمعجزات لم تكن قد أتت بعد. وهكذا كان السيد المسيح دائمًا يحاول أن يخفى مجده، ولا يطلب مجدًا من الناس، بل يبحث عن خيرهم.
كان الحب هو دافعه.. في بحثه عن خراف بيت إسرائيل الضالة.. في سعيه من أجل خلاص البشرية.. في تعبه من أجل الخطاة.. "يجول يصنع خيرًا" (انظر أع10: 38) و"يشفى كل مرض وكل ضعف في الشعب" (مت 4: 23).
ولكن لماذا اختار أن يبدأ معجزات خدمته في عرس، وليس في أي مجال آخر؟
كانت علاقة الرب بالبشرية قد بدأت في الفردوس، حيث نشأت العائلة البشرية الأولى.. وكانت هذه العائلة الأولى من آدم وامرأته، هي الرمز الأول لعلاقة السيد المسيحبالكنيسة.
فمن المعلوم أن "الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضًا رأس الكنيسة" (أف5: 23) وقيل للرجال: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها.. مطهرًا إياها" (أف5: 25، 26).
وقال معلمنا بولس الرسول عن الزواج كصورة لارتباط السيد المسيح كعريس بكنيسته: "هذا السر عظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة" (أف5: 32).
وفى مَثل العذارى الذي يرمز إلى العرس السماوي قال السيد المسيح: "يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس.. ففي نصف الليل صار صراخ هوذا العريس مقبل، فاخرجن للقائه" (مت25: 1، 6).
ومعلمنا بولس الرسول يؤكّد هذه الحقيقة أن السيد المسيح هو عريس لكنيسته بقوله: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2).
لهذا اختار السيد المسيح أن يبدأ معجزاته التي أظهر بها مجده في وسط تلاميذه، في عرس قانا الجليل، وفي حضور العروس الحقيقية رمز الكنيسة كلها، وأم جميع القديسين، العذراء والدة الإله.
إن المعجزة الحقيقية التي صنعها السيد المسيح، هي أنه أعاد العائلة البشرية مرة أخرى إلى الفردوس.
وهكذا جاءت هذه الصورة الجميلة، المسيح والكنيسة في عرس.
وكانت الكنيسة ممثلة في العذراء مريم الشفيعة المؤتمنة أمام ربنا يسوع المسيح، وفي تلاميذه الذين أبصروا مجده المعجزي الخالق في ذلك العرس الممتلئ فرحًا.
عصير الكرمة

ارتبط عصير الكرمة المختمر بالعرس ارتباطًا وثيقًا. إن السيد المسيح هو الكرمة الحقيقية كما قال لتلاميذه.
وفى العشاء الأخير قال لتلاميذه: "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم" (لو22: 15). "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبى" (مت26: 29).
إن الكرمة تذكّرنا بالفردوس الذي فقدناه بالخطية التي أسكرتنا زمنًا طويلًا.
وجاء السيد المسيح لكي يسقينا من خمر محبته، كقول عروس النشيد: "أدخلني إلى بيت الخمر وعلمه فوقى محبة" (نش2: 4). وقولها أيضًا: "نذكر حبك أكثر من الخمر" (نش1: 4).
في سر الافخارستيا يكون السيد المسيح حاضرًا في الكنيسة في وسطنا، بجسده ودمه الأقدسين، يسقينا من عصير محبته ويمنحنا الحياة.
هذا عشا العريس قُدم للعروس والوعد بالفردوس لحافظ العهد
إن الإفخارستيا هي العرس الدائم الذي تحيا به الكنيسة في غربتها الحالية، إلى أن تتمتع بشركة الحياة الأبدية مع السيد المسيح في ملكوت السماوات، حيث العرس الأبدي الذي لا توصف حلاوته الحقيقية.
في عرس قانا الجليل جاءت الخمر الجيدة الحلوة التي صنعها السيد المسيح في نهاية العرس. لكي نفهم أن حلاوة الحياة مع السيد المسيح سوف نتذوقها بما لا يقاس عند استعلان ملكوت السماوات.
الرب الخالق

ارتبط عرس قانا الجليل بمعجزة خلق واضحة.. حيث خلق السيد المسيح من الماء خمرًا حقيقية حلوة المذاق، قال عنها رئيس المتكأ إنها الخمر الجيدة.
فهذا العرس يذكرنا بالفردوس، حيث خلق السيد المسيح أبوينا الأولين على صورة الله ومثاله.
وفى العرس كان هناك ستة أجران يسع كل جرن مطرين أو ثلاثة. وقد أمر السيد المسيح الخدام أن يملأوها بماء إلى فوق ففعلوا هكذا.
وقد حوّل السيد المسيح الماء الذي في الأجران إلى خمر جيدة، بمجرد أن أراد ذلك في نفسه، وقال للخدام: "استقوا الآن، وقدّموا إلى رئيس المتَّكأ، فقدّموا.." (يو2: 8).
هذه الأجران الستة تذكّرنا بأيام الخليقة الستة.. لأن الرب صنع العالم والمخلوقات التي فيه في ستة أيام واستراح في اليوم السابع.
وقد خلق الرب الإنسان في اليوم السادس، كما أنه قد صُلب على الصليب في اليوم السادس من الأسبوع، وفي وقت الساعة السادسة.
الرقم ستة دائمًا في الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل، وإلى عمل السيد المسيح في خلق الإنسان وفي خلاصه من الخطية.
وها هو الرب الخالق يعود ليبدأ مع الإنسان من جديد لأنه "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدًا" (2كو5: 17).
ولكن هذا الجديد في حياتنا مع الله، ليس هو الجديد، بل هو الأصيل.. هو الأقدم والأعمق من العتيق. لأن الأصل هو في شركة الحياة الفردوسية مع الله.
مقصود بالأشياء العتيقة أي الخطايا والشرور التي دخلت إلى حياة الإنسان.. ولكن ما هو أقدم وأعتق، هو العلاقة المقدسة مع الله التي بدأت مع خلق الإنسان..
لهذا صنع الرب في الأجران خمرًا جديدة، أطيب من العتيقة.. أعتق في طعمها بكثير.. أليس هذا ما عبّر عنه القديس أغسطينوس في مناجاته عن الله ومحبته:
]آه.. تأخرت كثيرًا في حبك أيها الجمال الفائق في القدم والدائم جديدًا إلى الأبد[.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:02 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
المسيح في صنعه المعجزات

لم يصنع السيد المسيح المعجزات ليتباهي بها، ولا ليأخذ مجدًا من الناس، بل على العكس كثيرًا ما أوصى الذين شفاهم أن لا يخبروا أحدًا بما صنعه معهم. وهذه بعض الأمثلة:


1- واقعة شفاء الرجل الأبرص

يحكى لنا إنجيل معلمنا مرقس عنها "فأتى إليه أبرص يطلب إليه جاثيًا وقائلًا له إن أردت تقدر أن تطهرني. فتحنن يسوع ومد يده ولمسه وقال له أريد فاطهر. فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص وطهر. فانتهره وأرسله للوقت وقال له انظر لا تقل لأحد شيئًا. بل اذهب أرِ نفسك للكاهن، وقدّم عن تطهيرك ما أمر به موسى شهادة لهم. وأما هو فخرج وابتدأ ينادى كثيرًا ويذيع الخبر، حتى لم يعد يقدر أن يدخل مدينة ظاهرًا، بل كان خارجًا في مواضع خالية. وكانوا يأتون إليه من كل ناحية" (مر1: 40-45). وعن نفس المعجزة كتب القديس لوقا الإنجيلي.
من هذه المعجزة وملابساتها يتضح ما يلي:
* إن السيد المسيح قد صنع المعجزة بدافع من حنانه وإشفاقه على هذا الأبرص "فتحنن يسوع".
* إن السيد المسيح قد حاول مع الأبرص لكي لا يقول لأحد شيئًا، فلا يظهر المعجزة لعامة الناس.
* إنه حينما وجد أن الأبرص قد أذاع الخبر كثيرًا، وتقاطرت عليه الجموع، بدأ يختفي ويعتزل في البراري ويصلى، ولا يدخل إلى مدينة ظاهرًا.
هكذا يعلمنا السيد المسيح بمثاله الصالح أن نهرب من طلب مجد الناس، صانعين مشيئة الله من القلب وأن من يهرب من الكرامة تجرى خلفه، وترشد جميع الناس إليه.
2- إقامة ابنة يايرس من الموت

يقول معلمنا لوقا الإنجيلي: "فلما جاء إلى البيت لم يدع أحدًا يدخل إلا بطرس ويعقوب ويوحنا وأبا الصبية وأمها. وكان الجميع يبكون عليها ويلطمون. فقال لا تبكوا. لم تمت لكنها نائمة. فضحكوا عليه عارفين أنها ماتت. فأخرج الجميع خارجًا وأمسك بيدها ونادى قائلًا: يا صبية قومي. فرجعت روحها وقامت في الحال. فأمر أن تُعطى لتأكل. فبُهت والداها. فأوصاهما أن لا يقولا لأحد عما كان" (لو8: 51-56).

وعن نفس المعجزة يقول القديس متى الإنجيلي: "فخرج ذلك الخبر إلى تلك الأرض كلها" (مت9: 26).
في هذه المعجزة ترى السيد المسيح يصنع الأمور التالية:
أولًا: منع الجموع التي كانت تسير خلفه من الدخول إلى موضع المعجزة.
ثانيًا: لم يأخذ من التلاميذ إلى الداخل إلا بطرس ويعقوب ويوحنا، الذين أخذهم معه على جبل التجلي، وفي بستان جثسيماني وهو يجاهد في الصلاة، ليكونوا شهودًا بعد قيامته من الأموات على هذه الأمور (انظرمت17: 9).
ثالثًا: أخرج جميع الأهل والزوار والمعزين خارجًا، ولم يستبقِ سوى والد الصبية وأمها.
رابعًا: أنه أوصى الذين شاهدوا المعجزة وقت حدوثها، أن لا يقولوا لأحد عما كان.
وبالرغم من كل ما فعل السيد المسيح لإخفاء المعجزة، إلا أن الخبر قد خرج إلى تلك الأرض كلها، لأنه "لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضئ لجميع الذين في البيت" (مت5: 14، 15).
3- شفاء الأعميان

عن هذه المعجزة يقول معلمنا متى البشير:
"وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان: ارحمنا يا ابن داود. ولما جاء إلى البيت تقدم إليه الأعميان. فقال لهما يسوع: أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟ قالا له: نعم يا سيد. حينئذ لمس أعينهما قائلًا: بحسب إيمانكما ليكن لكما. فانفتحت أعينهما. فانتهرهما يسوع قائلًا: انظرا لا يعلم أحد. ولكنهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها" (مت9: 27-31).
لم يقدّم السيد المسيح الشفاء لهذين الأعميين بمجرد أن طلبا ذلك، بل ظل ساكتًا وهو يسير في الطريق نحو البيت، بالرغم من صراخهما "ارحمنا يا ابن داود". ولما جاء إلى البيت تقدما إليه فسألهما عن إيمانهما، فأجابا بالإيجاب.
* كان السيد المسيح يرغب في إظهار إيمان هذين الرجلين، فتمهل عليهما في الاستجابة.

* كما إنه لم يرغب في أن يصنع المعجزة علنًا في الطريق، فسار نحو البيت وهما يتبعانه.
* إلى جوار ذلك أوصاهما السيد المسيح بشدة أن لا يعلم أحد.
* ولكنهما خرجا وأشاعا خبر المعجزة في تلك الأرض كلها.
4- شفاء مريض بيت حسدا

عندما سأل السيد المسيح الرجل المفلوج الذي مكث بجوار بِركة مياه بيت حسدا لمدة ثماني وثلاثين سنة، قائلًا: "أتريد أن تبرأ"؟ (يو5: 6).. قال له المفلوج: "يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء. بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامى آخر" (يو5: 7).
ليس لي إنسان

في هذه البِركة للمياه ذات الخمسة أروقة "كان مضطجعًا جمهور كثير من مرضى وعمى وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء، لأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البِركة ويحرك الماء. فمن نزل أولًا بعد تحريك الماء، كان يبرأ من أي مرض اعتراه" (يو5: 3، 4).
كان حال الرجل المفلوج بجوار هذه البِركة ذات الخمسة أروقة، يمثل حال البشرية التي انتظرت مجيء المخلّص أكثر من خمسة آلاف عام، وقد أعطيت شريعة موسى ذات الخمسة أسفار والتي لم تتمكن من تخليص البشرية مما هي فيه من فساد طبيعتها، ومن الموت الذي نتج عن دخول الخطية إلى العالم.
في مدة انتظار البشرية، كان الرب يرسل أنبياء بين الحين والآخر لتنبيه البشرية إلى الخلاص، الذي كان الرب مزمعًا أن يصنعه في ملء الزمان، وقد تنبأوا عن مجيء المخلص،ولكن لم يتمكن أحد منهم من تخليص البشرية من عجزها الروحي، ومن حالة الموت التي سيطرت عليها منذ سقوط أبوينا الأولين.
كانت هناك ومضات من السماء عبر الأجيال، عبّر عنها نزول الملاك أحيانًا لتحريك المياه في البركة. ولكن هذه الومضات كانت لتذكير البشرية بأن الخلاص سوف يتم بمجيء المخلّص.
وها هو المخلّص قد أتى ووقف إلى جوار الرجل المفلوج يسأله "أتريد أن تبرأ؟" أجابه المريض يا سيد "ليس لي إنسان".
لعل رد الرجل المريض يذكّرنا بما ورد في سفر إشعياء عن حال البشرية إذ قال: "ننتظر عدلًا وليس هو. وخلاصًا فيبتعد عنّا. لأن معاصينا كثرت أمامك، وخطايانا تشهد علينا، لأن معاصينا معنا وآثامنا نعرفها.. وقد ارتد الحق إلى الوراء، والعدل يقف بعيدًا.. فرأى الرب وساء في عينيه أنه ليس عدل. فرأى أنه ليس إنسان وتحيّر من أنه ليس شفيع. فخلّصت ذراعه لنفسه وبره هو عَضَدَهُ. فلبس البر كدرع وخوذة الخلاص على رأسه" (إش59: 12،11، 14-17).
كما قال المريض: "ليس لي إنسان"هكذا رأى الرب أنه "ليس إنسان".. أي لا يوجد إنسان يستطيع أن يتمم الفداء ويخلّص البشرية. ولذلك يقول: "رأى (الرب) أنه ليس إنسان، وتحيّر من أنه ليس شفيع، فخلَّصت ذراعه لنفسه وبره هو عضّده" (إش59: 16).
كان من الضروري أن يقوم الرب هو نفسه بالخلاص، لأنه لا يقدر أحد أن يتمم الفداء إلا الرب نفسه. لذلك يكمّل قائلًا: "فخلّصت ذراعه لنفسه.. فلبس البر كدرع، وخوذة الخلاص على رأسه"
صار الرب الله هو نفسه المخلص.. لهذا قال الإنجيل "وكان الكلمة الله.. والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقًا" (يو1: 1، 14).
صار لي خلاصًا

عن هذا تغنى إشعياء النبي قائلًا: "هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصًا. فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" (إش12: 2، 3).
لقد صار يهوه نفسه هو الخلاص، لأنه تجسد وهو المخلص. هو الكاهن، وهو الذبيحة. هو الحمل، وهو الراعي. هو الهيكل، وهو القربان.
وتغنت العذراء مريم قائلة: "تبتهج روحي بالله مخلصي" (لو1: 47).
وقيل عن السيد المسيح في ميلاده "وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21). وكلمة "يسوع" معناها "يهوه خلّص".

الكلمة الذي له نفس جوهر الآب، هو الذي تجسد وصنع الفداء. فالله يهوه هو المخلّص. لأن الكلمة من حيث جوهره هو يهوه، ومن حيث أقنومه هو الابن المولود من الآب، الذي هو يهوه أيضًا من حيث الجوهر.
وقد قال الرب صراحة في إشعياء النبي: "أنا أنا الرب وليس غيري مخلّص.. وأنتم شهودي يقول الرب وأنا الله" (إش43: 11، 12).
ما أعجب محبتك يا رب لأنك إذ لم تجد من يمكنه خلاص البشرية، أرسلت ابنك الوحيد ليولد متجسدًا من العذراء مريم، وإذ صار إنسانًا مثلنا بلا خطية، يقوم هو نفسه بإتمام الفداء، يقدّم نفسه كشفيع ويموت نيابةً عن الكل. ويقيمنا معه بانتصاره على الموت.. وبهذا صار الرب نفسه هو المخلص، وخلّصت ذراعه لنفسه وبره هو عضَدّه.
قم احمل سريرك وامشِ

قال الرب للمفلوج: "قم احمل سريرك وامش" (يو5: 8). بعد أن كانت الروح عاجزة عن الحركة. ترقد في فراش الجسد، بكلمة الله صار لها القدرة أن تحمل الجسد، وتتحرك به بملء الصحة الروحية.
صارت الروح قادرة أن تقود الجسد، لأنها تنقاد بروح الله، وتتقوى بنعمة الروح القدس.
لم يعد الجسد هو موضع ترقد الروح فيه عاجزة عن الحركة نحو حياة الأبد، بل صارت الروح قادرة أن تقود الجسد وأن تحمله إلى بيت الآب.
ما أجمل هذه الكلمة "قم". سوف يسمعها كل من آمن وتمتع بالخلاص.. حينما ينادى ابن الله الذين رقدوا ليقوموا بأجساد روحانية ويرثوا الحياة الأبدية. إذا قال الرب للإنسان "قم" فسوف يقوم حتمًا.. إنها كلمة الرب القادرة الحية إلى الأبد.
5- شفاء الأعمى

قال هذا النداء الرجل الأعمى الذي كان جالسًا يستعطى على الطريق المؤدى إلى أريحا بقرب أريحا "فلما سمع الجمع مجتازًا، سأل ما عسى أن يكون هذا؟ فأخبروه أن يسوع الناصري مجتاز. فصرخ قائلًا: يا يسوع ابن داود ارحمني. فانتهره المتقدمون ليسكت، أما هو فصرخ أكثر كثيرًا: يا ابن داود ارحمني. فوقف يسوع وأمر أن يُقدّم إليه. ولما اقترب سأله قائلًا: ماذا تريد منى أفعل بك؟ فقال: يا سيد أن أبصر. فقال له يسوع: أبصر، إيمانك قد شفاك. وفي الحال أبصر، وتبعه وهو يمجد الله. وجميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله" (لو18: 36-43).
إن طلب الرحمة بلجاجة، وبصراخ من الأعماق من السيد المسيح يجلب للإنسان كثير من المراحم الإلهية.
إن اللجاجة في الطلب والصراخ من عمق القلب هي دليل على قوة الإيمان بالمسيح.
وبالرغم من المعوقات المحيطة بهذا الرجل الأعمى إلا أنه قد وصل إلى غايته وتغلب على كل الصعوبات.
أولًا: تغلّب على مشكلة عدم قدرته على الإبصار بأن سأل من حوله "ما عسى أن يكون هذا؟"وذلك عندما شعر بالجمع مجتازًا.
ثانيًا: تغلّب على مشكلة عدم قدرته على الاتجاه نحو السيد المسيح لأنه لا يبصر طريقه بأن صرخ قائلًا: "يا يسوع ابن داود ارحمني".
ثالثًا: تغلّب على التذمر لإصابته بالعمى بالثقة في مراحم الرب الجزيلة.
رابعًا: تغلّب على مشكلة انتهار المتقدمون من الجمع الذين حاولوا أن يمنعوه من الصراخ طالبًا رحمة السيد المسيح بأن أصر على طلب الرحمة وصرخ أكثر كثيرًا "يا ابن داود ارحمني".
خامسًا: لم يثنه عن طلب الرحمة سؤال السيد المسيح له "ماذا تريد أن أفعل لك؟" بل أجابه لوقته "يا سيد أن أبصر". فالسيد المسيح يريدنا أن نحدد احتياجنا وطلباتنا منه. لا يكفى أن نطلب الرحمة بل ينبغي أن يكون لنا هدف واضح في صلاتنا.
وقد شهد السيد المسيح لإيمان هذا الرجل الذي استمر في الطلبة واثقًا من الاستجابة. ألم يقل السيد المسيح: "كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم" (مر11: 24).
لقد قاسى هذا الأعمى في حياته واضطر أن يتسول بأن يطلب عطايا من الناس لأنه لا يستطيع أن يكسب قوته لإصابته بالعمى. وهو لم يتذمر على الله الذي سمح له بهذه الضيقة وهذه المذلة بل صرخ نحو السيد المسيح طالبًا الرحمة في ثقة وإيمان.
هناك أناس تبعدهم الضيقات عن الله فيتذمرون عليه قائلين لماذا يسمح الله لنا بالذل والهوان والمشقة والتعب. أما المؤمنون فإن الضيقة تعتبر مجالًا يلتقون فيه مع الله ويقتربون منه.
لقد أوقف صراخ هذا الأعمى السيد المسيح الذي أمر أن يقدم إليه. ولما اقترب سأله قائلًا: "ماذا تريد أن أفعل بك؟". وهنا نرى كيف أمر السيد المسيح بأن يقترب إليه هذا الأعمى لكي يمنحه الشفاء.
وقد صار هذا الأعمى تلميذًا للسيد المسيح لأنه مكتوب أنه "أبصر وتبعه وهو يمجد الله". لقد امتلأ فمه فرحًا وتسبيحًا وتمجيدًا وصار شاهدًا لعمل الرب في حياته. وبسببه "جميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله" (لو18: 43). ما أجمل هذه الأنشودة في حياة الإنسان أن يتمجد من خلال الضيقات التي يحتملها بإيمان. وما أجمل أن ننادى اسم يسوع الرب في كل حين من عمق القلب.
إن صلاة (يا ربى يسوع المسيح ارحمني -يا ربى يسوع المسيح أعنى - يا ربى يسوع المسيح خلصني) هي من أقوى الصلوات فاعلية في الحروب الروحية ضد الشياطين. لأن مجرد ذكر اسم الرب يسوع المسيح ترتعب منه جيوش الشياطين.
لهذا ففي إبصالية يوم السبت من كل أسبوع تسبح الكنيسة (اسمك حلو ومبارك في أفواه قديسيك: يا ربى يسوع المسيح مخلصي الصالح - كل أحد يباركك السمائيون والأرضيون: يا ربى يسوع المسيح مخلصي الصالح - سبع مرات كل يوم أبارك اسمك القدوس: يا ربى يسوع المسيح مخلصي الصالح.. الخ).
إن اسم يسوع في اللغة العبرية هو "يهوشع" أي "يهوه خلّص" بمعنى "الله خلّص" لهذا قال القديس بطرس الرسول لرؤساء اليهود بعد شفاء الرجل المفلوج: "فليكن معلومًا عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل، أنه باسم يسوع المسيح الناصري، الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحًا.. وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص" (أع4: 10، 12).
إن اسم يسوع يحمل قوة الله للخلاص ولا يوجد اسم في الوجود له فاعلية الخلاص مثله بالنسبة للبشر. لذلك صرخ الأعمى نحو السيد المسيح قائلًا: "يا يسوع ابن داود ارحمني".
فلنردد هذا الاسم من عمق قلوبنا ولا نكف عن ترديده بكل الثقة والإيمان ويصرخ كل منا قائلًا (يا ربى يسوع المسيح ارحمني).
وهكذا نرى من الأمثلة الخمسة السابقة وغيرها كثير، إن السيد المسيح كان يميل دائمًا إلى إخفاء ما يصنعه من المعجزات. وبالفعل أمكن إخفاء بعضها إلى ما بعد قيامته من الأموات، كما سوف نرى في معجزة التجلي، التي لم يبصرها سوى بعض من تلاميذه الاثني عشر.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:04 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
المسيح في هروبه من الجموع ومحبته للاختلاء

كان السيد المسيح يعمل من أجل خير الناس وخلاصهم وراحتهم وشفائهم، ولكن لم يكن إعجاب الجموع به يجتذبه نحوهم على الإطلاق..
كانت محبته هي التي تدفعه لأن يعمل في وسط الجموع، وليس طلبًا لمجد الناس. فالمحبة دائمًا تريد أن تعطى.. حتى إنها تبذل نفسها من أجل الآخرين.
وقد أبرزت الأناجيل المقدسة هذا الأمر بوضوح في عديد من المواقف. ومن أمثلتها ما يلي:
1- في اختلائه وصلاته

بعدما "أخرج شياطين كثيرة، ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه" (مر1: 34). يذكر معلمنا مرقس الواقعة التالية:
"وفى الصبح باكرًا جدًا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلى هناك. فتبعه سمعان والذين معه. ولما وجدوه قالوا له إن الجميع يطلبونك. فقال لهم: لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضًا لأني لهذا خرجت. فكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل، ويخرج الشياطين" (مر1: 35-39).
* كان السيد المسيح يتوقع أن تأتى الجموع إليه بغزارة شديدة بعد أن صنع كثير من المعجزات، وأخرج شياطين كثيرة، وهو الأمر الذي لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء الذين صنعوا معجزات منذ القديم، إذ لم يكن لأحد سلطان على الشيطان مثل هذا السلطان العجيب.
وقبل أن تحضر هذه الجموع قام باكرًا جدًا في الصباح، ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلى هناك..
* تُرى ماذا كان يقول للآب السماوي في صلاته هذه؟ لعله كان يكلمه عن "شقاء المساكين وتنهد البائسين" (مز11: 5) الذين تسلط عليهم إبليس، ورغبته الحارة في خلاصهم.. أو لعله كان يشكره من أجل محبته الأبوية الفياضة، التي حررت كثيرًا من البشر من سلطان الشيطان، والتي أكدّت أن ملكوت الله قد أقبل..
هذه المناجاة الممتلئة من الحب المتبادل بين الآب والابن؛ وهذا الاتضاع الذي سلك فيه الابن الوحيد، حينما أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، وهذه الطاعة العجيبة التي قدّمها السيد المسيح لأبيه السماوي.. لاشك أنها قد أسعدت قلب الآب القدوس. إنها علاقة الثقة والحب بين الله والإنسان، التي حققها الكلمة المتجسد في علاقته بالآب (باركت طبيعتي فيك، أكملت ناموسك عنى..( القداس الغريغوري.
كان يحلو للسيد المسيح أن يخلو مع الآب، ليتكلّم معه، حديث من يصنع للآب كل مشيئته. وقد علّمنا السيد المسيح بمثاله الصالح أهمية الخلوة والصلاة والحديث مع الله. فالصلاة هي التي تجعلنا نفهم مشيئة الله في حياتنا. وهى فرصة للتعبير عن حبنا وشكرنا لأبينا السماوي. كما إنها فرصة لتسبيحه وتمجيد اسمه "ليتقدس اسمك" (الصلاة الربانية).

كانت الصلاة بالنسبة للسيد المسيح هي فرصة لتأكيد دور الآب السماوي في إرسالية الابن الوحيد، ولتأكيد الوحدة الجوهرية القائمة بين أقانيم الثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس.
* حينما وصلت الجموع وبحثوا عن السيد المسيح ولم يجدوه، سألوا عنه تلاميذه. وهؤلاء بدورهم بحثوا عنه حتى وجدوه في خلوته المقدسة. فقالوا له: "إن الجميع يطلبونك" (مر1: 37).
كان إحساس التلاميذ بأهمية الجموع مختلفًا عن إحساس السيد المسيح.. وكانت نظرتهم للموضوع، في ذلك الوقت، تختلف عن نظرته.
فأجابهم: "لنذهب إلى القرى المجاورة"..
لم يكن للجماهير تأثير ولا جاذبية تعطل قصد الآب السماوي في إرسالية السيد المسيح. ولهذا قال: "لنذهب إلى القرى المجاورة لأني لهذا خرجت"..
لقد خرج من عند الآب وأتى إلى العالم، وأيضًا يترك العالم ويمضى إلى الآب.. وكانت الإرسالية قصيرة في مدتها، عميقة في تأثيرها..
ولم يكن العالم قادرًا أن يجتذب السيد المسيح نحوه ليبقى فيه، بل كان مشتاقًا أن يمضى إلى الآب، وكان العمل كبيرًا متسعًا للكرازة بالتوبة وباقتراب ملكوت الله..
وكان السيد المسيح يرى الصليب ماثلًا أمام عينيه باستمرار، كطريق نحو السماء،وهو الذي قال لتلاميذه بعد قيامته "كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده" (لو24: 26).
وفى سعيه نحو الصليب، لم يكن هناك متسع من الوقت للانشغال بالجموع وإعجابها، كما لم يكن هناك متسع في القلب لمثل هذه الأمور.. بل كان القلب ساعيًا مثبتًا نحو الجلجثة.
وبالفعل ترك السيد المسيح ذلك الموضع إلى القرى المجاورة، وكان يكرز في مجامعهم ويخرج الشياطين.
2- في اختلائه مع التلاميذ ليستريحوا

يذكر أيضًا معلمنا مرقس الإنجيلي الواقعة التالية:
"واجتمع الرسل إلى يسوع، وأخبروه بكل شيء، كل ما فعلوا وكل ما علموا، فقال لهم تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلًا. لأن القادمين والذاهبين كانوا كثيرين. ولم تتيسر لهم فرصة للأكل. فمضوا في السفينة إلى موضع خلاء منفردين" (مر6: 30-32).
وكان السيد المسيح يُقدِّر أهمية الراحة والخلوة بالنسبة لتلاميذه، وفي فترات الاختلاء بهم كان يحدثهم أحاديثًا خاصة، ويشرح ويفسّر لهم الكثير من تعاليمه. كما أنه قد اختارهم ليكونوا معه ليتتلمذوا على يديه، ويتمثلوا به، وبمحبته، ووداعته، وصفاته الجميلة التي كانوا هم في أشد الاحتياج إليها. كان السيد المسيح يعلمهم بأفعاله أكثر مما يعلمهم بأقواله.
وما حدث بعد ذلك أن "رآهم الجموع منطلقين، وعرفه كثيرون، فتراكضوا إلى هناك من جميع المدن مشاة وسبقوهم واجتمعوا إليه. فلما خرج يسوع رأى جمعًا كثيرًا فتحنن عليهم، إذ كانوا كخراف لا راعي لها" (مر6: 33، 34).
ضحى يسوع براحته بدافع من حنانه. ولكنه كان يميل إلى الاختلاء مع تلاميذه، بعيدًا عن الجموع، التي كانت تلاحقه وهو لم يكن يمنع محبته عنها، ويعلم تلاميذه باستمرار، كيف أن المحبة لا تطلب ما لنفسها.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:06 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
المسيح في إخفائه لاهوته

قد يخفى القديسون فضائلهم الروحية، بدافع الاتضاع، ولكن قدوس القديسين أخفى لاهوته في مناسبات كثيرة. ولكن بالطريقة التي لا تتعارض مع الإيمان به، باعتباره المخلّص الحقيقي القادر على هزيمة الموت..
إثبات السيد المسيح لألوهيته لم يحدث إطلاقًا بدافع الافتخار بالنفس، أو حب الظهور، أو طلب المجد من الآخرين. بل سمح به الرب لإتمام رسالة الفداء والخلاص وغفران الخطايا وتأسيس الكنيسة المقدسة.
وقد احتارت الشياطين في أمر السيد المسيح؛ الذي كان يخفى لاهوته عن الشيطان.. ولم يكن الشيطان قادرًا أن يفهم معنى التواضع وإخلاء الذات. وبالاتضاع هزم السيد المسيح إبليس بكل فطنة وحكمة روحية كقول معلمنا بولس الرسول: "الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة" (أف1: 7، 8).
تعالوا بنا لنرى كيف كان السيد المسيح يخفى لاهوته في مواضع كثيرة:
1- في إخراجه للشياطين

يذكر إنجيل معلمنا مرقس الوقائع التالية:
بعد أن "انصرف يسوع مع تلاميذه إلى البحر، وتبعه جمع كثير من الجليل، ومن اليهودية، ومن أورشليم، ومن أدومية، ومن عبر الأردن، والذين حول صور وصيداء، جمع كثير إذ سمعوا كم صنع (من المعجزات والأعمال الممتلئة حبًا) أتوا إليه.. لأنه كان قد شفى كثيرين، حتى وقع عليه ليلمسه كل من فيه داء. والأرواح النجسة حينما نظرته خرّت له وصرخت قائلة إنك أنت ابن الله. وأوصاهم كثيرًا أن لا يظهروه" (مر3: 7-12).
لم يكن السيد المسيح يرغب في الإعلان عن نفسه بهذه الطريقة، كما إنه لا يقبل شهادة إبليس عنه وعن بنوته للآب السماوي. وقد حيّر السيد المسيح الشياطين برفضه لشهادتهم عن بنوته لله.. لأن الشيطان لا يفهم الاتضاع.
كان الشيطان يتخبط في معرفته عن السيد المسيح. فتارة يقول له: "إن كنت ابن الله" (لو4: 3). وتارة يقول: "إنك أنت ابن الله" (مر3: 11).
عبارة "أوصاهم كثيرًا أن لا يظهروه" تؤكد كيف حاول السيد المسيح أن يخفى لاهوته، كما أنه في مناسبات كثيرة كان يتعمد إثبات حقيقة إنسانيته وتجسده.
ويذكر إنجيل معلمنا لوقا الأمور التالية:

حينما ذهب السيد المسيح إلى كفر ناحوم "وكان في المجمع رجل به روح شيطان نجس، فصرخ بصوت عظيم قائلًا: آه مالنا ولك يا يسوع الناصري. أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك من أنت قدوس الله. فانتهره يسوع قائلًا اخرس واخرج منه. فصرعه الشيطان في الوسط وخرج منه ولم يضره شيئًا" (لو4: 33-35).
ويلاحظ هنا أيضًا أن السيد المسيح قد انتهر الشيطان الذي قال "أنت قدوس الله" لأنه لا يقبل شهادة الشيطان عنه كما أنه لا يريد أن ينتشر هذا القول بين الناس في وقت مبكر قبل قيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات.
أما اعتراف التلاميذ "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت16: 16). فقد طوّبه السيد المسيح لأنه هو أساس الإيمان في الكنيسة. ولكن هذا الاعتراف كان بعيدًا عن أسماع الجماهير، تمامًا مثلما حدث مع المولود أعمى الذي آمن بأن المسيح هو ابن الله وسجد له.
كان السيد المسيح يقتاد الناس إلى الإيمان بألوهيته في الوقت المناسب، حينما تكون أعين قلوبهم مفتوحة بالقدر الكافي، ومهيأة لمعرفة أسراره المقدسة "أظهر له ذاتي" (يو14: 21).
بعد الواقعة السابقة يذكر إنجيل معلمنا لوقا أن السيد المسيح "لما قام من المجمع..كانت الشياطين أيضًا تخرج من كثيرين وهى تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح" (لو4: 38، 41) شعرت الشياطين بقوة السيد المسيح وسلطانه عليهم، فعرفوا إنه هو المسيح ابن الله. لأنه لم يحدث قط أن أخرج أحد الأنبياء شيطانًا في العهد القديم. ولهذا دهش الجميع وكانوا يخاطبون بعضهم بعضًا قائلين: ما هو هذا التعليم الجديد فإنه بسلطان وقوة يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه وتخرج؟ (انظر لو4: 36)،ولكن حينما كان السيد المسيح يسلك بمقتضى إنسانيته، فيتعب ويتألم ويحزن -كان الشيطان يعود فيشك في ألوهيته ويتجاسر عليه، حتى تمم السيد المسيح الفداء على الصليب..
2- في حديثه مع تلاميذه

حينما سأل السيد المسيح تلاميذه عما يقوله الناس عنه، ثم عن رأيهم هم فيه قالوا: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت16: 16)، "حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح" (مت16: 20) وذلك بعد أن أوضح أن الاعتراف بألوهيته قد جاءهم نتيجة إعلان الآب السماوي لهم. وهنا نرى كيف منع السيد المسيح تلاميذه من أن يكشفوا حقيقة لاهوته للناس، وذلك إلى أن يقوم من الأموات. ولذلك يكمل معلمنا متى الإنجيلي قوله السابق ويقول:
"من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يُظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم" (مت16: 21). كان من المناسب إخفاء ألوهية السيد المسيح حتى تتأكد بقيامته من الأموات منتصرًا على الموت من أجل خلاص البشرية.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:06 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
المسيح في زهده في المناصب

بالرغم من أن السيد المسيح هو ملك الملوك ورب الأرباب، وبالرغم من أنه هو رئيس الكهنة الأعظم.. إلا أنه عاش بعيدًا عن المناصب المختصة بالمُلك، والمختصة بالكهنوت. لم يمجّد نفسه، ولم يُنافس الناس في مناصبهم، بل كان بعيدًا عن كل هذه الأمور..
أولًا: فيما يختص بالمُلك

عاش السيد المسيح تحت سلطة الملوك والأباطرة والحكام.. لم تكن له أية وظيفة، ولا رئاسة، ولا سلطان ينافس به الحكام في سلطتهم.
خشى هيرودس الملك من ولادة السيد المسيح ملك اليهود، وأراد أن يتخلّص منه، وذبح جميع أطفال بيت لحم.. ولكنه لم يفهم طبيعة مُلك السيد المسيح الذي قال للوالي الروماني بعد ثلاثين عامًا: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 36).
لم يستخدم السيد المسيح حقه الإلهي في أن يسود على الجميع، بل وضع نفسه تحت الكل، وكان خاضعًا لسلطان البشر.
دَفَعَ الجزية للحكام، ورفض أن تجعله الجموع ملكًا ينتزع ما اعتبروه حقوقًا لهم. ولم يقاوم الذين ألقوا القبض عليه، و"ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاه تساق إلى الذبح" (إش53: 7)، ولم يقاوم اللطم والإهانات وجلد السياط، ولا ما اقترن بالصليب من إهانات وآلام متنوعة.
رفض السيد المسيح الملك الزمني، وكل أمجاده، لأنه كان يريد أن يملك على القلوب بمحبة إذ قال: "أنا إن ارتفعت.. أجذب إلىّ الجميع" (يو12: 32)، بمعنى أنه حينما يرتفع معلقًا على خشبة الصليب، فسوف يجتذب إليه محبة وإيمان الكثيرين. وفي موضع آخر تكلم عن الصلب فقال: "متى رفعتم ابن الإنسان" (يو8: 28).
حقًا "إن الرب قد ملك على خشبة" (مز95: 10).. ملك على قلوب الذين افتداهم وخلصهم من سلطان الخطية وعبوديتها.

عاش السيد المسيح في عالم ممتلئ بالمشاكل والاضطرابات.. ولم يحاول إطلاقًا أن يدخل في خضم هذا البحر المتلاطم. بل عالج مشكلة الإنسان الداخلية.. وأراد أن يحرر الإنسان من الداخل؛ عملًا بقول الكتاب أن "مالك روحه خير ممن يأخذ مدينه" (أم16: 32).
إن في تحرير الإنسان من الخطية، وفي تحريره من ذاته ومن الأنانية، الحل الحقيقي لمشاكل البشرية ولكل معاناة الإنسان.
كانت الحرية في نظر البشر شيئًا، وفي نظر السيد المسيح شيئًا آخر.. لهذا قال: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو8: 36).
أن يتحرر الإنسان من الداخل معناه أن يحيا في حرية مجد أولاد الله في الحياة الأبدية، في شركة مقدسة مع الله،أما التحرر من العبودية الخارجية للبشر، فلا يؤثر في مصير الإنسان الأبدي.. بل هو وضع مؤقت لا يمكن أن يدوم.
وبهذا فقد اهتم السيد المسيح بأن يملك على قلوب الذين اشتراهم من حمأة الخطية والموت الأبدي.
لم يأخذ السيد المسيح مُلكًا أرضيًا، ولكن في السماء له ملكوت أبدى. فهو الملك الذي لا نهاية لملكه.
ثانيًا: فيما يختص بالكهنوت

ترك السيد المسيح لكهنة اليهود وظائفهم في خدمة الكهنوت الهاروني بتقديم الذبائح الحيوانية في الهيكل.
لم يطلب منصبًا كهنوتيًا، ولا خدمة طقسية في ذلك الهيكل الذي هو المسكن الأول. بل جعل من جسده هيكلًا لتقديم الذبيحة الحقيقية "وأما المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة. وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبديًا" (عب9: 11، 12). لقد دخل السيد المسيح إلى الأقداس السمائية ليشفع فينا أمام الآب السماوي.
لم يزاحم السيد المسيح أحدًا في منصبه الكهنوتي، بل جاء كهنوته، بحسب تدبير الله، كشيء ملازم لتقديم ذاته كذبيحة خلاص حقيقية مقبولة من الآب السماوي.
لم يأخذالسيد المسيح رئاسة الكهنوت كوظيفة أو منصب خارجي، بل نبع ذلك من صميم قدرته على تقديم ذاته ذبيحة عن حياة العالم.
كان هو الكاهن، وهو الذبيحة. كما أنه هو الهيكل، وهو القربان. وهو الحمل وهو الراعي في آنٍ واحد.
كان الآب هو الذي اختاره ليكون رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. وقد دفع السيد المسيح حياته ثمنًا لعمله الكهنوتي.. فما أمجد كهنوت مثل هذا؟.. أو هل كان ممكنًا لمثل هذا أن لا يصير كاهنًا؟!
حقًا قال معلمنا بولس الرسول: "ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هارون أيضًا. كذلك المسيح أيضًا لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له أنت ابني أنا اليوم ولدتك. كما يقول أيضًا في موضع آخر أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (عب5: 4-6).

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:07 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
المسيح في رفضه للتعصب العرقي

عند بئر يعقوب

التقى السيد المسيح بالمرأة السامرية عند بئر ماء وهو صاحب الينبوع الحي الذي يمنح الماء الحي لمن يطلبه.
كانت المرأة تعيش في مشكلتين في علاقتها بالله:
المشكلة الأولى: مشكلة عرقية لها صلة بالدين وحرفيته والتعصب فيه.
والمشكلة الثانية: مشكلة داخلية تخص انقيادها لرغبات الجسد وشهواته.
وفى الحقيقة أن السيد المسيح قد جاء إلى العالم ليحل هاتين المشكلتين في حياة البشر جميعًا. وإن كان اللقاء مع السامرية هو وسيلة لإيضاح هاتين الحقيقتين المريرتين في طبيعة البشر.
اليهود لا يعاملون السامريين

قالت المرأة للسيد المسيح "كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟! لأن اليهود لا يعاملون السامريين" (يو4: 9).
كان اليهود يحتقرون السامريين لاختلاطهم بالأمم بعد أن انقسمت المملكة، وصار ملوك السامرة يقيمون شعائر العبادة في هيكل آخر في جبل السامرة بخلاف هيكل اليهود في جبل صهيون، وذلك لكي يمنعوا أفراد شعوبهم من الذهاب إلى أورشليم للسجود هناك. وفي هيكل السامريين اختلطت عبادة الله بالعادات والممارسات الوثنية أحيانًا. وتفاقم الصراع بين المملكتين، وتداخلت العوامل الدينية مع العوامل السياسية لتزداد العداوة بين اليهود والسامريين.
وجاء السيد المسيح ليزيل العداوة، وليحرر اليهود من التعصب العرقي والديني.
فبدأ هو بالمبادرة نحو السامريين متخطيًا الحواجز التي فصلت بين الشعبين. وتكلّم مع المرأة السامرية طالبًا منها أن تعطيه ليشرب.
وحينما قالت له المرأة السامرية متسائلة: "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه" (يو4: 20). أجابها السيد المسيح "يا امرأة صدقيني إنه تأتى ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم" (يو4: 21، 22).
وقد قصد السيد المسيح أن يوضح لهذه المرأة عدم تمسكه بمكان معيّن للسجود للآب السماوي.. لا في جبل السامرة، ولا في جبل صهيون بأورشليم. لأن الله هو فوق حدود المكان.
ثم بدأ يوضح لها أن الموقف الأهم هو مفهوم العبادة ونقاوة العقيدة، ومعرفة الله المعرفة الحقيقية لكي تقدم له العبادة المقبولة.

وشرح لها أن الخلاص يُبنى على المعرفة السليمة، وأقوال الكتب المقدسة التي هي أنفاس الله، والتي حُفظت في أورشليم إلى مجيء المخلّص. ولهذا قال لها: "لأن الخلاص هو من اليهود" (يو4: 22)، أي من وسطهم سوف يأتي المسيح مانحًا الخلاص والبنوة للذين يقبلونه.
وأوضح لها أيضًا أن العبادة المقبولة أمام الآب هي "بالروح والحق" (يو4: 24).
ليس بعتق الحرف.. أي ليس بالعبادة الحرفية الناموسية التي يفتخر بها المتزمتون من اليهود، بل بالروح الجديد (بجدة الروح).. أي بالعبادة الروحانية التي يتمتع بها أولاد الله الذين يتمتعون بشركة الروح القدس، ويستنيرون ويبتهجون ويشبعون بعمل الروح فيهم،عبادة تتحرر من الارتباط بالمكان والشكليات.. بل حيث يعمل الروح القدس في الكنيسة بقوة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.. يقود ويرشد ويعلم ويمنح سلطان الخدمة الكهنوتية بالخلافة الرسولية، وبها يتم مسح الخدام والمؤمنين والكنائس كما تتم جميع الأسرار المقدسة لخلاص المؤمنين.
وهى ليست عبادة يتمتع فيها الإنسان روحيًا فقط، بل تمتلئ بالحق والاستقامة. أي لا يكفى أن يشعر الإنسان بنشوة روحية مبهمة في العبادة بل ينبغي أن يستوعب بعقله الإيمان وما فيه من حق.. لأن الروح القدس يعلن الحق في داخلنا.. يعلن المسيح الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو14: 6).
والحق الذي يعلنه الروح القدس هو الإيمان المستقيم.. الإيمان المسلّم مرة للقديسين.. الإيمان الذي يخلو من البدع ومن الخرافات ومن الهرطقات. الحق الذي قال عنه السيد المسيح: "كل من هو من الحق يسمع صوتي" (يو18: 37).
لهذا كله قال السيد المسيح للمرأة السامرية: "تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو4: 23، 24).
لم تعد العبادة لله قاصرة على أورشليم وحدها مثلما كان الأمر في العهد القديم قبل مجيء السيد المسيح. ولم يعد هيكل سليمان هو المكان المختار للعبادة. بل قال معلمنا بولس: "أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (1كو3: 16).
اتسع الهيكل في العهد الجديد، ليكون هو الكنيسة المقدسة الممتدة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.
وصار هيكل الله الآب هو المكان (في الكنيسة) الذي يحضر فيه السيد المسيح بجسده ودمه الأقدسين بفعل الروح القدس في سر الافخارستيا ليمنح المؤمنين باسمه الاشتراك في الحياة الأبدية التي منحت لنا بموته عوضًا عنا على الصليب.
حقًا صار حضور المسيح بذبيحته المقدسة -بكل ما تُعلن عنه في الموت والقيامة والصعود والمجيء الثاني- حقيقة واقعة في كنيسته المحبوبة، إعلانًا مبكرًا للعرس بين المسيح وعروسه الكنيسة التي اقتناها بدمه الكريم، وعربونًا للحياة الأبدية التي وعد بها جميع قديسيه.
لم يفهم اليهود في نظرتهم الضيقة للعبادة هذه الحقائق الثمينة، وجعلوا يتمسكون بهيكل مبنى بالحجارة وربما يحلمون بإعادة بنائه بعد خرابه، حسبما قال لهم السيد المسيح: "هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (مت23: 38). وحينما يقولون: "مبارك الآتي باسم الرب" (مت23: 39) فسوف يفهمون المعنى الحقيقي للهيكل.
ألم يقل لهم السيد المسيح عن جسده: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو2: 19). أما هم فلم يفهموا أنه كان يُكلمهم عن هيكل جسده المقدس بل صاروا يعترضون ويسخرون من كلامه قائلين عن هيكل الحجارة: "في ست وأربعين سنة بنى هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟" (يو2: 20).
بعد مجيء المسيح لم يعد هناك لزوم للهيكل القديم

لأن الذبائح الحيوانية قد أبطلتها ذبيحة الصليب وقد شرح القديس بولس الرسول هذه الحقيقة بقوله للعبرانيين (أي لذوى الأصل اليهودي) "لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة، لا نفس صورة الأشياء، لا يقدر أبدًا بنفس الذبائح كل سنة التي يقدمونها على الدوام أن يكمّل الذين يتقدمون.. لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا. لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقربانًا لم تُرد، ولكن هيأت لي جسدًا.. فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرّسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب أي جسده. وكاهن عظيم على بيت الله" (عب10: 1، 4، 5، 19-21).
اذهبي وادعى زوجك (يو4: 16)

أراد السيد المسيح أن يقود المرأة السامرية إلى التوبة، حتى يأتي بها إلى العبادة بالروح والحق. فلم يكن من الممكن أن تبدأ علاقتها مع الله في العبادة، بينما هي تحيا في سيرة خاطئة ومشاعر خاطئة.
لهذا طلب منها أن تذهب وتدعو زوجها "أجابت المرأة وقالت: ليس لي زوج. قال لها يسوع: حسنًا قلت ليس لي زوج لأنه كان لك خمسة أزواج، والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلتِ بالصدق" (يو4: 17، 18).
بدأت المرأة من خلال كشف المسيح لها، تدرك أنها أمام شخصية غير عادية. فقالت: "يا سيد أرى أنك نبي" (يو4: 19). قالت ذلك معترفة بخطئها.
ولما تكلم السيد المسيح معها عن السجود لله بالروح والحق، وعدم التقيد بجبل السامرة ولا جبل صهيون في السجود للآب، أرادت أن تجد مرجعًا يتفق فيه اليهود والسامريون. فقالت له: "أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء" (يو4: 25).
كان بالنسبة لها مجيء السيد المسيح هو الحل لجميع مشاكلها الروحية والفكرية وقد اشتاقت بالفعل أن تعرف من محدثها الذي لم تكن تعرفه، أن يخبرها متى يأتي المسيا المنتظر.
عند هذه النقطة كشف لها السيد المسيح عن شخصيته الحقيقية، وقال لها: "أنا الذي أكلمك هو" (يو4: 26).
فتركت المرأة جرتّها إلى جوار البئر، وذهبت إلى أهل السامرة لتدعوهم لرؤية السيد المسيح. وآمن الكثيرون بسبب كلامها- ثم بالأكثر بسبب رؤيتهم للمسيا مشتهى الأجيال.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:09 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
المسيح في معاملاته مع الخطاة

جاء السيد المسيح لكي يحمل خطايا آخرين، ويشفع في المذنبين ولذلك كان لطيفًا جدًا في معاملاته مع الخطاة. ودائمًا كان يقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى.. لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 12، 13).
ومع إنه كان حازمًا مع المستكبرين، وقساة القلوب، ورافضي التوبة، والمرائين، والمنافقين، ومع الذين يعتبرون أن التقوى تجارة.. إلا أنه كان رقيقًا، متواضعًا، مترفقًا، طويل الأناة مع المنكسرين، والضعفاء، والمنسحقين، والمأسورين، والمشتاقين إلى التوبة والخلاص.. مثلما قال: "روح الرب علىَّ لأنه مسحني، لأبشر المساكين. أرسلني لأشفى المنكسري القلوب، لأنادى للمأسورين بالإطلاق، وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لو4: 18، 19).
محبة الخطاة

من أجل محبته للخطاة، ورغبته في خلاصهم، احتمل الكثير من التعيير الذي أثاره ضده الكتبة والفريسيون ورؤساء اليهود. إذ اتهموه بأنه محب للعشارين والخطاة، وأنه دخل ليمكث في بيت إنسان خاطئ.
وفى قبوله لتوبة المرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها قالوا: "لو كان هذا نبيًا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي إنها خاطئة" (لو7: 39).
وفى النهاية حينما عُلّق على الصليب حاملًا خطايا كثيرين، كانوا يعيّرونه قائلين: "خلّص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها" (مت27: 42)
السيد المسيح في اتضاع عجيب تعامل مع الخطاة، بل وحمل تعييرات كان المفروض أن يحملوها هم فحملها عوضًا عنهم راضيًا مختارًا..
في لقائه مع السامرية

بادرها قائلًا: "أعطيني لأشرب" (يو4: 7)، مُظهرًا نفسه كالمحتاج مع أنه هو ينبوع الماء الحي..
وحينما "أجابت المرأة وقالت: ليس لي زوج، قال لها يسوع: حسنًا قلت ليس لي زوج.. هذا قلتِ بالصدق" (يو4: 17، 18)، مادحًا صدقها في هذا الأمر، كاشفًا لها أعماق حياتها "لأنه كان لكِ خمسة أزواج والذي لكِ الآن ليس هو زوجك" (يو4: 18). فقالت المرأة: "يا سيد أرى أنك نبي" (يو4: 19).
فبمنتهى الاتضاع والحرص على مشاعرها، اقتادها إلى الاعتراف، وإلى التوبة، وإلى المناداة باسمه بين أهل مدينتها.
مع اللص اليمين

كان اللصان اللذان صُلبا مع السيد المسيح يعيرانه قائلين: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا" (لو23: 39).
وفيما كان السيد المسيح يدفع ثمن خطية اللص المذنب، احتمل تعييراته، وكان يصلّى من أجل خلاصه وتوبته.
وعلى مدى ساعات الصلب كان اللص يراقب السيد المسيح ويستمع لكلماته، وكيف كان يهتم بغيره..
سمعه وهو ينادى الآب طالبًا المغفرة لصالبيه "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو23: 34).
رأى صبره ووداعته واحتماله لتعييرات اليهود، إذ لم يرد بكلمة واحدة على ما وجِّه إليه من شتائم وإهانات.
ربما فكّر اللص اليمين في نفسه قائلًا (لاشك في أن يسوع المصلوب يؤدى رسالة يدفع فيها ثمن خطايا آخرين، وهو برئ من كل خطية لأن الذي استطاع أن يقيم لعازر من الموت، لا يعسر عليه أن يُسكت هؤلاء المجدفين عليه).

لهذا بدأ اللص اليمين يوبّخ زميله الآخر: "أَوَلاَ أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه. أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله" (لو23: 40، 41). ثم استطرد معلنًا إيمانه بألوهية السيد المسيح الذي احتمل كل هذا من أجلنا: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو23: 42، 43).
أي أن السيد المسيح قد وعد اللص بأن يذهب إلى مكان انتظار أرواح الأبرار، تمهيدًا لدخوله إلى الملكوت في اليوم الأخير.
في اتضاعه المعهود لم يؤاخذ السيد المسيح اللص على تجاديفه السابقة وتعييراته له. بل حتى لم يعاتبه.. واكتفى بما أظهره من حب وإخلاص، ورغبة صادقة في السلوك في طريق الحق، وإيمان برسالة السيد المسيح كفادي ومخلص وملك للمفديين.
وهكذا نرى السيد المسيح في اتضاعه، وقد حمل خطايا كثيرين وشفع في المذنبين ووبخهم برقته ووداعته العجيبة حتى تحولوا من خطاة إلى قديسين.
مع المرأة الخاطئة

سأل السيد المسيح مضيفه سمعان الفريسي "كان لمداين مديونان، على الواحد خمسمئة دينار، وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما جميعًا. فقل أيهما يكون أكثر حبًا له. فأجاب سمعان وقال: أظن الذي سامحه بالأكثر. فقال له بصواب حكمت" (لو7: 41-43).
إن الغفران الذي قدّمه السيد المسيح للمؤمنين به هو غفران مدفوع الثمن.
والثمن هو دم المسيح،لهذا قال معلمنا بولس الرسول: "وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو6: 19، 20).
وقال معلمنا بطرس الرسول: "عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى.. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1بط1: 18، 19).
إن البشر لم يكن بمقدورهم أن يوفوا الدين الذي عليهم لله بدون تجسد ابن الله الوحيد الذي هو وحده قادر أن يوفى الدين، وهو نفسه الله الظاهر في الجسد الذي صالحنا مع أبيه السماوي.
وعن عدم مقدرة البشر منفردين عن الله بأنفسهم أن يوفوا الدين، قال السيد المسيح في هذا المثل: "وإذ لم يكن لهما ما يوفيان" (لو7: 42).
لقد أوفى السيد المسيح الدين الذي علينا واشترانا وصرنا ندين له بهذا الحب العجيب، أي أنه قد اجتذبنا بمحبته وغفرانه المدفوع الثمن، فصرنا نحبه وتزداد محبتنا له كلما تأمّلنا في آلامه لأجلنا.
وقال السيد المسيح لسمعان عن المرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها ومسحتهما بالطيب وانهمكت في تقبيل قدميه "من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا. والذي يُغفر له قليل يحب قليلًا" (لو7: 47).
إن الغفران المدفوع الثمن في المفهوم المسيحي هو الذي يجعلنا نحب الرب كثيرًا. كما أنه هو الذي يجعلنا نكره الخطية، لأنها تسببت في آلام فادينا وموته على الصليب.
كيف ننسى هذا الحب العجيب الذي يبكتنا على كل خطية اقترفناها أو نقترفها، ويجعلنا نشعر بالاشمئزاز من الخطية، ويجعلها تبدو خاطئة جدًا.
إن الخاطئ الذي يتأمل في جراحات المخلّص الوديع يشعر بأنه لا يطيق نفسه، ولا يتصور أنه من الممكن أن يخون هذا الحب الكبير. لهذا قال السيد المسيح: "إن كان أحد يأتي إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (لو14: 26).
وما معنى أن يبغض الإنسان نفسه، إلا أن يبغض كل تصرف تميل إليه نفسه في أنانيته لإرضاء شهواتها.
هذه هي فلسفة تعاليم السيد المسيح في قوله: "من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلى يجدها" (مت16: 25).
من أهلك نفسه من أجل المسيح سوف يجدها، لأنه سوف يتحرر من سلطان الخطية والموت الأبدي، وبهذا سوف يرث الحياة الأبدية ويجد نفسه في الأبدية والسعادة الحقيقة في حرية مجد أولاد الله.
الإيمان بالسيد المسيح بأنه هو ابن الله الحي والإيمان بموته المحيى وقيامته من الأموات يؤهل الإنسان أن ينال سر العماد المقدس لأن "الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" (يو1: 12).
وبالميلاد الفوقاني ينال المؤمن الحق في أن ينال سر المسحة المقدسة ويصير مسكنًا للروح القدس الذي يثبّته في حالة البنوة لله ويمنحه ثمارًا لازمة للخلاص، كما يمنحه مواهبًا لبنيان الكنيسة.
وبالميلاد الفوقاني أيضًا يؤهَّل الإنسان للاتحاد بالحياة الأبدية في المسيح بالتناول من جسده المقدس ودمه الكريم في سر الافخارستيا، الذي يعطيه ثباتًا في المسيح ويؤهّله لشركة الحياة الأبدية. ومن خلال سر التوبة والاعتراف يؤهل لتجديد مفاعيل العماد المقدس في الاتحاد بالمسيح بشبه موته وقيامته من الأموات في سر الافخارستيا (التناول).
إن العطايا الروحية التي ينالها المؤمن بالمسيح تمنحه قوة للانتصار على محاربات الشيطان، والتمتع بحياة القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب. وفي كل ذلك يضع المؤمن أمام عينيه صلب المخلص وجراحاته وآلامه.
لأن الصليب هو سلاح الغلبة. وهو مصدر كل العطايا والنعم التي يمنحها الروح القدس للمؤمنين بالمسيح، الذين يتمتعون بغفران مدفوع الثمن، يمنحه لهم الروح القدس باستحقاقات دم المسيح الفادي والمخلص العجيب.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:10 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
الحوار في أسلوب السيد المسيح

كان السيد المسيح يستخدم دائمًا أسلوب الإقناع في توصيل الحقائق الإلهية والسامية للناس.
وكثيرًا ما تعرض للسخرية من مقاوميه، كما أنهم كانوا يحاولون أن يصطادوه بكلمة ليضعوه في مأزق في علاقته بالحكام، أو في موقفه من شرائع الناموس..
ولكنه كان باستمرار يستخدم أسلوب الحوار المقنع.. لم يستخدم الغضب، ولم يكن عنيفًا في الرد على مقاوميه، أو الذين يسخرون منه.. ولكنه أحيانًا كان يحذرهم من نتائج تمسّكهم بالخطأ.
كُتب عن السيد المسيح: "الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر. الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يُهدد، بل كان يُسلّم لمن يقضى بعدلٍ. الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر" (1بط2: 22-24).
ولنا بعض من الأمثلة عن أهمية الحوار في خدمة السيد المسيح:
1- في إخراجه للشياطين

"وكان يخرج شيطانًا. وكان ذلك أخرس. فلما أُخرِجَ الشيطان تكلم الأخرس فتعجب الجموع وأما قوم منهم فقالوا ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. وآخرون طلبوا منه آية من السماء يجربونه. فعلم أفكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وبيت منقسم على بيت يسقط. فإن كان الشيطان أيضًا ينقسم على ذاته، فكيف تثبت مملكته؟! لأنكم تقولون إني ببعلزبول أخرج الشياطين. فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم. ولكن إن كنت بإصبع الله أخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله" (لو11: 14-20).
اتهم اليهود السيد المسيح بأن به شيطانًا، بل تجاسروا أكثر واتهموه بأن به بعلزبول. وواجه السيد المسيح هذا الاتهام بأسلوب الحوار الهادئ الموضوعي، وذلك بالرغم من تجاسرهم الكائن ضد كلمة الله المتجسد. ونكرانهم لجميله في شفاء أخيهم الأخرس الذي أذله الشيطان وعذبه.
قدّم السيد المسيح دليلين على استحالة عمله بواسطة بعلزبول رئيس الشياطين:
الدليل الأول: هو أن بعلزبول لا يعمل ضد مملكته وسلطانه في البشر، ولا يخرج شياطينه من البشر وإلا تكون مملكته قد انقسمت على ذاتها. لا نتصور قائدًا حربيًا يطرد جنوده من المواقع التي استولوا عليها بمشقة واستعمروها.
الدليل الثاني: أنه لو كان يعمل بواسطة بعلزبول رئيس الشياطين -ولهذا فمعه سلطان الرئاسة في مواجهة الشياطين الأقل قدرة- فبمن يخرج تلاميذ المسيح الشياطين التي أخرجوها؟!
كان اليهود يريدون تصوير السيد المسيح، وكأنه يعمل بقوة بعلزبول الساكن فيه.. ففند السيد المسيح ادعائهم بالمنطق والحجة القوية. مُظهرًا لهم أن الرسل يكونون قضاة لهم، لأنهم سوف يدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر.
وبعدما أثبت السيد المسيح استحالة أن يكون بعلزبول هو الذي يخرج الشياطين، قدّم الحقيقة الإلهية الساطعة، وهى أنه بإصبع الله يخرج الشياطين، مؤكدًا أن ملكوت الله قد أقبل على بنى البشر مُحررًا إياهم من سلطان إبليس جاعلًا إياهم مسكنًا للروح القدس بعد إتمام الفداء على الصليب.
وهكذا نقل السيد المسيح الحوار إلى إعلان قصد الله في تجسد الكلمة الأزلي، ليسحق الشيطان ويحرر البشرية من سيطرته وسلطانه.
2- في حواره حول القيامة

حضر قوم من الصدوقيين الذين يقاومون أمر القيامة، وسألوه بمثلٍ عن امرأة مات رجلها دون أن تنجب أولادًا فتزوجها أخوه حسب ناموس موسى ليقيم اسم الميت على ميراثه، ولكنه مات أيضًا دون أن ينجب وهكذا حتى تزوجها سبعة إخوة وماتوا وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا ففي القيامة لمن تكون زوجة؟.
لقد رد على مكيدتهم بإقناع وباتضاع، هؤلاء الذين حاولوا بذكائهم أن يوقعوه في مأزق، ليثبتوا أنه لا توجد قيامة للأموات.

وبمنتهى الحكمة أجابهم السيد المسيح مُظهِرًا أن "أبناء هذا الدهر يُزوِّجون ويُزَوَّجون، ولكن الذين حُسبوا أهلًا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوِّجون ولا يزوَّجون إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضًا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة،وأما أن الموتى يقومون فقد دلّ عليه موسى أيضًا في أمر العليقة كما يقول الرب إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن الجميع عنده أحياء" (لو20: 34-38).
شرح السيد المسيح طبيعة حياة القيامة، باعتبارها حياة روحانية مثل حياة الملائكة الذين لا يتزوجون لأنهم لا يحتاجون إلى نسل، إذ لا يمنعهم الموت عن استمرار رسالتهم وحياتهم. أما البشر في هذا الزمان الحاضر فإن استمرار الجنس البشرى يقتضى أن ينجبوا نسلًا قبل موتهم..
وقدّم السيد المسيح دليلًا كتابيًا عن قيامة الموتى بأن الرب إله أحياء، مؤكدًا بذلك خلود الروح الإنسانية وبقاءها حتى بعد انفصالها المؤقت عن الجسد.
3- بأي سلطان تفعل هذا؟ (مت21: 23)

"ولما جاء إلى الهيكل تقدّم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يُعلِّم قائلين: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟ فأجاب يسوع وقال لهم: وأنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضًا بأي سلطان أفعل هذا، معمودية يوحنا من أين كانت، من السماء أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس نخاف من الشعب، لأن يوحنا عند الجميع مثل نبي. فأجابوا يسوع وقالوا: لا نعلم. فقال لهم هو أيضًا: "ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا" (مت21: 23-27).
كان رؤساء اليهود يريدون أن يقولوا أن السيد المسيح لم يكن لديه سلطان من الله في تعليم الشعب في الهيكل. وأراد السيد المسيح أن يرد على ذلك، بأنهم هم الذين يقاومون عمل الله والمرسلين منه. وأعطاهم مثلًا بيوحنا المعمدان، وكيف لم يتجاوبوا مع إرساليته القوية كآخر أنبياء العهد القديم، والذي جاء ليعد الطريق أمام السيد المسيح، وشهد له أنه هو حمل الله، وابن الله والمسيا المخلص. وأعلن شهادته هذه على الملأ. كما أعلن أنه أثناء عماده للسيد المسيح قد رأى الروح القدس نازلًا من السماء، ومستقرًا عليه بهيئة جسمية مثل حمامة.
سألهم عن معمودية يوحنا وإرساليته هل كانت من الله؟ فاحتاروا في الإجابة. ولم يمكنهم أن ينكروا علانية أنه كان مُرسلًا من الله. فقالوا: "لا نعلم".
وهنا أظهر السيد المسيح ارتباكهم وعدم يقينيتهم، بل وعدم اعترافهم بالحقيقة التي قبلها الشعب بشأن إرسالية يوحنا المعمدان.. ولذلك قال لهم هو أيضًا: ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا.
إن للحوار الهادئ المتأني قوة وتأثيرًا أشد من العنف والقساوة في التعبير. وإن لم يقنع المقاومين، فعلى الأقل، يستطيع أن يقنع من يستمعون إلى الحوار من الشعب.
4- التوبيخ

قرب نهاية خدمته على الأرض، والتي استمرت لعدة سنوات، بدأ السيد المسيح في توبيخ الكتبة والفريسيين على ريائهم، وبدأ يكشف ما في حياتهم من خداع، وذلك بعد أن تجاهلوا كل ما قدّمه لهم من وسائل الإقناع وتمسكوا بأخطائهم.
كما أنه أخرج من الهيكل الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه، لأن الهيكل هو بيت الرب الذي دعى بيت الصلاة لجميع الأمم، وهم جعلوه مغارة لصوص (انظر مت21: 13).
استخدم السيد المسيح الحزم والتوبيخ بعد أن استنفذ كل وسائل الإقناع الهادئة مع مثل هؤلاء الناس.. ولكنهم تآمروا عليه نتيجة لهذا الحزم وذلك التوبيخ، إذ حنقوا عليه ليقتلوه، مع أنه لم يؤذ واحدًا منهم على الإطلاق بل قدّم الحب والخير للجميع.
لم يكن ممكنًا أن يسكت عليهم أكثر من ذلك، لئلا يُظن أنه سكت خوفًا على سلامته وحياته.. كما كان ينبغي أن يُظهر السيد القدوس عدم رضائه على ما يسلكون فيه من شر ورياء.
ولكنه في توبيخه للكتبة والفريسيين، كان أيضًا يستخدم أسلوب الإقناع، مُقدمًا البراهين الكتابية والمنطقية، ومحققًا ما قيل عنه من نبوات في الكتب المقدسة، مثل ما قيل بإشعياء النبي:
"هوذا فتاي الذي اخترته. حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يخرج الحق إلى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم" (مت12: 18-21).

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:12 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
حديث السيد المسيح مع نيقوديموس

بعد أن أكّد السيد المسيح لنيقوديموس أهمية الولادة الثانية في المعمودية من الماء والروح لكي يقدر الإنسان أن يدخل ويعاين ملكوت الله لأن "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو3: 6). بدأ نيقوديموس يتساءل ويقول: "كيف يمكن أن يكون هذا؟" (يو3: 9).
أجاب السيد المسيح وقال له: "أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟! الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا، إن كنتُ قلتُ لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟! وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء. ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو3: 10-13).
حضن الآب

والمقصود بالسماء هنا التي لم يصعد إليها أحد سوى السيد المسيح أي حضن الآب السماوي وليس أي سماء أخرى. لأن إيليا النبي صعد إلى السماء وأخنوخ النبيصعد إلى السماء. ولكن السيد المسيح قال ليس أحد صعد إلى السماء إلا ابن الإنسان الذي هو في السماء.
ومن المعلوم أن ابن الإنسان أي السيد المسيح كان على الأرض -بحسب الجسد- وهو يكلّم نيقوديموس، ولكنه بحسب لاهوته كان يملأ الوجود كله. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلي: "الله لم يره أحد قط، الإله الوحيد الجنس الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو1: 18). وهذا معناه أن السيد المسيح باعتباره كلمة الله المتجسد قد أظهر لنا نور الآب حينما ظهر في الجسد وكان هو نفسه -بحسب لاهوته- في حضن أبيه أثناء ظهوره متجسدًا على الأرض. وقال معلمنا بولس الرسول: "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16) أي أن الله الكلمة "هو صورة الله غير المنظور" (كو1: 15)، ومن رأى الصورة الحقيقية يكون قد رأى الأصل. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلي: "الله لم يره أحد قط، الإله الوحيد الجنس.. هو خبّر"بمعنى أنه هو الذي أعلن لنا الآب بظهوره في الجسد.
ونلاحظ أن السيد المسيح قد ربط بين حديثه عن السماء -بمعنى حضن الآب- وبين حديثه عن السماويات والشهادة التي ذكرها وذلك في (يو3: 10-13) كما أوردنا سابقًا.
الذين يشهدون في السماء

من هم الذين يشهدون في السماء؟ لقد ذكر السيد المسيح الشهادة عن السماويات، فقال: "الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا" (يو3: 11). وواضح أن الحديث هنا هو بصيغة الجمع. ونظرًا لأنه يتكلم عن الشهادة التي تخص الابن الوحيد الجنس (يو3: 16) في حضن الآب (يو1: 18)، لذلك فالمقصود بالجمع هنا هو الآب والابن والروح القدس، أي أن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس. وهذا هو نفس ما أورده القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى فقال: "والروح هو الذي يشهد.. فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يو5: 6، 7). "إن كنا نقبل شهادة الناس، فشهادة الله أعظم، لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه" (1يو5: 9).
ومن المؤكد أن ما أورده يوحنا الرسول في إنجيله، هو نفس ما أورده في رسالته الأولى. لأن الكاتب واحد والفكرة التي شرحها في إنجيله بالتفصيل أوردها في رسالته بالاختصار. ولتوضيح ذلك نقول أن القديس يوحنا قد أورد في إنجيله ما يثبت أن الشهود للابن المتجسد هم: الآب عن ابنه، والابن عن نفسه، والروح القدس عن الابن..
وهذه بعض الآيات التي تثبت ذلك في إنجيل يوحنا:
شهادة الآب

قال السيد المسيح لليهود: "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي. لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته، وليست لكم كلمته ثابتة فيكم، لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به" (يو5: 37، 38).

وكان قد أشار إلى شهادة الآب عنه بقوله: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقًا. الذي يشهد لي هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق. أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق. وأنا لا أقبل شهادة من إنسان.. لي شهادة أعظم من يوحنا" (يو5: 31-34، 36). وقال أيضًا لليهود: "وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب.. وأيضًا في ناموسكم مكتوب إن شهادة رجلين حق: أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني" (يو8: 14، 17، 18).
شهادة الابن

كما أوردنا في الآية السابقة مباشرة قال السيد المسيح: "أنا هو الشاهد لنفسي" (يو8: 18).
كذلك شرح القديس يوحنا المعمدان أهمية شهادة السيد المسيح وأورد ذلك القديس يوحنا الرسول في إنجيله "أجاب يوحنا وقال.. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها. ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق، لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله" (يو3: 27، 31-34).
ومن الواضح هنا أن القديس يوحنا المعمدان قد ربط في حديثه بين شهادة المسيح على الأرض وبين ما يجرى في السماء "الذي يأتي من السماء.. ما رآه وسمعه به يشهد". أي أن شهادة الآب في السماء، هي نفسها شهادة الابن بما سمعه من الآب.
شهادة الروح القدس

"ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى" (يو15: 26). وشهادة الروح القدس هي نفسها شهادة الآب لأن السيد المسيح قال: "متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به" (يو16: 13).
فالروح القدس يشهد بما سمعه من الآب عن ابنه الوحيد الجنس وليس المقصود أن الروح القدس يقل عن الآب في المجد والكرامة لأنه لا يتكلم من نفسه. ولكن المقصود أن الشهادة للابن: (أصلها في الآب وتتحقق من خلال الابن في الروح القدس) كما شرح آباء الكنيسة الكبار. وذلك لأن الثالوث واحد في الجوهر وليس فيه انفصال لأحد الأقانيم.
التجسد والفداء

لقد كشف السيد المسيح في حديثه مع نيقوديموس عن أمور هامة جدًا خاصة بالتجسد والفداء والثالوث القدوس.
ففيما يخص حقيقة التجسد الإلهي بقصد الفداء، قال السيد المسيح: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16).
كيف بذل الله ابنه الوحيد؟

إن الابن الوحيد هو كلمة الله المولود من الآب قبل كل الدهور. ولم يكن ممكنًا لابن الله الوحيد أن يموت نيابة عن البشر دون أن يتجسد، وذلك لأن اللاهوت بحسب طبيعته هو غير مائت وغير قابل للألم. أما وقد صار له طبيعة بشرية كاملة، فقد أمكن أن يتألم وأن يموت الله الكلمة بحسب إمكانيات طبيعته البشرية.

وقد شرح القديس أثناسيوس الرسولي ذلك في كتاب تجسد الكلمة- الفصل التاسع- الفقرات رقم 1، 2 فقال:

[وإذ رأى "الكلمة" أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم. وأنه يستحيل أن يتحمل "الكلمة" الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب. لهذا أخذ لنفسه جسدًا قابلًا للموت حتى باتحاده "بالكلمة" الذي هو فوق الكل، يكون جديرًا أن يموت نيابة عن الكل. وحتى يبقى في عدم فساد بسبب "الكلمة" الذي أتى ليحل فيه وحتى يتحرر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدّم للموت ذلك الجسد، الذي أخذه لنفسه، كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فورًا عن جميع من ناب عنهم، إذ قدّم عنهم جسدًا مماثلًا لأجسادهم. ولأن كلمة الله متعال فوق الكل. فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفى الدين بموته وذلك بتقديم هيكله وآنيته البشرية فداءً عن الجميع].

إذن لقد تجسد كلمة الله لكي يصير بالإمكان أن يموت على الصليب فداءً عن البشرية. وبهذا يتحقق قول السيد المسيح: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس" (يو3: 16).
فذبيحة الصليب هى ذبيحة الابن الوحيد، وقيمتها غير محدودة عند الله الآب. لهذا كانت كافية لسداد دين البشرية، ولترضية الآب السماوي، ولإعلان قداسة الله الكاملة في رفضه لخطايا البشرية، ولإظهار حب الله الكامل في افتدائه لنا "الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم" (2كو5: 19).
الله هو المخلّص

لقد سبق الرب فوعد في العهد القديم بأنه هو المخلّص الوحيد بقوله: "أنا أنا الرب وليس غيري مخلّص.. وأنا الله" (إش43: 11، 12).
لهذا رنمت القديسة مريم العذراء في العهد الجديد قائلة: "وتبتهج روحي بالله مخلّصي" (لو1: 47).
وقال القديس بطرس الرسول عن السيد المسيح: "ليس بأحد غيره الخلاص" (أع4: 12).
وتنبأ إشعياء النبي قائلًا: "هوذا الله خلاصي فاطمئن ولا أرتعب. لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصًا" (إش12: 2)،بمعنى أن الرب ليس فقط هو المخلّص كما ورد في (إش43: 11)، بل هو الخلاص نفسه "يهوه.. صار لي خلاصًا" (إش12: 2). ويمكننا أن نقارن بين هذا القول، وبين قول القديس يوحنا الإنجيلي "والكلمة صار جسدًا" (يو1: 14) لكي نفهم أن يهوه هو الله الكلمة الذي تجسد وصار خلاصًا لأجلنا. وقال عنه سمعان الشيخ: "الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب، نورًا تجلى للأمم، ومجدًا لشعبك إسرائيل" (لو2: 29-32).
إن الرب يسوع المسيح هو المخلّص وهو الخلاص، هو الفادي وهو الفدية، هو الكاهن وهو الذبيحة، هو الهيكل وهو القربان، هو الراعي وهو الحمل. لهذا دُعي اسمه "عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام" (إش9: 6).
الرب هو عجيب في محبته، عجيب في خيريته، عجيب في قداسته، عجيب في حكمته، عجيب في إخلائه لنفسه وتجسده، عجيب في تواضعه، عجيب في إصراره واحتماله للخطاة، عجيب في مغفرته، عجيب في حزمه ومواجهته للشر، عجيب في ضعفه حينما تألم في جسم بشريته لأنه أظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة، وعجيب في قوته حينما قام منتصرًا من الأموات.
كان الرب عجيبًا في كل تدبير الخلاص الذي أكمل بكل فطنة، وتعجب منه القديسون في كل عظم صنيعه معهم. وهذا العجب هو مصدر كثير من الإعجاب في حياتهم وأفئدتهم وفي حناجرهم.
الحية المرفوعة

قال السيد المسيح في شرحه لنيقوديموس: "وكما رفع موسى الحيّة في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان. لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 14، 15).
كان نيقوديموس من قيادات اليهود في ذلك الزمان ومعلّم لإسرائيل (انظر يو3: 10). وكان ينبغي أن يربط له السيد المسيح ما ورد في التوراة برسالة الإنجيل وعمل الفداء والخلاص.
بدأ السيد المسيح يشرح لنيقوديموس مغزى الحيّة التي رفعها موسى في البرية حينما أخطأ الشعب إلى الله، وأطلق عليهم الحيّات السامة فلدغتهم وقتلت منهم الآلاف، وصرخ موسى إلى الرب فأمره بأن يعمل حيّة نحاسية ويرفعها على سارية، وكل من لدغته الحيّات وينظر إلى هذه الحية النحاسية يبرأ من لدغ الحيّات.
إن إبليس هو الملقّب بلقب "الحية القديمة"، لأنه في الفردوس اختفى في الحية التي هي أحيل حيوانات البرية وأسقط آدم مع حواء، وبهذا دخل الموت إلى العالم.
وبذلك أصبحت الحيّة رمزًا لغواية إبليس ورمزًا للخطية والموت.
وحينما جاء السيد المسيح إلى العالم لأجل خلاص البشرية، ليحمل خطايا جميع من ناب عنهم ولكي يموت عوضًا عنهم ويرفع عنهم الدين، فإنه قد سمّر خطايانا على الخشبة. أي أن الحية المرفوعة في البرية هي إشارة واضحة إلى الخطايا التي حملها السيد المسيح فوق الصليب مسمّرًا إياها بالخشبة.
لقد صعد السيد المسيح إلى الصليب حاملًا الحية مسمّرًا إياها بالصليب، ثم نزل من على الصليب بعد قبوله الموت فداءً عنا تاركًا الحية مسمّرة هناك.
فكل من ينظر إلى الصليب يرى الخطية وهى مدانة "فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو8: 3). كل من ينظر إلى الصليب ويؤمن بأن الرب المسيح قد دفع عنه دين خطاياه يستحق أن يبرأ من سم الحيّات، أي أن يبرأ من خطاياه في المعمودية أو في سرى الاعتراف والتناول إذا كان من الذين قد نالوا العماد بالمسيح.
إن العجيب في الأمر أن ترمز الحية المرفوعة إلى صليب السيد المسيح الذي كان هو نفسه بلا خطية وحده. ولكن هكذا يقول الكتاب إن الله قد "جعل الذي لم يعرف خطية؛ خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (2كو5: 21). أي أن الرب المسيح قد أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. أخذ الخطايا وحملها وحمل عارها لكي نلبس نحن بره "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غل3: 27).
صارت الحيّة المرفوعة ترمز إلى المسيح المصلوب.. وصارت عصا الرعاية في البرية -التي تحوّلت في يد موسى إلى حيّة وابتلعت حيّات سحرة فرعون- هي نفسها الوسيلة التي ضرب بها موسى البحر الأحمر وشق مياهه لعبور المفديين. ولهذا يحمل الأسقف عصا الرعاية في صورة حيّة نحاسية مرفوعة ترمز إلى صليب المسيح حيث قَتل السيدُ الموتَ بموته مسمرًا خطايانا بالصليب.
لقد أشهر السيد المسيح الشيطان وأدان الخطية بالصليب "إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (أي في الصليب)" (كو2: 15).
إن ارتفاع السيد المسيح على الصليب هو إعلان للجميع أنه هو الطريق المؤدى إلى السماء وهو إعلان للجميع أن الخطية قد دينت، وأن اللعنة قد أزيلت، وأن الموت قد مات.
ما أجمل اللحن الذي يُقال في قداس القديس يوحنا ذهبي الفم عن الرب المسيح وموته المحيى على الصليب:
[عندما انحدرت إلى الموت أيها الحياة الذي لا يموت. حينئذ أمت الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى، صرخ نحوك جميع القوات السماويين: أيها المسيح الإله معطى الحياة، المجد لك].
إن قيامة السيد المسيح من الأموات، هي استعلان لحقيقة أنه قد داس الموت بالموت. أي أن الموت الذي سحقه السيد المسيح بموته على الصليب لم يكن ممكنًا أن يمسكه لأنه قد انهزم منه، حتى أن النبي تغنى قائلًا: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية. ابتلع الموت إلى غلبة" (انظر هو13: 14، 1كو15: 55، 54).
إن كان السيد المسيح قد قبِل الموت بنعمة الله نيابة عنّا، فإنه قد انتصر لنا.. ولهذا صرخ في لحظة موته على الصليب "يا أبتاه في يديك أستودع روحي" (لو23: 46). إنها صرخة الانتصار نيابة عن الإنسان الذي غاب طويلًا عن يدي الآب، إذ كان تحت سلطان موت الخطية كما أوضح معلمنا بولس الرسول عما فعله الرب المسيح للبشرية المفتداة "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس. ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب2: 14، 15).
كما أن القديس أثناسيوس الرسولي قد عبّر عن هذه الحقائق بكلماته الرائعة في كتاب "تجسّد الكلمة" كما يلي:
[وهكذا إذ أخذ من أجسادنا جسدًا مماثلًا لطبيعتنا، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضًا عن الجميع، وقدّمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا، وذلك (أولًا) لكي يبطل الناموس الذي كان يقضى بهلاك البشر، إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه قد أكمل في جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره في البشر الذين ناب عنهم. (ثانيًا) لكي يعيد البشر إلى عدم الفساد بعد أن انحدروا إلى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة، وينقذهم من الموت (يبيد الموت عنهم)، كإنقاذ القش من النار] (الفصل الثامن- الفقرة رقم 4).
يطلب ويخلص ما قد هلك

قال السيد المسيح لنيقوديموس: "لأنه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم" (يو3: 17).
أتى السيد المسيح في مجيئه الأول لخلاص العالم. وسوف يأتي في مجيئه الثاني ليدين العالم. فحديثه مع نيقوديموس أن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلُص به العالم، مقصود به المجيء الأول للسيد المسيح وليس المجيء الثاني، هذا من ناحية خصوصية المجيء وليس شموليته.
ولكن الحديث أيضًا له شمولية عن تأثير إرسال الابن الوحيد إلى العالم. بمعنى أن الهدف الأصلي من إرساله ليس لإدانة العالم بل لخلاصه. ففي الإطار العام يكون الهدف هو الخلاص والفداء.
فالغضب الإلهي كان سيمكث على العالم لو لم يرسل الله ابنه الوحيد لإتمام الخلاص والفداء. وهذا واضح من كلام القديس يوحنا المعمدان الذي سجله إنجيل القديس يوحنا "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله" (يو3: 36).
أي أن السيد المسيح قد جاء ليرفع الغضب الإلهي الكائن بالفعل ضد جميع البشر منذ سقوط الإنسان ومعصيته وفساد طبيعته.
وقد أكّد القديس بولس الرسول فساد الطبيعة البشرية بقوله: "كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (رو3: 10-12).
وقال أيضًا عن وراثة الخطية الأصلية وحكم الموت: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع" (رو5: 12).
وقال معلمنا داود النبي: "لأني هأنذا بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي" (مز50: 5). أي أن الإنسان قد حُبل به وارثًا الخطية الأصلية وولد بها من بطن أمه. كما أنه قد ورث فساد الطبيعة.
وفى المقابل يتحرر الإنسان من الخطية الأصلية كما أنه ينال الطبيعة الجديدة في المسيح بالمعمودية. كقول معلمنا بولس الرسول "لأننا كنا نحن أيضًا قبلًا أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته، نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية" (تى3: 3-7).
فكما يرث الإنسان الخطية الأصلية والموت وفساد الطبيعة بولادته الجسدية من آدم هكذا يرث البر والحياة. وتجديد الطبيعة بالمسيح "لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (1كو15: 22).
وقال السيد المسيح عن مجيئه إلى العالم: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10: 10). أي أنه "قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10).
ما هي الدينونة؟

أكمل السيد المسيح حديثه مع نيقوديموس حول الدينونة فقال: "وهذه هي الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو3: 19).
كانت البشرية غارقة في الظلمة وظلال الموت. وقال إشعياء النبي: "ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور" (إش9: 1، 2).
ليست المشكلة أن يجلس الإنسان في أرض ظلال الموت منتظرًا النور. بل المشكلة في أن يبغض النور ويُسَّرْ بالظلام.
فالذين انتظروا مجيء المخلّص -كما قال يعقوب أب الآباء قبل موته مباشرة "لخلاصك انتظرت يا رب" (تك49: 18)- ذهب الرب إليهم في ظلمة الجحيم، في بيت السجن وبشرهم بالخلاص وأخرجهم من هناك. الذين رقدوا على رجاء الخلاص وصلت إليهم بشارة الخلاص بعد رقادهم..
ولكن الذين يحبون الظلمة أكثر من النور لا يمكنهم أن ينالوا الخلاص سواء كانوا قد رقدوا قبل مجيء المخلّص وإتمام الفداء، أو عاينوا المسيح الرب أو جاءوا بعد مجيئه إلى العالم وصعوده إلى السماوات.
الدينونة تنبع من واقع ميول الإنسان ورغباته. فهو الذي يحدد مصيره بما يشتاق إليه. كما قال السيد المسيح: "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا" (مت6: 21).
الدينونة هي في رفض محبة الخير.. في رفض محبة الله.. في رفض عطية النعمة والخلاص والتجديد.. في رفض معانقة النور والالتحاف به.. في تفضيل حياة الخطية على حياة البر.. في مقاومة عمل الروح القدس داخل القلب.. في الفرح بالشر والابتهاج به وكراهية النور الذي يبعثه الله في حياة الإنسان "لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة" (يو3: 20، 21).
إن مجيء المسيح نور العالم هو فرصة لتحرير من يريد الحرية، ولن ينتفع منه شيئًا رافضي الحق والنور والحياة ممن أحبوا الظلمة أكثر من النور.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:15 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
السيد المسيح ومواجهته لليهود

أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق

قال السيد المسيح لليهود: "أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (يو8: 23).
من المعروف طبعًا أن السيد المسيح قد اتخذ من العذراء مريم طبيعة بشرية كاملة جسدًا وروحًا بلا خطية وبدون زرع بشر. ولكن هذه الطبيعة البشرية التي اتخذها لم تنزل من السماء بل تم تكوينها من العذراء مريم بالكامل، بفعل الروح القدس.
فلماذا يقول السيد المسيح لليهود: "أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق"؟
السبب الأول في ذلك: أن السيد المسيح لم يكن ناسوتًا فقط، بل كان ناسوتًا متحدًا باللاهوت، ومعلوم طبعًا أن الابن الوحيد هو مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته. ولذلك قال لليهود: "الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8: 58). وبالطبع فإن شخص السيد المسيح كائن قبل كل الدهور بلاهوته. وهو حينما تجسد، لم يتخذ شخصًا من البشر ليسكن فيه، بل هو هو نفسه بنفس شخصه قد اتخذ طبيعة بشرية وصار إنسانًا لأجل خلاصنا.
لذلك فحينما يقول كلمة "أنا"فإنه يتكلم عن شخصه الواحد الوحيد كقول القديس أثناسيوس [لقد جاء كلمة الله في شخصه الخاص
The Word of God came in His own Person]
وهذا الشخص الواحد الوحيد مرتبط أولًا وقبل كل شيء بطبيعته الإلهية، وحتى حينما أتى وتجسد من مريم العذراء فإنه ظل هو ابن الله الوحيد، كما نقول في التسبحة (لم يزل إلهًا؛ أتى وصار ابن بشر؛ لكنه هو الإله الحقيقي؛ أتى وخلصنا) (ثيئوطوكية الخميس qeotokia). وقال القديس بولس الرسول: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16).
والسبب الثاني هو: كون اليهود يحبون العالم ويتمسكون به، فإنه يجعلهم من أسفل لهذا قال السيد المسيح عن تلاميذه القديسين: "ليسوا من العالم، كما أنى أنا لست من العالم" (يو17: 16). وقال لهم: "لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم" (يو15: 19).
فبالرغم من ولادة التلاميذ من أبوين بحسب الجسد إلا أنهم بولادتهم الثانية من فوق سوف ينطبق عليهم قول السيد المسيح أن "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو3: 6). وليس معنى ذلك الكلام أن تلاميذ المسيح سوف يفقدون أجسادهم بالميلاد الفوقاني، ولكن سوف يسلكون بالروح وتكون اشتياقاتهم روحية سمائية غير خاضعة لشهوات الجسد الباطلة.
لذلك قال معلمنا بولس الرسول: "إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.. فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح، فبما للروح يهتمون. لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام" (رو8: 1، 5، 6).
لقد قدّم السيد المسيح نفسه قدوة للوضع المثالي لحياة الإنسان. وطالب تلاميذه أن يتبعوا أثر خطواته حاملين الصليب منكرين ذواتهم ليتمكنوا من السلوك بحسب الروح بمعونة من الروح القدس، وبهذا يتأهلون لميراث ملكوت السماوات.
وقد شرح القديس يوحنا الإنجيلي أيضًا هذا المفهوم بقوله: "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله" (يو1: 12، 13).
بالطبع فإن القديس يوحنا يتكلم عن الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، وذلك بالنسبة للمؤمنين بالمسيح. وهذا على سبيل عطية النعمة.
أما بالنسبة للسيد المسيح شخصيًا فقد ولد من العذراء مباشرة كابن لله، كما قال الملاك للعذراء مريم "القدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو1: 35).
والسيد المسيح باعتباره الله الكلمة له ميلاد واحد بحسب إنسانيته وهو ميلاده من العذراء مريم. ولكن له ميلاد آخر ينفرد به وحده وهو ميلاده بحسب لاهوته من الآب قبل كل الدهور. لذلك دُعى السيد المسيح "ابن الله الوحيد"وليس "ابن الله" فقط.
وقد قال السيد المسيح في حديثه مع نيقوديموس عن الفداء: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16).
إن بنوة السيد المسيح للآب السماوي هي بنوة طبيعية، أما بنوتنا نحن فهي بالتبني على سبيل النعمة. وحينما ولد السيد المسيح من العذراء مريم فقط، ظل هو الابن الوحيد الذي لم يولد من العذراء مريم آخر سواه في تجسده الفريد باعتباره الله الكلمة المتجسد الذي نمجده في كل رفع بخور وقداس في صلواتنا الكهنوتية قائلين: (يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد بأقنوم واحد نسجد له ونمجده) (الأرباع الخشوعية التي يقولها الكاهن بين الخورس الأول والثاني في رفع البخور).
"فتشوا الكتب" (يو5: 39)

حدثت مواجهات كثيرة بين السيد المسيح واليهود، لخّصها القديس يوحنا الإنجيلي في عبارته المشهورة "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله" (يو1: 11).
وقال السيد المسيح عن موقف اليهود الرافضين له: "هذه هي الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو3: 19). أي أن رفض اليهود لرسالة السيد المسيح كان نابعًا أساسًا من محبتهم للمال أو محبتهم للعالم، أو محبتهم لذواتهم، أو محبتهم للشهوات الجسدية، أو لغرورهم أو لكبرياء قلوبهم، أو لمحبتهم للسلطة، أو محبتهم للمجد العالمي، أو لرغبتهم في إثبات بر أنفسهم، أو لرغبتهم في مملكة أرضية ترضى تطلعاتهم الزمنية، أو لعدم اكتراثهم بحاجتهم للخلاص من عبودية الشيطان والخطية، أو لعدم إيمانهم بالقيامة من الأموات أو بالحياة الأبدية، أو من بعض أو كل هذه الأسباب مجتمعة.
لهذا قال السيد المسيح لليهود: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالًا للناس من البدء" (يو8: 44).
كان اليهود يتكلمون على أنهم أبناء إبراهيم، ويتكلمون على أن موسى هو نبيهم وعلى الأسفار المقدسة التي كتبها لهم؛ أي على التوراة وباقي أسفار العهد القديم التي كتبها الأنبياء. بل كانوا يتكلمون على أن الله هو أباهم الواحد.
وقد رد السيد المسيح على كل هذه الأشياء موضحًا لهم أنها كلها كان المفروض أن تقودهم إلى الإيمان به وبرسالته، ولهذا فأنها ستشهد ضدهم لأنهم لم يؤمنوا به.

فحينما قالوا للسيد المسيح إن إبراهيم هو أبوهم، رد عليهم بقوله: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم" (يو8: 39).
وحينما قالوا له: "لنا أب واحد وهو الله" (يو8: 41)،رد عليهم بقوله "لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني" (يو8: 42).
وبالنسبة لاتكال اليهود على أن لديهم التوراة وباقي الأسفار الإلهية، ويفتخرون بذلك قال لهم السيد المسيح: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهى التي تشهد لي. ولا تريدون أن تأتوا إلىّ لتكون لكم حياة" (يو5: 39، 40).
ونظرًا لافتخارهم بأن نبيهم موسى الذي استلم الوصايا العشر وكتب التوراة أي الشريعة الإلهية، قال لهم السيد المسيح: "لا تظنوا أنى أشكوكم إلى الآب. يوجد الذي يشكوكم وهو موسى، الذي عليه رجاؤكم. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني. لأنه هو كتب عنى. فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك، فكيف تصدقون كلامي؟" (يو5: 45-47).
وقال لهم أيضًا: "أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس، لماذا تطلبون أن تقتلوني؟!" (يو7: 19).
معرفة اليهود لله

ظن اليهود أنهم يعرفون الله وأنه هو إلههم ولكن السيد المسيح أظهر لهم أنهم كاذبون لأنهم رفضوا رسالته والإيمان بأن الله قد أرسله. ولهذا قال لهم:
"لستم تعرفوننى أنا ولا أبى. لو عرفتموني لعرفتم أبى أيضًا" (يو8: 19).
"إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم" (يو8: 24).
"متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون أني أنا هو" (يو8: 28).
"من نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني" (يو7: 28، 29).
"أبى هو الذي يمجدني الذي تقولون أنتم إنه إلهكم ولستم تعرفونه، أما أنا فأعرفه. وإن قلت إني لست أعرفه أكون مثلكم كاذبًا" (يو8: 54، 55).
من هذا يتضح أن السيد المسيح قد أكّد مرارًا لليهود أنهم كاذبون في ادعائهم أنهم يعرفون الله ويعبدونه. لأن من يرفض إرسالية السيد المسيح يكون قد رفض الله وهو واهم في الإدعاء بأنه يعرف الله ويعبده.
ولكن هذا الكلام لم ينطبق على اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح بل قال لهم: "إنكم إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (يو8: 31، 32).
رغبة اليهود في قتل السيد المسيح

أراد السيد المسيح أن يبين لليهود الفرق بينهم وبين إبراهيم الذي يفتخرون بأنه أبوهم فقال لهم: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو8: 56). فقال له اليهود: "ليس لك خمسون سنة بعد أفرأيت إبراهيم؟" (يو8: 57). أجابهم يسوع: "الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8: 58). "فرفعوا حجارة ليرجموه أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم ومضى هكذا" (يو8: 59).
وقد ظلت المواجهات بين السيد المسيح واليهود مستمرة حتى وصلت إلى ذروتها، حينما أقام لعازر من الأموات وفي أحداث الأسبوع السابق لصلبه وبالفعل تآمروا عليه وصلبوه، ولكنه نقض تآمرهم بانتصاره الساحق على الموت بقيامته حيًا من الأموات وصعوده إلى السماوات وإرساله الروح القدس لكي يشهد الرسل بقيامته ببرهان الروح والقوة.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:16 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
التعليم عن الاتضاع في الخدمة السيد المسيح

كما سلك السيد المسيح في اتضاع فائق وإخلاء ذات؛ هكذا علّم عن الاتضاع في خدمته، إلى أن أتى إلى غسل الأرجل والآلام والصليب حيث رأينا الاتضاع يتألّق فوق قمة الجلجثة. ولهذا نستمع إلى تعاليم السيد المسيح باعتباره قد عمل وعلّم "جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به" (أع1: 1).
المتكآت الأولى

دُعي السيد المسيح إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين في يوم السبت ليأكل. ولاحظ كيف اختار المدعوون المتكآت الأولى، وتسابقوا متنافسين عليها.
لاحظ كيف ينهزم الإنسان داخليًا، حينما يسعى للتفوق على غيره، متجاهلًا مشاعر الآخرين، وبلا أي نفع يجنيه سوى محبته للظهور وإثبات الوجود الذي بلا ثمرة.
فقال للمدعوين مثلًا: "متى دعيت من أحد إلى عرس فلا تتكئ في المتكأ الأول، لعلَّ أكرم منك يكون قد دُعي منه. فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك أعطِ مكانًا لهذا. فحينئذٍ تبتدئ بخجل تأخذ الموضع الأخير. بل متى دعيت فاذهب واتكئ في الموضع الأخير، حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا صديق ارتفع إلى فوق. حينئذ يكون لك مجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومَن يضع نفسه يرتفع" (لو14: 8-11).
بالرغم من بساطة المثل، إلا أنه ممتلئ بالحكمة، ويتميز بالتصوير الدقيق للمعنى الذي قصده السيد المسيح.
الإنسان المتضع يجد سهولة كبيرة في أن يجلس في المتكأ الأخير، أي في الموضع الأخير. بل يعتبر أن هذا هو مكانه الطبيعي، وأنه لا يستحق مكانًا أفضل منه. كما أنه يفرح بتقديم غيره على نفسه "مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة" (رو12: 10). حاسبين البعض أفضل من أنفسهم.
المثل الذي أعطاه السيد المسيح، أوضح بأجلي صورة كيف أن محب الكرامة يعرّض نفسه لمواقف يسئ بها إلى نفسه وكرامته. وكيف أن الكرامة الحقيقية هي في الهروب من الكرامة.

محب الكرامة يتعب دائمًا إذا لم يحصل على رغباته، ويتعب من إهمال الآخرين له.
محب الكرامة يتعب إذا لم يمدحه أحد، ويتعب إذا مُدح غيره.
محب الكرامة يستجدى المديح من الناس، فإذا لم يمدحه أحد يبدأ هو في مديح نفسه، وفي الحديث عما يراه في أعماله من أسباب العظمة ودواعي الشكر والمديح. مع أن الكتاب يقول: "ليمدحك الغريب لا فمك، الأجنبي لا شفتاك" (أم27: 2).
كل هذه المعاني نستطيع أن نتعلمها من المثل الذي قاله السيد المسيح. ونتعلم أيضًا أن من يهرب من الكرامة، تجرى خلفه وترشد جميع الناس إليه،فالناس بطبيعتهم يميلون إلى الإنسان المتضع، ويرتاحون للتعامل معه. لأنهم يشعرون بتحرره من الأنانية، والانحصار حول الذات، وأنه يقدّم الآخرين على نفسه مقدّرًا إياهم، وشاعرًا بأنهم أفضل منه.
المتضع يحبه الناس، والمتعالي يثير فيهم مشاعر الرفض وعدم الارتياح.
المتضع يشبه منحدرًا متسعًا تجتمع إليه المياه وتملأه. والمتعالي يشبه قمة أو نتوءًا عاليًا لا تستقر فوقه المياه، بل تتركه سريعًا منحدرة إلى أسفل. هكذا تملأ النعمة الإلهية قلوب المتضعين.
هناك من يحب الظهور فيظهر كبرياءه، وهناك من يختفي فيتألق اتضاعه ويجتذب إليه الجميع.
محبة المتكأ الأخير تحتاج إلى اقتناع داخلي، وتحتاج إلى تدريب، وتحتاج إلى يقظة روحية وعين ساهرة متطلعة نحو إشراق الملكوت على النفس، حيث ترى في المسيح فرحها وسعادتها التي تغنيها عن كل مجد زائل وخادع.
سباق المظاهر

تكلّم السيد المسيح موجهًا تعليمه إلى الفريسي الذي دعاه: "إذا صنعت غذاءً أو عشاءً، فلا تدعُ أصدقاءك، ولا إخوتك، ولا أقربائك، ولا الجيران الأغنياء. لئلا يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمى. فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافوك. لأنك تكافى في قيامة الأبرار" (لو14: 12-14).
تصوّر رئيس الفريسيين الذي استضاف السيد المسيح ليأكل في منزله، أن السيد المسيح سوف يفرح بكبار القوم والأغنياء والشخصيات المرموقة التي توافدت على البيت لحضور الوليمة.
ولكن السيد المسيح في تواضعه كان يميل بالأكثر إلى مجالسة الفقراء والبسطاء، والمساكين.
لم يسترح الرب لتنافس المدعوين على المتكآت الأولى ومشاعر العظمة التي ملأت قلوبهم. كما لم يكن شخصيًا تهمه الأمجاد العالمية ولا مجيء هؤلاء الأغنياء لمشاهدته، بل كان يهتم بغنى النفس في المحبة والتواضع و"زينة الروح الوديع الهادئ" (1بط3: 4).
كل إنسان مثل ذلك الرجل يصنع وليمة، يفتخر بمن دعاهم من الأغنياء، ويبذل قصارى جهده لتظهر وليمته متفوقة على غيره من الأقران. وبهذا تنتشر مظاهر البذخ والترف في الولائم وفي مناسبات الأفراح وغيرها. ويتسابق الناس في دعوة الأغنياء الذين يتبادلون معهم إقامة مثل هذه الحفلات والولائم. وذلك في الوقت الذي يعانى فيه الفقراء من العوز والجوع.
ولا يقيم مثل هذا الشخص مائدة بهدف إرضاء الله، بل هدفه الوحيد هو إرضاء الغرور، وإرضاء البشر، وتبادل المتعة والمنفعة.
لابد لكل عمل يعمله الإنسان أن يكون بدافع الخير والمحبة، ولخير المجتمع الذي يعيش فيه ولبناء ملكوت الله. ليتمجد الله في كل شيء.
وينبغي أن يجعل الإنسان له هدفًا مقدسًا لكل عمل يقوم به.
المحبة الباذلة

المتضع يستطيع أن يسلك في المحبة بلا عائق. فالكبرياء تصنع حجابًا على عيني الإنسان فلا يبصر حلاوة المحبة وجمالها الفائق الاتضاع.
كثير من الناس يشفقون على حال الفقراء، ويتمنون أن يخدموهم، ولكن خدمة المساكين تحتاج إلى من ينزل إلى مستواهم، ويشاركهم ما هم فيه من معاناة وعوز.
وقد قدّم السيد المسيح نصيحة ثمينة للرجل الذي دعاه، ولكل من سمعوا تعليمه الممتلئ بالحكمة الإلهية "إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمى. فيكون لك الطوبى" (لو14: 13، 14).
ألم يتنازل السيد الرب نفسه حينما تجسد إلى ذُلنا وتواضعنا، ليرفعنا إليه، لنتمتع بمجده في ملكوته السماوي، ولنجلس معه على مائدته في ملكوته.
هل نحن كنا أحسن حالًا من هؤلاء المساكين الجدع والعرج والعمى، حينما كنا مستعبدين لإبليس وللموت قبل أن يخلصنا السيد المسيح من خطايانا، ويصالحنا مع الله أبيه؟!
إن ما طالب به السيد المسيح في مسألة الوليمة هو شيء يسير، وصورة مصغّرة جدًا لما فعله هو معنا حينما دعانا إلى التمتع بمجده.
أليست محبته هي التي جعلته يحتمل الذل والهوان، في اتضاع كبير، ليحررنا من مذلتنا وعبوديتنا المُرة، وليفتح أعين قلوبنا بعد العمى، وليحرك طاقات طبيعتنا بعد العجز الكامل والبؤس والضياع؟!
حقًا إن المحبة تتشح بالاتضاع، والاتضاع يرافق المحبة، فاتحًا الطريق أمامها حتى تكمل عملها بفرح ومسرة.

Mary Naeem 11 - 03 - 2014 06:18 PM

رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
 
التعليم عن الوداعة وعدم مقاومة الشر في خدمة السيد المسيح

قيل عن السيد المسيح بفم إشعياء النبي: "هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق، لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يُخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم" (مت12: 18-21).


لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته.

المقصود بالخصام هنا، الجدال المصحوب بالغضب، والصياح، والكراهية، والكلمات الجارحة، والذي يؤدى إلى العداوة المتبادلة.
لهذا أوصى معلمنا بولس الرسول: "فأريد أن يصلى الرجال في كل مكان، رافعين أيادي طاهرة، بدون غضب ولا جدال" (1تى2: 8).
كان السيد المسيح يدافع عن الحق في وداعة عجيبة. لم يكن يهدد أو يتوعد، بل كان يثق في قوة الحق في ذاته.. لأن الحق يهدر مثل الرعد في قلوب المقاومين.
وقد واجه السيد المسيح مواقف كثيرة تدعو إلى الغضب، واحتمل الكثير من الإهانات. ولكنه كان يواجهها بالاحتمال، ويجاوب بطريقة الإقناع الهادئ، كما ذكرنا من قبل عن أسلوبه في الحوار.
كان السيد المسيح يدعو تلاميذه أن يتعلموا من أسلوبه هذا ويقول لهم: "احملوا نيري عليكم، وتعلّموا منى لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت11: 29).
وبنفس هذه الروح أوصى بولس الرسول تلميذه الأسقف تيموثاوس أن يتجنب الخصومات في دفاعه عن الحق فقال: "والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالمًا أنها تولد خصومات. وعبد الرب لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفقًا بالجميع، صالحًا للتعليم. صبورًا على المشقات. مؤدِّبًا بالوداعة المقاومين، عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق. فيستفيقوا من فخ إبليس. إذ قد اقتنصهم لإرادته" (2تى2: 23-26).
بالطبع يجب أن يدافع الأسقف عن الحق، ويجب أن يؤدِّب المقاومين، ويجب أن يعزل العضو الفاسد، لئلا يؤثر على بقية الأعضاء. لأن "خميرة صغيرة تخمر العجين كله" (1كو5: 6).
ولكن ما صنعه السيد المسيح، وما أوضحه بولس الرسول، هو أن أسلوب الدفاع، وأسلوب التأديب، ينبغي أن يكون في إطار الوداعة، وبروح الاتضاع التي تليق بالراعي.
الصراع الحقيقي هو مع إبليس، وليس مع الخطاة، أو مع المقاومين. والراعي الحكيم يهدف إلى تخليص الذين اصطادهم إبليس لإرادته. وهذا لا يتم بالدخول في عداوة مع من يرغب الراعي في تخليصهم.. بل بترفقه بهم، وصلاته من أجلهم، ومحاولته إقناعهم، وأحيانًا بتأديبه لهم بروح الوداعة. كما لا يجب التفريط في باقي الرعية، وحمايتهم من التأثير الضار.
أسلوب الصياح والتهديد والدخول في المعارك الكلامية الصاخبة، لا يتناسب مع اتضاع السيد المسيح كخادم للخلاص.


https://st-takla.org/Gallery/var/albu...-Sinner-01.gif
لهذا قيل عنه "لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (مت12: 19).
"قصبة مرضوضة لا يقصف" (مت12: 20)

بترفقه بالخطاة، وبترفقه بالمقاومين، كان يطيل أناته عليهم، لعله يقتادهم إلى التوبة.
لهذا قيل عنه "قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ، حتى يُخرج الحق إلى النصرة" (مت12: 20).
كم من نفوس خلّصها السيد المسيح بترفقه وطول أناته، مثل زكا العشار، والمرأة السامرية، واللص اليمين، ومثل قائد المئة الذي صلب السيد المسيح، والذي اعترف بألوهيته بعد الصلب مباشرة بقوله: "حقا كان هذا الإنسان ابن الله" (مر15: 39). وكثيرون غيرهم ممن ذكرت أسماؤهم في الأناجيل أو كانوا في وسط الجموع الصاخبة التي صرخت: اصلبه اصلبه..
هذه الفتائل المدخنة هذه القصبات المرضوضة كان السبب في وصولها إلى معرفة الحق أو في تحررها من سلطان الخطية، هو وداعة السيد المسيح واتضاعه في خدمته لها.
عدم مقاومة الشر

قال السيد المسيح: "لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا" (مت5: 39)،وقال: "من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا" (مت5: 40)، وليس المقصود بكلمة لا تقاوموا الشر أن لا نقاوم الخطية فالكتاب يقول: "قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يع4: 7)، فمقاومة الشر بمعنى مقاومة الخطية.. ليس هو ما قصده السيد المسيح بقوله لا تقاوموا الشر، بل كان يقصد بالشر المشاجرة والعدوان مع الآخرين. وقد قال الكتاب أيضًا: "إن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" (رو12: 20، 21). والرب يجازيك لأنه مكتوب: "لي النقمة أنا أجازى يقول الرب" (رو12: 19).
ويدعونا أيضًا بطرس الرسول أن نتشبه بالسيد المسيح "الذي إذ شُتِم لم يكن يَشتم عوضًا وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضى بعدل" (1بط2: 23). عندما شُتِم السيد المسيح لم يكن يَشتم عوضًا بل سلّم لله الآب. ونتيجة لذلك عندما قام من الأموات كل الذين شتموه صاروا في خزي وخجل. لأن الذي شتموه قد انتصر على الموت، والذي قالوا عنه أنه مجدِّف ومضل أُعلن لهم أنه هو رئيس الحياة وقدوس القديسين، من خلال انتصاره على الموت وقيامته المجيدة.. فالذي شَتَم هو الذي صار مخزيًا وليس الذي شُتِم.
وبهذا قدّم لنا السيد المسيح تطبيقًا عمليًا في حياته لِما علّم به تلاميذه والجموع.
اغلب بالمحبة وروح الوداعة

لقد احتمل السيد المسيح الخزي في لحظات الآلام والصلب، لكن بعد هذا تحول كل ذلك إلى مجد.. فعندما قال السيد المسيح: "لا تقاوموا الشر"كان يعلم أن هذا الكلام هو من أجل منفعتنا. لأن من يقاوم الشر فالشر يؤذيه.. وعندما قال السيد المسيح: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم" (مت5: 44) كان يقصد أننا نغلب أعداءنا بالمحبة، لأن الذي يغلب عدوك هو محبتك أكثر من عداوتك وكراهيتك.
الإنسان الذي يستخدم العنف هو إنسان لا يستحق أن يكون مسيحيًا. بل تكون نتيجة عنفه؛ أذيته هو أكثر مما يستطيع أن يؤذى غيره. فالعنف لا يعطيه نصرة أو مجد كما يتصور إنما يسبب له أذية أكثر مما يتوقع. فوصايا السيد المسيح ليست لتقييدنا كما يفتكر البعض، أو يقول أن الوصية صعبة. لكن الحقيقة أن السيد المسيح يسعى لأجل منفعتنا، لأنك إن فعلت ذلك ينجيك من الشر الذي يمكن أن يؤذى روحك.
اغلب الشر بالخير

"لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" (رو12: 21)، فإذا قدّمت محبة للذي يخاصمك، تغلبه بمحبتك وتكون أنت الذي انتصرت. لكن بدلًا من أن تنتصر بقوة السلاح تنتصر بقوة الخير وقوة الحب الساكن فيك. وإذ يأمرنا السيد المسيح بهذا لا يدعونا أن نكون جبناء أو أن نخاف، فهو الذي قال: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر" (لو12: 4)، وهو الذي شجّع أولاده أن يصيروا شهداء كالشهيدة دميانة والأربعين عذراء.. أين الجبن هنا؟!
الإنسان المسيحي مستعد أن يواجه الأباطرة والحكام وينال إكليل الشهادة إذا طُلب منه أن يتنازل عن مسيحيته، كما طُلب من القديسة دميانة أن تبخر للأصنام أو تسجد لها ولكنها دفعت والدها مرقس وإلى البرلس إلى أن يصير شهيدًا، بل وصارت هي أيضًا أميرة بين الشهيدات.
مفهوم الشجاعة في المسيحية

المسيحية لا تدعو الإنسان إلى الخوف، أو إلى الجبن، بل تدعوه أن يكون قويًا شجاعًا، ولكن الشجاعة ليست أن يحمل سلاحًا، ولا يطمئن لشيء يحميه إلا السلاح. فيبدو في الظاهر أنه شجاع لكنه في الحقيقة من الداخل لا يجد سلامًا أو طمأنينة.
أما القديسون فيشعرون دائمًا بعدم خوف.. لماذا؟ لأن "ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم" (مز33: 7). الإنسان القديس أو الإنسان المؤمن، بل الإنسان المسيحي الحقيقي، يشعر أن الملائكة تحرسه، ويشعر أن أرواح القديسين تحرسه وتشفع من أجله. فيشعر بالطمأنينة ويصدّق كلمات السيد المسيح الذي قال: "بل شعور رؤوسكم أيضًا جميعها محصاة" (لو12: 7)، و"شعرة من رؤوسكم لا تهلك" (لو21: 18)، بذلك يشعر أنه ليس بحاجة إلى أن يرخِّص سلاحًا كي يحميه. فاستخدام السلاح هو إلقاء وقود على النار، بينما الكتاب المقدس يقول "لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" (رو12: 21).. أفضل سلاح تستخدمه هو سلاح المحبة، سلاح الوداعة.. السيد المسيح قال: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (مت5: 5).
الودعاء يرثون الأرض

ما معنى أنهم يرثون الأرض؟ الإنسان الوديع يكون محبوبًا من جيرانه، ومحبوبًا من أهله وبحبه هذا يستطيع أن يرث الأرض، لأن كل الناس صاروا مِلكًا له. وإذ يحبه الناس يصيرون مِلكًا له أي يملك على قلوبهم، فأنت تملك جارك وتملك بيته وتملك حقله وتملك كل شيء فيه.. وكيف ذلك؟ لأنه يحبك وإذا أحبك فأنت تملك كل شيء.. البغضة تجعل الإنسان منبوذًا مكروهًا غير مرغوب فيه. هكذا فإن كل من يكره يخسر، بينما ينجح كل من يحب.
أعظم سلاح يستخدمه الإنسان لكي يغلب عدوه هو سلاح الحب وليس سلاح الكراهية.. ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [أفضل وسيلة تتخلص فيها من عدوك هي أن تحول هذا العدو إلى صديق] وبذلك تكون قد تخلّصت منه -ليس بالقضاء عليه، أو بقتله، أو أذيته- لكن تخلّصت منه كعدو إذ حولته إلى صديق، وصار هذا الصديق يحبك فلم يعد عدوًا على الإطلاق. كما أنك تكون قد كسبت صديقًا جديدًا وهكذا يتزايد عدد الذين يحبونك.


الساعة الآن 10:02 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025