منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   كتب البابا شنودة الثالث (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=25)
-   -   كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=260680)

Mary Naeem 02 - 03 - 2014 11:47 AM

كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
أخلى ذاته

مقدمة عن الميلاد
"فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله. لكنه أخلي ذاته آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبة الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (فى2: 5 8).

إن السيد الرب، إذ أخلي ذاته وأخذ شكل العبد لم يقتصر ذلك على حادثة الميلاد فحسب، بل شمل ذلك حياته كلها التي لا تدخل تحت حصر.
ميلاد السيد المسيح المتواضع كان مجرد مظهر من مظاهر إخلاء الذات وسنحاول أن نتبع إخلاء الرب لذاته في كل ناحية... ونحاول أن ندرك الأسباب التي من أجلها أخلي ذاته... ثم نأخذ لأنفسنا عظة عملية، محاولين أن نطبق عنصر الإخلاء في حياتنا...
وعلينا أن نفهم بالدقة: ما هو معني إخلاء الذات...
إنه لم يخلها طبعًا من جوهرة ولا من طبيعته ولا من لاهوته الذي لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين. بل أخلي ذاته من الأمجاد المحيطة به ومن عظمة السماء. وسننشر هذا وغيره بالتفصيل في الصفحات المقبلة هنا في موقع الأنبا تكلا...
جميل بنا أن نلاحظ أن هذا الإخلاء لم يكن إقلالًا من شأن الرب، وإنما هو عظمة جديدة في مفهومها. كان الناس يفهمون العظة في مظاهر خارجية. أما عظمة من يخلي ذاته ويأخذ شكل العبد، فلم يكن أحد يتصورها. هذه قدمها الرب لنا...

Mary Naeem 02 - 03 - 2014 11:48 AM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أخلى ذاته في ميلاده
عجيب هو الرب في اتضاعه، عندما أخلي ذاته في ميلاده.
· نزل إلى العالم هادئا بدون ضجة، ودخله في خفاء لم يشعر به أحد... لم يحدد من قبل موعد مجيئه.
· وهكذا ولد في يوم مجهول، لم تستعد له الأرض ولا السماء، ولم يستقبله فيه أحد. يوم ميلاده كان نكره بالنسبة إلى العالم، مع أنه من أعظم الأيام إذ بدأ فيه عمل الخلاص الذي تم على الصليب.
ولو نزل الرب إلى العالم في صفوف ملائكته، على سحابة عظيمة، أو في مركبة نورانية يحيط به الشاروبيم والسارافيم... وقد ارتجت له السموات وكل قوي الطبيعة... أو لو أن السماء احتفلت بميلاده، وليس بنجم بسيط يظهر للمجوس، بل اهتزت له كل نجوم السماء وكواكبها... لو حدث ذلك، لقلنا إنه أمر يليق بالرب ومجده...!

لو أن شخصًا كان مسافرًا إلى مكان، لأرسل الرسائل قبلها، فيستقبله الأحباء والأصدقاء والأقارب والمعارف والمريدون، وربما يستاء إذا قصر أحد في انتظاره أو في استقباله....
أما السيد المسيح فدخل إلى العالم في صمت، بعيدًا عن كل مظاهر الترحيب، في ضجيج، وبطريقة بسيطة هادئة... دخل بنكران عجيب للذات، أو في إخلاء عجيب للذات وكل الذين استقبلوه جماعة من الرعاة المساكين، ثم المجوس...
· هناك أشخاص يحبون الضجيج وبهرجة الترحيب في دخولهم وفي خروجهم، لأن فاعلية ميلاد السيد المسيح لم تغيرهم بعد...
لم يخل السيد المسيح ذاته في هدوء مجيئه إلى العالم فحسب، بل في كل ظروف ميلاده. فكيف كان ذلك؟
· ولد من أم فقيرة يتيمة، لم تكن تجد من يعولها. عهد بها الكهنة إلى يوسف، خطبوها له لتعيش في كفنه.
وولد في قرية هي: "الصغرى بين رؤساء يهوذا" (مت2: 6).
وسكن في الناصرة التي يعجب الناس إن أمكن أن يخرج منها شيء صالح (يو1: 46). ودعي ناصريًا.
وعاش في بيت نجار بسيط، حتى كانوا يعيرونه قائلين: "أليس هذا هو إبن النجار" (مت13: 5).
وعاش ثلاثين سنة مجهولًا، كفترة تبدو ضائعة في التاريخ. حتى الرسل لم يعتنوا أن يكتبوا عنها شيئًا تقريبًا... عاش فيها دون أن يلتفت إليه أحد، مخفيًا لا يعرف عنه أحد شيئًا، كأي شخص عادي... بينما تلك السنوات الثلاثون هي فترة الشباب والقوة التي يهتم فيها كل إنسان بذاته، ويود فيها كل شاب أن يظهر وأن يعمل عملًا...
· أخلي الرب ذاته فعاش في التطورات الطبيعية كسائر البشر.
قضي فترة كرضيع وكطفل. ولم يستح من ضعف الطفولة... بما فيها من احتياج إلى معونة آخرين، وهو معين الكل!
احتياج إلى رعاية أم، وهو راعي الرعاة! احتياج إلى امرأة من صنع يديه، تحمله على يديها، وتهتم به، وهو المهتم بكل أحد. وتغذيه، وتعطيه ليأكل ويشرب!
ومن العجيب في طفولته، أنه أخلي ذاته من استخدام قوته. فهرب من أمام هيرودس، بينما روح هيردوس في يده! هرب من هيرودس وهو الذي خلق هيرودس، وأبقاه حتى ذلك اليوم. عجيب هذا الأمر.. عجيب أن نري القوي القادر على كل شيء يهرب مثل سائر الذين يهربون من الضيق! يهرب من القتل وهو الذي يملك الحياة والموت... وجاء إلى مصر وعاش فيها سنوات. ولم يرجع إلا بعد أن هدأ الجو، بينما كان يستطيع أن يفلت من الرجل بطريقة معجزية أو يقضي عليه...
أخلي ذاته، فاحتمل ضعف البشرية وهو المنزه عن كل ضعف. وسمح لنفسه أن يجوع ويعطش ويتعب وينام، كسائر البشر...
عجيب أن يقال عن الرب أنه في آخر الأربعين يومًا: "جاع أخيرًا" (مت4: 2). وعجيب أن هذا الينبوع الذي روي الكل يقول للسامرية: "أعطيني لأشرب" (يو4: 7)، ويقول على الصليب: "أنا عطشان" (يو19: 28). وعجب أن يقال عنه إنه تعب وجلس عند البئر (يو4: 6) وإنه نام في السفينة (لو8: 23).
· أخلى الرب ذاته كل هذا الإخلاء، ليخزي الذين يفتخرون ويتكبرون. وكأنه يقول لكل هؤلاء: إنني لم أولد في قصر ملك، ولا على سرير من حرير، وإنما في مزود للبهائم. ولكني سأجعل هذا المزود أعظم من عروش الأباطرة والملوك... سيأتيه الناس من مشارق الشمس إلى مغاربها ليتباركوا منه.
ليس المكان هو الذي يمجد الإنسان، ولكن الإنسان هو الذي يمجد المكان. والعظمة الحقيقية إنما تنبع من الداخل.
فليحل الرب في أي مكان، ولو كان مكانًا للبهائم، وليولد في أية قرية ولو كانت هي الصغرى في يهوذا. ولكنه سيرفع من شأن كل هذا... يولد في هذه الحقارة إلى مجد. يولد من فتاة فقيرة، ويجعلها أعظم نساء العالم... ويولد في بيت رجل نجار بسيط، فيحوله إلى رجل قديس مشهور في الكنيسة...

Mary Naeem 02 - 03 - 2014 11:56 AM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أخلى ذاته من صفات الملك

كان يمكن لمعلمنا الصالح أن يأتي كملك. ولو أتي كذلك، ما كان أحد ينكر عليه أنه ملك.
فهو من سبط يهوذا صاحب المملكة، ومن نسل داود الملك.
ولكنه أخلى ذاته من الملك، وهو ملك الملوك (رؤ17: 14)...
لم يأت في هيئة ملك.
لأن اليهود في تفاخرهم بالعظمة البشرية، كانوا ينتظرون أن يأتي المسيا كملك عظيم، لأنهم كانوا يظنون أن عظمة الملوك هي التي تخلصهم وكان قصد الرب أن يحطم هذه الفكرة أيًا.
فلم يخلصهم بعظمة الملوك، بل بتواضع النجار الناصري، الذي استهانوا به قائلين: "أليس هذا هو النجار إبن مريم؟!" (مر6: 3).
أتي كنجار بسيط، ولم يأت كملك. ولما سعي إليه الملك، رفضه وهرب منه. ولما "رأي أنهم مهتمون أن يأتوا ليختطفوه ويجعلوه ملكًا، انصرف إلى الجبل وحده" (يو6: 15).
ورضي أن يحاكم أمام عبيده، أمام بيلاطس وهيرودس، وأمام أعضاء مجلس السنهدريم... وكان يقول: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 36).
أخلي ذاته من صولجان المُلك ومن الكرامة المقدمة للملوك، مفضلًا أن يحاط بمحبة القلوب الطائعة لقلبه، وليست الخائفة من سطوه سلطانه...

Mary Naeem 02 - 03 - 2014 11:57 AM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أخلى ذاته من كرامة الرئاسة

لم يطلب أن يكون رئيسًا لتابعيه، أو سيدًا... وإنما صديقًا لهم. وهكذا قال لتلاميذه: "لا أعود أسميكم عبيدًا... لكني سميتكم أحباء" (يو15: 15). وخاطبهم في إحدى المرات قائلًا: "أقول لكم يا أصدقائي..." (لو12: 4).
وأخلي ذاته لدرجة أنه انحني وغسل أرجلهم...
لم يعامل الناس كعبيد من صنع يديه... بل كانت تربطه بهم رابطة الحب لا رابطه الرئاسة. إن البشر هم الذين يستهويهم حب الرئاسة والسلطان... أما معلمنا المتواضع فكان يريد قلوب الناس لا خضوعهم، وكان يريد محبتهم لا تذللهم ولم يقم نفسه رئيسًا للناس بل صديقًا.
لذلك كان محبوبًا لا مُخافًا. يهابه الناس عن توقير، لا عن رعب. لم يرد أن تكون له الرهبة التي ترعب الناس، بل الحب الذي يجذب الناس. وهكذا أمكن للأطفال أن تلتف حوله، وأمكن ليوحنا أن يتكئ على صدره.
إن كل من يحب العظمة، لم يتمتع بفاعلية الإيمان بعد.
قال الأنبا أنطونيوس مرة لأولاده:
[يا أولادى، أنا لا أخاف الله]. فأجابوه: [إن هذا الكلام صعب يا أبانا]. فقال لهم: [ذلك لأني أحبه. والمحبة تطرح الخوف إلى خارج] (1يو4: 18).
إن أهل العالم يحبون السلطة والنفوذ والسيطرة. يريدون أن يخافهم الناس، ولو عن قهر. أما المسيح إلهنا فيقول: "من يحبني يحفظ وصاياي". يعني أن حفظ وصاياه يكون عن حب وليس عن خوف...

Mary Naeem 02 - 03 - 2014 11:58 AM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أخلى ذاته حتى في صنع المعجزات!
أخلي الرب ذاته فلم يستخدم قوته على صنع المعجزات إلا في الضرورة القصوى.
لم يستخدم قوته من أجل ذاته، ولا من أجل منفعة خاصة لم يستخدم لاهوته ليمنع عن نفسه الجوع أو العطش أو التعب أو الألم. رفض أن يحول الحجارة إلى خبز لسد جوعه الشخصي، بينما بارك الخمس خبزات من أجل إشفاقه على الناس.
لم يستخدم قوته ليهبر الناس بالمعجزات، ولا من أجل الإيمان. وعندما كانوا يطلبون منه معجزة لأجل (الفرجة) لم يكن يقبل. بل كان يبكتهم قائلًا: "جيل فاسق وشرير يطلب آية ولا تعطي له..." (مت12: 39). لم يبهر الناس بالمعجزات مثلما فعل سيمون الساحر، ومثلما فعلت عرافة فيلبي، ومثلما سيحدث في الأزمنة الأخيرة من المسيح الدجال والوحش والتنين...

رفض أن يلقي نفسه من على جناح الهيكل، لتحمله الملائكة.
ويري الناس المنظر فينذهلون ويؤمنون معجبين بعظمته...! رفض ذلك، لأنه أخلي ذاته من إعجاب الناس. إن معلمنا الصالح لم يحط نفسه بالمجد، لأنه أراد أن يلتف الناس حول التواضع وليس حول المجد.
ومعجزة كحادثة التجلي التي كان يمكن أن تبهر الجماهير، لم يشأ أن يراها كل الشعب، ولا حتى كل تلاميذه الاثني عشر، بل رآها ثلاثة فقط، وأوصاهم ألا يظهروها... كان زاهدًا في كل هذه الأمور التي يبحث عنها من يريدون أن يظهروا ذواتهم... بل أكثر من هذا أنه بعد كل معجزة تبهر البصر كان يخفي تلك المعجزة بعمل من أعمال الضعف البشري أو بكلام عن آلامه... أو يطلب ممن حدثت معه أن يخفيها...
وحتى من أجل الإيمان لم يشأ أن يبهر الناس بالمعجزات. أراد أن يكون إيمانهم بدافع من الحب والاقتناع وليس بسبب المعجزات. وما الدليل على هذا؟
دليلنا أنه كان يطلب الإيمان قبل المعجزة، وليس كنتيجة لها. وكثيرًا ما كان يسأل الذي يجري معه المعجزة "أتؤمن؟"، أو يقول له: "ليكن لك حسب إيمانك". وإن كان يؤمن قبلًا تحدث معه المعجزة... ولذلك قيل عنه إنه في وطنه: "لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم" (مت13: 58). كان الإيمان يسبق المعجزة. وكانت المعجزة نتيجة للإيمان وليست سببًا.
وكثير من معجزات السيد الرب كانت أعمال رحمة وحب وكانت لها أهداف روحية... تتبعوا عنصر الحب والحنان في معجزات الرب يظهر لكم واضحًا وجليًا... وهكذا نري في معجزة لإقامة العازر أنه بكي قبل أن يقيمه. إن الحب الذي كان يعتصر قلبه، ظهر أولًا في عينيه الدامعتين، قبل أن تظهر قوته في عبارة: "هلم خارجًا". وكثير من معجزات الشفاء كانت تسبقها عبارة: "فتحنن يسوع" أو "أشفق" أو ما شابه ذلك...
ولم يستخدم معجزاته في الدفاع عن نفسه، أو في الانتقام من مضطهديه وشاتميه. أهانوه بكل أنواع الإهانة، وأشبعوه شتمًا وتعييرًا. وكان يستطيع أن يجعل الأرض تفتح فاها وتبتلعهم، أو تنزل نار من السماء وتفنيهم. ولكنه لم يفعل. كان قد أخلي ذاته من استخدام هذه القوة التي فيه.

Mary Naeem 02 - 03 - 2014 11:59 AM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
عاش المسيح بغير لقب وبغير وظيفة
* عاش السيد المسيح بغير لقب، وبغير وظيفة رسمية في المجتمع، وبغير اختصاصات في نظر الناس...
* ماذا كانت وظيفة المسيح في نظر المجتمع اليهودي، أو في نظر الدولة؟! لا شيء.. كان أمامهم مجرد رجل يجول من مكان إلى آخر، يعمل ويعلم، دون أن يستند إلى وضع رسمي...

* لم يكن من أصحاب الرتب الكهنوتية في نظر الناس، لأنه لم يكن من سبط لاوي ولا من أبناء هارون فقد كانت أمه ويوسف النجار من سبط يهوذا.
* ووصل إخلاؤه لذاته في هذه الناحية، أنه عندما شفي الرجل الأبرص، قال له: "اذهب أر نفسك للكاهن، وقدم القربان الذي أمر به موسى" (مت 8: 4). يا لها من عبارة مؤثرة للغاية!! تصوروا رئيس الكهنة الأعظم، منشئ الكهنوت ومؤسسه، ومنع كل سلطة كهنوتية، يقول للأبرص: "اذهب أر نفسك للكاهن"!!...
وماذا عنك أنت يا رب؟ أنت الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق؟ لماذا ترسلني إلى كاهن، وأنت راعي الرعاة وكاهن الكهنة؟! ما أعجبك في إخلائك لذاتك! تتصرف كمن لا سلطة له، وأنت مصدر كل سلطة!!
* وعاش السيد المسيح بدون أي مركز اجتماعي، ولم تكن له أية صفة رسمية على الإطلاق. حتى في وضعه كمعلم... لم يكن من طوائف الكتبة والفريسيين المؤتمنين على التعليم في ذلك الحين، ولا من جماعة الكهنة الذين من أفواهم تطلب الشريعة (أر18: 18)، ولا من الشيوخ ولا من البارزين في المجتمع...
* وعلى الرغم من كل ذلك، ملأ الدنيا تعليمًا، وكانوا يلقبونه بالمعلم، والمعلم الصالح، ودعي معلمًا حتى من أصحاب المكانة العلمية كالكتبة والفريسيين...
وهكذا أرانا كيف يمكن أن يعيش الشخص بلا لقب، ومع ذلك يعمل أكثر من أصحاب الألقاب!...
وفي حياته كمعلم، عاش وقد أخلي ذاته من كل شيء.

Mary Naeem 02 - 03 - 2014 12:01 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
لم يكن للمسيح مكانًا يُعَلِّم فيه

أحيانًا كان يعلم وهو جالس على الجبل، وأحيانًا يكلم الناس وهو واقف في سفينة وهم جلوس على الشاطئ... وأحيانًا كان يعلم وهو في وسط الزروع والبساتين، يتأمل مع تلاميذهزنابق الحقل وطيور السماء... وأحيانًا كان يعلم في الخلاء، في موضع قفر، في البرية. وأحيانًا في الطريق... وعلى العموم لم يكن له مكان خاص للتعليم، لا مركز ثابت ولا مكان ثابت.. بل لم يكن له أين يسند رأسه (لو9: 58).
وإذ أخلي ذاته من الارتباط بمكان معين، أصبح له كل مكان...
عجيب أن الله الذي ملأ السموات والأرض، لم يكن له أين يسند رأسه...
عندما ولد يقول الكتاب: "لم يكن له موضع في البيت" (لو2: 7). وطول فترة تجسده على الأرض لم يكن له مسكن معين. يذهب أحيانًا إلى بيت مريم ومرثا، وأحيانا إلى بيت مريم أم يوحنا الملقب مرقس، وأحيانا إلى إلى بيت سِمعان، وأحيانًا إلى بستان جثماني... ما أعجب قول الكتاب: "ومضي كل واحد إلى بيته، أما يسوع فمضي إلى جبل الزيتون" (يو8: 1)...
والذين كانوا يتبعونه، كانوا يسيرون وراء المجهول... لا يعرفون لهم موضعًا ولا مركزًا، ولا مالية معينة، ولا عملًا محددًا. عندما قال السيد لمتي اللاوى: "اتبعني"، تبعه متى... ولو سألته: "إلى أين؟" لما عرف كيف يجيب... ولو سألته ماذا ستعمل؟ لوقف أمام علامة استفهام لا جواب لها. لقد أراد الرب لتلاميذه أن يخلوا ذواتهم أيضًا... هم مجرد تلاميذ، لا يعرفون لهم عملًا سوي أن يتبعوا المسيح، الذي لا يعرفون له وظيفة ولا عملًا رسميًا ولا مكانًا ثابتًا...

Mary Naeem 03 - 03 - 2014 04:13 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
كان المسيح يحيط به جماعة من المساكين

وكما أخلي المسيح ذاته، أحبه الذين أخلوا ذواتهم، أو الذين لا ذوات لهم. فأحاطت به مجموعة من الفقراء والمساكين والمزدري وغير الموجود... جماعة من جهال العالم وضعفاء العالم وأدنياء العالم (1كو1: 27، 28). وهكذا اختار تلاميذه: جماعة من الصيادين الجهلة، كما اختار واحدًا من العشارين المرذولين.
والذين أحاطوا به كانوا من عامة الشعب: الأطفال الذين لا يعتد بهم أحد والخطاة والعشارين الذين يحتقرهم الناس، والنساء أيضًا اللائي لم تكن لهن مكانه في المتجمع اليهودي... وهكذا كانت نسوة كثيرات يتبعنه (لو23: 27)... وحول صليبه وقفت النسوة لا شيوخ الشعب... وبكت عليه بنات أورشليم (لو22: 28) ولم يبك عليه أعضاء مجلس السنهدريم!
عاش إنسانًا بسيطًا بلا مركز وبلا لقب، يحيط به أشخاص مجهولون بلا مركز وبلا لقب أيضًا.
وحتى لقبه الطبيعي "إبن الله"، لم يستخدمه كثيرًا. وكان يستبدله في غالب الأحيان بلقب "إبن الإنسان"!...
عاش وسط الشعب، لا وسط الرؤساء، وكان قريبًا من الصغار، بعيدًا عن الكبار والمعتبرين، يحبه الشعب ويضطهده الرؤساء... وحسنًا تنبأ عنه داود قائلًا: "الأعزاء قاموا على" (مز54: 3) "الرؤساء اضطهدوني بلا سبب" (مز119: 161).
حتى الذين استضافوه كانوا من البسطاء أو من المحتقرين فدخل بيت متي، ولم يدخل بيت بيلاطس ولا بيت هيرودس ودخل بيت زَكَّا، ولم يدخل بيت حنان ولا بيت قَيافا...

Mary Naeem 03 - 03 - 2014 04:15 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
عاش يسوع مُضطهدًا في حياته
إن السيد الرب لم يخل ذاته فقط من المجد اللائق أن يحيط بلاهوته، بل أخلي ذاته حتى من مجد البشرية أيضًا، فكان محتقرًا ومخذولًا من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن... محتقرًا فلم يعتد به (إش53: 2، 3).

أمسكوه مرة حجارة ليرجموه (يو10: 31). ومرة أخري: "أخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل حتى يطرحوه إلى أسفل (لو4: 29)... وطاردوه في كل مكان، محاولين أن يصطادوه بكلمة... ولم تكن له كرامه في وطنه.
وتقبل كل هذه الإهانات الكثيرة وهو الذي لم يفارق لاهوته ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين...
قالوا له إنك سامري وبك شيطان! وقالوا عنه إنه أكول وشريب خمر، ومجدف، وضال، ومُضِلّ. قالوا إنه ناقض للشريعة وكاسر للسبت، وإنه ببعلزبول يخرج الشياطين. فبماذا أجاب المسيح؟ ما أجمل قول القداس الغريغورى "من أجلى احتملت ظلم الأشرار. بذلت ظهرك للسياط وخديك أهملت للطم"...
كيف أن هذا الذي تجثوا أمامه كل ركبه مما في السماء وما على الأرض، الذي ليست السموات طاهرة قدامه، كيف أنه: "لم يرد وجهه عن خزي البصاق "؟! الجواب الوحيد أنه أخلي ذاته
وهكذا ضربوه ولطموه... ما أعجبه في إخلائه لذاته! يصل الأمر بخالق السماء والأرض أن يسمح لإنسان من تراب أن يصفعه على وجهه، ويقبل ذلك ويسكت!... " ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (إش53: 7).
ووصلت الاستهانة بإله الكل الذي أخلي ذاته، إلى أنهم فضلوا عليه رجلًا قاتلًا ولصًا هو بَارَابَاس، طالبين أن يصلب المسيح.بل وصلت المهانة بإله الكل إلى أن أصبح ثمنه ثلاثين من الفضة، ثمن عبد!!
إنه لم يأخذ فقط شكل العبد، وإنما بيع أيضًا بثمن عبد.. استغل الناس إخلاءه لذاته... فلم يمتنع عن إخلاء ذاته، من أجل الناس.
وكما عاش مضطهدا في حياته، عاش مضطهدًا بعد مماته أيضًا. فحتى قبره كانت تحرسه الجنود المدججة بالسلاح، خائفين أن (ذلك المضل!!) يقوم "فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولي" (مت27: 63، 64). وهكذا ختموا القبر بالأختام، وضبطوه بالحراس...
وهكذا لاحقوا بالشتائم بعد موته. وادعوا أن تلاميذه أتوا ليلًا وسرقوه. ودفعوا في سبيل ذلك ما دفعوه من رشوة...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 02:53 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
عاش المسيح فقيرًا ومرفوضًا

أخلي ذاته من المال والجاه، فعاش فقيرًا لا يملك شيئًا وهو مغني الكل.
حتى أنهم لما طلبوا منه الجزية لم يجد ما يعطيه لهم، فطلب من بطرس أن يلقي الشبكة ويصطاد ويدفع لهم (مت17: 27).
وعاش مرفوضًا.
إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله (يو1: 11).
كنور أشرق في الظلمة، والظلمة لم تدركه (يو1: 5)،
بل أحب الناس الظلمة أكثر من النور... (يو3: 19).
وأصبح الاتصال به تهمة، والتلمذة له عارًا...
حتى أن نيقوديموس عندما أراد مقابلته، قابله في الخفاء، سرًا وليلًا (يو3: 2) وحتى أن اليهود في إهانتهم للمولود أعمي إذ آمن بالمسيح بعد شفائه، شتموه قائلين له أنت تلميذ ذاك (يو9: 28).
وهكذا أصبحت التلمذة لذاك الناصري من أنواع السب ووصمة عار. وجاء الوقت الذي أصبح فيه تلاميذه مغلقين على أنفسهم في العلية لا يستطيعون الخروج منها، خوفًا من مسبة انتسابهم لذاك الناصري...
وهكذا وجدنا عملاقًا عظيمًا كبطرس تبرأ من المسيح ومن الانتساب إليه، وأخذ يلعن ويحلف قائلًا إنه لا يعرف الرجل (مز14: 71).

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 02:55 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
جرأة الشيطان على المسيح!
عبارة " أخلي ذاته " لم تنطبق عليه في فترة ميلاده فحسب، بل صاحبته طوال حياته على الأرض في الجسد...
ومن أجل أنه أخلي ذاته، تجرأ الشيطان ليجربه.

ووصل الرب في إخلائه لذاته، إلى حد أنه ترك الحرية للشيطان، يختار الزمان والمكان ونوع التجربة... ما أشد على النفس قول الكتاب: "ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل " وأيضًا " ثم أخذه إبليس إلى جبل عال جدًا" (مت4: 5، 8).
إبليس "يأخذه"، "ويوقفه" حيثما يشاء!! يا للهول!...
ما أشد هذا الإخلاء للذات... من يحتمله؟!
وإذا بهذا الإله الكامل في معرفته المخبأة فيه كل كنوز العلم والمعرفة، يقول عنه الكتاب أن الشيطان: "أراه" جميع ممالك الأرض ومجدها!!... "أراه"؟! وهو الذي يري الخفيات والمكنونات، ويعلم حتى أعماق الفكر وبواطن القلوب...
وهذه الممالك، التي كلها من صنعه، وكلها له، والتي بيده بقاؤها وانحلالها، يقول له الشيطان: "لك أعطي هذه جميعها"... وتصل الجرأة بالشيطان أن يقول له: "إن خررت وسجدت لي "!! هل إلى هذه الدرجة تصل الجرأة؟!
ما أعجبك يا رب! من يقدر على مثل هذا الإخلاء؟!
وأخيرًا
يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل نواحي إخلاء الرب لذاته... الأمثلة عديدة، لا تحصي... وإخلاء الرب لذاته له جذور ممتدة في العهد القديم، أتركها حاليًا لتأملاتك الخاصة....

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 02:55 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أخلى ذاته ورفع شأن أولاده
العجيب أن المسيح إلهنا بقدر ما كان يخلي ذاته، كان من الناحية الأخرى يرفع شأن أولاده...
أخذ شكل العبد، وأعطانا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية! (2بط1: 4). حقًا كما تقول تسابيح الكنيسة " أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له". وهكذا صارت لنا شركة معه (1يو1: 6). وصرنا "شركاء الروح القدس" (عب6: 4)، (2كو13: 14)، وشركاء في الميراث (أف3: 6)... وصرنا جسده، وأعضاءه، ثابتين فيه، كالأغصان في الكرمة...
وصار الرب يقربنا إليه باستمرار، ويرفعنا قدامه...
ومع أنه إبن الله الوحيد، الكائن في حضن الآب منذ الأزل، يمسي نفسه في غالبيه الأوقات: "إبن الإنسان". ونحن بني الإنسان يدعونا أولاد الله، ويكررها مرات عديدة...
ويقول عنا أننا نور العالم، ويطلب إلينا أن يضئ نورنا قدام الناس (مت5: 14، 16). ويدعونا أصدقاء له، وأحباء، وخاصته التي يحبها حتى المنتهي. ولكن الأكثر من هذا كله أن يسمح الرب بأن ندعي أخوته! ويقول الكتاب: "ومن ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شيء" (عب2: 17) ويقول أيضًا:"... ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين" (رو8: 29).

من هم أخوته هؤلاء؟! هم نحن التراب والرماد...
لو أن أحد الآباء الكهنة في أيامنا، أرسل خطابا إلى واحد من أولاده، يقول له فيه: "أيها الأخ العزيز "، لصاح الناس: ما هذا التواضع العجيب وإخلاء الذات؟! كيف يدعو ابنه أخًا له ؟! فماذا نقول إذن عن رب الأرباب عندما يدعونا إخوته؟!
بل أكثر من هذا أن الرب كثيرًا ما يختفي لنظهر نحن. فعندما ظهر الرب لشاول الطرسوسي ودعاه، فاستجاب وقال: "ماذا تريد يا رب أن أفعل" (أع9: 6). حوله الرب إلى القديس حنانيا في دمشق قائلًا له: "قم وأدخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل" (أع9: 6). وظهر الرب في رؤيا لحنانيا، وكلمة من جهة شاول، فشفاه وعَمَّده ونقل إليه رسالة الرب.
إن عمل الكهنوت كله، وكل أعمال الخدمة والرعاية، هي أعمال للرب، يعمل فيها الله في اختفاء، ويجعلنا نحن ظاهرين في الصورة. هو يعمل فينا، وهو يعمل بنا، وهو يعمل معنا، ولكنه غير ظاهر، أما نحن فنبدو للناس، كأننا نعمل. بينما " ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي" (1كو3: 7). ولكن الله كثيرًا ما يعطي السلطان لأولاده، دون أن يستخدمه مباشرة...
والمطلوب من الخدام الذين يعمل فيهم الله في اختفاء، أن يختفوا هم ليظهر الله.
فمجد الله لا يجوز أن يعطي لآخر. أما الخدام فعليهم أن يصلوا قائلين: "ليس لنا يا رب ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس أعط مجدًا" (مز115: 1).
وعمل المعجزات يعمله الله أيضًا في اختفاء عن طريق أولاده فيظهرون هم في الصورة، أما الرب فيقول لهم في حب "من يكرمكم يكرمني"... الله يرسل السيدة العذراء، أو الملاك ميخائيل أو مارجرجس أو غيرهم من القديسين، فيعملون معجزات، ويمجدهم الناس، ويفرح الرب بأن أولاده يتمجدون... بل كثيرًا ما يقع إنسان في ضيقة، فيصرخ مستغيثًا "يا مارجرجس"، ويسمع الرب، فيرسل مارجرجس، فينقذه... أو ينذر إنسان نذرًا للعذراء... ويفرح الرب ويستجيب...
بل أن الكنائس وهي كنائس الله سمح أن تبني على أسماء أولاده. فنقول كنيسة العذراء، وكنيسة مارجرجس، وكنيسة الأنبا أنطونيوس، وكنيسة مارمرقس... وكلها بيوت للرب. ولكن الرب يفرح بأولاده...
بل حتى شريعة الرب ينسبها أيضًا لأولاده أحيانًا، فيقول:- "ناموس موسي" أو "شريعة موسى"، بينما هي شريعة الرب لا غيره. ويقول الرب للأبرص: "قدم القربان الذي أمر به موسي" (مت8: 4) ويقول أيضًا: "موسى من أجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلقوا نساءكم" (مت19: 8)، بينما الذي أذن هو الله، والذي أمر هو الله. ولكن الله يرفع من شأن موسي، ويضع اسمه بدلًا من نفسه!...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 02:57 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
تواضع الله في رفع قديسيه
من هم هؤلاء يا رب الذين تريد أن تظهرهم؟ إنهم تراب ورماد، عدم وليس لهم وجود... ولكنهم أحباؤك، قديسوك...
هناك عبارة عجيبة في العهد القديم، وقفت أمامها منذهلًا لحظات طويلة... في قصة الله مع موسى النبي. عندما ثقلت المسئولية على موسي، قال له الرب: "اجمع إلى سبعين رجلًا... فأنزل وأتكلم معك هناك. وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم، فيحملون معك ثقل الشعب" (عد11: 16، 17).

تصوروا، الله يأخذ من الروح الذي على موسى ويضع عليهم! وما هو الروح الذي على موسى؟ أليس من عندك يا رب؟! كيف تأخذ منه؟ وكيف تأخذ منه أمام كل هؤلاء؟ أعطهم أنت من عندك مباشرة كما أعطيت لموسى، أنت يا مصدر كل عطية صالحة، أنت مصدر الحكمة والتدبير والفهم... كلا، إنني آخذ أمامهم من الروح الذي على موسى، وأضع عليهم، وأرفع شأن موسى في أعينهم... مبارك أنت يا رب في كل تدبيرك الصالح.
الله يحب أولاده، ويريد أن يكرمهم، في السر والجهر.
بل أن الله كثيرًا ما كان يسمي نفسه بأسماء أولاده.... فيقول: "أنا إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب" (خر3: 6). ما هذا يا رب؟! إنهم هم الذين ينبغي أن ينتسبوا إليك... الله يختفي ويظهر أولاده. وهم بالمثل يختفون لكي يظهر هو.. أنها محبة متبادلة.
ومن المظاهر العجيبة في إخلاء الرب لذاته، ورفع شأن أولاده، قصة عماد الرب من عبده يوحنا بن زكريا...
يوحنا الذي لم يكن مستحقًا أن ينحني ويحل سيور حذائه، يوحنا الذي قال له في صراحة: "أنا محتاج أن أعتمد منك"، يقف أمامه رب المجد قائلًا: "اسمح الآن"... فسمح له، واعتمد الرب منه... يا للعجب... رئيس الكهنة الأعظم، وراعي الرعاة، الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق يأتي ليعتمد من يوحنا، بينما تنفتح السماء، ويسمع صوت الآب قائلًا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 13-17).
كانت معمودية يوحنا للتوبة... ولم يكن السيد المسيح محتاجًا إلى التوبة مطلقًا لأنه قدوس بلا عيب. فلماذا أعتمد؟! الذين جاءوا إلى يوحنا ليعتمدوا جاءوا معترفين بخطاياهم (مت3: 6). ولم تكن للرب خطايا يعترف بها، ويتوب عنها ويعتمد بسببها، حاشا... فلماذا اعتمد إذن؟!
إنه من أجلنا أخلي ذاته وأخذ شكل العبد... وبنفس الوضع، من أجلنا اعتمد. من أجلنا أخذ شكل الخطاة، إذ وضع عليه إثم جميعنا، ووقف يطلب عنا معمودية التوبة، كنائب عن البشرية الخاطئة...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 02:59 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أخلى الرب ذاته لكي نستطيع أن نتمتَّع به ونوجد معه
كثيرة هي الأسباب التي لأجلها أخلي ذاته، نذكر منها:
1- لكي نستطيع أن نتمتع به ونوجد معه:

لو أنه احتفظ بجلال لاهوته، ما كان إنسان يستطيع أن يقترب إليه... ما كان تلميذه يوحنا يجرؤ أن يتكئ على صدره، وما كان الأطفال يستطيعون أن يجروا نحوه ويحيطوا به ويهرعوا إلى حضنه، وما كانت المرأة الخاطئة تستطيع أن تتقدم نحوه وتمسح قدميه بشعرها. بل ما كانت العذراء تستطيع أن تحمله على كتفها أو ترضعه من ثديها.
لو كان قد نزل في قوة لاهوته، لكان الناس يرتعبون منه ويخافون... إن الرب عندما نزل على الجبل ليعطي الوصايا العشر. "أرتجف كل الجبل جدًا، وصار كل الجبل يدخن، وصعد دخانه كدخان الأتون" (خر19: 18) و"أرتعد الشعب ووقفوا من بعيد. وقالوا لموسى: تكلم أنت معنا فنسمع. ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت" (خر 20: 18، 19). وهكذا رأي الرب أن يخلي ذاته، حتى يمكن للناس أن يختلطوا به دون أن ترعبهم هيبته، أو يصدهم جلاله.
إن موسى النبي، عبد الرب، عندما قضي معه أيامًا على الجبل لأخذ اللوحين نزل فإذا وجهه يلمع لم يستطيع الناس أن يحتملوه: "فخافوا أن يقتربوا إليه" (لذلك كان يضع على وجهه برقعًا حتى يحتمل الشعب أن ينظروا إليه (خر34: 29 ، 35).
فإن كان هذا هو الجلال الذي أخذه موسى من عشرته للرب، فماذا يكون جلال الرب نفسه؟! وإن كان الناس لم يحتملوا النور الذي على وجه موسى وهو نازل من عند الرب، فكيف تراهم كانوا يحتملون نور مجد الرب الذي قال عنه القديس يوحنا الرسول في رؤياه أن: "وجهه كالشمس وهي تضئ في قوتها" (رؤ1: 16)؟!
إنه عندما ظهر لشاول الطرسوسي، عميت عيناه من قوة النور. وظل فترة لا يبصر والقشور تغطي عينيه. فمن كان يحتمل أن يرى الرب في مجده... من يرى الرب ويعيش؟!
وعندما أظهر الرب شيئًا من مجد لاهوته على جبل التجلي، كان التلاميذ مرتعبين، ولم يكن بطرس يعلم ما يتكلم به (مر9: 6). ولما سمعوا الصوت من السحابة: "سقطوا على وجوههم، وخافوا جدًا" (مت17: 6). كيف كان ممكنًا إذن أن يحتمل الناس مجد الرب لو لم يخل ذاته؟ وهو أيضًا من أجل إنكاره لذاته، لم يأخذ معه كل تلاميذه إلى جبل التجلي، ولم يعلن هذا المجد للجميع. وحتى الذين شاهدوا مجده: "أوصاهم أن لا يحدثوا أحدًا بما أبصروا إلا متى قام..." (مر9: 9).
إن إخفاءه لأمجاده مظهر آخر من إخلاء الذات...
كان الرب يستطيع باستمرار أن يكون في مجد التجلي بين الناس، ولكنه لم يفعل. كان يريد أن يتمتعوا به، ويختلطوا به، لا أن يرهبوه.
ولماذا أيضًا أخلي ذاته؟

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:16 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
إخلاء الرب لذاته لأنه أراد أن يصحح فكرة الناس عن الألوهية

لقد اقترب إلينا حتى لا تظل فكرة الناس عن الألوهية أن الله جبار ومخيف فأراد أن يجذبنا بالحب لا بالخوف.
أراد أن يدخل قلوبنا عن طريق محبته، لا عن طريق مخافته. وهكذا نري أنه عندما رفضت إحدى قرى السامرة أن تقبله، رفض أن يسمع لتلميذيه اللذين طلبا أن تنزل نار من السماء وتفني تلك القرية، ووبخهما قائلًا: "لستما تعلمان من أي روح أنتما" (لو9: 55). إنه لم يشأ أن يرهب أهل السامرة بقوته، بل أن يكسبهم بمحبته. وصبر معلمنا الصالح إلى أن جاء الوقت الذي دخل فيه أهل السامرة بالمحبة والترحاب لا بالنار النازلة من السماء...
الله لا يريد أن يكون مخيفًا بل محبوبًا. الناس بطبيعتهم ينفرون ممن يخافونه. وقد يخضعون له في ذل، لكنهم ينفرون منه في قلوبهم...
كان التلاميذ يريدونه قويًا جبارًا مهابًا، بحسب فهمهم البشري، لذلك انتهروا الذين قدموا الأطفال إليه. أما هو، فقال لهم: "دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم...". وأخذ الأولاد: "واحتضنهم، ووضع يديه عليهم وباركهم" (مر10: 13-16). وكذلك عندما انتهر التلاميذ الأعميين الصارخين نحوه، وقف المسيح وناداهما، وتحنن، ولمس أعينهما فأبصره وتبعاه (مت20: 30-34).

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:17 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أخلى الرب ذاته ليُعالِج السقطة الأولى
ماذا كانت السقطة الأولي سوي الكبرياء، سواء سقطة الشيطان أو سقطة الإنسان؟! فالشيطان قال في قلبه: "أصعد إلى السموات، أرفع كرسي فوق كواكب الله... أصير مثل العلي" (إش14: 13، 14). وعندما أسقط أبوينا الأولين أغراهما بقوله: "تنفتح أعينكما، وتكونان مثل الله..." (تك3: 5).
أخلي الله ذاته آخذًا صورة العبد، لكي يعطي درسًا للعبد الذي أراد أن يرفع ذاته ويصير إلهًا. وهكذا صار إبن الله الوحيد ابنًا للإنسان، ليعالج كبرياء الإنسان ويجعله ابنًا لله، بالاتضاع الذي اتضع به إبن الله، وليس بكبرياء السقطة الأولي...

وهكذا في إخلائه لذاته قيل إنه شابه: "أخوته" في كل شيء... (عب2: 17).
إن الرب عندما يسمي عبيده ومخلوقاته أخوة له، إنما يبكت الذين يعاملون إخوتهم كعبيد لهم، أولئك الذين يؤلهون أنفسهم كلما ينالون مركزًا أعلي من إخوتهم... أما السيد المسيح إلهنا فلم يفعل هكذا... لقد أخلي ذاته، حتى استطاع بطرس أن يأخذه إليه وينتهره قائلًا: "حاشاك يا رب..." (مت16: 22). وسمح لكثيرين أن يجادلوه ويناقشوه، بعكس كثرين من البشر الذين لا يقبلون جدالًا من أحد وكان تلاميذه يحاورنه حسبما يريدون حتى سموهم "الحواريين"...
وهكذا أخلي السيد المسيح ذاته، وصار كواحد منا... أراد الإنسان أن يرتفع ويصير مثل الله. فنزل الله وصار مثل الإنسان... لكي ينيله بغيته، ولكن بطريقة سليمة، باتضاع الله لا بارتفاع الإنسان....
الإنسان كان يريد أن يقف مع الله في صف واحد... فبدلًا من أن يرتفع الإنسان ليقف مع الله، نزل الله ليقف مع الإنسان. لكيما بنزوله يخجل الإنسان وتنسحق نفسه ويتضع قلبه. وباتضاعه يقترب إلى صورة الله المتضع. لقد أخذ الرب صورة العبد، لكي يخفض من تشامخ السادة...
فليتنا نتضع كلما تأملناه إخلاء الرب لذاته. ليتنا نتضع نحن الذين كلما أعطينا سلطانًا في أيدينا، نريد أن تميد الأرض تحت أقدامنا، وترتعش السموات من فوق...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:19 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
كيف نُخلي ذواتنا؟

إن كان السيد المسيح قد أخلي ذاته -وفيه كل الملء- فنحن الفراغ، كيف نخلي ذواتنا؟! السيد المسيح الذي فيه كل ملء اللاهوت، أخلي ذاته وصار في الهيئة كإنسان. وهو الإله أخذ شكل العبد، فالعبد عندما يخلي ذاته أي شيء يكون؟ إن سرنا بنفس النسبة في إخلاء الذات، تُرى إلى أين نصل..؟!
عمق الاتضاع هو أن يسأل الإنسان ذاته: ما هي ذاتي حتى أخليها؟! وعندما يشعر الإنسان أنه فراغ، لا يوجد فيه شيء يخليه، يكون حينئذ قد وصل إلى كل الملء...
* النزول إلى فوق
* خطوات عملية

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:19 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
النزول إلى فوق

إن السيد المسيح إلهنا عندما أخلي ذاته نزل من السماء إلى الأرض، وما أبعد المدي بين الإثنين! ونحن الذين على الأرض إن أردنا أن ننزل منها فإلي أين ننزل، وإلى أين نهبط؟ هل تعلمون إلى أين ننزل وإلى أين نهبط؟ لا شك أننا في هبوطنا، وإنما نهبط من الأرض إلى السماء. وفي نزولنا إنما ننزل من تحت إلى فوق...!!
وهكذا نري أن السيد الرب قد غير المقاييس البشرية، مقاييس العلو والهبوط...
ألغاها كلها، وغيرها إلى العكس فقال: "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت23: 12). وقال في نفس المعني: "من أراد أن يكون فيكم عظيمًا، فليكن خادمًا. ومن أراد أن يكون فيكم أولًا، فليكن عبدًا" (مت20: 26). وقال أيضًا: "إذا أراد أحد أن يكون أولًا، فليكن آخر الكل وخادمًا للكل" (مر9: 35).
فالشخص الذي يرفع نفسه، إنما يهبط بمستواها الروحي. كلما انتفخ، ويتضاءل حتى يصبح لا شيء... مثل هذا شبهه القديس أوغسطينوس بالدخان الذي كلما يرتفع، تتسع رقعته. وكلما تتسع رقعته يتلاشى حتى يصبح لا شيء. وقد أخذ القديس أوغسطينوس هذا التشبيه عن داود النبي عندما قال: "لأن الأشرار يهلكون فنوا كالدخان فنوا" (مز37: 20) " كما يذري الدخان تذريهم" (مز68: 2).
إن الذين يظنون أنهم يرفعون ذواتهم، إنما (يرفعونها) إلى أسفل، لا إلى فوق وهذا هو ما قصده الرب بقوله: "من يرفع نفسه يتضع"...
أما المتواضعون فكلما يهبطون إلى أسفل يرتفعون إلى فوق أو أن صح التعبير يهبطون إلى فوق... هم باستمرار ينزلون إلى الأعالي الكائنة في الأعماق، لأن السيد الرب أعطانا فكرة جديدة عن العلو والعمق، عندما أخلي ذاته.. لقد علمنا أن العلو هو العمق، وأن العلو يوجد تحت لا فوق... وأعطانا مقاييس للعظمة لم تعرفها البشرية من قبل.
إن المتضعين يرتفعون من قبل في هبوطهم، والمتكبرين يهبطون في صعودهموكل من يريد أن يصعد إلى فوق، ويلتصق بالله، علية أن ينزل إلى الأرض ويقول مع داود: "لصقت بالتراب نفسي" (مز119: 25). وإلهنا الناظر إلى المتواضعات "يقيم المسكين من التراب، ويرفع البائس من المزبلة، ليجلس مع رؤساء شعبه" (مز113: 7).

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:20 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
كيف تخلي ذاتك؟
والآن، كيف تخلي ذاتك أيها الأخ:
إن لم تتمكن من إخلاء ذاتك بالتمام، فعلي الأقل:

· إخفض نفسك درجة عما تستحقه، أو عما تظن أنك تستحقه، في نظر نفسك، وفي نظر الناس. في إحدى المرات رسم كاهن جديد، وقضي فترة الأربعين يومًا في الدير. وفي تلك الفترة -وهو في الدير سألني- نصيحة له في خدمته المقلبة، فقلت له:
"كن ابنًا وسط إخوتك، وأخًا وسط أولادك".
"انزل درجة باستمرار، أو درجات... وباستمرار أسلك بالبساطة في معاملة تلاميذك، وأولادك، وأخوتك الصغار...". واليك تدريب آخر:
· جرب كيف تتنازل عن حقوقك، وعما يليق بك من كرامة. وفي كل وقت ضع أمامك الآية التي تقول: "المحبة لا تطلب ما لنفسها" (1كو13: 5)... فلا تطلب أن تأخذ كل حقوقك، ولا تطلب أن تدافع عن نفسك في كل شيء... ولا ترد التصرف بمثله...
· في إخلائك لذاتك ألق عنك الأشياء التي تضخمك في نظر نفسك أو في نظر الناس. سواء كانت داخل نفسك أو من الخارج. عليك أن تتخلي عن مظاهر العظمة، وتعيش بسيطًا...
· واعلم أن السيد المسيح في إخلائه لذاته، أعطانا فكرة أن العظمة لا تنبع من مظاهر خارجية، ولا من رفعة تحيط وإنما العظمة الحقيقية تنبع من الداخل، من كنه الذات النقية. كلما يصير القلب نقيًا، يأخذ صورة الله، ويصير حقًا على مثال الله حسبما خلق في البدء على صورة الله وشبهه (تك1: 26، 27).
· وفي كل نقاوتك وفضائلك، أنسِب الفضل كله لله لا إلى نفسك. أشعر دائمًا أن الله هو العامل فيك، وليس أنت. وأنك بدونه لا تستطيع أن تعمل شيئًا.
وإذا اشتركت مع إنسان في عمل، قدمه على نفسك في كل شيء. أعطه التفوق، وأعطه الفضل، وانسب إليه ما تحاول بأن تنسبه إلى نفسك من العظمة. وتحاول أن تختفي ليظهر الله، وليظهر أخوتك...
· وإن لم تستطع أن تخلي ذاتك، فعلي الأقل لا تضع فوقها ثقلًا جديدًا من الارتفاع، حتى لا تنوء نفسك تحت ثقل ارتفاعك..
على الأقل... لا تكبر ذاتك. لا تتحدث عن نفسك، لا تشرح للناس فضائلك لا تسرد قصصًا يفهمون منها شيئًا عاليًا عنك...
ضع أمامك صورة المسيح في إخلائه لذاته..

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:22 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
ملء الزمان

"ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من إمرأة تحت الناموس" (غل4: 4).
إن انتظاره "ملء الزمان" the fullness of the time هو درس روحي عميق نستفيده في حياتنا، عندما نتأمل قصة التجسد وكيف حدد الله ميعادها.
وعندما أخطأ آدم وحواء وعدهما الله بالخلاص، قائلًا لهما إن نسل المرأة سيسحق رأس الحية. وأنجبت المرأة قايين وهابيل وشِيث... ولم يحدث أن أحدًا منهم سحق رأس الحية. بل ظلت الحية رافعة رأسها في خطر، حتى كادت تهلك العالم كله في أيام نوح...
فإلى متي يا رب ننتظر؟ متى تحقق وعدك بالخلاص؟
" ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه (أع1: 7). فاصبروا وانتظروا خلاص الرب. وكل شيء سيتم في حينه، في ملء الزمان.
إن الله يعمل في الوقت المناسب، حين يري العمل والظروف كلها تساعد على هذا العمل. الله طويل الأناة في تفكيره وفى تدبيره. ومعالجته للمشاكل ربما تأخذ وقتًا ولكنها تكون قوية ونافعة.
متى نفذ الرب وعده بالخلاص؟ نفذه بعد آلاف السنين...
والحكمة في ذلك سنوضحها فيما بعد. ولكننا نقول الآن "إن يومًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة عنده كيوم واحد" (2بط3: 8) كل تلك الآلاف عند الله كأنها لحظة أو طرفة عين. أما البشرية فإنها شغوفة بأن تنهي كل شيء بسرعة... حمي الإسراع هي حمي تنتاب البشر جميعًا. تريد التعجل في كل شيء، ولا تستطيع صبرًا على شيء. الناس يجرون وراء حاجاتهم جريًا بدون تفكير في غالبية الأوقات.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:23 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
الإنسان و محبة العجلة والإسراع في طلب الاستجابة من الله
· وعد الرب أبانا إبراهيم بأن يكون له نسل، مثل نجوم السماء ورمل البحر. وانتظر إبراهيم طويلًا ولم يعط نسلًا كنجوم السماء... ولا حتى ابنًا واحدًا... ماذا يا رب، هل نسيت مواعيدك؟ كلا، إنني لم أنس، ولكنك أنت الذي تريد أن تتعجل الأمور قبل مواعيدها... "تقو وليتشدد قلبك، وانتظر الرب"...

· وعاد إبراهيم، فانتظر مدة أطول، ولكن النسل لم يعط له... فبدأ اليأس يتطرق إلى قلبه، ودفعه اليأس إلى أن يدخل على جاريته هاجر، وينجب منها ابنًا... ولكن مشيئة الله ظلت كما هي "بسارة يدعي لك نسل" (تك17: 9)... وعاد إبراهيم فانتظر سنوات أخري...
وحتى بعد ولادة إسحق، مرت عليه عشرات السنوات، ومازال الوعد الخاص بنجوم السماء ورمل البحر ينتظر التحقيق... وعاد إبراهيم فاتخذ قطورة زوجة له. فولدت له زمران ويقشان ومديان ويشباق وشوحا (تك25: 1، 2)... لم تكن مشيئته الرب في كل هؤلاء، فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحق ابنه... وانتظر حتى يحقق الرب وعده، في ملء الزمان... بطريقته الهادئة، التي لا تعجل فيها...
· إن اليأس من وعود الله ومواعيده يدعو إلى التعجل. والعجلة تدعو إلى استخدام الطرق البشرية. والطرق البشرية تتنافي مع طرق الله الصالحة. وسنأخذ مثلًا لذلك رفقة زوجة إسحق.
· قال الرب لرفقة وهي بعد حبلي: "في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوي على شعب، وكبير يستعبد لصغير" (تك25: 23). والكبير هو عيسو، يُسْتَعْبَد للصغير الذي هو يعقوب.
· كيف هذا يا رب؟ كيف يستعبد الكبير للصغير؟ طالما هو البكر فهو السيد. فهل سيفقد البكورية؟ وكيف يكون ذلك؟
· يجيب الرب: اتركوا هذه الأمور لي، سأعالجها بطريقتي الخاصة، الهادئة الصالحة. ومرت الأيام والسنون... أين يا رب وعدك؟ يجيب: إنتظروا، سيتم كل شئ في حينه، في ملء الزمان. ثم أتي اليوم الذي طلب فيه إسحق صيدًا من ابنه عيسو، لكي يباركه. وهنا لم تستطع رفقة أن تحتمل، فقدمت حيلة بشرية لأبنها يعقوب ليأخذ بها البركة عن طريق خداعة لأبيه...
لماذا أسرعت رِفقة؟ ولماذا لم تنتظر الرب؟ ولماذا لجأت إلى الطرق البشرية الخاطئة التي لا تتفق مع مشيئة الله الصالحة؟ إنها حمى الإسراع وعدم انتظار ملء الزمان... وماذا كانت النتيجة؟ كانت سنوات طويلة من المتاعب والآلام، قضاها يعقوب شريدًا هاربًا وخائفًا من أخيه. ومتعبًا من معاملة لابان السيئة وخداعة له. وقد سجل يعقوب ملخص حياته هذه بقوله: "أيام سني غربتي... قليلة وردية" (تك 47: 9).
حنة أيضًا كانت تطلب ابنًا من الرب، وكانت ضرتها تغيظها غيظًا. وبدا كما لو أن الرب كان يسمع. ويظل ساكتًا!
ومرت الأيام، وحنة ما تزال عاقرًا " وهكذا صار سنة بعد سنة، كلما صعدت إلى بيت الرب أن (ضرتها فننه) كانت تغيظها. فبكت ولم تأكل" (1صم1: 7). والرب يسمع ويري، ومع ذلك يبدو ساكتًا لا يعمل شيئًا!... إلى متى يا رب لا تستجيب؟ إلى متى تحتمل بكاء حنة من إغاظة ضرتها؟
يجيب الرب: انتظروا ملء الزمان. إن الذي لا يتعبكم طول أناتي، بل الذي يتعبكم هو حمي الإسراع. انتظرونا، فللانتظار فائدته...
وكان من فائدة الانتظار أن حنة نذرت نذرًا أن تعطي ابنها للرب كل أيام حياته. وقد كان، وولد لها صموئيل.
ولد صموئيل في ملء الزمان، متأخرًا جدًا. ولكنه كان أفضل من جميع أولاد فننة، ضرة أمه التي كانت تغيظها... من هم أولاد فننة؟ إننا لا نعرف شيئًا عنهم ولا حتى عن أسمائهم، أما صموئيل فيعرفه الجميع...
ليتنا إذن في معاملاتنا للرب، نصبر، وننتظر ملء الزمان.
إن الضيقات تحتاج إلى طول أناة، حتى يرفعها الرب عنا في الحين الحسن، في ملء الزمان، بعد أن نكون قد أخذناه بركتها. ولكننا أحيانًا لا نفعل هكذا بل نضيق بسرعة، ونصرخ: "لماذا يا رب تركتنا؟ لماذا لم تسمع الصلاة؟"...
قد يكون لك مريض تطلب شفاءه، وتلح في ذلك. وقد يبطئ الرب في الاستجابة حتى يأتي ملء الزمان الذي يحدده للمريض حسب حكمته في اختيار الأوقات. أما أنت فتضجر وتصيح في ضجرك: "ليه يا رب ما بتسمعش؟ أمال إيه لازمة الصلاة؟ أمال إيه فايدة سر مسحة المرضي!! " وتعمل خناقة مع ربنا... ليس لأن الله قد أخطأ في حقك، وإنما بسبب محبتك للإسراع وعدم انتظارك ملء الزمان.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:25 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
ملىء الزمان هو الوقت المناسب | فكرة الذبيحة والفداء
بنفس حكمة ملء الزمان، انتظر الرب حتى يعد كل شيء لتجسده، ثم بعد ذلك نزل إلينا في الوقت المناسب...
لم يكن هناك وقت مناسب أكثر من موعد مجيئه بالذات. كان كل شيء ممهدًا وكل شيء معدًا. لذلك كان عمل مجيئه قويًا، وكان تقبل الناس له سريعًا...
كانت النبوءات قد اكتملت، وكذلك الرموز. وأعد الرب فهم الناس لها خلال مدي طويل، حتى يستطيعوا أن يستوعبوها عندما يتم المكتوب ويتحقق الرمز...
خذوا لذلك مثالًا هو فكرة الذبيحة وفكرة الفداء:

كيف تدرج الله بهم من الذبيحة التي غطي آدم وحواء عريهما بجلدها إلى ذبيحة هابيل التي "من أبكار غنمه ومن سمانها"، إلى فكرة ذبيحة الابن الوحيد التي تمثلت في إسحق، إلى شروط الذبيحة التي بلا عيب، التي تحمل خطية غيرها وتموت عنه... وتركهم آلافًا من السنين حتى احتضنوا الفكرة واستوعبوها وصارت من بديهياتهم...
إن الله طريقته هادئة وطويلة المدى، ولكنها منتجة ونافعة...
صدقوني، لو أن الله صبر كل تلك الآلاف من السنين حتى يجد العذراء الطاهرة التي تستحق أن يولد منها الرب، والتي تحتمل أن يولد منها الرب، لكان هذا وحده سببًا كافيًا.
وكان ينبغي أن ينتظر حتى يوجد الرجل البار الذي تعيش تلك العذراء في كفنه، ويحفظها في عفتها، ويحتمل أن تحبل من الروح القدس، ويقبل الفكرة، ويحمي الفتاة، ويعيش كأنه أب لابنها في نظر المجتمع..
وكان ينبغي الانتظار حتى يولد الملاك الذي يعد الطريق قدام ملك الملوك، أعني يوحنا المعمدان ذا الشخصية الجبارة والتأثير العميق. الذي يستطيع أن يقول: "في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي، الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه" (يو1: 27) "وينبغي أن ذاك يزيد، وأني أنا أنقص. الذي يأتي من فوق، هو فوق الجميع. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع.." (يو3: 30، 31).
لعل أحدًا يسأل: ولماذا لم يوجد الله كل هؤلاء منذ زمن؟ نجيب بأن الله لا يرغم البشر على البر والقداسة. إنه ينتظر حتى توجد الآنية المستعدة بكامل إرادتها..
هناك أسباب عديدة جدًا توضح شيئًا من حكمة الرب في الانتظار حتى يأتي ملء الزمان. أوضحها هو إعداد العالم كله وتهيئته لقبول فكرة التجسد وفكرة الفداء...
وأخيرًا، عندما كمل كل شيء "لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني" (غل4: 4، 5).

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:27 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
عمانوئيل الذي تفسيره: الله معنا

" هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانؤئيل الذي تفسيره الله معنا" (مت1: 23)
" ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانؤئيل Immanuel" (إش7: 14)
جميل هذا الاسم الذي دعي به السيد المسيح في مولده، عمانؤئيل، الله معنا.
اسم فيه الكثير من التعزية، إذ فيه الكثير من حب الله لنا.
إن بركة عيد الميلاد هي هذه: أن نشعر أن المسيح هو الله معنا، الله في وسطنا، ساكن معنا، وساكن فينا.
الله في الحقيقية يحب البشر جدًا، مسرته في بني البشر. يحب أن يهب الإنسان لذة الوجود معه، ويحب قلب الإنسان كمكان لسكناه.
منذ أن خلق الإنسان، خلقه على صورته ومثاله. وأراد أن يجعله موضعًا لسكناه، أراد أن يسكن في قلب الإنسان ويحل فيه.
ومرت آلاف السنوات، وإلهنا الصالح يحاول أن يجد له موضعًا في الإنسان، ومكانًا يكون أهلًا لسكناه. ولكن الجميع كانوا قد زاغوا وفسدوا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد... لم يجد الرب في قلوبهم موضعًا يسند فيه رأسه... فماذا عنك أنت أيها المبارك؟
إن الله ينظر إلى قلبك ويقول: "هذا هو موضع راحتي إلى أبد الأبد. ههنا أسكن لأني إشتهيته" (مز132: 14).

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:28 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
مسكن الله مع الناس
إن سكني الله مع الناس وفي وسطهم، هي قصة قديمة. إنها قصة خيمة الاجتماع التي فيها نرى الله يسكن وسط شعبه. أو هى قصة تابوت العهد، التي فيها نري الله يسكن وسط شعبه.
وكما أن سكني الله مع الناس دلالة خيمة الاجتماع، هي أيضًا دلالة أورشليم السمائية في الأبدية، التي قيل عنها: "هوذا مسكن الله مع الناس. وهو سيسكن معهم. وهم يكونون له شعبًا. والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم" (رؤ21: 3).
وقد وضح هذا المعني بتشبيه أقوي في حبه:

قال إنه الرأس ونحن الأعضاء، وقال الرسول عنا ككنيسة أننا: "جسد المسيح". ولعل مثل هذا التشبيه هو ما قصده الرب بقوله: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو15: 5)، وطلب منا أن نثبت فيه كما تثبت الأغصان في الكرمة ولعل هذا أيضًا هو جزء من الصلاة الطويلة التي صلاها في بستان جثسماني، حيث قال عن تلاميذه: "أنا فيهم، وأنت في، ليكونوا مكملين إلى واحد... عرفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم" (يو17: 23).
الله الذي حل في بطن العذراء لكي يأخذ منها جسدًا، يريد أن يحل في أحشائك لكي يملأك حبًا... إن أفضل مسكن لله هو فيك. الله لا يسر بالسماء مسكنًا له، بل هو واقف على بابك يقرع لكي تفتح له (رؤ3: 2). وهو يعتبر جسدك هيكلًا لروحه القدوس ويسكن روح الله فيه (1كو3: 16). وهو يريد أن يأتى اليك ليقيم فيك مع الآب. انظر ماذا يقول"إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبى، وإليه نأتي وعنده نصنع منزلًا" ( يو 14 :23).
الله الذي بصر في إلحاح أن يسكن فيك، يخاطب نفسك الحبيبة إليه بتلك العبارات المؤثرة: "افتحي لي يا أختي يا حمامتي يا كاملتي، فإن رأسي قد إمتلأ من الطل، وقصصي من ندي الليل" (نش5: 2). تصوَّر أن الله واقف طول هذه المدة يقرع على بابك محتملًا من أجلك الطل وندي الليل.
سماؤه الحقيقية هي قلبك، لذلك يطلب إليك على الدوام قائلًا: "يا ابني أعطني قلبك..." (أم23: 26).
إنه يقول لكل نفس بشرية ما قاله المرتل في المزمور "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي سمعك، وانسي شعبك وبيت أبيك، فان الملك قد اشتهى حسنك، لأنه هو ربك" (مز 45 : 10 ،11).
إن عبارة "الله معنا" لم يقصد بها أن يكون عمانوئيل معنا في فترة تجسده فقط . وإنما على الدوام.
وهكذا يقول الرب: "ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر" (مت28: 20). ويقول أيضًا: "إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم" (مت18: 20). ويظل الرب معنا في الأبدية التي لا تنتهي. وعن هذا الأمر قال للآب: "أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي، حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا" (يو17: 24). وهكذا قال يوحنا الرائي عن أورشليم السمائية إنها: "مسكن الله مع الناس" (رؤ21: 3). هل إلى هذا الحد يا رب؟ نعم: أنا أريد أن أسكن معكم، وأحل فيكم. هل إلى هذا الحد يا رب؟ نعم: أنا أريد أن أسكن معكم، وأحل فيكم. أجد لذة في عشرتكم وفى صداقتكم. أحب أن أكون في وسطكم... أنا عمانؤئيل، الله معكم...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:29 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
الله معنا
إن بركة عيد الميلاد تتركز في عبارة (عمانؤئيل). الله معنا. فإن كنت يا أخي تحسّ أنك مع الله، والله معك، تكون قد تمتعت فعلًا ببركة عيد الميلاد...

لا تظن أن عيد الميلاد هو اليوم الذي انتهينا فيه من الصوم وبدأنا نفطر!! أو أن عيد الميلاد هو اليوم الذي عملنا فيه قداس العيد بطقوسه وألحانه الفرايحي... عيد الميلاد من الناحية الروحية هو عشرة عمانوئيل، الذي هو الله معنا...
إن الله لا يريد منك شيئًا غير قلبك ليسكن فيه... اوعى تفتكر إن ربنا عايز منك غير كده!! أبدا، صدقني. تقول له يا رب، سأعطى كل أموالى للفقراء، يقول لك يا حبيبي أنا عايز قلبك، عايز أسكن جواك. تقول له يا رب ها أصوم وأبطل كل حاجة، يقول لك أنا عايز قلبك ... تقول له: أنا ها أصلى طول الليل، يقول لك: إن صليت طول الليل، ولم تعطني قلبك، فلا فائدة من صلاتك.
كل عبادتك وصلواتك هي مجرد عبادة خارجية، إن لم يكن لله مسكن داخل قلبك.
· الله يريد أن يقيم صداقة معك. يقول الكتاب: "وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه" (تك 5: 24). منظر جميل أن نتخيل أخنوخ وهو سائر مع الله. وشعور عميق أن ندرك كيف أن الله لم يمكنه الاستغناء عن أخنوخ، فأخذه إليه...
إن بولس الرسول يشرح مجيء الرب الثاني على السحاب، واختطافنا إليه، فيختم هذا المشهد الجميل بقوله: "وهكذا نكون كل حين مع الرب. لذلك عزوا بعضكم بعضًا بهذا الكلام" (1تس4: 17، 18). وهنا على الأرض نلمح ملاحظة قوية في حياة القديسين...
وهي أن القديسين كانوا يشعرون دائمًا بوجودهم في حضرة الله. كانوا يرونه معهم على الدوام، أمامهم وعن يمينهم...
إنها عبارة متكررة على فم إيليا النبي إذ يقول: "حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه" (1مل18: 15). من فينا شعر باستمرار أنه واقف أمام عمانؤئيل الذي هو الله معنا؟...
داود أيضًا كان يحس على الدوام بوجود الله معه إذ يقول: "رأيت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع" (مز16: 8). ما هذا يا داود؟ هل الرب أمامك أم عن يمينك؟ هو معي في كل حين وفي كل موضع، وفي كل اتجاه أشعر بوجود الله...
· إن الشخص الذي يشعر بأن الله أمامه، لا يمكن أن يخطئ، سيخجل حتمًا من الله. ويقول: "هوذا الله يراني وأنا أعمل، هوذا الله يسمعني وأنا أتكلم". الله له عينان كلهيب نار تخترقان الظلام. فلو أننا شعرنا أن الله كائن معنا، لكان من المستحيل علينا أن نخطئ. إن خطايانا دليل على أننا غير شاعرين بوجوده معنا.
· هناك حادثة حدثت مع القديس مارأفرام السرياني تثبت هذا الأمر.
في إحدى المرات هددته امرأة ساقطة أن تشهر به إن لم يطاوعها ويفعل الشر معها. فتظاهر بالموافقة على شرط أن يحدث ذلك في سوق المدينة. فاندهشت المرأة وقالت له: [كيف نفعل هذا في السوق ؟! ألا تستحي من الناس وهم حولنا؟!] فأجابها القديس: [إن كنت تستحين من الناس، أفما تستحين من الله الذي عيناه تخترقان أستار الظلام؟!]. وكان لكلام القديس تأثيره العميق في المرأة فتابت على يديه.
هل تظن يا أخي أن الملحدين فقط هم الذين ينكرون وجود الله؟! أؤكد لك أنك في كل خطية ترتكبها تكون قد نسيت وجود الله أو أنكرته عمليًا. لو كنت مؤمنًا فعلًا بوجوده أمامك، لخجلت وخشيت... لا شك أن إحساسنا بعمانؤئيل الله معنا يعطينا الطهارة والنقاوة والقداسة، على الدوام.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:31 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
إحساسنا بوجود الله معنا يعطينا الشجاعة وعدم الخوف
* وإحساسنا بوجود عمانوئيل، الله معنا، يعطينا الشجاعة وعدم الخوف.
لما بدأ يشوع خدمته، قال له الرب: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك. كما كنت مع موسى أكون معك، لا أهملك ولا أتركك... تشدد وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب، لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب" (يش1: 5، 9).
الإنسان الذي يشعر بوجود الله، يشعر بقوة عظيمة معه، تزيل منه كل خوف وكل اضطراب، وتهبه الثقة والاطمئنان... واحد يسألك محرجًا، فتخاف، وتكذب! لماذا؟ لأنك تخاف؟ ولماذا تخاف؟ إن الله معك... لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.

خطية الخوف هي خطية عدم إيمان، عدم إيمان بعمانؤئيل ورعايته. كان داود شجاعًا. وكان يقول: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف..." "وإن نزل على جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام عليَّ قتال ففي هذا أنا مطمئن" (مز27: 1، 3). "الرب عوني فلا أخشى، ماذا يصنع بي الإنسان؟" (مز11: 6). وفي هذه العبارات نلمح الفرق بين شجاعة القديسين وشجاعة أهل العالم. شجاعة أهل العالم سببها ثقتهم بقوتهم الخاصة، وشجاعة القديسين سببها ثقتهم بوجود عمانوئيل، الله معهم.
ظهر الله لبولس الرسول في رؤيا بالليل وقال له: "لا تخف، بل تكلم ولا تسكت، لأني أنا معك. ولا يقع بك أحد ليؤذيك" (أع18: 10).
القديس بولس أخذ هذه العبارة، وعاش بها، ممتلئًا من الإيمان قوة. وقف قدام ليساس الأمير، وفِيلكس الوالي، وأمام العزيز فَسْتوس وأغريبا الملك. ولم يستطع أحد منهم أن يؤذيه. بل على العكس خافوا منه. لماذا خفتم أيها الملوك والأمراء من هذا الأسير المقيد بالسلاسل؟ يجيبون: لم نخف منه، وإنما من الإله الذي معه، من الرب الساكن فيه... بولس هذا في شخصه نستطيع أن نقدر عليه. ولكن لا نقدر عليه عندما يقول: "أحيا لا أنا، بل المسيح الذي يحيا في" (غل2: 20).
قبض ليساس الأمير على القديس بولس، فماذا فعل به؟ هل آذاه في شئ؟ كلا. بل أعد قوة مسلحة تتكون من 200 عسكري، و70 فارسًا و 200 رامح، فأركبت القديس بولس، وأوصلته سالما إلى فيلكس الوالي بقيصرية... (أع23: 23، 24) صحيح يا رب، أنت معنا. ووقف القديس بولس أمام فيلكس "وبينما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون، أرتعب فيلكس..." (أع24: 25).
ارتعب الوالي من أسيره المقيد، من القوة العجيبة التي تخرج منه، من الله الذي معه، من عمانوئيل...
وقف القديس بولس أمام الملك أغريباس، فكانت النتيجة أن قال له الملك: "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا" (أع26: 28). وشهد عنه قائلًا: "إن هذا الإنسان ليس يفعل شيئًا يستحق الموت أو القيود". هذه فكرة عن عمل عمانوئيل إلهنا، عندما يكون معنا، ويحطم كل قوة أمام عبيده، فلا يقع بهم أحد ليؤذيهم.
هذا هو عمانوئيل الذي كان مع الثلاثة فتية في أتون النار "فلم تكن للنار قوة على أجسامهم، وشعره من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير، ورائحة النار لم تأت عليهم" (دا3: 27)، حتى انذهل نبوخذ نصر قائلًا: "ليس إله آخر يستطيع أن ينجي هكذا"...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:32 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
مُصالحة السماء والأرض

ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة" (2كو5: 18).
أول شيء نتذكره في ميلاد الرب هو عمق محبته للناس. فمن أجل محبته لهم سعي لخلاصهم. ومن أجل محبته لهم أخلي ذاته، وأخذ شكل العبد، ونزل من السماء، وتجسد وصار في الهيئة كإنسان (في2: 7، 8).
إن التجسد والفداء، أساسهما محبة الله للناس. فهو من أجل محبته لنا، جاء إلينا. ومن أجل محبته لنا، مات عنا. لهذا يقول الكتاب: "هكذا أحب الله العالم... حتى بذل ابنه الوحيد..." (يو3: 16). أنظروا ماذا يقول: "هكذا أحب... حتى بذل". نحن إذن في تجسده، نذكر محبته التي دفعته إلى التجسد. واعترافًا منا بهذه المحبة، نتغنى بها في بدء كل يوم، إذ نقول للرب في صلاة باكر: "أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر، وكل الخليقة تهللت بمجيئك". قبل ميلاد السيد المسيح، كان هناك خصومه بين الله والناس. فجاء السيد المسيح لكي يصالحنا مع الله، أو جاء لكي نصطلح معه هو. قبل مجيئه كانت هناك خصومة بين السماء والأرض. ومرت فترة طويلة كانت فيها شبه قطيعة بين السمائيين والأرضيين: لا رؤي، ولا أحلام مقدسة، ولا أنبياء، ولا كلام من الله للناس، ولا ظهورات مقدسة... ولا أية صلة واضحة...!! كانت الأرض بعيدة عن السماء طوال تلك الفترة...
كانت خطايا الناس كليالي الشتاء: باردة ومظلمة وطويلة. وكانت تحجب وجه الله عنهم. وكانت الخصومة بينهم وبين الله، يمثلها في الهيكل الحاجز المتوسط الذي لا يستطيع أحد من الشعب أن يجتازه إلى قدس الأقداس... وزادت خطايا الناس، واحتدم غضب الله عليهم، واستمر القطيعة. ولم يحاول البشر أن يصطلحوا مع الله.
ثم جاء السيد المسيح، فأقام صلحًا بين السماء والأرض، وأرجع الصلة بينهما. وبدأت تباشير الصلح تظهر. ورجعت العلاقات كما كانت من قبل وأكثر... ولكي أوضح الأمر لكم أقول: تصوروا أن دولتين متخاصمتين، قد رجع الصلح بينهما، فماذا تكون النتيجة: طبعًا ترجع العلاقات كما كانت: يعود التمثيل السياسي بينهما، وإرسال السفراء والقناصل..وفي ظل المودة الجديدة تبرم اتفاقية اقتصادية، اتفاقية ثقافية، اتفاقية عسكرية... المهم أنه توجد علاقة وصلة. كذلك لنفرض أن شخصين متخاصمين قد اصطلحا، في ظل الصلح نري العلاقات قد بدأت ترجع، تعود التحيات والابتسامات والزيارات والأحاديث، وتعود المودة... هكذا حدث بين السماء والأرض. وبدأت تباشير الصلح تظهر بمجيء السيد المسيح إلى الأرض أو في خطوات وممهدات مجيئه..

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:35 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
تباشير الصُلح
وأول شيء شاهدناه من تباشير هذا الصلح هو كثرة نزول الملائكة إلى الأرض.
في مجيء السيد المسيح وقبيل مجيئه ازداد ظهور الملائكة بشكل واضح ظهورات متوالية، فردية وجماعية، كسفراء للرب. وتهلل الملائكة بفرح عظيم، وأرادوا أن يشتركوا في هذا الحدث العجيب وهو تجسد الرب وميلاده فظهر ملاك يبشر زكريا بولادة يوحنا (لو1: 11)، وملاك يبشر العذراء بولادة السيد المسيح (لو1: 26)، وملاك ظهر ليوسف في حلم يخبره بحبل العذراء (مت1: 20). وملاك ظهر للرعاة يبشرهم بالميلاد الإلهي (لو2: 9). وملاك ظهر ليوسف في حلم وأمره أن يهرب بالطفل يسوع وأمه إلى مصر (مت2: 13). بالإضافة إلى هذا جمهور من الملائكة الذين ظهروا مسبحين الله وقائلين: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة" (لو12: 23، 14).

إن ظهور الملائكة بهذه الكثرة، يدل على أن العلاقات بدأت ترجع بين السماء والأرض، وتدل على فرح الملائكة بالخلاص المزمع، واشتراكهم مع الأرضيين في هذا الفرح.
وظهور الملائكة في فترة الميلاد كان مجرد طلائع للملائكة الذين ملأوا العهد الجديد... ملائكة كانوا يخدمون الرب على جبل التجربة (مر1: 13)، وملائكة القيامة الذين ظهروا للنسوة، ومثل الملاكين اللذين طمأنا الرسل وقت صعود الرب (أع1: 10)...
كان هؤلاء جميعًا طلائع نعرف بهم الملائكة غير المرئيين المحيطين بنا الآن، الذين قال عنهم القديس بولس الرسول: "أليس جميعهم أرواحًا خادمة، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب1: 14).
ولم تكتف السماء في صلحها مع الأرض بظهور الملائكة، بل امتدت إلى الأحلام المقدسة بما فيها من توجيه ومن إعلان.
اجتمع الأمران معًا بالنسبة ليوسف الصديق: ملاك ظهر له في حلم يخبره بالحبل المقدس (مت1: 20). وملاك ظهر له في حلم يأمره بالذهاب إلى مصر (متت2: 13). ثم بعد ذلك ظهر له ملاك في حلم في أرض مصر يأمره أن يرجع إلى بلده لأنه "قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي" (مت2: 20). ولما خاف أن يذهب إلى اليهودية بسبب أن أرخيلاوس كان يملك هناك، " أوحي إليه في حلم "أن ينصرف إلى نواحي الجليل، فذهب وسكن في الناصرة" (مت2: 22).
هؤلاء الملائكة الذين ظهروا ليوسف الصديق في الأحلام، يعطوننا فكرة عن سمو مكانة العذراء. فالعذراء ظهر لها الملائكة عيانًا في صحوها، رأتهم بعينيها وسمعتهم بأذنيها، أما يوسف الصديق فرأي وسمع في الأحلام. إن هذا يذكرنا بالفرق الكبير بين مركز موسي النبي ومركز هارون ومريم. اللذين وبخهما الرب عندما تقولا على موسي، فقال لهما: "إن كان منكم نبي للرب، فبالرؤيا استعلن له، في الحلم أكلمه. وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلم معه" (عد12: 6-8).
لقد كلم الملائكة يوسف الصديق عن طريق الأحلام. وهكذا حدث أيضًا مع المجوس، بعد أن رأوا الطفل يسوع، وقدموا له هداياهم "أوحى إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا إلى كورتهم" (مت2: 12).
وحديث المجوس يذكرنا بظهورات مقدسة أخري صاحبت حديث الميلاد، ونقصد أولًا النجم الذي ظهر للمجوس، وأرشدهم إلى مكان المزود المقدس (مت2: 1-12). لم يكن ذلك النجم عاديًا -كما شرح القديس يوحنا ذهبي الفم- بل كان قوة إلهية أرشدتهم. ذلك أن مساره كان غير عادي من الشرق إلى الغرب، وكان يظهر حينًا، ويختفي حينًا آخر، ويقف حينًا ثالثًا. كذلك إرشاده لمكان المزود معناه أنه هبط من علوه هبوطًا يوضح المكان، وبخاصة لأن الكتاب يقول عنه أنه: "وقف حيث كان الصبي". هذا النجم كان ظهورًا مقدسًا ولم يكن نجمًا كباقي النجوم...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:35 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
مُصالحة السماء مع الأرض
وفي صلح السماء مع الأرض الذي جلبته بركة الميلاد لم تقتصر الصلة على ظهور الملائكة والأحلام المقدسة والظهورات المقدسة، بل أيضًا رجعت روح النبوة مرة أخري، ورجع عمل الروح القدس في الناس وامتلاؤهم منه. نقرأ عن يوحنا المعمدان في بشارة الملاك عنه أنه: " من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" (لو1: 15). ونقرأ في بشارة الملاك للعذراء قوله لها: "الروح القدس يحل عليك، وقوة العليّ تظللك" (لو1: 35). ونقرأ في زيارة العذراء مريم للقديسة أَلِيصَابَات أنه: "لما سمعت أليصابات سلام مريم، إرتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس" (لو1: 41). ونقرأ عن زكريا الكاهن بعد انقضاء فترة صمته " وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلًا..." (1: 67). ونقرأ أيضًا عن سمعان الشيخ أنه كان رجلًا بارًا: "والروح القدس كان عليه وكان قد أوحي إليه بالروح القدس..." (لو2: 25: 26).

عجيب جدًا هذا العمل الواسع للروح القدس في الناس في تلك الفترة المقدسة. وعجيب هذا الإمتلاء من الروح القدس وهذا الحلول، وهذا التنبؤ أيضًا... لقد تنبأ زكريا الكاهن، وتنبأت إمراته أَلِيصَابَات، وتنبأ سمعان الشيخ، وتنبأت حنّة بنت فنوئيل (لو2: 36). وبدا أن الله رجع يتكلم في أفواه الأنبياء وكل ذلك كان من بوادر انتهاء الخصومة بميلاد السيد المسيح، أو كانت هذه هي تباشير الصلح الذي تم على الصليب.
وكان من تباشير الصلح أيضًا رجوع المعجزات. والمعجزات دليل عمل يد الله مع الناس... كان انفتاح رحم أليصابات العاقر هو المعجزة الأولي. وكان صمت زكريا الكاهن ثم انفتاح فمه بعد تسعة أشهر معجزتين أخريين. وكانت معجزة المعجزات هي ولادة السيد المسيح من عذراء. وكان ارتكاض الجنين بابتهاج في بطن أَلِيصَابَات تحيه للجنين الإله الذي في بطن العذراء هو معجزة أخري. ولا نستطيع أن نحصي المعجزات التي رافقت ميلاد المسيح وطفولته. أما معجزاته في أرض مصر، فلعل أبرزها هو ما يشير إليه إشعياء النبي قائلًا: "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر. فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها" (إش19: 1). وفعلًا سقطت أوثان مصر بدخول الرب إليها...
كل هذا يدل على أن يد الرب قد بدأت تعمل، وأن ميلاد السيد المسيح كان مقدمة لصلح السماء مع الأرض، الصلح الذي قلنا إن أولي تباشيره كان ظهور الملائكة. ويحسن أن نقف وقفة تأمل بسيطة عند ظهورات الملائكة هذه...
· أول ملاك ظهر وذكره الإنجيل المقدس، كان هو الملاك الذي ظهر لزكريا الكاهن. إنها لفته كريمة من الرب يعطى بها كرامة للكهنوت، فيكون ظهور الملائكة أولًا للكهنة، بعد فترة الاحتجاب الطويلة. ولفته كريمة أخري للكهنوت، أن يظهر الملاك في مكان مقدس: "واقفًا عن يمين مذبح البخور " وفي لحظة مقدسة عندما كان زكريا البار يكهن للرب ويرفع البخور أمامه (لو1: 8-10)...
جميل من الرب أنه عندما أرسل خدامه السمائيين أولًا إلى بيته المقدس وإلى خدام مذبحة الطاهر. ولا شك أن هذا كله يشعرنا بجمال المذبح الذي وقف الملاك عن يمينه في أول تباشير الصلح. كم بالأكثر جدًا مذبح العهد الجديد في قدسيته الفائقة للحد، حيث ملاك الذبيحة الصاعد إلى العلو يحمل إلى الله تضرعنا...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:36 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
مصالحة السمائيين مع الأرضيين
نعود إلى الملاك الطاهر الذي ظهر لزكريا الكاهن...
كان ملاكًا يحمل بشارة مفرحة. لقد عاد الرب يفرح وجه الأرض التي حرمت كثيرًا من أفراحه في فترة القطعية والخصومة. وهل هناك فرح أعظم من تبشير زوج العاقر بأنها ستلد ابنًا: "لم يقم بين المولودين من النساء من هو أعظم منه" (مت11: 11)، ابنًا سيكون: "عظيمًا أمام الرب" (لو1: 15)!! عبارات: "الفرح" تدفقت من فم الملاك، فقال: "لا تخف يا زكريا، لأن طلبتك قد سمعت، وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنًا، وتسميه يوحنا، ويكون لك فرح، وابتهاج، وكثيرون سيفرحون بولادته".
وكانت إيحاءه جميلة من الرب في تباشير هذا الصلح، أن يسمي الطفل "يوحنا"... وكلمة يوحنا معناها: "الله حنان"!!
وكأن الله يقصد أنه وإن تركنا زمنًا، إلا أن محبته دائمة إلى الأبد، " مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها" (نش8: 7). وأنه وإن حجب وجهه حينًا، فإنه لا يحجب قلبه الحنون. فعلي الرغم من فترة القطيعة بين السماء والأرض التي سبقت ميلاد السيد المسيح، وعلى الرغم من الخصومة القائمة، كان الله ما يزال كما هو، كله حنان وشفقة... " الله حنان " أو " الله حنون". لعل هذا يذكرنا بقول الرب من قبل:

" لأنه كامرأة مهجورة ومخزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا... لحيظة تركتك، وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وبإحسان أبدي أرحمك" (إش54: 6 8).
إنها نبوءة أشعياء عن مصالحة الرب لشعبه وكنيسته، قد بدأت تتحقق... تلك النبوءة العجيبة، الجميلة في موسيقاها، التي بدأها الرب بنشيده العذب: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد..." (إش54: 1). تري أكانت أَلِيصَابَات: "العاقر التي لم تلد " رمزًا للكنيسة في افتقاد الرب لها؟ وهل كان اسم ابنها يوحنا: "الله حنان" رمزًا أيضًا لمصالحة الله لكنيسته؟ وهل ترنم أليصابات: "العاقر التي لم تلد" كان بشيرًا يتحقق باقي مواعيد الله إذ يقول لكنيسته في نفس النشيد:
"كما حلفت أن لا تعبر بعد مياة نوح على الأرض، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك. فإن الجبال تزول، والآكام تتزعزع، أما إحساني فلا يزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمك الرب".
"أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية، هأنذا أبني بالأثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك. وأجعل شرفاتك ياقوتًا، وأبوابك حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة. وأجعل كل بنيك تلاميذ للرب، وسلام بنيك كثيرًا" (إش54: 11-13).
هل كان هذا الإصحاح الرابع والخمسون من نبوءة أشعياء موضع تأمل القديسة أَلِيصَابَات في خلاص الرب القريب، طوال الستة أشهر التي مرت ما بين بشارة الملاك لزكريا وبشارة الملاك للعذراء؟! إن هذه الفكرة تملأ قلبي، وتضغط على عقلي بإلحاح شديد... ولا شك أن هذه القديسة الشيخة التي كانت تحمل ابنًا نذيرًا للرب في أحشائها، كانت تشعر أنه ليس بأمر عادي هذا الذي حدث لها. وإذ نتأمل في هذا الفصل من اشعياء الذي ينطبق عليها وعلى الكنيسة يهز كيانها كله هذا " النبي الإنجيلي " إذ يقول: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش7: 14).
قلنا إنه من تباشير الصلح بين السماء والأرض كان ظهور الملائكة للبشر. وكان الملاك الأول هو الذي بشر زكريا الكاهن.
· أما الملاك الثاني، فكان جبرائيل، الذي بشر السيدة العذراء.
نلاحظ أن هذا الملاك كان له مع العذراء أسلوب معين. لقد بدأها بالتحية، بأسلوب كله توقير واحترام لها. في بشارة زكريا لم يبدأه الملاك بالتحية، وإنما قال له "لا تحف يا زكريا فإن طلبتك قد سمعت". أما في بشارة العذراء فقال لها الملاك:
"السلام لك أيتها الممتلئة نعمة. الرب معك". وعندئذ -بعد هذه المقدمة- بدأ الملاك في إعلان رسالته. وحتى هذه الرسالة أدمجها بعبارة مديح أخري فقال: "لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله" ثم بعد ذلك بشرها بالخبر الذي جاء من أجله: "ها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع...".
إنه أسلوب احترام عجيب يليق بالتحدث مع والدة الإله الممجدة، المملكة الجالسة عن يمين الملك.
لم يستطع رئيس الملائكة جبرائيل أن ينسى أنه واقف أمام أقدس امرأة في الوجود، وإنه واقف أمام أم سيده، التي ستكون سماء ثانية لله الكلمة. فخاطبها بأسلوب غير الذي خوطب به الكاهن البار زكريا...
هنا نلاحظ أنه لم يبدأ فقط صلح بين السمائيين والأرضيين، بل بدأ تقدير وتوقير من سكان السماء لسكان الأرض في شخص أمنا وسيدتنا العذراء مريم... فمرحبًا بهذا الصلح.
· أما الظهور الثالث، فكان ظهور ملاك الرب للرعاة.
هنا نجد تقدمًا ملموسًا في العلاقات، إذ لم يقتصر الأمر على أن "ملاك الرب وقف بهم" بل يقول الكتاب أكثر من هذا: "ومجد الرب... أضاء حولهم". وبعد أن بشرهم الملاك" بفرح عظيم " يكون "لجميع الشعب"، وبولادة "مخلص"، " ظهر بغتة -مع الملاك- جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة".
· وهنا نسمع عبارات الفرح، والمسرة، والسلام، والخلاص... وبدلًا من ظهور ملاك واحد، نري جمهورًا من الجند السماوي يسبحون.
إنها تباشير الصلح العظيم، المزمع أن يتم على الصليب. ونلاحظ أن هذا الصلح قد بدأه الله لا الناس.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:37 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
الله يصالح البشرية
أول ما نتذكره في هذا المجال، هو أن الله يسعى لخلاص الإنسان، حتى لو كان الإنسان لا يسعى لخلاص نفسه.
نلاحظ هذا منذ البدء: عندما أخطأ آدم وسقط، لم يسع لخلاص نفسه، بل نراه -على العكس من ذلك- قد هرب من الله، وخاف من الله، واختفى، بل إنه: "لما سمع صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة... "اختبأ هو وامرأته من وجه الرب" (تك3: 8). وهكذا أوجد حجابًا وحاجزًا بينه وبين الله. وبدأت الخصومة.
من الذي سعي لخلاص آدم؟ إنه الله نفسه، دون أن يطلب آدم منه ذلك.
آدم شغله الخوف عن الخلاص أو حتى عن مجرد التفكير فيه... وهكذا بحث الله عن آدم، وتحدث معه... وأعطاه وعدًا بأن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية (تك3: 15).

لقد أعتبر الله أن المعركة الدائرة هي بينه وبين الشيطان، وليست بين الشيطان والإنسان. أعتبر أن قضيتنا هي قضيته هو. وإذا بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية هو الله نفسه الذي أتي في ملء الزمان من نسل المرأة. هو الله إذن الذي دبر قصة الخلاص كلها، لأنه: يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تى2: 4). هو يريد خلاصنا جميعًا ويسعى إليه، حتى إن كنا نحن في تكاسلنا أو في شهواتنا غافلين عن خلاص أنفسنا!...
في قصة الخروف الضال، نرى أن هذا الخروف الضال لم يسع لخلاص نفسه، وإنما ظل تائهًا وبعيدًا. والراعي الصالح هو الذي جرى وراءه.
هو الذي فتش عليه وسعي إليه، وهو الذي تعب من أجله إلى أن وجده، وحمله على منكبيه فرحًا، ورجع به سالمًا إلى الحظيرة...
وفي قصة الدرهم المفقود، نجد نفس الوضع أيضًا...
فإن تعطل خلاص الإنسان، يكون السبب بلا شك راجعًا إلى الإنسان ذاته وليس إلى الله.
وهذا الأمر واضح في تبكيت الرب لأورشليم، إذ قال لها: "يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا" (مت23: 37)... أنا أردت، وأنتم لم تريدوا...
مثال أخر هو عروس النشيد. الله هو الذي سعي لخلاصها "طافرًا على الجبال، وقافزًا على التلال" وقال لها: "افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي، لأن رأسي قد امتلأ من الطل وقصصي من ندي الليل" (نش5: 2). وتكاسلت النفس في الاستجابة، وتعللت بالأعذار. فماذا كانت النتيجة... كانت أنها عطلت عمل النعمة فيها بعض الوقت وصاحت في ندم: "حبيبي تحول وعبر"...
تأكد أنك إن كنت تريد الخلاص من الخطية، فإن الله يريد ذلك أضعافًا مضاعفة...
المهم إنك تبدي رغبتك المقدسة هذه. هناك عبارة لطيفة قالها أحد القديسين. قال: [إن الفضيلة تريدنا أن نريدها لا غير]. يكفي أن نريد، إرادة جادة، والله يتولى الباقي. بل حتى هذه الإرادة هو يمنحها لنا، لأجل خلاصنا.
ومن القصص العجيبة عن سعي الله لخلاصنا، ما يقوله الله -في سفر حزقيال النبي- للنفس الخاطئة الملوثة: "مررت بك ورأيتك مدوسة بدمك... وقد كنت عريانة وعارية. فمررت بك ورأيتك وإذا زمنك زمن الحب. فبسطت ذيلي عليك... ودخلت معك في عهد -يقول السيد الرب- فحممتك بالماء، وغسلت عنك دماءك، ومسحتك بالزيت... وجملت جدًا جدًا، فصلحت لمملكة" (حز16).
تلك النفس المسكينة -لو تركت لذاتها- لبقيت على حالها مطروحة وملوثة، عريانة وعارية. ولكن الله فعل من أجلها الكثير، وأنقذها مما هي فيه...
ولكن ليس معني سعي الله لخلاصنا، أننا نتكل على ذلك ونكسل! كلا وإلا فإنه يتحول ويعبر كما حدث مع عروس النشيد. إنما يجب أن تتحد إرادتنا بإرادته. وعملنا بعمله. هو ينزل إلى عالمنا، ونحن نقدم له ولو مزودًا ليستريح فيه...
إن الله يسعى لخلاصنا، ويسعى ليصالحنا معه. عجيب في هذه المصالحة، أننا نرى الصلح يبدأ من جانب الله، أكثر مما يبدأ من جانب البشر... إنه درس لنا حينما تكبر قلوبنا على أخوتنا الصغار، فلا نسعى لمصالحتهم بحجة أننا الكبار..!
بينما قد وضع لنا الله مثالًا حسنًا..

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:39 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
الكبير يسعى لمصالحة الصغير
في كل تباشير الصلح التي ذكرناها نرى أن الله هو الساعي لمصالحة البشرية. النور الذي لا يدنى منه، يسعى لمصالحة التراب والرماد! ملك الملوك ورب الأرباب يتقدم ليصالح عبيده... نراه أنه هو الذي أرسل الملائكة للبشر وهو الذي بعث إليهم برسائل في الأحلام. وهو الذي أرجع لهم روح النبوة، وهو الذي عمل على إعادة العلاقات كما كانت من قبل... بل هو الذي أرسل إليهم ابنه الوحيد ليخلصهم، من فرط محبته لهم.
وكما قال القديس يعقوب السروجي: [إنه كانت هناك خصومة بين الله والإنسان. فلما لم يتقدم الإنسان لمصالحة الله نزل الله ليصالح الإنسان].

ولم يحدث هذا في الميلاد فقط، وإنما كان هو دأب الله دائمًا. نراه وهو الكبير العالي غير المحدود يسعى لمصالحة الإنسان. يقول: "أنا واقف على الباب وأقرع. من يفتح لي أدخل وأتعشى معه" (رؤ3: 29). ونحن نتساءل في عجب: كيف يا رب تقف على الباب وتقرع. البشر هم الذين يذهبون إلى بابك، ويقبلون أعتابك. ويطلبون رضاك... يقول الله: بل أنا الذي أذهب إليهم. أنا لست أبحث عن كرامة لي، وإنما أبحث عن خلاصهم هم، ولا أستريح حتى أطمئن على خلاصهم.
حقًا، ما أعجب قلب الله المحب، وما أعجب تواضعه...
الله يرسل الأنبياء والرسل لكي يصالحوه مع البشر. يعترف القديس بولس الرسول بهذا فيقول: "نسعي كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله" (2كو5: 20).
حقًا: هل كان هناك عمل آخر للأنبياء سوى عقد صلح بين الله والناس. والله هو الذي طلب الصلح فأرسل أنبياءه ! بل ما أعجب الرب في سعيه للصلح إذ يقول:
"بسطت يدي طول النهار، إلى شعب معاند ومقاوم" (رو10: 21). ورغم معاندة الشعب مازال الرب باسطًا يده، يطلب صلحًا معنا بل أن الله يقول للناس ويقول: "هلم نتحاجج" (إش1: 18).
الله هو الذي صالح يونان النبي لما اغتم واغتاظ، مع أن غضبه لم يكن حسب مشيئة الرب. أعد له يقطينه: "فارتفعت فوق يونان لتكون ظلًا على رأسه، لكي يخلصه من غمه" وظل يجاذبه الحديث قائلًا له: "هل اغتظت بالصواب؟" ويونان يجيب: "اغتظت بالصواب حتى الموت"، وهكذا لم يزل به حتى أقنعه وصالحه (يون4).
والسامرة التي أغلقت أبوابها في وجهه، لأن وجهه كان متجهًا نحو أورشليم، لم يتضايق من تصرفها هذا، ولم ينزل نارًا من السماء ليحرقها كما اقترح التلميذان، بل ذهب إليها مرة أخرى ليصالحه، وهي المخطئة. وبذل من حبه ورعايته حتى أصلحها وصارت له (يو4).
وفي قصة الابن الضال، نرى أن الابن الكبير لما غضب ورفض أن يدخل، ورفض أن يشترك في الفرح برجوع أخيه، مع أن غضبه لم يكن مقدسًا، ومع أن إرادته كانت ضد إرادة الأب، إلا أن الأب ذهب إليه ليصالحه.
وفي ذلك يقول الكتاب:
"فخرج أبوه يتسول إليه" (لو15: 28). ومع أن كلام هذا الابن كان قاسيًا في حديثه مع أبيه، وكانت اتهاماته كثيرة وظالمة، إلا أن الأب احتمله، وأطال أناته عليه حتى صالحه. ولم يقل له كيف وأنت صغير تكلمني هكذا!
ولما أخطأ القديس بطرس وأنكر السيد المسيح، لم ينتظر الرب حتى يأتي القديس بطرس تائبًا ومعتذرًا، بل هو الذي بدأه بالكلام، وسهل الأمر عليه، وأرجع العلاقات كما كانت، بنفس الدالة...
إن الرب لا يرى في سعيه للصلح إنقاصًا لقدرة أو إضاعة لكرامته، بل على العكس إنه يبرهن على محبته وعلى وتواضعه فيزداد حب الناس له.
وإن كان الله بميلاده قد جاء ليصالحنا، فاذهب أنت يا أخي وصالح غيرك. لا تقل كيف أذهب أنا؟ هم الذين يأتون. كلا، فإن الذي يقوم بالصلح، هو الذي ينال بركته... ولا تقل كيف أصالح ابني، أو أخي الأصغر، أو خادمي، أو مرؤوسي، وأنا الكبير؟! اعرف تمامًا أن الكبير هو الكبير في قلبه وفي حبه، وهو الكبير في فضائله وفي احتماله. والله لا يقيس الناس بمقياس السن أو المركز، بل بنقاوة القلب.
ومهما كنت كبيرًا، فلن تكون مطلقًا في درجة الله الذي سعي لمصالحة عبيده ومخلوقاته!
وحاذر من أن تطلب احترامًا يليق بك، حتى لو كان يليق بك المجد والكرامة!! بل أطلب محبة الناس وبركتهم. وفي ذكري الميلاد تذكر تواضع الرب الذي نزل من سمائه إلينا، فكيف لا نتنازل بعضنا للبعض...
وفي مصالحة الناس، لا تفكر في خطية غيرك كبيرًا كان أم صغيرًا وإنما فكر في نقاوة قلبك، وضع أمامك تواضع الرب في مصالحته للبشر.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:40 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
لماذا حلَّ الرب بيننا؟

ونحن نحتفل بميلاد السيد المسيح من العذراء، لعلنا نتساءل فيما بيننا: ما هي الأسباب التي دعت رب المجد أن يتخذ جسدًا ويحل بيننا، ويصير في الهيئة كإنسان، ويولد من امرأة كبني البشر؟
لا شك أن الفداء هو السبب الأساسي للتجسد. جاء الرب إلى العالم ليخلص الخطاة، جاء ليفديهم، جاء ليموت وليبذل نفسه عن كثيرين. هذا هو السبب الرئيسي الذي لو اكتفى السيد المسيح به ولم يعمل غيره، لكان كافيًا لتبرير تجسده. جاء السيد المسيح ليوفي العدل الإلهي، وليصالح السماء والأرض.
ويمكننا أن نقول أيضًا إلى جوار عمل الفداء والمصالحة إن السيد المسيح قد جاء لينوب عن البشرية. وكما ناب عنها في الموت، ينوب عنها أيضًا في كل ما هو مطلوب منها أن تعمله. إن الإنسان قد قصر في كل علاقاته مع الله، فجاء "إبن الإنسان" لينوب عن الإنسان كله في إرضاء الله.
وفي فترة تجسده أمكن للرب أن يقدم للبشرية الصورة المثالية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان كصورة الله ومثاله. قدم القدوة، والمثال العملي. حتى أن القديس أثناسيوس الرسولي قال إنه لما فسدت هذه الصورة التي خلق الله بها الإنسان، نزل الله ليقدم لهم الصورة الإلهية الأصلية...
وأيضًا لما أخطأ الناس في تفسير الشريعة الإلهية وقدموها للناس حسب مفهومهم الخاطئ، ومزجوا بها تعاليمهم الخاصة وتقاليدهم، جاء الرب ليقدم للبشرية الشريعة الإلهية كما أرادها الرب، نقية من الأخطاء البشرية في الفهم والتفسير...
وسنحاول الآن أن نتناول هذه الأسباب جميعها، نتحدث عنها بمزيد من التفصيل، ونري ما يمكن أن نستفيده من دروس روحية لحياتنا خلال هذا الشرح.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:45 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
الفداء هو السبب الأساسي للتجسد
لقد أخطأ الإنسان الأول، وكانت خطيته ضد الله نفسه: فهو قد عصي الله وخالف وصيته. وهو أيضًا أراد أن يكبر وأن يصير مثل الله عارفًا الخير والشر (تك3: 5). وفي غمرة هذا الإغراء نري أن الإنسان لم يصدق الذي قال له عن شَجرة معرفة الخير والشر: "يوم تأكل منها موتًا تموت" (تك2: 17). وعلى العكس من هذا صدق الحية التي قال: "لن تموتا". وبعد الأكل من الشجرة نري أن الإنسان قد بدأ يفقد إيمانه في وجود الله في كل مكان وقدرته على رؤية كل مخفي، وظن أنه إن اختبأ وسط الشجر يستطيع أن يهرب من رؤية الله له. وفي محاسبة الله للإنسان بعد الخطية، نري أن الإنسان يتكلم بأسلوب لا يليق، إذ يحمل الله جزءًا من مسئولية خطيته فيقول له: "المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني" (تك3: 12).
إنها مجموعة أخطاء موجهة ضد الله: عصيان الله، ومنافسة الله في معرفته، وعدم تصديق الله في مواعيده، وعدم الإيمان بقدرة الله، وعدم التأدب في الحديث مع الله.
أخطأ الإنسان ضد الله، والله غير محدود، لذلك صارت خطيته غير محدودة. والخطية غير المحدودة، عقوبتها غير محدودة. وإن قدمت عنها كفارة، ينبغي أن تكون كفارة غير محدودة، ولا يوجد غير محدود إلا الله. لذلك كان ينبغي أن يقوم الله نفسه بعمل الكفارة...
هذا هو ملخص المشكلة كلها في إيجاز...

لقد أخطأ الإنسان، وأجرة الخطية هي الموت (رو6: 23). وكان لابد أن يموت الإنسان، وبخاصة لأن الله كان قد أنذره بهذا الموت من قبل أن يتعدي الوصية، إذ قال له: "وأما شَجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت". وهكذا استحق حكم الموت، وكان لابد أن يموت.
كان موت الإنسان هو الوفاء الوحيد لعدل الله. وإن لم يمت الإنسان، لا يكون الله عادلا، ولا يكون الله صادقًا في إنذاره السابق...
هذه النظرة يشرحها القديس أثناسيوس الرسولي باستفاضة في كتابه " تجسد الكلمة ". وإذ يشرح لزوم موت الإنسان، يشرح من الناحية المضادة المشاكل التي تقف ضد موت الإنسان. فماذا كانت تلك المشاكل؟
كان موت الإنسان ضد رحمة الله، وبخاصة لأن الإنسان قد سقط ضحية الشيطان الذي كان أكثر منه حيلة ومكرًا!! (تك3).
وكان موت الإنسان ضد كرامة الله، إذ أنه خلق على صورة الله ومثاله، فكيف تتمزق صورة الله هكذا؟!
وكان موت الإنسان ضد قوة الله، كأن الله خلق خليقة ولم يستطع أن يحميها من شر الشيطان! وهكذا يكون الشيطان قد انتصر في المعركة!!
وكان موت الإنسان ضد حكمة الله في خلقه للبشر. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي إنه كان خيرًا للإنسان لو لم يُخلَق، من أن يخلق ليلقي هذا المصير!! وأخيرًا كان موت الإنسان ضد ذكاء الله. إذ كيف توجد المشكلة ولا يستطيع عقل الله أن يوجد لها حلًا!!
إذن كان موت الإنسان ضد رحمة الله، وضد كرامة الله، وضد قوة الله، وضد حكمته وذكائه. وكان لابد لحكمة الله أن تتدخل لحل هذا الإشكال...
وهكذا تدخل أقنوم الابن لحل الإشكال. والابن كما يقول القديس بولس الرسول هو: "حكمة الله وقوة الله" (1كو1: 24)، ويسميه سفر الأمثال: "الحكمة" (أم9: 1).
والآن نسأل: كيف أمكن لحكمة الله حل هذا الإشكال؟ كان الحل هو الكفارة والفداء، لابد أن يموت أحد عن الإنسان، فيفديه، لإنقاذه. ولم يكن يصلح لهذا الفداء أي كائن آخر، غير الإنسان ذاته، لا ملاك، ولا حيوان، ولا رُوح، ولا أية خليقة أخري... فلماذا ؟
كان لا يمكن لمخلوق أن يموت عن الإنسان لسببين:
أولًا لأن كل مخلوق محدود، لا يمكن أن يقدم كفارة غير محدودة، توفي العقوبة غير المحدودة، للخطية غير المحدودة.
ثانيا لأن الحكم صدر ضد الإنسان، فيجب أن يموت الإنسان.
وكان الحل الوحيد هو التجسد: أن ينزل الله إلى عالمنا مولودًا من امرأة، فهو من حيث لاهوته غير محدود كإله، يمكنه أن يقدم كفارة غير محدودة، تكفي لمغفرة جميع الخطايا لجميع الناس، في جميع الأجيال. وهو من حيث ناسوته، يمكنه أن ينوب عن الإنسان المحكوم عليه في دفع ثمن الخطية. من أجل هذا السبب كان السيد المسيح يتعمد أن يسمي نفسه: "إبن الإنسان" في كثير من المجالات...
هذا إذن هو السبب الأساسي لولادة السيد المسيح مع العذراء. جاء ليحمل خطيتنا، ويموت عنها، لينقذنا من عقوبتها...
إن عرفنا هذه الحقيقة، فما هي الدروس الروحية التي يمكن أن نتعلمها منها في حياتنا؟ هذا ما نود الآن أن نتأمل فيه.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:47 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
كل خطية ترتكبها هي موجهة ضد الله
تأمل أيها الأخ المبارك في أن كل خطية ترتكبها هي موجهة ضد الله ذاته، ولا تختلف في دينونتها عن خطية آدم وحواء.
هي مثل خطيئتهما غير محدودة، لأنها موجهة ضد الله غير المحدود. وهكذا فإن عقوبتها غير محدودة، ولا تغفر إلا بكفارة غير محدودة...
كل خطية ترتكبها هي عصيان لله. هي نوع من التحدي لله وعدم المبالاة بوصاياه، بل هي ثورة عليه وانضمام لخصمه الشيطان... وهكذا فكل خطية ترتكبها تحمل معني عدم محبة لله، لأنه يقول: من يحبني وصاياي (يو14: 15).
لذلك عندما أخطأ داود وزني وقتل، لم يقل أخطأت ضد أوريا الحثي وزوجته، بل قال لله: "لك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت" (مز50: 4)...
حقًا إن الخطية خاطئة جدًا كما يقول الكتاب (رو7: 13).

وكل خطية ترتكبها يحملها المسيح، لأنه هو: "حمل الله الذي يرفع خطية العالم كله" (يو1: 29) " كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه. والرب قد وضع عليه إثم جميعنا" (إش53: 6).
إنك يا أخي ربما تستسهل الخطية، وتستسهل غفرانها، وتظن أنه بمجرد الاعتراف بها تنتهي. ولا يتناول تفكيرك كيف تغفر هذه الخطية بالاعتراف لذلك تجد الأمر سهلًا ولا تشعر بفداحة ما تفعله...!! خطيتك أيها الإنسان لا تغفر إلا بدم المسيح، لأنه: "بدون سفك دم، لا تحدث مغفرة" (عب9: 22). فما هو موقف الكاهن من الغفران إذن؟ هل مجرد قراءة التحليل أو عبارة: "الله يحاللك" هي كل شيء؟! كلا بلا شك. فمجرد هذه الكلمة وحدها لا تكفي...
عندما يعطيك الكاهن المغفرة، إنما يقوم بعملية تحويل. يحول الخطية من حسابك إلى حساب السيد المسيح. ينقل الخطية من على رأسك إلى رأس الحمل الذي يحمل خطايا العالم كله. وحينئذ يمحوها السيد المسيح بدمه.
بل أتجرأ وأقول إن السيد المسيح نفسه عندما كان يقول لإنسان: "مغفورة لك خطاياك" لم تكن هذه العبارة وحدها تكفي بدون دم الرب. إنما قول السيد الرب لإنسان: "مغفورة لك خطاياك" معناها: "إنني قبلت أن أموت عن هذه الخطايا، وقبلت أن أمحوها بدمي. لذلك أعتبرها مغفورة، لأنها مغموسة في دمي". لأنه لو كانت مجرد عبارة المغفرة تكفي لماذا إذن كان التجسد، ولماذا إذن كان الصلب والفداء؟
بسبب خطيتك أيها الأخ، أخلي الرب ذاته، وأخذ شكل العبد، وولد كإنسان، وأحتمل كل ضعف البشرية.
من أجل خطيتك صار طفلًا، ومن أجلها هرب من هيرودس إلى مصر، ومن أجلها جرب من الشيطان، ومن أجلها اضطهده اليهود وأهين وشتم وبصق عليه وضرب وصلب ومات. إن عرفت كل هذا، فكيف تحتمل مشاعرك أن تخطئ؟!
يجب أن تعلم جيدًا أن كل خطية لابد أن تقف أمام عدل الله، لكي تعطي حسابًا أمامه "ومخيف هو الوقوع في يدي الله الحي" (عب10: 31).
لذلك في يوم ميلاد المسيح، تأمل في محبته لك، وفي سعيه لخلاصك وكيف أنه من أجلك جاء
حقًا لقد جاء المسيح ليخلص العالم (يو3: 17). جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك... فهل كان هذا هو كل شيء؟ كلا، فإننا نلاحظ شيئًا آخر وهو أنه قد جاء لينوب عن البشرية.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 03:50 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أتى المسيح لينوب عن البشرية
إنه ناب عنا في دفع ثمن الخطية، في الموت، فمات عنا. ولكن هذا لم يكن هو الشيء الوحيد الذي ناب عنا فيه. بل أنه ناب عنا في كل عمل صالح، في تكميل الناموس كله... فاختتن وهو غير محتاج إلى الختان، وصام وهو غير محتاج إلى الصوم، واعتمد وهو غير محتاج إلى عماد، وهكذا دواليك.
ولعل نيابة الرب عن الإنسان هي التي جعلته يسمي نفسه في أحيان كثيرة "إبن الإنسان"، مشيرًا إلى أنه جاء نائبًا عن الإنسان أو نائبًا عن البشرية فهو ليس إبن فلان من الناس، وإنما هو إبن الإنسان عمومًا. وقد ناب عن الإنسان في موته وفي حياته وفي كل ما كان مطلوبًا منه...
· ولنبدأ أولًا بموضوع العماد، كمثال...

ذهب السيد المسيح إلى يوحنا ليعتمد منه. ولكنه بلا شك لم يكن محتاجًا مطلقًا إلى العماد. معمودية يوحنا كانت للتوبة، والتوبة عمل يقوم به الخطاة وليس الأبرار. ويسوع المسيح القدوس البار، الذي هو وحده بلا خطية، لم يكن محتاجًا إلى التوبة، وبالتالي لم يكن محتاجًا إلى معمودية يوحنا.
كان يوحنا صوتًا صارخًا في البرية ينادي: "توبوا لأنه قد أقترب ملكوت السموات" (مت3: 2). "اصنعوا ثمارًا تليق بالتوبة" "كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقي في النار". وهذا الصوت لم يكن بأي حال موجهًا إلى السيد المسيح، الذي اعترف له يوحنا قائلًا: "أنا محتاج إلى أن أعتمد منك" (مت3: 14). ويوحنا كان يأتي إليه ليعتمدوا "معترفين بخطاياهم" (مت3: 6) والسيد المسيح لم تكن له خطية يعترف بها...
فمادام لم يكن محتاجًا إلى التوبة، ولا إلى المعمودية، فلماذا ذهب إلى يوحنا؟ ولماذا اعتمد؟
لقد فعل ذلك "ليكمل كل بر"، لينوب عنا في إطاعة الناموس. إن البشرية فشلت في إرضاء الله الآب، فجاء الابن يرضيه: "إبن الإنسان" وقد وقف كاملًا أمامه... فناب عنا في تقديم هذه التوبة... كما سينوب عنا في آخر الزمان في تقديم خضوع البشرية للآب. وهكذا يقول الرسول: "ومتي أخضع له الكل، حينئذ الابن أيضًا سيخضع للذي أخضع له الكل" (1كو15: 28).
إن الخطية كانت لها نتيجتان: هلاك الإنسان، واغتصاب قلب الله. وجاء السيد المسيح ليصلح الأمرين معًا:
جاء ليخلص الإنسان الهالك، إذ ناب عنا في الموت وفي دفع ثمن الخطية. وجاء ليصالح قلب الله الغاضب بأن يقدم له ناسوتًا كاملًا يرضيه، وهكذا ناب عنا في تكميل الناموس وفي كل عمل صالح. قام بالعملين معًا: أرضي قلب الله بحياته الطاهرة، وأنقذ حياة الإنسان، بموته الكفاري.
· وكما ناب السيد المسيح عن البشرية في التوبة والعماد وتكميل الناموس، ناب عنها أيضًا في الصوم. لم يستطيع الإنسان أن يكبح جماح جسده، فأكل من طعام نهي الله عنه، فسقط. وجاء السيد المسيح ليصلح هذا الخطأ، فبدأ خدمته بالصوم حتى عن الطعام المحلل للجميع. نحن نصوم لنروض الجسد ونلجمه ونربيه. أما جسد السيد المسيح فلم يكن جامحًا حتى يكبح جماحه، فلماذا إذن صام؟ ونحن نصوم لكي تصفو الروح وتسمو. وروح السيد المسيح في صفائها وسموها ليست في حاجة إلى صوم يوصلها إلى العلو الذي توجد فيه بطبيعتها. إذن لماذا صام؟ لقد صام عنا، أربعين يومًا وأربعين ليلة. وفي ذلك الصوم قدم لله الآب نيابة عنا جسدًا طاهرًا لا يخضع لشهوة طعام، استطاع أن يبرهن عمليًا على أنه: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (مت4: 4).
لقد ناب السيد المسيح عنا في تقديمه للآب صورة الإنسان الكامل المطيع لوصاياه، وفي نفس الوقت قدم للبشرية الصورة الإلهية التي خلقوا على مثالها.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 04:07 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أتى المسيح ليُقَدِّم لنا الصورة الإلهية
لقد خلق الإنسان على صورة الله ومثاله (تك1: 27) في البر والقداسة والكمال، ولكنه شوه تلك الصورة الإلهية بخطاياه. لسنا نقول هذا عن مجموعة خاطئة معينة من الناس، وإنما عن الكل: "الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد" (مز14: 3). وهكذا فقدت الصورة الإلهية من الكون... لعل تلك الصورة هي التي كان يعينها ديوجين الفيلسوف: [عن أي شيء تبحث]؟ فأجاب: [أبحث عن إنسان]!! إن الإنسان في وضعه الأصلي كصورة الله لم يكن موجودًا.
فأتي السيد المسيح ليقدم للناس هذه الصورة الإلهية، بمثال عملي أمامهم يرونه فيحاكونه... وهكذا قال لهم فيما بعد: "لأني أعطيتكم مثالًا، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا" (يو13: 15). بهذه الصورة رآه القديس بطرس الرسول: "تاركًا لنا مثالًا، لكي تتبعوا خطواته" (1بط2: 21). وبنفس المعني يقول معلمنا يوحنا الرسول: "من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك يسلك هو أيضًا" (1يو2: 6)...
قدم لنا صورة للإنسان المنتصر على الشيطان، ليعالج بها صورة آدم وحواء اللذين انهزما أمام إغراء الحية وإيحائها. وهكذا بدأ خدمته بأن سمح للشيطان أن يجربه، ليس مرة واحدة كما فعل مع أبوينا الأولين، وإنما ثلاث مرات (مت4) أعقبتها فيما بعد تجارب لا تعد. وإذ كانت كلمة الله ووصيته على لسان الإنسان الأول، ولكنها ليست ثابتة في قلبه، ولا منفذه عمليًا في حياته، كانت وصية الله وكلمته قوية وفعالة في فم السيد المسيح، هزم بها الشيطان فلم يستطع أن يرد عليه.
وفي حياة السيد المسيح قدم لنا صورة الإنسان الكامل، الذي استطاع أن يتحدى جميع مقاوميه قائلًا: "من منكم يبكتني على خطية" (يو8: 46). ويقول عنه بولس الرسول إنه: "مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية" (عب4: 15). وقال عنه أيضًا إنه: "قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة، وصار أعلى من السموات" (عب7: 26). لذلك عندما بشر الملاك العذراء بميلاده قال لها: "القدوس المولود منك..." (لو1: 35).
هذا القدوس، إذ لم تكن في حياته خطية يموت بسببها، مات عن خطايانا نحن واستحق أن يكون فادي البشرية.
يمكننا أن نتأمل حياته المقدسة، ونأخذ لأنفسنا درسًا من كل عمل ومن كل قول. كانت حياته نورًا يرشدنا إلى ما ينبغي أن نعمله. لذلك يسميه القديس يوحنا "النور الحقيقي الذي يضئ لكل إنسان" (يو1: 9). وإذ كانت خطية الإنسان الأولي هي الكبرياء، لذلك جاء السيد المسيح يلقننا درسًا في التواضع.

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 04:07 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
الله يعطينا درس عجيب في التواضع
سقط أبوانا الأولان في الكبرياء عندما قبلًا إغراء الحية في قولها: "تصيران مثل الله..." (تك3: 5) ومن قبلهما سقط الشيطان في هذه الخطية ذاتها إذ قال في قلبه: "أصعد إلى السموات.. أصير مثل العلي" (إش14: 13، 14). فجاء السيد المسيح يرد على هذه السقطة.
الإنسان الترابي أراد أن يرتفع ويصير مثل الله، فإذا بالله ينزل ليصير شبه الناس!!
الإنسان أراد أن يكبر ذاته، فعالجه الرب بأن أخلي ذاته. مقاييس العظمة كانت مرتبكة في حياة الإنسان. فأصلحها له الرب. كان يري العظمة في الكبرياء، فشرح له الرب عمليًا كيف أن العظمة في التواضع. ووضع ذلك المبدأ العجيب: "أكبركم يكون خادمًا لكم. فمن يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت23: 11، 12).
كان الناس يقيسون عظمة الشخص بمقدار انتفاخه وتوقير الناس له.

لذلك كان الكتبة والفريسيون: "يحبون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس سيدي سيدي" (مت23: 6، 7). فجاء السيد المسيح يعطي مثالًا آخر للعظمة، العظمة الهادئة المتضعة غير المنتفخة البعيدة عن الكبرياء ومديح الناس، عظمة القلب النقي المنتصر على المجد الباطل، عظمة البساطة والوداعة. ولأول مرة بدأنا نسمع عن جمال الاتضاع...
قبل السيد المسيح كانوا يرون العظمة، كعظمة الملوك، في فخامتهم وحسن منظرهم،
مثل شاول الملك الذي: "من كتفه إلى فوق، كان أطول من كل الشعب" (1صم9: 2). كانوا يرون العظمة في المركبات والسيوف وإحاطة الشخص نفسه بالجنود ورجال الحاشية والعبيد والخصيان...!! فأتاهم السيد المسيح بصورة أخري للعظمة، عظمة مالك السموات والأرض الذي ليس له أين يسند رأسه.
عظمة الشخص الذي ليس له مكان إقامة، وليس له منصب ولا وظيفة في المجتمع، ومع ذلك يهز المجتمع كله بأصابعه !!... لقد جاء السيد المسيح بصورة أخري للعظمة لم يرها الناس من قبل... كانوا يفهمون الكرامة بأن يجلس العظيم فلا يستطيع أحد أن يقترب إليه، أو أن يمشي في هيبة ووقار لا تقرب منه امرأة ولا طفل لذلك عندما اقترب الأطفال من المسيح، انتهرهم التلاميذ!! (لو18: 15). فقال لهم الرب " دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله".. وتعجب التلاميذ، وكانوا يفكرون في قلوبهم: "ما هذا الذي نراه منك يا رب؟! إنك كبير عن هذا المستوي، نجلسك على عرش عظيم، والناس يسجدون لك من بعيد!! لا يستطيع الكبار أن يقتربوا إليك، فكم بالأولي الأطفال!!".. وكأن السيد المسيح يجيبهم عن كل هذا: "دعكم من هذه الصورة الخاطئة التي أخذها الناس عن العظمة".
نفس الأمر تكرر في بيت الفريسي عندما أتت امرأة خاطئة وبللت قدمي المسيح بدموعها ومسحتها بشعر رأسها، وكانت تقبل قدميه وتدهنهما بالطيب (لو7: 38) فتأفف الفريسي، وتذمر في قلبه... كيف يقبل السيد المسيح أن تلمسه امرأة خاطئة وتقبل قدميه...! ولكن السيد المسيح دافع عن المرأة، ورآها أعظم من الفريسي، لأنها أحبت كثيرًا، فغفر لها الكثير... لم تكن العظمة في نظر السيد المسيح هي الترفع عن الناس والتعالي على الضعفاء، وإنما محبة الناس والعطف عليهم...
نفس الانتقاد وجهوه إلى الرب في جلوسه مع الخطاة والعشارين، كما لو كان في جلوسه معهم أو اشتراكه في موائدهم، انتقاص من قدرته وكرامته. أما الرب فكان يرى الكرامة كل الكرامة في البحث عن هؤلاء الضالين وإنقاذهم مما هم فيه. وهنا تبدو كرامته كراع، ومعلم...
كل هذا يقنعنا بأن السيد المسيح في مجيئه إلينا كانت له إلى جوار الفداء أسباب أخري، وإن كانت جانبية...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 04:08 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
أسباب أخرى لمجيء المسيح
لقد جاء السيد المسيح لكي يصلح التعليم الفاسد الذي وقع فيه الناس، ولكي يصحح المفاهيم الخاطئة للشريعة وللناموس وللمبادئ العامة في الحياة...

ذلك لأن الكتبة والفريسيين وزعماء اليهود وكهنتهم ورؤساءهم كانوا قد شوهوا كل شيء، وفسروا الدين حسب مزاجهم الخاص، وأبطلوا وصيه الله بسبب تقاليدهم (مت15: 6). ووضعوا على أكتاف الناس أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل، وأغلقوا ملكوت السموات قدام الناس، فلا هم دخلوا، ولا جعلوا الداخلين يدخلون (مت23). من أجل ذلك وبخهم السيد المسيح، وكشف رياءهم أمام الناس. وقال عن أمثال هؤلاء المعلمين الكذبة: "جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص" (يو10: 8). ذلك لأنهم غرسوا في أذهان الناس وقلوبهم تعاليم خاطئة ومفاهيم منحرفة.
لهذا جاء السيد المسيح ليقدم مفاهيم جديدة. جاء يقلب تلك الأوضاع، ويقيم ثورة في الحياة الدينية.
أو كما قال للناس جئت لألقي نارًا على الأرض. فماذا أريد لو اضطرمت" (لو 12: 49). جاء يشعل ثورة، ما قبلها ثورة، ولا بعدها ثورة... ثورة على الفهم الخاطئ للدين، والفهم الخاطئ للمبادئ. أقام السيد المسيح دولة جديدة من الفكر العالي السامي، لا يمكن أن يصل إليه تفكير البوذيين ولا تفكير الكنفوشيوسيين ولا تفكير البراهمة ولا تفكير الفلاسفة جميعًا. جميع فلاسفة العالم انحنوا في خضوع وفي توقير أمام تعاليم المسيحية. وإذ بالمسيحية قد ارتفعت فوق كل تلك الفلسفات، وغلبتها جميعًا الفلسفة وغلبت القوانين، وغلبت الأنظمة الموجودة الجهلة الذين لا فكر لهم، ولكن لهم فكر المسيح. واستطاع هؤلاء أن ينشروا تعاليم الرب في كل مكان: "مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2كو10: 5). حقًا لقد قدم السيد المسيح نورًا عجيبًا للعالم.
نحن نفتخر ونفرح ونسر. يمتلئ فمنا بركة وتسبيحًا، لأن السيد المسيح أعطانا تعليمًا عظيمًا من هذا النوع يسمو على كل تعليم آخر. صدقوني لو كانت المسيحية كلها، ليست فيها سوي هذه الآية الواحدة التي تقول: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (مت5: 44). لو كانت المسيحية لا تحمل سوي هذه الآية الواحدة، لكانت هذه الآية الواحدة تكفي... هاتوا كل تعليم الفلاسفة لا تجدونه يوازي هذه الآية في سموها وعلوها وعمقها...
لقد جاء السيد المسيح إلى العالم فبهر العالم بتعليمه... يقول معلمنا القديس متي بعد تسجيله لعظة السيد المسيح على الجبل: "فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مت7: 28، 29). كان تعليمًا لا يدخل إلى الآذان والأذهان فقط، وإنما يخترق القلب ويستقر فيه، بسلطان... ذلك لأن: "كلمة الله حية وفعالة، وأمضي من كل سيف ذي حدين ومميزة أفكار القلب ونياته" (عب4: 12). ان يعطي التعليم ويعطي معه نعمة لتنفيذه. وربما عن هذا قال القديس يوحنا الرسول: "لأن الناموس بموسى أعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو1: 17).
لم يكن تعليم السيد المسيح مبهرًا للشعب فقط، وإنما للرؤساء أيضًا، حتى في طفولته...
إنه وهو صبي في الثانية عشرة من عمره، جلس في الهيكل في أورشليم، في وسط المعلمين، في وسط الكتبة والكهنة والشيوخ وأعضاء مجلس السنهدريم: "وكل الذين سمعوه، بهتوا من فهمه وأجوبته" (لو2: 47). ولما بدأ كرازته، نسمع عن نيقوديموس أحد رؤساء اليهود وعضو مجلس السنهدريم، أنه جاء إلى السيد المسيح ليلًا، يسأل ويتعلم 0 يو3: 1، 2)...

Mary Naeem 04 - 03 - 2014 04:09 PM

رد: كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث
 
المسيح وتوضيح المفاهيم
وفي سلطان السيد المسيح في التعليم، وفي ثورته التعليمية، نجده يقول في سلطان: "سمعتم أنه قيل... وأما أنا فأقول لكم..." (مت5). من ذا الذي يستطيع أن يتكلم هكذا عن شريعة الله؟! ولكنه السيد المسيح، الذي أنار عقولنا بذلك السمو العجيب في فهم الدين، واستطاع أن يحول فكر البشرية وفهمها...

الناس قبل مجيئه كانوا يفهمون أن القوة هي العنف، فأعطاهم مثلًا للقوة هو قوة المحبة الباذلة، التي تبذل ذاتها عن الآخرين، ومثلًا آخر عن القوة، هو قوة الروح في الداخل.
والناس كانوا يفهمون الحرية بمعنى أن يفعل الإنسان ما يشاء. فوضح لهم أن الحرية الحقيقية هي تحرر الإنسان من الخطية وتحرره من عبودية الشهوة ومن سلطان الجسد، بل تحرره من الذات...
وفي تعليم السيد المسيح أعطى الناس فكرة جديدة عن الله ذاته. كانوا ينظرون إلى الله كقوة جبارة لا يستطيعون الدنو منها. حتى أنهم عند إعلان الوصايا العشر على الجبل، كانوا مرتعدين، " وقالوا لموسى: تكلم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت" (خر20: 19). أما في مجيء السيد المسيح، فأراهم الله في صورة أخري. وأخذوا فكرة عن الله المحب الشفوق، الوديع المتواضع، الذي: "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبه مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (مت12: 20). الله الذي يجول بينهم كراعٍ يسعى في طلب الضالوكطبيب يضمد الجروح، وكنور حقيقي يشرق للضالين وغير العارفين... هذه هي الصورة الجديدة التي قدمها لهم عن الله فأحبوه: "والمحبة تطرح الخوف إلى خارج" (1يو4: 18).
لأجل هذا كله فرح العالم بمجيء الرب...
وقف الملاك يحمل البشرى للرعاة قائلًا: "ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب" (لو2: 11)... أي أن الفرح لم يكن للرعاة فقط، إنما لجميع الشعب. وليس لليهود فقط، إنما للعالم كله..
حقًا إنه فرح عظيم، رأيناه واضحًا على وجه سمعان الشيخ الذي حمل الطفل يسوع على ذراعيه، وبارك الله قائلًا: "الآن يا رب تطلق عبدك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب" (لو2: 29)... إنه فرح بالخلاص المنتظر منذ زمان.
رأينا هذا الفرح على وجه حنة النبيه العابدة القديسة التي "وقفت تسبح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم" (لو2: 28).
وظهر هذا الفرح على وجه أليصابات لما زارتها العذراء، فامتلأت أَلِيصَابَات من الروح القدس وقالت للعذراء: "من أين لي هذا، أن تأتي أم ربي إلى. فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني، ارتكض الجنين بابتهاج في بطني" (لو1: 41 44)... حتى الجنين ابتهج، لأنه كان نبيًا، ويعرف من هو هذا المسيح الذي أتى...
ولكن هل فرح الكل وابتهجوا، أم أن هناك من قد حزن للأسف بسبب مجيء المسيح؟‍


الساعة الآن 03:06 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025