![]() |
تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
تأملات في سفر نشيد الأناشيد البابا شنوده الثالث مقدمة: روحانية السفر ورموزه اسمه نشيد الأناشيد، وأغنية الأغنيات ترجمة إسم هذا السفر في الإنجليزية: The Song of Songs. أي أنه لو اعتبرت جميع الأناشيد كلامًا عاديًا، يكون هذا السفر هو نشيدها وأغنيتها.. كتبه سليمان الحكيم شعرًا.. الروحيون يقرأون هذا السفر، فيزدادون محبة لله. أما الجسدانيون، فيحتاجون في قراءته إلي مرشد، لئلا يسيئوا فهمه، ويخرجوا عن معناه السامي إلي معان عالمية. هذا هو سفر الحب نفهم منه أن الله منذ القدم كان يريد أن تكون العلاقة بيننا وبينه هي علاقة حب. ولعل هذا واضح مما ورد في سفر التثنية "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" (تث 5: 6). وقد قال السيد المسيحإن وصية الحب هذه، يتعلق بها الناموس كله والأنبياء (مت22: 27-29). سفر النشيد يتحدث عن المحبة الكائنة بين الله والنفس البشرية، وبين الله والكنيسة، في صورة الحب الكائن بين عريس وعروسه. سفر النشيد يتميز بكثير من الآيات الذهبية الشهيرة التي يستخدمها الوعاظ بأستمرار مثل " اجذبني وراءك فنجري"، "أنا سوداء وجميلة"، خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة للكروم"، "أنا نائمة وقلبي مستيقظ"، "حبيبي لي وانا له، الراعي بين السوسن"، "حلقة حلاوة، وكله مشتهيات"، "المحبة قوية كالموت"، مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة".. ولكي نفهم سفر النشيد، لابد أن نفهمه بطريقه رمزية، وليس بتفسير حرفي. إن التفسير الحرفي لسفر النشيد بمفهوم جسداني هو تفسير مُنَفِّر ولا يتفق مع روح الوحي، ولا مع مدلول الالفاظ. وهذ السفر لا يصلح إلا للمتعمقين في الروح، الذين لهم عمق في التأمل، والذين لا يأخذون الألفاظ بفهم سطحي. إنه ليس للمبتدئين، بل للناضجين. وقديما لم يكن أحد يقرأه الإ بإذن وبأشراف أبيه الروحي. هناك آيات في السفر لا يمكن أن تؤخد بمعناها الحرفي. مثال ذلك قوله "من هي المشرقة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية" (نش 10: 6). وأيضا ذكرت عبارة "مرهبة كجيش بألوية" في (نش 4: 6). إن عبارة (مرهبة كجيش بألوية)، لا يمكن أن تقبلها حبيبة علي نفسها، فكيف تقبل المرأة أن توصف بأنها تثير الرهبة والخوف، بينما النساء من المفروض فيهن أن يتميزن بالرقة؟! أما إن أخذنا العبارة مشيرة إلي الكنيسة والنفس البشرية، فإن المعني يبدو واضحًا في مفهومه الروحي. لأن الكنيسة يمكن أن تكون مرهبة بالنسبة للشيطان والعالم، ومخيفة لقوي الشر مثل جيش بألوية "أي من عدة لواءات".. كانت الكنيسة مرهبة للفلسفة الوثنية، ومرهبة لكهنة وعبدة الأصنام، ومرهبة للإنحراف والفساد.. لانها كانت طاهرة كالشمس. ونفس الوضع بالنسبة الي النفس البشرية. وعبارة "جميلة كالقمر" لا يمكن أن تتمشي مع عبارة" أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم" (نش 5: 1). فكيف تكون سوداء "كخيام قيدار"، وفي نفس الوقت جميلة كالقمر؟!، والقمر في جماله ليس فيه سواد. ولكن السوداء – في المفهوم الرمزي – هي كنيسة الامم. التي لم تكن تنتمي الي الآباء والأنبياء، وكانت غريبة عن رعوية الله وعن العهود والمواعيد والشريعة. وبلا رجاء (أف2: 12). ولكنها صارت جميلة كالقمر، بالبر الذي نالته في المسيح، وصار جمالها كاملًا ببهائه الذي جعله عليها (حز 14: 16) وبذمه الذي محا خطاياها. فهي تخاطب مؤمني العهد القديم "بنات اورشليم" وتقول لهن "أنا سوداء وجميلة يا بنات اورشليم".. سوداء في اصلي وماضي، وجميلة في حاضري. وعبارة "جميلة كالقمر" تحمل معني روحيًا وعمليًا في منتي العمق والجمال. فالمعروف عن القمر أنه كوكب مظلم يستمد نوره من الشمس. فطالما تلقي الشمس عليه نورها، يصير جميلًا.. فهذه الشعوب السوداء التي كانت بلا إيمان، وليس لها جمال في ذاتها: عندما القي الله عليها نوره، صارت جميلة كالقمر الذي ليس له جمال في ذاته وانما يستمد نوره وجماله من الشمس. التشبيه إذن واضح، في السواد وفي الجمال. في السواد الذي تتصف به طبيعتنا الخاطئة، والجمال الذي يهبه لنا الرب في فدائه العجيب وفي الطبيعة الجديدة التي نولد بها في المعمودية. وعبارة "عيناك حمامتان" (نش 1: 5)، تحمل نفس المعني الروحي الجميل. وقد تكررت عبارة "عيناك حمامتان" في (نش4: 1) العين تمثل البصيرة. والحمام يرمز أحيانا الي الروح القدس، كما يظهر هذا في قصة العماد (مت 3: 16).. وأحيانًا يمثل المحرقة التي يقدمها الفقير الي الله (لا1: 14). فعندما تكون العينان بالمعني الاول، فمعني ذلك أن الإنسان يتميز ببصيرة روحية، وبفهم روحي. كأن عينة هي الحمامة التي ترمز الي الروح القدس. فنظرته الي كل الامور هي نظرة روحية مقدسة، غير نظرة أهل العالم. وعندما تكون العين حمامة بمعني ذبيحة الفقير المسكين، إنما تعني إنسحاق النفس، أي مسكنة الروح (مت5: 3). كأنسان يقدم ذاته ذبيحة مرضية لله، حسبما أمر الرسول (رو12: 1)، في إنكسار قلب، يطيع حتى الموت. وعندما تكون العينان حمامتين، فأنهما تمثلان المعنيين معًا. وبنفس المعني الاخير يمكننا أن نفهم قول الرب: حولي عينيك عني، فانهما قد غلبتاني (نش6: 5) فالنفس البشرية التي لها عينان منسحقتان مملوءتان بالدموع، يظهر فيها إنسحاق القلب، هي النفس التي تجاهد مع الله وتغلب. ويقول لها الرب "حولي عينيك عني، فانهما قد غلبتاني" إنها مثل يعقوب المنكسر الضعيف، الذي جاهد مع الله وغلب، قائلا للرب "لا أتركك حتى تباركني" (تك32: 26، 28).. ونال البركة هناك. لأن الذبيحة لله روح منسحق. القلب المنخشع والمتواضع، لا يرذله الله (مز51: 17) حقًا إن النفس الباكية، التي ترفع عينيها الي الله مملوءتين بالدموع، هي التي قال لها "حولي عينيك عني". وتشبيه العين بالحمامة يحمل معني روحيًا اخر. فالحمامة رمز للبساطة والنقاوة. ولذلك يقول الرب: "كونوا بسطاء كالحمام" (مت10: 16). فالعين التي تشبه بالحمامة، إنما تتصف أيضًا بالبساطة. وقد قال الرب عن ذلك " إن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيرًا (مت6: 22) فالعين التي تشبه بالحمامة، ترمز للنظرة البسيطة الي كافة الامور.. الي الحياة البريئة الطاهرة البعيدة عن التعقيد.. كان آدم في بدء حياته بسيطًا لا يعرف سوي الخير قبل أن تتعقد حياته وتصبح خليطًا مركبا من خير وشر، بعد أن أكل من شجرة معرفة الخير والشر.. وهكذا في سفر النشيد نجد العروس تقول عن العريس الذي هو المسيح: " عيناه كالحمام علي مجاري المياه" (نش5: 12). أي أن بصيرته بالروح القدس. لانه إن كان المؤمن العادي "تفيض من بطنه انهار ماء حي" اي الروح القدس (يو7: 38، 39)، فكم يكون بالأولي السيد المسيح الذي الروح القدس ثابت فيه أقنوميًا.. ولذلك حسنًا قيل "كالحمام علي مجاري المياه" فبهذا شبه الرجل البار في المزمور الاول بأنه "مثل الشجرة المغروسة علي مجاري المياة" (مز1: 3) إن هدفنا في هذه المقالات الأولي من تأملاتنا في سفر نشيد الأناشيد، أن ندخل إلي روح السفر، ونفهم مدلولاته ورموزه، حتى يساعد هذا الأمر علي التفسير الصحيح المرتب المتناسق (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات).. إن سفر النشيد ليس غزلًا كما يتهمه بعض الناقدين، وانما هو تعبير عن المحبة المتبادلة بين الله والنفس البشرية، وصفات النفس التي تحبه. فالله لا يريد أن تكون علاقتنا به علاقة رسميات، وعلاقة خوف ورعب من لاهوته وجلاله. إنما يريد أن نكون أحباء له، لأنه محب للبشر. وهو الذي قال "لا أعود أسميكم عبيدًا.. بل أحباء" (يو15: 15). كل ما في الله من صفات جميلة، يدعونا الي أن نحبه: كل حنوه وعطفه ولطفه. من أجل هذا قيل في سفر النشيد: "لذلك أحبتك العذاري" (نش1: 3) والمقصود بالعذاري النفوس التي لاتهب ذاتها لآخر. أي النفوس المتفرغة لله وحده، المخصصة له.. كما قال الشاعر عن أمانيه وأماله التي لم تخطر بقلب اخر: امان عذاري لم يجلن بخاطرِ وبعض أماني القوم شمطاء ثيّبُ أي أنه تحبك يا رب النفس العذراء التي لم تهب ذاتها للعالم ولا لشهواته. ولم يمتلك قلبها حب إنسان ما. وفي ذلك قال القديس بولس" خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو 11: 2). ومن أجل هذا ايضا شبه الرب النفوس التي تطلبه وتنتظر ملكوته السمائي "بخمس عذاري حكيمات". والمقصود بهن كل المؤمنين الصالحين، رجالا ونساء، متزوجين وبتوليين. ماداموا لم يهبوا أنفسهم للعالم. أيضًا عبارة (أحبتك العذارى) لا تدل على أن السفر هو أغنية غزلية من محبوبة إلى حبيبها. فالتى تحب شخصًا حبًا جسديًا لا تحتمل غيرتها أن تحبه عذارى، غيرها.. ولا تجاهر بحب العذارى له في أفتخار. بل يقال مثل هذا عن المحبة الإلهية. فالنفس التي تحب الله، تريد أن جميع الناس يحبونه، وتفرح بهذا. فكيف تقبل محبوبة أن يقول حبيبها بالأكثر " هن ستون ملكة، وثمانون سرية، وعذارى بلا عدد " (نش 8: 6) حتى إن كانت هى الفضلى بينهن!! وبهذا الحب الإلهى، فإن عذراء النشيد تشرك كثيرات معها في محبتها. ولهذا أمثلة كثيرة. * فهى تقول "اجذبنى وراءك فنجرى" (نش1: 4). فهى تريد الكل أن يجروا وراءه بدلًا من قولها " فأجرى". وهى أيضًا تقول بأسلوب الجمع "نبتهج ونفرح بك ونذكر حبك أكثر من الخمر. بالحق يحبونك" (نش1: 4). * وهى تشرك بنات أورشليم في علاقتها مع حبيبها. فتقول " أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول، ألا تيقظن وتنبهن الحبيب حتى يشاء" (نش2: 7). وتكرر نفس العبارة مرة أخرى في (نش3: 5). ومرة ثالثة في (نش8: 3). وهى أيضًا تقول لهن " أحلفكن يا بنات أورشليم، إن وجدتن حبيبى، أن تخبرنه بأننى مريضة حبًا (نش5: 8). إنما يجوز مثل هذه الصلة إن كانت كنيسة الأمم تتخاطب مع كنيسة أورشليم، بالطريقة الرمزية لفهم السفر. كذلك كثير من التشبيهات في السفر، لا يمكن أن تؤخذ حرفيًا بين حبيب وحبيبته في غزل عالمى: * مثل عبارة " شبهتك يا حبيبتى بفرس في مركبات فرعون" (نش1: 9). هل توجد فتاة تقبل تشبيهها بفرس في مركبات فرعون، أم أنها تقبل على العكس التشبيه الذي يدل على الرقة والأنوثة.. * عبارة " فرس في مركبات فرعون " تذكرنا بعبارة " مرهبة كجيش بألوية" (نش6: 10) * وأيضًا من هى الحبيبة التي تقبل أن يقال في مديحها " عيناك مثل برك حشبون. أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق" (نش7: 4). * كذلك من التي تقبل أن حبيبها يصف جمالها فيقول: " شعرك كقطيع ماعز رابض على جبل جلعاد" (نش4: 1). وأيضًا " أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل" (نش4: 2). وكذلك " عنقك كبرج داود المبنى للأسلحة. ألف مجن غلق عليه، كلها أتراس الجبابرة" (نش 4: 4). إن الكنيسة إذا وصفت بالقوة: بالفرس، بجيش ذى ألوية، وببرج أسلحة داود، يكون هذا معقولا.. وبنفس الوضع توصف نفس المؤمن التي تحارب الشهوات والشياطين. أما الغزل بين حبيبين، فلا يمكن أن يكون بهذا الوصف. هناك كلمة أخرى، قد يتحرج منها القارئ الجديد لسفر النشيد: وهى كلمة الثدى، والثديين. * الثديان هما مصدر الرضاعة، ويرمزان إلى مصدر التعليم في الكنيسة. ويدل على هذا قول النشيد " ليتك كأخ لي الراضع ثديى أمى (نش8: 1). وعن ذلك صرخت امرأة قائلة للسيد المسيح " طوبى للبطن التي حملتك، وللثديين اللذين رضعتهما" (لو11: 27). وعن هذين قال أبونا يعقوب في مباركته لإبنه يوسف " بركات الثديين والرحم" (تك 49: 25) أي بركات الولادة والرضاعة. * وكما أن الثديين هما مصدر الرضاعة، هما أيضًا مصدر الشبع. وهكذا قيل في سفر اشعياء النبى عن أورشليم "لكى ترضعوا وتشبعوا من ثدى تعزياتها" (أش66: 11). أما منع الطفل عن ثدى أمه، فهو شأن الظالمين الذي قيل عنهم في سفر أيوب الصديق "يخطفون اليتيم عن الثدى" (أى24: 9). والثديان مصدر التغذية والشبع هما في الكنيسة العهدان القديم والحديث (الكتاب المقدس). وهما " الناموس والنعمة" (يو1: 17). أما بالنسبة لسفر النشيد (فى العهد القديم) فهو الناموس والأنبياء. بهما يرضع الإنسان التعليم الصحيح من مصدر إلهى، فتشبع نفسه، وينمو في القامة الروحية. ولأنهما معًا، لذلك قيل عنهما إنهما " كخشفتين توأمى ظبية" (نش7: 3) (نش 4: 5). منهما يرضع المؤمن، وبتعليمها يطمئن. كما قيل في المزمور " انت جذبتنى من البطن. جعلتنى مطمئنًا على ثديى أمى" (مز22: 9). والأم هى الكنيسة التي ترضعه الإيمان. وهذه الأم الكنيسة تقول عن كل ابن من أبنائها "بين ثديى يبيت" (نش 1: 3) أي يبيت يرضع من التعليم السليم، من العهدين القديم والجديد، من الناموس والأنبياء، من الناموس والنعمة.. * ولأن تعاليم الكنيسة عالية وسامية، شبهت الكنيسةبالنخلة، وأثداؤها بالعناقيد. كما قيل في المزمور " الصديق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان ينمو" (مز92: 12). وبنفس الوصف قيل عن الكنيسة في سفر النشيد "قامتك هذه شبيهه بالنخلة، وثدياك بالعناقيد" (نش7: 7). فالمؤمن الذي يريد أن ينمو في قامته الروحية، عليه أن يصعد في مستواها، ليمسك بثديى أمة الكنيسة، ويرضع منها التعليم الروحى واللاهوتى ويقول مع سفر النشيد "قلت إنى أصعد إلى النخلة وأمسك بعنقودها" (نش7: 8). ويتنبأ سفر النشيد عن كنيسة الأمم الناشئة، و يسميها "أخت ضغيرة" (نش8: 8). هذه التي منها المرأة الكوشية التي تزوجها موسى النبى (عد12: 42). وكذلك اهل نينوى الذين تابوا بمناداة يونان. وقبل هؤلاء راحاب التي من أريحا، وراعوث التي من موآب (مت1: 5). وفى العهد الجديد كرنيليوس الذي عمده بطرس الرسول. كل اؤلئك وأمثالهم، يذكرهم سفر النشيد فيقول: "لنا أخت صغيرة ليس لها ثديان. فماذا نصنع لأختنا في يوم تخطب" (نش8: 8).. نعم ليس لها ناموس ولا أنبياء. ماذا نقول لهذه الأممية، حينما يقول القديس بولس الرسول " لأنى خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2). ترضعها الكنيسة الأم من ثدييها، حتى ينبت لها ثديان. تطعمها الزيتونة الأصلية من دسمها، مادامت قد صارت شريكة في أصل الزيتونة ودسمها" (رو 11: 17). وعن كل مؤمن جديد، تقول له عذراء النشيد: " ليتك كأخ لى، الراضع ثدى أمى. فأجدك في الخارج، وأقبلك ولا يخزوننى" (نش8: 1).. أجدك بالافتقاد، وبالكرازة، والرعاية، وأنت " في الخارج" من الأمم، ومن خارج الكنيسة. فأقبلك، كما قبل بطرس كرنيليوس الأممى. ولم يخزه أحد لقبول هذا الأممى وأسرته، بعد أن " رأى السماء مفتوحة"، وقيل له " ما طهره الله، لا تدنسه أنت " (أع10: 11، 15). نعم أن السماء مفتوحة، لترضع الأمم من ثدييها. بهذا نفهم سفر النشيد، في معناه الرمزى. ليس في هذه الكلمات فقط، بل في كل تعبيرات السفر. وإلى اللقاء في بعض موضوعاته.. لنفهم السفر إذن بمعناه الرمزى، إن أحبت نعمة الرب وعشنا. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
كَمْ رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب! (نش 4: 1) عبارة الطيب تتكرر كثيرًا في سفر النشيد: فهى في أوله، و في اَخره، و خلال إصحاحاته الثمانية: ففى أوله "رائحة أدهانك الطيبة " " إسمك طيب مسكوب" (1: 3). وفي اَخره "أهرب يا حبيبى وكن كالظبي.. على جبال الأطياب" (8: 14). وفي داخله "كم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب" (4: 10). وأيضا ً "حبيبى نزل إلى جنته إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات" (6: 2) "قطفت مرَى مع طيبى" (5: 1). يضاف إلى هذا، ذكر كثير من مركبات الطيب: وأخصها (المر) وهو عطر سائل، طعمه مرَ، ورائحته زكية جدًا.. مثال ذلك "اذهب إلى جبل المرَ، وإلى تل اللبان" (4: 7) "يداى تقطران مرًا" (5: 5). ومجموعة كبيرة من مركبات الطيب في (نش 4: 14): "ناردين وكركم، قصب الذريرة وقرفة، مع كل عود اللبان. مر وعود، مع كل أنفس الأطياب" (4: 14). فى العهد القديم: هذا الطيب يذكرنا بالدهن الذي للمسحة المقدسة في العهد القديم. هذه المسحة التي كان يتم بها مسح الملوك والكهنة والانبياء في العهد القديم، فيحل عليهم الروح القدس وبمواهبه. كما كان يمسح بها بيت الله ومذابحه وكل أوانيه، فتصير مقدسة للرب.. حقا إننا ننظر إلى هذا الدهن المقدس وفاعليته، ونقول لكنيسة العهد القديم "رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب". عن هذا الدهن قال الرب لموسى النبى "و أنت تأخذ لك أفخر الأطياب: مرًا قاطرًا.. و قرفة عطرة.. وقصب الذريرة.. وسليخة.. و زيت الزيتون. و تصنعه دهنًا مقدسًا للمسحة. عطر عطارة، صنعة العطار. دهنًا مقدسًا للمسحة يكون. و تمسح به خيمة الاجتماع، و تابوت الشهادة، و المائدة وكل اَنيتها، والمنارة وكل اَنيتها، و مذبح البخور، و مذبح المحرقة وكل اَنيته، والمرحضة وقاعدتها". "و تقدسها فتكون قدس أقداس. كل ما مسها يكون مقدسًا". "و تمسح هرون وبنيه، و تقدسهم ليكهنوا لى. وتكلم بنى إسرائيل قائلاَ: يكون هذا لي دهنًا مقدسًا للمسحة في أجيالكم" (خر 30: 22 – 31) "مقدس هو، و يكون مقدسًا عندكم" (خر30: 32). حقًا، ما أعجب أدهانك أيتها الكنيسة، التي هى قدس أقداس، و كل ما مسها سيكون مقدسًا! إنها "أطيب من كل الأطياب " وفعل موسى حسب كل ما أمره الرب، هكذا فعل" (خر 40: 16). "اخذ موسى دهن المسحة، و مسح المسكن وكل ما فيه وقدَسه. و نضح منه على المذبح سبع مرات، ومسح المذبح وجميع آنيته.. " " وصب من دهن المسحة على رأس هارون ومسحه لتقديسه.." (لا 8: 10 – 12). إنه دهن، طيب عطر، مقدس، كان الروح القدس يعمل من خلاله، للتقديس.. ونسمع بعد ذلك أن صموئيل النبى "أخذ قنينة الدهن، و صب على رأس شاول ومسحه" (1 صم10: 1). فكانت النتيجة"أن الله أعطاه قلبًا آخر " "و حل عليه روح الله فتنبأ"حتى قال الشعب "أشاول أيضًا بين الأنبياء" (1 صم10: 9 – 11). و صار شاول بهذه المسحة ملكًا.. كذلك مسح صموئيل الفتى داود بهذا الدهن المقدس "فحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا" (1صم16: 13) حقًا، إن رائحة أطيابك أفخر من كل الأطياب". والدهن المقدس في العهد القديم كاب يمسح به الأنبياء أيضًا، كما مسح إيليا أليشع نبيًا عوضًا عنه (1 مل 19: 16). فى العهد الجديد: *أول طيب نذكره هو إسم الله، وبه ننال المعمودية. يقول سفر النشيد –حسب الترجمة البيروتية-"اسمك دهن مهراق" (نش 1: 3). ولكن أفضل من هذه الترجمة، الترجمة التي نستخدمها في طقسنا القبطى "طيب مسكوب هو أسمك (القدوس)". اسم الله هو طيب عطر، نستخدمه في كل صلواتنا. وبهذا الاسم نتعمد. كما قال الرب لتلاميذه القديسين "و عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19). كما قال القديس بطرس الرسول لليهود فى يوم البندكستى "توبوا، و ليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا.." (أع 2: 38). وهكذا في المعمودية، أخذنا طيب التبرير والميلاد الثانى (تى 3: 5) وغفران الخطايا (أع 2: 38). إن اسم الرب الذي دُعى علينا، نأخذ البنوة له في المعمودية. وبه نبدأ كل عمل، وكل صلاة. وباسمه نبدأ كل يوم من أيام حياتنا. ونذكر قول المرتل في المزمور (مز 63: 4، 5). "باسمك ارفع يدىّ، فتشبع نفسى كما من شحم ودسم". حقًا إن "اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمنع" (أم 18: 10). و ما أجمل ما نقوله للرب فى التسبحة "اسمك حلو ومبارك: في أفواه قديسيك". "الطيب المقدس الذي نأخده بعد ذلك، هو دهن الميرون المقدس. ونلاحظ أنه يشتمل على الأطياب التي وردت في مركبات مسحة العهد القديم في (خر 30) وأيضًا ما ورد في أطياب سفر النشيد (نش 4: 14). وبهذا الدهن المقدس ننال التقديس وسكنى الروح القدس فينا. نصبح هيكلًا للروح القدس، والروح القدس يسكن فينا (1 كو 3: 16) (1 كو 6: 19). ويعمل فينا روح الله، و ندخل في شركة الروح القدس. الا يليق بنا، و نحن نرى هذا، أن نقول للكنيسة المقدسة"رائحة أدهانك أفخر من كل الأطياب". ذلك لأن الأب الكاهن، فيما يرشم المعمد بهذا الدهن المقدس (زيت الميرون) يقول هذه الصلوات: مسحة الروح القدس، آمين.. مسحة عربون ملكوت السموات، آمين.. مسحة مقدسة للمسيح إلهنا، وخاتم لا ينحل، آمين. كمال نعمة الروح القدس، ودرع الإيمان والحق آمين. وبهذا الدهن المقدس، يقدس كل أطراف المعمد، ومفاصله وفتحات جسمه. ويبدأ الروح يعمل فيه، بقوته، و مواهبه، وارشاده. حقًا: رائحة أدهانك – أيتها الكنيسة – أفخر من كل الأطياب. " الطيب الرابع الذي نأخده من الكنيسة، هو عمل الكهنوت. وكان عمل الكهنوت.. في العهد القديم – يبدأ بسكب الطيب المقدس على رأس رئيس الكهنة، كما يقول المزمور".. كالطيب الكائن على الرأس، الذي ينزل على اللحية، لحية هرون النازلة على جيب قميصه" (مز 132 [133 ]). لاشك أن الكهنوت هو طيب في الكنيسة، ننال به كل نعم الأسرار المقدسة، وننال به الرعاية والعناية. ننال به مغفرة الخطايا، حسب قول الرب لتلاميذه "من غفرتم خطاياه، غُفرت له" (يو 20: 23) "ما حللتموه على الأرض يكون محلولًا في السماء" (مت 18: 18). وننال بالكهنوت نعمة العماد (مت 28: 19)، "و الميلاد الثانى، وتجديد الروح القدس" (تى 3: 5). والمسحة التي لنا من القدوس (1 يو 2: 20)، والتناول من جسد الرب ودمه (1 كو 11). وبالكهنوت ننال التعليم الصحيح (تى 2: 1)، حيث من فم الكاهن تطلب الشريعة (ملا 2: 7) وهو يفصل كلمة الحق باستقامة (2 تى 2: 15). أيتها الكنيسة المقدسة، هذه هى "رائحة أدهانك الطيبة" (نش 1: 3). بل من الكهنوت أيضًا، نأخذ البركة في ختام كل اجتماع، بل البركة في كل وقت. كما علّم الرب موسى "هكذا تباركون.. قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك. يضىء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" (عد 6: 23 -26). وطيب الكهنوت لا يشمل فقط الأسرار والتعليم والبركة، وإنما يشمل أيضًا العمل الروحى كله. ومنه خدمة المصالحة، كما قال القديس بولس الرسول".. وأعطانا خدمة المصالحة.. إذن نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 18، 20). وفي هذه الخدمة كل ما يتعلق بالرابطة الروحية بين الله والناس. كل ما يتعلق "بتكميل القديسين، وعمل الخدمة، وبنيان جسد المسيح" (أف 4: 11، 12). حقًا يا كنيستنا المقدسة، "رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب". "طيب اّخر تقدمه لنا الكنيسة المقدسة، وهو رائحة المسيح الزكية في حياتنا: وهكذا تكون الكنيسة مصدرًا للطيب، لرائحة الحياة الطيبة، كما يقول الرسول "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته.. ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان " "لأننا رائحة المسيح الزكية لله" (2 كو 2: 14، 15). "رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 16). رائحة الحياة الطيبة، هى طيب تقدمه الكنيسة إلى العالم. وهى – في قداستها وطهرها – "معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). يرى الناس أعمالها الحسنة، فيمجدون الآب الذي في السموات (مت 5: 16). إن أستير الملكة، كانت مثالًا، حينما بدأت حياتها كملكة، بأن وضعوها في العطور والأطياب مدة ستة أشهر (إس 2: 12). ورقم ستة في الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل. كما خلق الله العالم في ستة أيام، وقام بعمل الفداء في اليوم السادس وفي الساعة السادسة.. وكانت الملكة أيضًا – كما في حياة أستير: توضع أيضًا في زيت المر ستة أشهر. والمر عطر، له رائحته الطيبة وطعمه المر، يرمز إلى طيب الكنيسة في اّلامها. وعن طيب الحياة، قيل عن الكنيسة في قدسية حياتها: " المر والميعة والسليخة من ثيابك" (مز 45). يعطينا هذا مثلًا عن ثوب البر الذي ينبغى أن نلبسه أمام الله، والثياب البيضاء التي نظهر بها هنا، وكان يظهر بها كما في ظهوراتهم في قصة القيامة (يو 20: 12). وكما يخدم الآباء الكهنة في الهيكل بثياب بيض.. ثياب القديسين "غير المدنسة من الجسد" (يه 23) كانت طيبًا أمام الله، وكانت بركة أمام الناس. ونذكر في هذا المجال أنه قيل عن القديس بولس الرسول "كان يؤتى عن جسده بمناديل وماّزر إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض، وتخرج الأرواح الشريرة" (أع 19: 12). إنها معطرة روحيًا أمام الله. وقد أشاد الله بالعطر ورائحته في كتابه المقدس: فقد أمر الرب موسى النبى من جهة البخور الذي يجب إعداده لتقديمه للرب إنه يكون "بخورًا عطرًا صنعة العطار" (خر 30: 25). كما يرمز الطيب إلى الحياة الطيبة. إن الكنيسة بالطيب الذي تظهر به في حياتها الطيبة، تبدو كما قيل في سفر الرؤيا "كعروس مزينة لعريسها" (رؤ 21: 2). ولعل هذا يذكرنا بقول أبينا إسحق أبى الأباء في مباركة ابنه يعقوب: "رائحة ابنى كرائحة حقل باركه الرب" (تك 27: 27). حقًا إن الرب يحب الرائحة العطرة ويريدها: والطيب أيضًا يظهر في التقدمات والذبائح التي تقدمها الكنيسة للرب. وقد قيل عن أبينا نوح بعد رسو الفلك: إنه "أصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضًا بسبب الإنسان.." (تك 8: 20، 21). اّخر طيب في حياتنا هو الطيب الخاص بتكفين الإنسان بعد موته: إن المرأة التي سكبت على السيد زجاجة طيب من ناردين غالى الثمن، ولامها بعض التلاميذ قائلين "لماذا هذا الإتلاف؟! لأنه يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير ويعطى للفقراء " فقال لهم الرب "لماذا تزعجون المرأة. فإنها قد عملت بى عملًا حسنًا.. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدى، إنما فعلت ذلك لأجل تكفينى" (مت 26: 8 -12). وحدث هذا فعلًا في تكفين السيد المسيح أن أتى نيقوديموس "و هو حامل مزيج مرّ وعود نحو مئة منّا" فأخذ هو ويوسف الرامى جسد السيد " ولفاه بأكفان مع الأطياب كما لليهود عادة أن يكفنوا" (يو 19: 39، 40). كذلك في فجر الأحد جاء إلى القبر النسوة "حاملات الحنوط الذي أعددنه" (لو24: 1). أجساد القديسين الطاهرة التي عاشوا بها على الأرض كانت طيبًا صاعدًا إلى السماء استقبلتها الملائكة قائلين "من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6). أجساد كانت طيبًا يعطر الكنيسة، ولما تنيح أصحابها، صعدت أرواحهم إلى السماء كطيب عطر، و بقينا نضمخ رفاتهم بالطيب. المقصود أن الإنسان كما تكون حياته على الأرض طيبًا، فإن الطيب يفوح من جسده أيضًا عند تكفينه ودفنه. وهكذا نفعل مع رفات القديسين، إذ يضمخ الرفات بالأطياب والحنوط حتى تصبح رائحة رفات القديس عطرة باستمرار.. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أنا سوداء وجميلة (أ) (نش 1: 5) هذه العبارة تقولها كنيسة الأمم. التي تعتبر سوداء لأنها كانت غريبة عن رعوية شعب الله بلا ناموس, لا أباء ولا أنبياء, بلا وعود من الله, وبلا عهود منه, وبلا معرفة إيمانية به (أف 2: 12). فهي من هذه الناحية سوداء في نظر اليهود ولكنها تخاطبهم قائلة " انا سوداء يا بنات أورشليم" من وجهة نظركم أنتم ولكني جميلة في عيني الرب. النفس البشرية الخاطئة, هي أيضا سوداء. سوداء من جهة ضعفها وسقوطها ولكنها جميلة بدم المسيح الذي يطهرها من كل خطية (1 يو 1: 7) فهي تقول أنا سوداء في حالة الخطية ولكن جميلة في حالة التوبة, سوداء في حاضري وماضي ولكني جميلة في المستقبل, بالرجاء.. آنا سوداء وآنا بعيدة عن الله ولكني أؤمن بقوة الله الذي سينتشلني مما أنا فيه وهو الذي سوف يتوبني فأتوب (أر 31: 18) وأصبح جميلة, لأن الجمال هو طبيعتي التي خلقت بها كصورة الله على شبهة ومثالة (تك 1) باعتباري نفحة خرجت من فم الله, واستقرت في ترابي (تك 2). أنا جميلة – كصورة الله- أما الخطية فهي دخيلة على طبعي. هذه الخطية زحفت إلي من سبب خارجي "لأن الشمس قد لوحتني " ولكني جميلة باعتبار أن نعمة الله لابد ستفتقدني في يوم ما, وسيعمل في روحه القدوس ولن يتركني إلي سوادي. لقد كنت سوداء بخطيتي الجدية المورثة. ثم تجددت في المعمودية. دخلت جرن المعمودية، حيث صُلِبَ إنساني العتيق (رو 6: 6) "ليبطل جسد الخطية". وخرجت من جرن المعمودية بيضاء وجميلة. ثم اسودَّت بشرتي، لأن الشمس قد لوَّحتني. ولكني واثقة أنني سأدخل جرن التوبة، حيث يغسلني الرب فأبيض أكثر من الثلج (مز 50) وأصبح جميلة. الله الحنون سوف ينضح عليَّ بزوفاه فأطهر. سيخلق فيَّ قلبًا نقيًا. وأيضًا سوف يجدد روحًا مستقيمًا في أحشائي (مز 50). وبنعمته سوف يردني إلى رتبتي الأولى، الجميلة. أنا سوداء لأني في مرحلة من التخلي " طلبتة فما وجدته " ولكني واثقة بالرجاء أني لابد سأجدة ولو بعد حين. وحينئذ سيلقي على بره, فأصبح جميلة مرة أخرى. أنا سوداء يا بنات أورشليم البيض الجميلات.. ولكني أحذركن: لا تشمتن بي، ولا تهزأن بسوادي كأنه عار. فالرسول يمنعكن إذ يقول " أذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم. وأذكروا المذلين كأنكم انتم أيضآ في الجسد" (عب 13: 3). كما يقول من هو قائم، فلينظر لئلا يسقط (رو 11)، كلكم معرضون أن تلوحكم الشمس مثلي. لقد كانت لي أخت سوداء وصارت جميلة. أنها الارض! قيل في اليوم الاول إن الارض " كانت خربة وخاوية، وعلى وجه الغمر ظلمة" (تك 1: 2) تلك الظلمة تعني أنها سوداء.. " ثم قال الله: ليكن نور, فكان نور". وصارت الأرض الخربة جميلة، وأمتلأت بالثمار والأزهار " ورأى الله ان ذلك حسن". وأنا أيضآ أنتظر اليوم الذي يقول فيه الرب: ليكن نور. فيكون نور. ويرى الله النور إنه حسن. وأصير جميلة. إنني أعيش برجاء ذالك اليوم لست أعيش في ظلمتي الحاضرة, وألا خنقني اليأس!.. إنني بالرجاء انتظر النور الأتى. انتظر أن يغسلني الرب, فابيض أكثر من الثلج. أن عبارة "أبيض أكثر من الثلج" عبارة معزية مملوءة بالرجاء. سأعيش فيها. إن كنيسة الأمم عندما قالت أنا سوداء وجميلة, كانت في عمق الإيمان بالخلاص الأتى. كانت مؤمنة بمجيء من يحمل خطايا العالم كله. وعندما قالت أنا جميلة ذكرتني بقول المرتل في المزمور: " أرحمني فأني بار" (مز 86)، وفي قوله هذا، لم يتكلم عن برة الذاتي، إنما عن البر الأتي بالدم المسفوك، الذي سيطهره فيبيض أكثر من الثلج "متبررآ مجانا بالنعمة" (رو 3: 24) وبنفس الوضع تقول عذراء النشيد عن نفيها إنها جميلة فالرسول يقول " لان جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح (غل 3: 27) أي لبستم البر الذي له. لي أخت أخرى كانت سوداء وجميلة. هل تعرفنها يا بنات أورشليم؟ إنها أورشليم نفسها كما وصفها سفر حزقيال. قال لها الرب وهي مطروحة بنجاستها على الارض " مررت بك ووجدتك مدوسة بدمك. فقلت لك بدمك عيشي ز (حز16). هكذا كانت حياتها وهي سوداء.. ثم يقول لها الرب بعد ذلك " فمررت بك ورأيتك وإذ زمنك زمن الحب. فبسطت ذيلي عليك وسطرت عورتك ودخلت معك في عهد, فصرت لي. فحممتك بماء. (أي المعمودية) وغسلت عنك دمائك (بمغفرة خطاياك), ومسحتك بزيت, (أي بزيت الميرون في المسحة المقدسة) وألبستك مطرزة. وكسوتك بزا أي حرير (بسر التوبة) وحليتك بالحلي (بالفضائل) فتحليت, وجملت جدا فخرج لك أسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملا ببهائي الذي جعلتة عليك" (حز 16). هذه قصة السوداء التي صارت جميلة، إذ افتقدها الرب. وكان ذلك في " زمن الحب " أي الزمن الذي رآه الرب مناسبا لإظهار حبة، وما أدق عبارة " جمالك كان كاملآ ببهائي الذي جعلتة عليك" إنه جمال من الله وليس جمال من تلك النفس، إنه بر المسيح وليس برها الذاتي. إنه منحة الله للنفس، وليس عمل الذراع البشري. نفوس كثيرة كانت سوداء وصارت جميلة. مثل نفوس التائبين جميعا, مثل موسى الأسود, وأغسطينوس، وبيلاجية، ومريم القبطية، وأريانوس والي أنصنا، واللص اليمين.. ولكن هذه النفوس لا تقول " أنا سوداء وصرت جميلة " وإنما تقول أنا سوداء وجميلة " لانها تعيش بالرجاء. فترى المستقبل كأنه قائم أمامها, إنها نفس واثقة, إنها غالية عند الرب, مهما سقطت! هناك نفوس اخرى ترونها أنتم سوداء ويراها الرب جميلة! مثال ذلك شاو ل الطرسوسي المضطهد للكنيسة. كم كان أشد سواد هذه النفس في نظر المؤمنين, حينما كان يهجم ويقتاد رجالا ونساء إلي السجن. أما الرب فنظر إلي نفس شاول السوداء, بل التي كانت جميلة في غيرتها وإن كانت غيرة ليست حسب المعرفة وقال له " صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع 9).. إنني أغسلك وأنت ترفض الصابون والماء والليف! ومع ذلك سأظل أغسلك إلي أن تبيض أكثر من الثلج فيما تغسل خطاياك (أع 22: 16) وبعد ان تبيض سأريك كم ينبغي أن تتألم من أجلي, سيرجمونك, وسيضربونك بالسياط, ويسيل الدم على نفسك البيضاء.. وأغني لك أنشودتي " حبيبي أبيض وأحمر". أنا نفسي سوداء قد أكون مائتة مثل الابن الضال حسبما قيل عنة " ابني هذا كان ميتا فعاش" (لو 15: 24). وقد يقال عني " قد أنتن" مثل لعازر (يو 11: 39). أنا واثقة من إني سأخرج من القبر, وسأرجع إلي بيت عنيا. وهناك سيزورني الرب ومعي مريم ومرثا.. أنا نفسي ساقطة, ولكنني لست ضائعة.. سيمسك واحد من السارافيم جمرة من على المذبح, ويمسح بها شفتي, قائلآ: قد طهرت. قد كفر عن خطيئتك. لن تموت.. وسيأتي الرب بلقان, وسيأتي بمئزر ويغسل قدمي, لكي أصير طاهرا كلي، كباقي التلاميذ، وكباقي النفوس التي هي مثلي سوداء. ويقول " ها أنتم الآن طاهرون" (يو 13: 10). أنا سوداء وجميلة, والخطية تلطخني من الخارج فقط أما قلبي فهو في داخلي يحب الله! مثل بطرس الذي أنكر سيدة ثلاث مرات, وسب ولعن وقال لا أعرف الرجل (مت 26: 72) ومع ذلك قال للرب بعد القيامة: أنت يا رب تعرف كل شيء. أنت تعلم أني أحبك (يو 21: 17). الخطية غريبة عني, وأنا غريب عنها, أنها سقطة ضعف وليست خيانة! إرادتي في الخارج سوداء, أما نفسي من الداخل فهي بيضاء, كل ما كان مني من إنكار هو نفسي الخارجية الضعيفة السوداء, أما الحب الذي في قلبي، فهو نفسي الحقيقية الجميلة , نفسي الخارجية يلطمها الشيطان فتسود، أما قلبي من الداخل فجميل، وهذا السواد الخارجي سوف أخلعة حتمآ, سأخلعة الآن. وسأخلعة عندما ألبس جسدآ نورانيآ روحانيآ لا يخطئ (1كو15: 44, 49) جسمآ لا يتصل بالمادة بعد. أنا سوداء وجميلة كخيام قيدار، كشقق سليمان. وكأنة قيل عني, كنت خلال ذلك أكافح، نفسي وأجاهد, حتى كأنني اثنان في واحد, هذا يدفعني, وذلك يمنعني. هذه النفوس المجاهدة التي تحارب حروب الرب. فتسقط حينا، وتقوم حينا أخر، وقد يجرحها الشيطان وقد يشوة بعض أعضائها، هي على الرغم من سقوطها، سوداء وجميلة، مهما جرحت في الحرب، هي جميلة، لأنها لا تلقي سلاحها، ولم تستسلم نهائيا للعدو. ولم تفقد إخلاصها الداخلي للرب، مهما جرحت. كلما عاش الإنسان في حياة الإتضاع، يجد نفسة سوداء وفي نفس الوقت جميلة! مثل نفس العشار الذي لم يجرؤ أن ينظر إلي فوق.. وإنما بانكسار قلب وبخجل, قال: ارحمني يا رب فأني خاطئ (لو 18: 13) حقا إنها نفس سوداء وجميلة, ما أعظم وأعمق هذه المقابلة: العشار نفسة سوداء وجميلة, والفريسي لم يكن جميلا وهو أبيض. نفس أخرى كانت سوداء وجميلة, هي نفس اللص اليمين على الصليب, كان لصا ومازلنا نسمية باللص, وهي كلمة ترمز لسوادة، وكلمة اليمين ترمز لبرة في المسيح. راحاب الزانية – كذلك اللص- كانت سوداء وجميلة. كانت امرأة مشهورة إنها خاطئة، ولكن الحبل القرمزي كان يقول إنها أكثر جمالآ من كل سكان أريحا (يش 6). كل نفس سوداء وجميلة تناديكم: لا تحكموا حسب الظاهر. إن الظاهر لا يقدم الحقيقة مطلقا. لما رأى صموئيل النبي الابن البكر ليسى قال "هوذا أمام الرب مسيحة "، بينما قال الرب " أنا قد رفضتة" وقال لصموئيل: "لا تحكم حسب الظاهر "، بينما اختار الرب داود الذي كان يقول " صغيرا كنت في بيت أبي، ومحتقرا عند بني أمي". هذا الصغير الذي صار مسيحآ للرب وحل علية روح الرب (1 صم: 16). عبارة " أنا سوداء وجميلة " يمكن أن يقولها كل ضعيف إختاره الرب. فالرب قد أختار تلك النفوس السوداء الجميلة " أختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء, وأختار الله ضعفاء العالم ليخزي الحكماء, وأختار أدنياء العالم والمزدري وغير الموجود.. (1كو1: 27, 28) أختار مجموعة من الصيادين ليكونوا رسلة، وأختار موسى الأغلف الشفتين ليكون كليمة، وأختار أرميا الصغير ليكون نبيا للشعوب.. واختار العشار متى بين لأثنى عشر، وتوما الشكاك أيضآ بينهم. إنها نفوس كانت تبدو للكثيرين سوداء في ضعف مكانتها، ولكنها كانت في نظر الله جميلة. نعم إنه الله الذي قيل عنة: الساكن في الأعالي، والناظر إلي المتواضعات. المقيم المسكين من التراب والرافع البائس من المزبلة, لكي يجلس مع رؤساء شعبة. الذي يجعل العاقر ساكنة في بيت, أم أولاد فرحة (مز 113). نعم هذه النفس الخارجة من التراب ومن المزبلة تصلي إليه قائلة في شكر: أنا سوداء وجميلة. أنا ضعيفة أعمل بقوة الله،وجاهلة أتكلم بحكمة الله أنا المزدري وغير الموجود, ولكن الله منحني وجودا.. في إحدى المرات اختار الله حفنة تراب مدوسة في الأرض, ونفخ فيها نسمة حياة، فصارت نفسا حية (تك 2)، وجعلها الله على صورتة ومثالة وإذ صارت كذلك، انطبقت عليها عبارة: " أنا سوداء وجميلة" ألست ترى معي أيها القارئ العزيز أن هذا الموضوع لة بقية طويلة؟ نعم أنة لكذلك.. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أنا سوداء وجميلة (ب) يمكن ان تستخدم عبارة " انا سوداء وجميلة " للدلالة على الإنسان الذي هو في حالة ضعيفة ومحتقرة أمام البشر. مثل الأباء الرسل الذين كانوا صيادين من جهال العالم، حيث قيل عن بطرس ويوحنا إنهما " إنسانان عديما العلم وعاميان" (أع 4: 12). وكما كانت القديسة العذراء في نظر الناس إنسانة فقيرة خطيبة رجل نجار، ومع ذلك جعلها الله أسمى من الشاروبيم واعلى من السارافيم وقبل رؤساء الملائكة. ويمكن لعبارة " أنا سوداء وجميلة " أن تكون وصفا لغير الإنسان: كقرية بيت لحم التي كانت تعتبر أنها " الصغرى بين رؤساء يهوذا " ولكنها صارت من أعظم المدن إذ " خرج منها مدبر يرعى شعب إسرائيل" (مت 2: 6) هو المسيح الرب. وكذلك يمكن أن يوصف بنفس العبارة " مزود البقر " الذي ولد فيه رب المجد. أماكن سوداء ولكنها جميلة. ومثل مدينة الناصرة التي قيل عنها في تعجب " أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟!" (يو 1: 46). ومع ذلك كل تلك الأماكن مواضع مقدسة: سوداء كما كانت في نظر ذلك الزمان. ولكنها صارت جميلة. مزود البقر الذي تعافه النفس، أتى إليه أباطرة وملوك لكي يتباركوا منه ويسجدوا فيه. وكل حبة تراب من أرضه تغنى قائلة: أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم. عبارة " سوداء وجميلة" تستخدم أيضا في مجال الفضائل والمثاليات. فكثير من الفضائل تبدو للإنسان سوداء، بينما هى جميلة. ومن امثلة ذلك الباب الضيق والطريق الكرب (مت 7: 14) وهكذا الصليب الذي ينبغى أن تحمله كل من يسير وراء الرب (مت 10: 38). وقد تبدو سوداء، الأمور التي يتعب فيها الإنسان نفسه، وتضغط على إرادته: مثل تقديم الخد الأخر لمن يلطمه اللطمة الأولى (مت 5: 39). وكأن يبارك لاعنيه، ويحسن إلى مبغضيه (مت 5: 44). ويقبل الظلم في صمت. كشاه تساق إلى الذبح، ولا يفتح فاه " (أش 53: 7).. كل هذه تبدو أمامه امورا ضاغطة. و لكنها تهمس في أذنيه " انا سوداء وجميلة".. هكذا كل أنواع التعب التي يتحملها الإنسان من أجل الخير: ليس في الروحيات فقط، وإنما حتى في جميع الواجبات كتلميذ يسهر الليل، ولا يخرج لاهيا مع أصحابه. إنما يحبس نفسه في بيته، ويذاكر لكي ينجح. وأيضا رب الأسرة الذي يكدح ليلا ونهارا لأجل الحصول على قوت أسرته. امثله كلها تعب، ولكنها جميلة. الجلجثة عموما تبدو في نظر الناس سوداء، وكذلك الصليب. سواء كان ذلك لأجل الفضيلة، وفي محيط الخدمة. انظروا ماذا يقول القديس بولس الرسول عن خدمته وخدمة معاونيه: مكتئبين في كل شيء، ولكن غير متضايقين. متحيرين ولكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين.. نسلم دائما للموت لأجل يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا المائت. (2كو 4: 8 – 11). وما عبارات: مكتئبين، متحيرين، مضطهدين، نسلم دائما للموت، إلا عبارات تبدو سوداء، وهى جميلة. كذلك يقول بنفس المعنى عن الخدمة " كمضلين ونحن صادقون. كمجهولين ونحن معروفون. كمائتين وها نحن نحيا.. كحزانى ونحن دائما فرحون. كفقراء ونحن نغنى كثيرين.. (2 كو 6: 8 10). ونحن ننظر إلى عبارات: مضلين، ومجهولين، ومائتين، وحزانى، وفقراء.. فتهمس في أذننا "انا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم". وعبارة " بنات أورشليم " إنما ترمز إلى اولاد الله السائرين في طريقة. الذين ينتمون إلى أورشليم " مدينة الملك العظيم" (مت 5: 35) إن أورشليم ترمز كثيرا إلى الكنيسة المقدسة. والأبرار سوف يسكنون في أورشليم السمائية، النازلة من السماء كعروس مزينة لعريسها (رؤ 21: 2) وبنات أورشليم هى النفوس المنتمية إليها التي تتحدث إليها عذراء النشيد. " أنا سوداء". أنا الباب الضيق الذي يوصل إلى الملكوت. أنا الوصايا الصعبة التي تبدو ضاغطة على " الأنا "، على الذاتية، على الكرامة البشرية، على الإرادة التي يناديها الرسول بقوله "لا تحبوا العالم ولا الاشياء التي في العالم" (1 يو 2: 15)، بينما هى لم تتخلص بعد من محبة العالم.. إننا مدعوون جميعا لأن نمشى في طريق الجلجثة حاملين الصليب. ولا يوجد طريق إلى القيامة سوى الجلجثة. وإن نتألم مع المسيح، فلن نتمجد معه (رو 8: 17). ألام الزمان الحاضر قد تبدو سوداء، ولكنها لأنها تؤدى إلى المجد العتيد الذي سيستعلن فينا (رو 8: 18). وجميع صلبان الحياة الروحية تصيح قائلة: أنا سوادء وجميلة. هذه الصلبان (السوداء!) خاف من سوادها بطرس الرسول، فقال للرب "حاشاك يا رب أن يكون لك هذا" (مت 16: 21، 22). وظن بطرس أن الجمال يكون على جبل التجلى فقال للرب " يا سيدى، جيد أن نكون ههنا" (مر 9: 5).. كلا، أيها الرسول العظيم. إن المسامير والجلدات والأشواك، كلها سوداء، ولكنها جميلة، لأنها عن الحب، وفيها البذل والفداء. أيضا فضيلة الزهد والموت عن العالم، هى سوداء وجميلة. قد يبدو صعبا ومتعبا، أن يحرم الإنسان نفسه من كل ملاذ العالم، حتى الحلال منها ويحيا في الوحدة، والصوم، وفي العوز والفقر، متجردا من كل الرغبات والشهوات.. ولكنها حياة جميلة. صدقونى، إن الحياة الروحية كلها، يمكن أن تندمج تحت هذه العبارة: " سوداء وجميلة". إنها تذكرنا بقول الرب: " من وجد حياتة، يضيعها. ومن أضاع حياته من اجلى، يجدها" (مت 10: 39). من ذا الذي يقبل أن يضيع نفسه؟! في نظره هذه العبارة سوداء. ولكنها جميلة، لأنها الطريق الوحيد الموصل إلى الله. ولهذا ذكرها الله كبداية للسير وراءه، فقال " إن أراد أحد أن يأتى ورائى، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعنى" (مت 16: 24).. نعم، لابد أن تختفى ذاته، لكي يظهر الله في حياته.. تموت ذاته، لكي يحيا الله فيه.. إن الحياة مع الله تبدأ بالموت. فتموت لكي نحيا. ندفن معه في المعمودية، لكي نقوم في جدة الحياة. يموت إنساننا العتيق، لكي يولد إنسان جديد على صورة الله (رو 6: 3 – 8). وهكذا يصرخ الطفل حينما نغطسه في الماء، ولكننا نلبسه بعد ذلك ملابس بيضاء، رمزا للحياة الطاهرة الجديدة التي يحياها. ونهنئ اهله على أن ابنهم قد مات مع المسيح. ماتت طبيعته القديمة. وكل شيء صار جديدا. التجارب والضيقات هى أيضا في المفهوم الروحى سوداء وجميلة. أنظروا إلى تجربة أيوب كمثال. كانت تبدو سوداء للغاية، إذا قد تم تجريده من كل شئ: من الأولاد والمال وكل غناه، ومن صحته ومن راحته. حتى من أصحابه الذين عيروه ظلما. حتى من كرمته أيضا، إذ يقول أيوب " أقاربى قد خذلونى، والذين عرفونى نسونى. نزلاء بيتى وإمائى يحسبوننى أجنبيا. صرت في أعينهم غريبا. عبدى دعوت فلم يجب. بفمى تضرعت إليه. نكهتى مكروهة عند إمرأتى، وخممت عند أبناء أحشائى.. كرهنى كل رجالى، والذين أحببتهم انقلبوا على (أى 19) وبقدر ما كانت تجربة أيوب سوداء، إلا أنها كانت جميلة إذ قال فيها لله: بسمع الأذن سمعت عنك. والأن رأتك عينى (أى 42: 5). دخل في التجربة السوداء. فخرج أبيض أكثر من الثلج. خرج منها بخيرات مضاعفة (أى 32: 10، 12). وبخبرات روحية عميقة (أى 40: 4) (أى 40: 4) (أى 42: 2 6). كما كانت تجربة جميلة، كقدوة للأخرين ومثال (بع 5: 10، 11). إننا نصلى إلى الله قائلين " لا تدخلنا في تجربة" (مت 6: 13). ولكن جمال التجارب التي نخافها، يظهر في قول يعقوب الرسول: " أحسبوه كل فرح يا أخوتى، حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع 1: 2). خذوا تجربة ثانيه هى تجربة أبينا إبراهيم: كم كانت شديدة وحساسة جدا، إذ قال له الرب " خذ أبنك، وحيدك، الذي تحبه نفسك، إسحق.. وأصعده لي محرقة على أحد الجبال الذي أريك إياه" (تك 22: 2). أمر صعب، ويبدو فوق الاحتمال. واخبار تبدو سوداء. حتى أن إبراهيم لم يستطيع أن يقولها لزوجته سارة، خوفا من ان تسقط ميتة عند سماعها.. ! ومع ذلك كانت هذه التجربة جميلة، في أنها أثبتت إيمان إبراهيم وطاعته، وجعلته مثلا في الطاعة. كما كان من نتيجتها قول الرب له " من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك إبنك وجيدك عنى، اباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء، وكالرمل الذي على شاطئ البحر.." (تك 22: 16، 17) مع ان تجربة إبراهيم في ذبح ابنه كانت تبدو سوداء، إلا أنها كانت جميلة، كمثال للفداء، وللطاعة، وللإيمان. صورة رائعة.. بالفهم البشرى كل تجربة تبدو سوداء. ومن الناحية الأخرى لابد أن وراءها خيرا. أول معرفة ابرام بالله، كانت تبدو تجربة، حيث قال له " اذهب من أرضك ومن عشيرتك وبيت أبيك، إلى الأرض التي أريك" (تك 12: 1).. حرمان من الاهل ومن الأقارب والوطن. ومع ذلك كانت التجربة جميلة، إذ قال له الرب فيها: " فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم أسمك، وتكون بركة.. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تك 12: 2، 3). إن سواد التجربة يكمن في الفهم البشرى الخاطئ لها. أما جمالها فهو في القصد الإلهى منها، والفهم الروحى لها. الطاعة أيضًا قد تبدو سوداء أحيانًا، عندما تضغط على الإرادة. صعب أن يتخلى الإنسان عن مشيئته ورغبته، وربما عن فكره الخاص ن وينفذ مشيئة غيره.. كالطفل الذي يحرمه أبوه من ألعابه وأصحابه، ليجلس إلى دروسه.. ولكن الطاعة جميلة، لأن فيها الخير. وبها تتدرب نفوسنا وتكبر. وما أخطر ان يسلك الإنسان حسب هواه، كما يفعل الأبن الضال! وكما يفعل الوجوديون الملحدون الذين يطيعون هواهم ليتمتعوا بوجودهم!! أيضا من الأشياء التي تبدو سوداء وجميلة: التوبيخ والتأديب: صعب على الإنسان المهتم بكرامته، ان يسمع كلمة توبيخ وكلمة انتهار، وأن توقع عليه عقوبة.. ! بينما نرى النفس التي تسعى إلى خلاصها، ترحب بكلمة التوبيخ وتفرح بها، لأنها تكشف لها أخطاءها، لكي تعالجها فتخلص.. إن التأديبات جميلة " لآن الذي يحبه الرب يؤدبه" (عب 12: 6) ولكنها سوداء في نظر الذين لا يحتملونها. إذ تخدش "الذات" التي يحرصون عليها، وتحرم من المديح الذي يحبونه! عندما قال الرب لبطرس " اذهب عنى يا شيطان. انت معثرة لى، لأنك لا تهتم بما لله، لكن بما للناس" (مت 16: 23).. لم يغضب بطرس، بل سمع عبارة التوبيخ في محبة، لخلاص نفسه. إن الله يعلمنا الحياة: بكلمات الحب حينا، وبكلمات التوبيخ حينا أخر. بالبشارة المفرحة حينا، وبالصليب حينا أخر.. بالخيرات التي تنسكب من السماء حتى نقول كفانا كفانا، وأيضا بالتجارب والضيقات.. أيضا فضيلة التعب من أجل الرب، هى كذلك سوداء وجميلة.. سواء التعب في السهر والصوم والنسك والمطانيات وضبط النفس.. ما أسهل أن يستريح الإنسان، ويسترخى تحت فراشه الدافئ.. ولكن الجميل هو أن يقوم ويصلى صلاة نصف الليل، فيجد التعزيات الجميلة. كذلك الذين يمارسون المطانيات لا يشعرون فيها بتعب إنما بلذة روحية. و الصوم أيضا ليس حرمانا للجسد بل هو نشوة للروح. كما أنه مفيد للجسد من نواح متعددة.. نفس الكلام نقوله عن العشوروالبكور، والعطاء عن احتياج. ما أصعب ممارسة البعض لهذه الوصية، مع شعورهم باحتياجهم لكل قرش يدفعونه! ولكن ما أجملها في البركة وفي البذل، وفي المحبة التي نظهرها نحو الفقراء، وفي إطاعة الوصية.. إن الفضيلة قد تكون صهبة وسوداء بالنسبة إلى المبتدئين، الذين يشتهى فيهم الجسد ضد الروح. أما عند القديسين فهى جميلة ومحبوبة. إن الكاملين الذين ذاقوا حلاوة الحياة الروحية ولذة العشرة مع الله، لا يرون الفضيلة سوداء مهما بدت صعبة! بل هى في نظرهم جميلة يشتهونها بكل قلوبهم. وهكذا يقول القديس يوحنا الحبيب " ووصاياه ليست ثقيلة" (1 يو 4: 3). ويتغنى داود كثيرا بوصية الرب فيقول إنها "مضيئة تنير العينين" (مز 19). وإنها أحلى من العسل في فمه، وأغلى من الجوهر (مز 119). إن النفس التي تعبت من أجل الرب وعاشت في العالم كسوداء، " لا صورة لها ولا جمال" (أش 53: 2) في مذلة الأتضاع والأحتمال، لا متعة لها بالعالم وكل ما فيه، ولا غنى فيه وجاه، " خسرت كل الأشياء وهى تحسبها نفاية لكي تربح المسيح" (فى 3: 8)، وأضاعت نفسها لكى تجدها. هذه النفس عندما تصعد إلى فوق، ستقول لنفوس الأبرار في الفردوس " أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم" |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أنا سوداء وجميلة (ج) "أنا سوداء يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان. لا تنظرن إلىّ لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني" (نش 1: 5، 6). "أنا سوداء" عبارة جميلة، تقولها النفس المتواضعة المعترفة بأخطائها. لا تجد حرجًا من ذكر نقائصها. كلما تعترف هذه النفس بشئ من سوادها، يمحوه الله بدمه، ولا يعود يحسبه عليها. يغسلها الرب، فيبيضّ أكثر من الثلج.. "أنا سوداء". تقول ذلك أمام الله والناس، وأمام ذاتها. أمام الله: حينما تقول "إليك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت" (مز 51). وأما الناس: إذ لا تتفاخر ولا تتباهى. وأمام ذاتها: إذ هى نفس منسحقة في الداخل، ليست بارة في عيني نفسها.. فالنفس البارة في عيني نفسها، لا يمكن أن تقول "أنا سوداء"! أمنا حواء لم تستطع أن تقول هذه العبارة، ولا أبونا آدم إستطاع. أنا سوداء بإرادتي وحريتي، وجميلة بمحبة الله التي تطهرني. أنا سوداء، لأن الشمس قد لوحتني. الشمس هى شمس البر، أي الله تبارك إسمه. وكلما تقترب النفس من الله الكلي القداسة الكلي البر، تشعر بأخطائها، وترى أنها لا شيء.. حتى إن كان لها برّ، فهو إلى جوار كمال الله يبدو كخرقة الطامث (حز 36: 17). فتصرخ هذه النفس قائلة: "أنا سوداء.. لأن الشمس قد لوحتني". بهاء الله أشعرني بسوادي.. حقًا إنه أمام الله، يتضائل الكل "السموات ليست طاهرة أمامه وإلى ملائكته ينسب حماقة" (أى 4: 18).. فكم بالأكثر نحن الأذلاء!! إننا إن تأملنا برّ القديسين والرسل والملائكة، نجد أننا لسنا شيئًا. فكم بالأولى إن تأملنا كمال الله وقداسته.. هذا الكمال الإلهي غير المحدود، قد لوّحني، فأصبحت أرى نفسي في الموازين إلى فوق (مز 62: 9).. ولكني على الرغم من هذا جميلة. لأن الرب سوف يلبسني ثوبًا أبيض، ويهبني إكليل البر، ويمنحني التجلي الذي أعطاه لتلاميذه، ويعيد إلىّ الصورة الإلهية التي خلقت بها وفقدتها.. "أنا سوداء وجميلة" عبارة تصوّر حالة القديسين الذين – إمعانًا في الإتضاع – كانوا يتظاهرون بالجهل والتهاون والخبل!! مثل القديسة العظيمة التي كشف سرّها القديس الأنبا دانيال، التي كانوا يدعونها (الهبيلة). وكانت تلقي بذاتها في تراخ وكسل خارج الكنيسة، ولا تحضر الصلاة مع الراهبات، ولا تقوم أمامهن بأي عمل من أعمال العبادة. فإذا نمن كلهن، قامت في ظلام الليل، وإنتصبت أمام الله في صلوات عميقة طول الليل. حتى إذا ما إستيقظت الراهبات تتراجع إلى صورة التراخي، وتتعرض للإحتقار والإهانة. كانت في نظر الناس سوداء، لأنها أخفت برّها عنهم. ولكنها كانت في حقيقتها جميلة، وأجمل من الكل. القديس الأنبا رويس، كان – في أيامه – يبدو أمام الناس رجلًا حافيًا، يسير وراء جمله، بلا لقب ولا وظيفة ولا كهنوت. يزفه الأطفال قائلين: المجنون المجنون!! صورته سوداء، ولكنها جميلة. ويعوزني الوقت، إن سردت قصص القديسين الذين ساروا في هذا الطريق.. كأولئك الذين قالت لهم القديسة سارة: "بالحقيقة إنكم اسقيطيون. لأن ما عندكم من الفضائل تخفونه! وما ليس فيكم من النقائص تنسبونه إلى أنفسكم! صورة تبدو أمام الناس سوداء. وهى في حقيقتها جميلة.. صورة الذين باستمرار يأخذون المتكأ الأخير، محتقرين ومرذولين من الناس. وقد ماتت نفوسهم عن المجد الباطل ومحبة المديح. العشار وهو واقف من بعيد في مذلة الخطاة، لا يجرؤ أن يرفع نظره إلى فوق، كانت نفسه في نظر الفريسي سوداء، وهى جميلة! كذلك الخاطئة التي بللت قدمى المسيح بدموعها (لو 7). كانت في نظر سمعان الفريسي سوداء! وفي نظر المسيح كانت جميلة. إنها النفس المنسحقة التي تدين ذاتها، وهى غارقة في دموعها. التي يقول لها الرب حوّلي عينيك عني، فإنهما غلبتاني. يمكن أن عبارة (سوداء) تطلق على حياة الحرمان والتجرد، التي يحياها النساك وأشباههم من أجل الرب.. إن لعازر المسكين الذي كان يشتهي الفتات الساقط من مائدة الغني، وكانت الكلاب تلحس قروحه (لو16)، قطعًا كانت نفسيته تبدو سوداء في نظر الغني وأهل بيته. ولكنها كانت نفسًا جميلة حملتها الملائكة إلى حضن إبراهيم (لو 15: 22). فإن كان من إحتمل حرمانًا وقع عليه بغير إرادته، قد حسب أهلًا لهذا المجد، فكم بالأكثر من يتجرد بإرادته..! أولئك الذين باعوا أملاكهم لُتعطى للفقراء، وعاشوا في جوع وعطش. وقد خسروا كل الأشياء، وهم يحسبونها نفاية لأجل معرفة المسيح (في 3: 8). ووضعوا أمامهم قول الرسول "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" (1يو 2: 15).. لاشك أن حياة أولئك وهى خالية من كل مباهج الدنيا، كانت تبدو لغيرهم سوداء! ولكنها كانت حياة روحية جميلة.. هكذا الفتاة التي ترفض الملابس الخليعة، وما يناسب تلك الملابس من زينة، تبدو هذه الفتاة في نظر الأخريات فلاحة ومتأخرة! ولكنها جميلة.. إن النفس البارة التي لا تتشبه بأهل العالم "ولا تشاكل أهل هذا الدهر" (رو12: 2).. تستطيع أن تقول لنظائرها "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم". أنا لا أتمتع بشئ من مباهج الدنيا، ولكنني لا أشعر بحرمان! إنما يشعر بالحرمان، الشخص الذي يشتهي الشئ ولا يناله. أما الذي لا يشتهيه، فهو لا يشعر بحرمان. بل هو سعيد بما فيه. حياته في تجرده جميلة في عينيه.. فضيلة التجرد في نظر الناس سوداء، وكذلك إخلاء الذات. السيد المسيح أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد (في 2: 7). وُولد في مزود بقر، وعاش في بيت رجل نجار فقير، ومن أم يتيمة وفقيرة، ومن قرية صغيرة. وُدعى ناصريًا نسبة إلى الناصرة التي كانوا يتعجبون أن يخرج منها شيئًا صالح (يو 1: 46) وهرب في طفولته إلى مصر. ثم عاش لا يجد أين يسند رأسه (مت 8: 20). وكان "رجل أوجاع، ومختبر الحزن" (أش 53: 4). وأخيرًا حكم عليه بالموت، واستهزأوا به وصلبوه كفاعل إثم بين لصين.. صورة تبدو سوداء. وربما في نظر الناس تمثل المهانة والضعف! ولكنها كانت جميلة، تمثل الحب والبذل والفداء واخلاء الذات. المحبة وهى صاعدة على الصليب، تقول للناس: لا تنظروا إلىّ لكون صورتي على الصليب تبدو سوداء في نظركم. لأن الشمس قد لوّحتني. عملية الإخلاء صيرتني سوداء. وكذلك البذل والفداء جعلني "كشاه تساق إلى الذبح، كنعجة صامتة أمام جازيها" (أش 53: 7). إنها صورة سوداء وجميلة. صدقوني إن قصة التجسد والفداء، في هذه العبارة العميقة "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم". هذه الصورة التي حاول البعض أن يتبرأ منها: "ملعون من ُعلق علي خشبة" (غل 3: 13).. صارت أبهى وأجمل صورة في الوجود، يمجدها ويقبّلها الجميع. وتزين الناس والأماكن. ولا ينظرون إليها لكونها سوداء. فإن الشمس قد لوّحتها.. وكيف لوّحتها؟ لقد غيّر السيد المسيح موازين العالم. غير الإيديولوجيات التي يؤمن بها الناس. وجعل هذه السوداء تبدو جميلة. وهكذا كثير من الفضائل تبدو سوداء وهى جميلة. ربما تبدو أمامك صورة سوداء، أن تحوّل الخد الأخر، وتمشي الميل الثاني. وتكون دائمًا مراضيًا لخصمك مادمت في الطريق (مت 5: 25). ولكنها صورة جميلة، تدل على نقاوة القلب من الداخل، وخلوه من الحقد ومن الرغبة في الإنتقام. إن التسامح أكبر وأقوى من الإهانة التي تصدر من أشخاص مغلوبين من أعصابهم! ولذلك فإن الرسول يطلب من الأقوياء أن يحتملوا ضعف الضعفاء (رو 15: 1). قوة الإحتمال تبدو كأنها ضعف، وكأنها سوداء وهى جميلة! مثل مياه النيل المحمله بالطمي، هى أيضًا سوداء وجميلة. كذلك فضيلة الصبر، فضيلة تبدو سوداء وُمرة. ولكن ما أجمل الصبر. يقول الكتاب "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 13). عبارة (سوداء وجميلة) تنطبق أيضًا على أولئك المظلومين، الذين لا يدافعون عن أنفسهم، ويظهرون كأنهم مذنبون، وهم أبرياء! صورة أمام الناس سوداء، وهى جميلة. وليست فقط جميلة لأنهم أبرياء، بل بالأكثر لأنهم لم يدافعوا عن أنفسهم، ولم يهتموا أن يظهروا أمام الناس أبرياء. مثال ذلك يوسف الصديق الذي كان في نظر الناس عبدًا، وقبل الأمر في صمت وعلى الرغم من إخلاصه الشديد لسيده، أتهمته المرأة ظلمًا، وألقى في السجن كفاجر.. بصورة سوداء، ولكنها في أعماقها أجمل الصور روحيًا. لو دافع يوسف عن نفسه وقت بيعه، لأحرج أخوته الذين كانوا يبيعونه. ولو دافع عن نفسه في تهمة الزنا، لأحرج امرأة فوطيفار. وهكذا فضّل ألا يحرج أحدًا، وليكن هو الضحية وكبش الفداء. صورة جميلة لنفسِ نبيلة، على الرغم مما فيها من العبودية والظلم. عكس الصورة التي تبدو سوداء وجميلة، الصورة التي تبدو جميلة وهى في حقيقتها سوداء. مثل القبور المبيضة من الخارج، وفي الداخل عظام نتنه (مت 23: 27). أما اولاد الله، فلا يهمهم الخارج ماذا يكون "ليكن أسود في نظر الناس، إنما المهم هو القلب من الداخل كما يراه الله الذي قال "يا إبني أعطني قلبك" (أم 23: 26). إنهم يهتمون بالداخل الذي يراه الله، وليس بالخارج الذي يراه الناس. وهكذا يخفون صومهم وصلاتهم وصدقتهم، كما أمر الرب. وأبوهم الذي يرى في الخفاء، هو يجازيهم علانية (مت 6). |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أنا سوداء وجميلة (د) كنيسة الأمم: إنها عبارة تتوجه بها كنيسة الأمم إلى بنات أورشليم، أي إلى كنيسة اليهود الذين يحتقرون الأمم، ولا يعترفون بهم شعبا لله.. يرون أن جماعة الأمم سوداء، لأنها قد حُرمت من أصل الآباء، ومن الناموس والأنبياء، بلا شريعة إلهية، بلا تقاليد، بلا عهد مع الله، وبلا وعود إلهية، بلا تاريخ، بلا نسب إلى أب الآباء إبراهيم. لذلك فإن كنيسة الأمم تقول لهم أنني وإن كنت سوداء، إلا أنني جميلة في المسيح يسوع والانتساب إليه.. إن كنت سوداء، ليس لي إبراهيم أبًا، فأنا جميلة لأن لي أبًا في السماء. وأمي هي المعمودية التي وُلدت فيها من الروح القدس والماء. إن كنت سوداء لم أتعلم في مدرسة الناموس والأنبياء، فأنني جميلة إذ تدربت في مدرسة النعمة. لم أدرك الحرف، لكنني أدركت الروح "جعلنا الله كفاة لأن نكون خدام عهد جديد، لا بالحرف بل بالروح. لأن الحرف يقتل، ولكن الروح يحيي" (2كو 3: 6). أنا لم أدرك الوصايا العشر، لكني أدركت العظة على الجبل وتعليم الإنجيل وسفر الأعمال وكتابات الرسل القديسين. أنا سوداء في نظر بعض البشر، لكنني جميلة كما يراني الرب. سوداء في حكم قسوتكم كبشر. لكنني جميلة بحنان الرب ورحمته. إن الرب قد بسط علي جماله (حز 16: 14). وساواني بكم على غير استحقاق. ماذا أقول للرب الذي أعطاني دينارًا، كالذين جاءوا إليه من أول النهار، أنا الذي أتيت في الساعة الحادية عشرة (مت 20: 9 – 15). "بماذا أكافئ الرب عن كل ما أعطانيه؟! كأس الخلاص آخذ، وباسم الرب أدعو.." (مز 116: 12، 13). أنا سوداء لأنني زيتونة برية.. ولكنني جميلة لأنني طُعمت في الزيتونة الأصلية، فصرت شريكة في أصل الزيتونة ودسمها (رو 11: 17). هي قُطعت من أجل عدم الإيمان وأنا بالإيمان ثبت وأصبح الأصل يحملني. ولن أفتخر على الأصل (رو 11: 18). أنا سوداء بالنسبة إلى حياتي الماضية، ولكنني جميلة وأنا مغسولة بدم الذي أحبنا وغسلنا من خطايانا بدمه (رؤ 1: 5) وهكذا صرت بيضاء كالثلج.. سوداء بطبيعتي الترابية المادية. وجميلة بحلول الروح القدوس في هيكلي (1كو 3: 16). فأناره وقدسه ودشنه. سوداء كخيام قيدار (حفيد إسماعيل) التي لها شعر الماعز الأسود. ولكني جميلة كشقق سليمان، كستائر الهيكل التي من أسمانجوني وقرمز وأرجوان.. من الداخل. "وكل مجد إبنة الملك من داخل" (مز 45). أنا سوداء كالعشار في نظر الفريسي (لو 18: 11). وكالمرأة الخاطئة في نظر فريسي آخر هو سمعان (لو 7: 39). وكالمرأة السامرية في نظر التلاميذ الذين تعجبوا من أن الرب كان يتكلم معها (يو 4: 27). نعم سوداء، كالمولود أعمى الذي شتمه اليهود قائلين له: أنت تلميذ ذاك (أي المسيح).. في الخطايا وُلدت بجملتك" (يو 9: 28، 34). ولكنني جميلة في نظر الرب الذي بررني كل أولئك.. أنا سوداء كالمرأة الكوشية التي أتخذها موسى النبي امرأة له (عد 12: 1). ولكنها صارت باتحادها بهذا النبي، حسب تعليم الرب (1كو 7: 14) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). وعلى الرغم من أن مريم وهارون قد تكلما على موسى بسبب تلك الكوشية، إلا أن الرب لم يوافقهما على ذلك، بل وبخهما وامتدح موسى. وقد كانت تلك المرأة الكوشية رمزًا لي، أنا كنيسة الأمم. وكالمرأة الكوشية، كانت ملكة سبأ، كلتاهما سوداء وجميلة. وكل منهما كانت رمزًا. ومع أن ملكة سبأ (ملكية التيمن) كانت سوداء، إلا أنها كانت جميلة. لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان. وقد طوبها الرب وقال أنها ستقوم في يوم الدين مع ذلك الجيل وتدينه (مت 12: 12). كذلك مدينة نينوى كانت رمزًا لي أيضًا: سوداء وجميلة. كانت سوداء في خطيتها، التي بسببها أرسل الله يونان النبي لكي ينادي عليها بالهلاك (يون 1: 1، 2). وكانت أممية أيضًا مثلي. ولكنها كانت جميلة في توبتها وصومها. حتى أن الله لما رأي أن أهلها قد "رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه" (يون 3: 10). بل قال ليونان".. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة؟!" (يون 4: 11). وأكثر من هذا أن الرب قدَمها كمثال يوبخ بها اليهود، فقال لهم: "رجال نينوى سيقومون في يوم الدين مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان. وهوذا أعظم من يونان ههنا" (مت 12: 11). أنا سوداء وجميلة، معترفة بحالتي. لست أنكر أصلي ولا شكلي. ولكنني جميلة في حياة الرجاء التي قدمها لنا الرب. لي رجاء في الله الذي قبل إليه الابن الضال، قائلا أنه كان ميتًا فعاش، وكان ضالًا فوُجد" (لو 15: 24). ولم يكتفِ بهذا، بل ذبح له العجل المسمَن، وقال كان ينبغي أن نفرح ونُسر" (لو 15: 32). حياة ذلك الابن الضال كانت سوداء في سقطتها، وجميلة في توبتها. بل إن قصة هذا الابن الضال، كانت أيضًا رمزًا لكنيسة الأمم، التي بعدت أولًا عن الرب ثم عادت إليه، وفرح الله بعودتها بينما الابن الأكبر كان يرمز إلى كنيسة اليهود التي افتخرت بخدمتها له، ولم تفرح برجوع الأمم إليه (لو 15: 15 – 30). أنا سوداء، ولكن لي رجاء في الله الحنون الطيب. الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز 18: 23). الله "الذي لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا بحسب آثامنا. وإنما مثل ارتفاع السموات على الأرض، قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب، أبعد عنا معاصينا.. لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 10 – 14). أنا سوداء في اعترافي بخطاياي. وجميلة بما آخذه من غفران وحل. كذبيحة الخطية تُحرق خارج المحلة لأنها حاملة خطايا (عب 13: 11). ومع ذلك فهي جميلة لأنها قدس أقداس للرب (لا 6: 34).. وكذبيحة المحرقة التي تأكلها النار كلها حتى تتحول إلى رماد (لا 6: 10). ولكنها مع ذلك فهي جميلة، لأنها "رائحة سرور للرب" (لا 1: 9، 13، 17). أنا سوداء كفحمة في المجمرة، جميلة كلما أشتعلت بالنار. تتوهج كلما أتقدت النار فيها، ولا نعود نبصر سوادها. وتتحول من فحمة إلى جمرة. وكل من يراها لا يقول عنها إنها فحمة. وإنما يقول: هذه نار، نار طاهرة.. صارت جميلة.. أنا سوداء كسحب الدخان، التي ترتفع من بخور عطر يحترق. سوداء في لونها، ولكنها جميلة في رائحتها الزكية، وفي رموزها، وفي ارتفاعها إلى فوق، كصلوات القديسين.. كالمر غير المقبول في مذاقه، ولكنه جميل في رائحته الزكية، وفي رمزه لآلام المسيح. أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، هكذا تقول كنيسة الأمم. ولكنها في بعض الأوقات كانت أكثر جمالًا من بنات أورشليم. كان ذلك حينما قبلت الإيمان، في الوقت الذي رفضته فيه أورشليم التي أحبت الظلمة أكثر من النور (يو 3: 19). وهكذا قال الرب لبولس الرسول "اذهب فأني سأرسلك بعيدًا إلى الأمم" (أع 22: 21). بل قبل ذلك حينما قال الرب مطوبًا إيمان قائد المائة: "الحق أقول لكم: لم أجد ولا في أورشليم إيمانًا بمقدار هذا" (مت 8: 10). وأضاف "وأقول لكن إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون في الظلمة الخارجية.." (مت 8: 11، 12). ومن هم أولئك الذين أتوا من المشارق والمغارب، إلا أبناء تلك السوداء الجميلة. يذكرني هذا بسوداء جميلة أخرى هي المرأة الكنعانية. كانت سوداء لأنها تنتمي إلى شعب قد لُعن من قبل (تك 9: 5). ولكنها كانت جميلة حينما لجأت إلى السيد. وكانت جميلة بالأكثر حينما قالت له في انسحاق قلب "وأيضًا الكلاب تأكل من الفتات الساقط من مائدة أسيادها". وقد طوَب الرب جمال نفسيتها قائلًا لها "عظيم هو إيمانك" (مت 15: 27، 28). أخيرا فإن هذه السوداء الجميلة في سفر النشيد، تقول: أنا سوداء، ولكني لن أبقى سوداء إلى الأبد. أنا سوداء في هذا الجسد المادي، ولكنني سأصير جميلة في الجسد النوراني الروحاني الذي سآخذه عندما يلبس الفاسد عدم فساد، ويلبس المائت عدم موت، فيقوم في مجد وفي قوة (1كو 15: 43 – 24). سأصير جميلة، وأنا آكل من شجرة الحياة، وأطعم المن المخفي (رؤ 2: 7، 16) ويعطيني الرب اسمًا جديدًا، ويلبسني ثيابًا بيضاء (رؤ 2: 16) (رؤ 3: 5). |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أختي العروس جنة مغلقة (نش 4: 12) أختي العروس: إنه تواضع من الرب أن يقول عن النفس البشرية " أختي " بينما ترد النفس قائلة " هوذا أنا أمة الرب" (لو 1: 28) أي عبدته وخادمته. لقد دعانا الرب أخوته حينما " أخلي ذاته، وأخذ شكل العبد، وصار في الهيئة كإنسان" (في 2: 7). "لذلك لا يستحي أن يدعوهم أخوة " "إذ قد تشارك معهم في اللحم والدم" (عب 2: 11, 14), عندما تجسد وتأنس. و النفس البشرية هي أيضا عروس للرب، وكذلك الكنيسة. كما شرح الرسول في الإصحاح الخامس من الرسالة إلي أفسس. وهناك أتحاد روحي، وليس اتحادا جسديا كما في الزواج. وفي هذا يقول الرسول "وأما من التصق بالرب، فهو روح واحد" (1كو 6: 17). أما كيف يصير هكذا مع الله. فهذا ما قال عنه الكتاب " هذا السر عظيم" (أف 5: 32). وفي روحانية هذا الارتباط يقول الكتاب "أختي العروس". جنة مغلقة: يقول "أختي العروس جنة مغلقة, ينبوع مختوم" (نش 4: 12). فهي جنة, من حيث فيها كل ثمار الروح (غل 5: 22, 23). وفيها "كل شجرة تعطي ثمرا جيدا" (مت 3: 10). وتقدم "ثلاثين وستين ومائة" (مت 13: 23). في عمل الرب. ولكنها جنة مغلقة. لم تفتح بابها لكل طارق، وليست سائبة بلا سور.. ولذلك قال لها المرنم في المزمور " سبحي الرب يا أورشليم.. لأنه قوي مغاليق أبوابك، وبارك بنيك فيك" (مز 147: 13, 14). إنها جنة مغلقة لم يدخلها حيوان ردئ. لم يدنسها بأقدامه, ولم يطأ زهورها الجميلة, ولم يعبث بأثمارها الحلوة. إنها جنة. فردوس من الفضائل. ولكنها مغلقة, محصنة. والله في داخلها, ولم تفتح أبوابها لعدو خارجي. و هي أيضا عين مقفلة, وينبوع مختوم. هي عين ماء، ينبوع من المياه. فيها الماء الحي الذي قال الرب عنه "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع حياة ينبع إلي حياة أبدية" (يو4: 14). إنها عين ماء , من النوع الذي قال عنه الرب: من أمن بي –كما قال الكتاب- تجري في بطنه أنهار ماء حي". قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 7: 38, 39). الكنيسة إذن ينبوع ماء حي, وهكذا النفس البشرية. كما قال المزمور "سواقي الله مملوءة ماء" (مز65: 9). والماء رمز للحياة. إذن هي مرتوية, وتستطيع أن تروي. ولكنها ينبوع مختوم وعين مقفلة. ليست مفتوحة للتلوث ولا للحشرات. لكنها ينبوع نقي مختوم. هي عين ماء حلو، ولكنها عين مقفلة. غير أنها ليست مقفولة علي أحد, بل تنفتح حين تعطي الحياة. و مفتاحها في يد الرب " الذي يفتح ولا أحد يغلق, ويغلق ولا أحد يفتح" (رؤ 3: 7). كما يقول "افتح يا رب شفتي, لينطق فمي بتسبحتك" (مز 51: 15). ولكنها حينما يحسن الصمت تراها ينبوعا مختوما. تفتح فمها بحكمة, وتفتح حواسها بحكمة. وفي غير لك عي عين مقفلة.. تحترس من خطايا اللسان, فتغلق هذا الفم. بل تقول للرب في توسل.. "ضع يا رب حارسا لفمي, بابا حصينا لشفتي!" (مز 141: 3). وأمام حكمة الله التي فوق الفحص, تقول هذه النفس "وضعت يدي علي فمي وسكت, لأنك أنت فعلت".. أختي العروس ينبوع مختوم, لكنه ينفتح للفائدة الروحية. ينفتح فيروي الغير بالمعرفة, وبكلمة منفعة وكلمة تعزية وكلمة نصح. وينفتح أمام الله بالصلاة والتسبيح. أقول هذا عن اللسان وعن القلب أيضا الذي ينفتح بالحب والعطف والإشفاق لكل الناس. وينفتح بالدعاء للناس وبالصلاة لله أما أمام الأخطاء، فالنفس مغلقة مختومة ومقفلة. يا اخي الحبيب, عندما تنظر إلي نفسك, فتجد أن كل كلمة تسمعها, تدخل إلي قلبك وفكرك بلا ضابط. فتشغلك, وتنفعل بها أحاسيسك وشاعرك, وقد تطيش فيها أفكارك متي أثناء الصلاة.. وهكذا كل نظرة تنظرها، وكل لمسة تلمسها.. أعرف إذن أنك لست جنة مغلقة. بل أنت مدينة غير محصنة. مفتوحة لكل عدو خارجي بلا رقيب! جنتك يمكن أن تدخلها الثعالب المفسدة للكروم! (نش2: 15). وحينئذ لا تكون أنت المقصود بكلمة الرب: أختي العروس جنة مغلقة, عين مقفلة, ينبوع مختوم". أيضا هذه العبارة يمكن أن تقال عن بتولية النفس, التي وهبت ذاتها للرب, وصارت عذراء مخطوبة له. أما إن كانت النفس تغلق أبوابها, فلا تفتح حتى للرب نفسه, تكون خائنة لحبه, وناكرة لجميله, بل إنه لا يتركها لأخطائها, وإنما يقول لها: "إفتحي لي يا أختي, يا حبيبتي, يا حمامتي, يا كاملتي" (نش 5: 2). والواقع إنه في هذه الصفات الأربع التي توصف بها العروس من الرب. تكمن كل أحداث قصة خلاص البشرية كلها: سواء ما عمله الله لأجل خلاصنا, أما ما ينبغي أن نعمله نحن. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي (نش 5: 2) إفتحي لي: إفتحي لي قلبك من الداخل، لأني لا أريد مجرد إيمان شكلي ظاهري, ولا مجرد ممارسات خارجية, وطاعة حرفية. إنما أريد القلب –يقول الرب- وهكذا أمرت كل واحد منكم قائلا " يا ابني اعطني قلبك" (أم 23: 26). وهذا القلب يريد منك الله أن تفتحه بكامل إرادتك, برغبتك ومحبتك, غير مضطر ولا مضغوط عليك. يريدك أنت تريده, وليس غير. وهكذا يقف علي بابك ويقول "أنا واقف علي الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب, أدخل وأتعشي معه, وهو معي" (رؤ 3: 20). https://st-takla.org/Pix/Animals-Bird..._Pigeon-01.gif St-Takla.org Image: A pigeon صورة في موقع الأنبا تكلا: حمامة أفتحي قلبك لي. فإن انفتح القلب, ستنفتح معه الأفكار والمشاعر, بل سينفتح باب الإرادة أيضا, وينفتح باب الحياة كلها, لتحيا مع الله. إفتحي لي يا أختي: إن كلمة (أختي) ترمز إلي الجسد. لأننا لم نصر أخوة له إلا بتجسده، حينما اتحد بطبيعتنا البشرية. "وهكذا صار بكرا وسط أخوة كثيرين" (رو 8: 29). حتى أنه عندما أرسل مريم المجدلية لتبشير تلاميذه بالقيامة, قال لها "اذهبي وقولي لأخوتي أن يمضوا إلي الجليل, هناك يرونني" (مت 28: 10). إنه يقول للنفس البشرية " إفتحي لي يا أختي" مذكرا إياها أنه في هذه الأخوة قد أخلي ذاته من أجل خلاصها. وصار ابنا للإنسان, لكي يصير الإنسان إبنا لله. وكما صار هو أخا لنا حينما شاركنا في طبيعتنا, يجب علينا أن نشابهه في مشيئته. وهكذا قال "مك يفعل مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي" (مت 12: 50). إذن إن كانت (أختي) تشير إلي التجسد, فإلي أي شيء تشير كلمة (يا حبيبتي)؟ يا حبيبتي: إن قصة الخلاص بدأت بالتجسد, ولكنها كملت في الفداء, حينما "أظهر الله محبته لنا, لأننا ونحن بعد خطاة, مات المسيح لأجلنا" (رو 5: 8). وحينما بذل المسيح حياته ليفدينا بها علي الصليب، تحقق حينئذ قوله: "ليس حب أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو 15: 13). فكان الرب علي الصليب ذبيحة حب. وبهذا الحب حمل خطايا البشر بدلا منهم ومحاها بدمه. فكان "مجروحا لأجل معاصينا, مسحوقا لأجل اثامنا. كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلي طريقه. والرب وضع عليه إثم جميعنا" (أش 53: 5, 6). فعندما يقول الرب للنفس البشرية (يا حبيبتي), إنما يقصد حبه لها, الذي ظهر واضحا في موته عنها. هذه النفس التي كان محكوما عليها بالموت, فافتداها ومات بدلا منها.. وكلمة (يا حبيبتي) تذكرنا بعلاقة الحب التي ينبغي أن تربطنا بالله, الحب المتبادل الذي فيه نحب الله كما أحبنا. كما قال القديس يوحنا الحبيب " في هذا هي المحبة. ليس أننا أحببنا الله, بل أنه هو أحبنا, وأرسل ابنه كفارة لخطايانا" (1 يو 4: 10). إذن، إن كانت ثصة الخلاص قد بدأت بالتجسد الذي أشارت إليه كلمة (يا أخوتي). ثم الفداء الذي أشارت إليه عبارة (يا حبيبتي).. فإلي أي شيء تشير عبارة (يا حمامتي)؟ يا حمامتي: الحمامة تذكرنا بعمل الروح القدس، الذي ظهر في يوم عماد المخلص علي هيئة حمامة (مت 4: 16). حينما يقول الرب للكنيسة يا حمامتي, فكأنما يقول لها: أنت التي يعمل الروح القدس فيك, بعد عمادك باستسلام كامل منك فأري الروح الذي فيك, وكأنك حمامة مثل التي رأيتها يوم العماد. و الحمامة هي التي بشرت نوح بالخلاص من الطوفان. وذلك بغصن زيتون في فمها، أتت به من الأرض التي أنقشعت مياه الطوفان عن أشجار. والرب حينما يقول للكنيسة (يا حمامتي) إنما يقول لها: أرى فيكِ بشرى الخلاص للأرض من طوفان العالم. والحمامة تتميز بالبساطة كما قال: كونوا بسطاء كالحمام" (مت 10: 16). وحينما يقول الرب للنفس البشرية (يا حمامتي), فهو يقول لها: أري فيك البساطة التي كانت للإنسان الأول, وهو في صورته الإلهية, قبل أن يدخل في ثنائية الخير والشر. وأنا قد جئت بتجسدي لأعيد إليه الصورة الأولي في بساطتها ونقاوتها كالحمامة (يا حمامتي). هذا النداء هو رسالة لنا لنرجع إلي البساطة الأولي، وأن نخلي ذواتنا ليظهر عمل الروح فينا, ولنتذكر باستمرار قصة الطوفان والحمامة. فماذا إذن تعني عبارة (يا كاملتي). يا كاملتي: هذا الخلاص الذي قام به الله بالتجسد والفداء, ونلناه بالميلاد من الماء والروح (يو 3: 5) (تي 3: 5).. يقول لنا الرسول عنه " تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" (في 2: 12). وكيف نتممه؟ بالسلوك بالروح, والسعي إلي الكمال، لأنه يقول: "كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت 5: 48). وهذه النفس، وهذه الكنيسة, التي تسعي إلي الكمال بعمل الروح فيها, هي التي يناديها الرب بعبارتي (يا حمامتي) (يا كاملتي). ما دمت بهذه الصفات المفروضة فيك, إذن افتحي لي. هذه هي قصة الخلاص, يتمثل فيها دور الله, واستجابة الإنسان. و بهذا نفهم سفر النشيد في معانيه السامية الرمزية, بعيدا عن الحرفية وعن السطحية, وعن المستوي الجسداني في التفسير. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
شبَّهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون، مرهبة كجيش بألوية (نش 6: 10؛ 1: 9) شبهتك يا حبيبتى بفرس في مركبات فرعون مرهبة كجيش بألوية (نش6: 10) (نش1: 9) يشرح سفر النشيد قوة الكنيسة وقوة النفس المؤمنة، في عديد من الآيات، منها الجبابرة الذين حول تخت سليمان (3: 8). وفي تشبيهها بفرس في مركبات فرعون (1: 9) وفي قوله عنها إنها مرهبة كجيش بألوية" (6: 10). وكل هذه العبارات لا تدل أن الكلام موجه من شاب إلى عروسه! فمن من العرائس تقبل وتوصف بهذه الأوصاف وما يشابهها؟! إنما هى موجهة من الرب إلى كنيسته، وإلى النفس البشرية التي يريدها أن تكون دائمًا قوية في إرادتها. فعبارة "جيش بألوية"، تعنى جيشًا مكونًا من عدة لواءات. وكل لواء يشمل جملة من آلايات. وكل آلاى يتكون من عدة كتائب. وكل كتيبة تشمل اكثر من سرية، والسرية، أكثر من فضيلة.. وهكذا يكون الجيش بألويته جيشًا منظمًا مرهبًا قويًا. وبخاصة لو كان جبابرة متعلمين الحرب. كل رجل سيفه علي فخده من هول الليل (نش3: 8). وهكذا تكون الكنيسة والنفس في قوتها ومحاربتها لعدو الخير. قد يفهم البعض الوداعة والاتضاع فهمًا خاطئًا يقود إلى الضعف! أما المؤمن الحقيقي فهو إنسان قوى، يحارب ضد الخطية وينتصر. إن المؤمنين يكونون جيش الله الذي يقف ضد مملكة الشيطان وكل جنوده. لذلك فعندما أمر الرب بإحصاء الشعب في سفر العدد، طلب منهم ان يحصروا "كل ذكر ابن عشرين سنة فصاعدًا، كل خارج للحرب" (عد1: 2، 3). وتكرر هذا الوصف بالنسبة الى المنتخبين من كل سبط. وهكذا كان المختارون المعدودون هم فقط جماعة الاقوياء القادرين على القتال، من كل خارج للحرب (عد1). لذلك لم يسمح السيد المسيح لتلاميذه أن يبدأوا عملهم الكرازى، إلا بعد أن يلبسوا قوة من الأعالى (لو24: 49). وبعد ذلك يخدمون. وهكذا قال لهم "ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكونون لي شهودًا.. " (أع1: 8). وبهذه القوة التي أخذوها من الروح القدس، رأينا سفر أعمال الرسل سفرًا للقوة، يشرح كيف أن ملكوت الله كان قد أتى بقوة (مر9: 1). "وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت علي جميعهم" (أع4: 33). "وكانت كلمة الرب تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا في أورشليم.." (أع6: 7). ونسمع أن ثلاثة مجامع تحاورت مع أسطفانوس الشماس "ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به" (أع 6: 10). إنها صورة للكنيسة المرهبة كجيش بألوية. صورة اولاد الله الغالبين المنتصرين، أو علي الأقل المقاتلين. أو علي أقل الأقل: هم المستعدون للحرب الروحية. هم الجبابرة الخارجون للحرب، الذين لا يخافون إبليس ولا جنوده، بل أن كل واحد منهم سيفه علي فخذه، من هول الليل (نش3: 8). هؤلاء الذين يقودهم الرب في موكب نصرته (2كو2: 14).. هؤلاء هم الساهرون المستعدون: أحقاؤهم ممنطقة، ومصابيحهم موقدة وينتظرون الرب (لو12: 35). كل أسلحتهم روحية (أف6: 11). والله هو الذي يعلمهم القتال. وفي ذلك يقول داود النبي "مبارك الرب.. الذي يعلم يدي القتال وأصابعي الحرب" (مز144: 1). وهكذا لا تكون أسلحته بشرية، بل إلهية. هؤلاء هم القديسون الغالبون بأستمرار، الذين ينشد لهم الرب أغنيته المحبوبة" من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة (رؤ2: 7) "من يغلب، فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا، وان أمحو اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته" (رؤ3: 5) "من يغلب، فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشه" (رؤ3: 21) فترة وجودنا في العالم هي فترة حرب وجهاد. كل من يغلب، سينال المواعيد. والذين غلبوا نسميهم الكنيسة المنتصرة. نحن نحارب. وعدونا المقاتل لنا – أي إبليس – مثل أسد يزأر، يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1بط5: 8). لذلك يشجعنا القديس بطرس الرسول قائلًا " فقاوموه راسخين في الإيمان" (1بط5: 9). كما يقول القديس يعقوب الرسول أيضًا " قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يع4: 7) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات).. لاشك أنه يهرب بسبب القوة التي أخذناها من الله، والتي نستطيع بها أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو10: 19). حقًا إن الحرب للرب (1صم17: 47). والرب يحارب معنا وبنا. والفرس - مثل السيف – قوة تستخدم في الحرب. وقد قال سليمان الملك في أمثاله "الفرس معد ليوم الحرب. أما النصرة فمن الرب" (أم21: 31). وليس كل فرس، بل الفرس المدرب المعد ليوم الحرب. وكانت لسليمان "مدن للفرسان" (1مل9: 19). ولعل أقوي الأفراس كانت تلك التي أهداها له فرعون حينما تزوج ابنته، تلك التي كانت تقود مركبات فرعون. كل فرس منها كان قويًا، ومدربًا علي القتال، وطيعًا في يد الفارس، ويخوض والحرب لا خوف وسط سيوف العدو، وينتصر.. وهكذا تشبهت الكنيسة في سفر النشيد بفرس في مركبات فرعون.. ليس فرسًا عاديًا، بل الفرس المحارب المعد ليوم الحرب، الذي يقوده الرب في يوم نصرته. إنه لا يتحرك في ساحة الحرب من ذاته، بل الله الذي يوجهه، ويكون الفرس مطواعًا في يديه. إن الكنيسة تشبه الفرس، وأعنتها في يد الله. والمؤمن يحارب حروب الرب، والله هو الذي يقوده. إنه لا يحارب وحده، بل الله يحارب به، ويمنحه القوة. وهكذا قال الرب لأرميا النبي "هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة، وعمود حديد، وأسوار نحاس علي كل الأرض.. فيحاربونك، ولا يقدرون عليك. لأني انا معك – يقول الرب لأنقذك" (أر 1: 18). إن المؤمنين أشخاص مسلحون بسلاح الله الكامل. لهم قوة من الله ونصرة "أخضع كل شيء تحت أقدامهم" (مز8). منذ أن خلق الله الإنسان، منحه سلطانًا. نجد هذه القوة في أنشودة داود الحلوة: "إن يحاربني جيش، فلن يخاف قلبي" " وإن قام عليا قتال، ففي هذا أنا مطمئن" (مز27: 3) أنا مطمئن: الحصاة والمقلاع في يدي، وجليات تحت قدمي" الله أعطاني سلطان عليه.. "هؤلاء بمركبات، وهؤلاء بخيل، ونحن بإسم الرب ننمو. هم عثروا وسقطوا، ونحن قمنا واستقمنا" (مز20: 7، 8). نحن مثل "جيش ألوية". كل فرد منا كأنه "فرس في مركبات فرعون" إن النفس القوية، المرهبة كجيش بألوية، يفتخر بها الرب. وهكذا قال الرب للشيطان "هل جعلت قلبك علي عبدك أيوب؟ فإنه ليس مثله: رجل كامل ومستقيم" (أع1: 8) أتستطيع أن تقوي عليه؟!.. فحاربه الشيطان بأنواع حروب عنيفة جدًا. ولكنه وجده طاهرًا كالشمس، مرهبًا كجيش بألوية، قويًا كفرس في مركبات فرعون. أين هذا من النفوس الضعيفة، التي تقول يئست تعبت تعقدت!! تلك النفوس التي لأتفه الأسباب ترتبك وتضطرب وتحتار.. ! ليست هذه صفات الجبابرة المتعلمين الحرب، ولا هذا كلام الأقوياء الذين يلبسون سلاح الله الكامل ويصارعون أجناد الشر الروحية (أف6). إن القديسين كانت تخافهم الشياطين، وترتعب أمامهم وتصرخ! نذكر أنه عندما ذهب القديس آبا مقار الكبير إلى جزيرة فيلا، أن الشياطين فزعت منه وصرخت قائلة "ويلاه منك يا مقاره، أما يكفيك أننا تركنا لك البرية، حتى جئت إلى هنا لتزعجنا؟! نذكر أيضًا قصة ذلك القديس الذي جاءت الشياطين لتحاربه، فربطهم خارج القلاية، فظلوا يصرخون: لا يستطيعون دخول قلايته، ولا أن يتحركوا من مواضعهم. فقال لهم أمضوا واخزوا، وصرفهم. إن الله ينظر إلى هذه النفس التي ربطت الشياطين ثم صرفتهم، ويقول لها " شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون".. أيضًا النفس القوية تكون قوية في كل شيء.. ليست في حياتها الروحية فقط، بل في خدمتها أيضًا: كل كلمة تخرج من الفم، تكون قوية وفعالة (عب4: 12)، فيها قوة الروح" لا ترجع فارغة، بل تعمل ما يسر الرب به" (أش55: 11). وهكذا يتشبه المتكلم بالسيد المسيح، الذي كان يتكلم كمن له سلطان (مت7: 29). القديس بولس الرسول كان أسيرًا. وكان يتحدث عن الإيمان بالمسيح. أمام فيلكس الوالي. "وبينما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون، ارتعب فيلكس الوالي" (أع24: 25). هنا أمير يرتعب أمام أسيره، بسبب قوة هذا الأسير وتأثيره. ومن الناحية الاخري، هناك إنسان تشعر أنه قوي، يقدر أن يحملك ويحمل متاعبك وضعفاتك ومشاكلك. وإنسان آخر تجده يتعثر في الطريق، ويحتاج أن تحمله طول الطريق علي كتفيك. خذوا قوة من الروح القدس، قوة في الصلاة، قوة في الخدمة قوة في السلوك. قوة في التواضع الذي يغلب الشياطين، وتصبح به النفس مرهبة كجيش بألوية. ليست القوة قوة عالمية كما في جليات، قوة سلاح وجسم. إنما هي قوة في الروح. هي قوة الله العاملة في الإنسان، كما تغني بها داود النبي فقال: "أحاطوا بي مثل النحل حول الشهد، والتهبوا كنارٍ في شوك، وبأسم الرب انتقمت منهم.. يمين الرب صنعت قوة، يمين الرب رفعتني. فلن أموت بعد بل أحيا" (مز118). هذه أغنية فرس في مركبات فرعون. تغني داود أيضًا فقال "قوتي هي الرب". إن كانت قوتك هي الرب، فحلول روحك فيه يعني حلول القوة. كان الشهداء يقدمون لألوان من التعذيب، ويتعرضون للتهديد وللإغراء، ولم يفقدوا قوتهم قط. بل كانوا أقوياء في تحملهم. فأطلب من الرب قوة: القوة التي تقيم المسكين من التراب، والبائس من المزبلة ليجلس مع رؤساء شعبه (مز113: 7، 8).. قل له ارفعني من التراب، والبسني سلاحك الكامل، واعطني قوة.. أنا لا شيء قدامك. ولكنني بك استطيع كل شيء (في4: 13) إن اولاد الله لهم قوة، حتى في علاقتهم مع الله نفسه: إنها قوة الدالة. الدالة التي بها يعقوب أبو الآباء جاهد مع الله وغلب. وجرؤ أن يقول لله "لا أتركك".. "لا أتركك حتى تباركني".. وفعلًا أخذ البركة، اخذ إسمًا جديدًا (تك32: 24 – 28) نفس الصراع والدالة كانا بين موسى النبي ورب المجد نفسه بعد أن عبد الشعب العجل الذهب وقال الرب لموسى "أتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم، فأصيرك شعبًا عظيمًا" وبعد حوار بينهما قال موسى للرب " والآن إن غفرت (لهذا الشعب) خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 1، 32). وكما تشفع موسى في الشعب، تشفع أبونا إبراهيم في أهل سادوم، وعاتب الرب في قوة قائلا "أديان الأرض كلها لا يصنع عدلًا؟! حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم" (تك18: 25) هذه أمثلة من أشخاص كانت لهم قوة في الحوار مع الله. يدخلون في محاجة مع الله، ويجادلونه في دالة.. ويكون الله فرحًا بذلك، لأنه يجد راحته فيهم. إن المؤمنين يصيرون جيشًا بألوية، حينما يتحولون إلى صورة الله ويكونون ابناء حقيقين له. فكل ابن حقيقي لله له قوته. عيشوا إذن في حياة النصرة الروحية. ولا يكن لكم روح الفشل ولا روح الخوف واليأس.. إنك تخاف حقًا، إذا ما ارتفع قلبك، وظننت أنك قوي بذاتك..!! حينئذ تخاف.. قل: أنا أضعف الناس.. لكن الله سيعطيني قوته. وحينما يعطيني قوته، أصير فرسًا في مركبات فرعون. أنا لا أملك سلاحًا. ولكنني بسلاح الله الكامل سوف أنتصر. إن الذين عاشوا مع الرب، تركوا قوتهم، وأخذوا من قوته. مثل موسى الذي ترك قوته كأمير، ورفض أن يدعي ابن ابنة فرعون.. (عب11: 24) وقال "أنا لست صاحب كلام منذ أمس، ولا أول من أمس.. أنا ثقيل الفم واللسان" (خر4: 10). "وأغلف الشفتين" (خر6: 3). حينئذ أخذ قوة من الرب. وصار كليم الله. وأعطاه الرب فمًا وحكمة (لو21: 15). كن قويًا إذن: بالمعني السليم، وليس بالمعني العلماني. لأن هناك من يظن أنه قوي بالذكاء والحيلة والسياسة والعمل البشري. ولكن هذه ليست قوة حقيقية. إنها عملة زائفة.. ! لا تستطيع بها أن تشتري ذهبًا مُصفَّى بالنار (رؤ3: 18). فلتكن لك قوة الإنسحاق أمام الله، وقوة الجهاد ضد الشياطين.. ليست القوة أن تبرر ذاتك، وإنما القوة في اعترافك بخطئك. ليس القوي من يهزم عدوه. إنما القوي من يحول العدو إلى صديق. ليست القوة أن ترد الكلمة بكلمتين، إنما القوة هي أن تحول الخد الآخر، وأن تمشي الميل الثاني (مت5: 39، 41)، وأن تحتمل كل شيء (1كو13: 7) وأن تغفر الإساءة وأن تنسي. وكما قال الرسول "يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعف الضعفاء، ولا نرضي أنفسنا" (رو15: 1) بهذا تصير كفرس في مركبات فرعون، يصل في قوة إلي هدفه، دون أن يتعثر في الطريق. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
مَنْ هذه الطالعة من البرية؟! (نش 8: 5؛ 3: 6) موضوع تأملنا اليوم في سفر النشيد، هو عبارة قالها الرب عن كنيسته، وردت مرتين في السفر في (نش 3: 6) (نش 8: 5): *" مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6). *"مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها" (نش 8: 5) إنه تأمل في جمال الكنيسة، وفي جمال النفس البشرية المحبة لله. وكيف أنها طالعة من البرية، وطالعة في جمال، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر، كأعمدة من دخان صاعدة من المجمرة. وسوف نتناول هذا الوصف: كأغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم، وكأغنية تُنشد للكنيسة المنتصرة، أو كأغنية تُنشد لقديسي البرية. 1- أغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم: يمكن أن تؤخذ عبارة " الطالعة من البرية " على كنيسة العهد القديم، التي طلعت من برية سيناء، وأتجهت إلى كنعان، مستندة على ذراع حبيبها. مسيرة الكنيسة في البرية، كانت مسيرة عجيبة حقًا إذ خرج الشعب بلا طعام ولا شراب، ولا ملابس كافية لتلك الرحلة الطويلة، ولا باقي الاحتياجات اللازمة، مجرد خروج على أسم الله بالإيمان وليس أكثر. وضعوا أرجلهم في البحر، مستندين على زراع حبيبهم، الذي سندهم في عبورهم، سند المياه من هنا، وسندها من هناك. ومشت الكنيسة في البحر، مستندة على حبيبها، وعاشت في البرية. · عاشت بالإيمان، الذي يرى ما لا يُرى.. وفي قلب كل واحد رن قول الرب "وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر. وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك. ثيابك لم تبل عليك، ورجلك لم تتورم هذه الأربعين سنة " لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (تث 8: 2 – 4). حقًا إن الإنسان الذي يحيا في الإيمان، مستندًا على الله حبيبه، يمكن أن يختبر عجائب في عمل الله معه.. يمكن أن يفجَر له الله ماء من الصخرة (خر 17: 6)، ويمكن أن يحول له الماء المر إلى ماء حلو (خر 15: 23 – 25). ويمكن أن يشق له في البحر طريقًا (خر 14: 21، 22) ويمكن لهذا المؤمن أن يختبر محبة الله له: يظلله السحاب بالنهار، ويضئ له عمود النار بالليل (خر 13: 21، 22) ويمكن أن يحميه الرب من جميع أعدائه. وهذا كله حدث لتلك الطالعة من البرية. وانهزم أمامها سيحون ملك الأموريين (عد 21: 23 – 26)، كما انهزم أمامهم عوج ملك باشان (عدد 21: 33- 35).. حتى لكان شعوب الأرض يتأملون كل هذا ويقولون في عجب: " مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟! أيضًا النفس المستندة على حبيبها، يسقط عن يسارها ألوف، وعن يمينها ربوات، وبعينها تنظر وتتأمل مجازاة الأشرار (مز 91: 7، 8) الرب يظلل على يدها اليمنى، فلا تضربه الشمس بالنهار، ولا القمر بالليل (مز 121: 5، 6). مشكلتنا في الحياة أننا لا نستند على حبيبنا!! قد تستند على مواهبنا، على قوتنا وذكائنا، على غنانا! ونستند على زراع بشري، وعلى حكمة بشرية! وربما نستند على الشيطان وكل حيله!! وقد ننجح نجاحًا مؤقتًا، الهزيمة أفضل منه! وقد نفشل.. أما الذي يستند على الله الذي يحبه، فيمكنه – كالثلاثة فتية – أن يمشي في أتون النار ولا يحترق.. كانت النار تحيط بهم، ولم تكن لها قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق. حدث ذلك لأنهم كانوا مستندين على حبيبهم، الذي كان ماشيًا معهم في وسط النار، وكان شبيهًا بأبن الآلهة (دا 3: 25، 27) لعل الملائكة في ذلك الوقت كانوا ينظرون إلى نفوس هؤلاء الفتية في النار، وهم يغنون " مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟! لقد طلعوا من النار، وكأنهم خارجون من أحد البساتين وإحدى الفراديس! داود النبي جرب الاستناد على ذراع حبيبه حينما قال " الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! إن يحاربنى جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام علىّ قتال، ففي هذا أنا مطمئن" (مز 27: 3). وحينما قال " الرب يرعاني فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، وإلى ماء الراحة يوردني.. أيضًا إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا (مز 23). ولماذا لا أخاف؟ لأنك أنت معي نفسي مستندة على ذراع حبيبها. وهكذا أيضًا الكنيسة في العالم، تعيش مستندة على ذراع حبيبها. لاحظوا أنه قال "مستندة على حبيبها ولم يقل مستندة على القوي الجبار.. حقًا أن حبيبها قوي جبار. ولكن عبارة حبيبها هنا لها عمقها العاطفي، ولها قوتها أيضًا، إذ يُقال في نفس النشيد " المحبة قوية كالموت. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" (نش 8: 6، 7) ولأنه يحب هذه النفس، ويحب هذه الكنيسة، لذلك يفعل كل شيء لأجلها، وبقوة النفس التي تستند على حبيبها، تعيش مطمئنة، في سلام.. تغني قائلة: وإن قام علىّ قتال، فأنا مطمئنة (مز 27: 3) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). ولماذا أنت مطمئنة أيتها النفس؟ ولماذا كانت الكنيسة كلها مطمئنة؟ لأنها مستندة على حبيبها. " شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" (نش 2: 6 ). رحمته تحيط بي من كل ناحية. إنها مطمئنة لأنها في حضن الله. فمهما صادمتها المشاكل والعقبات والحروب، لا تهتز ولا تضطرب. وإنما تقول في ثقة المستند على حبيبه " إن كان الله معنا، فمن علينا "؟.. هذا النشيد أيضًا هو أغنية للكنيسة المنتصرة.. 2- أغنية للكنيسة المنتصرة: يمكن أن يقال هذا النشيد في السماء، في استقبال الكنيسة التي جاهدت على الأرض وغلبت. الكنيسة التي عاشت في هذا العالم، في البرية القفرة.. في تعب وشقاء في الطريق الكرب، ودخلت إلى الفردوس من الباب الضيق (مت 7: 14) ولذلك يستقبلها الملائكة قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية.. ؟! العالم بالنسبة إليها كان برية، أقفرت من تنعمات العالم وملاذه، ومن لهوه وعبثه وضجيجه. لأنها أطاعت قول الكتاب " لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم.. إن العالم يمضي وشهوته معه" (1 يو 2: 15، 17). أما هي فأجابت الرب يقول المزمور لكي يزهر لك جسدي في أرض مقفرة، ومكان بلا ماء وموضع غير مسلوك (مز 63: 1). هذه الكنيسة طالعة من البرية، لكي يختطفها الرب على السحاب، وتكون مع الرب كل حين (1تس 4: 17). نعم: مَن هذه الطالعة من البرية، التي لم تعش في فراديس وفي جنات، كما عاش سليمان وهو يعزي نفسه بخيرات العالم قائلًا " بنيت لنفسي بيوتًا، وغرست لنفسي كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه. قنيت لنفسي عبيدًا وجواري.. جمعت لنفسي فضة وذهبًا. اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعمات بني البشر.. ومهما أشتهته عيني لم أمسكه عنهما" (جا 2: 4 – 10). أما الكنيسة فرفضت أن تستوفي خيراتها على الأرض (لو 16: 25) إنما تعبت على الأرض، لكي تتمتع في السماء. عاشت على الأرض في طقس لعازر المسكين عاشت فقيرة، ولكن مستندة على حبيبها. كما قال بولس الرسول " مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين.." (2 كو 4: 8، 9).. " كحزانى ونحن دائمًا فرحون. كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شئ" (2 كو 6: 10). هذا النشيد يمكن أيضًا يصلح لقديسي البرية، فهو: 3- أغنية تُنشد لقديسي البرية: هؤلاء القديسون يسبحون الرب في كل يوم تسبحه جديدة. وفي كل يوم يهمس الملائكة في آذانهم قائلين: ها باركوا الرب يا عبيد الرب، القائمين في بيت الرب في ديار بيت إلهنا. في الليالي أرفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب" (مز 134: 1، 2). يستمع الملائكة إلى هذه الصلوات " الطالعة من البرية، ويقولون للرب " طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد (مز 84: 4). أهل العالم – حتى إن دخلوا الكنيسة – قد يسرحون في أمور العالم أثناء الصلاة. أما هؤلاء القديسون – فحتى إن شغلوهم بشئ من أمور العالم – فإنهم أثناءها يسرحون في الله. عاشوا في البرية القفرة، بدون أي معونة، مستندين على حبيبهم واستطاعوا أن يقدسوا البرية بصلواتهم وبحياتهم. حتى تحولت البرية إلى سماء ثانية. واجتذبت إليها طالبي الروح من أقصاء الأرض كلها.. عاشوا في طقس الصلاة الدائمة. ولقّبوهم بملائكة أرضيين وبشر سمائيين. فعندما تصعد أرواح هؤلاء القديسين إلى السماء. فلاشك ستجري الملائكة لاستقبال أرواحهم الطاهرة بهذا الهتاف " مَن هذه الطالعة من البرية". سليمان الحكيم – كاتب سفر النشيد – أتراه في حلم ورؤيا – أبصر جماعات السواح والمتوحدين والرهبان طالعة من البرية، فاستقبلها بهذا النشيد "مَن هذه الطالعة من البرية؟!". يوحنا كاسيان حينما زار براري مصر، قال إن المسافر من الإسكندرية إلى طيبة (الأقصر)، لم يكن صوت التسبيح والألحان والصلوات ينقطع من أذنيه طول الطريق وذلك لكثرة الأديرة والقلالي والمغارات المنتشرة في كل مكان في البرية، يسكنها أولئك القديسون الذين أحبوا الرب فأحبوا الوحدة. وعاشوا كملائكة الله على الأرض.. كل شبر من تلك الأرض المقدسة، قد باركه القديسون ودشنوه بصلواتهم ومزاميرهم. حبّات الرمال تقدست، إذ وطئتها أقدامهم الطاهرة. هذه الحياة المقدسة الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، صاعدة إلى عرش الله، يهتف لها سكان السماء قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية؟! إن الحياة التي شهدها العالم في براري مصر، في القرنين الرابع والخامس، كانت كأنها الحلم! نسمع عنها الآن، وكأنها قصة.. ! كيف عملت النعمة في نفوس أولئك القديسين بكل تلك القوة وبكل ذلك العمق؟! وكيف كانت أرواحهم في كل يوم، كأنها على سلم يعقوب صاعدة إلى السماء ونازلة منها.. وفي كل درجة تصعدها على ذلك السلم الروحاني، يصرخ السمائيون في عجب وإعجاب " مَن هذه الطالعة من البرية "؟! إنه منظر عجيب حقًا، حينما نرى ملائكة نازلة من السماء إلى الأرض. ولكن الأعجب منه أن نرى بشرًا لهم صورة الملائكة صاعدين من الأرض إلى السماء.. ! وليس فقط فرادى قلائل، وإنما جماعات عديدة لها نفس الصورة، نفس القداسة والبر والشفافية، نفس الزهد والعفة. فيصرخ الجميع لمرآها " مَن هذه الطالعة من البرية؟! " ووجه العجب الكبير أن هؤلاء الصاعدين كالملائكة، لهم أجساد مادية، وقد سكنوا في هذا العالم في وسط شهوته. هم بشر تحت الآلام مثلنا (يع 5: 17) ولكنهم عاشوا صورة لله ومثاله. هل دخلوا النار كالثلاثة فتية، ولم يحترقوا. أم هم قد صعدوا من النار كأعمدة من دخان، معطرة بالمرواللبان. هذه هي الكنيسة طالعة من البرية. الأشرار يهبطون إلى أسفل، أما الأبرار فيطلعون إلى فوق. دائمًا الكنيسة طالعة إلى فوق. مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6). |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
ها أنتِ جميلة يا حبيبتي، عيناك حمامتان (نش 1: 15) قال الرب للكنيسة, وللنفس البشرية القديسة: ها أنت جميلة يا حبيبتي, عيناك حمامتان (نش1: 15) شهادة من الله: هوذا الرب يقول في سفر النشيد للكنيسة وللنفس البشرية القديسة " ها أنت جميلة يا حبيبتي. ها أنت جميلة. عيناك حمامتان (نش1: 15). ها أنت جميلة: أول ما ملاحظة هنا أن الله يشهد للنفس البشرية, وهي شهادة صادقة, عكس شهادات الناس التي قد تكون باطلة. البعض قد يمدحونك تملقا, ورياء, ومجاملة, وكذب, وإرضاء, وتشجيعا, ولغرض, وبدافع الحب. وقد لا يكون المديح صادقا. أما شهادة الله فصادقة. السيد المسيح قال" مجدا من الناس لست أقبل". ولكنه لم يقبل إلا شهادة الأب. لذلك ما أجمل قول الكتاب عن يوحنا المعمدان إنه "يكون عظيما أمام الله".. فالمهم أن يكون الإنسان عظيما في نظر الله وليس في نظر الناس. كل ما نرجوه أن يقول الله لنفس كل واحد منا في اليوم الأخير "ها أنت جميلة يا حبيبتي" أدخلي إلي فرح سيدك (مت25: 21،23). كثيرون سيقولون له " يا رب. أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين, وباسمك صنعنا قوات وعجائب" فيقول لهم " اذهبوا عني يا ملاعين، لا أعرفكم". شهاداتهم عن أنفسهم لم تكن تكفي ولا تنفع. المهم إذن هو شهادة الرب الذي قال لكل ملاك من ملائكة الكنائس السبع "أنا عارف أعمالك" (رؤ2: 3). أنظروا إلي شهادة الرب لملاك كنيسة أفسس "أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك.. وقد احتملت ولك صبر, وتعبت من اجل أسمي ولم تكل (رؤ2: 2, 3). الفريسي لام المرآة التي غسلت قدمي المسيح بدموعها ومسحتها بشعر رأسها، أما الرب فقال لها "ها أنت جميلة يا حبيبتي" إيمانك قد خلصك" (لو7: 50). وقال عنها أيضا " إنها أحبت كثيرا. لذلك غفرت لها خطاياها الكثيرة" (لو7: 47). وقال الرب مثل هذه العبارة للمرآة الكنعانية التي قالت إن الكلاب تأكل من الفتات الساقط من مائدة أسيادها. قال لها " عظيم هو إيمانك" (مت15: 28). بعد أن تكمل النفس أيام غربتها على الأرض. بعد أن تكمل أيام جهادها, يقول لها الرب " ها أنت جميلة يا حبيبتي" وبهذه العبارة نطمئن على مصيرها الأبدي. ومقياس الجمال عند الرب, غير مقاييسه عند البشر. العروس التي قال عنها الرب إنها جميلة, كانت سوداء. ومع ذلك " سوداء وجميلة". كإنسان أنهكه الصوم والنسك، وبدا نحيلآ ضعيفآ, تبكي أمة على ضعفة, وبينما يقول عن نفس هذا الإنسان "ها أنت جميلة يا حبيبتي". القديسون الذين شوهتهم عذابات الاستشهاد, فقطعوا أعضائهم, وفقأوا عيونهم, يراهم الناس مشوهين, بينما يقول الله لنفس كل واحد منهم " ها أنت جميلة يا حبيبتي" إنسان يعترف بخطاياه, فيقول كلاما قد يظهر نفسة بشعة يشمئز منها الناس, أما الله فينظر إلي هذه النفس المنسحقة الباكية المذلولة ويقول لها " ها أنت جميلة يا حبيبتي". النفس التي تلطم على خدها فتحول الأخر، ويسخرونها ميلا فتمشي في الصخرة ميلين, قد يراها الناس ذليلة مسكينة مهانة. أما الله فيقول لها " ها أنت جميلة يا حبيبتي". لاحظوا إن الرب كرر العبارة تأكيدا لشهادته بجمال النفس. فقال: ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة" بينما لفظة واحدة من الله تكفي. ولكنه يجد لذة في التحدث عن جمال أبنائه. كان أيوب مملوء بالقروح من قمة رأسة إلي أخمص قدمية. قد أصبحت رائحته كريهة عند إمراتة, وهرب منه عبيدة وإمائه. وأما الله فكان ينظر إلي هذه النفس الصبورة ويقول لها " ها أنت جميلة يا حبيبتي". إن مقاييس الناس في الجمال لا تهمنا، المهم مقاييس الله. الله ينظر لجمال النفس المتواضعة, فيقيم المسكين من التراب, والبائس من المزبلة. ليجلسه مع رؤساء شعبة. ينظر إلي أتضاع أمتة.. وقد نظر إلي القديسة الهبيلة, التي كانت تتظاهر بإهمال العبادة والكسل والتراخي أمام الراهبات فإذا نمن جميعا تقوم في منتصف الليل تصلي بحرارة عجيبة. فكانت الراهبات يلقبنها بالهبيلة. أما الله فيقول لها " ها أنت جميلة يا حبيبتي" وبنفس الوضع كانت القديسة مارينا.. في نظر الناس كانت تعتبر راهبا زانيا مطرودا من الدير، بينما كانت فتاة، وكانت جميلة أمام الله الذي يعرف حقيقتها. ونفس الوضع ينطبق على يوسف الصديق وهو كمذنب في السجن. في نظر الناس كان مذنبا, وفي نظر فوطيفار كان مذنبا، ولكن الله العارف بحقيقة نفسه البارة, كان يقول لها " ها أنت جميلة يا حبيبتي" إذن المهم أن نعرف حكم الله علينا لا حكم الناس.. عيناك حمامتان: الحمامة ترمز للروح القدس, والعينان ترمزان للرؤية. أي إنه لك رؤية روحية, تبصرين بالروح القدس. والحمامة عمومآ لها مكانة عجيبة في الكتاب المقدس كما سنرى: من أجل صفات الحمامة الجميلة, لقبت العذراء بالحمامة الحسنة. يبخر الكاهن على يمين المذبح, حيث توجد أيقونة العذراء, وهو يقول " السلام لك أيتها الحمامة الحسنة". فما هو حسنها؟ الحمامة من الطيور الطاهرة التي دخلت إلي الفلك, وهي التي هنأت أهل الفلك بانحسار الماء على الأرض، ورجوع الخضرة.. وحملت في فمها غصن الزيتون, رمز إلي السلام.. فكأن العذراء بهذا الرمز كانت تمثل السلام الأتي على الأرض, وزوال غضب الطوفان ورجوع الحياة إلي العلم.. وهكذا كانت العذراء بشيرًا بالخلاص الذي يتمتع به العلم.. "عيناك حمامتان" كل عين منها بشرى طيبة, تبشر بالسلام، تبشر بالخلاص, تحمل غصن زيتون لكل أحد, إنها النفس المسالمة. إنسان خاطئ, كاد أن يحطمه اليأس, يأتي إلي أحد الآباء الروحيين, يشرح له يأسه, فيطيب هذا الأب خاطرة, ويفتح له نافذة من رجاء, ويحدثه عن محبة الله وغفرانه فينظر هذا الخاطئ إلي الأب الحنون, ويقول له " عيناك حمامتان". الحمامة أيضا ترمز إلي البساطة" كونوا بسطاء كالحمام".. العين البسيطة – التي كالحمامة – تمثل البراءة, ولهذا يقول السيد المسيح " إن كانت عيناك بسيطة, فجسدك كله يكون نيرا" (مت 6: 22). عندما خلق الله النفس البشرية قال لها " ها أنت جميلة يا حبيبتي" كانت طاهرة لا تعرف شرا ولا خبثا, ولا تنظر بشهوة, بل تنظر إلي كل شيء في براءة," كل شيء طاهر للطاهرين" (تي1: 15). أما الأن فقد فسدت العين, وأصبحت تنظر نظرات أخرى, فقدت بساطتها وبرائتها, وفقدت مشابهتها للحمامة.. هناك عيون كلها مكر ورغبة, وحسد وغيرة, وغضب, وشهوة. هناك إنسان عينة كالصقر, مخيفة لا وداعة فيها.. أما هذه فقال لها " عيناك حمامتان". أي تمثلان اللطف والوداعة والطيبة والود.. تمثلان النفس الجميلة الهادئة البسيطة الروحية الحرة.. محال أن يكون أحد فيكم رأى حمامة عابسة متجهمة! الحمام أيضا يهدل دائما، فيرمز إلي حياة التسبيح الدائمة, حتى كنا نشبهه مساكن الرهبان الدائمي الصلاة بأبراج الحمام. لذلك فرح داوود وقال إن " الحمامة وجدت لها عشا, مذابحك أيها الرب إله القوات".. والحمام أيضا كان يسكن المغارات وشقوق الجبال, فهو بهذا يرمز إلي حياة الوحدة والعبادة, ولهذا قال داوود النبي: " ليت لي جناحا كالحمامة فأطير وأستريح.. وأبعد هاربا وأسكن البرية". فالحمام يرمز للوحدة والعبادة. والله ينظر إلي كل حمامة في مغارتها وجحرها ويقول لها " ها أنت جميلة يا حبيبتي". والعجيبة إن الحمامة ترمز إلي الجماعة الناجحة كما ترمز إلي حياة الوحدة. ونجاح الحمامة في حياة المجتمع, ترمز إليه أسراب الحمام أسراب الحمام التي تطير متآلفة, متضامنة, في اتجاه واحد. ينظر الله إلي الكنيسة في أسرابها المتآلفة التي تعمل معا في محبة وتضامن وإتجاة واحد, ويقول لها " ها أنت جميلة يا حبيبتي". نقول هذا لئلا يظن أحد أن الحمامة ترمز للمتوحدين فقط.. بل إن الرب قال عن الكنيسة أيضا عبارة جميلة في المزامير وهي " كأجنحة حمامة مغشاة بالفضة, ومنكباها بصفرة الذهب. " الحمامة أيضا ترمز إلي المحرقة وإلي الذبيحة. كان الفقير يقدم فرخي حمام, أحدهما محرقة لإرضاء قلب الله, والثاني ذبيحة خطية يمثل المغفرة. وكان الرب ينظر إلي هاتين الذبيحتين ويقول للنفس " عيناك حمامتان". لذلك فان الرب عندما طهر الهيكل, لم يقلب أقفاص الحمام مثلما قلب موائد الصيارفة, وإنما قال " ارفعوا هذه من هنا" (يو 2: 16). ليس فقط من أجل عملية البيع في الهيكل.. وإنما أيضا تقديرا للحمام كرمز.. كملخص لما قلناه: يرمز الحمام للبساطة، وللسلام، وللوداعة، وللتسبيح، والذبيحة، والوحدة, والود في حياة المجتمع, كما يرمز للروح القدس الذي حل كحمامة وقت العماد. لذلك هناك أشخاص لا يأكلون الحمام أبدآ نظرا لرموزة وصفاتة, لذلك لم يكن غريبا في ظهور العذراء في كنيسة الزيتون أن يبصر الناس الحمام يطير بالليل، رمزا للحمامة الحسنة (السيدة العذراء). وعندما يقول الله للنفس البشرية " عيناك حمامتان "، إنما يقصد كل هذه الصفات معا, وربما غيرها أيضا. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
شفتاك يا عروس تقطران شهدًا (نش 4: 11) قال الرب للكنيسة، وللنفس البشرية القديسة: شفتاكِ يا عروس تقطران شهدًا (نش 4: 11) كثير من الناس، تكمن متاعبهم في ألسنتهم، لذلك يفضلون الصمت: يجعلون أمامهم قول الحكيم "كثرة الكلام لا تخلو من معصية" (أم 10: 19)، و قول يعقوب الرسول "اللسان نار، عالم الإثم.. هو شر لا يضبط، مملوء سمًا مميتًا.. يدنس الجسم كله" (يع 3). ويحب هؤلاء قول القديس أرسانيوس "كثيرًا ما تكلمت فندمت، و أما عن سكوتى فما ندمت قط". لذلك يرون الصمت أفضل.. حقًا إن الصمت أفضل من الكلام الردىء، وحقًا إن اللسان غير المنضبط هو سم مميت. و لكن هناك كلام طيب.. ليس كل صمت فضيلة، فأحيانًا نُدان على صمتنا. وليس كل كلام خطيئة. فهناك نفس تتكلم، فيقول لها الرب: "شفتاك يا عروس تقطران شهدًا". قال الرب أيضًا: "بكلامك تتبرر، وبكلامك تُدان" (مت 12: 37). إذن يمكن أن تتبرر بالكلام. ولذلك قال الكتاب "شفتا الصديق ينبوع حياة" "شفتا الصديق تهديان كثيرين" (أم 10: 2). هناك إذن شفاه مقدسة، تخرج منها كلمة حياة، وكلمة منفعة.. كان المسيح يتكلم، والناس يبهتون من كلامه (مت 7: 38)، ويقولون "ما سمعنا أحدًا تكلم مثل هذا".. كان كلامه روحًا وحياة (يو 6: 63 ). وقد قدم لنا مثالًا للكلام، إذ كانت شفتاه تقطران شهدًا. لذلك لا نعجب إن رأينا مريم أخت مرثا، تحرص أن تجلس عند قدميه، لكي تسمع وتتأمل (لو 10: 39). كانت كل كلمة تخرج من فمه، تدخل إلى قلبها، وتحرك مشاعرها وتبنيها، وتشبعها.. وقد قال داود عن كلام الرب، إنه "أحلى من العسل وقطر الشهاد" (مز 19: 10). القديس يوحنا ذهبى الفم، منحته الكنيسة هذا اللقب، إذ كانت كلماته كالدر والجوهر، كانت شفتاه تقطران شهدًا. القديس أثناسيوس قيل عنه "إن سمعت كلمة لأثناسيوس، و لم تجد ورقًا تكتبها عليه، فاكتبها على قميصك".. وما أجمل اللقب الذي أعطى للقديس غريغوريوس، إنه ناطق الإلهيات". فما هى إذن صفات الكلام، الذي تقطر به الشفاه شهدًا؟ ألوان من شهد الكلام: قال سليمان الحكيم: "الكلام الطيب شهد عسل، حلو للنفس" (أم 16: 24). فما هو هذا الكلام الطيب الذي يقصده؟ إنه الكلمة الرقيقة العطوفة، التي تفيض حبًا وعطفًا وحنانًا، ككلمات السيد المسيح للمرأة التي ضبطت في ذات الفعل.. وقفت المرأة أمامه ذليلة محطمة، يجرها أناس قساة، أشبعوها إهانة وتحقيرًا وتشهيرًا، و هى تنتظر مصيرها من شفتيه.. فإذا بالمسيح الكلى الطهر، يصرف الرجال الذين أدانوها وأذلوها، ثم يقول لها " وأنا أيضًا لا أدينك، إذهبى ولا تخطىء أيضًا" (يو 8: 11). لم يخجلها، لم يوبخها، لم يجرحها، لم يحكم عليها، إنما بكل عطف نشلها من الوحل ومن العار، وصرفها بسلام، وهى متعجبة من هاتين الشفتين اللتين تقطران شهدًا.. بأسلوب رقيق، شبيه بهذا، تحدث السيد مع المرأة السامرية. حدثها – وهى خاطئة – عن الماء الحى، وعن السجود بالروح والحق، وبلطف زائد اقتادها إلى الإعتراف، دون أن يريق ماء وجهها. فتركت جرتها، ونادت المدينة: تعالوا أنظروا، إنسانًا قال لي كل ما فعلت.. (يو 4: 39) دون أن يجرحنى بكلمة وبنفس الرقة تحدث عن المدينة التي أغلقت أبوابها في وجهه. قال التلميذان اللذان معه "أتشاء يا رب أن تنزل نارًا من السماء فتحرق هذه المدينة؟ " فأجابهما: "لستما تعلمان من أي روح أنتما؟! لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص " (لو 9: 55، 56). أنا قد جئت لأرفع القلوب المنكسرة، أقوم الركب المخلعة، وأشدد الأيدى المسترخية، جئت لأنادى لليائس بالرجاء، وللخاطىء بالتوبة. لا دينونة في فمى. إنما في فمى كلمة حب، وكلمة خلاص. هناك أشخاص كلامهم كرجم الحجارة، قسوة وعنف، وفيه أتهام ونقد وتجريح، ولكنه لا يبنى إنما تبنى الكلمة الحلوة. الشفتان اللتان تقطران شهدًا، تكسبان حب الناس، وبالحب تبنيهم. وهذا الشهد في نوع الكلام، ولهجة الكلام وروحه وأسلوبه. ومن أنواع هذه الكلمات التي تقطر شهدًا، كلمة المنفعة: عظة الرب على الجبل، في تقديمها أسمى تعاليم سمعتها البشرية. وكلمات آباء البرية التي كان الناس يأتون في طلبها من أقاصى الأرض ليسمعوا كلمة منفعة. من أجلها قصد البابا ثاوفيلس القديس أرسانيوس والقديس بفنوتيوس. وبها كُتب بستان الرهبان. ومن أمثلتها أيضًا أقوال الآباء التي جمعها العلماء في مجموعات الباترولوجيا، ومنها أيضًا أقوال المرشدين الروحيين النافعة لهداية النفس. ومن الكلمات التي تقطر شهدًا، كلمات البركة: مثل البركة التي بارك بها الرب نوحًا (تك 9) وإبراهيم (تك 12)، و البركات التي وردت في سفر التثنية (ص 28)، و مثل بركة إسحق ليعقوب (تك 27)، وبركة يعقوب لأفرايم ومنسى (تك 48)، ومثل البركة التي تمنحها الكنيسة لأبنائها في كل قداس، في نهاية كل أجتماع. لذلك أمرنا الكتاب قائلًا: "باركوا ولا تلعنوا" (رو 12: 14)، باركوا كل أحد، حتى أعدائكم "باركوا لاعنيكم" (مت 5: 44).. كل شخص يقابلك، قل له كلمة بركة، كلمة دعاء، تفرح قلبه، و تشعره بمحبتك، فتهتف الملائكة قائلة لنفسك: "شفتاك يا عروس تقطران شهدًا".. والشفاه التي تقطر شهدًا تنطق بكلام مريح فيه طمأنينة وتعزية. مثل كلمة الطبيب التي تريح المريض، و تدخل الرجاء إلى قلبه.. وكلمة أب الاعتراف الذي يقدم حلًا لمشكلة، ويريح قلب خاطىء يائس، ويعطيه حلًا من خطاياه.. ومن أمثلتها ما طلبه قائد المئة من السيد المسيح "قل كلمة فقط.. فيبرأ غلامى" (مت 8: 8) ومثل كلمات التعزية المريحة تسمعها فتقول "شفتاك يا عروس تقطران شهدًا". شفتا أصحاب المواهب، هى أيضًا تقطران شهدًا.. أولئك الذين أعطاهم الرب قوات وعجائب، وائتمنهم على عطاياه.. يأتى الشخص إلى واحد من هؤلاء القديسين، ويسأله قائلًا: قل إننى سأنجح، قل إن الله سيعطينى ابنًا.. قل إن مشكلتى ستحل.. فإن قال تمتلأ النفس فرحًا بالرجاء، متيقنة أنها ستأخذ.. إنها كلمات تسعد سامعها، من شفاه تقطر شهدًا.. حنة-و هى صائمة – تصلى في الهيكل بحرارة وانسكاب ودموع، تطلب نسلًا.. فظنها عالى الكاهن سكرى، وكلمها كلامًا قاسيًا، فلما شرحت له حالها، دعا لها أن يعطيها الله سؤل قلبها.. فمضت من عنده فرحة.. لقد أسعدتها الكلمة الطيبة، كلمة الدعاء من الكاهن العظيم، الذي عادت شفتاه تقطران شهدًا.. الكلمة التي تقطر شهدًا، كلمة باقية خالدة. لا تنسى.. تمتد جذورها في أعماق القلب، وفي أعماق النفس من الداخل، يسترجعها الإنسان بين الحين والآخر، لا ينساها. إنها تعمر قلبه، وترسخ في ذاكرته، إنها كلمة حية، غير عادية باقية.. من الكلمات التي تقطر شهدًا أيضًا: كلمات التشجيع والمديح. صغار النفوس، والضعفاء، والمبتدئون، والاطفال يحتاجون إلى كلمة تشجيع، تقوى معنوياتهم، وتطمئن نفوسهم، وتدفعهم إلى قدام.. إن سمعوها من إنسان ، يقولون "شفتاك يا عروس تقطران شهدًا.. " بل صدقونى حتى الكبار أيضًا، تسرهم كلمة التشجيع وكلمة المديح، مادامت صادقة بعيدة عن الملق.. إنها تفعل في النفوس مفعول السحر، وتملأ القلب حبًا ورضى.. لذلك يقول الكتاب "شجعوا صغار النفوس. إسندوا الضعفاء.." (1 تس5: 20) استخدموا هذا الأسلوب باستمرار، وانظروا نتيجته.. ومن الكلمات التي تقطر شهدًا، كلمات الدفاع: تصور إنسانًا كل الناس ضده، يتكلمون عليه، ويتهمونه.. ثم يجدك واقفًا تدافع عنه.. ماذا يكون شعوره نحوك؟ تصور طفلًا يجدك واقفًا تدافع عنه.. ماذا يكون شعوره نحوك؟ تصور طفلًا توبخه أسرته، ثم تحتضنه أنت، وتقول فيه كلمة طيبة، إنه لا ينساها لك، ويقول لك: شفتاك تقطران شهدًا.. السيد المسيح دافع عن المرأة الخاطئة التي بللت قدميه بدموعها، بينما اتهمها الفريسى. ودافع عن المرأة التي سكبت على قدميه طيبًا غالى الثمن، ولامها التلاميذ، ودافع عن العشارين، وعن السامريين، وعن الأطفال، وعن الأمم.. وفي دفاعه كانت شفتاه تقطران شهدًا.. ومن الكلمات التي تقطر شهدًا: عبارات الشكر وعبارات الاعتذار. إن الشكر دليل على التقدير، والعرفان بالجميل، وعدم نسيان الخير. وقد قال الآباء "ليست موهبة بلا زيادة، إلا التي بلا شكر". ونحن نبدأ صلواتنا بصلاة الشكر. فإن كان هذا مع الله الذي لا يحتاج إلى شكرنا، فكم بالأولى مع الناس. فيما تشكر، شفتاك تقطران شهدًا، وأيضًا فيما تعتذر.. لأن اعتذارك يدل على حرصك على شعور من أسأت إليه، ورغبتك في أن تطيب قلبه. ونحن بعد صلاة الشكر، نتلو المزمور الخمسين، وكله أعتذار.. ليتك تجرب الإعتذار إلى كل من أسأت إليه، وحينئذ شفتاك تقطران شهدًا، أمامه وأمام الله. ومن الكلمات التي تقطر شهدًا، عبارات التقدير والاحترام. تكلم مع الكل باحترام، تنل محبة الكل. يرون كلامك كالشهد. تكلم باحترام مع الكبار ومع الصغار أيضًا. وقل كلمات تقدير لكل من هو أكبر منك سنًا ومقامًا، وأكثر منك علمًا، كما توقر أباءك الروحيين والجسدانيين، وكل من يقدم خدمة لك ولغيرك. بل إن عبارة احترام تقولها لمن هو أقل منك، تستعبد بها قلبه لك. إن الشفاه العفة الألفاظ، التي تحترم الناس، تفيض شهدًا. هذا الاحترام والتوقير نردده لله في صلوات التسبيح والتمجيد، تسمعها الملائكة فتقول: شفتاك يا عروس تقطران شهدًا. ماذا أقول أيضًا عن الكلمات التي تقطر شهدًا. إن منها: كلمات الحب التي تدل على عاطفة صادقة، وكلمات الترحيب التي تدل على فرحك بلقاء غيرك، وكلمات النزاهة والشجاعة، وكلمات الصدق في أحرج الأوقات، وكلمات الحكمة المملوءة عمقًا، وكلمات الاتضاع المملوءة حياء.. كلها تصدر من شفاه تقطر شهدًا.. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
اسمك طيب مسكوب.. لذلك أحبتك العذارى.. اجذبني وراءك فنجري (نش 5: 10) إسم الرب: من إعجاب الكنيسة بهذه العبارة تذكرها في رفع بخور عشية " طيب مسكوب هو أسمك القدوس. وفي كل مكان يقدمون بخورا لإسمك القدوس وصعيدة طاهرة". اسم الرب له رائحة طيبة تنعش النفوس، وتنتشر في كل مكان كما ينتشر الطيب. لذلك أحبته العذاري. اسم الرب اسم حلو، يفرح به اولاد الله لذلك نقول له في الإبصلمودية " إسمك حلو، مبارك في أفواه قديسيك". ويقول له داود النبي في المزمور: " محبوب هو إسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي" (مز 119). أي أنه من محبتي لاسمك، أظل أردده طوال اليوم.. تماما مثلما يحب إنسان شخصا ما، فيظل يتكلم عنه: ويردد اسمه في كل مناسبة، ويجد لذة في ترداد اسمه.. هذا الإسم يملأ عقله وفكره وحواسه، ولا يفارق شفتيه.. ومن حلاوة اسم الرب، نقول له " إسمك طيب مسكوب". ويقول الكتاب "اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمتع" (أم 18: 10) يطلبه في كل ضيقة ويحتمي به. اسم الرب يرعب الشياطين، ويعطي القديسين طمأنينة.. وهكذا نري داود النبي حينما وقف أمام جليات الجبار، قال له "أنت تأتيني بسيف ورمح، وأنا أتيك باسم رب الجنود" (1 صم 17: 45) مجرد دخول اسم الرب، قادر ان يهزم جليات.. وبنفس الوضع قال بطرس للرجل المقعد علي باب الهيكل "ليس لي ذهب ولا فضة. ولكن الذي معي إياك أعطيه. باسم يسوع المسيح قم وأمش" (أع 3: 6).. وباسم الرب قام ومشي، كما باسمه انتصر داود علي جليات. ونحن لذلك نستخدم اسم الرب في كل اعمالنا وحياتنا: في الأكل، في المذاكرة، في العمل، في دخولنا وخروجنا، نبدأ كل هذا باسم الله. نضع اسم الرب في كل عمل، لكي يتبارك هذا العمل باسم الرب.. وبهذا تشعر أن الله أمامك باستمرار. اسم ربنا مخيف بالنسبة الي الخطاة لأنه " مخيف هو الوقوع في يدي الرب الحي" (عب 10: 31)، لكن بالنسبة للقديسين اسم الرب محبوب. اسمك يا رب موسيقي في أذني، حلو في فمي.. هو في صلواتنا في عبادتنا، في قراءتنا، في حياتنا اليومية.. في قصة كبريانوس الساحر، مجرد اسم يوستينه جعل الشيطان ينحل ويمشي، فكم بالأولي إذن اسم الله وتأثيره وقوته.. ! اسمك طيب مسكوب، لذلك أحبتك العذاري. أحبتك العذاري: و عبارة (أحبتك العذاري) تدل علي ان الحب المذكور في سفر النشيد، هو حب إلهي وليس حبا بشريا وجنسيا. الحب العالمي , الحب الجنسي، الحب الجسدي، تسوده الأنانية والرغبة والأمتلاك. لذلك إذا أحبت واحدة شخصا، قد تغار عليه جدا، فإن رأت فتاة أخري تحبه، تموت من الغيرة.. لكن في النشيد تقول له " أحبتك العذاري".. كلهم يحبونك.. نفرح ونبتهج بك.. " بالحق يحبونك" (نش 1: 4). " بالحق يحبونك " أي كل الناس يحبونك. وأنا أفرح بهذا. حقا إن النفس التي تحب الله، تود أن يحبه الجميع. الإنسان الروحي يريد أن كل أحد يحب الله معه.. المرأة السامرية لما تعرفت علي المسيح، ذهبت تدعو الناس " تعالوا أنظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت" (يو 4). وملأت المدينة حديثا عنه، وأحضرت الناس إليه.. وهكذا الرسل لما أحبوا المسيح، ملأوا المدينة كرازة باسمه. وبولس الرسول لما عرف الرب، حاول بأسفار كثيرة، وبتعب اكثر من الجميع، أن يخلص عل كل حال قوما.. (1 كو 9: 22). وهكذا كل العذاري اللاتي أحببن الرب، فمن هن العذاري؟ العذراء هي النفس التي أحبت الرب، وليس في قلبها اخر يشغلها اقترنت بالله وحده، وليس اخر يشغلها.. وهكذا قال بولس الرسول عن الكنيسة " خطبتكم لاقدم عذراء عفيفة للمسيح". فأصبحت كلمة (عذراء) رمزا للكنيسة. ولهذا أيضا نري أم جميع الذين ينالون الخلاص قد شبههم الرب بخمس عذاري حكيمات. (مت 25: 5). هؤلاء الخمس العذاري رمز لجميع المختارين، رجالا ونساء, بتوليين ومتزوجين. في الكنيسة العذراء يوجد إبراهيم وإسحق ويعقوب، المتزوجون. كانوا متزوجين , ولكن نفوسهم كانت عذراء.. لأنها لم تعط ذاتها لاخر، لا تحب شيا إلي جوار الله. النفس العذراء تحب الله من كل القلب ومن كل الفكر.. لا يوجد أحد الي جوار الله ينافسه في قلبها، ولا توجد في داخلها محبة أخري تتعارض مع محبة الله. لذلك فإن كلمة (عذراء) استخدمت مجارا في الشعر أيضا، فقال أحدهم عن أمانيه التي لم تخطر بقلب أحد أخر: أمان عذاري لم يجلن بخاطر وبعض أماني القوم شمطاء ثيب القلوب العذراي هي التي تفرغت لمحبة لله وحده.. وقد يسأل البعض: أليس كل إنسان يحب أباه وأمه وأولاده وأصدقاءه وتلاميذ، نقول أنها محبة داخل محبة الله لا تتعارض معها لا تنافسها ولا تنقصها.. أحبتك العذاري , لأنها أشتمت من أسمك رائحة الطيب.. كذلك نري أن أرواح القديسين رائحتها طيبة، قد تصعد روح إنسان فيمتلئ المكان برائحة بخور، فيشعر الناس بأنها روح طاهرة.. كذلك صلوات القديسين تصعد كرائحة بخور إلي الرب. والمحرقات أيضا كانت رائحة سرور للرب.. كطيب مسكوب.. فإذا كانت المحرقات رائحة سرور، فكم يكون الرب نفسه.. إن العروس عندما تزف إلي عريسها يضمخونها بالعطور، كعروس مهيئة لعريسها (رؤ 21: 2)، وفي سفر أستير نسمع ان الملكة كانت تضمخ بالطيب والعطور مدة سنة كاملة قبل أن يقدموها للملك (إس 2: 12). إن الجسد يعطر بالطيب. أما النفس فتتعطر بالفضائل. أما اسم الله فإنه لا يتعطر، وإنما هو العطر ذاته. لا يسكب عليه طيب، وإنما هو ذاته طيب مسكوب. كل من يدعي عليه هذا الاسم يتعطر وتنتشر رائحته.. لذلك أحبت العذاري.. فما معني هذه العبارة؟ إن الحياة الروحية بكل تفاصيلها، تتركز في عبارة " أحبتك العذاري".. والملكوت هو نفوس عذاري، تحب الله وحده.. لا يوجد في الحياة الروحية سوي الحب.. البعض يظن أن التدين هو العبادة. والبعض يظن أن الحياة الروحية هي الإيمان، وهي أعمال الرحمة، وهي نقاوة القلب. أما الكتاب فيعلمنا إن الحياة الروحية هي الحب وليس غير.. " الله محبة: من يثبت في المحبة , يثبت في الله والله فيه" (1 يو 4: 16). إن كنت لم تحب الله، فأنت لا تعيش في الروح بعد.. إن شغلت يومك وليلك بالصلاة، وانت لا تحب الله، فصلاتك ليست شيئا. وإن ملأت الدنيا كرازة وخدمة وتعليما، وأنت لا تحب الله، فقد صرت نحاسا يطن وصنجا يرن.. (1 كو 13: 1). وإن عشت في النسك وأسلمت جسدك حتى يحترق دون ان تذوق محبة الله، فأنت لست شيئا. الله لا يريد غير الحب فقط، من نفوس العذاري.. تقول له أحبك يا رب، وأحب العالم معك. يقول لك: نفسك ليست عذراء،لأن كل من يحب العالم ليست فيه محبة الأب (1 يو 2: 15). أما النفس التي تحب العالم والجسد والمادة والشيطان والذات، فإنها ليست عذراء، بل مقترنة بخمسة أزواج.. ومحبة العالم تلد أولادا كثيرين من شهوات متنوعة.. أمامك اذن سؤلان: هل تحب الله؟ وهل نفسك عذراء؟ فإن لم تكن نفسك عذراء، فكيف تصير كذلك؟ تصير بقولك: اجذبني وراءك فنجري: أجذبني وراءك فنجري.. اجذبني فأجري، ويجري الكل معي. سوف لا أمشي وراءك بل سأ جري، بكل قوتي، كما قال رسولك بولس " أركضوا لكي تنالوا" (1 كو 9: 24) وسوف لا أجري وحدي وإنما سأحضر معي لك ثلاثين وستين ومائة هم ثمرة حبي لك. إنما المهم يا رب ان تجذبني وراءك، بدلا من أن يجذبني هذا التراب الذي أخذت منه، لانني من التراب وربما إلي التراب أعود.. فإجذبني، إلي محبتك وإلي خدمتك، قل لي " هلم ورائي" (مت 4: 19) كما قال لبطرسواندراوس.. ولا شك إن كلمتك ستكون لها قوة عجيبة لا يستطيع ان يقاومها قلبي.. عندما قال الله لمتي العشار " أتبعني" (مت 9: 9) لم يكن ذلك مجرد أمر ودعوة، إنما كانت قوة جاذبية عجيبة شدته من مكان الجباية. فقام وراءه يجري، كما جري وراءه كل التلاميذ. كلمة الرب قوية وفعالة، ومثل سيف ذي حدين، أستطاعت أن تقطع كل الروابط التي تربطه بالعالم، فوجد نفسه قد ترك كل شيء، حتى مسئولياته في مكان الجباية. أجذبني يا رب وراءك بنعمتك، بروحك القدوس، بقوتك، بملائكتك، بكل ما عندك من وسائط روحية.. وأنا سأجري كما جري أوغسطينوس الذي تحول من ملحد إلي أسقف قديس، ومثل كثير من الخاطئات اللائي تحولن مرة واحدة لا إلي تائبات فقط وإنما إلي قديسات.. لما جذب السيد المسيح إليه التلاميذ الأثني عشر، جروا وراءه ومعهم في أول يوم ثلاثة ألاف (أع 2: 41)، ثم بعد معجزة شفاء الأعرج صار الذين وراءهم خمسة ألاف (أع 4: 4)، ثم أنضمت للرب جماهير من رجال ونساء. ثم أنضمت إلي الإيمان مدن وقري (أع 8). وكانت عدد الكنائس تنمو وتزداد، والرب في كل يوم يضم للكنيسة الذين يخلصون (أع 2: 48).. كانت الكنيسة الأولي تجري في طريق الملكوت، لأن الرب كان قد قال: وأنا إن أرتفعت أجذب إلي الجميع (أع 5: 14). |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
حبيبي أبيض وأحمر (نش 5: 10) إنها أكثر عبارة في سفر النشيد تناسب "يسوع المصلوب". كلمة "أبيض" تمثل النقاوة الكاملة والقدسية المطلقة التي يتصف بها هذا الفادي الذي يموت عن العالم كله. بينما كلمة "أحمر" تعبر عن دمه المسفوك على الصليب. ولنحاول أن نتتبع كلمة (أبيض) ودلالتها. أبيض: تدل على مجد الرب، كما ظهر في التجلي. يقول الإنجيل عنه في قصة التجلي "وتغيرت هيئته قدامهم. وصارت ثيابه تلمع بيضاء جدًا، كالثلج، لا يقدر قصار على الأرض أن يبيض مثل ذلك" (مر 9: 2، 3). أما في إنجيل متى فيقول "فتغيرت هيئته قدامهم. وأضاء وجهه كالشمس. وصارت ثيابه بيضاء كالنور" (مت 17: 2). "حبيبي أبيض". أبيض كالنور. وأبيض لأنه نور.. ويقول الكتاب إن "الله نور" (1يو 1: 5). "إن جلست في الظلمة، فالرب نور لي" (مي 7: 8). وهو نفسه قال "أنا نور العالم" (يو 8: 12). وقيل عنه في إنجيل يوحنا أنه "النور الحقيقي الذي يضئ لكل إنسان" (يو 1: 9). لذلك فالمؤمنون به يدعون "أبناء النور" (يو 12: 36). عبارة "حبيبي أبيض" حينما تُقال عن الله، إنما ترمز إلى طبيعته إذ هو نور، وكذلك ترمز إلى قداسته. كذلك إلى خدامه من الملائكة، وأبنائه من البشر الصالحين المفديين، والبشر من الكهنة ومن التائبين. كذلك اللون الأبيض يرمز إلى وقار الله وإلى أزليته. يقول دانيال النبى في إحدى الرؤى "وجلس القديم الأيام: لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه كلهيب نار." (دا 7: 9). نلاحظ هنا ورود اللونين الأبيض والأحمر معًا، لأن النار حمراء. ونلاحظ نفس الوصف تقريبًا في رؤيا يوحنا اللاهوتي، إذ يقول في ظهور الرب له "وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف النقي كالثلج. وعيناه كلهيب نار. ورجلاه شبه النحاس النقي، كأنهما محميتان في أتون" (رؤ 1: 14، 15). حقًا "حبيبي أبيض وأحمر". في التجلي، على الصليب، في الرؤيا.. الملائكة أيضا يتصفون باللون الأبيض كملائكة من نور (2كو 11: 14). قيل عن ملاك القيامة الذي دحرج الحجر "كان منظره كالبرق، ولباسه أبيض كالثلج" (مت 28: 3). وقيل عن ملاك آخر أنه كان "لابسًا حلة بيضاء" (مر 16: 5). وفي وعد الرب في سفر الرؤيا أنه قال "من يغلب، فذلك سوف يلبس ثيابًا بيضًا، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة (رؤ 3: 5). اللون الأبيض هو أيضًا يميز القديسين وخدمة الكهنوت: لأنه يدل على النقاوة والقداسة. فالكهنة والشمامسة في خدمة المذبح يلبسون ملابس بيضاء. وقال الرب عن المفديين أنهم "بيضوا ثيابهم في دم الخروف". أنهم "المتسربلون بثياب بيض" الذين أتوا من الضيقة العظيمة (رؤ 7: 14، 9، 13). وقيل نفس الوصف أيضا عن الأربعة والعشرين قسيسًا حول عرش الله، أنهم كانوا "متسربلين بثياب بيض" (رؤ 4: 4). نضم إلى كل أولئك التائبين. الذين وعدهم الرب قائلا "إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج" (أش 1: 18). هؤلاء الذين ينطبق عليهم قول المرتل في مزمور التوبة "إغسلني، فأبيض أكثر من الثلج" (مز 51: 7). التائب هو أيضًا "حبيب أبيض". فإن كنت تحب الله، كن أبيض مثله، بقلب أبيض.. بفكر أبيض، وألفاظ بيضاء، ومشاعر بيضاء. إن كنت بهذا الوصف الأبيض يمكنك أن تتناول من الأسرار المقدسة. القديس موسى الأسود: لما سيم كاهنًا، ولبس ملابس الخدمة البيضاء، قالوا له "ها قد صرت أبيض كلك". فأجابهم "حبذا لو كان هذا من الداخل أيضًا". لذلك حذر الكتاب من الإقتصار على البياض الخارجي وحده! فالكتبة والفريسيون المراؤون شبههم الرب بقبور مبيضة تبدو من الخارج جميلة، ومن الداخل عظام نتنة (مت 23: 27). وقد قال القديس بولس الرسول لرئيس كهنة اليهود الذي أمر بضربه مخالفًا للناموس "سيضربك الله أيها الحائط المبيض" (أع 23: 3). تحدثنا عن كلمة (أبيض). فلنتدرج إذن إلى كلمة (أحمر). أحمر: حبيبي أحمر: أحمر لأنه نار، كما قيل "إلهنا نار آكلة" (عب 12: 29). كذلك قد شبّه الروح القدس بالنار، وقد حلّ على التلاميذ يوم الخمسين بألسنة كأنها من نار (أع 2: 3). إلهنا نور، ونار. أبيض وأحمر. والسيد المسيح كان أبيض في وداعته، وأحمر في حزمه. كان أبيض، وهو القدوس المولود من العذراء (لو 1: 35). وأحمر وهو الحمل المذبوح عن العالم، بثياب محمرة، قد داس بها المعصرة وحده (أش 63: 2، 3). رآه يوحنا في أول سفر الرؤيا "رأسه وشعره أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج، وعيناه كلهيب نار" (رؤ 1: 14). ولعل يوحنا قال في قلبه حينا رآه "حبيبي أبيض وأحمر". أنا يا رب أتحير: كيف تجمع وداعتك المحببة إلى النفس، وبين عينيك اللتين كلهيب نار، اللتين – كما روى التقليد – قال عنهما بيلاطس البنطي في وصف يسوع الناصري "ما كان أحد يستطيع أن ينظر طويلًا إلى عينيه" من عمق هيبتهما.. صفاتك يا رب لا تتناقض.. في رحمتك أبيض، وفي عدلك أحمر. ورحمتك وعدلك لا ينفصلان. أنت رحيم في عدلك، وعادل في رحمتك. فيك يمتزج اللونان الأبيض والأحمر، كالخمر.. لذلك قيل أيضا في سفر النشيد أن "حبك أطيب من الخمر" (نش 1: 2). يمتزج فيه الحنو الأبيض بالحزم الأحمر، الجاذبية بالهيبة، العطف بالتأديب.. مثلما وبخ بطرس بعد القيامة، في حنو عجيب: يناديه باسمه العلماني "سمعان بن يونا"، وفي نفس الوقت يقول له "إرع غنمي" "إرع خرافي". ويسأله ثلاث مرات "أتحبني أكثر من هؤلاء؟!" حتى حزن بطرس. وفي نفس الوقت يمنحه عمل الرعاية.. (يو 21: 15 – 17). أنت يا رب أبيض على الصليب.. أبيض في قداستك، لا تستحق الموت. وأنت أحمر في دمك المراق عنا، كحامل لخطايانا. وهذا الفداء العظيم تظهر له صورتان: إحداهما في المعمودية في العهد الجديد، والأخرى في خيمة الاجتماع في العهد القديم. في المعمودية نرى المعمدّ بملابس بيضاء مع شريط أحمر (الزنّار). فالملابس البيضاء تشير إلى الحياة الجديدة التي نالها في المعمودية (رو 6: 4) "بغسل الميلاد الثاني، وتجديد الروح القدس" (تي 3: 5). أما الشريط الأحمر (الزنار) فيشير إلى دم المسيح، الذي باستحقاقه ينال المعمد التبرير وغفران الخطايا (أع 2: 38) (أع 22: 16). أما في خيمة الاجتماع، فكان الدم يرش على جدرانها وعلى مذابحها، دليلًا على أنه بهذا الدم الأحمر ينال مقدم الذبيحة الحياة البيضاء بالتوبة. وهو نفس معنى قول المزمور "إنضح علي بزوفاك فأطهر. واغسلني فأبيض أكثر من الثلج" (مز 51: 7). الزوفا كانت نوعًا من العشب، يرُش به الدم الأحمر. فتصير الحياة بيضاء بالمغفرة. وهكذا يُولد الأبيض من الأحمر. والذي يرشه الرب بزوفاه، يقول عنه "حبيبي أبيض وأحمر". هذا ما قصده المرنم في مزمور التوبة (مز 51). وهو نفس المعنى الذي كُتب في سفر الرؤيا "بيضوا ثيابهم في دم الخروف" (رؤ 7: 14). هذا الدم الأحمر، جعل ثيابهم بيضاء. يغتسل الخاطئ في الدم الأحمر (أي في الفداء)، فيصير أبيض (أي نقيًا من كل خطاياه). حياه كل إنسان فينا، هي قصة الأبيض والأحمر معا. صار كل منا أبيض نقيًا، بواسطة الدم الأحمر الذي يطهره. كما قال القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى عن الله الآب "ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية" (1يو 1: 7). كل تائب بيّض ثيابه في دم الخروف، ونضح الله عليه بزوفاه فصار أبيض من الثلج.. هو أبيض بالمغفرة التي نالها، وأحمر في الدم المسفوك عنه، الذي اغتسل به. يراه الرب من على الصليب ويقول "حبيبي أبيض وأحمر". كانت الخطية في العهد القديم تُشبه أحيانًا اللون الأحمر: وهكذا قيل في سفر اشعياء النبي "إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج. وإن كانت حمراء كالدودي، تصير كالصوف" (أش 1: 18). إذن الخطية حمراء كالقرمز الأحمر، الذي يظهر في عين الغضوب المملوءة دمًا.. ونجد أن عيسو الخاطئ خرج من بطن أمه "أحمر كله" (خر 25: 25). لون الخطية الأحمر، حمله المسيح نيابة عنا. إذ "ألبسوه رداء قرمزيًا" (مت 27: 28) بلون الخطية القرمزي (أش 1: 18). وإذ نراه في نقاوته البيضاء يحمل عارنا، نقول عنه "حبيبي أبيض وأحمر". لقد صار القدوس الذي بلا خطية حاملا لكل خطايانا، وغطاه بالدم الكريم الأحمر. وكان اللون الأحمر يرمز أحيانًا إلى ثياب الملوك. وإذ ألبسوه في صلبه ثياب الملوك – سخرية منهم – فأنه في الحقيقة صار في صلبه ملكًا علينا. امتلكنا إذ اشترانا بدمه (1كو 6: 20). في دمه رآه اللص التائب ملكًا. فقال له "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك" (لو 23: 42). |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
هوّذا تخت سليمان، حوله ستون جبارًا (نش 3: 7) هوذا تخت سليمان Solomon's couch حوله ستون جبارا (نش 3: 7) نود ان يكون تأملنا اليوم في قول الوحى في سفر النشيد: تخت سليمان حوله ستون جبارا من جبابرة إسرائيل. كلهم قابضون سيوفا ومتعلمون الحرب. كل رجل سيفه على فخذه من هول الليل (نش 3: 7, 8) سليمان رمز المسيح: لان كلمة (سليمان) معناه "رجل سلام". وقد قيل عن السيد المسيح انه "رئيس السلام" (أش 9: 6) وانه هو سلامنا (أف 2: 4) وهو الذي قال "سلامي اترك لكم. سلامي أنا أعطيكم" (يو 14: 27) وهو الذي صنع سلاما بين السماء والارض، ونقض الحائط المتوسط أي العداوة (أف 2: 14،17) وسليمان كان يمثل الحكمة والمسيح هو اقنوم الحكمة. هو "حكمة الله وقوة الله" (1كو1: 24). سليمان هو ابن داود البانى للهيكل والمسيح هو ابن داود، وهو ابن الله الذي بنى الكنيسة هيكل الله القوس (1كو3: 16) † عبارة " تخت سليمان " تعنى عرشه، ويرمز الى عرش المسيح. حولة ستون جبارا من جبابرة إسرائيل. وكلمة (إسرائيل) هنا ترمز الى الكنيسة المقدسة. عرش الله اذن حوله الجبابرة، أي النفوس القوية. التى حاربت حروب الرب، وانتصرت على العالم والجسد والشيطان. اما النفوس الضعيفة التي لم تتثبت في حروبها الروحية، فليس لها نصيب حول عرش الله. الإنسان الضعيف الذي مجرد شهوة تحطم قلبه وارادته وفكره. هذا لا يمكن ان يكون من الجبابرة المحيطين بعرش الله. † العجيب ايها الاخوة الاحباء ان سفر العدد الذي أمر الله فيه بعد خاصته، لم يدخل في ذلك التعداد والاحصاء جميع الناس. انما أمر الله بإحصاء النفوس القادرة على القتال، القادرة على حمل السلاح، أي "كل خارج للحرب" (عد1: 2, 3) هؤلاء هم الجبابرة. كلهم قابضون سيوفا ومتعلمون الحرب. كل رجل سيفه على فخذه من هول الليل. من هول الظلام، من هول الأخطار. من هول الشهوات ومحبة العالم. فان حاربك في احد الايام فكر من الأفكار، واستسلمت له، لا تكون حينئذ جبارا متعلما الحروب. بل تكون إنسانا قد ألقى سلاحه وانطرح أمام العدو على الأرض. † الإنسان المتعلم الحرب، هو إنسان خبير بالافكار، خبير بحروب العدو، كما قال القديس بولس الرسول "نحن لا نجهل أفكاره" (2كو 2: 11). بل نعرف خداع الشيطان، ونميز الارواح (1كو 4: 1) هل هى من الله ام من العدو.. وهذه الحرب قد شرحها القديس بولس في رسالته الى اهل أفسس فقال "ان مصارعتنا ليست مع لحم ودم.. بل مع اجناد الشر الروحية" (أف 6: 12). مع الشياطين، مع الجسد، مع كل قوة العدو. ما أجمل قول ملاك الرب لجدعون " الرب معك يا جبار البأس" (قض 6 " 12) حقا ان السماء لا يصل اليها فيما بعد إلا جبابرة البأس الذين انتصروا في الحروب. الذين يرتلون مع جموع الغالبين: شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته (2كو 2: 14) ستون جبارا: لماذا اختار هذا الرقم (60)؟ والى أي شيء يرمز؟ ستون = 6 *10. والرقم 10 يرمز الى الكمال، والى الوصايا. والرقم 6 يرمز الى تمام العمل. فالله قد أتم عمله في الخلق في ستة أيام. والسيد المسيح أتم عمله في الفداء في اليوم السادس. وفي الساعة السادسة. والإنسان يتمم كل عمله في ستة ايام، ويستريح في اليوم السابع حسب الوصية.. * فمادام الرقم 6 يرمز الى أتمام العمل والرقم 10 يرمز الى الكمال والوصايا اذن الرقم 60 يرمز الى كل من تمموا عملهم في وصايا الرب في الكمال. فان سالت وقلت: هل حول عرش الله ستون جبارا فقط؟ نجيب انما هذا الرقم هو رقم رمزى، يرمز الى كل جبابرة الروح الذين كملوا في الايمان، الكاملين في قوتم، الكاملين في جهادهم وفي انتصارهم.. لا نقصد الجبابرة فى اجسادهم وفي قوتهم الجسدية، بل الجبابرة في ارواحهم، حتى لو كانوا صغارا. *داود النبى – امام جليات – كان جبارا وهو فتى صغير. كل الجيش خاف. ولكنه كان الوحيد الذي لم يخف، وتقدم لمحاربة جليات في جبروت في الوقت الذي خاف فيه شاول الملك (1صم 17: 11) وكان اطول من جميع الشعب (1 صم 10: 23). شاول الملك الذي كان جبارا في جسده، لم يكن جبارا في روحه "فبغته روح ردئ من قبل الرب" (1صم 16: 14) وكان يصرعه. والذي كان ينقذه من ذلك الروح الردئ كان داود الصغير أحد الجبابرة الذين حول العرش. كان داود جبار بأس وفصيحا ورجلا جميلا والرب معه (1صم 16: 15) وهذه العبارة الاخيرة كانت سر جبروته. داود الجبار كانت تخافه الشياطين. يكفى ان يضرب على عوده ويصلى مزاميره، حتى لتهرب الشياطين مرتعبة.. جبار له سلطان على الشياطين!! · نريد في الكنيسة مجموعة من هؤلاء الجبابرة الذين تخافهم الشياطين. ليتكم تستعرضون في تاريخ الكنيسة القديسين الذين كان لهم سلطان على الشياطين.. تذكروا قصة ذلك القديس الذي أتى شيطان لمحاربته، فربطه خارج القلاية.. تذكروا القديس ايسوذورس الذي قالت له الشياطين: اما يكفيك اننا لا نستطيع أن نمر على قلايتك، ولا على القلاية التي جوارك. وأخ واحد في البرية، جعلته بصلاتك يتعدى علينا النهار والليل؟! و انت يا أخى أن كنت تخاف الشياطين، اتستطيع أن تحسب نفسك من الجبابرة المحيطين بالعرش الذين لهم سلطان على كل قوة العدو؟! (لو 10: 19) هل تكون جبارا , ان أمتلك الشيطان إرادتك وكان يقدر أن يغريك بخطية ويستولى على نفسك؟! لا تظن أن الشيطان كريما في عطائه، يعطى بلا مقابل!! كلا فهو يعطيك ما تشتهيه في مقابل ان يأخذ كل ما عندك، وأسمى ما عندك: روحك وأبديتك.. ! الشيطان لا يقبل على نفسه ان يدخل في صفقة خاسرة. انه يأخذ دائما اكثر مما يعطى. أرباحه أكثر من مصروفاته.. وهكذا يفعل مع الذين يلجأون الى السحر مثلا.. · عجيبة هى صورة الملاك ميخائيل، وسيفه في يده، وهو يدوس على الشيطان بقدمه.. لاشك أنه أحد الجبابرة الذين حول العرش.. و انت، اتريد أن تكون جبارا في محاربة الشياطين؟ انك تكون كذلك , ان لم تكن الشهوة يحاربك الشيطان بها. ان الشيطان يتحسس حياتك الروحية، محاولا ان يعرف نقط الضعف فيك لكي يحلربك بها. انه يختبر الارض وصلابتها التي سيضرب فيها بمعوله. يرى أين توجد الأرض الرخوة واللينة التي يتخذها ميدانا لعمله فيشققها كما يشاء. اما الصلبة فلا يقترب منها. · هناك جبابرة وقفوا ضد الشيطان في قتالهم لأجل الفضائل خذوا فضيلة العفة مثلا. وكيف كان من جبابرتها يوسف الصديق، وسوسنة العفيفة وأمثالهما.. دانيال النبى والثلاثة فتية كانوا في قصر الملك، ورفضوا أن يأكلوا من أطيابه ومن خمر مشروبه (دا 1: 8)، بل ورفضوا معبوداته. ولم يخف دانيال من أن يلقى في جب الأسود (دا 6: 16) ولا الثلاثة فتية خافوا من إلقائهم في أتون النار (دا 3: 17). انهم الجبابرة لا يعرفون الخوف. كلهم قابضون سيوفا ومتعلمون الحرب. *الشهداء القديسون أيضآ كانوا جبابرة لا يعرفون الخوف. وقفوا أمام الأباطرة والملوك والولاة والحكام. وقفوا أمام الحرق والشنق والعصر والجلد والتمزيق والتعذيب وكل صنوف الاضطهاد، ولم يبالوا-كان إيمانهم وثباتهم أقوى من العذاب. هناك جبابرة آخرون في عالم النسك: في الصلاة والسهر والوحدة،فى العبادة وفي التجرد، مثل سكان البرية من المتوحدين والنسك والسواح.. أرسانيوس الجبار، كان يقف متجها للشرق، والشمس وراؤه وقت الغروب. و يظل ساهرا طول الليل حتى تظهر الشمس أمامه في اول النهار.. انه جبار. بينما آخرون لا يستطيعون أن يصمدوا في السهر، وحالما يحاربهم النوم يتركون صلاتهم. أين هؤلاء من الجبابرة الذين حول العرش, الذين مثلهم: القديس مكاريوس الاسكندرانى، الجبار في سهره. الذي تحدث عن حروبه من جهة السهر فقال: حوربت مرة بالنوم ونمت. فصممت أن أقاتل النوم. وبقيت 21 يوما لا أبق جفنا على جفن, حتى شعرت أن مخى قد نشف. جبابرة آخرون لم يسمحوا لأية قوة أن تفصلهم عن الرب. مثل القديس بولس الرسول الذي قال "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟.. اننى متيقن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلية،ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا (رو 8: 25 – 29) إن ملكوت السموات، لا يدخله إلا جبابرة الروح. + ولكننا للأسف الشديد،كثيرا ما نحاول أن نكون جبابرة على الناس، ولا نكون جبابرة في تعاملنا مع أنفسنا!! بينما يقول الكتاب " مالك روحه خير ممن يملك مدينة" (أم 16: 32) أنبا بولا كان جبارا في الوحدة. قضى ثمانين سنة لا يرى فيها وجه إنسان، ولا يتعزى بكلام الناس، إنما عزاؤه بالله وحده. * هناك أشخاص آخرون كانوا جبابرة في الصوم،منهم من عاش ثلاثين سنة لا تبصره الشمس آكلا. ومنهم من عاش عمره كله نباتيا، لا يأكل لحما طول حياته ومنهم من كان يطوى الأيام لا يأكل شيئا فيها ولا يشرب. هكذا عاش جبابرة الصوم. أما في جيلنا هذا فما أكثر الكنائس التي خفضت الأصوام أو كادت تلغيها، بحجة الإشفاق على الناس!! آباؤنا كانوا أيضا جبابرة في حفظ آيات الكتاب المقدس. كانت الآيات تجرى على ألسنتهم بمنتهى السهولة. لدرجة أن احد العلماء قال: "لو ضاع الكتاب المقدس، لأمكن جمعه من كتابات الآباء".. كانوا جبابرة في الصمود. لا يستطيع أحد أن يثيرهم … يوجد أشخاص ضعفاء، يثارون بسرعة. تثيرهم أية كلمة يظنون أنها تجرح مشاعرهم. بل حتى كلمات المديح والإعجاب، فتحرك فيهم محبة المجد الباطل. يثيرهم أي منظر جنسي.. اقل شيء يعتبرونه عثرة! مساكين هؤلاء – إنهم ليسو من النوع الذي يقف حول عرش الله.. ليسوا كالجبابرة الذين حول تخت سليمان. اننى أريدكم يا أخوتي أن تكونوا جبابرة في حروب الرب. لاشك أن الملائكة عندما تصف الكنيسة المقدسة، وما فيها من أبرار لم تهزهم مغريات العالم، ولم تتعبهم حروب الشياطين، يقف ميخائيل رئيس الملائكة، وفي يده قيثارة ذهبية وينشد مع ملائكته: "تخت سليمان حوله ستون جبارا.. " |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
جبابرة.. متعلمون الحرب.. قابضون سيوفًا.. من هول الليل (نش 3: 7، 8) جبابرة.. متعلمون الحرب، قابضون سيوفا.. من هول الليل (نش 3: 7-8) جبابرة الروح: الذين يحبون حياة الروح، ينبغي أن يكونوا جبابرة فيما يخوضونه من حروب روحية، ضد الشيطان وكل قواته الشريرة. يخيل إلي أنه حينما يرسل الشيطان واحدا من جنوده ليحارب أحد هؤلاء الجبابرة القديسين، يصرخ ذلك الشيطان في فزع: أتريد أن يحرقني بنار؟! لست أستطيع أن اذهب لمقاتلة هذا الإنسان الذي سيقابلني بسلاح الله الكامل.. بسيف الروح، وخوذة الخلاص، ودرع البر، وترس الإيمان.. بكلمة الله، وما يرفعه من صلاة وطلبة بكل مواظبة (أف 6: 13-18). إبعدوني عن محاربة أمثال هذا الجبار، فلست كفؤا له.. إنهم جبابرة، كلهم حاملون سيوفا، ومتعلمون الحرب. وفي استعداد كامل ليستل كل واحد سيفه من علي فخذه من هول الليل. وقد شرح القديس بولس الرسول هذه الحرب الروحية، ودعا إلي الإستعداد لها في رسالته إلي أفسس فقال: أخيرا يا أخوتي، تقووا في الرب، وفي شدة قوته. ألبسوا سلاح الله الكامل، لتقدروا أن تثبتوا ضد مكايد الشيطان. فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم.. بل مع أجناد الشر الروحية في السماويات.. من أجل ذلك أحملوا سلاح الله الكامل، لتقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير. وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا. فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق.." (أف 6: 10- 14). ومن أهمية هذه النصيحة الرسولية، يقرأ هذا الفصل من رسالة معلمنا بولس، في طقس رسامة الرهبان الجدد الذين يستعدون لخوض حرب روحية ضد الشيطان بكل حيله الرديئة، الماكرة والعنيفة. علي أن هذه النصيحة التي يقولها القديس بولس تصلح لجميع الناس في حياتهم الروحية. حاملون سيوفا: مادام الشيطان لا يترك اولاد الله في هدوء، بسبب حسده لهم علي سلوكهم الطريق الروحي، إذن ينبغي أن يكونوا ساهرين باستمرار ومستعدين لقتاله. وهم يحملون سيوفهم الروحية. فشيطان يحاول أن يضللك، تحاربه بسيف الحكمة. وإن أنتصرت عليه وحاربك بالكبرياء, تلاقيه أنت بسيف الإتضاع. وفي كل ما يقدمه لك من أفكار، تحاربها بسيف كلمة الله في إفراز، وأيضا بأقوال القديسين وخبراتهم في مقاتلة الشياطين. عموما يمكنك ان تستخدم سيف الصلاة ففيه قوة الله. وكذلك سيف الجهاد والتغصب، ففيه رفضك للخطية ومصارعتك ضدها. وتذكر قول المزور: "تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار. استله وأنجح وأملك" (مز 45: 3). وعبارة "سيفك علي فخذك" تعني الإستعداد. ليس هو سيف معلقا في خزانة الأسلحة، وإنما هو علي فخذك، كهؤلاء الجبابرة. تستطيع أن تستله في أي وقت، وتحارب حروب الرب في يقظة دائمة واستعداد.. فمثلا كلمة الله التي ترد بها علي كل حرب روحية، ليست هي في كتبك ومكتبك، إنما هي ذهنك، وفي ذاكرتك باستمرار، تستخدمها وأنت تتذكر قول داود النبي للسيد الرب "لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلتي" (مز 119).. إنها سيف علي فخذك.. إنك لا تسمح للخطية أن تحاربك، وأنت في حالة غفلة وتهاون. فاولاد الله: كل واحد سيفه علي فخذه، من هول الليل. هول الليل: والليل يشير إلي الظلام، كرمز إلي الخطية وحروبها الخفية، حيث لا نور ولا حرارة. فيكون هذا وقتا مناسبا لعدو الخير يهجم فيه. وقد يعني الليل وقت النوم، حيث لا يكون الإنسان منتبها لحرب تأتيه وهو غير منتبه لها وغير مستيقظ. هذا هو هول الليل، هول الخطايا التي تأتي في الظلام ولا تنتبه النفس لها، لأن البصيرة الروحية غير قوية. أما أولئك الجبابرة، فهم ساهرون، متنبهون، كل واحد سيفه علي فخذه من هول الليل. كالرعاة في قصة ميلاد الرب، الذين قيل عنهم إنهم: "يحرسون حراسات الليل علي رعيتهم" (لو 2: 8). لذلك لا تطمئن من جهة الحرب الروحية، بل تقلد سيفك علي فخذك. لا تهمل في احتياطاتك. لا تقل إنك الان في حالة قوة، وقد مرت عليك أسابيع لا تسقك خلالها!! فأنت لا تعرف متي يحاربك الشيطان، وفي أية خطية، وكيف؟! ليكن سيفك إذن علي فخذك من خوف الليل، من الحرب المجهولة في نوعها وفي موعدها. لتكن صلاتك باستمرار في قلبك وعلي لسانك. ولتكن كلمة الله في ذهنك وذاكرتك. ولتكن تداريبك الروحية سائرة في حزم كل حين. لا تلق سلاحك عنك.. بل كن قابضا علي سيفك من هول الليل.. ليتنا نكون من هؤلاء الحبابرة، القابضين علي سيوفهم، حتى يمكن أن يقودنا الله في موكب نصرته (2 كو 2: 14) متجاوبين مع نعمته. ليتنا نكون من أولئك الغالبين الذين طوبهم الرب وأعطاهم وعوده (رؤ 2، رؤ 3).. لا ننهزم في الحروب. وإن انهزمنا في معركة، ننتصر في المعركة التي تليها، قائلين مع النبي " لا تشمتي بي يا عدوتي. فإني إن سقطت، أقوم" (مي 7: 8) و"الحرب للرب" (1 صم 17: 47). " وليس عند الله مانع من أن يخلص بالكثير وبالقليل" (1 صم 14: 6). و الله قادر أن ينصرنا علي الرغم من ضعفنا.. غير أنه يجب أن تكون لنا خبرة بالحروب الروحية. فقد قيل عن أولئك الجبابرة القابضين علي سيوفهم إنهم: متعلمون الحرب: أي أن لهم دراية بالحروب الروحية. لا يجهلون حيل الشيطان، بل يعرفون أفكاره (2 كو 2: 11). يعرفون من أين تأتي الخطية؟ وما وسيلة مقاومتها؟ إن حاربك الشيطان بالكسل، تقاتله بالتغصب. وإن حاربك بالمجد الباطل، ترد عليه بتذكر خطاياك وضعفاتك. وإن حاربك باليأس، تتذكر مراحم الله التي لا تحصي. وإن حاربك بصعوبة الطريق. تذكر عمل الروح القدس، والمعونة الإلهية التي تمنحها النعمة. وأنت لست وحدك. أحد القديسين كان – إذا حاربه الشيطان بالمجد الباطل - يقول: ألعلي بلغت ما بلغه الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا؟! إنني إنسان خاطئ مهمل في روحياتي.. وإن قال له الشيطان: " أنت إنسان خاطئ، وأجرة الخطية هي موت".. يجيبه: "وأين مراحم الله الذي يغفر للخطاة؟!". فكانوا يتعجبون منه قائلين: "إن رفعناك، اتضعت، وإن وضعناك ارتفعت!!". إنه واحد من المتعلمين الحرب. يعرف نوع السلاح الصالح لاستخدامه في كل نوع من أنواع الحروب. الإنسان المتعلم الحرب, يعرف ضربات اليمين وضربات الشمال.. يعرف متى يصمت ومتى يتكلم؟ متى يأكل ومتى يصوم؟ يعرف الطريق الوسطي التي خلصت كثيرين. ومتي يقف في موقف سليم، بين الإفراط والتفريط. يقول القديس بولس الرسول "في كل شيء وفي جميع الأشياء، قد تدربت أن أشبع وأن أجوع. أن استفضل وأن أنقص" (في 4: 12). هناك أشخاص ليسوا فقط متعلمين الحرب، وإنما صاروا بالأكثر قادة في الحروب. يشرحون لغيرهم الطريق، ويرشدونهم فيه. القديس مار أوغريس له كتاب عن محاربة الأفكار، يشرح فيه أنواع الأفكار: التي من الله، والتي من النفس، والتي من الشيطان. ويشرح طريق الرد علي كل فكر خاطئ مستخدما آيات الكتاب. وثيؤفان الناسك له كتاب عن "الحروب الروحية". والقديس يوحنا الأسيوطي له مقالات عديدة في هذا المجال. وكذلك مار اسحق، والشيخ الروحاني لهما ميامر كثيرة تحت عنوان "رؤوس المعرفة " يشرحان فيها معرفة الطريق الروحي، ويعلمان أولادهما الحرب. والقديس الأنبا أنطونيوس كان يعلم أولاده " الإفراز". أي التمييز والمعرفة، لكي يتعلموا الحرب. و في إحدي المرات قال لتلميذه القديس بولس البسيط الذي كان يسكن بجواره " اذهب واسكن إلي بعيدا في مغارة وحدك، لكي تختبر حروب الشياطين". والقديس يوحنا الرسول يكتب لنا ويقول " لا تصدقوا كل روح. بل إمتحنوا الأرواح هل هي من الله." (1 يو 4: 1). وكذلك القديس بولس الرسول نصح الناس ألا ينخدعوا بحيل الشياطين ومناظرهم. " لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلي شبه ملاك نور. وكان هذا هو عمل المرشدين الروحيين واباء الإعتراف: يجلس معهم المبتدئ لكي يتعلم الحرب، ويميز الأرواح، ويفصل الجداء من الخراف" (مت 25: 32). ويعرف صوت الله من صوت عالي (1 صم 3: 4- 10). بل يعرف أيضا الأحلام والرؤي: وهل هي من الله؟ أم من الشيطان؟ أم من مصدر اخر؟ ويعرف نوع السلاح الذي يستخدمه في كل حرب روحية.. الإنسان المتعلم الحرب، يتفادي السقوط. وإن سقط بسرعة. بل بسرعة يقوم. ولا يتكرر سقوطه. ويكتسب درسا من كل سقطة. كما قال أحد القديسين: "لا أتذكر أن الشياطين أطغوني في خطية واحدة مرتين".. والتعلم الحرب له خبرات في الحيلة الروحية. لقد درس الطريق وعرف علاماته ومعالمه. ويستطيع أن يرشد غيره في الطريق. الشيطان حيله كثيرة وماكرة. ولكنها مكشوفة أمام المتعلمين الحرب. إنهم لا يجهلون حيله، بل يدركونها من بعيد مهما لبست ثياب الحملان (مت 7: 15). يعرفون وسائله وطرقه وأساليبه. ويستنتجون مواعيد هجومه. كل خططه مكشوفة أمامهم. مخابراتهم الحربية تدرك كل أعماله, وتعرف كل جنوده. هؤلاء هم المتعلمون الحرب, الذين يربطون الشيطان ويطردونه. ولا يكون له موضع فيهم. و القديسون يتعلمون الحرب: لا بطول مدتها، وإنما بعمق خبرتها: يتعلمون الحرب بالحرب, وبالتدقيق والحرص، وبالمعرفة والحكمة. وبما يكشفه لهم الرب. وبما يمتصونه من روح الاباء والمعلمين والمرشدين, بكثرة المشورة. وبما يأخذونه من التأمل. وبما يمنحهم الرب من حكمة نازلة من فوق (يع 3: 17). |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟ (نش 1: 7) أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟ إنه نداء من النفس البشرية، التي بعدت عن حظيرة الرب، ولكنها ما تزال تحبه وتبحث عن طريقه.. فهى تناديه قائلة: أين ترعى؟ أين اجدك؟ أين الطريق إليك " يا من تحبة نفسى". أنا وإن بعدت عنك بالعمل لم أبعد عنك بالحب. ما أزال احن إليك، وأشتاق إلى الأيام التي عشتها معك، واسأل أين أنت؟ كيف أصل إليك؟ أين ترعى؟ وأين تربض وقت الظهيرة. وقت الظهيرة: " وقت الظهيرة "، عندما تشتد حرارة الحر، ولا تستطيع الطبيعة أن تحتمل، أين أجدك لتحمينى من ضربة الشمس بالنهار؟ هذه الشمس التي لوحتنى، فصرت سوداء، أين ظللك الذي يحمينى منها، لنه " تحت ظلك أشتهيت أن أجلس" (نش 2: 3). أنا أعرف أنك تحمى رعيتك في ذلك الوقت، فلا تضربها الشمس، فأين تربض وقت الظهيرة. إنها نفس بعيدة عن الله، ولكن تشتاق إليه.. هناك نفوس متمتعة بالرب ولذة عشرته، تقول في غمرة الحب الإلهى " شماله تحت رأسى ويمينه تعانقنى" (نش 2: 6)، أنا لحبيبى وحبيبى لى" (نش 2: 6)، " أنا لحبيبى وحبيبى لي " (نش 6: 3). وهناك نفوس أخرى بعيدة عن الرب، ولكنها غير مهتمة، لا تشتاق إلى الله، وإن اشتاقت إلى الله، وإن اشتاقت يدركها اليأس.. أما هذه فتشتاق إلى الرب، على الرغم من الخطية. هذه النقطة تجعلنا لا ندين الآخرين، ولا ننظر في إشمئزاز إلى البعدين عن الرب. فهناك نفوس تحبه على الرغم من بعدها. مثل بطرس الذي أنكر الرب ثلاث مرات، ومع ذلك قال له " انت يا رب تعلم كل شيء، انت تعلم انى احبك " (يو 21: 17). كذلك هذه النفس تقول " يا من تحبه نفسى". كيف تحبه وهى بعيده والرب يقول " من يحبنى يحفظ وصاياى". إن الخطية عندها قد يكون سببها الضعف، وليس عدم الحب. أين تربض وقت الظهيرة، عندما أحتاج إلى ظلك، انا الذي قد يفرحنى ظل يقطينه (يون 4: 6)، فكم بالأولى ظلك أنت؟! أولادك في وقت التجربة ولهيبها، أنت تظلل عليهم بجناحيك فيستريحون في كنفك. كيف أستريح أنا ايضا؟ هذه العذراء بعدت عن الرب بالجسد، ولم تبعد بالروح، بعدت بالعمل ولم تبعد بالعاطفة. الأخطاء التي تقع فيها دخيلة عليها، وليست في طبيعتها. إن طبيعتها على صورة الله ومثاله، لذلك تشتاق إلى الله بالطبع، وإن كانت تخطئ بالضعف وبالضغط الخارجى. حسن أن الإنسان في فترات فتوره وضعفه، يتذكر أيامه الجميلة الحلوة مع الله، ويقول له أين ترعى؟ أنت يا من ترعى الكل، ارعانى أنا أيضا معهم. هناك أشخاص في حالة الخطية يقطعون صلتهم بالله، ويبعدون عنه، ويهربون منه، فلا كنيسة، ولا صلاة، ولا إجتماعات، ولا أية واسطة من وسائط النعمة. وحجة الواحد منهم بأى وجه أكلم الله في خطيتى؟ مثال ذلك آدم الذي هرب من الله عندما أخطأ.. إختفى وراء الشجرة، وقال له " سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأنى عريان فأختبأت" (تك 3: 10). أين ترعى؟ أما هذه النفس ففى بعدها تبحث عن الرب: أين يرعى؟ نسمع إجابة عن هذا السؤال في آيات كثيرة من سفر النشيد تقول "الراعى بين السوسن" (نش 2: 16)، " حبيبى نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات ويجمع السوسن" (نش 6: 2). أنا عارف يا رب أنك نزلت إلى خمائل الطيب، وسط قديسيك. هؤلاء الذين لحياتهم رائحة ذكية، نشتم منهم رائحة المسيح. خميلة منهم اسمها " خميلة التأمل والعبادة " نزلت إليها. وأخرى اسمها " خميلة التعب والجهاد " نزلت إليها. وثالثة إسمها " خميلة الخدمة والسعى وراء النفوس الضائعة". وخمائل أخرى خاصة بالفضائل الجميلة. أنت يا رب وسط قديسيك، في خمائل الطيب ، ترعى في الجنات. كل قديس منهم عبارة عن شجرة موثقة ثمرا، تطرح ثلاثين وستين ومائة (مت 13: 23). ولكن ماذا عن شخص مثلى، يعيش في الأشواك؟ هل تنزل إلى أشواكه يا رب كما نزلت إلى الجنات وخمائل الطيب؟ أم هذا الإنسان لا نصيب له عندك، إذ ليس في حياته شيء من السوسن؟ أنا أومن يا رب أنك في بحثك عن الخروف الضال مشيت على الجبال والتلال والأشواك (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات).. أنا لست في مستوى الجنات وخمائل الطيب. ربما اصل إليها عندما أصطلح معك، وأتحول إلى خميلة طيب، وإلى غصن في شجرة مثمرة في جناتك. اما الآن، فكيف الطريق إليك! أين ترعى؟ يجيب الرب في محبته: أننى ارعى في كل مكان.. كنت في أتون النار، أرعى الثلاثة فتية، في أرض بابل. اهتممت بهم، فلم تحترق شعرة من رؤوسهم، ولم تدخل رائحة النار في ثيابهم، ولم ينزعجوا. ام ير الناس مع الثلاثة فتية شخصا رابعا شبيهاَ بأبن الآلهة؟! (دا 3: 25). لا تخف إذن يا حبيبى إن كنت في أتون النار، كم بالأولى إن كانت مجرد ضربة شمس وقت الظهيرة.. ! إننى أرعاك وسط النار. ولست أرعى فقط وسط السوسن. قيل عن يهوشع في سفر زكريا إنه " شعلة منتشلة من النار" (زك 3: 2). كاد يحترق وسط النار، ولكن يد الله الذي يرعى وسط النار انتشلته.. مبارك أنت يا رب، حتى الذين يقعون في النار ويشتعلون، لا تتركهم، بل ترعاهم هناك وسط النار، وتنتشلهم.. ! وليس وسط النار فقط، بل أيضا وسط الوحوش.. قال بولس الرسول " حاربت وحوشا في افسس". ووسط الوحوش قال له الرب " لا تخف. لا يقع بك أحد ليؤذيك" (أع 18: 10). إن الله يقوم بعمله الرعوى في جب الأسود أيضا، كما قام به في أتون النار، كما كان يرعى يونان النبى حتى وهو في بطن الحوت (يون 2)!! أتسأل أين ترعى؟ إننى أرعى حيثما توجد أنت. حيث الرعية هناك الراعى. كنت في أتون النار، في جب الأسود، في جوف الحوت، أنا معك، أرعاك، " لا أهملك ولا أتركك". " ها أنا معكم كل الأيام، وإلى إنقضاء الدهر". في وسط البحر الهايج، السفينة تلاطمه الأمواج، وتكاد تغرق. ولكن الرب أيضا يرعى وسط الأمواج، ينتهرها، وينتهر البحر والرياح، وينقذ التلاميذ (مت 14: 24 33).. الله كان يرعى في وسط البحر الأحمر، وفي البرية، وفي أرض السبى. أتسأل أين يرعى؟ هناك في قلبك.. إنه يبحث عنك، أكثر مما تبحث عنه. وفيما ترفع صوتك، هو يستجيب ومهما كنت مغتربا، هو يرعاك في أرض غربتك، كما رعى يوسف في أرض مصر، ودانيال وحزقيال في أرض السبى. كل الأرض هى له.. أين ترعى؟ سؤال تسأله نفس تريد الوصول إلى الله. هل أصل إليك بالمعرفة، بالقراءة، بالصلاة، بالطقس، بالألحان، بالأجتماعات؟.. أين ترعى؟ أين تربض وقتق الظهيرة؟ لقد جربت كل هذه الوسائل ولم أصل إليك! فما السبب؟ غالبا تكون قد طلبت الطريق، ولم تطلب الله الذي يوصل إليه هذا الطريق ّ طلبت العبادة والمعرفة ولم تطلب الله! كثير من الناس ينشغلون بالوسيلة عن الهدف! يصلون ويصومون ويرنمون ويقرأون، ولكن الله ليس في قلوبهم، وليس في أهدافهم. فاطلب الله وحده، حينئذ تجده.. يقول الرب للنفس التي تبحث عنه " إن لم تعرفى أيتها الجميلة بين النساء فأخرجى على أثار الغنم" (نش 1: 8). تتبعى آثار الغنم التي مشت قبلك في الطريق نحوى. القديس موسى الأسود، كان واحدًا من الغنم التي تاهت، ثم عرفت الطريق فتتبعى آثاره. كذلك أوغسطينوس وبلاجيوس، ومريم القبطية. هناك غنيمات سارت في طريق التأمل ووصلت، وأخرى في طريق الخدمة ووصلت.. كل طريق روحى تحبينه ستجدين آثار الغنم فيه، فتتبعيها. وسير القديسين لا تنتهى.. كما سلك هؤلاء، فلنسلك نحن أيضًا.. " إخرجى على آثار الغنم، ارعى جداءك عند مساكن الرعاة". قال لها جداءك ولم يقل خرافك، لأنها نفس خاطئة. ثم حولها إلى مساكن الرعاة، لأنه أقام قادة روحيين لشعبه.. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟ (نش 1: 7) قالت العروس للرب، الذي هو الراعي الصالح: " أخبرني يا من تحبه نفسي: أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟. فأجابها إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء, فأخرجي على أثار الغنم, وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة" (نش1: 7،8). أين ترعى؟هنا نجد نفسا تبحث عن الله, وتسأل عن طرقة, وتقول له: " أين أنت يا رب؟" إنني أبحث عنك؟ أين أجدك؟". العجيب إن هذه النفس التي تبحث عن الله، ليست باستمرار نفسا خاطئة، إنما هي نفس تحب الله وقد دعاها " الجميلة بين النساء". إنها تذكرني بداود النبي الذي قال الرب: " عرفني يا رب طرقك, فهمني سبلك,، أين تربض وقت الظهيرة؟ طلبت وجهك, ولوجهك يا رب ألتمس. لا تحجب عني".. هذا النداء. هو نفس نداء النفس التي في مفترق الطرق. أخبرني يا من تحبة نفسي, أين ترعى؟ أين أجدك؟ هل في البتولية أم في الزواج؟ في العمل أم في التكريس؟ في الخلوة أم في الخدمة؟ في الدير أم في العالم؟ أين تربض.. ؟ أين ألتقي بك. في الصلاة؟ في الصوم؟ في التداريب الروحية؟ في التناول؟ في الكنيسة؟ أين ترعى.. ؟ وقد تقول هذا الكلام النفس البعيدة عن الله. إنها تذكرني بأوغسطينوس الذي كان بعيدا لفترة طويلة، ثم أخذ يبحث عن الله، أين يجدة؟ هل بالعقل؟ بالفلسفة بالمنطق؟ أم بالإيمان, بالقلب؟ أين ترعى؟ فأجابه الرب: هناك في داخلك, تجدني. وأعترف أغسطينوس قائلا: نعم لقد كنت معي، ولكني من فرط شقاوتي لم أكن معك.. حقآ هناك أشخاص يسألون أين الرب. وهو معهم. كان المسيح مع تلميذي عمواس, ولم تكن عيونهما منفتحة لمعرفتة, كذلك ظهر لمريم المجدلية، وهي لا تزال تسأل عنة: أين هو. وقيل عن معاصري السيد وقت ميلادة أن " النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركة".. حقآ, كثيرآ ما تسأل الرب (أين ترعى), ويكون الرب في داخلنا ونحن لا ندري! ما أعجب قول المسيح لفيلبس " أنا معكم زمانا هذه مدتة, ولم تعرفني يا فيلبس"؟ وكذلك المولود أعمى قال له السيد " أتؤمن بأبن الله؟ فأجابه " من هو يا سيد؟. كان الرب يكلمه, وقد شفاه, ومع ذلك لم يكن يعرفه, ويسأل أين يرعى؟ (يو9). أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟لوط لم يقل للرب أين ترعى؟ وإنما إختار لنفسه مكانًا معشبًا يعيش فيه, لذلك ضاع منه كل شئ, بعكس إبراهيم الذي ترك للرب أن يختار له، فقال له " أترك أهلك وعشيرتك, وأذهب للأرض التي أريك إياها (تك 12: 1). سأذهب إليه يا رب, مادمت سترعاني هناك. نعم هناك " أباركك وتكون بركة, وبك تتبارك جميع قبائل الأرض" (تك12: 2, 3). حينما تسأل عن الله أين ترعى؟ يقول أحيانًا: هناك عند الجلجثة. ويرينا طرقًا ما كنا نظن إطلاقًا إنه سيرعانا فيها.. وكأنه يقول ليوحنا الحبيب: أتسألني أين أرعى.. هناك في المنفى في جزيرة بطمس, سأرعاك, وسأكشف لك بابًا مفتوحًا في السماء, وأريك العرش الإلهي والقوات السمائية, وما لابد أن يكون. وكأني بالثلاثة فتية قد سألوه أين ترعى؟ فقال لهم هناك في أتون النار.. وفرحوا بالأتون, وعندما ألقوهم فيه رأوا معهم رابعًا شبيهاُ بأبن الآلهة, يتمشى معهم في الأتون. وشعرة من رؤوسهم لم تحترق, ولا رائحة النار كانت في ثيابهم.. (دا 3). وبنفس الوضع كان جب الأسود بالنسبة إلي دانيال النبى. رعاه الله هناك، وأرسل ملاكة فسد أفواة الأسود. (جا 6). في إحدى المرات أثناء المجاعة, لم يقل إبرام للرب " أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟" بل ذهب من تلقاء نفسه إلي مصر يلتمس المعونة. وهناك أخذوا إمرأتة سارة, وكاد يضيع لولا تدخل الرب لإنقاذه.. ونفس الوضع عندما سكن بين قادش وشور وتغرب في جرار (تك 20: 1) دون أن يسأل هل يرعى الرب هناك فكانت النتيجة أنه وقع في تجربة ثقيلة, وأخذوا إمرأته سارة. لأن ذلك الموضع لم يكن فيه خوف البتة" (تك 20: 1). هناك عبارة جميلة في سفر النشيد، يقول فيها الرب: " تعال يا حبيبي لنخرج إلي الحقول, ونبيت في القرى".. هناك أريك حبي (نش2: 12). نعم هناك وليس في أي مكان أخر.. إذن يا رب فليكن لي كقولك سأذهب إلي الحقول وإلي القرى وإلي أقاصي الأرض, مادمت هناك ستريني حبك. سأدخل إلي أتون النار, وسأنزل إلي جب الأسود, مادمت أعرف أين ترعى.. سأسير بمبدأ " حيث قادني أسير" سأترك كل شيء من أجلك, وأتبعك حيثما كنت.. مثلما تركت رفقة بلادها وأهلها وذهبت وراء إسحق (تك24: 58), وكما يقول المزمور للنفس البشرية: أسمعي يا ابنتي، وأصغي, وإنسي شعبك وبيت أبيك, فأن الرب قد أشتهى حسنك, وله تسجدين (مز 45: 10،11). أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى, لأنك في مراع خضر تربضني, وإلي ماء الراحة توردني. ترد نفسي وتهديني إلي طرق البر (مز 23).. لقد التحقت نفسي وراءك فقل أين ترعى, وأنا سأتبعك حتى إن سرتُ في وادي ظل الموت لن أخاف شرًا، لأنك ستكون معي, هناك تريني حبك.. أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى أين تربض وقت الظهيرة؟ أين تربض وقت الظهيرة؟في وقت الظهيرة, حيث يريد كل إنسان أن يستظل, وأنا تحت ظللك أشتهيت أن أجلس, وأخشى من شيطان الظهيرة (مز 91: 6), وأتعب من هذا اللهيب, لأن الشمس قد لوحتني وقت الظهيرة. أحيانًا يستغيث الإنسان بهذه العبارة, أين ترعى؟ يقولها في أوقات الفتور والجفاف, وفترات تخلي النعمة الإلهية.. يشعر الإنسان إن نفسه ليست كما كانت قبلًا، لم تعد لهل الحرارة الأولى, ولا الصلة ولا الدالة الأولى, ولا الحب القديم, فتقول نفسه للرب: " لماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك" (نش1: 7) أين أيام شبابي الروحي, حينما كنت أقول" شمالة تحت رأسي ويمينة تعانقني".. أين الأيام التي كنت أصلي فيها بعمق وكلماتة حلوة في حلقي (نش2: 3), كالعسل والشهد في فمي. أيام كنت أرفع يدي, فتشبع نفسي كما من لحم ودسم (مز63: 4).. أشعر كما لو كنت ضللت الطريق, فاخبرني يا من تحبه نفسي: أين ترعى؟ أين تربض؟.. أريد يا رب أن أرجع إليك, فأخبرني أين ترعى؟ أنا بعيد عنك, ولكني أحبك, بعدت عنك سلوكًا, ولم أبعد عنك قلبًا "أنت تعلم يا رب كل شئ, أنت تعلم إني أحبك".. من الجائز أنني تركت نشاطي, وتركت ممارستي, وعباداتي، وخدمتي, ولكني لم أترك محبتك.. ربما تكون صورتي قد تشوهت, ولكن لا تزال تشتاق إلي شبهك ومثالك, أنا أحبك على الرغم من خطيئتي, ليتك تردني إليك, وتخبرني أين ترعى.. ربما تقول هذه العبارة "نفوس في السبي، قد جلست على أنهار بابل، ولكنها تبكي كلما تذكرت صهيون" (مز 137: 1). لم تعد تستطيع أن تسبح تسبحة الرب في أرض غريبة، قيثارتها على الصفصاف (مز 137: 2, 4). وهي تصرخ من عمق القلب, ومن عمق الرغبة, إستغاثة غريق إلي قارب النجاة, تقول اخبرني يا من تحبه نفسي, أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة.. أريد أن أدخل إلي هيكلك, إلي مذابحك, لكي تنضح عليَ بزوفاك فأطهر، وتغسلني فابيض أكثر من الثلج.. أين ترعى أيها الراعي الصالح؟ ضللت مثل الخروف الضال, فأطلب عبدك (مز 119: 176). أسرع وأعني, لأنه على ظهري جلدني الخطاة وأطالوا إثمهم (مز 129: 3).. أحاطوا بي مثل النحل حول الشهد, والتهبوا كنار في شوك (مز 118: 12).. في الطريق التي أسلك أخفوا لي فخًا (مز140: 5).. ولكنني مشتاق إليك, أريد أن أصل إليك, ولا أعرف.. ما أعجب الله ال1ي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع إليه, الذي كل من يقبل إليه، لا يخرجه خارجًا, إنه يقول لهذه النفس الباحثة عنه, على الرغم من إن الشمس قد لوحتها: إن لم تعرفي أيتها الجميلة بيت النساء, فأخرجي على أثار الغنم, وإرعي جداءك عند مساكن الرعاة.. عجبًا يا رب أن تسميها " جميلة " وهي خاطئة! أنا أسميها جميلة, ليس من أجل خطيئتها, وإنما من اجل توبتها.. من أجل سعيها وطلبها, من أجل عبارة أين ترعى؟ أخرجي على أثار الغنم: غنيمات كثيرة, سرن في طريقي من قبل, ووصلن إليَ, أثار هذه الغنيمات لا تزال ثابتة على الطريق, فتتبعيها (ومن سار على الدرب, وصل). وما أثار الغنم, سوى سير القديسين.. وقت ترك لنا القديسين نموذجًا في كل مجال لكي نحتذي به. متشبهين بأعمالهم. وقد يجد إنسانًا نفسه بلا مرشد في الطريق, والذين بلا مرشد يسقطون كأوراق الشجر.. هذا الإنسان لا ييأس، هناك أثار الغنم إن تعذر وجود الرعاة.. لم يطلب إلينا الرب أن نقبع في مكاننا, وندرس سير القديسين, إنما أن نخرج ونسير متبعين أثارهم. لا تجلسي في مكانك متأملة وتقولي ما أجمل الغنيمات القديسات, وما أحلى طرقها, كلها بر وكمال, وتعب وجهاد.. ! كلا, بل أخرجي على أثار الغنم, وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة.. جداءك هي خطاياكِ, إذهبي إلي مساكن الرعاة, تجدي هناك حلًا وحلًا. أخرجي على أثار الغنم, لا تبتدعي طريقًا جديدًا, ولا تنقلي التخم القديمة, وإنما إتبعي ما رسمه الآباء من طرق.. " إن بشرناكم نحن وملاك من السماء, بغير ما بشرناكم به, فليكن أناثيما" (غل1: 8). " إن كان احد يأتيكم ولا يجئ بهذا التعليم, فلا تقبلوه في البيت, ولا تقولوا له سلامًا, لأن من يسلم عليه, يشترك في أعماله الشريرة (2يو1: 11). إذن ماذا نفعل. ؟ " كونوا متمثلين بيَ, كما أنا أيضًا بالمسيح" (1كو11: 1). نعم أيتها الجميلة " أخرجي على أثار الغنم". وإن لم تسيري على أثار الغنم, لا تكوني جميلة بين النساء. " إن لم تعرفي أيتها الجميلة.. فأخرجي على أثار الغنم". ترينا هذه العبارة, أنة حتى النفس الجميلة, هناك أشياء لا تعرفها, هناك جداء قد اختلطت بغنمها, تحتاج أن تذهب بها إلي مساكن الرعاة. لا تعتمدي على نفسك, فهؤلاء الرعاة قد أقامهم الرب, لأجلك. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المُفسِدة للكروم (نش 2: 15) ما هى الثعالب الصغار المفسدة للكروم التي قصدها سفر النشيد، وما هى هذه الكروم أيضًا؟ الكرمة هي الكنيسة، وهى النفس البشرية: وفى هذا يقول الرب في سفر اشعياء النبى "غنوا للكرمة المشتهاة. أنا الرب حارسها، اسقها كل لحظة.. احرسها نهارًا وليلًا" (أش 27: 2، 3). ونحن نقول عنها للرب في ألحاننا "هذه الكرمة التي غرستها يمينك " وهى المقصودة بمثل الكرم والكرامين في (مت 21)، و في (مت 20) وأيضًا في (إش 5). الثعالب الصغار تفسد ثمر الكرمة، أي أنها تفسد ثمر الكنيسة، وثمر الروح في النفس البشرية (غل 5: 22، 23). الثعالب الصغار ربما تكون خطايا تبدو بسيطة. لا يلتفت إليها الإنسان، ولا يشعر بخطورتها.. مجرد أفكار ومشاعر قد لا تتخذ في بادئ الأمر صورة الخطية، ولا هى تتعب الضمير. وفى هذا المجال أحب أن أقول لكم قاعدة هامة وهى: إن الخطوة الأولى المؤدية إلى الخطية، ربما لا تكون خطية. مثال ذلك علاقة نجسة جدًا، بدأت بصداقة بريئة، وربما بريئة جدًا! ثم تطورت ودخلها الشيطان، فصارت خطية. الأمر إذن يحتاج إلى تدقيق واحتراس.. هذه الخطايا الصغيرة هي التي قيل عنها في المزمور "يا بنت بابل الشقية، طوبى لمن يكافئك مجازيتك التي جازيتنا.. طوبى لمن يمسك أطفالك، ويدفنهم عند الصخرة" (مز 137). بابل حيث كان السبي، هي رمز لسبى الخطية. فيقصد أن يقول: طوبى لمن يمسك الخطية، و هى في حالة الطفولة، قبل أن تنمو، ويدفنها عند الصخرة. ويقول الكتاب "و الصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4). أي يتخلص من الخطية بمعونة من السيد المسيح. خطورة هذه الخطايا الصغيرة، أن الإنسان قد لا يهتم بها! يهملها، يتركها فتكبر وتتطور، دون أن يحسّ، وقد يحسّ متأخرًا، عندما تكون قد أفسدت الكروم.. ! إن ثقبًا صغيرًا في مركب، قد يؤدى – بمرور الزمن – إلى كارثة غرق. لأجل هذا يقول داود النبي "الهفوات من يشعر بها؟! من الخطايا المستترة يا رب أبرئنى" (مز 19). إذن هناك خطايا مستترة، وهفوات يشعر بها الإنسان. هناك خطايا لا تبدو خطايا، ولا يأبه بها من يرتكبها. من هنا ينبغي أن نتعلم حياة التدقيق. حياة التدقيق: لماذا شبهت هذه الخطايا بالثعالب، وبالثعالب الصغار؟ لأن الثعلب مشهور بالمكر. ولأن الثعلب الصغير يمكنه أن يتسلل من أية فجوة صغيرة في أسوار الكرم. كما أن الكرامين قد لا يحسبونه خطرًا. وفي نفس الوقت هو قادر على إفساد الكروم.. إنك قد تهتم بالخطية الكبيرة الظاهرة، وتستعد لمقاومتها. بينما الخطايا (الصغيرة) تعبر بك دون أن تلتفت إليها. ولهذا فإن السيد له المجد أظهر خطورة وأهمية كلمة رقا، وكلمة يا أحمق، (مت 5: 22). وأظهر أيضًا أهمية مجرد النظرة الخاطئة ولو أدى الأمر إلى قلع العين بسببها (مت 5: 28، 29). ولهذا فإن الآباء الروحيين علموا أبناؤهم أن يدققوا كثيرًا. قالت القديسة سارة: إن فمًا تمنع عنه الخبز، لا يطلب لحمًا، و إن منعت عنه الماء، لا يطلب خمرًا. أحد الرهبان وهو سائر في الطريق، عثر على قطعة نطرون. فلما جاء إلى الأنبا أغاثون ومعه قطعة النطرون، قال له القديس"إن أردت أن تعيش مع أغاثون، ففي المكان الذي وجدت فيه هذا النطرون أرجعه". إلى هذا الحد كان الآباء يعلمون أولادهم أنهم حتى لو وجدوا قطعة حجر ملقاة في الطريق لا يأخذونها. مار اسحق دقق على وجوب الحشمة داخل الغرفة الخاصة.. فالشخص الذي يجلس في غرفته الخاصة بحشمة وأدب، لا يترك جزءًا من جسمه معرى ومكشوفًا بطريقة غير لائقة، هذا الشخص لا يمكن أن يفقد الحشمة في الخارج أمام الناس. إذ قد تعودها فيما بينه وبين نفسه حقًا إن الذي يدقق في الشيء الصغير، لا يمكن أن يقع في الكبير. ولعل هذا هو الذي قصده المثل الإنجليزى السائر: Take care of the penny، and the pound will take care of itself. أي اهتم بالمليم (البنس)، و حينئذ الجنيه يهتم بنفسه. لا تظن أن الشيطان في بادئ الأمر سيطلب أن تفتح له بابًا واسعًا يدخل منه إلى قلبك. إنه لن يطلب سوى ثقب إبرة.. إنه يبدأ بهذا الثقب، ثم يتسع، حتى يملك القلب كله. إن الشيطان لا يكشف أوراقه، لا يكشف حيله. لا يطلعك على الخطوات المقبلة في خططه، أو عن مدى تطور الخطوة الأولى التي تبدو بسيطة. لا يأتيك في كل مرة كأسد زائر، يلتمس ابتلاعك (1 بط 5: 8)، و إنما قد يأتي كثعلب صغير، يتسلل إلى كرمتك دون أن تشعر. فما هى إذن هذه الثعالب الصغار المفسدة للكروم؟ أمثلة مِن الثعالب الصغار: قد تكون مثلًا، قليلًا من الكسل والتهاون والتراخي: تصحو من النوم. وبدلًا من أن تبدأ يومك بالصلاة، تتراخى قليلًا. تؤجل الموضوع دقائق قليلة، ريثما تفيق.. في هذه الدقائق يكون الشيطان قد قدم لك مجموعة من الأفكار تشغلك. إما أن تعطلك عن الصلاة، وتجعل فكرك يطيش فيها.. لماذا نقول إذن في صلواتنا "يا الله، أنت إلهي، إليك أبكر، عطشت نفسي إليك"؟ (مز 63: 1) لأجل الشوق إلى الله، وأيضًا لنهرب من هذا الثعلب الصغير، ثعلب التراخي والكسل.. مثال آخر: خطية الكبرياء، قد تبدأ هى الأخرى بثعلب صغير: قد تبدأ برغبة في الدفاع عن النفس، وربما يتطور الدفاع عن النفس إلى إدانة الغير.. و قد تبدأ بأن يتعود الإنسان الإجابة على سؤال وجه إلى غيره، وبأن يسمح لنفسه بمقاطعة غيره في الحديث ولو بأدب واستئذان. وقد تبدأ بابتسامة رضى وشعور بالرضى عند سماع كلمة مديح.. كل مشاكل يوسف الصديق بدأت بشيء بسيط، بأنه كان يتحدث عن أحلامه في مسمع أخوته، ولو ببساطة.. هذا الحديث كان يثير فيهم عوامل الحسد والغيرة. وما لبثت هذه الغيرة أن نمت، ووصلت إلى درجة من الخطورة أدت إلى إلقائه في البئر، وإلى بيعه كعبد. إن السيدة العذراء بحكمتها وروحانيتها نجت من هذا الثعلب الصغير الذي أفسد العلاقة بين يوسف وأخوته. إذ أنها ظلت صامتة في كل ما أحاط بها من رؤى وعجائب وأمجاد. لم تتحدث إطلاقًا، وإنما "كانت تحفظ كل تلك الأمور متأملة بها في قلبها" (لو 2: 51). إن قصة يوسف تقدم لنا ثعلبًا صغيرًا آخر، ربما لم يلتفت إليه إطلاقًا أبو الآباء يعقوب. وهو القميص الملون الذي خص به ابنه يوسف، و سبب كثيرًا من الغيرة لاخوته. هذا الثعلب الصغير (القميص الملون). يلعب دورًا خطيرًا في علاقتنا: ربما تقابل مجموعة من الناس فتحييهم تحية عادية، بينما تخص واحدًا منهم بابتسامة خاصة، وعبارة اشتياق، وتنتحي به جانبًا لتحدثه على انفراد.. وقد يحدث كل ذلك تأثيره فيما بعد.. لذلك ينبغي أن نسلك بتدقيق، ونراعى شعور الكل. و نترك ثقبًا ولو ضئيلًا في معاملاتنا للناس، يتسلل منه ثعلب صغير، فيفسد الكروم.. قد يكون الثعلب الصغير المفسد للعلاقات، هو مجرد إهمال –و لو عن غير قصد – إهمال لمجاملة ينبغي أن تؤدى في إحدى المناسبات فرحًا وحزنًا. ويستغل الشيطان ذلك لإحداث مشكلة، كان يمكن أن تعالج بزيارة وبخطاب وبمكالمة تليفونية. فإن كانت الصغائر – وما تبدو صغائر – ينبغي أن نحترس منها، فكم وكم بالأكثر الكبائر من الخطايا والأغلاط!! |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
صوت حبيبي (نش 2: 8) تقول العذراء في سفر النشيد "صوت حبيبي. هوذا آتٍ طافرًا علي الجبال، قافزًا علي التلال" (نش2: 8). تمييز صوت الرب:أول ما تطلبه من النفس الروحية أن تميز صوت حبيبها. تعرفه من بين كل الأصوات كلها. وكما قال الرب عن الراعي الصالح "الخراف تتبعه، لأنها تعرف صوته. وأما الغريب فلا تتبعه، بل تهرب منه، لأنها لا تعرف صوت الغرباء" (يو10: 4، 5). إن النفوس المشتاقة إلي الرب، تعرف صوت حبيبها. ومجرد سماعه يشعلها بالحب.. إذا كان صوت مريم العذراء لما طرق أذني أليصابات، امتلأت أليصابات من الروح القدس، وارتكض الجنين بابتهاج في بطنها (لو1: 41). فكيف بالحري صوت الرب في آذان قديسيه.. كثيرون سمعوا صوت الرب، ولكنهم لم يميزوا.. صموئيل الطفل، سمع صوت الرب مرتين، وهو يظنه صوت عالي الكاهن. ولكنه ميزه أخيرًا، فقال "تكلم يا رب فإن عبدك سامع" (1صم3: 9، 10).. ومريم المجدلية وهي مضطربة لم تستطع أن تميز صوت الرب، وظنته صوت البستاني، ولكنه أعلن لها صوته، فصرخت في حب "ربوني" الذي تفسيره "يا معلم" (يو20: 15، 16). إن صوت الرب مميز من الكل، معلم بين ربوة.. صوته في حبه. وعاطفته، وعمقه، وتأثيره "لأن حلقه حلاوة، وكله مشتهيات" (نش5: 16). كان صوت الرب يتميز بجاذبية خاصة.. تصوروا متي العشار، وقد سمعه مرة يقول له "اتبعني"، فترك مكان الجباية، والمال، والمسئوليات، فتبعه (مت9: 9) وهو لا يدري إلي أين يذهب، كما فعل أبونا إبراهيم لما سمع صوت الرب (عب11: 8). وسمعان واندراوس، لما سمعا صوته يقول لهما "هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس، تركا الشباك والسفينة للوقت، ولم يستطيعا أن يقاوما جاذبية ذلك الصوت.. (مت4: 18-20). وهكذا كلمة واحدة قالها لزكا رئيس العشارين، جعلته يقول "هوذا نصف أموالي أعطيه للفقراء. وإن كنت قد ظلمت أحدًا في شيء أرده خمسة أضعاف" (لو19: 8). أحد الذين وصفوا المسيح في فترة تجسده، قال: كان نظره قويًا، لا يستطيع أحد أن يطيل النظر إلي عينيه بل يخفض بصره. وكان صوته عميقًا ومؤثرًا وحلوًا.. إنه "صوت حبيبي" للأسف الشديد لم تكن هناك أجهزة تسجيل للصوت Recorders في أيام المسيح بالجسد حتى تحتفظ لنا بهذا الصوت، مدي الأجيال، تتذوقه الآذان. في الواقع ليس كل إنسان مستحقًا لسماع ذلك الصوت. إن الذين كانوا مع شاول الطرسوسي في طريق دمشق، حينما ظهر له السيد المسيح قال عنهم بولس الرسول إنهم رأوا النور ولكنهم لم يسمعوا الصوت الذي كلمني" (أع22: 9). إنهم لم يكونوا مستحقين: لذلك نقول في أوشية الإنجيل، ونحن نستعد لسماع كلمات الرب "اجعنا مستحقين أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة" فنطلب أن نستحق.. "صوت حبيبي"، كلم الآباء منذ البدء، بأنواع وطرق شتي. أول صوت سمعناه خالقًا، قال الرب: ليكن. فكان.. ثم سمعنا صوته معلمًا يقول لأبوينا الأولين ماذا ينبغي لهما أن يفعلا، ويقدم لهما الوصية، ثم سمعنا صوت الله مباركًا، أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض".. وظل صوت الله يتابع الإنسان في أغراض شتي.. المهم أن نميز صوت الرب أيًا كان مصدره. القديس الأنبا أنطونيوس سمع آية من قراءات الكنيسة، سمعها كل الشعب معه، ولكنه أدرك أنها صوت الله إليه هو بالذات فذهب ونفذها وباع كل ماله وأعطاه للفقراء.. وسمع صوت امرأة تقول له "إن كنت راهبًا، فاذهب إلي البرية الجوانية، لأن هذا المكان لا يصلح لسكني الرهبان". فأدرك أن هذا صوت الله إليه علي لسان المرأة، ونفذه.. متي؟ وكيف؟ هل تسمع أنت صوت الله وتميزه؟ سواء سمعته في الكنيسة، وفي الشارع، ومن فم صديق وزميل، ومن فم من يوبخك، ومن أي مصدر كان.. ؟ ربما مرض يصيبك، ويصيب أحد أحبائك، يكون هو صوت الله إليك، أن تتوب وأن تستعد.. ربما ضيقة من الضيقات، تجربة، مشكلة، تسمع فيها صوت الله إليك، كما حدث لأخوة يوسف، لما وقعوا في يد حاكم مصر، ذكرهم صوت الله بأخيهم الذي استرحمهم فلم يرحموه (تك42: 21).. إنه صوت الله، قد يتكلم في أذنيك وأعماق قلبك: تسمعه في داخلك يقول لك: لا تفعل هذا الأمر. حذار من هذا الطريق.. كفاكم قعودًا بهذا الجبل فتميزه وتقول: هذا صوت حبيبي، يرشدني إلي طريقه.. كل إنسان في الدنيا وصله صوت الله، حتى الخطاة.. قايين أول قاتل، جاءه صوت الله "أين هابيل أخوك"؟. (تك4: 9). ويهوذا الخائن جاءه صوت الرب أيضًا موبخًا. "أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!" (لو22: 48) وظل صوت الرب يرن في أذنه، حتى أرجع المال وقال "أخطأت إذ أسلمت دمًا بريئًا" (مت27: 4). أحيانًا، يأتي صوت الرب في حب وفي رفق ورسالة عزاء: مثلما قال ليشوع "كما كنت مع موسى عبدك، أكون معك. لا أهملك ولا أتركك" (يش1: 5). وكما جاء هذا الصوت لأبينا يعقوب وهو هارب من عيسو "ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلي هذه الأرض" (تك28: 15). صوت حبيبي جاء إلي التلاميذ والسفينة مضطربة، ليقول لهم "أنا هو، لا تخافوا". وهو يأتي في المزمور لكل نفس ليقول "الرب يحفظك، الرب يظلل علي يدك اليمني، فلا تضربك الشمس بالنهار ولا القمر بالليل. الرب يحفظ دخولك وخروجك" (مز121). لاحظوا أن العروس سمعت صوت حبيبها آتيا من بعيد: لم يكن أمامها يكلمها، وإنما كان لازال يبدو بعيدًا قافزًا علي الجبال، طافرًا علي التلال".. ولكنها أحست به من بعيد، فقالت "صوت حبيبي. هوذا آت.. " بالإيمان، تسمع صوت الرب، ولو من بعيد، لابد سيأتي. سيأتي سريعًا، قافزًا علي الجبال، ولو في الهزيع الأخير من الليل. يأتي ليمسح كل دمعة من عيونكم.. بالإيمان تري ما لا يري، وتوقن بالأمور غير الموجودة كأنها موجودة، وتسمع صوت الرب ولو كان بعيدًا.. لماذا صوت الرب؟صوت الرب يأتي للمعونة، وللتعزية، وللبركة، وللمكافأة.. وقد يأتي أحيانًا للعقوبة "مخيف هو الوقوع بين يدي الرب" (عب10: 31).. جميل أن تسمع صوت الرب وهو يقول "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل، فسأقيمك علي الكثير. أدخل إلي فرح سيدك" (مت25: 21، 23). ولكن صوت الرب قال للغني الغبي "في هذه الليلة تؤخذ روحك منك. فهذا الذي أعددته لمن يكون؟ (لو13: 20). وكان صوتًا مخيفًا.. إن كنت تحب الرب، حينئذ ستفرح بسماع صوته. عذراء النشيد فرحت بصوت الرب، لأنها كانت تحبه. وآدم قبل الخطية كان يفرح بالرب وصوته. ولكنه لما أخطأ وسمع صوت الرب، خاف واختبأ وراء الأشجار. ولما كلمه الرب أجاب "سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فأختبأت" (تك3: 10). فهل إذا جاءك صوت الرب يجدك عريانًا؟! وخائفًا! ما أصعب قول الرب لآخاب علي لسان إيليا النبي "في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت اليزرعيلي، تلحس دمك أيضًا" (1مل21: 19).. بل ما أصعب صوت الرب في اليوم الأخير حينما يعلن حكمه علي بعض الخطاة فيقول "الحق أقول لكم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (مت7: 23).. علي أن صوت الرب قد يأتيك معاتبًا، لتغير طريقك: كما قال لشاول الطرسوسي، شاول شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع9: 4).. أو كما قال لإيليا "مالك ههنا يا إيليا؟" (1مل19: 9).. أو كما قال ليونان "هل أغتظت بالصواب؟" (يون4: 4).. إن حبيبك يعاتبك أحيانًا، لكي ترجع إليه "هلم نتحاجج يقول الرب" (أش1: 18). إن عاتبك فلا تقس قلبك.. قد يكلمك الله "بصوت منخفض خفيف". وقد يأتيك صوت الرب، والرب ممسك بسوط.. لأجل منفعتك. والأبرار يفرحون بصوت الرب علي الدوام، ويجدون متعة في سماع كلامه، ويقولون مع المرتل "فرحت بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة. وجدت كلامك كالشهد فأكلته".. وإن كنت تخشي صوت الرب إليك، فتب، لأنك بالتوبة، سيتحول حزنك إلي فرح بالرب.. سيأتي لك صوت الرب، في وقت قد لا تتوقعه.. ذلك لأن ملكوت الله لا ياتي بمراقبة. موسى النبي أتاه صوت الله وهو سائر في البرية، فكلمه من العليقة دون أن يتوقع (خر3). وهكذا جاء صوت الرب لصموئيل الطفل، ولإرمياء الصبي، دون أن يتوقعاه (1صم3).. إجعل إذنيك مفتوحتين لسماع صوت الرب، وافرح بصوته الحلو، ونفذ كلامه، واعتبره حبيبًا لك. وكلما سمعت صوته قل له مع عذراء النشيد "صوت حبيبي".. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
هوّذا آتٍ طافرًا على الجبال (نش 2: 8) على الجبال: إن عذراء النشيد -بالكشف الإلهي- أمكنها أن ترى تجسد المسيح، قبل مجيئه بأكثر من ألف سنة. فقالت " صوت حبيبي. هوذا آتٍ، طافرًا على الجبال.. " فأية جبال تراها كانت تعني؟ 1- أولها جبال يهوذا، وهو في بطن العذراء: إذ يقول الإنجيل إن مريم العذراء، لما قال لها الملاك " وهوذا أليصابات نسيبتك هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها. وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرًا" (لو 1: 36) حينئذ قامت مريم في تلك الأيام، وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا، وسلمت على أليصابات" (لو 1: 39، 40). وكان الرب يسوع حينئذ جنينًا في بطنها، وهي على جبال يهوذا. لذلك لما صار سلام مريم في أذني أليصابات، أمتلأت أليصابات من الروح القدس، وأرتكض الجنين في بطنها (لو 1 42، 44). مستقبلًا هذا الذي أتاه طافرًا على الجبال.. 2- جبل قسقام في مصر: وذلك أثناء الهروب إلى مصر، حسب أمر الملاك ليوسف النجار (مت 1: 13). وكان آخر المطاف في مصر هو عند موضع الدير المحرق في جبل فسقام، حيث بارك الرب هذا الجبل وكل أرض مصر التي عبر بها 3- جبل التجربة (مت 4): ويمكن أن ندعوه أيضًا جبل الانتصار، إذ قضى الرب " أربعين يومًا يُجَرب من الشيطان. وكان مع الوحوش. وصارت الملائكة تخدمه" (مر 1: 12). والتجربة الثالثة كانت على جبل عال حيث رأى " جميع ممالك الأرض ومجدها (مت 4: 8) مزدريًا بها جميعًا ومنتصرًا على كل حيل إبليس، فأستطاع بهذا أن يقول لتلاميذه " ثقوا، أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 23) وقال عنه القديس بولس الرسول إنه " مُجرب في كل شيء مثلنا، بلا خطيه" (عب 4: 15) وأيضًا " لأنه فيما هو تألم مُجربًا، قادر أن يعين المُجربين" (عب 2: 18). كان على جبل التجربة تعزية لنا في تجاربنا. وتشجيعًا لنا في الانتصار على تجاربنا. 4- على جبل العظه (مت 5): كما كانت تعاليمه هكذا عاليه ومرتفعه عن كل تعليم بشري، لاق بها أن نقول على جبل عالٍ. وفي هذا يقول القديس متى في بداية العظة على الجبل " ولما أبصر الجموع صعد إلى الجبل.. وفتح فاه وعلمهم قائلًا: طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات.." (مت 5: 1 – 3). وهكذا قيل عن سمو هذه العظات التي قالها الرب على الجبل " فلما أكمل يسوع هذه الأقوال، بهتت الجموع من تعليمه. لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة" (مت 7: 28، 29). وكثيرًا ما كان الرب يُعلم على الجبال. 5- على جبل التجلي: وقيل في ذلك " أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا. وصعد بهم إلى جبل عالٍ منفردين. وتغيرت هيئته قدامهم. وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا، يتكلمان معه.. ، (مت 17: 1 – 3) (مر 9: 1 – 3) ويكمل القديس متى الإنجيلي هذه المعجزة المبهرة بقوله " إذا سحابه نيره ظللتهم، وصوت من السحابة قائلًا: هذا هو أبني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا" (مت 17: 5) ويذكر هذا إنجيل مرقس أيضًا (مر 9: 7). كما ورد ذلك في إنجيل لوقا كذلك (لو 9: 34، 35). ويقول القديس بطرس الرسول عن الرب يسوع: " لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد؟؟؟؟ هذا هو أبني الحبيب الذي أنا به سررت. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلًا من السماء، إذ كنا معه على الجبل المقدس" (2بط 1: 17، 18). كان جبل التجلي عظيمًا هكذا، إذ عبر عن لاهوت الرب ومحبة الآب له. لذلك لاق به أن يدعى " الجبل المقدس " ويذكر بين الجبال الهامة التي طفر عليها الرب. 6- جبال الصلاة والتأمل: ما أكثر ما كان السيد الرب يختار الجبل مكانًا للصلاة والتأمل والخلوة مع الآب. يقول عنه القديس متى الرسول " وبعد ما صرف الجموع، صعد إلى الجبل ليصلي" (مت 14: 23). ويقول القديس مرقس الرسول".. صرف الجمع. وبعد ما ودعهم، صعد إلى الجبل ليصلي" (مر 6: 46). ويقول القديس لوقا " وفي تلك الأيام، خرج إلى الجبل ليصلي. وقضى الليل كله في الصلاة لله" (لو 6: 12). ويقول أيضًا " وكان في النهار يعلّم في الهيكل. وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون (لو 21: 37). حقًا إن جبل الزيتون كان من أهم الجبال في أثناء فترة تجسد الرب على الأرض. ومن العبارات المؤثرة في إنجيل القديس يوحنا الحبيب، قوله " فمضى كل واحد إلى خاصته. أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون" (يو 7: 53)، (يو 8: 1). 7- جبل الجلجثة: وأهم آخر الجبال التي وصل إليها الرب في تجسده على الأرض. هو جبل الفداء الذي فيه سفك دمه الطاهر عنا لأجل خلاصنا. لأنه لا يوجد حب أعظم من هذا أن يضع احد نفسه لأجل أحبائه (يو 15 : 13). وعن صلب الرب يقول إنجيل متى إنهم " أتوا إلى موضع يقال له جلجثه وهو المسمى موضع الجمجمة " (مت 27: 33). ويذكر مرقس الرسول هذه الجلجثة أيضًا (مر 15: 22) ويقول القديس لوقا " ولما مضوا به إلى الموضع الذي يدعى جمجمة صلبوه هناك.." (لو 23: 33). ويقول القديس يوحنا " فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يُقال له موضع الجمجمة. ويُقال له بالعبرانية جلجثة، حيث صلبوه وصلبوا أثنين آخرين معه.." (يو 19: 17، 18). 8- جبال أخرى: جبال أخرى في حياة تجسد المسيح على الأرض، ما أكثرها، بعضها خاصة بمعجزاته والبعض بتعليمه من على هذه الجبال.. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
تعال يا حبيبي، لنخرج إلى الحقل (نش 7: 11) هكذا قيل في سفر النشيد: أنا لحبيبي وإلي اشتياقه. تعال يا حبيبي لنخرج إلي الحقل ولنبت في القري. لنبكرن إلي الكروم لننظر هل ازهر الكرم؟ هل تفتح الفعال؟ هل نور الرمان؟ هناك أعطيك حبي" (نش7: 10- 12). أنا لحبيبي:لست للعالم، ولست للمادة، ولست لأي شيء أخر، بل أكثر من هذا أنا لست لذاتي، أنا لحبيبي... إنه لون من تخصيص النفس لله، تكريسها له... وهي عبارة تكررت كثيرًا من سفر النشيد "أنا لحبيبي وحبيبي لي" (نش6: 3)، ولقد وهبته الحياة كلها، لأنه صاحبها، وقد اشتراها بدمه، فلم تعد لي، وإنما له. وقبل شرائها بدمه، هو صاحبها، لأنه خالقها من العدم. فلتكن مكرسة له... الله هو الذي أعطاك هذا الوجود والكيان، وهذه الحياة، فأصبحت له. تذكر باستمرار أنك لحبيبك الذي خلقك وافتداك. وهو الذي سيبقي معك إلي الأبد، أما العالم فسيبيد وشهوته معه (1يو2: 17).. وإن لم تستطع أن تكرس حياتك كلها للرب، فعلي الأقل يمكنك أن تكرس محبتك وقلبك. "أنا لحبيبي، وإلي اشتياقه" (نش7: 10)، أنه يشتاق إليك، إلي نفسك. ينظر إلي قلبك، ,ويقول في شوق "ها هو موضع راحتي إلي أبد الأبد ههنا أسكن لأني أشتهيته" (مز132: 14). الله مسرته في بني البشر شوقه أن يسكن وسط شعبه... نوعان من الحب:الحب لله علي نوعين: احدهما مظهره الجلوس مع الله، في حب، في عبادة، في صلاة في تأمل في شركة جسده ودمه. والنوع الثاني هو أن تظهر محبتك لله بالخدمة: تحب ملكوته وكنيسته وأولاده. وتظهر محبتك بأن تدعو الناس إلي محبته... قرأنا في إنجيل يوحنا أن الرب قال لسمعان بطرس "أتحبني؟.. أرع غنمي" (يو21:15)، إن كنت تحبني حقًا إشترك معي في بناء الملكوت، وفي جذب الناس إليه. هل يوجد حب أعظم من حب الملائكة لله. هؤلاء الملائكة قيل عنهم إنهم "أرواح خادمة، مرسلة للخدمة، لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب1: 14)، وإنها حالة حول خائفيه وتنجيهم (مز34: 7). أنت أيضًا ملاك، أرسلك الله للخدمة، لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص. صدقوني، أن الدعوة للخدمة هي دليل علي تواضع الله... الله يستطيع أن يقوم ببناء المكلوت وحده. ليس هو محتاجًا إلي مواهب الإنسان أو إلي مجهوده، فمواهب الإنسان ومجهوده هما أيضًا عطية من الله. إن الله من تواضعه يشركنا مع في العمل، ويقول "تعال ياحبيبي، لنخرج إلي الحقل" وهو أيضًا يرفع معنوياتنا باشراكنا معه في العمل... أنا يا ابني أستطيع أن أعمل العمل كله وحدي، ولكنني أريد أن أشعرك بأنك تستطيع أن تعمل شيئًا، أريد أن أفرحك بعمل النعمة فيك، أريد أن تفرح معي بنجاح أخوتك وخلاصهم، وتكون شريكًا لي في هذا العمل الروحي. تعال يا حبيبي، لنخرج إلي الحقل. والحقل يرمز باستمرار إلي الكنيسة، إلي مكان عمل الله... يقول الكتاب عن الرب "خرج الزارع ليزرع"، خرج إلي الحقل، يلقي بذار النعمة. فتعال نخرج معاَ إلي الحقل. إنها تعزية كبيرة أن نخرج مع الله، ولا نخرج بمفردنا. لو كنا نعمل وحدنا، لكان العمل يبدو صعبًا علينا. ولكننا هنا ندخل في شركة الروح القدس. يعجبني أن أتأمل منظر كل خادم، كل واعظ وكل كاهن، سائرًا في طريق الخدمة إلي جوار الله، يده في يده، يعملان معًا. كما قال بولس عن نفسه وعن أبولس "نحن عاملان مع الله" (1كو3: 9). فتعال يا حبيبي، لنخرج إلي الحقول، ونبيت في القري. جميل أن نلحظ اهتمام الرب بالقري. المدينة مزدحمة بالخدمة وتستهوي الناس بإمكانياتها، أما القرية فمحتاجة إلي الخدمة.. لذلك قيل عن السيد المسيح إنه كان "يطوف المدن والقري، يعلم في مجامعها، ويكرز ببشارة الملكوت.." (مت9: 35). وعندما أقول القري، لا أقصد مجرد الريف. ففي مدينة عظيمة كالقاهرة، توجد أحياء لها طابع القري، فقيرة، وأحياء عمال وصناع، وأحياء شعبية.. محتاجة. تبدو كجزء من المدينة، ولها طابع القري! يعجبني في قصة الخليقة، أن الله بعد أن خلق الجنة، وضع فيها آدم، لكي يعمل فيها ويحفظها (تك2: 15). لم يكن آدم يعمل ليأكل، فالرزق كان وفيرًا، أكثر من احتياجه، ولكنه كان يعمل لأن العمل مفيد له روحيًا وجسديًا. الذي يعمل ربما يحاربه شيطان واحد. أما الذي لا يعمل فتحاربه شياطين كثيرة لا يوجد أصعب من الفراغ، ولا أشد من حربه. "وعقل الكسلان معمل للشيطان" كما يقولون. الذي لا يعمل، تتعبه الأفكار، وقد تشغل ذهنه بما لا يليق. فمادام العمل لازمًا. تعال أعمل معي، ولنخرج معًا إلي الحقل. في هذا العمل الروحي، سيمتلئ عقلك بالأفكار الروحانية، ويمتلئ قلبك بمحبة الله والناس. وستحيا في الروحيات، في جو نقي... تأكد أنك سوف تستفيد من الخدمة أكثر مما تفيد غيرك. لذلك نحن نعتبر الخدمة من الوسائط الروحية التي تنمي حياة الإنسان: تأكد أنك ستأخذ بركة من الخدمة. إنها دعوة لكل إنسان أن يعمل في الملكوت. لا يوجد أحد ليس له عمل في بناء الملكوت... الكنيسة هي جسم المسيح، وأنت عضو فيه. تؤثر وتتأثر. تأكد أنك لو امتلأت بالمحبة لوجدت ذاتك تخدم تلقائيًا. العجيب في عبارة النشيد، أنها دعوة للخدمة (علي الجاهز). "لنبكرن إلي الكروم.. لننظر هل أزهر الكرم؟ هل نور الرمان؟ إذن هناك حقل، وكروم، ورمان. وأنت قد دعيت لتعمل في ما لم تتعب فيه. في بدء تدريب التلاميذ علي الخدمة. قال لهم الرب في قصة هداية السامرة "الحقول أبيضت للحصاد. أنتم دخلتم علي ما لم تتعبوا فيه" (يو4: 35، 37) وهكذا الدعوة في النشيد... آباؤنا الأول تعبوا، غرسوا وسقوا، وعملوا في أراض جرداء لم تكن فيها حقول ولا كروم. ذهبوا إلي بلاد لا إيمان فيها، ولا كنائس، بل فيها مقاومات للإيمان. أما نحن، فالدعوة سهلة: تعال لنخرج إلي الحقل. النفوس المؤمنة موجودة، الأشجار نامية، ولكنها تحتاج إلي ري، إلي تسميد، إلي عناية، إلي افتقاد: لننظر هل أزهر الكرم، هل نور الرمان. فهل هذا القليل، لا نستطيعه أيضًا؟! إن كل عمل تعمله، تسبقك النعمة إليه، فتعده لك. تعد القلب والفكر لسماع الكلمة التي تقولها أنت، وتعمل في الإرادة لتتأثر بها، وحتي هذه الكلمة التي تقولها سأعطيك أنا إياها. ثم أذهب معك إلي الحقل لنري هل أزهر الكرم.. تعال معي، لا تضيع وقتك في العالميات. كفاك صيدًا للسمك، اترك شباكك، وتعال لنصطاد الناس. أي شرف أعظم من هذا، أن ترافق الله في رحلاته الرعوية، وتكون شريكًا للروح القدس في عمله؟! تعال، لتعمل معي. سأتكلم علي لسانك، سأعطيك الفكرة، سأعمل فيك وبك. ستكون مجرد متفرج تنظر كيف يزهر الكرم وكيف ينور الرمان. هناك أشجار إن لم نروها ونسمدها، ستموت، فاقبل الدعوة واخدم، "وإن سمعتم صوته، لا تقسوا قلوبكم" (عب3: 7، 8) إنها دعوة للتكريس، دعوة للخدمة، دعوة للعمل لأجل أخوتك. تعال لكي نبيت في القري، نقضي النهار في العمل، والليل في الصلاة "لنبكرن في الكروم". نبكرن إليها، قبل أن تلوحها الشمس، قبل أن تقفز عليها الثعالب الصغار المفسدة للكروم. لا يكفي أن نغرس الكروم وإنما يجب أن نفتقدها أيضًا. هناك أعطيك حبي:هناك في الخدمة، في التعب، في التبكير، في محبتك لأخوتك في بنائك للملكوت. هناك أعطيك حبي. أتريد حبي. أخرج معي. لن أعطيك حبي في جبل التجلي وحده، بل في بستان جثسيماني وفي جبل الجلجثة. لن أعطيك حبي في مكان الجباية، ولا في سفينة الصيد، إنما هناك وأنت تتبعني. إن الله يحدد أماكن لقياه، حيث يعطينا حبه. نحن لا نفرض عليه مكانًا ولا وضعًا، بل هو يحدد. أعطي حبه ليوحنا في جزيرة بطمس، وأعطاه للثلاثة فتية في أتون النار، ولدنيال في جب الأسود. هناك أشخاص يظنون أنهم لا ينالون محبة الله إلا في حياة الخلوة و التأمل. وهنا يدعونا الله إلي الحقول، وفيها يعطينا حبه. جميل أن الله هو الذي يعطي هذا الحب، يسكبه فينا بالروح القدس (رو5:5). فلنصل أن نوهب هذا الحب، ولنلح في هذه الطلبة... "أعطني يا رب أن أحبك. أملأ قلبي من محبتك". سليمان طلب هذه الحكمة، وهي أعظم من العظمة والمال، وأعطاه الله إياها (1مل3: 9-12).. وسقط سليمان (1مل11: 4). ولكن المحبة لا تسقط ابدًا (1كو13: 8). مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها (نش8: 7). فاعطنا يا رب أن نحبك. لنخرج إلي الحقل:الحقل يرمز إلي ميادين الخدمة الروحية، أو يرمز إلي العالم كله الذي نعمل في كرازته (مت13: 38). والزارع هو الرب نفسه أو رسله وخدامه "أنا غرست، وأبولس سقي، ولكن الله كان ينمي" (1كو3: 6). والسيد المسيح بعد أول إيمان أعده في السامرة، قال لتلاميذه "ارفعوا أعينكم وأنظروا الحقول، إنها قد أبيضت للحصاد، والحاصد يأخد أجرة ويجمع ثمرًا للحياة الأبدية.."أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه" (يو4: 35- 38) "إذن عبارة تعال يا حبيبي نخرج إلي الحقل"، معناها تعال نعمل معًا في خدمة الناس، نتعب من أجل خلاص الناس... تعال نخدم معًا، تعال لتعمل في شركة الروح القدس، وتشترك مع عمل النعمة، والإنسان لا يخدم وحده، لأن الرب قد قال "بدوني لا تقدرون إن تعملوا شيئًا" (يو15: 5). في كل مرة تخرج إلي الخدمة، ناد علي الرب قائلًا "تعال يا حبيبي نخرج إلي الحقول". أنا بدونك لا أستطيع شيئًا، سأتكلم ولكنك أنت الذي تضع الكلمة في فمي، وأنت الذي تعطي الكلمة قوة ومفعولًا. إن لم تذهب معي، لن أخرج وحدي إلي الحقل. هناك طريقان يصل بهما الإنسان إلي الله. ويتمتع به:(أ) طريق التأمل: في الجلسة الهادئة مع الرب عند خمائل الطيب. حيث يقول النشيد "حبيبي نزل إلي جنته، إلي خمائل الطيب" (6: 2)، هناك عند قدمي المسيح، مع مريم تسمع النفس وتتأمل، وتتمتع بالرب، في الهدوء، في السكون، في الوحدة، في حياة الصلاة، وحياة التأمل. (ب) أما الطريق الاخر فهو الخدمة، الخروج إلي الحقول، والمبيت في القري. وفي الخدمة سيأخد الإنسان من الرب كما يأخد من حياة التأمل، لأن النشيد يقول في الخروج إلي الحقول " هناك أعطيك حبي"... الملائكة أيضًا علي نفس النوعين: فيهم الذي يقف أمام الله مسبحًا قائلًا "قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت" مثل جماعة السارافيم (أش 6). وفيهم الملائكة الحالة حول خائفيه وتنجيهم، الذين قال عنهم الرسول "أليس جميعهم أرواحا خادمة، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب1: 14). فإن كان الملائكة يعملون في الخدمة، أفلا نعمل نحن، لكي تكون مشيئة الله كما في السماء كذلك علي الارض؟! تعال يا حبيبي، لنخرج إلي الحقول، فإن كثيرين محتاجون إلي العمل الدائب الدائم، وكيف يسمعون بلا كارز؟! (رو10: 14). تعال فإن المحبة تدفعنا أن نذهب إلي الحقول، وأن نبيت في القري، لكي نفتقد أخوتنا.."ومن يعرف أن يعمل حسنًا ولا يفعل، فتلك خطية له" (يع4: 17). تعال يا حبيبي، لنخرج إلي الحقول، فإن الحصاد كثير والفعلة قليلون (مت9: 37). تعال، لأنه لا يوجد عمل اسمي من العمل لأجل خلاص أنفس مات المسيح لأجلها، ولا يوجد عمل أشرف من العمل مع الله. تعال نشترك مع الروح القدس في عمل الخلاص، تعال لنعمل مع الله: الله يعمل فينا، ويعمل بنا، ويعمل معنا، لنكون سفراء لله، خدامًا له نبني ملكوته، وننفذ مشيئته، ونرعي أولاده، ونقربهم إلي قلبه.. نجول نصنع خيرًا (أع 10: 38)، ونخلص علي كل حال قومًا (1كو9: 22). تعال يا حبيبي، لنخرج غلي الحقول، ولنبت في القري. تعال يا حبيبي، لنذهب إلي أخوتك المنسيين والضائعين "والذين ليس لهم أحد يذكرهم. تعال نعمل عمل الملائكة الأرضيين والملائكة السمائيين "المرسلين للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص". ليس عمل الملائكة قاصرًا علي التسبيح، فإن يوحنا المعمدان الذي كان يهيئ الطريق قدام المسيح دعي ملاكًا. ورعاة الكنائس السبع دعوا ملائكة (رؤ2، 3)... الاهتمام بخدمة القري: تعال يا حبيبي نذهب إلي الحقول "ونبت في القري" إن الله يبدي هنا اهتمامًا خاصًا بالقري، لا نذهب إليها فقط، بل نبيت فيها، لأنها أكثر احتياجًا، لنباشر عمل الرب هناك: هل أزهر الكرم، هل نوَّر الرمان... |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
إجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعِدك (نش 8: 6) كلمة خاتم هنا معناها ختم. فيكون القلب مختوما به، وكذلك يكون الساعد (الذراع) مختوما، مثلما قال الرب للمدينة المقدسة " نقشك علي كفي" (أش 49: 16). عبارة الختم علي القلب تعني الحب والعاطفة. و الختم علي الساعد تعني العمل الجاد. فالمساعدة مشتقة من الساعد. و الختم علي كليهما يعني العاطفة التي تعبر عن ذاتها بالعمل. فلا يكفي فقط أن تحبني، بل أن تكون يدك معي أيضا، تعمل معي. ومن جهة التأمل في هذه الأية: يمكن أن تؤخذ كأنها موجهة من الإنسان إلي الله، ومن الله إلي الإنسان، ومن إنسان إلي إنسان غيره (أي في العلاقات البشرية). https://st-takla.org/Pix/Symbols/www-...04-in-Hand.jpg فإن كانت لك محبة من نحو الله والناس، ينبغي أن تكون المحبة في قلبك، وأيضا في عملك (في ساعدك). وإن كان سفر النشيد قد تكلم عن الحب، فلم يقصد به مجرد الحب في القلب " حبيبي لي، وأنا له" (نش 2: 16) بل قيل أيضا " شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (نش 2: 6). أي أن الساعد مشترك مع القلب. هنا الحب والحنان معا. فالمحبة ليست مجرد عواطف وكلام. بل قال الرسول " لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1 يو 3: 18). الأم تحب أبنها، طفلها رضيعها، هو خاتم علي قلبها. وفي نفس الوقت هي تحمله وتحتمله، وتغذيه وترعاه وتنظفه وتداويه. هو خاتم علي ساعدها. و الأب يحب أولاده. محبتهم في قلبه. ولكنه يشتغل ويصرف عليهم (هم في ساعده). و لنتناول هذه الأية من جهة الله ومحبته للأنسان. لقد أحبنا الله " أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهي" (يو 13: 1). هنا المحبة في القلب. ولكنها في الساعد أيضا، في كل أعمال الرعاية، وكذلك في الفداء " هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد. لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16). *إذن علي الصليب، كان الحب في القلب، وفي الساعدين المبسوطين وفي كل أنواع الرعاية، ظهر عمليا الحب الذي في القلب.. أحب الله الشعب المضطهد من فرعون، فظهرت يده القوية في تخليصهم منه: في الضربات العشر، ثم في شق البحر الأحمر. وبساعده اهتم بهم في البرية، بهدايتهم، وبإتزال المن والسلوى من السماء، وبتفجير الماء من الصخرة.. أحب دانيال الملقي في الجب، هذا عن القلب. وماذا عن ساعده؟ يقول دانيال: إلهي أرسل ملاكه , فسد أفواه الأسود" (دا 6: 22). وبنفس الوضع مع الثلاثة فتية: تمشي معهم في النار، ولم يجعل لها سلطانا عليهم (دا 3). أحب يوسف الصديق، فجعله إنسانا ناجحا، وزوده بموهبة تفسير الأحلام، وأخرجه من السجن ليكون " رئيسا علي كل أرض مصر" (تك 45: 8). وظهر قلب الله وساعده، فيما أجراه من معجزات. كانوا خاتما علي قلبه في قول الكتاب " لما أبصر الجموع تحنن عليها" (مت 9: 36) (مت 14: 14) (مر 6: 34). وفي معجزة الخمس خبزات والسمكتين، في قوله " إني أشفق علي الجموع.. لئلا يخوروا في الطريق" (مت 15: 32). ولم يكتف بالإشفاق، بل أعطاهم ليأكلوا وإشبعهم.. وأرملة نايين الباكية لموت ابنها وحيدها " لما راها الرب، تكنن عليها" (لو 7: 13). هذا من جهة القلب. أما عن ساعده، فأقام ابنها ودفعه إلي امه.. و ساعده أيضا يظهر في معجزات الشفاء، إذ كانوا يقدمون له المرضي، فيضع يديه علي كل واحد فيشفيهم" (لو 4: 40). *قلبه وساعده يظهران أيضا في أعمال المعونة والإنقاذ. وبهذا يتغني داود النبي في المزمور فيقول " لولا أن الرب كان معنا حين قام الناس علينا، لابتلعونا ونحن أحياء.. مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم. نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر ونحن نجونا عوننا من عند الرب.." (مز 124). أحب لعازر. وقيل " بكي يسوع". ولما راه اليهود يبكي، قالوا " أنظروا كيف كان يحبه" (يو 11: 25، 16). ولم يكتف بحب القلب، بل أقام لعازر. هنا ساعده.. *قلبه وساعده ظهرا أيضا في أعمال المغفرة. لا شك أن مغفرة الله للخطاة تدل علي محبته، وأنهم خاتم علي قلبه. ومن أجمل الأمثلة هنا، معاملته لزكا العشار، الذي كان أيضا خاتما علي ساعده، فدخل إلي بيته، ولم يبال بانتقاد اليهود الذين تذمروا لدخوله إلي بيت رجل خاطئ. بل أكثر من هذا أنه دافع عن زكا وقال "إذ هو أيضا ابن إبراهيم " لذلك صرح قائلا " اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت" (لو 19: 9). مثال اخر محبته لتوما الذي شك في قيامته. وهكذا ظهر له، ومد ساعده وقال لتوما " هات أصبعك إلي هنا، وابصر يدي.. ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا " وهكذا فعل أيضا في أزالة شكوك كل تلاميذه (لو 24: 36 – 43). وظهرت محبته للموأة المضبوطة في ذات الفعل، أنه مد يده وكتب علي الأرض (غالبا خطايا المتامرين عليها). ونجاها منهم قائلا لهم " من كان منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر" (يو 8: 7). كذلك مع الخروف الضال: لم يكن فقط خاتما علي قلبه، بل أيضا ذهب وبحث عنه حتى وجده. وامتد ساعده فأخذه " وحمله علي منكبيه فرحا" (لو 15: 5). وهكذا فعل أيضا مع الدرهم المفقود (لو 15: 8). *قلب الله وساعده ظهرا أيضا في أعمال الرعاية: إنه ليس فقط يحب غنمه، بل أيضا " يبذل نفسه عن الخراف" (يو 10: 11) بل يقول أيضا " وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلي الأبد. ولا يخطفها أحد من يدي" (يو 10: 28). لماذا؟ لأنها " خاتم علي ساعده". ولأنها خاتم علي ساعده، لا يجعلها معوزة شيئا، بل " في مراع خضر يربضها، وغلي ماء الراحة يوردها. يهديها إلي سبل البر" (مز 23). وهكذا يقول " أنا أرعي غني وأربضها.. واطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح.." (حز 34: 15، 16). أليست هذه أعمال ساعده؟.. ومن عمل ساعده في أعمال الرعاية، قوله إذا وقع خروفك في يوم سبت، ألا تقيمه؟ (مت 12: 11) ز هذا يقودنا إلي نقطة أخري هي: *قلب الله وساعده في عمل التوبة والخلاص: إننا خاتم علي قلبه " يريد أن الجميع يخلصون، وإلي معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4). ولا يسر بموت الخاطئ، بل أن يرجع ويحيا" (حز 18: 23).. ولكنه لم يكتف هنا بأن نكون مجرد خاتم علي قلبه، بل جعلنا أيضا خاتما علي ساعده. وكيف؟ بأن أرسل إلينا الأنبياء والوحي والوصايا. وكلف رسله بخدمة المصالحة، ينادون لنا " أن اصطلحوا مع الله" (2 كو 5: 20). وبالإضافة إلي هذا، منحنا النعمة وعمل روحه القدوس "يبكتنا علي خطية" (يو 16: 8) ويذكرنا بكل ما قاله الرب لنا (يو 14: 26). وأرسل إلينا ملائكته " كأرواح خادمة، مرسلة للخدمة، لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 1: 14). اه يا رب، أنا أعرف أنك جعلتني خاتما علي قلبك، إجعلني أيضا خاتما علي ساعدك، وساعدني بكل قوتك علي خلاص نفسي. لا تتركني.. من جهة البشر: تكلمنا عن الله – تبارك اسمه – وكيف أنه جعلنا خاتما علي قلبه وخاتما علي ساعده. وبقي أن اسأل: هل يفعل البشر هكذا في علاقتهم مع الله؟ كلنا نقول إننا نحب الله، وقد جعلناه خاتما علي قلوبنا. فهل جعلناه أيضا خاتما علي سواعدنا؟ وهل يظهر هذا في حياتنا العملية؟ أمثلة توضح كيف يكون الله خاتما علي سواعدنا، ولا يكون كذلك: *كان السيد المسيح خاتما علي قلب بطرس، حينما قال له بطرس " ولو أنكرك الجميع لا أنكرك " " لم شك فيك الجميع، فأنا لا أشك" (مت 26: 33) (مت 26: 35) " أنا مستعد أن أذهب معك إلي الموت وإلي السجن" (لو 22: 33). ولكنه لم يجعل السيد علي ساعده، حينما أنكره ثلاث مرات، وسب ولعن وقال " لا أعرف الرجل" (ت 26: 74). كان علي ساعده (و إنما بطريقة خاطئة) حينما سئل سيفه دفاعا عنه وقطع أذن العبد (يو 18: 10) وحينما جاهد من أجله فيما بعد. وقال " ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس " (أع 5: 29) وأيضا حينما صلب بسب إيمانه به، كان الرب خاتما علي قلبه، وخاتما علي ساعده. *أيضا باقي التلاميذ كان الرب خاتما علي قلوبهم (مت 26: 35) ولكنه لم يكن خاتما علي سواعدهم حينما هربوا وقت القبض عليه (مت 26: 56) ثم أصبح الرب خاتما علي قلوبهم وسواعدهم بعد حلول الروح القدس عليهم (أع 2). *أيضا الذين أنكروا الرب في عصر الاستشهاد ثم عادوا فتابوا، كان الرب خاتما علي قلوبهم، ولم يكن خاتما علي سواعدهم وقت إنكارهم. *أما الشهداء والمعترفون، فكان الرب خاتما علي قلوبهم وعلي سواعدهم.. وكذلك أيضا كل أبطال الإيمان، الذين جاهدوا واحتملوا بسب إيمانهم. عناصر في جعل الله خاتما علي سواعدنا: 1-في عمل الرعاية وبناء ملكوته: قال السيد الرب لبطرس " أتحبني.. ؟.. أرع غنمي.. أرع خرافي" (يو 21: 15، 16). أي إن جعلتني خاتما علي قلبك، فاجعلني خاتما علي ساعدك برعاية أولادي.. كإنسان يقول للرب: أنا جعلتك خاتما علي قلبي. والدليل علي ذلك إنني أحمل أولادك علي ذراعي.. ينطبق هذا علي كل بناة الملكوت، كل الرسل والمعلمين الحقيقيين. 2-كل الذين يتعبون في الخدمة من أجل الله. مثلما قال بولس الرسول " جاهدت الجهاد الحسن.. حفظت الإيمان" (2 كو 11: 23). وكما قال لتلميذه تيموثاوس " اعكف علي الكلمة" " عظ، وبخ، انتهر، بكل أناة وتعليم " (2 تي 4: 2). 3-يحفظ الوصايا، وحياة القداسة. قال الرب " إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي" (يو 15: 10). " من يحبني " أي من يجعلني خاتما علي قلبه. يحفظ وصاياي، أي يجعلني خاتما علي ساعده، بأن يجاهد في تنفيذ أوامري. وبهذا يكون نقيا في قلبه. هنا الارتباط الوثيق بين الخاتم علي القلب والخاتم علي الساعد. قال القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولي " من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته، فحقا في هذا قد تكملت محبة الله" (1 يو 2: 4، 5). 4-تجعل الرب خاتما علي ساعدك، بالطاعة. *أبونا إبراهيم أبو الاباء، كان الرب خاتما علي قلبه، ومن أجله ترك أهله وعشيرته وبيت أبيه (تك 12: 1) ومضي وهو لا يعلم إلي أين يذهب (عب 11: 8). بهذا كلن الله علي ساعده أيضا، وبالأكثر حين أطاع الله في تقديم ابنه وحيده الذي يحبه إسحق، ورفع ساعده بالسكين ليقدمه محرقة لله (تك 22). *الملائكة يحبون الله، هو خاتم علي قلوبهم، وهم أيضا يجعلونه خاتما علي سواعدهم، يقول الكتاب عنهم " الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه" (مز 103: 20). 5-نجعل الله خاتما علي سواعدنا، بالاهتمام ببيته. *حينما سمع نحميا أن أورشليم مهدمة وأبوابها محروقة بالنار، يقول " لما سمعت هذا، جلست وبكيت، ونحت أياما وصمت وصليت" (نح 1: 4) هنا كان الله خاتما علي قلبه. ولكنه لم يكتف بهذا، بل كلم الملك أرتحشستا وذهب فعلا وبني سور أورشليم، واحتمل في سبيل ذلك الكثير. فكان الرب بذلك خاتما علي ساعده. *كذلك كان داود النبي، حينما أعد كل العدة لبناء بيت الله. *وكذلك كل من يصرف علي تعمير الكنائس والأديرة، مثلما كان يفعل المعلم إبراهيم الجوهري. وأيضا من يهب بيته ليكون كنيسة كما فعلت مريم أم مرقس الرسول (أع 12: 12). وكما فعل أكيلا وبريسكلا (رو 16: 5). وكما فعل نمفاس في لاوديكية (كو 4: 15) وغيرهم. كل هؤلاء، كان الله خاتما علي قلوبهم، وعبروا عن ذلك بأن وهبوا بيوتهم لله. وبرهنوا بذلك علي أن الله خاتم علي سواعدهم. وفي هذه النقطة لا ننسي ما فعلته: الملكة القديسة هيلانة. 6- أيضا جعلوا الرب خاتما علي سواعدهم: اولئك المتوحدون والنساك: بسب محبتهم للملك المسيح، كان خاتما علي قلوبهم. وعبروا عن كونه خاتما علي سواعدهم، بأن تركوا من أجله العالم وكل مشتهياته، احتملوا الام الوحدة ومتاعب الطبيعة، والنسك والصوم والسهر. 7- كذلك الذين يحيون حياة التسبيح والصلاة الدائمة. سواء كانوا من السواح والرهبان. ومثل طائفة السارافيم الذين يسبحون قائلين " قدوس قدوس قدوس.." (أش 6: 3). ومن يجاهدون في الصلاة وفي التأمل قدر طاقتهم، ويأخذون طقس مريم التي جلست عند قدمي المسيح، تسمع وتتأمل (لو 10: 39). 8-نضم إلي هؤلاء: الذي يعترف باسم الرب، ويجاهر باسمه. مثال ذلك يوسف الرامي في قصة صلب المسيح. كان التلاميذ خائفين، والبعض أنكر. أما هو فذهب إلي بيلاطس، وطلب جسد يسوع بعد موته (مر 15: 43). ولم يخف، وكفنه، ودفنه في قبرجديد له، معلنا إيمانه به، واهتمامه بجسده وهو ميت. 9-يجعل الرب خاتما علي ساعده أيضا، من له غيرة مقدسة في الدفاع عن أسم الرب. مثال ذلك الشاب داود, لما سمع جليات الجبار يجدف علي اسم الرب وشعبه. حينئذ أخذته الحمية , وقال: من هذا الأغلف حتى يعير صفوف الله؟.. لا يسقط قلب أحد بسببه (1 صم 17: 26، 32). ولم يبال بقوة الرجل وجبروته، وبأن الجيش كله خائف منه. بل ذهب ليحاربه وهو لا يملك سوي المقلاع وبعض حصوات ملساء! 10-أيضا يجعل الرب خاتما علي ساعده، من يضبط جسده ونفسه. و يقول مع القديس بولس الرسول " اقمع جسدي واستعبده" (1 كو 9: 27). من أجل محبة الله الذي جعله خاتما علي قلبه، يجاهد شهواته، ويصلب الجسد مع الأهواء (غل 6: 24). وبهذا يجعل الرب خاتما علي ساعده، لأنه يعمل من أجله مجاهدا نفسه، متأثرا بتوبيخ الرسول الذي قال " لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب 12: 4). 11-عبارة " اجعلني خاتم علي قلبك، كخاتم علي ساعدك " تشمل الإيمان والأعمال. " خاتم علي قلبك " تشير إلي الإيمان. و" خاتم علي ساعدك " تشير إلي الأعمال. ولا يمكن أن تستقيم حياة الإنسان الروحية بدون الاثنين معا. فالخاتم علي الساعد ثمر للإيمان , ثمر للخاتم علي القلب. 12-أحيانا تكون وسائط النعمة خاتما علي ساعدك، وليست خاتما علي قلبك! مجرد عمل خال من الحب. *كالعبادة التي تتحول إلي روتين، وتخلو من العاطفة والحب. وقد وبخ الرب أمثال هؤلاء قائلا "هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيدا" (مت 15: 8). فهو ليس خاتما علي قلبه. وبالمثل ما قاله الرب عن كل العبادات المرفوضة منه.. *وهكذا كان الفريسيون، يدققون كثيرا في تنفيذ الشريعة، بدرجة وصلت إلي الحرفية، كأنها خاتم علي سواعدهم! وفي نفس الوقت لم يكن الله خاتما علي قلوبهم. إذ كانت قلوبهم مركزة في الذات والعظمة! ونجد مثالا واضحا لذلك في قصة الفريسي والعشار. حيث قال الفريسي "أشكرك يا رب أني لست مثل سائر الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار. أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشر كل ما أقتنيه" (لو 18: 11 , 12). كان الله خاتما علي ساعده بكل هذه الأعمال.. ولكنه لم يكن خاتما علي قلبه. لذلك لم ينزل من الهيكل مبررا (لو 18: 14). *مثال اخر: من يدق صليبا علي ذراعه، ومن تعلق صليبا علي صدرها. و يكون كل منهما بعيدا عن محبة الله. فالله خاتم علي ساعده وليس خاتما علي قلبه! وبالمثل كل من هن مسيحي بمجرد الاسم.. في معاملات الناس: *هناك النخوة والشجاعة، في القلب وفي العمل. مثال ذلك موقف ابينا إبراهيم، لما سمع عن سبي لوط ضمن سبي سادوم. كان لوط خاتما علي قلبه، فلم يحتمل أن يتركه مسبيا، وتحركت النخوة في قلبه. ولكنه لم يكتف بهذا. بل يقول المتاب: فلما سمع ابرام أن أخاه سبي، جر غلمانه المدربين، ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر". وهكذا حارب ورد سبي لوط وسادوم (تك 14: 14 – 16). بهذا اشترك ساعده مع قلبه. *مثال اخر هم دفاع الجندي عن وطنه. بمحبته لوطنه، يكون وطنه خاتما علي قلبه. ولكنه يصبح أيضا خاتما علي ساعده، حينما يحمل هذا الجندي سلاحا ويدافع عن وطنه. وقد يجرح ويقتل من أجله. أمثلة أخري، يكون فيها الخاتم علي القلب، خاتما علي الساعد: *موقف بولس الرسول من أنسيموس عبد فليمون: كان خاتما علي قلبه، في قوله عنه " ابني أنسيموس الذي لودته في قيودي.. الذي هو أحشائي" (فل 10، 12) " لا كعبد فيما بعد، بل أفضل من عبد، أخا محبوبا ولاسيما إلي" (فل 16).. وكان أنسيمس خاتما علي ساعد القديس بولس، في قوله عنه لفليمون " إن كان ظلمك بشئ. ولك عليه دين، فاحسب ذلك علي. أنا بولس كتبت بيدي، أنا أوفي" (فل 18، 19). *مثال اخر في معجزة الخمس خبزات والسمكتين: لم يكتف السيد الرب باشفاقه علي الشعب وعدم صرفهم جوعانين. وإنما جعلهم خاتما علي ساعده، حينما بارك الخبز القليل وأعطاهم، فشبعوا وفضل عنهم.، إعطانا درسا حينما قال لتلاميذه "أعطوهم ليأكلوا" (لو 9: 13). إذن لا يكفي أن نظهر اشفاقنا علي الفقراء، وأن نكتب ذلك في مقالات. فالخاتم علي القلب وحده لا يكفي. إنما يجب أن نعطيهم ليأكلوا، بذلك يكونون خاتما علي سواعدنا أيضا. *كذلك أيضا في معاملاتنا للأطفال، لا يكفي فقط أن نحبهم، إنما نظهر حبنا لهم بما نقدمه من هدايا ومن ملاطفة. إن العاطفة خاتم علي القلب. أما العطاء فهو خاتم علي الساعد، وتعبير عملي عن الخاتم الذي علي القلب. و السيد المسيح لم يأمر تلاميذه فقط بأن يتلمذوا الناس ويعمدوهم ويعلموهم (مت 28: 19، 20). إنما قال لهم أيضا: " اشفوا مرضي، طهروا برصا، اقيموا موتي، اخرجوا شياطين" (مت 10 ك 8). وبذلك يكون الناس خاتما أيضا علي سواعدهم.. وقال كذلك " مهما فعلتموه بأخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي قد فعلتم" (مت 25: 40). *فمثلا ابن يحب أباه، ويجعله خاتما علي قلبه. يحب أيضا أن يجعله خاتما علي ساعده: بأن يحترمه، ويهتم به في شيخوخته ويعوله، كما فعل يوسف الصديق مع أبيه يعقوب في أرض مصر (تك 47). هناك أمثلة عكسية لا يتفق فيها الخاتمان معا (القلب والساعد) *يعقوب أبو الأباء: لاشك أنه كان يحب أباه إسحق ويحترمه ويجعله خاتما علي قلبه ويطلب بركته ويسعي إليها. لكنه لم يجعل أباه خاتما علي ساعده، حينما خدع أباه وكذب عليه وقال له "أنا عيسو بكرك" (تك 27: 19). *كذلك في قصة أصحاب أيوب، لما أتوا إليه في تجربته، أظهروا أنه كان خاتما علي قلوبهم حينما حزنوا عليه " ورفعوا أصواتهم وبكوا، ومزق كل واحد جبته، وذروا ترابا فوق رؤسهم.." (أي 2: 12). ولكنه لم يكن خاتما علي سواعدهم في كلامهم معه، حينما أخزوه، ولم يراعوا شعوره، بل اتهموه ظلما وأثاروه.. *نحن نحب ملكوت الله ونجعله خاتما علي قلوبنا، فهل جعلناه خاتما علي سواعدنا بالعمل لأجله. إننا نقول "مساكنك محبوبة أيها الرب إله القوات" (مز 84: 1). فكما أنها هكذا خاتم علي قلوبنا، هل جعلناها خاتما علي سواعدنا، بالخشوع فيها ودوام التردد عليها؟! |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
في الليل على فراشي (نش 3: 1) نود ان نتأمل في قول عذراء النشيد: "في الليل على فراشي، طلبت من تحبه نفسي- طلبته فما وجدته. إنى أقوم وأطوف في المدينة, في الأسواق وفي الشوارع, أطلب من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (نش3: 1, 2). عبارة "في الليل" لها معنيان: إما الليل بمعناه الحرفى. وإما الليل بمعناه الرمزى, أي في الظلمة, في الحيرة وفي ظلمة القلب, في التعب الروحي الذي أنا فيه.. "وعلى فراشي" تعنى: في كسلى, في تهاونى, في رقادى, في بعدى عن الله.. في كل هذا "طلبته فما وجدته".. أو يقصد بها معناها الحرفي. والتى تقول هذا, إما أنها إنسانة أممية وسوداء, ليست من شعب الله. وهى نفس خاطئة كسلانة, راقدة على فراشها, لم تفتح بعد قلبها للرب, "فتحول عنها وعبر" وهى نفس تعيش في مرحلة التخلى. لقد تخلى عنها الرب- ولو جزئيا- لذلك هى تصرخ وتقول "طلبته فما وجدته". مرحلة التخلى واسبابها: عجيب أن إنسانا يطلب الله فلا يجده. بينما قال الرب "أطلبوا تجدوا" (مت7: 7). وهو الواقف على الباب يقرع لنفتح نحن له! (رؤ3: 20). وأيضا هو القائل "من يقبل الى ,لا أخرجه خارجا" (يو6: 37). إذن لماذا هذا التخلى منه تجاه نفس تطلبه؟! إن التخلى يأتى أما بسبب الإنسان, ولحكمة الله في التدبير. قد يأتى بسبب قسوة الإنسان, وعناد وإصراره على الخطية, ورفضه أنذارات الله المتكررة, ورفضه عمل النعمة, كما سلك فرعون.. وبسبب عدم استسلامه للروح القدس, وعدم استجابته لنداء الله ونداء الضمير.. فيصل إلى مرحلة التخلى, التي قد تتطور إلى حالة الرفض الكامل.. وربما يتخلى الرب جزئيا ومؤقتا عن إنسان, حتى لا يرتفع قلبه في بره. فيقود هذا التخلى إلى الإتضاع. إنسان سالك في البر. وربما يظن أنه قد وصل! فيرتفع قلبه.. ويحارب بهذا. فيتخلى الرب عنه- ولو قليلا –لكى يعرف ضعفه. أو قد يكون بارا. وفي عدم سقوطه, لا يشفق على الساقطين. فيتخلى عنه الرب فيسقط وحينئذ يحنو على الخطاه, إذ قد جرب حروب العدو وشدتها. ويعرف حكمة الرسول في قوله "أذكروا المقيدين أنكم مقيدين معهم و(أذكروا) المذلين كأنكم أنتم أيضا في الجسد" (عب13: 3) إذن ليس كل الذين يتخلى عنهم الرب أحيانا, كانوا أشرارا وساقطين! من تحبه نفسي: "في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته". إن عبارة "من تحبه نفسي", قد تكررت هنا كثير.. وعجيب أن هذه العروس- على الرغم من كسلها وسوادها وتهاونها- لا تزال تكرر القول بأنها تحب الرب!! وكأنها تقول: إننى أخطئ, ولكننى احبك. المحبة موجودة "لم تسقط أبدا" (اكو 13: 8) على الرغم من الضعف البشرى, الذي بسببه قد اسقط أحيانا. مثلما حدث للقديس بطرس الرسول الذي "أنكر الرب ثلاث مرات" (مت26: 75). ومع ذلك قال له بعد القيامة: "انت تعلم يا رب كل شيء. انت تعلم انى أحبك" (يو21: 17). ومثلما قال القديس بولس الرسول "الإرادة حاضرة عندى. أما أنا افعل الحسنى فلست أجد لانى لست افعل الصالح الذي أريد, بل الشر الذي لست أريده, فإياه أفعل" (رو7: 8, 19). "انا يا رب نائمة حقا, ولكنى أحبك. إننى أخطئ حقا ولكنى أحبك. انا أحبك من أعماقى. ولست أفعل الخطية عن نقص في محبتى. بل عن ضعف, وتعود, وعثرة, ولشدة الحرب, ولدوافع خارجة عنى.. حقا اننى لا أعمل اعمالا تليق بمحبتى لك. ولكنى على الرغم من ذلك أحبك. إن حبى لك يشبه بذرة حية, فيها عناصر الحياة. ولكن لها حياة كامنة لم تظهر بعد.. ربما لو توفرت لها التربة الخصبة والماء والرى وكل ظروف الإنبات, لظهرت هذه الحياة في خذور وساق وفروع وأوراق أزهار وثمار.. هكذا أنا. ولكن عدم ظهور حياة الحب في, لا يمنع أنها موجودة.. ! في الليل على فراشي: · زكا العشار طلب الرب في الليل, وهو على فراشه, في الظلمة الظلم (لو19). لم يترك اعمال العشارين ويطلب الرب. بل طلبه وهو رئيس العشارين. حتى أن اليهود تذمروا على السيد كيف يدخل بيت رجل خاطئ! (لو19: 7). · واللص اليمين, طلب الرب بالليل, على فراشه على الصليب (لو23: 42). · أوغسطينوس طلب الله وهو في عمق الليل, في عمل الخطية والشك! · مريم القبطية, بيلاجية, موسي الأسود.. كل أولئك طلبوا الرب في الليل! المهم أن كل هؤلاء طلبوا الرب في الليل وعلى فراشهم فوجدوه. أما هذه العذراء فقط طلبته, ولم تجده! وعلى الرغم من ذلك ظلت تسعى وراءه حتى وجدته (نش3: 3, 4). هناك نوعان من الناس في طلب الله, وهم خطاة.. خاطئ يجاهد, وينتظر حتى يتطهر ويتقدس, فيجرؤ أن يتصل بالله. وخاطئ اخر لا ينتظر ذلك, بل – في خطيئته وسقوطه – يطلب الله, لكي يطهره الله ويقدسه. وكأنه يقول للرب: لست أنتظر حتى أتطهر فأطلبك. إنما أطلبك لكي تطهرنى. لست أنتظر حتى أصير مجتهدا وقويا في الروح ثم أطلبك, إنما وأنا كسلان, سأطلبك الآن لكي تنجينى من كسلى وتقوينى. هل أتوب أولآ ثم أطلبك؟! أم أطلبك وأقول "توبنى فأتوب" (ار31: 18) نعم, ساطلبك وانا بعيد عنك, لكي تقربنى أنت إليك. سأطلبك وانا على فراشى, لكي توقظنى من نومى. أطلبك وانا في الخطية, لكي تنجينى منها.. النية موجودة عندى. ولكنى لم أسر بعد في الطريق, بل أطلب نعمتك لكي تقودنى.. إن الابن الضال لم يلبس الحلة الأولى وهو في كورة الخنازير, إنما ألبسه أبوه إياها (لو15: 22). وقد رجع هو إليه بثيابه المتسخة.. إن الله يريدك أن تأتى إليه كما أنت, فلا تنتظر. لا تنتظر حتى تصل إلى الصلاة الطاهرة, ثم بعد ذلك تصلى! كلا, بل صل حتى وأنت في طياشة الفكر, وعدم الفهم وعدم القابلية! حينئذ يمنحك الله الصلاة الطاهرة, مكأفاة على ثباتك وأنت في ضعفك. · "في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي". لو كان الذين يطلبونك يا رب هم القديسون وحدهم, لضعنا جميعا.. ولكن الخطاة أيضا يطلبونك. وهذا يعطينا رجاء. جميل جدا, ومعز للغاية, أن يشعر الواحد منا أن الله في وسط الليل, أوجد نجوما وكواكب تنير ظلمة الليل.. كذلك, وأنت في ظلمة الخطية, هناك أضواء تحيط بك, يكفى أنك مازلت تحب الله وتطلبه. أنا يا رب أريد أن أكون معك, حتى وانا في الخطية!! إن الخطية تحطم النقاوة في حياتى, ولكنها لا تحطم عواطفى نحوك. مثل ابن يخالف أباه لتحقيق شهوة ما, ولكنه لا يزال يحب أباه.. "في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي". طلبته وانا على فراشي. ليس في الكنيسة, ولا في أماكن العبادة, ولا في أجتماع روحى.. لذلك لا تحتقر الذين لا يحضرون الكنيسة. ربما يطلبون الله على فراشهم. ربما كلمة (الليل)، تعنى أيضا الليل بمعناه الحرفى. فقد لا أجد فرصة التقى فيها مع الله, خلال ضوضاء النهار, وزحمة الناس, وكثرة اللقاءات, وكثرة المشغوليات, وما يقدمه النهار من مشاكل وأحداث وأخبار, أكون في وسطها مثل التائه.. ولكننى في الليل, في هدوئه وسكونه, أجد فرصة للإنفراد بك. وهكذا "في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي" حسب قول المزمور: في الليالى أرفعوا أيدكم أيها القديسون, وباركوا الرب (مز 134). نعم, في الليل على فراشي. ولذلك حسنا قال الرب عن الصلاة: "أدخل الى مخدعك" (مت6: 6). كذلك قول المرتل في المزمور " الذي تقولونه في قلوبكم, أندموا عليه في مضاجعكم" (مز4). إذن ما معنى: طلبته في الليل, فما وجدته؟ انا أتيت في الليل, وفكرى مشغول بأحاديث وأحداث النهار, فلما طلبتك لم أطلبك بفكر مركز فيك, بل وانا مهتم ومضطرب لأجل أمور كثيرة, "بينما الحاجة الى واحد" (لو10: 41, 42). لهذا ما وجدتك! أو ربما لم أجدك, لأن هناك حواجز بينى وبينك. لهذا أنا أدعو, وأنت لا تستجيب. وأشعر أنه تقف أمامى عبارتك التي تقول فيها "حين تبسطون أيديكم, استر وجهى عنكم. وإن أكثرتم الصلاة, لا أسمع. أيديكم ملآنة دما" (اش1: 15). توجد حواجز بينى وبينك, لأننى تركت محبتى الأولى, وفقدت الدالة التي كانت تربطنى بك, وخنت عشرتك.. وأشعر في مذلة نفسي ان كلماتى لا تدخل إليك, وكأننى لست ابنك!! أريد أن اصطلح معك, واسترجع المحبة القديمة التي كانت بيننا. أريد أن أعتذر إليك, وأطيب قلبك من جهتى. نعم أريد. عذراء النشيد, كانت أحكم من أبينا آدم حينما أخطأ. أبونا آدم أخطأ, فهرب من الله, وأختبأ خلف الشجر (تك3: 8). أما عروس النشيد, فإنها تسعى إلى الله لكي تجده, حتى لو كانت في حالة سيئة! لكي يوجد حديث وسعى وبحث في الشوارع والأسواق عنه. حقا يا رب إننى في مرحلة تخلى. ولكنى سأسعى وراءك بكل قوة لكي أرجع علاقتى بك. سأبحث عنك, واسأل الناس عنك, حتى أجدك.. احترس يا أخى إذن من جهة علاقتك بالله. لا تقل قد تخلى الرب عنى, سأتخلى أنا أيضا!! لا صلاة ولا كنيسة ولا اعتراف.. ! قل له: أنت لو تخليت عنى, فلن تخسر شيئا. أما أنا فسوف أفقد كل شيء. إن تخليت عنى سأضيع. لأن فيك وجودى وحياتى ومصيرى. لو تخليت عنى, سأجرى وراءك في الشوارع والأسواق, وأقوم وأطوف في المدينة أطلب من تحبه نفسي (نش3: 2) سأفتش عليك في كل موضع, لأننى بدونك لا أستطيع شيئا (يو15: 5). وإن كنت غاضبا منى, وغاضبا على, سأحاول أن أصالحك وأعتذر إليك. لن أهرب منك كما فعل جدى آدم, إذ "بك نحيا ونوجد ونتحرك" (اع17: 28). وكما قال عبدك الرسول بولس "لى الحياة هى المسيح" (في1: 21). نفسي على فراشها. ولكنها فترة مؤقتة, ستزول بعد حين. مجرد كسل عارض, فلا تحسبه صفة العمر كله. حقا إننى تركتك يا رب بعض الوقت, وجريت وراء شهوات العالم. ولكنها مجرد شهوات وليست حبا. فالحب بحقيقته هو لك وحدك, الحب كله في عمقه. أما ما يربطنى بالعالم, فهو مشاعر طارئة زائلة, مجرد ملاذ وقتية لا يمكن أن ترتقى إلى مستوى الحب. لأن الحب هو عاطفة عميقة عميقة, في عمق أعماق القلب, الذي هو لك, وأنت له. العالم بالنسبة لي كان عرضا لا جوهرا. أما الحب فهو لك, والقلب هو لك, أنت الذي تحبه نفسي, حتى إن اشتهت غيرك أحيانا. تقول عروس النشيد: طلبته فما وجدته. ولكن ليس معنى هذا أننى سوف لا أجده طول العمر! فإن لم أجده اليوم سأجده غدا. ذلك لأن نفسي لا تستطيع أن تحيا إن لم تجده, فهى لا تحيا بدونه. كما أنه- فيما أبحث عنه- هو يبحث أيضا عنى حتى يجدنى. ومتى وجدنى, سوف يضعنى على منكبيه فرحا, كما فعل مع خروفه الضال حينما وجده (لو15: 4, 5). إن هذه العروس تعطينا مثالا للنفس التي لا تيأس مهما فقدت الرب! وكما يقول الرب "بصبركم تقتنون أنفسكم" (لو21: 19). هذا التخلى من الله كانت له فائدته, لأن النائمة قامت. تركت فراشها, وظلت تبحث عنه. تحركت وتقدمت وطلبت (نش3: 2). وهكذا بتخلى الله الجزئى, يجعلنا نتحرك. إذ لا يصح أن نستلقي على ظهورنا وننام, ونطلب من النعمة أن تعمل كل شئ!! إن كان روح الله يعمل فينا, فيجب علينا أن نشترك مع روحه في العمل. فهذه هى "شركة الروح القدس" كما يذكرها الكتاب (2كو13: 14). إنك قد قلت يا رب "من يحبنى يحفظ وصاياى".. وأنا أحبك, ولكننى لم أحفظ وصاياك بعد!! إذ لم أصل حتى الآن إلى هذه الدرجة. ومع ذلك فإننى أطلبك, لكي تعطينى القوة التي أحفظ بها وصاياك. فأحبك حينئذ بالعمل, وليس بمشاعر القلب فقط. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
في الليل على فراشي طلبت مَنْ تحبه نفسي (نش 3: 1) تقول عذراء النشيد "في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (نش 3: 1). وقلنا ان هذا يدل علي أنها تجتاز مرحلة من التخلي. وهنا عبارة (علي فراشي). تدل علي الكسل والتهاون. ذلك أن الحياة الروحية، ليست كلها متعة دائمة مع الله. فقد تتخللها أحيانا فترات من الضعف والفتور، والمحاربات التي ربما يسقط فيها الإنسان، ويفقد محبته الأولي (رؤ 2: 4). وكما يقول الكتاب " الصديق يسقط سبع مرات ويقوم " (أم 24: 16). فالشيطان يحسد اولاد الله. وقد يحاول أن يغربلهم كالحنطة (لو 20: 31). كما فعل مع الاباء الرسل! لذلك لا تستطيع النفس البشرية أن تحتفظ بثباتها في الرب كل حين، وتقول علي الدوام " شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني " (نش 2: 6). لعل هذا يذكرنا بما قيل في سفر التكوين " مدة كل أيام الأرض: زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال" (تك 8: 22).. فأن وقعت في يوم برد، ومر بك ليل، لا تتضايق. بل استمر ثابتا في الرب. انتظر بعد الليل نهار، وبعد البرد حر. كلمة (الليل) كما تشير إلي الظلام روحيا، تشير أيضا إلي هدوء الليل. هدوء الليل وسكونه، وبعده عن الضوضاء وعن المشغوليات، حيث تهدأ الطبيعة بعيدا عن شغب الليل وضجيجه، ويفرغ الإنسان عن دوامة العمل، ومن دوامة الأخبار، ويخلو إلي ذاته، لكي يخلو بذلك مع الله: يتحدث معه، ويتمتع به. لذلك قال أحد الأباء "الليل مفروز لعمل الصلاة، وللعمل مع الله" أي أنه مخصص بهدوئه للعمل الروحي، إذ يصلح سكونه لذلك. قيل عن اليسد المسيح إنه كان يقضي الليل كله في الصلاة (لو 6: 12). وقيل في المزمور " في الليالي أرفعوا أياديكم أيها القديسون و باركوا الرب" (مز134). وكانوا الأباء المتوحدون ينامون قليلا في النهار ويسهرون الليل كله في الصلاة. كما حكي عن القديس الأنبا أرسانيوس الكبير الذي كان يقف للصلاة وقت الغروب، والشمس وراءه. ويظل في صلاته حتى تطلع الشمس من أمامه.. قال أحد الروحيين: أكسبوا صداقة الليل حتى تكون لكم حياة روحية في النهار. تجترون فيها ما اختزنتم من روحيات أثناء الليل. حتى علي الفراش ينشغل الإنسان بالله، فيصير فراشه مقدسا.. كما قال داود النبي " كنت أذكرك علي فراشي، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك" (مز 63).. أنا يا رب لك باستمرار. في ليلي وفي نهاري. كنت قائما وراكعا علي فراشي. إن الليل قد لا يكون كله مظلما وحالكا. وداكن العتمة. فأحيانا توجد فيه بعض أضواء.. نور السماء ونور النجوم لإضاءة الليل. و كلما نذكر أن الله افتقد الليل في ظلامه، وخلق الله القمر والنجوم لإضاءته، ولتخفيف ظلمته. حينئذ نتعزي.. مبارك أنت يا رب. إنك لست إله النهار فقط، وإنما إله الليل أيضا. علي الرغم من ظلامه، لا تتركه رعايتك.. لولا رعايتك لليل، ما استطعت – في خطيئتي وكسلي – أن أفول " في الليل علي فراشي طلبت من تحبه نفسي".. طلبت من تحبه نفسي: وكأن هذه النفس – من علي فراشها – تقول للرب: حقا إنني في ليل. ولكنني لست بعيدة عنك. وقد تكتنفني الظلمة من الخارج. ولكن روحك لا يزال في الداخل ينير أعماقي. أنا في الليل. ولكن هذا الليل لابد وراءه فجر، ووراءه نهار أنا في حياة الخطية والفتور والكسل. ولكني مع ذلك مازلت أطلب من تحبه نفسي. هذا الليل لا يجلب اليأس، لأنه ليس مظلما كله. وحتى إن كان مظلما، أنت قادر يا رب أن تنيره , لأنك أنت النور الحقيقي. إنني أحيانا أقع في الخطية، ولكنني مع ذلك لست أحبها. بل أحبك أنت. وينطبق علي حالتي قول القديس بولس الرسول " الشر الذي لست أريده، أياه أفعل.. " (رو 7: 19، 15). الخطية بالنسبة إلي هي عمل خارجي، وليست في داخلي. هي ضعف مني وعجز وإهمال. وأفعلها بحكم العادة، وبضغط ظروف خارجية. ولكنها لا يمكن أن تكون كراهية مني لك يا رب وخيانة!!! إنني مهما أخطأت وسقطت، فمازلت أحبك يا رب. ما زلت أطلبك. وأنا علي فراشي. أما الخطية فإنني أجاهد لكي أتخلص منها. وأحيانا لا أجاهد، ومع ذلك أود من كل قلبي أن أتخلص منها. وأحيانا لا أجاهد، ومع ذلك أود من كل قلبي أن أتخلص من كل ضعفاتي وخطاياي. وأكون سعيدا يا رب إن انتشلتني منها مثل " شعلة منتشلة من النار" (زك 3: 2). وحينئذ اسمع منك نشيدك الحلو " اليوم حصل خلاص لهذا البيت" (لو 19: 9). " في الليل علي فراشي طلبت من تحبه نفسي " قد تكون إحدي زيارات النعمة أفتقدتني بها محبتك. قد يكون عملا لروحك القدوس الذي لا تنزعه مني. قد تكون ثورة مني علي الخطية التي حطمتني، وألقتني علي فراشي.. قد يكون طلبي لك شيئا من هذا كله وغيره، سواء بإرادتي وبتوجيه منك. نطقت أنا، ونطق روحك علي فمي. ولكن الأمر اليقين هو أنني أطلبك من كل قلبي. وكلما أفتقدتك في حياتي ولم أجدك، يزداد طلبي لك، لأنك الوحيد الذي تحبه نفسي. سواء كنت أعمل في بيتك , وكنت في كسل علي فراشي. علي أن رقادي علي فراشي، هو فترة مؤقتة ومحددة من حياتي، لابد أن تنتهي بإنتهاء هذا الليل. إنني متمرد علي هذا الفراش. وإن كنت لا أستطيع أن أقوم منه، فأنت يا رب تستطيع أم تقيمني منه. إنني حاليا راقد علي فراشي، ويرن في أذني قول المرنم " قوموا يا بني النور، لنسبح رب القوات " قومي يا نفسي، لكي تلاقي " من تحبه نفسي". من تحبه نفسي: إنها نبضة القلب نحو الله. عبارة تكررت كثيرا في سفر النشيد. تقولها عذراء النشيد في داخل نفسها، وتصرح بها أمام الناس, وهي تبحث عن الله قائلة " هل رأيتم من تحبه نفسي؟" (نش 3: 3). إنه الله الذي تحبه النفس. فالكتاب يقول: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" (تث 6: 5). مسكين هو الإنسان الذي يعلِّق قلبه بغير الله. لابد سيتعب. الله هو الكائن الوحيد، الذي إن أحببته، تجده معك في كل مكان، في كل مناسبة. فلا تشعر بالغربة عنه وبالانفصال عنه في أي وقت. أما أي شخص آخر تحبه، وأي كائن آخر، فمن الجائز أن تنفصل عنه، بالسفر وبالموت وبالأحداث. يفصلكما المكان والزمان. كذلك يتميز الرب عن جميع المحبين بالمحبة الكاملة الحقيقية. كثير من الناس لا تثبت محبتهم. قد يتغيَّرون، وتبرد محبتهم وينحرفون. ويصدقون فيك الأقاويل، وتؤثر عليهم عوامل خارجية.. أما الله فثابت في محبته حتى لو تغيَّرنا نحن. ومحبته مقدسة، تسمو بالإنسان وتهدف إلى منفعته وخلاصه. تقول عذراء النشيد: "مَنْ تحبه نفسي"، وهي تقصد المحبة التي تملأ كل القلب والفكر، وكل محبة أخرى تكون داخلها. فالقلب الطاهر يحب جميع الناس، دون أن تنقص محبته الكاملة لله. سعيد هو الإنسان الذي ينادي الله دائمًا بعبارة "يا مَنْ تحبه نفسي"، دون أن يبكِّته ضميره على أنه خان هذه المحبة في شيء.. اسأل نفسك إذن: هل هل محبة الله هي الغالبة المُسَيطرة في حياتك؟ هل هي القائدة لكل تصرّفاتك وأفكارك، وكل معاملاتك..؟ |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
طلبته فما وجدته (نش 3: 1) تقول عذراء النشيد " في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (نش 3: 1). إنها عبارة مؤثرة ومتعبة للنفس، كيف أن إنسانا يطلب الله، فلا يجده في حياته؟! كيف أن الله الذي يقول " أطلبوا تجدوا" (مت 7: 7) تقول عنه العذراء "طلبته فما وجدته" (نش 3: 1)؟! وتكررها مرة أخري (نش 3: 2). التخلي: نعم، هناك فترات ن التخلي تبعد فيها النعمة. والنفس تطلب الرب فلا تجده!.. الظلمة تدهمها , فتبحث عن طاقة من نور.. ! فترات فيها " تكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسا، والأرض التي تحتك حديدا!! (تث 28: 23). لا تشعر بالدالة التي بينك وبين الله، والتي كانت بينك وبينه! ولا بالعشرة والصلة القديمة!.. لا إحساس بوجود الله، ولا متعة، ولا عاطفة.. مرت عليك أوقات من قبل، كنت فيها نارا مشتعلة. والان نبحث عن تلك النار فلا تجدها. لا حرارة في الصلاة، ولا عاطفة في القلب، ولا تعزية ولا شعور، تطلب الله ولا تجده.. هل لأنك الان علي فراشك، بعد نهار قضيته في مشاغل كثيرة! وإذا بمشاغل النهار التي أخذتها بعمق، جعلت شاعرك الروحية تجف! لم تخلط عملك النهاري بالله، بل كنت غريبا عنه طول النهار! فلما طلبته بالليل علي فراشك، لم تجده! في أوقات دالتك مع الله، كان الله بالنسبة إليك، أقرب من النفس الذي يدخل صدرك ويخرج. أما الان فأنت تدعوه وكأنك نخاطب نفسك.. ! كنت تقرأ الكتاب المقدس، فتجد تأملات كثيرة تملأ قلبك وفكرك، وفيضا من التعزيات يغمر نفسك. أما الان فلا تجد!! وتردد عبارة: " طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته". وتفحص ذاتك فتقول: إنني لا أجده. ولكنني مع ذلك أطلبه. ليس هو موجودا معي. لا أحسه في حياتي. ولكنه موجود في قلبي أحسه في رغباتي وأشواقي.. حرماني من الله، يجعلني أطلبه بالأكثر. أنا لست راضيا عن حرماني منه. لست من الذين أحبوا الظلمة أكثر من النور، " لأن أعمالهم شريرة" (يو 3: 19). فمع أنني في سقوطي، تكون أحيانا أعمالي شريرة وتشبه ذلك، إلا أنني لست أحب الظلمة.. فلماذا تخلي النعمة يشعرني بالحرمان من الله؟! أسباب التخلي: *أحيانا يكون سبب التخلي، كبرياء إرتفعت فيها النفس. إنسان يكبر في عيني نفسه، ويظن أنه قد أصبح شيئا. وفي هذا الظن يفقد احتراسه، علي أعتبار أن الخطية لم يعد لها سلطان عليه!! ويريد الرب أن ينقذ هذا الإنسان من كبريائه وارتفاع قلبه. فيتخلي عنه قليلا، ليشعر بضعفه فلا يرتفع قلبه لأنه " قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم" (مز 34: 18). وبابتعاد النعمة، بالتخلي المؤقت، قد يسقط الإنسان، ويهتز قيامه ويضعف. فيعود ويحترس حتى من أقل الخطايا. ويتمسك بالرب بالأكثر. مثل هذه العذراء التي بعد أن قالت " طلبته فما وجدته " قامت وبحثت عنه. فلما وجدته قالت " أمسكته ولم أرخه" (نش 3: 4). *سبب اخر من أسباب التخلي، هو اهتمام الإنسان الزائد بالأور العالمية، بحيث تبرد حرارته الروحية، ويقرع الله علي قلبه وما من مجيب! و كأنه يقول لصوت الله في قلبه " أما الان فإذهب. ومتي حصل لي وقت أستدعيك" (أع 24: 25). كما قال فيلكس الوالي لبولس الرسول. وقد حدث هذا لعذراء النشيد مرات عديدة، حينما سمعت صوت الحبيب يناديها فتكاسلت عن أن تفتح له، كما ورد في الإصحاح الخامس (نش 5: 3). *حقا إن التمركز حول الذات هو من أسباب التخلي: مل أكثر ما يكون الإنسان متحوصلا حول نفسه. يفكر في ذاته، وليس في الله.. اذا أعمل؟ وماذا أكون؟ وكيف يكون؟ كيف أبني شخصيتي ومركزي؟ " أهدم مخازني وابني أعظم منها,.. وأفول لنفسي: لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة.. استريحي وافرحي" (لو 12: 18 , 19). وفيما الإنسان مشغول بذاته، يبحث عن الله فلا يجده! بل قد يدخل في خدمة الله، وهو متمركز حول ذاته، وليس حول الخدمة، ولا هو متمركز في محبة الله وملكوته.. فيفكر كيف يستحوذ علي كل السلطة في الخدمة، ويوقف فلانا عند حده وكيف تصير كلمته هي الأولي، وهي الوحيدة! وكيف تسير كل الأمور حسب تدبيره هو! وحينئذ يطلب الله فلا يجده.. معني: طلبته فما وجدته: الله موجود حقا في كل مكان. فكيف تبحث عنه فلا تجده؟! هو موجود حقا. ولكن المهم هو أحساسك بوجوده والصلة به.. الإحساس بالحب والمتعة والعشرة مع الله. الإحساس بالدالة، بحرارة اللقاء، وبسكني الله داخل القلب وعمله فيه. قد يكون الله موجودا معك، وأنت لا تشعر ولا تدرك. كما كلم السيد الرب مريم المجدلية بعد القيامة. ولكنها لم تشعر بوحوده. بل ظنته البستاني. وقالت له عن الرب " إن كنت قد أخذته" (يو 20: 15). بينما كان الرب يذاته هم الذي يكلمها وهي لا تدري, بل شعورها في ذلك الوقت كان " طلبته فما وجدته".. و نفس الأمر حدث مع تلمذي عمواس. كان الرب معهما وهما لا يعلمان. بل يقولان له " هل أنت وحدك المتغرب عن أورشليم، ةلم تعلم الأمور التي حدثت فيها؟!" (لو 24: 18). تأكد أن الله لا يتركك مهما تركته. وفي نفس الوقت الذي تقول فيه: " طلبته فما وجدته " يكون هو معك، يعمل لأجلك.. لا تيأس إذا مرت عليك فترات من التخلي. لا تظن أنه تخلِّ حقيقي! ولا نظن أن التخلي مستمر.. ما أخلي قول الرب عن إحدي فترات التخلي لتلك العاقر: " لحيظة تركتك , وبمراحم عظيمة سأجمعك" (أش 54: 7). مناسبة أخري: عبارة " طلبته فما وجدته " وردت أيضا في (نش 5: 6). حيث تقول عروس النشيد، في مناسبة أخري، فيها تخلت عن حبيبها، فتحول عنها وعبر. فقالت " نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني" (نش 5: 6) والقصة تبدأ بقولها " صوت حبيبي.. هوذا ات علي الجبال، قافزا علي التلال" (نش 3: 8). ثم " صوت حبيبي قارعا: افتحي لي يا أختي يا حبيبتي، يا حمامتي يا كاملتي، لأن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصصي من ندي الليل" (نش 5: 2). ولكن العروس تعتذر قائلا: " خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟! غسلت رجلي، فكيف أوسخها؟! ولم تفتح حينئذ تحول عنها وعبر، بسبب إهمالها.. فذاقت التخلي.. كانت هذه العروس مهتمه بذاتها أكثر من اهتمامها بالله وخدمته! كانت مهتمه بزينتها الخارجية، بثوبها بنظافتها براحتها. ووسط كل ذلك يثاقلت أن تقوم وتفتح للرب.. فتركها تذوق التخلي. لقد أنتظر الرب طويلا حتى أمتلأت رأسه من الطل، وقصصه من ندي الليل. ولكنها تركته يمد يده طول النهار لقلب معاند مقاوم (رو 10: 21). وهكذا قدمت قلبا متراخيا متكاسلا أمام نداء الله! عجيب أن تعتذر نفس عن لقاء الله، وتسرد لذلك حججا.. ! اه يا رب، أنا غير متفرغ لك الان. عندي مشروعات أقوم بها، وخدمة وخدمات عديدة أنما منشغل بها! وخطية محبوبة تسيطر علي عواطفي وفكري! أو مقابلات كثيرة ولقاءات تستغرق نهاري كله وجزءا من مسائي. لذلك لست أجد لك وقتا!! أعذرني إن تركتك بعض الوقت دون أن أفتح لك. فامتلأت رأسك من الطل!! وهكذا يتخلي الله، لا كعقاب وإنما كعلاج.. إنها نفس تزدري بالنعمة، وتهمل صوت الله داخلها، فتقع في التخلي، حتى تعود وتستيقظ، وتعرف ما ينبغي عليها أن تفعله. ولهذا نجد أن هذه النفس قد استفادت من التخلي.. بعد أن تحول حبيبها وعبر، نراها تقول " نفسي خرجت عندما أدبر". ولم تكتف فقط باشتعال مشاعرها من الداخل، وإنما تقول " إني أقوم أطوف في المدينة وفي الأسواق والشوارع، أطلب من تحبه نفسي".. وفعلا ذهبت تسأل عنه الحراس: " أرايتم من تحبه نفسي؟" (نش 3: 3). و بالإضافة إلي هذا البحث وهذا السعي، نري أن الله يرفع عنها ذلك التخلي، ويعود إلي النفس، فتتمسك به بالأكثر. و تقول لما رأته " أمسكته ولم أرخه" (نش 3: 4). إن الله يسمح أحيانا أن نذوق مرارة البعد عنه بعض الوقت. لكي نشتاق إليه بالأكثر.. لأنه من الجائز أن محبة الله لنا، بدلا من أن تقودنا إلي الله، نتحول بها إلي التدلل!! فتقول " غسلت رجلي، فكيف أوسخها؟!" لك ما شئت. ولكن أن حبيبك تحول وعبر.. فماذا أفادك التدلل؟! |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
إني أقوم وأطوف في المدينة (نش 3: 2) تقول عذراء النشيد "في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته. إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق وفي الشوارع، أطلب من تحبه نفسي" (نش3: 1، 2). هذا يدل علي أن الإنسان – مهما بعد عن الله – ففي قلبه إشتياق إلي هذا الإله، حتى لو دخل في الليل، ورقد علي فراشه.. ! إشتياق إلي الله: لا يزال في القلب حنين إلي الله.. فينا نفخة إلهية تشتاق إلي مصدرها (تك2: 7). فينا روح علي صورة الله، كشبهه (تك1: 26، 27). وهذه تجعل الإنسان بطبيعته يشتاق إلي الله. * فالإشتياق إلي الله، جزء من طبيعة الإنسان ومن فطرته.. فإن قلنا إن محبة الأم لطفلها جزء من طبيعتها يجري في دمها، وكذلك محبة الأب لابنه.. نقول كذلك إنه أمر طبيعي بالأكثر، أن الأنسان يحب الله ويشتاق إليه. وليس هذا عند الشعوب المتحضرة المتمدينة فحسب، بل حتى عند الشعوب البدائية أيضًا.. ومن الناحية الأخري، محبة العالم شيء دخيل علي الإنسان، ليس في طبعه الأصلي. أما محبة الله فهي طبيعته الأصلية. لذلك مهما بعد الإنسان عن الله لابد أن يعود فيشتاق إليه. مثل عقرب البوصلة، لابد أن يتجه إلي الشمال، مهما بعد عنه. لهذا لا يصح أن ييأس الإنسان، مهما طال بعده عن الله. لا تيأس، فطبيعتك بفطرتها ميالة. لذلك حتى في الليل – وأنت علي فراشك – يعود إشتياقك إليه. مثل الابن الضال: ذهب إلي كورة بعيدة، ثم عاد واشتاق إلي أبيه، ورجع إليه. ومثل أوغسطينوس: بعد متاهة طويلة في الفلسفة وفي ملاذ العالم، عاد أخيرًا ليقول للرب: تأخرت كثيرًا في حبك، أيها الجمال الذي لا يوصف.. وأنت مهما تهت وبعدت، في أعماقك بذرة محبة الله. فلا تظنوا أن الرعاة والوعاظ والمرشدين والآباء الرسل، هم وحدهم الذين دخلت محبة الله إلي قلوبهم! كلا، فمحبته فيكم من الأصل. كل ما في الأمر، أنك تزيل ما ترسب فوقها وأخفاها. *" في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي". هناك لحظات تمر علي الإنسان، يجد نفسه مشتاقة إلي الله. لا يعرف متي تأتي تلك اللحظات؟ ولا كيف؟ ولا أين؟ ولا يستطيع أن يحدد مواعيد لهذا الإشتياق. والكتاب يقول "ملكوت الله لا يأتي بمراقبة" (لو17: 20). كما قال الرب أيضًا " الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، ولكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلي أين تذهب" (يو3: 8) إنها زيارة من زيارات النعمة، لا تأتي بمراقبة. أنت لا تعرف متي يتحرك شعورك نحو الرب. ولكنك في وقت ما، تسمع صوتًا يناديك في داخلك، ويحركك نحو الله، مهما كنت خاطئًا، ومهما بعدت، ومهما ضللت.. زيارة النعمة هذه تثير مشاعر الحب الإلهي وتعيدها.. عدم الإحساس بوجود الله: من العجيب أن هذه العروس تقول "طلبته فما وجدته" بينما الله في داخلها، وهو الذي حرك قلبها لكي تطلبه! بدونه ما كان ممكنًا لها – وهي علي الفراش – أن تطلبه! هو الذي مد يده من الكوة، فأنّت عليه أحشاؤها (نش5: 4). ولكن لماذا – علي الرغم من وجوده فيها – تقول "فما وجدته"؟! أحيانًا يكون الرب فينا، ونحن لا نشعر به!! مثلما حدث لتلميذي عمواس، إذ كان الرب يسير معهما ويتحدث إليهما، وهما لا يعرفانه (لو24: 15، 16). ومثلما قيل في تجسد السيد الرب: إن "النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه" (يو1: 5). وأيضًا مثلما قال القديس أوغسطينوس للرب: "كنت معي، ولكنني من فرط شقاوتي لم أكن معك!". إبراهيم أبو الآباء ظهر له الرب مع ملاكين (تك18: 2، 17) ولكنه لم يدرك وجود الرب، وإلا ما كان أحضر للثلاثة لحمًا ولبنًا (تك 18: 7، 8). وهكذا قال الكتاب "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون!" (عب13: 2). أحيانًا يكون الله معك، وأنت غير شاعر بوجوده. وقد تظن أنه قد تخلي عنك. بينما أنت الذي ينقصك الإدراك الروحي لوجود الله معك. وقد تقول له "إلي متي يا رب تنساني؟ إلي الإنقضاء! (مز13: 1). ولا يكون الرب قد نسيك. لأنه إن نسيت الأم رضيعها لا ينساك (أش49: 15). إنما أنت الذي لم تعد تحس وجود الله فيك! بالإيمان تستطيع أن تدرك وجوده معك. كما قال داود "تأملت فرأيت الرب أمامي في كل حين. لأنه عن يميني فلا أتزعزع" (مز16: 8). وكما قال إيليا النبي "حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه" (1مل18: 15). البحث عن الله: أحيانًا يخفي الله ذاته عنك، لكي تبحث عنه.. لا يسمح لك أن تراه، لكي تشتاق إلي رؤيته. يظهر حينًا، ويختفي حينًا آخر مثل النجم الذي ظهر للمجوس (مت2: 9).. لكي يتحرك القلب فيبحث ويسأل. الله لايريد أن تكون المحبة من طرف واحد: هو يحبك، وأنت راقد علي فراشك. يريدك أن تحبه كما يحبك، فتبحث عنه.. لهذا تجد أن العروس لما طلبته فلم تجده، قالت للتو: "إني أقوم وأطوف في المدينة، في الشوارع وفي الأسواق. أطلب من تحبه نفسي". ولاحظوا إنها لم تقل أقوم، بل إني أقوم، كنوع من التأكيد والإصرار علي البحث. وهكذا زال تكاسل النفس، إذ شعرت بالتخلي، ولو كان شكليًا.. يا ليت كل واحد منكم يخرج من إجتماعنا هذا (أو من قراءة هذا المقال) وهو يقوم ويطوف يبحث عمن تحبه نفسه، أعني الله الذي يحبه. كما قالت عذارء النشيد.. في الأسواقاذهب واشتر لك زيتًا، لكي لا ينطفئ مصباحك (مت25: 9). وكما قيل في سفر الرؤيا "اشير عليك أن تشتري ذهبًا مصفي بالنار، وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك" (رؤ3: 18). وكما قال الرب "ومن ليس له سيف، فليبع ثوبه ويشتر سيفًا" (لو22: 36).. اذهب إذن إلي الأسواق، وادفع ثمن ما تشتريه. وابحث عن الرب هناك. طف وأبحث أين تجد الله.. هل في الكنائس في الأديرة، في بيوت الخلوة وفي أماكن الخدمة.. أم حيث تراه.. المهم أن تنشط وتبحث، ولا تستمر راقدًا علي فراشك.. أنظر إلي طريق يوصلك إلي الله، وسر فيه: طريق التوبة، طريق الصلاة والتأمل، طريق الخدمة، طريق القراءة والإجتماعات.. الطرق المؤدية إلي الله كثيرة. إختر ما يناسبك منها. كلمة "أقوم" تعطينا معني طيبًا. فعلي الرغم من أن الخلاص يقوم بقه الله وحده، إلا أنه لابد لك من أن تشترك معه، من جهة الاستجابة لعمله فيك: أن تشترك معه، أن تطلبه وتبحث معه.. "اقوم واذهب إلي أبي" (لو15: 18) هكذا قال الابن الضال.. أقوم وأرد أربعة أضعاف لكل من ظلمته، كما قال زكا العشار (لو19: 8). حقًا، إننا في بعض أوقات نقول "قم أيها الرب الإله، وليتبدد جميع أعدائك" (عد10: 35). والرب نفسه يقول "من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم يقول الرب، اصنع الخلاص علانية" (مز12: 5). ولكن علي الرغم من كل ذلك، لابد أن تقوم مع المسيح، وأن تعمل مع الرب: ترفع الحجر، لكي يقيم الرب لعازر (يو11: 41). أنت تقدم الخمس خبزات، والرب يباركها ويشبع بها الألوف (يو6: 9- 12). أنت ترمي الشبكة، والرب يأتي بالسمك. أنت تغرس وتسقي، والله هو الذي ينمي (1كو3: 6). المهم أن تقوم وتعمل مع الرب. إنني حينما أعمل عملًا، إنما أبرهن علي محبتي للرب ورغبتي في الخير. فالله لا يرغمني إرغامًا علي عمل الخير، ولكني أقوم من نفسي. علي فراشي قد أحلم بالرب. ولكني لا أجده إلا إذا قمت. تأكدوا أن الملائكة يفرحون في السماء، وهم يرون هذه النفس تقوم وتطوف في المدينة وفي الشوارع بحثًا عن الرب (لو15: 7). هناك أشخاص يبدلون عبارة "وعلمنا طرق الخلاص" في القداس الإلهي بعبارة "طريق الخلاص" علي الرغم أن الكلمة في القبطية (التي تعني طرق)، مفسرين ذلك بأن الخلاص طريقًا واحدًا هو الفداء. هذا حق أنه من جهة الله هناك طريق واحد، هو الصليب وقد تم. ولكن من جهتنا لا ننال بركات الفداء إلا بطرق الإيمان والمعمودية والتوبة وحفظ الوصايا. كما أن حياتنا الروحية اللازمة للخلاص لها طرق تؤدي إلي الله: منها الخدمة والوحدة، الزواج والبتولية، الحزم والطيبة.. والمهم أن يتخذ كل واحد نوع الطريق الذي يناسبه.. وكما قال ماراسحق: "لمعرفة الله باختلاف الطبائع البشرية، لم يجعل طريقًا واحدًا مؤديًا إلي الخلاص، لئلا يفشل من لا يستطيع السير فيه. وإنما جعل أمام الإنسان طرقًا عديدة. حتى أن الذي لا يناسبه طريق لصعوبته، يسير في الآخر لسهولته". ومادامت هناك طرق عديدة فلا تيأس. إن لم تجد في نفسك قابلية للصلاة، الجأ إلي القراءة والتأمل. وإن لم تجد قابلية للقراءة، رتل. وإن لم تستطع شيئًا من ذلك كله، اخرج وافتقد واخدم. وكلن لا تيأس أبدًا. أبحث في الطرقات والشوارع والأسواق.. ولهذا لا يجوز لأب الاعتراف أن يجعل أبناءه صورة منه! ولا يجوز أن يجعلهم كلهم صورة واحدة من بعضهم البعض! فربما ما يناسب واحدًا منهم، لا يناسب غيره.. لإختلاف نفسياتهم.. كذلك أنت: إن أعجبك طريق في الحياة، لا تشجع كل إنسان علي السلوك فيه! ربما ما يناسبك، لا يناسبه. عروس النشيد طافت في الطرقات، ولم تجد الرب. فلم تعتذر بذلك وتكف عن البحث. وإنما قابلت الحرس الطائف وسألتهم (نش3: 3). هؤلاء الحرس، هم حراس المبادئ والقيم. أقامهم الرب علي شريعته وعلي رعيته، يرشدون الناس إلي الطريق.. وما أن جاوزتهم قليلًا، حتى وجدت من تحبه نفسها.. لم تقل شيئًا مما قالته للحرس، ولا ما قد قالوه لها، إنها ركزت علي هدفها، وهو الوصول إلي حبيبها.. يوجد أشخاص يكفي أن تقول لهم المشكلة فتنحل.. حتى بدون إرشادات وحلول تسمعها منهم. تكفي بركتهم وصلواتهم. الملاحظة الأخيرة، هي أن هذه العروس تعبت كثيرًا حتى وجدت من تحبه نفسها، ولم تجده من أول طلب، ولا من أول بحث. وكانت وراء ذلك حكمة إلهية. لكي تتمسك بمن تعبت لأجله. قال القديس باسيليوس الكبير: إن الأشياء التي تحصل عليها بسهولة، قد تفقدها أيضًا بسهولة. لهذا أحيانًا لا يستجيب الله بسرعة. ولأن هذه العروس تعبت حتى وجدت من تحبه نفسها، لذلك عندما وجدته قالت "أمسكته ولم أرخه" (نش3: 4). |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أنا نائمة، وقلبي مستيقظ (أ) (نش 5: 2) هذا النشيد يعطي روح الرجاء، حتى بالنسبة إلي النائمين. ما أجمل قول المسيح للتلاميذ وهم نائمون في البستان "الروح نشيط أما الجسد فضعيف" (مت26: 41). إذن فحتى لو كان الجسد ضعيفًا، لا يستطيع أن يتمشي مع عمل الروح، فإننا نشكر الله الذي يمتدح الروح علي الرغم من ضعف الجسد، ويعطيها رجاء. وعذراء النشيد تجد نفسها هنا (نائمة): لا يقظة روحية، ولا نشاط، ولا حرارة، ولا حيوية، ولا عمل روحي. ومع هذا النوم تري نافذة من رجاء مفتوحة: وهي قلبها المستيقظ. علي الرغم من نومها، مازال قلبها مستيقظًا. مازلت حساسة لصوت حبيبها، تسمعه وهو يقول لها "افتحي لي". إذن هو مجرد نوم، وليس موتًا، ومازال القلب نابضًا بالحياة. هنا حياة قد تكون خاملة، ولكنها موجودة.. الشجرة لا تعطي ثمرها، ولكنها لا تزال حية، ربما لو نقب الرب حولها ووضع زبلًا، تعطي ثمرًا فيما بعد.. النفس نائمة ولكنها حساسة لصوت الرب ولندائه، تميزه عن صوت الغرباء، وتشعر أنه حبيبها علي الرغم من عدم صلتها به.. أنا نائمة وقلبي مستيقظ. لا نضيع الوقت في توبيخ النوم، وإنما نفرح بيقظة القلب، فهي التي ستقيم النفس من نومها. نشكر الله أنه لم ييأس من النائمين، وإلا هلكوا وضاعوا.. قد تكون نفسي أمامك يا رب، أرضًا خربة مغمورة بالمياه، وعلي وجه الغمر ظلمة (تك1: 2)، ولكن المفرح أن روحك مازال يرف علي وجه المياه، وسيأتي وقت تقول فيه ليكن نور، فيكون نور (تك1: 3).. ما أجمل قول النبي "لا تشمتي بي يا عدوتي، فإني إن سقطت أقوم (مي7: 8)، قد أكون نائمًا، ولكني سأستيقظ.. "كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه، ولكن أنت يا رب ناصري. مجدي ورافع رأسي" هكذا قال المزمور: "أنا أضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب معي" (مز3) ربما تكون لي أربعة أيام في القبر، يقولون عني قد أنتن (يو11: 39). ولكني واثق أن صوتك سيأتيني "لعازر هلم خارجًا" (يو11: 43) وتقوم نفسي النائمة، حينما يسمع صوتك قلبي المستيقظ. حقًا لا نستطيع أن نغلق باب الرجاء، أمام أي نفس.. مهما كانت حالتها تبدو ميئوسًا منها!.. الله قادر أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم (مت3: 9).. إن الرسول يقول: لا نفشل حتى إن مات إنساننا الخارج يفني، فالداخل يتجدد يومًا فيوم" (2كو4: 16). هذا يعطي رجاءً ليس للنائمين فقط، وإنما للخدام أيضًا. لا تيأس من أحد، مهما بعد عن الرب.. ربما تكون البذرة في حالة خمول، ولكن الحياة الكامنة فيها تنتظر وسائل إنبات لكي تدب فيها الحياة من جديد.. إن الرياح في الصحراء قد تحمل البذار وتلقيها بعيدًا حيث تدفن في الرمال، وتظل مدفونة مددًا طويلة، إلي أن تسقط بعض الأمطار، فتدب الحياة في هذه البذار المدفونة وتنبت.. وهناك بذار بطيئة في نموها، كنواة البلح، تمضي شهورًا طويلة بدون علامة حياة علي وجه الأرض، ثم تظهر الخضرة.. نحن لا نيأس مطلقًا من النفوس النائمة مهما طال نومها. كان الرسل النائمين، خائفين ومختبئين في العلية. ولكن جاء الوقت الذي ظهروا فيه، وملأوا الدنيا كرازة وتبشيرًا.. وحتى لو ظل النائمون مستمرين في نومهم، فلا نيأس مادامت هناك نفوس أخري ساهرة من أجلهم. يذكرني هذا بالرعاة المتبدين الذين كانوا يسهرون في حراسات الليل علي غنمهم وقت ميلاد المسيح (لو2: 8) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). ويذكرني أيضًا بقول بولس "من يعثر وأنا لا ألتهب" (2كو11: 29). قد تكون هناك نفوس نائمة، ولكن الكنيسة ساهرة من أجلها، لتوقظها.. وحتى إن نام الرعاة، هناك عين الله الساهرة، التي لا تنام. إن لم تستطع نفسي أن تقول "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" فإنها ستقول لك يا رب "أنا نائمة ويكفي أنك أنت مستيقظ". إن كلمة الرب قد تصل إلي النفس، وربما يبدو أنها لم تحدث أثرًا ولم تأت بنتيجة. ولكن عمل الروح القدس الدائم في النفس، سيظهر هذه النتيجة فيما بعد، لأن كلمة الرب لا ترجع فارغة (أش55: 11) إنها كالخبز علي وجه المياه، بعد أيام كثيرة تجده (جا11: 1). "أنا نائمة وقلبي مستيقظ". ربما يكون نومي كسلًا، وضعفًا، وفتورًا، وسقوطًا، ولكنه لن يكون خيانة.. فقلبي مستيقظ، وقلبي لك، يسمع صوت حبيبه قارعًا. قد أسقط في الخطية، ولكني أسمع الصوت في داخلي يوبخني ويقول إن هذا لا يليق.. قد أبعد عنك، ولكن نخسك لقلبي مستمر. ولن أستطيع مقاومته مدة طويلة.. قد أقاوم محبتك إلي حين، ولكن صعب علي أن أرفس مناخس (أع9: 5).. أنا أعلم أنني سأستيقظ. ولكن لا يجوز أن يطول نومي. إن الرجاء لن يدفعني إلي التراخي، بل سيبكتني ضميري عليه فيما بعد، وسأوبخ نفسي كما قال لك القديس أوغسطينوس "لقد تأخرت كثيرًا في حبك". وكما قال بولس "أنا الذي كنت مضطهدًا للكنيسة" (1كو15: 9) إن مناخسك تعمل في قلبي وأنا نائم… أنا يا رب لا أستطيع أن أبعد عنك: إحساسي بمناخسك في قلبي، تدل علي أن القلب مستيقظ، وأنه لن يقبل النوم.. إنني أسمع صوت الكنيسة تقول "قوموا يابني النور، لنسبح رب القوات" وقول الرسول "إنها الآن ساعة لنستيقظ" (رو13: 11) وأيضًا: "استيقظ أيها النائم، فيضئ لك المسيح" (أف5: 14). "أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا". إنني أعجب لهذه النفس التي تسمع صوت حبيبها وتظل نائمة! بينما الله "فيما نحن ندعو، هو يستجيب".. إننا لا نعامله بنفس المعاملة. ما أكثر ما نغلق أبوابنا في وجهه، حتى يمتلئ رأسه من الطل، وقصصه من ندي الليل.. ولكننا نشكر الله في كل ذلك علي صبره وطول أناته. إنه يدعو قائلًا "قومي يا حبيبتي وجميلتي وتعالي" (نش2: 10). ونحن نسمع ولا نستجيب. ويظل الرب يقرع علي أبوابنا ويقول "مددت يدي طول النهار لشعب معاند ومقاوم" (رو10: 21).. والعجيب أن أعذارنا كثيرة، نحاول بها أن نبرر بها عدم استجابتنا.. "غسلت رجلي، فكيف أوسخهما؟ّ خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟!. يطبق القديس أغسطينوس هذه الآية علي النفس في دعوتها إلي الخدمة: نفس لبست البر، ونالت الطهارة، واستراحت إلي هذا ونامت. وصارت تحتج: كيف أخرج إلي الخدمة وأصطدم بما فيها من مشاكل وتعب! وفيما أنا أسير علي الأرض في طريق الخدمة قد تتسخ رجلاي مرة أخري، فكيف أوسخهما؟ ويجيب القديس أوغسطينوس: لا تتضايق إذا اتسخت رجلاك، فالمسيح قد غسل أرجل تلاميذه. وسيظل يغسلك كلما اتسخت.. إذا دعاك الرب، فلا تضع أمامك عوائق، ولا تعتذر بأعذار.. فطالما الأعذار موجودة، منخاس الله موجود.. هل أنتفعت هذه العروس بأعذارها؟! لقد قالت: حبيبي تحول وعبر.. ومع ذلك كان صوت حبيبها أقوي من جميع أعذارها.. كما أنها لم تستطع أن تحتمل عملًا آخر من أعمال محبته "حبيبي مد يده من الكوة، فأنّت عليه أحشائي". لقد أنت أحشاؤها، لأن قلبها كان مستيقظًا ولم تحتمل محبة الرب. "أنا نائمة" إنه اعتراف. والمعترفة بخطاياها قريبة من اليقظة. إن كنت نائمًا، قم إذن واستيقظ، فالسيد الرب يقول "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة". اولاد الله دائمًا متيقظون قلبًا وفكرًا وروحًا، متيقظون من نحو أنفسهم ونحو الآخرين "من يعثر وأنا لا ألتهب" (2كو11: 29). ما أجمل ما نفهمه من هذا الفصل: إنه حتى الأبواب المغلقة لا يتركها الله، وإنما يق وراءها قارعًا، في حب وانتظار. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
أنا نائمة، وقلبي مستيقظ (ب) (نش 5: 2) تقول العروس في النشيد "أنا نائمة، وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. لأن رأسي إمتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل" "قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟! قد غسلت رجليَ، فكيف أوسخها؟! حبيبي مدّ يده من الكوة، فأنت عليه أحشائي.." (نش5: 2-4). أنا نائمة وقلبي مستيقظ: يقول الرب "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة" "اسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ابن الإنسان" (لو12: 40) "لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا" (مر13: 36).. إذن فكل نفس نائمة هي ساهية عن خلاص نفسها، غفلانة كسلانة لا تدري ما هي فيه. ونسيت تحذير الكتاب: لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا".. أما هذه النفس التي تقول أنا نائمة وقلبي مستيقظ، فإن حالها عجيب.. هل هي تخدع نفسها، وتدعى اليقظة بينما هي نائمة؟!. كيف تظن أنها مستيقظة القلب بينما هي نائمة؟! كثير من الناس يقول الواحد منهم "أنا أحب الرب من كل قلب. الله هو كل شيء في حياتي". فإن سألته عن صلواته وتأملاته وقراءاته الروحية واعترفاته وتناوله، يقول لك.. حقًا، إنني مقصر جدًا في كل هذا، ولكني مع ذلك أحب الله.. روحياتي واقفة، نفسي نائمة، ومع ذلك فقلبي مستيقظ. والأعجب من هذا، إنسان آخر، يقول لك إنني في عمق الخطية، ومع ذلك فأنا أحب الله. نفسي نائمة، وقلبي مستيقظ.. وتتعجب أنت من هذا: كيف تكون محبة الله في قلب هذا الإنسان، وهو في عمق الخطية؟! ألم يقل الرب "من يحبني، يحفظ وصاياي" فكيف لا يحفظ وصاياه، ويقول "أنا أحبه".. ألم يقل يوحنا الحبيب "كل كم يخطئن لم يبصره ولا عرفه" (1يو3: 6).. الظاهر أن هناك أناسًا يظنون أن عاطفة المحبة نحو الله تكون في القلب فقط، دون أن تظهر في الأعمال ولا في السيرة والسلوك، ودون أن يعبروا عن محبتهم تعبيرًا عمليًا يظهرها ويؤكدها.. لا تكفي يقظة القلب، إن كانت الحياة نائمة.. المفروض أن القلب المستيقظ يدفع الإنسان باستمرار إلى العمل الروحي.. إن الإيمان دون أعمال ميت كما قال الرسول (يع2: 26). ما فائدة محبة القلب، وما معنى محبة القلب، إن كنت نائمًا وكسلانًا ولا تعمل ما تستوجبه تلك المحبة؟ ما معنى أن يكون الغصن حيًا، إن كان لا يزهر ولا يثمر.. ؟! والغرابة أنه على الرغم من هذا الكسل والنوم، ما تزال النفس تقول "حبيبي".. "صوت حبيبي قارعًا" "حبيبي مد يده من الكوة فأنت عليه أحشائي" "قمت لأفتح لحبيبي.. فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحول وعبر".. أهو حبيب حقًا، إذن هو "تعب المحبة"؟! الله أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد.. الرب أحبنا فمات عنا، أنت تحبين، فماذا فعلت في التعبير عن حبك؟! هذا الحبيب الذي أحبك يقرع على الباب، ولا تفتحين.. !! يظل في انتظارك حتى تمتلئ رأسه من الطل، وقصصه من ندى الليل، وأنت نائمة، تحتجين بأنك قد خلعت ثوبك، وغسلت رجليك، وتتركينه، مقدمة له شتى الأعذار.. ثم تجرؤين أن تسمى هذا حبًا؟! إن الحب النظري لا ينفع شيئًا، لابد أن يكون حبًا عمليًا لقد قال يوحنا الرسول "لا نحب بالكلام، ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1يو 3: 18). هذه النفس تفكر في ذاتها أكثر مما تفكر في الله.. تفكر في ثوبها وفي رجليها وفي راحتها، ولا تفكر في حبيبها الواقف منتظرًا الذي امتلأ رأسه من الطل.. الذاتية تمنعها من البذل، وحب الراحة يعطلها. هذه النفس تريد أن تجمع بين الله والعالم بين محبة الله ومحبة ذاتها. لا تريد أن تتعب. لا تريد أن تدخل من الباب الضيق. تريد حبًا بدون صليب.. ماذا لو أن الله أحبنا، دون أن يصعد على الصليب؟! ماذا لو أحبنا دون أن يبذل ذاته عنا؟!.. إذن لماذا لا نفعل مثله في المحبة الباذلة؟! ولكن هذه النفس المسكينة في سفر النشيد، تريد أن تحب الله وهى نائمة. و: انها تقول لله "أحبك يا رب، وأحب النوم أيضًا. أتراني أجمعكما معًا؟". هذه العروس تقول في النشيد "قلبي مستيقظ". أهي بالفعل يقظة حقيقية؟ وإن كانت كذلك، فما هي فاعليتها؟ هناك يقظة عقلية، ويقظة أخرى عملية. قد يكون القلب مستيقظًا: يحس أن هذا خطأ، ومع ذلك يقع فيه. يستطيع أن يميز صوت الله من صوت الغرباء، ومع ذلك لا يتبع صوت الله.. إنها صورة شرحها بولس الرسول في رسالته إلى رومية "الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي أريده فإياه أفعل" (رو7: 18، 19). إذن قد يكون القلب مستيقظًا، والإرادة ضعيفة. الضمير ميتقظ، ولكن لاعزيمة ولا إرادة. ونتيجة الضعف يسقط الإنسان في الشر الذي لايريده، كبطرس حينما أنكر سيده. صوت حبيبي قارعًا، أفتحي لي.. إن قول الرب لها "أفتحى لى" يعني إنها مغلقة أمامه. قد أغلقت نفسها على ذاتها تحوصلت داخل هذه الذات.. داخل عبارات ثوبي، ورجلي، وراحتي، ونومي.. كثيرًا ما تقف الذات عقبة في طريق الله.. تسأل إنسانًا أن يصلي، فيقول لك: وقتي، شغلي، دروسي.. تسأله أن يصوم. فيقول لك: رغباتي، شهواتي، غرائزي، جسدي، أفكاري.. دائمًا قبل كل شيء، والله هو آخر الكل.. وقد يصلي الإنسان، ولكن ذاته تكون كل شيء في صلاته، ينسى الله في صلاته، ولا يتذكر سوى طلباته. هي ذاته موضع اهتمامه، وليس محبة الله. هذه الأعذار تدل على أن النفس "تركت محبتها الأول، المحبة التي كانت مشتعلة قبلًا. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها. وأعذار كثيرة لا يمكن أن تعوقها. إنها في القلب فقط، لأن القلب مستيقظ، ولكنه ليس في الإرادة لأنها نائمة. "افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. فإن رأسي قد إمتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل". كلام عاطفي ومؤثر، قد يلين الحجر. ولكن هناك نفوسًا قاسية لا تلين مهما كلمها الرب بحب ورفق.. كثيرًا ما تقف قساوة القلب حائلًا بين الإنسان والله. لذلك ينصحنا الرسول قائلًا "إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" (عب3). وفي قصة عذراء النشيد، نجد أنها على الرغم من قساوة قلبها، ومن رفضها وعم استجابتها، لا تزال تبرر أخطاءها بالأعذار.. غسلت رجلي، فكيف أوسخهما؟!القديس أوغسطينوس يتأمل هذه العبارة من زاوية الخدمة.. كأن العروس تعتذر عن القيام بالخدمة مكتفية براحتها في الهدوء والتأمل، وفي ذلك تقول للرب: في طريقي إليك، في خدمتي لك، سأطأ الأرض، ستلمس قدماي التراب والمادة، فاتسخ.. سأصطدم بالناس وبعوائق الخدمة والعثرات، فأتسخ.. وأنا قد غسلت رجلي في المعمودية، وخرجت طاهرة، كيف أوسخهما؟! نعم، قد تتسخ رجلاك في طريق الخدمة، ولكن عزاءنا في ذلك أن السيد المسيح غسل أرجل التلاميذ. وقال لهم"أنتم الآن طاهرون" (يو13: 10).. أدخلي في الخدمة، وواجهى العثرات والمعطلات، وثقى أن يد الله ستكون معك، وستغسل كل ما يتسخ فيك.. موسى النبي الوديع الذي كان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس، دخل في الخدمة (غلا4: 2)، وغضب، وكسر لوحي العهد المكتوبين بأصبع الله. وبولس الرسول أضطر ان يغير صوته في الخدمة، وأن يقول أفيأتيكم بعصا، وقال "أيها الغلاطيون الأغبياء" (غلا3: 10) وقال أيضًا "قد صرت غبيًا وأنا أفتخر، أنتم ألزمتونى" (2كو12: 11). وفي كل ذلك غسل المسيح أرجل رسله وتلاميذه.. "أنا نائمة وقلبي مستيقظ". هل تدل هذه العبارة على حب بغير عمل، أم على حالة فتور، أم تدل على النفس البشرية، أم اعتذارها عن الخدمة؟ |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
حبيبي تحوَّل وعبر (نش 5: 6) تقول عذراء النشيد "خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟! غسلت رجليَ, فكيف أوسخهما؟! حبيبي مدّ يده من الكوة: فأنّت عليه أحشائي. قمت لأفتح لحبيبي, ويداي تقطران مرًّا, وأصابعي مرّ قاطر على مقبض القفل, فتحت لحبيبي, لكن حبيبي تحول وعبر, نفسي خرجت حينما أدبر. طلبتة فما وجدته, دعوته فما أجابني" (نش5: 3-6). آفة كبرى, أن يخطئ الإنسان, ولا يحس إنه أخطأ, فيكون ضميره نائمًا, وقلبه نائمًا أيضًا: لا يوبخ, ولا ينتهر, ولا يبكت, ولا يبث شعور الندم والخزي. أما هذه العذراء, على الرغم من نومها, كان قلبها مستيقظًا, كانت لها الحساسية القلبية المرهفة, على الرغم من أن الإرادة كانت ضعيفة.. كانت نائمة, كسلانة, لا تريد أن تقوم وتفتح الباب.. وعلى الرغم من هذا الكسل, كانت تلتمس لها الأعذار! " قد خلعت ثوبي, فكيف ألبسة؟ قد غسلت رجليّ, فكيف أوسخهما".. ؟ كثيرًا ما يأتي على النفس شعور, أنها تريد أن تستريح, وهكذا يصبح كل عمل روحي وقتذاك, ثقيلًا عليها. إن هذا العمل الروحي سيكون على حساب راحتها وهدوئها واستجمامها.. جاء صوت الله متأخرًا!! بعد أن خلعت ثوبها وذهبت لتنام. بعد أن تعبت من ثقل النهار وحرة, ودخلت لتستريح.. كيف تقوم مرة أخرى؟! وكيف تسير لتفتح الباب؟ هل تشاء يا رب أن تفتح بابًا جديدًا للجهاد، بعد أن خلنا ثوب الحرب ودخلنا نستريح؟! ألا تتركُنا لنستريح من هذا الجهاد؟ ونغفوا ولو قليلًا؟ حقًا إن الروح نشيط (القلب مستيقظ), ولكن الجسد ضعيف لذلك فأنا نائمة. صعب أن يأتينا الامتحان ونحن في وقت راحتنا، ونحن في برودة روحية, حينئذ تكون الحرب شديدة, لأننا غير مستعدين لها، ولعلة من أجل هذا السبب, قال لنا الرب " صلوا لكي لا يكون هربكم في الشتاء ولا في سبت" (مت24: 20). الشتاء وقت البرودة, والسبت وقت الراحة.. هذه العذراء أتتها الدعوة الإلهية في وقت رأته غير مناسب. كان ممكن أن يجيئني الرب قبل أن أدخل إلي حجرتي, وأخلع ثيابي, وأغسل رجلي, وأعطر يديِ, وأغفوا لأستريح.. ! هنا يبدو أن الدعوة الإلهية تحتاج إلي بذل, وإلي تضحية, وإلي عطاء,.. إنها طريقة الله.. يطلب من الأرملة أن تعطي من أعوازها (مر12: 44), ويطلب من إبراهيم أن يقدم ابنه الوحيد الذي تحبه نفسه (تك22: 2), ويطلب من أرملة صرفة صيدا أن تعطي لإيليا كل غذائها في وقت المجاعة (1مل17: 13), المسألة تحتاج إذن إلي بذل لأن العطاء من سعة هو عطاء رخيص, لا يمس القلب.. أما البذل فهو دليل الحب, ودليل على إن الإنسان قد خرج من سيطرة الذات, ووضع نفسه في المتكأ الأخير. وهذا هو محك الاختبار الذي يريده لك المسيح.. يريد أن يثبت حبك عن طريق تعبك وبذلك, وحسبما تتعب تبذل على هذا القدر يعوضك الرب أضعافًا في ملكوته. وكما قال الرسول: " كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبة" (1كو3: 8).. لا تستلم للراحة, قم وأتعب من أجل الرب. هكذا يكون الصليب هو علامة محبتك للرب, لابد أن تحمل صليبك في طريقك إليه, ولابد أن تصعد على الصليب.. عذراء النشيد دخلت إلي فراشها لتستريح، وتثاقلت في أن تقوم, ولكن على عكسها كان داود النبي, الذي أقسم قائلًا: " إني لا أدخل إلي مسكن بيتي, ولا أصعد على سرير فراشي, ولا أعطي لعيني نومًا, ولا لأجفاني نعاسًا, ولا راحة لصدغي, إلي أن أجد موضعًا للرب ومسكنًا لإله يعقوب" (مز132: 2 -3). كانت العذراء نائمة بينما الكتاب يحذرنا من هذا النوم بقوله: لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا (مر13: 36), " اسهروا إذن وصلوا". "أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا.. " أريد أن أتمتع بالنوم, وأتمتع بحبيبي في نفس الوقت!! أريد أن أحب دون أن أختبر" تعب المحبة".. إنه حبيبي, وأنا أحبه, وأعرف صوته, وأميز صوته, من صوت الغريب. مشاعري كلها نحوه. ولكن أن افعل الحسنى فلست أجد" (رو7: 18). عندما مد يده من الكوة " أّنت عليه أحشائي". قلبي كله له لكن إرادتي مبتعدة عنه بعيدًا, لا تقوى على الطريق الضيق, ولا تقوى على حمل الصليب.. متى تتصالح الإرادة, مع مشاعر القلب, وتخضع لها؟متى أسمع صوت حبيبي فأقفز من على فراشي, ولا أطيق أن أنام. إنما أخرج أنا أيضًا معه " ظافرا على الجبال, وقافزًا على التلال" (نش2: 7), أتبعه حيثما كان.. يكفي أنه تنازل وأتى ِ, ويكفي إنه ناداني بأسمى. إن نداء الرب له تأثيره العميق مهما تكاسلت عنه. إن كلمة الرب حية وفعالة, وأمضى من كل سيف ذي حدين (عب4: 12), ولا يمكن أن ترجع إليه فارغة (أش55: 11).. هذا الصوت الذي رنّ في أذني, قد رن بالأكثر في قلبي, ومهما كنت نائمة لابد, سأقوم.. " قمت لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مرًا" (نش5: 5), (والمر هو عطر سائل). هذه النفس المتدللة, كانت يداها تقطران مرًا.. أي لم تكن تكتفي بأن ترش شيئًا من العطر على يديها, بل كانت تغطسهما في إناء مملوء من عطر المر, وهي راقدة على فراشها, حتى تقوم ويداها " تقطران مرًا".. هذه النفس المتدللة المتكاسلة التي أعتذرت عن القيام للرب بقولها: " خلعت ثوبي فكيف ألبسة؟ غسلت رجلي فكيف أوسخهما.. ؟! وكانت عندها نظافة رجليها, أكثر من تفكيرها في الرب, وفتح مكان له في حياتها. هذه النفس المتدللة, حينما قامت أخيرًا لتفتح للرب, قامت متأخرة, وكان حبيبها قد تحول وعبر, وتركها لفترة مريرة من فترات التخلي.. لقد زارتها النعمة, ثم تركتها بسبب تكاسلها وتراخيها.. كثيرًا ما تزور النعمة إنسانًا, ولكنها تنظر إلي مدى تجاوبة مع عملها فيه. إن وجدته حارًا في الروح, يشترك في العمل الإلهي مع نعمة الرب, ألهبته النعمة بالحب, وصار بعملة معها شريكًا للروح القدس. أما إن تراخى وتكاسل, واستهان بدعوة الله, فأن النعمة تتركة. ويبقى هذا الإنسان وحيدًا, ويقاسى مرارة التخلي.. وسنضرب مثلًا لهذا التكاسل الذي يسبب التخلي.. قد تستيقظ من النوم, وتسمع صوتًا عميقًا يناديك من الداخل " قم صلي" قف وتكلم مع الله, ليكن الله هو أول من تحادثة في هذا اليوم. لا تتكاسل. لا تهمل الصلاة مثل أمس وقبل من أمس.. " ولكنك تقول "نعم سأصلي, ولكن بعد أن أغسل وجهي، بعد أن أسرح شعري, بعد أن أرتب ملابسي, بعد أن أقضي هذا الأمر وذاك".. ثم تشغلك عوائق كثيرة عن الصلاة, وتقف لتصلي فتجد فكرك مشتتًا, وعدد من الموضوعات قد دخل فيه. ولا تجد الحرارة السابقة فتقول في مرارة " حبيبي تحول وعبر" وتتذكر قول داود: يا الله أنت إلهي, إليك أبكر, عطشت نفسي إليك, " أنا أستيقظ مبكرًا".. كم مرة لمست النعمة قلوبنا, ولكننا تكاسلنا, فضاع الشعور, وضاعت العاطفة, وبردت الحرارة, وتحول حبيبنا وعبر.. كثير من الناس ضاعت الفرصة منهم, لأنهم قاموا للرب متأخرين, مثل العذارى الجاهلات, جئن بعد أن أغلق الباب.. لماذا إذن تتأخر في الاستجابة للرب؟! لو إن هذه النفس, عندما قالت " صوت حبيبي قارعًا ", قامت بسرعة وفتحت له, حتى قبل أن يتكلم, لكانت قد تمتعت بالوجود مع الرب, وما كانت بكت قائلة: نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني. عجيب هذا الأمر حقًا.. الله المحب الحنون, الذي يقول " فيما تدعو إني أنا أستجيب". تقول عنه العروس هنا " دعوته فما أجابني"!! الله الذي يقول " أطلبوا تجدوا" (لو11: 9), تقول عذراء النشيد "طلبته فما وجدته"!! إن الحب يا أخوتي, هو أكثر المشاعر حساسية, وأكثرها تأثيرًا. ولا يوجد شيء أكثر إيلامًا للقلب..، من أن تحب إنسانًا فيتجاهلك, وتقرع بابه فلا يفتح لك. لهذا قال الرب "جرحت في بيت أحبائي" (زك13: 6). لقد سعى الرب إلي هذا النفس, طافرًا على الجبال, قافزًا على التلال. وخاطبها بأرق الألفاظ " إفتحي لي يا أختي, يا حبيبيتي يا حماماتي, يا كاملتي",.. ومع كل ذلك لم تستجب. لذلك تركها لتختبر البعد عنه.. لعلها وجدت إنه هو الساعي, فتدللت وتثاقلت.. ورأت إنه الطارق, فتناومت وتكاسلت, وكما يقول المثل: إذا كثر العرض قل الطلب. لذلك أبتعد الرب عنها, لكيما تشتاق له, وتركها لكي تسعى إليه, وحرمها هذا الحب حتى لا تحسبه رخيصًا فتهمله. وجعلها تقاسي مرارة البُعد, حتى تقدر حلاوة الحب. إن المحبة يا ابنتي ليست ضريبة تفرض عليك, ليست أمرًا ترغمين عليه, وتغصبين نفسك على ممارسته, بل هو اشتياق وانجذاب.. أنت لا تريدين أن تفتحي لي, لا مانع, سأتركك إلي حريتك, إلي أن تشعري بأهمية وجودي في حياتك, إلي أن تفهمي مدى حاجتك إلي الوجود معي. وحينئذ ستندمين على بعدك, وسترجعين.. فترات التخلي: ستندم تلك النفس على تكاسلها, وبعدها عن حبيبها, وحينئذ ستبحث عنه, وترجع إليه. وسوف تدرك إن التخلي كان اختبارا نافعًا لها.. فترات التخلي هذه تأتي على كثيرين, فيشعرون إن هناك حائلًا كبيرًا بينهم وبين الله. يشعر الشخص منهم إنه واقف وحده, بعيدًا عن الله, بجفاف في حياته, وعدم إحساس بالعزاء الداخلي, يشعر إن عبادته بلا عاطفة, بلا حرارة, بلا حب, بلا روح, بلا صلة, بلا استجابة, بلا دالة.. والناس في مراحل التخلي على نوعين: نوع إذ مر بمرحلة، يلوم نفسه وليس الله: يقول: أنا السبب. أنا سلكت نحو الله مسلكًا جعله يتخلى عني. والأفضل أن أرجع إلي علاقتي الأولي بالله. إن الله في كمال محبته, لا يستحق مني هذه المعاملة السيئة. وفي إحساناته الكثيرة لا يصح أن أتذمر عليه هكذا. ليتني أصطلح معة. ونوع أخر إذ وجد في مرحلة التخلي يتذمر على الله: ويجدف على الله ويحتج ويقول: أين ما يقولونه عن حنانك وعن محبتك؟! وأفرض أنني أخطأت, لماذا لا تسامح؟ ولماذا لا تغفر؟ لماذا تعاملني هكذا؟ لماذا أنت شديد وقاسي وعنيف؟! وبمثل هذه التجاديف تزداد الخطية وتستفحل الخطية. وإنسان أخر في مرحلة التخلي لا يتذمر على الله, ولا يسترضيه, وإنما ينساه, يتركه.. يقول له: إن كنت أنت تتخلى عني, وتتركني, وأنا كذلك. حسن إن هذا الأمر قد جاء منك.. !! وهكذا يسلك بعيدًا عن الله, ويتمادى في تركه, ويتحول ما فيه من جفاف إلي انحراف.. وهكذا ينهار ويضيع, كما لو كان يعاند الله.. إن فترات التخلي, غالبًا ما تكون بسبب الإنسان.. وفي قصة عذراء النشيد كانت بسبب التراخي والكسل. هناك نوع أخر من التخلي, يكون بسبب الكبرياء. يسلك إنسان في كبرياء القلب, ينتفخ من الداخل,يظن في نفسه إنه شئ, تكبر مواهبه في عينيه. حنان الله الذي حفظه من الخطية فترة من الزمن, بسببه يشهر إنه بلا خطية!! وأن عنصرة فوق مستوى الخطأ, وإن الخطية خاصة بالمبتدئين فقط. وهكذا بسبب كبريائه, تتخلى عنه النعمة ليعرف ضعفه. وفي مرحلة التخلي يبحث عن نفسه فلا يجده, ويسقط في خطايا المبتدئين. ويحاول أن يصلي فلا يعرف, ويجاهد لكي يتوب فلا يقدر. ويصرخ من أعماق قلبه " طلبته, فما وجدته. دعوته, فما أجابني". ويرجع إلي الله ليقول له: أنا ضعيف ومسكين. أنا أضعف من أن أقاتل أصغرهم. وهذا التخلي يقود إلي الانسحاق والاتضاع.. حينئذ يعرف أنه في الموازين إلي فوق. وإنه خير له أن يأخذ موقف العشار المتذلل, وليس موقف الفريسي المنتفخ.. ويقول للرب: " وأخيرًا يا رب, عرفت أن الباطل المنسحق, خير من الحق المنتفخ".. حقًا إنه قبل الكسر كبرياء, وقبل السقوط تشامخ الروح (أم16: 8), وإن هذا الكبرياء من أسباب التخلي. سبب أخر للتخلي, هو إدانة الآخرين.. أحيانا ندين الآخرين على خطية معينة, فيسمح الله بتخليه عنا, أن نقع في نفس الخطية, لكي ندرك إننا لسنا أقوى من غيرنا, ولكي نعرف إن ثباتنا كان سبب عمل النعمة فينا, ولم يكن بسبب قوتنا الخاصة. ولي نعرف أيضًا قوة العدو المحارب, وعنفه وقسوته في حروبه, فنشفق على الساقطين بدلًا من أن ندينهم. حقًا, أن فترات التخلي تعطي القلب شفقة على الخطاة.. فيدرك تمامًا إن مغزى قول الرسول" أذكروا المقيدين كأنكم مقيدين أيضًا مثلهم, والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب13), وهكذا إذ وجد إنسانًا ساقطًا يبكي عليه كأنه هو الساقط. وهكذا كان يفعل القديس يوحنا القصير: كان إذ رأى إنسانًا ساقطًا يبكي ويقول: إن العدو قوي, وكما أسقط أخي اليوم قد يسقطني غدًا, وقد يقوم أخي من سقطته, وأنا لا أقوم, لذلك أبكي.. إن تخلي النعمة قد يكون ظاهريًا وليس حقيقيًا.. ربما يكون مجرد حرب سمح فيها الله للشيطان أن يضرب هذا الإنسان, دون أن تتخلى النعمة عنه, فيطن هذا الإنسان إنه قد سقط من يد الله.. بينما الله كضابط للكل يراقب الموقف بعمق شديد, وقد حوَّط بنعمته حول الإنسان حتى لا يضيع. مثال ذلك قصة أيوب الصديق. ظن في تجربته إن الله قد تخلى عنه, ولم يكن الأمر كذلك, وأنقذ الله أيوب. من الجائز أن يكون هذا التخلي, لونًا من الحكمة الإلهية في تدريب الإنسان وتربيته. مثال هذا الأم التي تعلم أبنها المشي. تمسكه بيدها ليمشي قليلًا, ثم تتركه فيقع ويصرخ ولا تقيمه بل تتركه حتى يقف ويتابع المشي, ولو حملته باستمرار على كتفيها, وأمسكته باستمرار في مشيه, ما تعلم المشي قط.. هكذا أيضًا تفعل الطيور في تعليم فراخها للطير, وهكذا يفعل الآباء في تعليم أبنائهم العوم. وهكذا يفعل الله في تربية الإنسان: بالتخلي يعلمه الحرب, كما قال داود النبي " مبارك الرب.. الذي يعلّم يديّ القتال, وأصابعي الحرب" (مز144: 1). نهاية التدليل والكسل والفتور في حياة هذه العروس, كانت تخلي الرب عنها. وفي فترات التخلي, ذاقت كم فعل العدو بها. إننا نصمد أمام العدو, طالما كانت قوة الرب معنا, فإن فارقتنا قوة الرب, وقعنا في أيدي أعدائنا. مثال ذلك شمشون الجبار, لم يستطع أحد أن يقوى عليه, طالما كانت قوة الرب معه. فلما كسر نذرة, وفارقته القوة الإلهية, استطاع أعداؤة أن يذلوة. كذلك قيل عن شاو ل الملك " وفارقت روح الرب شاو ل, وبغتة روح ردئ من قبل الرب" (1صم16: 14). هذا الروح الردئ لم يكن له عليه سلطان قبل أن يفارقه روح الرب.. إن العدو ينتهز فترات التخلي, لكي ليضرب ضرباته بلا رحمة.. وهكذا تقول عذراء النشيد "ضربوني, جرحوني, رفعوا إزاري عني.." لقد كنت مصانة أيها العروس داخل بيتك, وكان الرب يقرع على بابك ويناديك.. أما الآن فقد ضاعت هيبتك الروحية في شوارع المدينة.. لقد وجد العدو فرصته وانتهزها. بدأ العدو يضربك, ويعريكِ, وينزع عنك ثوب البر الذي ألبسك الرب إياه من قبل. الابن الضال أيضًا أذله العدو وهو في كورة بعيدة.. عندما ابتعد هذا الابن عن الأب, استطاع العدو أن يضربه وبلا سلاح. واستطاع أن ينزع إزاره عنه. إنها فرصته وقد سمح له الرب بها.. ولكن هل يمكن أن يسمح الله للعدو بأن يفعل هذا؟ نعم يمكن لأجل, فائدة الإنسان, يمكن أن " يسلم مثل هذا للشيطان لإهلاك الجسد, لتخلص الروح في يوم الرب" (1كو5: 5).. لقد سمح الله مرة للشيطان أن يضرب أيوب البار, أفلا يسمح له بأن يضرب الكسالى والمتهاونين والمخالفين وصاياة؟! وهكذا ممكن أن يسلم الله إنسانًا لأيدي أعدائه.. عندما أخطأ بنو إسرائيل, سلمهم الرب لأيدي أعدائهم أكثر من مرة, وتكررت هذه العبارة مرارًا أكثر من مرة في العهد القديم, مثلما ورد في سفر القضاة " فحميّ غضب الرب على إسرائيل. فدفعهم إلي أيدي ناهبين نهبوهم, وباعهم بأيدي أعدائهم حولهم. ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم.. فضاق بهم الأمر جدًا" (قض2: 14, 15), سمح الله أيضًا أن يدفعهم إلي أيدي نبوخذ نصر, وان يسلمهم إلي سبي بابل وسبي أشور. كان خيرًا لهم أن" يبكوا على أنهار بابل, وأن يعلقوا قيثاراتهم على أشجار الصفصاف" (مز 137). كانت فترة التخلي نافعة روحيًا. وكما قال الكتاب " أملأ وجوههم خزيًا, فيطلبون أسمك يا رب.. " وهكذا حدث مع عذراء النشيد: لولا التخلي ومتاعبه, ما كان ممكنًا أن نقول "أحلفكن يا بنات أورشليم, إن وجدتن حبيبي, أن تخبرنه بأنني مريضة حبًا". من أين أتت عبارة " مريضة حبًا".. ؟ إنه إحساس الاشتياق جاء كثمرة طبيعية للتخلي والبعد والحرمان.. كانت النعمة تسعى إلي هذه العروس المتدللة المتكاسلة, وتقرع بابها, ولكنها لم تشعر بقيمة هذه النعمة. فلما قاست مرارة التخلي, ولما ضربت وجرحت من الحرس الطائف, حينئذ أحست إنها كانت في نعمة لم تقدرها.. وحينئذ شعرت بحاجتها إلي الرب الذي لم تفتح له قبلًا فقالت: " إنني مريضة حبًا" حسن أن هذه العروس, لمل تحول عنها الرب وعبر, لم تتركه هي أيضًا. فمن داخلها قالت " نفسي خرجت حينما أدبر". ومن جهة العمل قالت " طلبته فما وجدته, دعوته فما أجابني " ولما لم تجده ولم يجبها, لم ينته بها الأمر عند هذا الحد.. بل سعت إليه. |
رد: تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنوده الثالث
ذكريات المحبة مع الله تقول عذراء النشيد "حبيبي لي، وأنا له" (نش2: 16). وتقول طلبت من تحبه نفسي.. أرأيتم من تحبه نفسي" (نش3: 1، 2). ونود هنا أن نتكلم عن هذه المحبة وذكرياتها. خبرات الحياة مع الله: ما أجمل أن نري النفس البشرية هنا تسجل ذكرياتها الروحية مع الله، وتحكي خبراتها وعشرتها وتاريخها.. تمامًا كما فعل سليمان في سفر الجامعة، وحكي حياته مع الرب وعلاقته به، وكيف مرت به مشاعر متنوعة حتى وصل إلي الله.. إنه لون من الاعتراف.. قصة النشيد، قصة نفس عاشت مع الله، واختبرت الحلو والمر، جربت المتعة في مذاقة الله، وجربت البعد عنه. أختبرت جبل التجلي، كما أختبرت بستان جثسيماني، قالت في خبرتها " صوت حبيبي قارعًا افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي" شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني". واختبرت أيضًا التخلي والحرمان بقولها "حبيبي تحول وعبر" طلبته فما وجدته".. اختبرت كيف تكون سوداء، وكيف تكون جميلة.. سمعت عبارة "أنت جميلة يا حبيبتي، عيناك حمامتان". وقالت في مقابلها "بنو أمي غضبوا علي، جعلوني ناطورة الكروم".. مشت في طريق الرب الطويل، بهدوئه وبمشاكله، بما فيه من نجاح ومن فشل. ومازالت تقول لكم إن من أصدق أوصافه، قول الرب لنوح بعد الطوفان "مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لاتزال" (تك8: 22). لن تعيشوا أيها الأحباء في نهار دائم، وفي حرارة دائمة ودفء دائم. لابد أن يكون في حياتكم أيضًا: ليل وبرد وشتاء.. ستختبرون هذا، مهما كنتم من أبناء النور، ومن أبناء النهار.. وهذه العروس تحكي فترات الحرمان والبعد، وبحثها عن الله دون أن تجده، وضرب الحراس لها، ونزع إزارها عنها.. ولكن كل ذلك لم يفقدها محبتها لله. وفي فترات الحرمان، كانت تقول "أرأيتم من تحبه نفسي؟".. لم تفقد حب الله إطلاقًا، وإن كانت قد فقدت عشرته أحيانًا. الحب في قلبها علي الدوام، مهما ضعف الجسد، ومهما بدا من الخارج أنها بعيدة، تطلب فلا تجد.. علاقتها بالله هي علاقة حب، وليست علاقة رسميات ولا علاقة واجبات ووصايا، ومجرد طقوس وناموس مما انتقده الرب في سفر اشعياء (أش1)، ولا هي علاقة خوف.. إنما هي علاقة حب، مبني علي أسس عميقة باستمرار.. عندما تتكلم عن الله لا تقول "إلهي" إنما في كل مناسبة تقول عنه "حبيبي" "الذي تحبه نفسي". كما أنه علمنا في الصلاة "يا أبانا" علامة علي الحب.. وهكذا تقول هذه النفس "حبيبي لي وأنا له" كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين "تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي.." (نش2: 3). إياكم أن تنظروا إلي الله كمجرد جبار يحكم السماء، بل عليكم أن تحبوه من كل القلب. هكذا علمتنا المسيحية.. محبة الله هي الأساس، هي الوصية العظمي. وكل الفضائل، وكل الوصايا، وكل الممارسات الروحية، إنما تنبع من هذه المحبة. ولا توجد وصية منفصلة بذاتها. فكل الفضائل ماهي إلا تعبير عن حب الإنسان لله، ونتيجة لهذا الحب.. يقول الرب "من يحبني يحفظ وصاياي" (يو15) أما حفظ الوصايا بدون حب، فليس هو عملًا روحيًا، وليس هو فضيلة مسيحية. هناك أناس يسلكون حسنًا بالمستوي الأخلاقي، والمستوي الإجتماعي، ولكنهم ليسوا روحيين. سمعتهم طيبة، ولكن سلوكهم الطيب ليس نابعًا عن محبتهم لله. أسباب محبة النفس لله: حب العروس للرب في سفر النشيد، له أسباب عديدة منها: 1- أول كل شيء، هو أن حب الله متعتها ولذتها: تقول له "حبك أطيب من الخمر"، محبة تسكر، تنتشي بها النفس. بل تقول أكثر من هذا "إنني مريضة حبًا، أي أن محبة الله دغدغت أعضاءها، فلم تعد تحتمل تلك الطاقة الجبارة من الحب الإلهي. جسدها أضعف من طاقات الروح، فلم تعد طاقة الجسد تقدر علي احتمال الحب الروحي، فأصبحت مريضة حبًا.. إنسان ترتفع درجة حرارة جسده، إذ هو مريض جسديًا، وإنسان ترتفع بالحب حرارة روحه، فإذ هو مريض حبًا، "مدروخ" من الحب الإلهي. مثلما قيل لبولس "كثرة الكتب حولتك إلي الهذيان يا بولس" (أع 26: 24). هذا الهذيان البولسي المقدس، نشتهي جميعًا أن نصاب به.. إنسان من فرط الحب الذي فيه، يتكلم كلامًا لا يفهمه الناس، ويشعر شعورًا لا يدركه الناس، فيحسبونه يهذي.. ! مشكلتنا أن محبة العالم تتصارع مع محبة الله فينا. فالجسد يشتهي ضد الروح، نحن نحب الله، ونلتذ بالعالم، ويوجد فينا شيء من التضاد ومن التناقض ومن الصراع. أما الإنسان الذي يحب الله حقًا، ومحبة الله لذاته، فليس فيه صراع ولا جهاد. ولا يتعب في تنفيذ الوصية، لأنها لذته. يتغني بوصايا الله، كما تغني بها داود في مزاميره " وصاياك هي لهجي" (مز119)، هي لذته. سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي. وجدت كلامك كالشهد فأكلته". واسم الله أيضًا حلو في فمه، كما نقول "حلو اسمك ومبارك في أفواه قديسيك، وكما قال داود "محبوب هو إسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي" (مز119). وكما تقول عذراء النشيد "اسمك دهن مهراق"، ونترجمها في القداس "طيب مسكوب هو اسمك القدوس". "طيب مسكوب هو اسمك، لذلك أحبتك العذاري". العذاري هي النفوس التي لم تعط ذاتها لآخر، وأحبت الرب من كل القلب، سواء أكانت من البتوليين والمتزوجين. لذلك لقب الكتاب كل الذين يخلصون بخمس عذاري حكيمات. ثانيًا: العروس تحب الله، لأنها لا تجد له شبيهًا بين الآلهة. كما نغني له في التسبحة " من في الآلهة يشبهك يا رب، أنت الإله الحقيقي صانع العجائب؟!". إن وضعنا الله وسط كل مشتهيات العالم، وكل آلهته، نجده يفوقها. لذلك تقول عذراء النشيد: "حبيبي أبيض وأحمر، معلم بين ربوة" (نش5: 10). الربوة هي 10000 أي إذا وضعت حبيبي بين عشرة آلاف، تجده مميزًا بينهم. متي إذن يتميز الرب في قلبك عن كل مشتهيات الدنيا، وكل سكانها، وتجده يفوقهم جميعًا. ثالثًا: العروس تحب الرب أيضًا، لأنه جميل: "حلقه حلاوة وكله مشتهيات" (نش5: 16). هكذا تقول عروس النشيد للرب. ماذا تعني بعبارة (جمال الرب)؟ تعني أن إنسانًا يسير في طريق الرب فيجد الباب ضيقًا، والوصية ثقيلة، ولولا خوف الأبدية ما كان يستمر. فيقول للرب: من أول معرفتي بك، عرفت التجارب والضيقات، وعرفت الصليب وجثسيماني، وعرفت البكاء والدموع وهكذا لا يري الرب جميلًا.. ربنا هذا، هو شهوة نشتهيها، ولا نستبدل به شهوة العالم. وكما قال أحدهم "إن القداسة هي استبدال شهوة بشهوة، استبدال شهوة العالم بشهوة الله". نشتهي الله وكل ما يحيط به، ونجد فيه لذه وفرحًا. ومعه لا يعوزنا شيء. ما أجمل التأمل في صفات الله. إنها تفرض محبته في القلب.. صدقوني لو أنكم لم تأخدوا من سفر النشيد سوي عبارة "كله مشتهيات" لكان هذا يكفي.. إن الله ليس ضريبة مفروضة عليكم، وليس نيرًا موضوعًا علي اعناقكم، وليس حاكمًا جبارًا، بل هو كل مشتهياتكم. كله مشتهيات. لما أحب أوغسطينوس الله، صغر العالم في عينيه بكل شهواته، ولما أحب بولي الله قال "خسرت كل الأشياء، وأنا احسبها نفاية لكي أربح المسيح" (في3: 8). وأنت عندما تحب الله، ستموت محبة العالم في قلبك. قد تعتقد الآن أنه من الصعب التخلص من إحدي الخطايا، لأن محبة الله لم تملك عليك بعد. أما إن أحببته، فستجد أن الخطية فارقتك بكل سهولة.. رابعًا: العروس أحبت الله، لأنه راعيها: يهتم بها، يرعاها بين السوسن، في مواضع خضرة، عند مياه الراحة. يرعاها في الجنات، عند خمائل الطيب "حبيبي نزل إلي جنته، إلي خمائل الطيب، ليرعي في الجنات، ويجمع السوسن" (نش6: 2)، كلام موسيقي وجميل.. ولعلك تقول أين هذه الجنات والسوسن والطيب، ولسنا نجد سوي صوم ومطانيات وتجارب؟! لو أحببت الله لأحببت كل هذا ووجدته خمائل من الطيب. خامسًا: والعروس أحبت الرب لأنه قوي، ويحرس ويسند، تشعر النفس في رعايته أنها محاطه بقوة عجيبة (نش6).. إله جبروته ليس ضد الإنسان، وإنما من أجل الإنسان، لحمايته ورعايته.. ما أكثر الصفات التي من أجلها نحب الله، لو أحصيناها واحدة فواحدة، ما كان العمر كله يكفي لسردها.. وبعد، نود بهذا المقال أن نختم هذه التأملات حاليًا في سفر النشيد. |
الساعة الآن 12:24 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025