![]() |
كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث الجزء الأول من هذا الكتاب يشمل موضوعين: أ-الخطية هي إنفصال عن الله.. وقد ألقينا في هذا الموضوع محاضرتين في الكاتدرائية الكبري يومي الجمعة 15/10/76، 27/7/1979. ب-الرجوع إلي الله.. وقد ألقينا في هذا الموضوع ثلاث محاضرات في الكاتدرائية الكبري أيام الجمع: يوم 19/8/1977 بعنوان "إرجعوا إلي أرجع إليكم"، يوم 6/6/1980 بعنوان "الرجوع إلي الله"، يوم 17/7/1981 بعنوان "العودة إلي الله"، أما الجزء الثاني وهو (الصلح مع الله). فقد ألقينا فيه محاضرتين في الكاتدرائية الكبري في يومي الجمعة 21/3/75، 12/11/1976 مع محاضرتين عن (كيف أصطلح مع الله) بتاريخ 27/11/70، 4/12/1970. أضيفت إليهما محاضرة أخري عنوانها (الخطية خيانة) ألقيت في الكاتدرائية يوم 13/4/73 خلال أسبوع الآلام. ومن ثمرة هذه العشر محاضرات، اصدرنا هذا الكتاب.. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الخطية انفصال عن الله ما هي الحياة الروحية؟ أليست هي الإلتصاق بالله، كما يقول المرتل في المزمور: " أما أنا فخير لي الإلتصاق بالرب" (مز 73: 28). بل هي أكثر من هذا الإلتصاق أيضًا. إنها الثبات في الرب، حسبما قال لنا "إثبتوا في وأنا فيكم" (يو 15: 4). إنها حياة إنسان ثابت في الرب، يتمتع بعشرته، ويتمتع بمحبته. يحتفظ بالله في قلبه، ويعيش هو في قلب الله. فهل الخاطئ إنسان ثابت في الله، وثابت في محبته؟ كلا، فالخاطئ له طريق اَخر، غير طريق الله. إنه قد إنفصل عن الله في التصرف، وفي الأسلوب، وفي المشيئة. فأصبحت له مشيئة غير مشيئة الله. وصار يريد ما لا يريده الله. إنه إنسان يتحدي الله بلا خوف، ويكسر وصاياه. وفي كسره لوصايا الله، يكون قد إنفصل عن محبته أيضًا. لأن الرب يقول: "إن كنتم تحبونني، فإحفظوا وصاياي" (يو 15: 15) "الذي عنده وصاياي ويحفظها، فهو الذي يحبني" (يو 15: 21). الخطية إذن هي إنفصال عن محبة الله، وعن وصاياه. هي حياة إنسان قد أعلن أستقلاله عن الله وعن ملكوته، وصار يسلك حسب هواه، دون أن يضع الله أمامه. إنه إنسان قد إنفصل عن الله، وتمسك بأن تكون له شخصية قائمة بذاتها، بعيدة عن توجيه الله وقيادته، تفعل ما يحلو لها.. كما حدث حينما طلب بنو إسرائيل لهم ملكًا يحكمهم بدلًا من حكم الله لهم، فقال الله لصموئيل النبي: "هم لم يرفضوك أنت، إنما إباي قد رفضوا" (1 صم 8: 7). "رفضوا أن أملك عليهم".. رفضوا حياة التسليم التي يحياها أولاد الله، في طاعة وخضوع لمشيئته.. والملك الذي صار لهم، شاول، سلك هو أيضًا حسب هواه، مستقلًا عن الله، لا يريد أن الله يدبر له أموره، أو يدير له أموره، بل كان يدير كل شيء بفكره الخاص، دون أن يسأل عن مشيئة الله أين هي! فالخطاة ينفصلون عن إرادة الله، وينفصلون أيضًا عن إرادة الله.. وقد عبر الله عن هذا الإنفصال بقوله: "رفضوني "و" تركوني". فقال "تركوني أنا ينبوع الحياة الحية، وحفروا لأنفسهم اَبارًا، اَبارًا مشققة لا تضبط ماء" (أر 2:13). وقال أيضًا "رفضوني أنا الحبيب مثل الميت المرذول" (مز 37: 21). نعم، إن الخطية هي إنفصال عن الله، ترك له، ورفض له. الخاطئ لا يشعر بحب نحو الله، ولا بدالة معه. إنه إنفصل عن الله، ليس فقط في سلوكه وفي تصرفه، وإنما أيضًا في قلبه وفي حبه ومشاعره. أصبح القلب يحب أشياء أخري، قد حلت محل الله فيه.ولم يعد الله في إهتمامه، بل صار يهتم بأمور أخري غير الله، هي التي تشغل الآن فكره، وتشغل وقته، وتشغل قلبه..! ففي حالة الخطية، ينفصل القلب عن الله، علي قدر ما يحب العالم الحاضر. فإن صارت محبته للعالم كاملة، يكون إنفصاله عن الله كاملًا، لأن "محبة العالم عداوة لله" (يع 4: 4)، "إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب" (يو 2: 15). لا يمكن إطلاقًا أن يجمع أحد بين ضدين: محبة الله، ومحبة الخطية. وعليه أن يختار: إما هذه، وإما تلك.. إن عشت مع الله، لا بد أن تنفصل عن الخطية، وإن عشت في الخطية، تكون بالضرورة منفصلًا عن الله. تنفصل عنه، وعن ملكوته، وعن مشيئته، وعن وصاياه، وعن محبته، وعن عمله، وعن الشركة معه.. وكما قال الرسول: "الله نور، ليست فيه ظلمة البتة. إن قلنا إن لنا شركة معه، وسلكنا في الظلمة، نكذب ولسنا نعمل الحق" (1 يو 1: 5، 6). الله نور، والخطية ظلمة. وقد قال الكتاب: "أية شركة للنور مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14). الذي يعيش في الظلمة، يكون بلا شك قد إنفصل عن النور، أي عن الله. والناس الذين إنفصلوا عن السيد المسيح ورفضوه، قيل عنهم إنهم "أحبوا الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو 3: 19). إذن فأنت بالخطية ترفض الشركة مع الله. وأية شركة؟ الحياة الروحية هي شركة مع الروح القدس، كما نسمع في البركة في اَخر كل إجتماع (2 كو 13: 14). وبهذه الشركة نصير "شركاء الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 4)، لا نصير شركاء في شركاء في الجوهر أو في اللاهوت، حاشا.. إنما نصير شركاء في العمل. روح الله يشترك معنا في العمل، يعمل فينا، ويعمل معنا، ويعمل بنا.. فهل أثناء الخطية، يكون روح الله مشتركًا معك؟! أم أنت تكون قد فضضت هذه الشركة، وإنفصلت عن عمل الروح، وقلت للرب: لك طرقك، ولي طريق..؟! وأصبحت بهذا الإنفصال عن روح الله، تخالف التحذير الذي قال فيه الرسول "لا تطفئوا الروح" (1 تس 5: 19) "لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم" (أف 4: 30). إن الخاطئ لا ينفصل عن شركة الروح فقط، بل أنه بالأكثر يقاوم الروح، كما في التوبيخ الصادر من القديس إسطفانوس (أع 7: 51). الخطية هي إنفقال عن الروح القدس، وعن الإبن أيضًا.. الإبن الذي هو "حكمة الله" (1 كو 1: 23). لا بد أن تكون منفصلة عنه النفوس التي لقبت بالجاهلات، كما في مثل العذاري الجاهلات (مت 25: 2). فالتصرفات التي تصدر عن الخطاة، هي تصرفات جاهلة، منفصلة عن الحكمة الإلهية، نقول عنها للرب في القداس "جهالات شعبك". وهكذا قيل في سفر الجامعة إن "الجاهل يسلك في الظلام" (جا 2: 14). الخطية هي إنفصال عن المسيح إذن، أقنوم الحكمة. المسيح الذي قال لنا "أنتم في، وأنا فيكم" (يو 14: 20).. كيف يمكن أن يكون فينا أثناء إرتكابنا للخطية؟! كيف يمكن أن نكون فيه، ونحن في الخطية في نفس الوقت. واضح أنه إن كانت الخطية فينا، نكون وقتذاك في حالة إنفصال عن المسيح. وكيف نكون أثناء الخطية هيكلًا للروح القدس؟! كيف يكون روح الله القدوس ساكنًا فينًا (1 كو 3: 16). ونحن نرتكب الخطية، بينما هيكل الله مقدس هو (1 كو 3: 17). |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الانفصال عن الله بالخطية لا شك أن الخطية إنفصال عن الله وعن شركته. إنها إنفصال عن القداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب.. لأنه لا يعاين الله إلا أنقياء القلب (مت 5: 8). فالذي يفقد نقاوته بالخطية، لا يمكن أن تري عينه الله. بل يكون قد إنفصل عنه هكذا وقفت الخطية طوال تاريخها كحاجز بين الله والإنسان.. وصار يمثل ذلك الحاجز المتوسط في خيمة الإجتماع. هذا الحاجز - أو الحجاب - الذي كان يفصل الشعب عن قدس الأقداس، فلا يستطيعون الدخول إليه (خر 26: 33)، رمزًا إلي إنفصالهم عن الله بالخطية.. هذا الحاجز الذي هدمه المسيح بصليبه، ونحن في كل يوم - بخطايانا - نحاول أن نبنيه مرة أخري!! الكتاب يقول عن العذارى الجاهلات إنه قد "أغلق الباب"، ووقفت هؤلاء الجاهلات خارجًا (مت 25: 11)، بينهن وبين الرب هذا الفاصل، هذا الباب المغلق. يتضرعن قائلات: "يا ربنا يا ربنا، أفتح لنا"، فلا يفتح لهن. بل يقول لهن: "إني لا أعرفكن".. لقد إنفصلن عنه تمامًا، وعن ملكوته وعن عرسه، وإنفصلن أيضًا عن العذراي الأخريات الحكيمات.. وفي قصة الغني ولعازر، نقرأ عن نفس الإنفصال. لعازر في حضن أبينا إبراهيم، والغني ينظر "من بعيد". وقد قد قال له أبونا إبراهيم "بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت.." (لو 16: 26). الأبرار في الآخر، يكونون في أورشليم السمائية، مسكن الله مع الناس.. وهذه لا يدخلها شيء دنس، ولا ما يصنع رجسًا.. إلا المكتوبين في سفر الحياة (رؤ 21: 27). ينفصل الأبرار عن الخطاة إلي الأبد. يفصل الله الأبرار عن الخطاة، والقمح عن الزوان، والخراف عن الجداء.. ويطرح الأشرار في الظلمة الخارجية.. الظلمة تعني إنفصالهم عن النور، أي عن الله. وتعني إنفصالهم عن المدينة المنيرة، أورشليم السمائية. وعبارة الخارجية تعني أنهم خارج جماعة المفديين الغالبين الأبرار، بعيدًا عن القديسين، الذين كانت حياتهم بعيدة عن حياتهم ومنفصلة عنها. إذن الخاطئ سينفصل في السماء عن جميع أحبائه علي الأرض. هنا علي الأرض الكل معًا: القديس مع الخاطئ. ولكنهم في السماء سينفصلون. فإن كان أحد علي الأرض يحب إنسانًا بارًا، فإنه لن يراه في المساء، إلا إذا تاب ههنا، وصار باراص مثله، وإستحق بهذا أن يوجد في الموضع الذي سيوجد فيه ذلك البار. أما إن ظل خاطئًا، فقد إنقطعت صلته بذلك الحبيب إلي الأبد، مهما كان إبنًا، أو أخًا، أو أبًا، أو صديقًا.. لا بد أن يكون مثله، ليتمتع بعشرته في الأبدية.. فإن كان الإثنان اللذان يحبان بعضهما البعض خاطئين معًا، فماذا يحدث؟ أقول إن العذاب الذي يلاقيه كل منهما في الأبدية، لا يعطيه فرصة أن يفكر في غيره، بل عذاب غيره يكون عذابًا اَخر مضافًا إليه، وليس متعة لعشرته. الحل الوحيد إذن، الذي يجمع المحبين، ليتمتعوا بالعشرة معًا هي أن يحيوا ههنا في بر، ويجتمعوا معًا في السماء. الخطية إذن تفصل الإنسان عن الله وعن القديسين وعن أحبائه وتفصله عن الملائكة أيضًا.. فالكتاب يقول إن ملائكة الله "حالة حول خائفيه وتنجيهم"فإن كنت من خائفي الرب تتمتع بعشرة الملائكة هنا وفي السماء أيضًا.. أما الخطاة فإنهم يفصلون أنفسهم عن طغمة الملائكة، التي لا تحتمل أن تري أعمالهم الردية.. بينما في وقت خطيتهم يحيط بهم الشياطين، يشجعونهم علي ما هم فيه! فالخطية إذن، ليست هي إنفصالًا عن الله وحده، بل أيضًا عن ملائكته وقديسيه وسمائه وملكوته، في الأرض وفي السماء.. واضح في قصة الإبن الضال أنه إنفصل عن أبيه. إنفصل عن الآب. طلب ذلك ونفذه فعلًا، وذهب إلي كورة بعيدة (لو 15: 13). وفي نفس الوقت الذي إنفصل فيه عن الآب، إنفصل عن بيته الذي يرمز إلي الكنيسة بيت الله، وإنفصل عن أعضاء أسرته الذين يرمزون إلي جماعة المؤمنين. وهكذا حدث للخروف الضال: إنفصل عن الراعي، وعن الحظيرة، وعن باقي الخراف.. في نفس الوضع حدث للدرهم المفقود (لو 15). الخطية إنفصال عن الله، وإنفصال عن البر والخير، بطبيعتها.. إنها إنفصال عن الخطية الإلهية التي رسمها الله لخلاصك، وإنفصال عن الخط الإلهي الذي يريدك الله أن تسير فيه. هي إنفصال عن الحق، وسير في الباطل، والحق هو الله (يو 14: 6).. بدأ الإنفصال عن الله من أول خطية اَدم.. إنفصل اَدم عن المحبة والدالة والعشرة التي كانت بينه وبين الله، فأصبح يخاف منه، ويختبئ من وجهه، وإن سمع صوته يهرب من لقائه، لا يستطيع أن يراه! أو بأي وجه يراه؟! هذا من ناحية. ومن ناحية أخري، إنفصل اَدم عن شجرة الحياة، وعن الجنة، مكان لقائه مع الله (تك 3: 22، 23). وماذا أيضًا؟.. إنفصل كذلك عن الصورة الإلهية التي كانت له. فلم يعد بعد الخطية علي شبه الله ومثاله. كانت نتيجة خطيته هي الإنفصال عن الله، ونفس الخطية ذاتها كانت إنفصالًا عن الله. فكيف ذلك؟ كان الله يدبر أمور اَدم في الجنة، ويرسم له الخط الذي يسير فيه. ولكن اَدم في خطيئته بدأ يستقل عن الله، ويري ما هو الصالح لنفسه، وما هو المستقبل الذي يشتهيه حين يصير هو وحواء "مثل الله، عارفين الخير والشر" (تك 3: 5). وبدأ الإنسان الأول يختار له أصدقاءه ومشير يه الذين يسمع لهم أكثر من الله. ويتصرف كشخصية مستقلة قائمة بذاتها.. وهكذا إنفصل عن الله في ذات الخطية وخالف الله. وقايين لما أخطأ، إنفصل أيضًا عن الله.. وصار تائهًا وهاربًا في الأرض، خائفًا ومرتعبًا. لأنه في إنفصاله عن الله، إنفصل عن المعونة والسلام، وليس عن البر فقط. وهكذا قال للرب عبارته المملوءة مرارة وحسرة "إنك قد طردتني اليوم.. ومن وجهك أختفي" (تك 4: 14). لعله نفس الخوف الذي خافه داود النبي حينما قال "لا تطرحني من قدام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني" (مز 50). إن عبارة "حتي متي تحجب وجهك عني" (مز 12) أخف بكثير من طرد الإنسان من أمام وجه الله، كما حدث لقايين. وعقوبة شاول كانت أصعب، إذ "فارق روح الرب شاول" (1 صم 16: 14). ولذلك قيل بعدها مباشرة "وبغته روح ردئ من قبل الرب". لقد إنفصل عن الله، فأصبح للشياطين سلطان عليه.. صار كمدينة غير محصنة، وكبيت بلا حماية، تعبث به الشياطين. ما أصعب التدرج في الإنفصال عن الله.. عصيان لله، خصومة مع الله، إنفصال عن الله، حجب وجه الله عن الإنسان، مفارقة روح الرب للإنسان، طرحه من قدام وجه الله، لتبغته الأرواح الرديئة.. بل هناك وضع أصعب في الإنفصال، وهو ما قيل عن الغصن الذي لا يصنع ثمرًا، إنه "يقطع ويلقي في النار" (يو 15: 6) (مت 3: 11).. نهاية مؤلمة حقًا، لغصن كان في يوم من الأيام، من أغصان الكرمة. ولكنه الآن إنفصل عنها وعن باقي الأغصان. إذن فالخطية كذلك هي إنفصال عن الكنيسة.. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الخطية انفصال عن جماعة القديسين الكنيسة هي جماعة من القديسين يعيشون في طاعة الله. وفي قانون الإيمان نقول "نؤمن بكنيسة واحدة مقدسة". وحتي الكنيسة - كمكان - هي موضع مقدس للرب، نقول عنه في المزمور "ببيتك تليق القداسة يا رب" (مز 96). ويقول الله لشعبه "لتكن محلتك مقدسة" (تث 23: 14). لذلك فإن الخاطئ - بخطاياه أو بهرطقته - يفصل نفسه - سلوكيًا أو فكريًا - عن جماعة المؤمنين المقدسة. أو تفصله هي.. إن مجرد أعمال الخاطئ تفرزه عن جماعة المؤمنين: حياته غير حياتهم، ومبادئه غير مبادئهم، وسلوكه، وشكله، طرقه وأساليبه.. كل ذلك يجعله منفصلًا عنهم، روحًا وفكرًا ومنهجًا.. بل حتى لغته وألفاظه تختلف عن لغة القديسين وألفاظهم. وكما قيل "لغتك تظهرك" (مت 26: 73). لذلك فإن هذا الإنفصال واضح. يقول فيه يوحنا الرسول: "بهذا أولاد الله ظاهرون، وأولاد إبليس (ظاهرون)" (1 يو 3: 10). إنه إنفصال في النوعية، في السلوك، في محبة الله.. تمايز واضح بين صفات الخراف وصفات الجداء. من المفروض أن تكون الكنيسة واحدة في الفكر والإيمان والروح. ومن يشذ عن هذا الوضع، إنما يعبر عن إنفصاله الشخصي عن هذه الروح الواحدة. فإن صار بهذا خطرًا علي الجماعة المقدسة فإنها تفصله من عضويتها، بعد أن فصل نفسه عمليًا. وفي هذا يقول الكتاب: "إعزلوا الخبيث من بينكم" (1 كو 2: 7 - 11). إنها عملية فصل تقوم بها الكنيسة، لتبقي عضويتها مقدسة. ومن جهة المنحرفين في الإيمان، نري القديس يوحنا الرسول، الذي تكلم عن المحبة أكثر من جميع الرسل، يقول من جهة هؤلاء المنحرفين: "إن كان أحد يأتيكم، ولا يجئ بهذا التعليم، فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام. لأن من يسلم عليه، يشترك في أعماله الشريرة" (2 يو 10، 11). ومن هنا، كانت المجامع المقدسة تفصل الخارجين عن الإيمان. وينطبق هنا مبدأ "خارج المحلة" المعروف في العهد القديم. تحدث عملية فصل. وما يختص بالخطية وبكل ما هو دنس، يكون خارج المحلة.مثلما حدث مع مريم أخت موسى وهرون، لما تقولت علي موسى نبي الله، وضربها الله بالبرص عقابًا لها "حجزت مريم خارج سبعة أيام" (عدد 12:15). وبسبب هذا أيضًا كانت الذبائح التي عن خطايا الشعب، والتي يدخل بدمها إلي الأقداس "تحرق أجسامها خارج المحلة" (عب 13: 11).. وتبقي المحلة مقدسة.. شعوب الأرض في العهد القديم، كانت تفصلهم خطاياهم عن الشعب المقدس. وكان الفلك أيضًا مثالًا لهذا الفصل.. نوح وأولاده ونساؤهم، كانوا في الفلك ويمثلون الذين نالوا الخلاص، وصاروا وساروا تحت قيادة الله مباشرة. أما الخطاة غير المؤمنين، فكانوا خارجًا، تحت حكم الموت، تجرفهم المياه، فتبيدهم وتبيد خطاياهم معهم. إنهم رفضوا أن يدخلوا مع نوح إلي الحياة، لأن كل أعمالهم كانت غير أعماله. لقد فصلوا أنفسهم عن الله، الذي خلقهم للحياة. وعن أمثال هؤلاء يقول القديس يوحنا الحبيب: "منا خرجوا. ولكنهم لم يكونوا منا. لأنهم لو كانوا منا، لبقوا معنا" (يو 2: 19). لقد فصلوا أنفسهم عنا، ولم يعودوا منا. وعبارة "لم يكونوا منا" تشبه عبارة السيد "إني لا أعرفكم قط" (مت 7: 23). أنظروا إلي يهوذا: كان واحدًا من الإثني عشر. ولكنه لعله كانت تنطبق عليه عبارة "لم يكونوا منا" التي قالها القديس يوحنا الحبيب.. كان منا من جهة العدد، وأمام الناس. ولكنه لم يكن منا حسب قلبه ونيته. ولذلك فهو قد جلس إلي العشاء مع باقي التلاميذ، بغير إستحقاق. ولما أخذ اللقمة دخله الشيطان. ويقول الكتاب "ذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت" (يو 13: 30). وبخروجه فصل نفسه عن التلاميذ، إلي الأبد.. وديماس، تلميذ بولس الرسول، سار في طريق يشبه يهوذا. كان منا، واحدًا من الكارزين الكبار، من مساعدي القديس بولس الرسول. ذكره القديس في رسالته إلي أهل كولوسي إلي جوار إسم القديس لوقا الطبيب (كو 4: 14). وذكره في رسالته إلي فليمون مع مرقس وأرسترخس، وقبل لوقا (فل 24).. ولكنه يبدو أنه لم يكن منا، لأنه لما أحب العالم الحاضر فصل نفسه عن الرسل وهكذا يقول القديس بولس في خاتمة مأساة هذا الإنسان: "ديماس تركني، لأنه أحب العالم الحاضر" (2 تي 4: 10). إنفصل ديماس عن القديس بولس. محبته للعالم فصلته عن الخدمة كلها. ولم يعد إسمه يذكر في الكتاب، ولا في جماعة المؤمنين والتاريخ يذكر له نهاية مفجعة.. إنه لم يحتمل صليب المسيح في الخدمة. ففصل نفسه. والخطية غالبًا ما تكون إنفصالًا عن صليب المسيح.. إنها إنفصال عن الباب الضيق الذي أمرنا الرب بالدخول منه (مت 7: 13). وإنفصال عن الضيقات التي قال عنها الرسول "إنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22). الخطية هي محبة العالم، والباب الواسع، والطريق الرحب. وكل هذا لا يتفق مع صليب المسيح الذي قال عنه الرسول "صلبت للعالم وصلب العالم لي" (غل 2: 20). فمن يفصل نفسه عن الصليب، يفصل نفسه عن الله وعن جماعات المؤمنين. ما أسهل إن عرف إنسان الخطية، أن ينفصل عن الكنيسة. ينفصل عن خلطة القديسين، ويبحث له عن مجموعة أخري توافقه في اسلوبه، ولا تبكته علي خطاياه.. وينفصل أيضًا عن الكنيسة وعن الاجتماعات الروحية، وعن التناول والاعتراف.. يختط لنفسه خطة جديدة، بحيث يمارس خطاياه دون أن يتبكت من أحد.. بل حتى الكتاب المقدس، والكتب الروحية ينفصل عنها أيضًا، لأنه لا يستطيع أن ينفذ ما تأمر به من روحيات.. هذا لم تفصله الكنيسة، لكنها فصل نفسه بنفسه. هو قد إنفصل من الداخل، في داخل قلبه وشعوره، في أسلوب فكره وإتجاهات حياته. أحب شهوة الجسد وشهوة العين أو تعظم المعيشة (1 يو 2: 16). أو أحب المال مثل الشاب الغني الذي إنفصل عن المسيح، ومضي حزينًا، لأنه كان ذا أموال كثيرة (مت 19: 22). |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
خطورة الانفصال وإمكانية الرجوع أما أنت يا اخي، فلا تسمح للشيطان أن يفصلك عن الله، ويقتادك خطوة خطوة بعيدًا عنه، حتى يفصلك تمامًا، ويقطع كل الروابط الروحية التي تربطك بمحبة الرب.. إنما إستيقظ بسرعة إلي نفسك، والتفت إلي خلاصك.. تأكد أنك أنت الخاسر، بإنفصالك عن الله.. إنك بهذا الإنفصال تخسر نقاوة قلبك، وتخسر سمعتك، وتخسر أبديتك. تخسر الحياة الحقيقية التي هي المتعة مع الله، وتخسر نفسك، إذ تخسر الأبدية السعيدة وعشرة القديسين. وفي مقابل ذلك لا تحصل علي شيء ههنا. وكما قال السيد المسيح له المجد: "ماذا يستفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (مت 16: 26). ماذا تستفيد إن فصلت نفسك عن الله وملائكته وقديسيه، وأصبح مصيرك هو الظلمة الخارجية في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت (رؤ 20: 15) ويصدر عليك الحكم الإلهي الذي لا إستناف له.. ولكن الآن ما تزال أمامك فرصة للرجوع إلي الله.. يقينًا إنك لا تستطيع أن تستمر في هذا الإنفصال عن الله. في قلبك صوت ثائر عليك، يدعوك أنت تصطلح مع الله. وهو نفسه يريد لك هذا الرجوع. لأن إنفصالك عن الله، ليس هو الوضع الأصيل، ولا هو القصد الإلهي من خلقك. أنا أعرف أنك لا بد سترجع.. لن تجد راحتك في هذا العالم المتعب. وحينئذ سترجع إلي الله. ولعله ستنطبق عليك تلك العبارة الجميلة التي وردت في قصة الفلك إن الحمامة إذ لم تجد موضعًا لرجليها، رجعت مرة أخري إلي الفلك (تك 8: 9). والفلك هو سفينة النجاة، التي يدعوك الله إليها.. حيث تكون في أمان من طوفان العالم الحاضر. لا تنتظر حتى يرسل إليك ضيقة ترجعك، بل أرجع من نفسك حبًا لله، وحبًا للخير، وحبًا للملكوت الأبدي.. أعرف أن الخطية قد فصلتك عن كل ما هو خير، ولم تقدم لك عوضًا عن ذلك، فقد خسرت الله بلا مقابل. هوذا بولس الرسول يدعو كل مشتهيات العالم نفاية. ويقول في معرفته للرب "خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح وأوجد فيه" (في 3: 8) بل يقول أيضًا "أني أحسب كل شيء أيضًا خسارة، من أجل معرفة المسيح ربي". جاهد إذن بكل قوتك، لتضع نهاية لهذا الانفصال. وإن لم تستطع، أصرخ إلي الله، وقل له: أنا يا رب لا استطيع أن أبعد عنك لحظة واحدة. ولا طرفة عين. أنت بالنسبة إلي هو الحياة ذاتها..لي الحياة هي المسيح. أنا إن فصلت عنك أصير ضائعًا بلا هدف، وتصبح حياتي بلا وزن. وكأني ميت، أولا وجود لي. وجودي الحقيقي هو فيك (في 3: 9). لا يمكن أبدًا أن أنفصل عنك. وإن انفصلت في وقت ما ثق تمامًا أنه وضع مؤقت، وغير طبيعي، وأنا لا أريده.. لذلك أرجعني إليك بأية وسيلة.. رد نفسي.. لأنه بدونك لا أعيش. فبك أحيا وأوجد وأتحرك.. (أع 17: 28). إذا إنفصلت عنك، إنفصل عن القوة والنعمة، وأصبح لا شيء. أعود ترابًا كما كنت، بل عصافة تذريها الريح (مز 1). لذلك لا تسمح يا رب أن أنفصل عنك.. رد نفسي، وأهدني إلي سبل البر، لأجل إسمك (مز 23). لك المجد من الآن، وإلي الأبد اَمين. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
قصة الانفصال عن الله "ارجعوا إلي بكل قلوبكم" (يوئيل 2: 12). "ارجعوا إلي أرجع إليكم" (ملاخي 3:7). "توبوا وارجعوا فتمحي خطاياكم" (أعمال 3: 19). علاقة الإنسان بالله بدأت طيبة جدًا، كلها محبة.. الله هو الذي بدأ هذه العلاقة.. بأن خلق الإنسان، ونفخ فيه نسمة حياة، وجعله علي صورته ومثاله، ووضعه في الجنة، ومنحه سلطانًا علي كل ما فيها من كائنات.. وكون علاقة معه. وكان يظهر له بين الحين والآخر ويتحدث معه. وكان الإنسان صديقًا لله، يتمتع برؤياه في الجنة، ويأخذ المعرفة منه مباشرة. فكان الله هو المرشد الروحي للإنسان في كل شيء. وهو الذي أعطاه الإرشاد الأول، بالوصية.. إذن كيف حدثت الخطية؟ كيف تمت؟ وما كنهها؟ الخطية - في كلمة واحدة - هي إنفصال عن الله.. هي إستقلال الإنسان عنه، لكي يعمل ما يريد.. ونتيجة لهذا الإنفصال، حدثت باقي الاشكالات، وباقي الخطايا.. كيف إذن حدث هذا الإنفصال؟ وكيف تطور؟ وما نتائجه؟ 1- إنفصل عن عشرة الله: إنفصل الإنسان عن عشرة الله، وبدأ يكون له علاقة مع كائن عاقل غيره. وللأسف كانت هذه العلاقة الجديدة مع الله، مع الشيطان، الحية القديمة (رؤ12: 9). 2- وإنفصل عن الله في المعرفة: فبعد أن كان يأخذ معرفته من الله وحده، بدأ يأخذ المعرفة طريق اَخر. من الحية ونصائحها وشكوكها. وأيضًا توقع أن يأخذ المعرفة من شجرة المعرفة التي نهاه الله عنها. وبهذا وقع في إنفصال اَخر. 3- إنفصل عن وصية الله وكلمته المقدسة.. 4- إنفصل عن الله، في شهوات قلبه.. فصار يشتهي الشجرة، ويشتهي الثمر، وجدها "شهية للنظر جيدة للأكل" (تك 3: 6). وهكذا وقع في شهوة الأكل أيضًا، وفي شهوة المادة. وشهوة الأكل من الشجرة كان سببها شهوة أن يصير مثل الله كما أغرته الحية (تك 3: 5). 5- وبإنفصاله عن الله، إنفصل عن الحق.. لأن الله هو الحق.و إذ إنفصل الإنسان عنه، إنفصل عن الحق، واتبع الباطل. والمعروف أن الحق ثابت، والباطل كثير التغير. فلما إنفصل الإنسان عن الحق، ودخل في الباطل، دخل في تغيرات لا تنتهي. وأصبح كل يوم في حال، وكل يوم في شعور.. صار مخلوقًا متغيرًا، غير ثابت علي وضع. 6- وبإنفصاله عن الله، إنفصل عن الحياة.. لأن الله هو الحق والحياة (يو 14: 6). وإذ إنفصل الإنسان عن الحياة الحقيقية، التي هي الثبات في الله، اصبح من الناحية الروحية ميتًا، حسبما قال الآب عن إبنه الضال "إبني هذا كان ميتًا.." (لو 15: 24). وصار ينطبق علي الإنسان قول الرب "لك إسم أنك حي وأنت ميت" (رؤ 3: 1). 7-و بإنفصال الإنسان عن الله، إنفصل عن القوة.. مصدر قوته كان هو الله. وبلإنفصاله عن الله، إنفصل عن القوة، فصار ضعيفًا: ينتصر عليه الشيطان، وتوي عليه حتى الحيوانات، وينتصر عليه أخوه الإنسان. وتنتصر عليه ذاته كذلك.. أصبح مخلوقًا ضعيفًا لا يستطيع أن يقوم بذاته، أو يقيم ذاته. 8- وبإنفصاله عن الله، إنفصل عن سلطته.. إنفصل عن السلطان الذي أعطي له من الله علي باقي الكائنات الحية. فلم يعد له سلطان علي وحوش الأرض كما كان من قبل. 9- وإنفصل أيضًا عن وقاره وهيبته.. فارقت الهيبة التي كانت له كصورة الله ومثاله، وقد فقد هذه الصورة الإلهية بسقوطه في الخطية. وفي فقده لوقاره، طرد من الجنة، ووقف أمام الله كمذنب مستحق للعقوبة. والشيطان، إذ رأي الإنسان مطرودًا من الله ومذنبًا ومعاقبًا، وجدها فرصة فسيطر عليه.. وأقام الشيطان نفسه رئيسًا لهذا العالم. وأصبح هكذا لقبه "رئيس هذا العالم" (يو 14: 30). 10- وبإنفصال الإنسان عن الله، بدأ ينهار، ودخله الخوف.. بدأ يخاف من الله، بدلًا من الدالة والحب. ثم صار يخاف من أخيه الإنسان، كما خاف قايين وقال "يكون كل من وجدني يقتلني" (تك 4: 14). وصار أيضًا يخاف من الوحوش، ودخله القلق والإضطراب والهم. 11- وبإنفصاله عن الله، إنفصل عن حياة الروح.. وهكذا سيطرت عليه المادة، وسيطر عليه الجسد. ووقع في خطايا الجسد. واصبحت خطايا الجسد تجارب حتى الأنبياء ورجال الله، فوقع فيها شمشون، وداود، وسليمان، وغيرهم. وقيل إنها "طرحت كثيرين جرحي، وكل قلاها أقوياء" (أم 7: 26). 12- وبإنفصال الإنسان عن الله، تمادي في الخطية.. شيئًا فشيئًا بدأت خطاياه تزيد، وأخذ الإنسان يتهاوي شيئًا فشيئًا، ويتمادي في أعمال الشر والنجاسة، ويخترع فيها فنونًا وحيلًا، إلي أن اصبحت خطاياه أكثر من شعر رأسه. **** هذا هو تاريخ الخطية علي الأرض، وإنفصال الإنسان عن الله.. تاريخ يسجل مأساة إنسان.. نفهم منه أن الخطية لا تستريح حتى تكمل.. الشيطان إذا أوقع إنسانًا في خطية، لا يكتفي بها. بل يظل يتدرج معه حتى يهلكه، ويصير بلا مقاومة.. فما هو الحل إذن؟ الحل الوحيد هو الرجوع إلي الله، وتكوين علاقة معه.. إن كانت الخطية هي الإنفصال عن الله، فالعلاج الوحيد هو الإنفصال عن الخطية، والرجوع إلي الله. ولا علاج غير هذا.. إنفصل عن الخطية بكل قلبك، ليس فقط من أجل أنها أتعبتك، أو من أجل الدينونة والعقاب، إنما لأن هذه الخطية أبعدتك عن الله، وفصلتك عن العشرة الحلوة معه. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
ما معني الرجوع إلي الله؟ https://st-takla.org/Gallery/var/albu...-People-01.gif معناه بإختصار: تكوين علاقة حقيقية قلبية معه.. أقول علاقة، وليس مجرد مظاهر خارجية أو ممارسات.. البعض يظن أن الرجوع إلي الله، معناه برنامج في الصلاة والصوم والتداريب الروحية، والقراءات الروحية والاجتماعات والمطانيات. كل هذا حسن وجميل، ولكن هل فيه علاقة قلبية مع الله أم لا؟ هل فيه حب لله أم لا؟ بدون هذه العلاقة القلبية، وبدون هذا الحب، لا تكون قد رجعت إلي الله، مهما كانت لك صلاة وأصوام وقراءات ومطانيات.. إنما بالعلاقة مع الله وبالحب، تأخذ كل هذه الوسائط الروحية فاعليتها وقوتها.. فالقلب أولًا، ومنه تصدر هذه الممارسات. ولهذا يقول الرب في سفر يوئيل النبي (2: 12، 13): "إرجعوا إلي بكل قلوبكم.." (يوئيل 2: 12). يقول "إرجعوا إلي بكل قلوبكم، وبالصوم والبكاء والنوح". "مزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وإرجعوا إلي الرب إلهكم". إذن الرجوع القلبي هو المطلوب. القلب أولًا. ومن هذا القلب الراجع، المنسحق أمام الله، يأخذ الصوم قوة، وكذلك الدموع. عجيب أن كثيرًا من الناس، يتمسكون بالوسائط وينسون الله. كإنسان كل همه أن يتلو مجموعة من المزامير. إن لم يتلها يكون حزينًا. وإن أكملها يصير سعيدًا، حتى لو لم تكن له علاقة بالله أثناء تلاوتها!! كلا، ليس الأمر هكذا.. إن المزامير لها قوتها الروحية الجبارة، ولها بركتها وتأثيرها وفاعليتها، بشرط أن تكون صادرة من القلب، بعلاقة مع الله. أما بغير هذه العلاقة، وبغير مشاعر القلب، فقد تصلي، ومع صلاتك يسري الفتور والسرحان وطياشة الفكر. وقد تصلي بلا عاطفة، وبلا حرارة وبلا إيمان، ودون شعور بالوجود في حضرة الله.. لقد تحول الأمر إلي مجرد ممارسة، بدون علاقة قلبية في الداخل تعطي هذه الممارسة وزنًا وقيمة.. أو كإنسان يصوم، والله ليس في صومه.. كل همه يتركز في فترة الإنقطاع وتطويلها، وفي زهد الطعام ونسكه. ربما لا يأكل شيئًا حلوًا، أو لا يأكل شيئًا مطبوخًا، أو يقتصر علي الماء والخبز والملح. فإن فعل ذلك، يكون راضيًا عن نفسه. شاعرًا إنه ناجح في صومه. أما إستخدام الصوم كوسيلة توصله إلي الله، فربما يكون أمرًا لم يخطر علي باله..! إن القلب هو الأساس. وبه نميز بين إثنين: إنسان يصلي المزامير، فيخرج بها الشياطين. واَخر يصلي المزامير وكأنه لم يصل، إذ لا علاقة في قلبه مع الله. هناك من يصوم، فينال مراحم الرب وغفرانه، كما فعل أهل نينوى. وغيره يصوم فلا يقبل الله صومه، كما حدث للفريسي. القلب إذن هو الحكم. والرجوع إلي الله، نريده بالقلب. كذلك الرجوع إلي الله، معناه الرجوع الدائم الثابت. الرجوع الذي لا نكسة فيه. لأن هناك أناسًا يظنون أنهم قد رجعوا إلي الله، بينما يحيون مترددين، يومًا معه وربما بحرارة شديدة، ويومًا في شهوات العالم ورغباته. كما قيل في قصة الفلك عن الغراب الذي أطلقة نوح، إنه "خرج مترددًا" (تك 8: 7). لا يكون رجوعك إلي الله إذن، هو رجوع في مناسبات، أو في أصوام، أو في تأثرات معينة، أو فترات تدريبات، رجوعًا موسميًا، تعوده بعده إلي خطاياك السابقة، منفصلًا عن الله مرة أخري..! خذ درسًا - في الرجوع إلي الله - من قصص القديسين.. القديس موسي الأسود مثلًا، حينما رجع إلي الله، رجع بكل قلبه، ولم يعد إلي خطاياه الولي مرة أخري، بل ظل ينمو وينمو حتى تحول إلي مرشد روحي وقدرة لكثيرين. ومريم القبطية، وبيلاجيه، وأوغسطينوس، وغيرهم. كل أولئك رجعوا إلي الله، ولم ينفصلوا عنه مرة أخري، إنما تقدموا بإستمرار في النمو الروحي، من حياة التوبة إلي حياة القداسة.. والرجوع إلي الله معناه الرجوع بقلب جديد.. والله نفسه يقول في ذلك.. "أعطيكم قلبًا جديدًا، أجعل روحًا جديدة في داخلكم" (خر 36: 26). والقديس بولس الرسول يقول "تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو 12: 2)، أي بفكر جديد، يزن الأمور بميزان غير ميزانه السابق. فكر أصبحت للروحيات عنده قيمتها، وفقدت الخطية تأثيرها عليه.. ويكون الرجوع إلي الله بالصوم والتذلل.. كما رجع إليه أهل نينوى. سمعوا إنذار النبي إنه بعد أربعين يوم تنقلب المدينة (يون 3: 4). ولكنهم لم ييأسوا من مراحم الله، ورجعوا إليه بالصوم والتذلل. فماذا فعلوا؟ "نادوا بصوم. ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلي صغيرهم. وبلغ الأمر ملك نينوى، فقام عن كرسيه وخلع رداءه عنه، وتغطي بمسح، وجلس علي الرماد". وهكذا تغطي جميع الناس بالمسوح، وصرخوا إلي الله بشدة، ورجعوا عن طريقهم الردية.. فرجع الله إليهم. نفس الصوم والتذلل، نراه في سفر يوئيل (12: 15 - 17). حيث قال: قدسوا صومًا، نادوا بإعتكاف. إجمعوا الشعب، قدسوا الجماعة.. ليخرج العريس من مخدعه، والعروس من حجلتها. ليبك الكهنة خدام الرب بين الرواق والمذبح. وفي نفس الوضع نراه في صوم دانيال النبي وتذلله. يقول: "فوجهت وجهي إلي الله، طالبًا بالصلاة والتضرعات، بالصوم والمسح والرماد. وصليت إلي الرب إلهي واعترفت (دا 9: 3) "كنت نائحًا ثلاثة أسابيع أيام، ولم اَكل طعامًا شهيًا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر، ولم أدهن" (دا 10: 2، 3). والرجوع إلي الله، يتميز بالحرص والتدقيق والجدية.. الذي يرجع إلي الله، يكون فرحًا جدًا برجوعه، حريصًا علي هذا الصلح الذي تم بينه وبين الله. لذلك يكون مدققًا جدًا لئلا تصيبه نكسة فيسقط كما كان.. لقد جرب من قبل مشاكل التساهل مع الخطية. وكيف أنه إذا تساهل مع الفكر، يتحول إلي شعور في القلب، ثم إلي شهوة تشتعل داخله، وتبدأ الخطية تسيطر عليه. ويصبح من الصعب أن يفلت منها. لذلك يدقق مع كل فكر، ومع جميع الحواس.. يدقق مع الخطايا التي تبدو صغيرة، مثلما مع الخطايا الواضحة الخطأ. ويقول مع النشيد: "خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة للكروم" (نش 2: 15). ويقول للخطية وهي في أولها "طوبي لمن يمسك أطفالك، ويدفنهم عند الصخرة" (مز 137: 9). وهكذا يكون أمينا في القليل.. بهذا التدقيق تختبر أمانتك في الرجوع.. لأنك إن تساهلت مع الخطية، لا تكون أمينًا في رجوعك إلي الله. ويكون قلبك ضعيفًا من الدخل، يسهل سقوطه. والرجوع الحقيقي إلي الله، هو رجوع بقوة.. رجوع يمنحك فيه الله قوة تلمسها في كل نواحي حياتك الروحية: قوة في الانتصار علي الخطية، وقوة في النمو الروحي، وفي الارتفاع إلي فوق. وكما قيل عن ذلك في سفر أشعياء النبي "يعطي المعيي قدرة.. يجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يعيون" (أش 40: 29: 31). شمشون الجبار فقد قوته لما أخطأ، لأن نعمة الله فارقته. لكنه لما رجع إلي الله، عادت إليه قوته.. أطلب من الرب إذن أن يعطيك قوة ترجع بها، وأن يعطيك قوة تلازمك في رجوعك إليه، قوة من روحه القدوس.. قوة تحسها في كل عمل تمتد إليه يدك، كما قال في المزمور الأول عن الرجل البار "وكل ما يعمله ينجح فيه" (مز 1: 3). كإنسان كان مريضًا جدًا، ثم نقلوا إليه دمًا، فتقوي.. بنقل الدم، عاد إليه نشاطه، وعادت إليه حيويته، ودخلت فيه قوة.. هكذا أيضًا التائب الراجع إلي الله، حينما تدخله قوة من عمل روح الله فيه.. ولهذا كلما تجد نفسك ضعيفًا، أرفع نظرك إلي فوق، وقل للرب في صراحة تامة: لماذا هذا الضعف في؟ هل تخلت عني نعمتك بسبب خطاياي؟.. ارددنا يا الله. أنر بوجهك علينا فنخلص.. ما أجمل هذا المزمور، الذي جعلته الكنيسة لحنًا ترتله لله قائلة له في تضرع: أيها الرب إله القوات. إرجع واطلع من السماء، أنظر وتعهد هذه الكرمة التي غرستها يمينك (مز 80:14، 15). فهل يرجع الله ويتعهد هذه الكرمة؟ وهل يريد لنا الله أن نرجع إليه؟ |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الله يريدنا أن نرجع إنه ينادينا في حب "إرجعوا إلي، فأرجع إليكم" (ملا 3: 7). وتحمل هذه العبارات كثيرًا من المعاني العاطفية: 1- إنه يذكرنا بأن أصلنا عنده، والخطية دخيلة علينا.. وكأنه يقول لنا: ليس انفصالكم عني هو وضعكم الأصلي. فوضعكم الأصلي هو الثبات في. لأني أنا الكرمة، وأنتم الأغصان (يو 15: 5) وطبيعة الغصن أن يكون ثابتًا في الكرمة. وأنا الرأس، , أنتم الجسد، أنتم الأعضاء (أف 5: 23). فثباتكم في أمر طبيعي. لذلك لست أناديكم أن تأتوا إلي، بل أن ترجعوا إلي.. ترجعوا إلي الوضع الطبيعي الذي كان لكم منذ البدء.. ترجعوا إلي الصورة الإلهية التي كانت لكم يوم خلقتم.. انفصالكم هذا، وضع طارئ، مؤقت، لا يصح أن تبقوا فيه. وحياة البر والقداسة ليست جديدة عليكم، بل هي طبيعتكم التي بدأت بها علاقتي معكم، والتي تعيشون بها معي في الأبدية. 2- تحمل عبارة "إرجعوا إلي "دليلًا علي حنو الله.. فمن نحن التراب والرماد، حتى يدعونا الله للرجوع إليه؟! لكنها محبة الله، التي لا يعبر عنها، التي تذكرنا بترتيلة "يا حبيبي، عد إلي".إنه يريد أن تظل عشرتنا به ثابتة، هذا الذي لذته في بني البشر، الذي يقول لنا "حيث أكون أنا، تكونون أنتم أيضًا" (يو 14: 3) الذي إسمه عمانوئيل، أي الله معنا (مت 1: 23) وقد جعل أورشليم السمائية هي "مسكن الله مع الناس"، "الله وسط شعبه" (رؤ 21: 3). 2- وحسن في هذا الرجوع، أن تأتي المبادرة من الله. فهو الذي يبدأ، وهو الذي يطلب، وهو الذي يدعونا إليه. بل هو من أجل هذا أرسل إلينا الأنبياء، ووضع لنا سر التوبة. ووعدنا في رجوعنا أن ينسي القديم كله ولا يذكره بعد (أر 31: 34). ولكن ما معني قوله "إرجعوا إلي، فأرجع إليكم "؟ هل معني هذا أن رجوعنا لا بد أن يسبق رجوعه، أو شرط لرجوعه؟! كلا، إنما هو يقصد بهذا أن يقول: 3- إن رجوعي إليكم مضمون. المهم أن ترجعوا أنتم.. أنا في أي وقت تطلبونني فيه، تجدونني معكم. بل أنا واقف علي أبواب قلوبكم أقرع لكي تفتحوا لي (رؤ 3: 20). إنما المشكلة تأتي من جهتكم أنتم. "فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه".. لذلك أقول "إرجعوا إلي "أي أفتحوا أبواب قلوبكم المغلقة دوني.. "فأرجع إليكم "أي أدخل إلي هذه القلوب التي أخرجتموني منها، برفضكم إياي في خطاياكم.. إرجعوا إلي، فأنا موجود معكم. ولكنكم لا تشعرون بوجودي.. حقًا لقد صدق القديس أوغسطينوس حينما قال: [كنت يا رب معي، ولكنني أنا لم أكن معك].. الله معنا، يعمل لأجلنا، حتى ونحن في عمق خطايانا. يبحث عنا وقد شردنا من حظيرته، وينادينا أرجعوا إلي. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
معنى رجوعه إلينا إن رجعنا إليه ما معني إذن رجوعه إلينا، إن رجعنا إليه؟ معني رجوعه إلينا، هو أن نحس نحن بوجوده معنا.. ليس رجوع الله هو الذي نفتقده. إنما الذي يلزمنا هو إحساسنا بوجوده معنا. فإن رجع إلينا هذا الشعور، نشعر أن الله رجع إلينا.. أحيانًا نظن أن الله قد تركنا، بينما نكون نحن الذين تركناه. لذلك أذكر أنني في إحدي المرات (سنة 1957) تأثرت بمنظر الشمس وقت الغروب، وباتهامنا الباطل لها، فكتبت في مذكرتي: قلت لنفسي وقت الغروب: لم يحدث أن الشمس حجبت وجهها عن الأرض. إنما هي الأرض التي أدارت ظهرها للشمس. نعم، فالشمس ثابتة. والأرض هي التي تدور حولها. وما نسميه غروب الشمس، ما هو تعبير عن دوران الأرض. كذلك في العلاقة بيننا وبين الله: نحس أنه غاب عنا، لأننا نحن الذين درنا، ولم يعد وجهنا متجهًا إليه. فإن رجعنا إلي الله، نحس وجوده معنا، ونحس نوره يشرق علينا، لأن الله ثابت، ليس عنده تغيير ولا ظل دوران (يع 1: 17). فأنظر أنت: في أي شيء قد إبتعدت عن الله؟ في اية نقطة من الطريق قد إفترقت عنه؟ أية خطية قد فصلتك عنه وعن محبته. وأعرف يقينًا أن هذا الإنفصال هو منك أنت. "فأذكر من اين سقطت وتب" (رؤ 2: 5). أما إحساسك ببعد الله عنك، فهو إحساس بعدم وجود الدالة، نتيجة لفتور محبتك أو للخطية التي أبعدتك عنه. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
ارجعوا إليَّ واخلصوا 5- عبارة "إرجعوا إلي "تحمل معني عاطفيًا اَخر وهو: إن الله يريدنا أن نسير معه بكامل إرادتنا، من كل القلب، وبكل الحب، لذلك يقول "إرجعوا إلي". وكأنه يقول: أنا لا أرغمكم علي محبتي، ولا أضطركم علي تكوين علاقة معي. إنما الأمر متعلق بإرادتكم أنتم. إن أردتم أن أرجع إليكم، فإني أرجع إليكم. وإن لم تريدوا، إسلكوا حسب حريتكم.. ولعل إنسانًا يقول: أريد ولكني ضعيف.. يكفي أن تريد، والله سيكمل معك. وكما قال أحد القديسين: [إن الفضيلة تريدك أن تريدها لا غير].. إن الله عبر التاريخ، هو الذي بدأ العلاقة مع البشر.. هو الذي بدأ علاقة مع أبينا نوح، وإختاره وأنقذه، وفصله عن الشر والأشرار. وهو الذي بدأ العلاقة مع أبينا إبراهيم، واختاره، وفصله عن الشر والأشرار. وكذلك مع موسى ومع شعبه. وهو الذي بدأ علاقة مع الإثني عشر، وقال لهم "لستم أنتم الذي اخترتموني، بل أنا الذي اخترتكم" (يو 15: 16). فاطمئن إذن إلي رغبة الله في رجوعك إليه. ولكن في نفس الوقت ينبغي معه في الرغبة والعمل.. ينبغي أن تؤمن تمامًا بلزوم الله لك في الحياة، وأنك بدونه لا تقدر أن تعمل شيئًا (يو 15: 5). وينبغي أن تدرك من أعماقك حلاوة العشرة مع الله، وسمو وجمال الحياة الروحية، والرجوع إلي صورة الله التي كانت لآدم النقي البسيط.. ينبغي أن تذكر نذورك التي نذرتها لله في المعمودية.. حينما نذرت أن تجحد الشيطان وكل أعماله الردية، وكل شروره وكل حيله.وقتذاك بدأت بداية طيبة، وولدت من الله، ولبست المسيح (غل 3: 27). وخلعت الإنسان العتيق، وعشت في جدة الحياة (رو 6: 4، 6). وصرت نقيًا من كل خطية.. وشيئًا فشيئًا، نسيت نذورك، ونسيت بنوتك لله، وتركت نقاوتك، وانفصلت عن الله. وتود الآن أن ترجع إليه.. ولكي ترجع إلي الله، أذكر أنك ملك له.. أنت لست ملكًا لنفسك، حتى تتصرف فيها كما تشاء. إنما أنت ملك لله الذي خلقك، والذي فداك.وهوذا القديس بولس الرسول يقول لنا".. إنكم لستم لأنفسكم، لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1 كو 6: 19، 20). إن الشيطان قد سلبك من الله. ولكن الله - من حبه لك - يتمسك بملكيته لك، ويقول: "إرجعوا إلي". إرجعوا إلي نقاوتكم، التي كانت لكم وأنتم ثابتون فيَّ. إرجعوا إلي راحتكم، فلا راحة لكم إلا فيَّ. كل الذين بعدوا عن الله، أو إنفصلوا عنه، لم يجدوا راحة لأنفسهم، وعاشوا في تعب وإضطراب. ولقد إختبر أوغسطينوس هذا الأمر فقال للرب: [ستظل قلوبنا قلقة، إلي أن تجد راحتها فيك]. والرب الذي يريد لنا الرجوع، يقول لنا، ونحن في تعب العالم وهمومه "تعالوا إلي جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (مت 11: 28). إن رجعت إلي الله تنحل كل مشاكلك.. بل تعيش بلا مشكلة لأن المشكلة الوحيدة الحقيقية في حياتك هي الإنفصال عن الله. وكل المشاكل الباقية قد تكون نتيجة لها. فإن رجعت إلي الله، تحيا في سلام.. في سلام مع الله، وسلام مع نفسك وداخل قلبك. "لأنه هكذا قال السيد الرب: "بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (أش 30: 15). لذلك إرجع إلي الرب. إرجع إلي النور، فلا تسلك في الظلمة. إرجع إلي الروح، فلا تحيا للمادة، ولا حسب الجسد. إرجع إلي الحياة، فالخطية موت.. وبهذا يتجدد مثل النسر شبابك (مز 103: 5). وتشعر بالعزاء في حياتك الروحية، وتدب الحرارة في حياتك، ويصير لحياتك طعم، ويصير لها هدف. وتشعر أن الله داخلك، وأنه معك، وتذوق ملكوته، وتختبر حلاوة العشرة معه، وتعرف معني عبارة "الالتصاق بالرب" (مز 73: 28). إن الله يريدنا أن نرجع إليه. يريد لنا الخلاص، ويريد منا أن نحبه كما أحبنا.. لذلك هو يقول "إرجعوا إلي بكل قلوبكم" (يوئيل 2: 12). ويسجل لنا الوحي الإلهي هذه العبارة الجميلة "هل مسرة أمر بموت الشرير - يقول السيد الرب - إلا برجوعه عن طريقه فيحيا" (خر 18:23). إن الله يريدنا أن نرجع إليه، لنحيا.. ذلك لأن الخطية حالة موت روحي علي الأرض، ونتيجتها الموت الأبدي.. إذن فالله يريدنا أن نرجع، من أجل صالحنا.. يضاف إلي هذا حنوه ومحبته، لأنه لا يسر بموت الخاطئ. إن موت الخاطئ أمر يحزن قلب الله بلا شك. ولهذا فإنه إذا رجع الخاطئ "يكون فرح في السماء" (لو 15: 7). ولقد فرح الرسل وبشروا التلاميذ برجوع الأمم (أع 15: 3).. وإستخدم الكتاب عبارة "رجوع "بالنسبة إلي الأمم، ذلك لأن الإيمان هو الوضع الآصلي للبشرية عمومًا، قبل أن ينفصل الأمم عن هذا الإيمان وعن الله. فلما اَمنوا أعتبر هذا رجوعًا إلي الله.. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الله يريد رجوعك إعرف يا أخي حقيقة هامة وهي: إن الله يريد رجوعك إليه، أكثر مما تريد أنت.. فقد يكون الإنسان الخاطئ غافلًا عن خلاص نفسه، لا يفكر أن يرجع إلي الله. أو قد يكون ملتذًا بالخطية، راغبًا في البقاء فيها، شاعرًا إن الرجوع إلي الله سيحرمه من كل ملاذه.. وفي كل ذلك يكون الله في سعي مستمر إرجاع هذا الخاطئ إليه. بكافة الطرق. وقصص سعي الله وراء الخطاة كثيرة جدًا.. ذكر منها في الأصحاح 15 من الإنجيل لمعلمنا لوقا البشير، قصة الخروف الضال، وقصة الدرهم المفقود. وذكر إنجيل يوحنا سعي الله لرد المرأة السامرية في وقت لم تكن تفكر فيه إطلاقًا أن تلتقي معه.وكذلك وقوف الله علي الباب وهو يقرع، يطلب من النفس أن تفتح له.. وما لي أذهب بعيدًا.. إن كل رسالات الأنبياء تتركز حول هذا الموضوع هو رغبة الله في رجوعنا إليه.. وليس مجرد الرغبة.. وإنما العمل علي ذلك أيضًا. وهنا نسأل: إن كان رجوعنا إلي الله، مفرحًا لله، والله يريده ويسعى إليه، ونحن أيضًا نريده.. فكيف إذن نرجع إليه؟ أتسأل: كيف أرجع إلي الله؟ إن الصلاة هي الوسيلة الفعّالة التي ترجعك إلي الله. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الله هو وسيلة الرجوع أسكب نفسك أمام الله وقل له: أنا أريدك. أريد أن أرجع إليك. فانتشلني مما أنا فيه، واجذبني إليك مرة أخري. أنا بدونك لا شيء. لقد فقدت حياتي حينما فقدتك. فقدت لذتي وسعادتي. وأصبحت حياتي بلا طعم.. أنا يا رب أريد أن أرجع إليك. ولكن "أعدائي قد اعتزوا أكثر مني". إنهم "يتهللون إن أنا زللت" (مز 12). "وكثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بالهه" (مز 3). لقد فقدت قوتي لما بعدت عنك، فأعطني قوة من عندك. أعطني المعونة الإلهية التي بها أرجع إليك. إلق نفسك أمام الله، صارع معه. وقل له: سوف لا أقوم من ههنا، إلا وقد أخذت منك بركة خاصة، وشعرت أنك أرجعتني إليك وحسبتني من أولادك. لست أريد فقط أن تغفر لي خطيتي، إنما أريد أن تنزع من قلبي كل محبة للخطية علي الإطلاق.. لا استطيع أن أرجع إليك، ومحبة الخطية في قلبي. فماذا أفعل؟ هل أنتظر إلي أن تزول محبة الخطية من قلبي، ثم أرجع إليك؟ بينما لا يمكن أن أتخلص منها إلا بك..! ها أنا اَتيك بخطيتي كما أنا. وأنت الذي تنزعها مني. لو كنت أقدر أن أترك محبة الخطية، لرجعت إليك منذ زمان. فخلصني أنت منها، لتقودني في موكب نصرتك. إنزع محبتها من قلبي، وإنزع سيطرتها من إرادتي.. "انضح علي بزوفاك فأطهر، وأغسلني فأبيض أكثر من الثلج"، كما أعطيتني يا رب الوصية، أعطني القوة علي تنفيذها.. صدقوني يا أخوتي، إن الإنسان الناجح في صلاته، هو الإنسان الناجح في توبته.. وصدق مار إسحق قال: [إن الذي يظن أن هناك طريقًا اَخر للتوبة غير الصلاة، هو مخدوع من الشياطين]. ذلك لأنك بالصلاة، تأخذ القوة التي ترجع بها إلي الله. لذلك أغصب نفسك علي عمل الصلاة، أكثر من أي عمل روحي اَخر وفي صلاتك صارع مع الله. جاهد معه وناقشه، حتى وأنت في خطيئتك التي تريد التخلص منها. صمم في صلاتك، أن تأخذ من الله القوة لترجع إليه.. البعض يظن أنه في صلاته يعطي..! يعطي الله كلامًا ووقتًا ومشاعر. بينما الصلاة في عمقها هي عملية أخذ. تشعر فيها أنك قد أخذت من الله متعة روحية، وبركة، وقوة ومعونة، وقدسية في الحياة. بل يكفي أنك أخذت في وقت الصلاة صلة به.. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
انتظر في صلاتك حتى تأخذ https://upload.chjoy.com/uploads/1362290544652.jpg والله مستعد أن يسمع لصلاتك ويعطي، ولكن المشكلة هي: إن كثيرين لا ينتظرون في صلواتهم، حتى يأخذوا..! الواحد منهم يقول كلمتين في صلاته، ثم يسأم بسرعة، ويمل البقاء في الصلاة، ويمضي دون أن يأخذ شيئًا..!! والله ينظر إلي هذا (المصلي) كيف مضي هكذا سريعًا ولم ينتظر ليأخذ، ولو وعدًا، ولو عزاء. إمسك بالله إذن. وقل له لا أتركك.. لا أتركك حتى أشعر أنك قبلتني إليك، وأرجعني إليك وإلي محبتك.. الصلاة تحتاج إلي طول بال. تحتاج إلي صراع مع الله، تثبت به أنك جاد في طلبتك، وجاد في طلب التوبة، وفي طلب المعونة للرجوع. بحيث إن استجاب الله وأعطاك قوة، سوف تستخدمها حسنًا ولا تهملها.. ناقش الله - بدالة - في صلاتك وقل له: هل يفشل الضعفاء في الوصول إلي ملكوتك يا رب؟ هوذا أنا ضعيف، عاجز بذراعي البشري عن الوصول، فامسك أنت بيدي ولا تتركني لضعفي. واغسلني وطهرني، كما غسلت وطهرت غيري.. ألم تقل "اسألوا تعطوا" (مت 7: 7). هوذا أنا أسأل ألم تقل " كل ما طلبتموه من الآب بإسمي يعطيكم" (يو 16: 23)؟ هوذا أنا أطلب. أنا يا رب سأتمسك بجميع وعودك، وأطالبك بها.. علي الأقل سأتمسك منها بقولك".. أعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم. وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم. وأجعلكم تسلكون في فرائضي، وتحفظون أحكامي، وتعملون بها" (مز 39: 26، 27). أين هذه الوعود بالنسبة إلي أنا يا رب؟ هوذا أنا واقف هنا، ممسكًا بقرون المذبح.. الذين يصلون دقيقتين ثم يمضون، أنا لست واحدًا منهم. أنا مرابط لك هنا يا رب. لن أترك صلاتي، حتى أخرج منها وقد أنعمت علي بالتوبة وأرجعتني إليك. ومع ذلك أغفر لي يا رب جرأتي، فأنا إبن صغير لك، وإن كنت قد ضللت عاملني كإبن صغير لا يعرف شيئًا. وأنت - كأب شفوق تعرف كيف تعطي أولادك عطايا حسنة (مت 7: 11). هكذا جاهد مع الله، باللجاجة، بالتذلل، بطول الأناة، بدالة، بالبكاء، بالنقاش، باية الوسائل.. حتى تأخذ.. بمثل هذا الصراع، ثق أنك ستأخذ من صلاتك، او في صلاتك عزاء وحرارة، وتشعر أن موضوع الإنفصال عن الله قد إنتهي تمامًا وأنك لم تكن تكرر الكلام باطلًا كالأمم إنما كنت تسكب نفسك سكيبًا أمام الله، كما فعلت حنة أم صموئيل. كانت تصلي صلاة، وتبكي بكاء، وتنذر نذرًا. ولم تخرج من الهيكل إلا وقد أخذت وعدًا، بأن الرب قد أعطاها سؤل قلبها (1 صم 1: 10، 17). هكذا أنت، لا تخرج من صلاتك، إلا وقد كونت علاقة جديدة مع الله، ورجعت إليه. وطبيعي، ليس ممكنا لك - بعد صلاة كهذه - أن تترك الصلاة وتخطئ إلي الله! ستخجل لا بد من صلاتك، ومن قولك لله: لا أتركك.. وهكذا فإن الصلاة تعلم التوبة، وتقود الإنسان في الرجوع إلي الله وإلي محبته.. ولكنك لعلك تقول: ليست لي الحرارة التي أصلي بها. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
اطلب الحرارة الروحية من الله نصيحتي لك أن تصلي كما أنت وقل له: سامحني يا رب إن كنت أصلي بدون حرارة. فإنا أصلي بالفراغ الذي في قلبي. وأنت الذي تعطيني الحرارة. وأنت الذي تسكب نارك المقدسة في قلبي.. خذ صلاتي كما هي، بنقصها، فالأمور لا تبدأ كاملة. والكمال هو من عندك. أنا أصلي، ولو بدون روح! وأنت تمنحني الروح من عندك. هل أخطي وأقول لك يا رب، إنني بذراعي البشري وبإرادتي المنحلة، سأتحول إلي إنسان روحي! كلا، إنما بقوتك، وبركتك، ونعمتك، وروحك القدوس، ساصير في الصورة التي تريدها لي، بقيادتك أنت: تمسك يدي، وتقودني خطوة خطوة، كما تقود طفلًا صغيرًا يتعلم المشي.. أريدكم أن تصلوا هكذا، وتأخذوا من الرب. وإنصتوا في صلواتكم إلي صوت الله، يتكلم في قلوبكم. كما قال داود في مزموره "إني أسمع ما يتكلم به الرب الإله، لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولقديسيه، وللذين رجعوا إليه بكل قلوبهم" (مز 84). كان يبدأ المزمور بالطلب، ويشعر بالإستجابة، فيهنيه بالشكر.. يقول "يا رب لا تبكتني بغضبك ولا تبكتني بسخطك". ولكنه في نهاية المزمور، يقول "ابعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم. فإن الرب قد سمع صوت بكائي. الرب سمع تضرعي. الرب لصلاتي قبل" (مز 6). هذه الصلاة، هي التي تشعر بها أن الحاجز المتوسط، الذي بينك وبين الله قد زال.. وتشعر أن ملائكة صاعدون علي السلم الإلهي بصلاتك، ونازلون ومعهم ما تطلب (تك 28: 12). تشعر بيد الله تمتد، لتمسح كل دمعة من عينيك. وتتحقق فيك طلبة داود النبي في المزمور الكبير "لتدخل طلبتي إلي حضرتك" (مز 119).وهكذا تشعر أن واحدًا من الأربعة والعشرين كاهنًا، قد أخذ صلاتك، ووضعها في مجمرته الذهبية، وأصعدها بخورًا زكيًا إلي عرش الله (رؤ 5: 8). تشعر أن واحدًا من السارافيم، قد أخذ جمرة من علي المذبح، ومسح بها شفتيك، وقال لك: قد إنتزع إثمك (اش 6: 6، 7). نعم بمثل هذه الصلاة، يمكنك أن ترجع إلي الله.. فلنصرخ إذن إليه ونقول "أرددنا يا إله خلاصنا" (مز 85: 4). "أردد سبينا مثل السيول في الجنوب".. حينئذ "يمتلئ فمنا فرحًا ولساننا تهليلًا "ونقول: "عظم الرب الصنيع معنا فصرنا فرحين" (مز 126: 4، 2،3). |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الضيقة سبب للرجوع إلى الله ليست كل الضيقات التي تصيبنا من نوع واحد: فهناك ضيقات تصيب الإنسان، كصليب يحمله لأجل الله، وينال إكليله، كما حدث للرسل ورجال الإيمان (عب 11: 36، 37). وضيقات أخري تكون لإختبار الإيمان، أو لتعلمنا الصلاة (يع 5: 13). أو لنقدم بها مثالًا للصبر كما حدث لأيوب (يع 5: 11). وهناك ضيقات هدفها أن يشعر الإنسان بضعفه، فيتضع كما حدث للقديس بولس "لئلا يرتفع من فرط الإعلانات" (2 كو 12: 7). وهناك ضيقات أخري تأتي من تخلي النعمة بسبب خطايانا.. وعن هذا النوع أود أن أكلمكم اليوم.. (القيت هذه المحاضرة في الكاتدرائية مساء الجمعة 19/8/1977 م). و هذه الضيقات التي تأتي نتيجة للتخلي، لا يمكن أن تزول عن طريق الذراع البشري أو الحكمة البشرية. فهي لا تجد حلًا، إلا بوسيلة واحدة، وهي قول الرب لنا: "إرجعوا إلي، أرجع إليكم" (ملا 3: 7). فإن رجع الإنسان إلي الله بالصلاة والصوم والتذلل، وإن رجع إليه بالتوبة الصادقة. حينئذ يرجع الله إلي هذا التائب، وتعود النعمة إليه كما كانت في القديم، وتنتهي فترة التخلي، فتنتهي الضيقة تبعًا لذلك، إذ قد زالت أسبابها. وما أكثر الأمثلة التي توضح ذلك، في سفر القضاة.. يقول الكتاب "فعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب، وعبدوا البعليم. وتركوا اَبائهم.. وساروا وراء اَلهة أخري من اَلهة الشعوب الذين حولهم، وسجدوا لها.. تركوا الرب، وعبدوا البعل وعشاروت. فحمي غضب الرب علي إسرائيل، فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم، وباعهم بيد أعدائهم حولهم. ولم يقدروا علي الوقوف أمام أعدائهم.." (قض 2: 11 - 14). لم يقدروا علي الوقوف، لأن يد الرب لم تعد معهم.. لما كانت يد الرب معهم، شق لهم البحر الأحمر، وأغرق فرعون وجنوده.وفجر لهم من الصخرة ماء. وضرب عوج ملك بشان، وسيعون ملك الأموريين، ولك شعوب الأرض.. في هذه المرة، دفعهم إلي أيدي أعدائهم، فلم يقدروا عليهم. ووقف أمامهم قول الرب: "إرجعوا إلي، أرجع إليكم". وكانوا حينما يصرخون إلي الرب، يسمع بكائهم، ويخلصهم.. ومن أعمق حنو الرب، حتى في فترة تخليه. إذ يقول عنه الكتاب إنه عاد "وخلصهم من أيدي أعدائهم.. لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مضايقيهم وزاحميهم" (قض 2: 18). إذن في كل ضيقاتك، لا تقل: ماذا أفعل بأعدائي الذين قدروا علي؟ إنما قل: هل يد الله معي أم لا؟ هل أنا تركت الله، فتركتني نعمته، كما كانت معي في القديم؟ وإنصت إلي قول الرب "إرجعوا إلي، أرجع إليكم". وبسرعة إرجع إلي الرب، تجد المعونة الإلهية قد رجعت إليك، وجعلتك - كما حدث لإرميا - "مدينة محصنة، وعمود حديد، وأسوار نحاس.. فيحار بونك، ولا يقدرون عليك. لأني أنا معك - يقول الرب - لأنقذك" (أر 1: 18، 19). |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
أمثلة من ضيقات أعادت إلى الله في الكتاب المقدس والقصة في سفر القضاة تتكرر.. أخطأ الشعب وفعلوا الشر، وعبدوا البعليم، فباعهم الرب بيد كوشان ملك اَرام (قض 3: 8) فصرخوا إلي الرب، فأقام لهم مخلصًا فخلصهم. كان عليهم روح الرب. ودفع الرب ليده كوشان.. "وإستراحت الأرض أربعين سنة" (قض 3: 19: 11). في كل مرة كانت تشتد عليهم الضيقة، كانوا يرجعون إلي الله، فيرجع ويخلصهم. ثم يرجعون إلي خطاياهم وإلي عبادة الأصنام، فتعود ضيقاتهم. ويصرخون إلي الرب فيرجع ويخلصهم. ونسير مع التاريخ، فنسمع عن السبي إلي بابل وأشور.. كان أيضًا بسبب الشر وعبادة الأصنام. وبكي أولاد الله علي أنهار بابل، وعلقوا قيثاراتهم علي أشجار الصفصاف (مز 137). وفيما هم مسبيون، كانت ترن في اَذانهم عبارة "إرجعوا إلي، فأرجع إليكم". وظهر في السبي قديسون مثل دانيال النبي، والثلاثة فتية، وحزقيال النبي. وظهر رجال إيمان لهم غيرة مقدسة مثل نحميا وعزرا وزر بابل.. ورجع الرب عن حمو غضبه، ورد سبي شعبه.. وكيف رجع الرب إليهم؟ ورجع بدموع نحميا وعزرا.. لما سمع نحميا أن سور أورشليم منهدم، وأبوابها محروقة بالنار، إلتهب قلبه، وقال "جلست وبكيت، ونحت أيامًا وصليت.. وقلت أيها الرب.. أنا وبيت ابي قد أخطانا، وقد أفسدنا أمامك.. يا سيد، لتكن أذنك مصغية إلي صلاة عبدك.." (نح 1: 3 - 11). ورجع الرب. وأعطي نعمة لنحميا في عيني كورش ملك فارس. واستطاع أن يبني أسوار أورشليم. وعزرا: بكي بسبب أخطاء الشعب، ومزق ثيابه.. وفي وقت المساء، قام من تذلله، وجثا علي ركبتيه في ثيابه الممزقة، وبسط يديه إلي الرب وقال: اللهم إني أخجل وأخزي من أن أرفع يا إلهي مجهي نحوك. لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا، واَثامنا تعاظمت إلي السماء.. قد جازيتنا يا إلهنا أقل من اَثامنا، وأعطيتنا نجاة كهذه. وأفنعود ونتعدي وصاياك..؟!.. أيها الرب.. أنت بار، لأننا بقينا ناجين إلي هذا اليوم" (عز 9: 3 - 15). وصار عزرا وصام الشعب معه (عز8: 21). وبكي، وأبكي الشعب معه بكاء عظيمًا (عز 10: 1).وسمع الرب وعاد إلي شعبه. واستطاع عزرا بصومه وصلاته وبكائه، أن يرجع الشعب كله إلي الله، ويرجع الله إلي الشعب. في القصص السابقة، خطية الشعب كله أغضبت الله، فتخلي عنهم. وصلاة وبكاء إنسان واحد، أرجعت الله إلي شعبه.. وقد تكون خطية إنسان واحد هي سبب الضيقة كلها، مثل خطية عخان بن كرمي (يش 7). ومثل هروب يونان من الله (يو 1). إذن إرجع إلي الله، ليس من أجل نفسك فقط، إنما أيضًا من أجل كل المحيطين بك.. وفي كل تعب يحيط بك وبهم، فكر أن ترجع إلي الله.. لا تفكر في الأناس المتعبين المحيطين بك، إنما فكر في نفسك أنت، في علاقتك بالله، في رجوعك إليه.. وثق أن أقسي الأعداء وأشدهم بطشاَ، لا يحتملون عينًا طاهرة، مبللة بالدموع، مرتفعة إلي الله.. ولا يحتملون قلبًا نقيًا يتكلم مع الله، ولا أيادي طاهرة مبسوطة أمامه.. إن علاقتنا مع الناس، مجرد علاقات جانية سطحية.. المهم كله هو في علاقتنا مع الله. أما علاقاتنا مع الناس، فهي مجرد نتيجة لعلاقتنا مع الله.. تتغير، بتغير العلاقة معه.. أيوب الصديق أخذ السبئيون بقره وأتنه، وأخذ الكلدانيون جماله (أي 1: 14 - 17) فلم يقل أنهم أخذوها، إنما قال "الرب أخذ" (أي 1: 21). إرجع إذن إلي الله، فيرد لك كل شيء.. إن رجعت إلي الله، لا يقوي عليك الشر، ولا الأشرار. ليس فقط لا يقوي عليك أعداؤك الذين يتهللون إن أنت سقطت (مز 12). وإنما حتى الشياطين لا يقدرون عليك، مهما أحاطوا بك مثل النحل حول الشهد والتهبوا كنار في شوك (مز 117). فكما قال داود "مرارًا كثيرة حاربوني منذ صباي.. مرارًا كثيرة قاتلوني منذ شبابي.. وإنهم لم يقدروا علي" (مز 129). ولا خطية ولا شهوة، تقدر عليك.. لأن الرب معك. يعطيك القوة والمعونة، ويقودك في موكب نصرته (2 كو 2: 14). أما إن تخلت عنك النعمة، فإن أقل فكر بقدر عليك، وتضعف مقاومتك. حينئذ تسمع قول الرب في أذنيك "إرجعوا إلي، أرجع إليكم "لذلك ارفع قلبك إلي الله، وإرجع إليه، لترجع إليك القوة. ما معني عبارة "أرجع إليكم"؟ معناها: أرجع إليكم بكل قوتي ومعونتي. وأرجع إليكم بكل حبي. ونعود كما كنا. كأن خطاياكم لم تكن "لا أعود أذكرها بعد" (أر 31: 34). وبإختصار: أرجع إليكم أي أصطلح معكم.. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الخطية توجِد خصومة مع الله "نسعي كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا" نطلب عن المسيح: "تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 20) فالإنسان الخاطئ هو إنسان يقاوم الله: يتحداه ويكسر وصاياه. ويترك مشيئة الله، لينفذ مشيئته الخاصة، مستقلًا عن الله، منفصلًا عنه. يحب الخطية أكثر منه، مهما إدعي بلسانه أنه يحب الله! الخاطئ يهرب من الله. لا يحب الحديث معه. وإن وقف يصلي، ينطبق عليه قول الرب "هذا الشعب يكرمني بشفتيه. أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا" (مز 7: 6). وهكذا تكون صلاته، بغير حب، بغير عاطفة، بغير روح، ربما لمجرد تأدية واجب، أو للرضي عن النفس. الخاطئ لا يتحدث كثيرًا عن الله. ولا يشعر بدالة معه. هو غريب عنه. وقد أوجدت الخطية حاجزًا متوسطًا، بينه وبين الله.. وقد تتطور الخطية من مستوي الخصومة، إلي العداوة. وفي ذلك يقول القديس يعقوب الرسول إن "محبة العالم عداوة لله" (يع 4: 4). ويقول القديس يوحنا الإنجيلي "إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب" (1 يو 2:15). ولأن الخطية خصومة مع الله، نبدأ قداساتنا بصلاة الصلح.. فقبل أن نرفع الإبرسفارين، لنصلي قداس القديسين، نصلي صلاة الصلح، لأنه ينبغي أن نصطلح مع الله والناس أولًا، قبل أن نصلي، وقبل أن نتقدم إلي السرائر المقدسة. وهكذا نخاطب الله الإبن في القداس الغريغوري قائلين "صرت لنا وسيطًا لدي الآب. والحاجز المتوسط نقضته. والعداوة القديمة هدمتها. وصالحت الأرضين مع السمائيين".. إن أبشع ما في الخطية، كونها موجهة ضد الله نفسه: وقد كان داود النبي يدرك هذه الحقيقة جيدًا، لذلك قال للرب في مزمور توبته (مز 50): "لك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعتُ".. لا شك أن داود كان قد أخطأ إلي أوريا الحثي، وإلي بثشبع زوجة أوريا. كما أنه أخطأ إلي نفسه، إلي عفته وطهارته، وإلي أبديته..ومع ذلك فإن كل ذلك لم يكن هو الشيء الرئيسي أمام عينيه، قال للرب: "لك وحدك أخطأت".. ذلك لأن الخطية هي في أصلها ضد الله، ضد وصاياه، وضد محبته.. ونتيجة لذلك ضد الآخرين. ويوسف الصديق، أدرك نفس هذه الحقيقة، فقال كذلك: كيف أصنع هذا الشر العظيم، وأخطي إلي الله؟! ولم يقل: أخطئ إلي فوطيفار، أو إلي زوجة فوطيفار.. إنما قال "أخطي إلي الله".. (تك 39: 9). ذلك أن الخطية هي عصيان لله ومخالفة، وعدم محبة له، وطرد له من القلب، وتمرد عليه وإستهانة بوصاياه.. ولهذه السباب كلها خاف اَدم بعد سقوطه، واختبأ من وجه الله، لأنه عرف أنه بالخطية قد أغضب الله.. نعم إننا بالخطية، نحزن روح الله القدوس (أف 4: 30). النتيجة الأولي للخطية هي إغضاب الله. والثانية هلاك الإنسان.. وللخلاص من النتيجة الأولي، كانت تقدم المحرقات (لا 1). وللخلاص من النتيجة الثانية، كانت تقدم ذبائح الخطية والإثم (لا 3). وقد جاء السيد المسيح ليقدم بنفسه عمل هاتين الذبيحتين: فيصالح قلب الآب الغاضب، كذبيحة محرقة. ويخلص الإنسان الهالك، كذبيحة خطية. ولعل مما يؤلم قلب الإنسان جدًا، ليس فقط إنه أخطأ إلي الله وإنما بالأكثر أنه دخل في خصومة مع الله. وأصبح الله غير راضٍ عنه.. ذبيحة المحرقة، كانت لمصالحة الله، لإرضاء قلبه الغاضب.. لذلك كانت أولي الذبائح في شريعة موسي. وقد ذكرت في الأصحاح الأولي من سفر اللاويين. وقيل إن مقدمها يقدمها "للرضا عنه أمام الرب" (لا 1: 3). وثلاث مرات قيل عنها في نفس الأصحاح إنها "رائحة سرور الرب" (لا 1: 9، 13، 17). ولأن الغرض منها كان محددًا في هذه النقطة وحدها، وهي إرضاء الله، وإيفاء عدله. وليس غرضها خلاص الإنسان (الذي تمتثله ذبيحة الخطية)، لذلك لم يكن أحد يأكل منها، كما كان يفعل في ذبيحة الخطية. وإنما كانت تأكلها النار كلها، حتى تتحول إلي رماد (لا 5: 8: 13). والنار تمثل العدل الإلهي. وكأن مقدم المحرقة يقول للرب أثناء تقديمها: ليس ما يهمني الآن هو خلاصي، إنما يهمني رضاك.. من أنا - التراب الرماد - حتى أقدم أولي الذبائح عن نفسي؟! أخلص أولا أخلص، ليس هذا هو الأمر الذي نضعه في الدرجة الأولي.. إنما قبل كل شيء، قلبك أنت يا رب، يكون راضيًا عني وأفعل بي بعد ذلك ما تشاء. أنا أخطأت إليك. وأريد أن اصالحك. وبعد أن اصالحك يأتي طلب المغفرة. ومن غير أن أطلب، أنت ستغفر. إنه شعور الإبن، الذي يهمه قبل كل شيء إرضاء أبيه. وليس شعور العبد، الذي كل إهتمامه في التخلص من العقوبة.. فهل لديك هذا الحرص علي إرضاء أبيك السماوي ومصالحته ظ وهل تسعي لتصطلح مع الله، أم تفعل مثلما فعل اَدم إذ هرب من الله واختبأ منه..؟! أم أنت تقول كما قال أيوب الصديق "ليس بيننا مصالح، يضع يده علي كلينا" (أي 9: 33). هل تشعر أن الخطية قد أبعدتك عن الله، واوجدت خصومة بينك وبينه؟ إني أقول لك ما هو أكثر: الخطية خيانة لله. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الله يصالحنا كل الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله إلي العالم. ماذا كان عملهم سوي: إقامة صلح بين الله والناس.. أنظروا إلي القديس بولس الرسول، إذ يقول: "نسعى كسفراء للمسيح، كأن الله يعظ بنا.. "نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 20). إذن فالسيد المسيح، هو الذي يرسل هؤلاء السفراء إلينا، طالبًا منا أن نصطلح معه.. ما أعجب هذا الحب! ربما يكون من الصعب عليك أن تذهب إلي شخص لتصطلح معه، وأنت لا تعرف هل يقبل منك الصلح أم لا. أما هنا، فإن الله هو الذي يريد الصلح، ويطلبه، ويرسل من أجله رسلًا، ويعمل فيه بنعمته وبروحه القدوس.. ويقول للبشرية "هلم نتحاجج.." (أش 1: 18). وليس هذا فقط، بل يسعي حتى لمصالحة المعاندين والمقاومين. ويقول: "مددت يدي طول النهار، لشعب معاند ومقاوم" (رو 10: 21). تصور إن الله يمد يده طول النهار طالبًا مصالحة هؤلاء المعاندين. وعبارة (طول النهار) تعني طول أناته، وطول إنتظاره، فهو لا يمل من السعي لمصالحة الخطاة.. هو الذي ينظر إلي قلبك ويقول: "ها هو موضع راحتي إلي أبد الأبد. ههنا أسكن لأني أشتهيته" (مز 132: 14). وهو الذي يقول لنفسك العزيزة عليه "إسمعي يا إبنتي وأنظرى، وأميلي سمعك. وإنسي شعبك وبيت أبيك. فإن الرب قد إشتهي حسنك. لأنه ربك، وله تسجدين" (مز 45: 10، 11). بل أن مصالحة الرب للبشر، هي سبب التجسد الإلهي.. وفي ذلك يقول القديس يعقوب السروجي: [كانت هناك مخاصمة بين الله والإنسان. ولما لم يستطع الإنسان أن يقوم بالمصالحة، نزل الله إلي الإنسان لكي يصالحه]. ومصالحة البشر مع الله، هي هدف الفداء أيضًا.. لقد كان دم السيد المسيح، هو ثمن هذا الصلح. وفي ذلك يقول الرسول: "عاملًا الصلح بدم صليبه" (2 كو 1: 20).فأنظر ما أغلي ثمن مصالحتك، وما أغلي نفسك عند الله. فإننا "نحن قد صولحنا مع الله بموت إبنه" (رو 5: 10). "أي أن الله في المسيح كان مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم" (2 كو 5: 19). وماذا فعل المسيح في هذه المصالحة؟ يقول الرسول: "لأنه هو سلامنا. الذي جعل الإثنين واحدًا، ونقض حائط السياج المتوسط أي العداوة" (اف 2: 14، 15). "بالصليب قاتلًا العداوة به" (أف 2: 16). المسيح صالحنا مع الآب، وأزال العداوة، وأزال الحاجز المتوسط. ولكننا مازلنا نخطئ. ونحتاج في كل يوم إلي مصالحة. ولذلك كانت (خدمة المصالحة) هي عمل الرسل ورتب الكهنوت.. وفي ذلك يقول القديس بولس الرسول "وأعطانا خدمة المصالحة"، "واضعًا فينا كلمة المصالحة"، "نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 18، 19، 20). كل عمل الرعاة والكهنة والوعاظ والمعلمين هو "خدمة المصالحة"، متابعة الصلح بين الله والناس.. وهذا هو عمل غالبية الأسرار المقدسة. إن الله يريد أن يصطلح معك بكل الوسائل الممكنة. يقول لك: كفي فترة الخصومة التي مضت، ولنبدأ علاقة جديدة.فهما هربتم مني، وذهبتم إلي كورة بعيدة، أو اختبأتم وراء الشجر، أو بعد قلبكم عني، سأرسل لكم الرسل والأنبياء لأجل مصالحتكم، وأرسل لكم الخدام.. وأرسل نعمتي، وأعد الوسائط الروحية، وأمهد الفرص.. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
الصلح مع الله وماذا أيضًا؟ الله مستعد أن يرسل الضيقات أيضًا لأجل مصالحتنا.. سواء أكانت هذه الضيقات لنا، أو لبعض أحبائنا.. ربما إنسان لا يأتي بالحب، ولكن يأتي بالضرب، مثل أخوة يوسف الذين قادتهم الضيقة إلي الصلح (تك 44). والرب يقول "ادعني وقت الضيق، أنقذك فتمجدني" (مز 50: 15). تضغط عليك الضيقات، فلا تجد سوي الله، القلب الحنون الذي يشفق عليك، فتصطلح معه، ذاكرًا حبه. إن كل ضيقة تهمس في إذنك: إصطلح مع الله. اذكر أيضًا أن الله يصالحك، من أجل صالحك.. وهو أيضًا يصالحك ليصلحك، لينقيك ويطهرك ويقدسك. لأنه من فرط محبته لك، لا يتركك لكي تضيع ويفترسك عدو الخير. يخشي عليك أن تهلك لما تبعد عنه، وتتغير مبادئك ومثالياتك، وتصبح كأهل العالم ماديًا وجسدانيًا. لذلك هو يصالح ليخلص نفسك. وخسارة كبيرة لك، أن تفقد هذه الفرصة ولا تصطلح مع الله.. عظيمة هي الفوائد التي تحصل عليها من هذا الصلح.. في الصلح تجد المغفرة وتجد الخلاص، ويغسلك الرب فتبيض أكثر من الثلج (مز 50). يمحو إثمك، ولا يذكر لك خطاياك القديمة (أر 31: 34). وفي الصلح تحصل علي سلام داخلي، فتصطلح معك نفسك أيضًا، ولا يعود يوجد صراع في داخلك. وبالصلح تعود إلي رعوية الله، ولا تصبح غريبًا علي بيته ولا علي ملكوته، بل تصبح من أهل بيت الله (أف 2: 19).وبالصلح تكسب أبديتك لأنه كما يقول الرب (مز 8: 36): "ماذا ينتفع الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه.. فإن كنت أحيانًا تبذل جهدًا لتصطلح مع أشخاص لك بهم علاقة مؤقتة علي الأرض، فكم بالأولي يكون اهتمامك بصلحك مع الله الذي لك به علاقة أبدية لا تنتهي؟!.. أعرف إذن أهمية الله بالنسبة إليك، وأهمية الصلح معه.. حقًا، كم بذل الرب في مصالحة هذا التراب والرماد، ولكن: هل يوافق هذا التراب والرماد علي مصالحة خالقه؟ أخشي أن ينطبق علينا قول الرب لأورشليم وأهلها "كم مرة أردت.. ولم تريدوا" (مت 23: 37). إن الرب واقف علي الباب، ولكننا لا نفتح له.. فكيف يتم الصلح إذن؟ وما هي العوائق التي تعطل البعض عن الإستجابة؟ وما الحل؟ |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
كيف يكون صلح الله الشرط الأول، الذي بدونه لا يتم الصلح، هو: 1- أن تكون لك رغبة صادقة في الصلح مع الله.. كل ما تفعله وسائط النعمة والمؤثرات الروحية، وكل ما يفعله لمرشدون الروحيون، هو أن تدخل هذه الرغبة إلي قلبك. فتقول في صدق "أريد يا رب أن أصطلح معك".. وإن كانت رغبتك صادقة، ومن عمق القلب، فستجد بلا شك الوسيلة التي توصلك إلي لله.. الله نفسه سيوصلك إليه.. 2- إذن ترغب، وتبدأ التنفيذ، إن كنت جادًا في رغبتك.. لأن هناك من يقول إنه يريد الله. وألف صوت في قلبه يصيح "أريد الخطية". الرغبة في الصلح مع الله، هي رغبة علي شفتيه فقط، ولكنها ليست في قلبه. يقول: "أريد"، وفي أعماقه لا يريد، لأن الصلح مع الله، سيحرمه من أشياء كثيرة يحبها، وسيجعله يدخل من الباب الضيق وهو لا يرغب في ذلك.. ولعل السبب في ذلك، خطية محبوبة، داخل القلب، أو عادة مسيطرة، أو طبع ثابت.. والإرادة عاجزة عن العلاج.. ربما الذي يجعلك عاجزًا عن الصلح مع الله، أن حالتك تشبه ما وصفه معلمنا بولس الرسول في (رو 7: 18): "الإرادة حاضر عندي. أما أن أفعل الحسنى فلست أجد".. "لست أفعل الصالح الذي أريده. بل الشر الذي لست أريده، إياه أفعل "".. لست بعد أفعله أنا، بل الخطية الساكنة في" (رو 7: 20). فإن كنت هكذا يا أخي.. 3- نصيحتي لك: جاهد مع الله، لكي يغير قلبك. قل له: خلصني يا رب من قلبي ومن قلبي ومن خطيئتي، ومن طباعي، فلا يكن ذلك عائقًا أمام الصلح معك. أنت غيرت قلوب كثيرين، ربما كانت حالتهم أسوأ مني بمراحل.ليتني أكون كواحد منهم. أنت يا رب غيرت قلب موسي الأسود، وأوغسطينوس، مريم القبطية، وأوريانوس والي أنصنا.. فهل تعصي عليك حالتي؟! أعتبرتي حالة معقدة، ولكنها ليست صعبة أمام قدرتك اللانهائية. أنا يا رب لا أستطيع أن أصلح قلبي أولًا، لكي أصطلح معك. وإنما أنت الذي تصطلح هذا القلب، وتضع فيه المشاعر المقدسة اللائقة بهذا الصلح.. أتقول يا إبني أعطني قلبك (أم 23: 26). خذه كما هو.. أنضح عليه بزوفاك فيطهر. وإغسله فيبيض أكثر من الثلج (مز 50). لست أطلب أن ترمم هذا القلب. إنما إخلق في قلبًا نقيًا (مز 50). وأعطني روحًا جديدًا (حز 36: 26). إن لم يكن في قلبي حب لك، فأعطني هذا الحب.. لا تلمني علي عدم محبتي، إنما "اسكب في هذا الحب من الروح القدس "حسب قول رسولك (رو 5: 5). أعتبرني كطفل صغير، يريد ولا يعرف، ويريد ولا يقدر، "وقوم خطواتي" (مز 119). فكثيرًا ما أعثر.. إن كنت أنا لست جادًا فيما يتعلق بخلاص نفسي.. يكفي أنك يا رب جاد في تخليص هذه النفس.. إن كان خلاص نفسي لا تقوي عليه إرادتي.. فلا شك أن نعمتك تقوي وتقدر.. إن كنت أنا بفساد طبيعتي، لا أريد الحياة معك.. يكفي أنك تريد أن أحيا معك. وإرادتك تفعل كل شيء.. إن تركتني يا رب إلي إرادتي وإلي ضعفي، فسوف أضيع. أعتبرني مريضًا لا يقوي علي شفاء نفسه، ولا يقوي علي الذهاب إلي الطبيب. وقل كلمة فيبرأ الغلام (مت 8: 8). هكذا قدم للرب صلاة من كل قلبك. لأنه إن كان جهادك لا يقدر، فإن الصلاة تقتدر كثيرًا في فعلها (يع 5: 16). وفي صلحك مع الله، لا تعتمد كثيرا علي عقلك، ولا علي ذراعك البشري. "علي فهمك لا تعتمد" (أم 3: 5). إنما خذ من القوة التي تسند ضعفك.. الله يريد منك القلب والإرادة والإيمان.. والإرادة ليس المقصود بها القوة والعزيمة، وإنما الرغبة.. فقد يكون الإنسان ضعيفًا، ويمنحه الله القوة ليعمل، بل الله نفسه يعمل فيه، ويعمل معه. وكما قال القديس بولس الرسول "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا أن تعملوا" (في 2: 13). الله يريد رغبتك، لأنه لا يرغم أحدًا علي مصالحته. فإن قدمت هذه الرغبة سيعمل هو معك. ولا أقول يعمل وحده، لئلا يدفع هذا إلي التراخي. كما أن أعملك معه يدل علي جدية رغبتك في مصالحته.. قلنا إنه ينبغي أن تكون لك رغبة صادقة في الصلح.. وأن تنفيذ ما دمت جادًا في رغبتك.. وأن تصلي طالبًا المعونة، فيما تعترضك من عقبات.. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
ابعد عن كل ما يُغضِب الله 4- ابعد عن كل ما يغضب الله في المستقبل.. لئلا تصيبك نكسة في الصلح، فترجع كما كنت.. إن صالحت الله، فلا تعد وتنضم إلي أعدائه. بل ابعد عن كل مجالات الخطية.. لأنه كثيرًا ما يشتاق القلب إلي الله، ثم يبرد اشتياقه بتأثير آخر مضاد. فالإنسان سريع التأثر، وما أسهل أن تتقلب الطبيعة من الضد إلي الضد، إن كانت لم تثبت بعد في الله ثباتًا كاملًا.. واعلم أن الصلح مع الله، ليس هو مجرد كلمة "أخطأت". فقد قالها كثيرون ولم ينتفعوا بها.. إنما الصلح مع الله، هو حياة تتميز بإرضاء الله. هو سلوك عملي يسعي لإرضاء الله وكسب محبته. وهو لا يقتصر علي الناحية السلبية فقط، أي عدم الدخول في خصومة جديدة مع الله. إنما من الناحية الإيجابية، يتحول الصلح إلي حب.. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
إحيا في مجال التأثير الإلهي 5- وهنا أنصحك أن تحيا في مجال التأثير الإلهي.. وإشغل فكرك به. لا تكن علاقتك بالله هي علاقة يوم في الأسبوع نسميه "يوم الرب"، بل لتكن هي علاقة الأسبوع كله، وعلاقة الحياة كلها. ولا تظن أن الصلح مع الله، هو مجرد أن تفعل البر.. فحسن أن تسلك في الفضيلة. ولكن ضع أمامك: ان الفضيلة ليست هي الهدف. فالهدف هو الله ذاته. الفضيلة هي مجرد وسيلة تعبر بها عن التصاقك بالله.. أما هدفك فهو هذا الالتصاق بالله، في حب مستمر.. وإن سرت في حياة الفضيلة والبر، فلا يكن ذلك لكي تكبر ذاتك في عينيك، أو في أعين الناس.. وإنما لكي بهذا البر ترتبط بالله أكثر، ويصبح قلبك أهلًا لسكناه. لذلك كن مدققًا جدًا وحريصًا. لا تخرج من دائرة الله، إلي دائرة الذات، أو إلي دائرة الفضائل. كن مركزًا اهتمامك وسعيك كله في الله ومحبته. فيظل قلبك حارًا علي الدوام، وتستمر علاقتك بالله قوية.. عيب كثيرين أنهم يمارسون الفضائل، دون أن يشعروا بوجود الله في حياتهم وفي عواطفهم. أما أنت، فقل له: أريد يا رب أن اشعر بك، وتعلن لي ذاتك. اريد أن أختلي بك، وأكلمك وأفتح لك قلبي. أريد أن أحبك أكثر من كل واحد، وأكثر من كل شيء. وأكون مستعدًا أن أخسر كل شيء وأنا أحسبه نفاية، لكي أريحك أنت وأوجد فيك (في 3: 8). هذه هي حرارة الصلح التي تتحول إلي حب.. وفي هذه الحرارة تمسك بكل الوسائط الروحية التي تشعل عواطفك من نحو الله، وتقوي علاقتك به. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
طرق المصالحة مع الله 6- إقرأ عن قديسى التوبة، الذين إصطلحوا مع الله وأحبوه.. وتأمل سير القديسين عمومًا، وكيف ملأ الله قلوبهم، وكيف حرصوا علي إرضائه. لأن سيرتهم تلهب فيك محبة الله، وتبعث محبة الخير الكامنة في قلبك. فكل إنسان مهما سقط في الخطية، يوجد في أعماقه إشتياق إلي الخير، إذ قد خلقه الله علي صورته ومثاله، والشر دخيل علي الطبيعة البشرية. وكل شر يعمله الإنسان، يسمع صوتًا في داخله يحتج عليه. ويأتي وقت لا يستطيع فيه إسكات هذا الصوت.. وإذا قرأ سير القديسين، أو رأي نموذجًا للفضيلة، ما أسهل أن يلتهب قلبه من الداخل، ويشعر بنقصه، وتمتلئ عيناه بالدموع ويعترف أن السمو الروحي هو السمو، سواء سلك فيه أم لم يسلك. وكل إنسان مستعبد لشهوة معينة، لابد في داخله إحتجاج عليها، مهما حاول أن يتجاهل هذا الإحتجاج. 7- في صلحك مع الله، لا تندم علي متع العالم التي تركتها من أجله. فهذه حرب من الشيطان.. لا تكن كإمراة لوط، التي نظرت إلي الوراء وهي خارجة من سدوم (تك 19: 26). بل أشعر بفرح أنك تخلصت من ذلك الماضي. فالخاطئ تنقص قيمته في عينيه وفي أعين الناس.. وإن كان الشيطان يغرينا الآن بخطية، فإنه سيعيرنا بها في يوم الدين أمام الله والناس، ويعتبرنا من جنوده لأننا إنفذنا له. ويعتبر نفسه مالكًا لكل عضو من أعضائنا خضع له. ولذلك حسنًا قال الرب عنه:" رئيس هذا العالم يأتي، وليس له في شيء" (يو 14: 30). 8- إن أصطلحت مع الله، إحرص أن تستمر مع صلحك.. لذلك فكر كثيرًا في الأبدية وفي ملكوت الله.. ليكن تفكيرك بعيد المدي، ولا يقتصر علي الأيام القليلة التي نعيشها علي الأرض، بما فيها من إرتباطات بالمادة والجسد. وإن تعبت من أجل الله، وفي الصلح معه حملت صليبًا، قل لنفسك إن "الآم الزمان الحاضر، لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا" (رو 8: 18). ولذلك فإن الذين يعيشون في علاقة طيبة مع الله، يعيشون "غير ناظرين إلي الأشياء التي تري، بل إلي التي لا تري. لأن التي تري وقتية وأما التي لا تري فأبدية" (2 كو 4: 18). 9- إحترس من المفاهيم الجديدة، التي تقلب موازينك الروحية.. التي تقول لك: "أي خطأ في هذا؟!"، أو تهون من جسامة الأخطاء، أو تسميها بغير أسمائها، أو تقدم تبريرات لكل خطية.وفي ظلها لا تبدو الخطية خطية، ويزول الحس الروحي، ولا يشعر الإنسان أنه أغضب الله في شيء! ربما يظن أن الله يغضب منه بلا سبب! وهكذا لا يجد مبررًا لطلب الصلح، لأنه لا يشعر أنه أخطأ! بينما من بديهيات المصالحة، الشعور بالخطأ. ولا يتأتي هذا إلا إذا تمسك الإنسان بلقيم السليمة، المسلمة لنا مرة من القديسين، في أقوالهم وفي حياتهم.. 10- كن سريع الإستجابة لصوت الله في قلبك.. إن سمعت في داخلك صوت الله يدعوك إليه، فلا تتجاهله، ولا تؤجل، لئلا تصاب بقساوة القلب، وتفقد التأثير الروحي. وكما قال الرسول "إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم" (عب 3).. |
رد: كتاب الرجوع إلى الله لقداسة البابا شنودة الثالث
تفضيل الله على الذات | اصطلح مع نفسك 11- من أساسيات الصلح، أن تفضل الله علي ذاتك. إن أخطر ما يعوق الصلح، هو أنك تفضل ما تريده أنت علي ما يريده الله. ذاتك هي الصنم الذي تعبدوه. وطالما ترضي ذاتك في كل شيء، فلا يمكن أن تصطلح مع الله. ولذلك حسنًا قال السيد المسيح: "من أراد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني" (مز 8: 34). حتى في الصلاة الربية التي علمنا إياها، جعل الطلبات الخاصة بنا في الآخر. أما الخاصة بالله فهي أولًا. إنكارك ذاتك في هذه الأرض، هو كسب ذاتك في الملكوت.. لذلك قال لنا الرب: "من أراد أن يخلص نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها" (مت 16: 25). وقال أيضًا "من وجد حياته يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلي يجدها" (مت 10: 39). فما الذي ضيعته أنت لأجل الرب؟ ما الذي بذلته؟ أتريد أن تصطلح مع الله؟ إحفظ هذا المبدأ: الله أولًا. والناس ثانيًا. ونفسك اَخر الكل.. إصطلح مع الله، واصطلح مع الناس، حينئذ ستصطلح معك نفسك، وتصطلح معك السماء والأرض.. 12- وفي صلحك مع الله، اشعر بالتغيير في حياتك.. لا تَعِشْ بنفس الأسلوب، بنفس الطباع، بنفس التفكير. إنما إجعل مصالحتك مع الله تغير حياتك.. إلي أفضل. والشخصية التي إعتاد لشيطان أن يسيطر عليها قبلًا، تصبح شخصية لها قوتها في حروب الشياطين، ولها اتضاعها في الوقوف أمام الله، ولها محبتها وخدمتها واحتمالها في معاملة الناس. وليكن الرب معك.. |
الساعة الآن 07:47 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025