منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   كتب البابا شنودة الثالث (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=25)
-   -   كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=246723)

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 02:26 PM

كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
مقدمة الكتاب

يسرني أن أقدم لك أيها القارئ العزيز هذا الكتاب عن حياة الفضيلة والبر، الذي يضم 31 مقالًا في الموضوع:
ذلك لكي تعرف ما هي حياة الفضيلة؟ وكيف تكون؟ وما مصادرها؟ وما نوعياتها؟ وما مستوياتها؟ وما هو الفرق بين الجسداني، والمستوي النفساني، والمستوي الروحاني.
وتقرأ أيضًا عن حياة الفضيلة بين الهدف والوسيلة، ومقاييس الفضيلة من حيث التعريف والهدف والوسيلة. كما أنها تقاس بنوع اهتمامات الإنسان.. وتتأثر الفضيلة بالقراءة والسمع وباقي الحواس.

وأحدثك في هذا الكتاب أن البر الداخلي هو المعني الحقيقي للفضيلة، وليس المظهر الخارجي. وأن الفضيلة لابد أن يكون لها ثمر يدل عليها.. والفضيلة هي الحياة بالروح، وهي البعد عن الإثنينية..
ولابد من التكامل في حياة الفضيلة والبر. فضيلة واحدة لا تكفي، ومن اللازم أن ترتبط بفضائل أخري، ولا تتناقض مع فضيلة أخري..
والفضيلة لها اختبارات تمتحن بها، كما يلزمها ضبط النفس. وإن نجح الإنسان في اختبارات الفضيلة، ينال أكاليل في الأبدية هو إكليل البر.
وبعد حديث طويل عن حياة الفضيلة، أفردنا لك بابًا هامًا عن عوائق الفضيلة.
نعم إنها عوائق، ولكنها ليس موانع، إذ يمكن الانتصار عليها.
وأوردنا لك من هذه العوائق، الذات، والتساهل مع الخطية. والطريق التي تبدو للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت. كذلك من عوائق الفضيلة المحبة الخاطئة للنفس. وبحثنا أيضًا موضوع الجسد، وهل هو عائق للفضيلة؟ ومتى يكون عائقًا؟
وتحدثنا عن طريق الانتصار ليصل الإنسان إلي حياة الفضيلة، وكيف يجب أن تقاوم حتى الموت، مجاهدًا ضد الخطية، ولا يحب ذاته المحبة التي تهلكها..
ختامًا، لا أريد أن أطيل عليك في هذه المقدمة، فأمامك الكتاب اقرأ منه كما تشاء إنه مجموعة محاضرات ألقيناها متفرقة علي مدي سنوات عديدة، وفي مناسبات مختلفة. ثم جمعناها لك معًا، لكي تكون موضوعًا واحد، هو وضع حياة البر أمامك، لكي تعيشها.
أسال الله أن يعطيك نعمة وإرادة، لكي تحيا هذه الحياة.
أكتوبر 1994
البابا شنوده الثالث

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 02:32 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
الفضيلة، ما هي؟ كيف تكون؟ وما مصادرها؟

تعريفات

ما هي الفضيلة؟ وما معني عبارة "إنسان فاضل"؟
+ ربما عبارة "إنسان فاضل "تعني أنه إنسان خير، يحب الخير ويعمله. ويحب البر.
+ والفضيلة قد تعني النقاوة، أو السير في طريق الله.
+ وقد تعني قوة في النفس، تمكنها من انتصار علي كل نوازع الشر وإغراءاته. وتمارس الحياة البارة.
* وربما تعني الفضيلة الارتفاع فوق مستوي الذات.
* بحيث يخرج الإنسان عن دائرة ذاته، ويعيش لغيره.
يخرج من الاهتمام بنفسه، أو التركيز علي نفسه، للاهتمام بالآخرين.. من محبته لنفسه إلي محبته لله والناس.
نقول هذا الآن الخطية كثيرًا ما تكون إنحصارًا حول الذات. إنسان يريد أن يرفع ذاته، يمتع ذاته، يشبع رغبات ذاته.
* الفضيلة أيضًا هي ارتفاع فوق مستوي اللذة:
* لأن غالبية الخطايا قد تكون مصحوبة بلذة حسية، أو لذة نفسية. فتدور حول ملاذ الجسد أو الفكر أو النفس، وتصبح لونًا من إشباع الذات، وبطريقة خاطئة.
فالذي يحب المال أو المقتنيات، إنما يجد لذة في المال وفي المقتنيات. وكذلك من يحب الزينة، ومن يحب الطعام. ومن يحب المناصب أو الشهرة، إنما يجد لذة في كل هذا.
ومن يحب الجسد يجد لذته في الجسد، ومن يحب الانتقام لنفسه، يجد لذة في ذلك. الخطية إذن هي سعي وراء اللذة. والفضيلة هي ارتفاع فوق مستوي اللذة، ألي أن تجد إشباعًا لها في السعادة الروحية.
والسعادة غير اللذة، والفرح غير اللذة.
اللذة غالبًا مرتبطة بالحس، بالسجد والمادة، أما السعادة والفرح فيرتبطان بالروح.. ولذلك الفضيلة إذن تكون إرتفاعًا فوق مستوي المادة أيضًا..
مصادر الفضيلة

1- أول مصدر هو الحكمة والإفراز والمعرفة:

وهكذا علمنا أبونا القديس الأنبا أنطونيوس.
والعلماء والفلاسفة يركزون علي كلمة (المعرفة). والمقصود بها المعرفة الحقيقية. وهي المعرفة التي تميز بين الخير والشر، ويسميها البعض Gnosticism (الغنوسية). وهكذا يقول الكتاب:
"الحكيم عيناه في رأسه. أما الجاهل فيسلك في الظلام" (جا14:2).
وهكذا نري في مثل العذراى الحكيمات والجاهلات (مت25)، أن الحكيمات كن يرمزن إلي حياة البر، بعكس الجاهلات.
لأن الحكيم الحقيقي بالضرورة يسلك في حياة الفضيلة. بينما لأبد أن نصف الخاطئ بأنه جاهل، مهما كان من العلماء!
إنه جاها بطبيعة الأشياء، جاهل بطبيعة الخير والشر، جاهل بمصيره الأبدي، جاهل بما تجلبه الخطية من نتائج.
جاهل لا يعرف خيره من شره، ولا نفعه من ضره!
ولا يقصد المعني السطحي من كلمة (جاهل)، التي تعني أنه لم يتعلم في مدارس أو علي أساتذة.. إنما هو جاهل من جهة الحكمة الإلهية، وجاهل من جهة المعرفة الحقيقية.. ومثل هذا الأنسان يحتاج إلي نوعية وإلي إرشاد..
وقد قال السيد المسيح عن الذين صلبوه، إنهم "لا يدرون ماذا يفعلون" (لو34:23).
وهكذا وصفهم بالجهل.. وقال الرسول عنهم.. "لأنهم لو عرفوا، لما صلبوا رب المجد" (1كو7:2).
حتي الإلحاد، يصفه الكتاب بالجهل، فيقول:
قال الجاهل في قلبه ليس إله (مز1:14).
حتي لو كان هذا الإنسان من فلاسفة عصره. إنه جاهل!
الحكمة تدعو الإنسان إلي السر في الطريق السوي..
فتاة مثلًا تحب شابًا من غير دينها، محبة تؤدي إلي (الزواج) منه.. فيأتي مرشد ليقول لها: أنت تسيرين في طريق مسدود، لا تعرفين إلي أين ينتهي بك.. إنك تضيعين نفسك، وعائلتك، وأخواتك البنات، وربما الأولاد أيضًا!! المسألة تحتاج إلي معرفة بنوع الحياة، وبالنتائج..
وكلما يتعمق الإنسان في الحكمة، علي هذا القدر يتعمق في فهم الأمور. ويعرف ما ينبغي أن يكون.
غير أن مصادر الفضيلة، ليست هي مجرد الحكمة والمعرفة. قد يعرف الإنسان الخير ولا يسلك فيه! هنا نتعرض للمصدر الثاني من الفضيلة، وهو:
2- قوة الإرادة والعزيمة:

قد لا يستطيع إنسان أن يسلك في طريق الفضيلة، لأنه مغلوب من نفسه، لأنه ضعيف الإرادة. وكما يقول الكتاب:
"لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده، إياه أفعل" (رو19:7).
ولهذا فإن كثيرين -لكي يحيوا في الفضيلة- يسلكون في تداريب روحية لتقوية إرادتهم.
إن الضعف يسبب الوقوع في الخطية.
والوقوع في الخطية يؤدي إلي مزيد من الضعف.
كل منهما يكون سببًا ونتيجة للآخر..
ولذلك نقول عن الإنسان الفاضل، إنه إنسان قوي.. قوي في الروح، وفي الفكر، وفي العزيمة، وفي التنفيذ، وفي التدريب،إنه قوي في الانتصار علي الحروب الخارجية، وفي الانتصار علي النزعات الداخلية.
الذي تستعبده عادة رديئة، هو إنسان ضعيف.
والذي لا يستطيع التحكم في لسانه، ولا التحكم في أعصابه. ولا التحكم في فكره، هو إنسان ضعيف. وبسبب هذا الضعف يبعد عن الفضيلة.. حتى إن تاب عن الخطية، يعود إليها مرة أخري.
3- من مصادر الفضيلة أيضًا: المبادئ والقيم:

الإنسان الروحي المتمسك بالمبادئ والقيم يحيا حياة الفضيلة. لأن القيم التي يؤمن بها تحصنه، فلا يستطيع أن يخطئ، مهما حورب بالخطية. يقول لك: لا أستطيع أن أفعل هذا الشيء، ولو كان السيف علي رقبتي. لا أستطيع أن أكسر مبادئي.
أما الإنسان الخاطئ، فلا قيم عنده.
أي أن الفضائل لا قيمة حقيقية لها في نظره، حتى يحافظ عليها!! إنه يكذب لأن الصدق لا قيمة له في نظره. ويزني لأن العفة لا قيمة لها في نظره. ويخون لأن الأمانة لا قيمة لها في نظره.. وهكذا مع باقي الفضائل.
وبسبب ضياع القيم، يقع في الاستهتار واللامبالاة..
لا الوقت له قيمة، ولا المواعيد لها قيمة، ولا الواجبات لها قيمة، ولا النظام العام، ولا القانون، ولا التقاليد.. ولا شيء علي الإطلاق...!
4- من مصادر الفضيلة أيضًا مخافة الله:

الإنسان الذي توجد مخافة الله في قلبه، ولا يخطئ.. ولهذا قال الكتاب "بدء الحكمة مخافة الرب" (أم10:9). ونجد في هذه الآية الحكمة والمخافة معًا..
الإنسان الروحي، يخاف أن يكسر وصايا الله. ويخاف اليوم الذي يقف فيه أمام الديان العادل (عب31:10). ويخاف العقوبة: بل يخاف أن يفقد طهارته وأن يفقد الصورة الإلهية. ويخاف أيضًا علي سمعته. ويخاف أن يكون عثرة لغيره.

وبالمخافة، يسلك في طريق الفضيلة وبممارسة الفضيلة وحبها. وهكذا يسلك فيها حبًا لا خوفًا.
غير أن البعض من الذين لا يفهمون الترتيب الطبيعي للفضائل، يبعدون عن المخافة بفهم خاطئ للآية التي تقول:
"لا خوف في المحبة. بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلي الخارج" (1يو 18:4).
فمن الناس قد وصل إلي هذا المحبة الكاملة لله، التي تطرح الخوف ألي الخارج؟! علينا أن نبدأ بالمخافة أولًا. والكتاب يقول "سيروا زمان غربتكم بخوف" (1بط17:1). (ويقول أيضًا تمموا خلاصكم بخوف ورعدة) (في12:2).
ولنثق أن هذه المخافة هي التي ستوصلنا إلي المحبة.
5- مصدر أخر للفضيلة هو الموهبة الإلهية.

فالفضيلة علي نوعين، نوع يولد الإنسان به، بطبع هادئ طيب: ونوع يجاهد الإنسان لكي يصل إليه.
أما عن النوع الذي يولد الإنسان به، فهو كمثال يوحنا المعمدان، الذي قيل عنه "من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" (لو15:1). ومثال أرميا النبي الذي قال له الله "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خلقت من الرحم قدستك. جعلتك نبينًا للشعوب" (أر5:1). وكما يوق المثل العامي "مالك متربي؟ قال من عند ربي"..
ومن الذين جاهدوا حتى يصلوا إلي الفضيلة، القديس موسى الأسود الذي يجاهد..، ينال بلا شك أجرًا سماويًا عن جهاده. وانتصاره. وهؤلاء وضعهم السيد الرب في سفر الرؤيا تحي عنوان "من يغلب" (رؤ3:2).
حتى الذي يولد بالفضيلة، يحتاج أيضًا إلي جهاد، لكي يغلب..
لأن عدو الخير لا يشاء أن يتركه في راحة. بل يحاربه محاولًا أن يفقده فضائله. فالذي ولد بفضيلة، يلزمه أن يثبت فيها، ويصمد أمام حروب العدو وكما قال الرب لملاك كنيسة فيلادلفيا "تمسك بما عندك، لئلا يأخذ أحد إكليلك" (رؤ11:3)..
وأيضًا يجاهد حتى يصل ألي الكمال في فضيلته.
أنه جاهد للنمو. وجهاد يدخل به من الباب الضيق حسب وصية الرب (مت13:7).
6- من مصادر الفضيلة، النعمة:

نعمة الله التي تساعد الإنسان وتقوية، لكي يسلك ويثبت في طريق الله. كما قال بولس الرسول "بنعمة الله أنا ما أنا. وبنعمته المعطاة لي لم تكن باطلة. بل أنا تعبت أكثر من جميعهم. ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي" (1كو10:15). ولأهمية هذه النعمة، فإن الكنيسة المقدسة تطلبها لنا في كل اجتماع قائلة "نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله وشركة الروح القدس، تكون مع جميعكم آمين" (2كو14:13).
علي أننا يجب أن نتجاوب مع عمل النعمة. ونشترك مع الروح القدس في العمل.
ذلك لأن نعمة الله العاملة معنا، لا تهبنا الفضيلة إلا باشتراكنا معها، وقبولنا لها. ولذلك يقول الرسول "النعمة العاملة معي". وليست العاملة وحدها.
الروح القدس يعمل فينا، ونحن نعمل معه. نشترك معه في العمل.
7- قال بعض الآباء:

الفضيلة بطبيعتها مغروسة في النفس:
وهكذا تكون الخطية مجرد مقاومة لهذا الغرس الإلهي..
ولهذا تجد ضمير أي إنسان أيا كان، من أي دين من الأديان، بوذي، براهمى، كنفوشيوسى.. من أي دين، تجد الفضيلة مغروسة فيه.. إنها الشريعة الطبيعية غير المكتوبة، التي وضعها الله فينا. توضح لنا الخير، وتدفعنا إليه، وتبكتنا إن لم نسلك في طريق الفضيلة..
لذلك نجد أن الذي يخطئ، يشعر بالخجل والخزف والارتباك..
هذا هو الذي يحدث للطفل، حينما يخطف شيئًا ليس له، أو حينما يرتكب خطأ لا توافق عليه القيم المغروسة فيه بالفطرة.. وهذا ما يحدث للكبار أيضًا. لهذا يحبون أن يرتكبوا الخطية في الخفاء، في الظلمة، دون أن يلاحظهم أحد.. لأنهم يقاومون شيئًا مغروسًا في أعماقهم، وذلك قيل عنهم:
"أحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو19:3).
بقي أن أحدثك عن نوعية الفضائل: السلبية والإيجابية، الداخلية والخارجية، وكذلك تكامل الفضائل وأمور أخري.
تحدثنا عن تعريف الفضيلة، وعن مصادرها ونضيف هنا: فنقول عنها إنها:
شركة الروح القدس

الروح القدس يسكن فينا (1كو16:3). وهو يعمل فينا. وفي نفس الوقت يعمل بنا. ولذلك لابد أن نشترك معه في العمل. ولا يمكن أن نأخذ من عمل الروح فينا موقفًا سلبيًا.
ذلك فالفضيلة هي شركة مع الروح القدس.
هي نتيجة لقوة عمل الله. الذي يقابله تجاوب من إرادة الإنسان. لأنه إن كان الإنسان لا يريد، فلا يمكن أن تتم الفضيلة. وهكذا وبخ الرب مرة شعب أورشليم، وقال لهم "كم مرة أردت.. ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابا "ً (مت23: 37،38).
محبة الخير

الفضيلة ليست مجرد عمل الخير، إنما هي بالأكثر محبة الخير.
لأن بعض الناس قد يعملون الخير خوفًا من العقوبة، أو من أجل السمعة وتجنبًا لكلام الناس. أو يعلمون الخير حبًا في المديح، أو رغبة في نوال مكافأة، أو مجاراة لجو معين.. ولكن ليس في كل ذلك فضيلة..
إنما الفضيلة هي حب الخير، حتى إن لم تفعله لسبب خارج عن إرادتك. ولذلك نقول في أوشية القرابين، ضمن من نطلب لهم بركة العطاء "والذين يريدون أن يقدموا وليس لهم".
ولكن إن مجدت إمكانية لعمل الخير، لأبد أن تعمله.
وهكذا تجتمع نية القلب، مع الإرادة مع العمل. لأن النية وحدها لا تفيد الآخرين.
والعمل هو التعبير عما في القلب من مشاعر طيبة.
الفضيلة لا تقف عن حد، إنما هي سعي نحو الكمال.
سعى نحو الكمال

فالذي يعمل الفضيلة يود أن ينمو فيها. ويستمر في النمو حتى يصل إلي الكمال الممكن له كإنسان، أعني الكمال النسبي. ولذلك كما قال الرب في العظة علي الجبل "فكونوا كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت48:5).
والسعي إلي الكمال، قد يحتاج إلي التدرج.
والآباء الروحيون كثيرًا ما يدربون أولادهم في نطاق هذا التدرج. لأن الطفرات السريعة كثيرًا ما تؤدي إلي المجد الباطل والافتخار، وأحيانًا تكون لها نتائج عكسية. لكن الآباء الروحيين يحبون أن يثبت أولادهم جدًا في كل خطوة يخطونها، حتى إذا ما صارت طبيعية عندهم، يتدرجون منها إلي خطوة أخري، ولا يصبحون في خطر من نكسة ترجعهم إلي الوراء.
أما إذا أرادت النعمة أن ترفع الإنسان مرة واحدة إلي فوق، فهذه هبة إلهية غير عادية.
وتأتي هذه الفضيلة بالممارسة في الحياة. وإنما يتحدث الكتاب عن السلوك فيقول "لا دينونة علي الذين هم في المسيح، الساكن ليس حسب الجسد، إنما حسب الروح" (رو1:8). وأيضًا" من قال إنه ثابت فيه، ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضًا" (1يو6:2)..
إذن الفضيلة هي سلوك بالروح.
قد يبدأ بالحب. وقد يبدأ بالمخافة، ويتحول إلي الحب. ولكنه في كلتا الحالتين. حب لله، وحب للخير، وحب للغير، يظهر في سلوك الإنسان وفي حياته العملية.
والحياة في الفضيلة هي حياة جهاد:
حياة جهاد

لأنه كما أن النعمة تحب أن ترفعك إلي فوق، كذلك قوي الشر لا تريد أن تتركك في راحة، إنما تحاول أن تجذبك إلي أسفل.
وكما قال الرسول إن "إبليس خصمكم كأسد يزأر، يجول ملتمسًا من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الإيمان" (1بط5: 8،9).
من هنا كانت الفضيلة صراعًا ضد الخطية.
ولذلك قال القديس بولس الرسول "البسوا سلاح الله الكامل، لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس. فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم علي ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية.." (أف6: 10-12).
وبمناسبة هذا الصراع، يمكن أن نقسم الفضيلة إلي نوعين:
نوعان من الفضيلة

وذلك من الناحية السلبية، ومن الناحية الإيجابية:
فمن الناحية السلبية مقاومة الخطية ورفضها، ومن الناحية الإيجابية السلوك الطيب في عمل الخير، فليست الفضيلة هي فقط البعد عن الخطية، إنما أيضًا حياة البر.
لا يكفي فقط إنك لا تكره إنسانًا، إنما يجب أن تحب الكل.
لا يكفي أنك لا تقول كلمة شريرة، إنما يجب أن تقول كلامًا للبنيان ينفع الآخرين. ليست الفضيلة هي إنك لا تضر الناس، بل هي بالأكثر أن تخدمهم وتعينهم وتتعب لأجلهم.
يعرف البض الفضيلة بأنها وضع متوسط بين رذيلتين:
فالشجاعة مثلًا هي الوضع المتوسط بين الخوف والتهور.
والتربية السليمة هي الوضع المتوسط بين القسوة والتدليل.
والتدبير الحكيم في مالك هو الوضع المتوسط بين البخل والتبذير.
ويمكننا أن نضرب أمثلة عديدة لهذا الوضع المتوسط.
الفضيلة لها مستويات في حياة الإنسان:
مستويات في الحس، والفكر، والقلب، والعمل..
مستويات

المستوي الجسدي للفضيلة، والمستوي النفسي، والمستوي الروحي.
وعلي الإنسان أن يحفظ نفسه في كل مستوي، ويحترس من السقوط في غيره. فمثلًا الحواس هي أبواب الفكر. فما تراه وتسمعه وتلمسه، قد يجلب لك أفكارًا. فلكي تحفظ فكرك احفظ حواسك. وإن أخطأت بالحواس، لا تجعل الخطأ يتطور بك إلي فكرك. فإن وصل إلي الفكر أطرده بسرعة.
وإن وصل الخطأ إلي الفكر، لا تجعله يتحول إلي مشاعر في قلبك. وإن تحول إلي مشاعر لا تجعله يتطور إلي الفكر والعمل؟
واعلم أن جميع المستويات تتجاوب مع بعضها البعض. وربما يصير البعض منها سببًا ونتيجة..
فخطأ القلب يسبب خطأ الفكر. وخطأ الفكر يسبب مشاعر للقلب. وربما يدفعان إلي العمل. والعمل يسبب خطورة للحواس، وكذلك الحواس تقود إلي العمل. وإنها دائرة أية نقطة تدور فيها، توصل إلي باقي النقاط.
وكما في الشر، كذلك في الخير. تتعاون المستويات معًا.
وكما تحدثنا عن هذه النوعيات، نتحدث عن نوعيات أخري وهي:
من الداخل والخارج

في الداخل، في القلب والروح والفكر. وفي الخارج في الجسد والممارسة.
الحب مثلًا فضيلة في القلب. ولكن لابد أن يتحول إلي عمل محبة من الخارج. وفي ذلك يقول القديس يوحنا الرسول "لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1يو18:3).. وهنا تظهر المحبة التي فيها عطاء وبذل وتضحية.
فضيلتك التي في فكرك، لا يشعر بها أحد. فيجب أن تعبر عنها بعملك.
محبتك لابنك التي في داخل قلبك، تعبر عنها بالعطايا، والاهتمام، بالحنو..
وهنا نتذكر عبارة جميلة في نشيد الأناشيد وهي:
"اجعلني كخاتم علي قلبك، كخاتم علي ساعدك" (نش6:8).
كخاتم فلي قلبك بالمشاعر الداخلية. كخاتم علي ساعدك بالعمل. يدك تمتد وتعمل وتساعد.. كخاتم علي قلبك بالإيمان، وعلي ساعدك بالإعمال.
بطرس الرسول جعل الرب خاتمًا علي قلبه، حينما قال "لو أنكرك الجميع فأنا لا أنكرك"، "أنا مستعد أن أمضي معك حتى إلي السجن وإلي الموت" (لو23:22). ولكنه مع ذلك لم يجعل الرب خاتمًا علي ساعده، حينما أنكره ثلاث مرات، وحينما سب ولعن وقال لا أعرف هذا الرجل" (مت26: 70-75).
ولذلك بعد القيامة، سأله الرب ثلاث مرات "أتحبني أكثر من هؤلاء؟!" (يو21: 15-17).. إن كنت تحبني، لا يكفي بالقلب، بل بالعمل "ارع خرافي، ارع غنمي.
والله نفسه عبر مشاعر القلب بالعمل.
فقيل "هكذا أحب الله العالم، حتى بذل إبنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو16:3).. أحب العالم "هذا من جهة القلب.. "وبذل إبنه الوحيد" هذا من جهة العمل.
والله يعبر عن محبته لنا برعايته وعنايته وحفظه لنا.
ومن هنا كان الحب فضيلة القلب. والفداء هو العمل والتعبير.
إذن لا نكتفي بأن نقول محبة الله في قلوبنا، إنما ينبغي أن نعبر عن هذه المحبة، وأن نبذل لأجله، ونتألم لأجله.. ولا نكتفي بإيمان بغير أعمال، لأن الإيمان بغير أعمال ميت (يع2: 17،20).
خشوع القلب من الداخل، نعبر عنه بخشوع الجسد من الخارج.
وهكذا نجد في الصلاة: الوقوف والركوع والسجود، ورفع الأيدي والنظر إلي فوق وثبات النظر بلا تشتت، والجسد بلا حركة، والفكر بلا طياشة.. ولا تقل في كل ذلك "الله إله قلوب! ويكفي أن قلبي مع الله"!! مثال ذلك من يصلي علي المائدة وهو جالس!!
وفي كل ذلك نذكر قول المرتل في المزمور "أما أنا فبكثرة رجمتك أدخل إلي بيتك، واسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك" (مز5).
نعبر عن المخافة والخشوع بالسجود. وما أجمل قول الرسول:
"مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو20:6).
لا يكفي إذن التمجيد بالروح، إنما بالجسد أيضًا. والمشاعر الداخلية تحتاج إلي التعبير الخارجي. فيشترك الجسد مع الروح. وتكون الفضيلة من الداخل ومن الخارج أيضًا. ما يجري في عروقك من مشاعر، يكون له ثمر من الخارج.
"ومن ثمارهم تعرفونهم" (مت20:7).
حياة الشجرة في داخلها، تعبر عن وجودها من الخارج، بالخضرة، بالزهر، وبالثمر. "وكل شجرة لا تصنع ثمرًا، تقطع وتلقي في النار" (مت10:3).
نريد إذن الفضيلة المثمرة.
بالعمل الطيب، بالكلمة الطيبة، والسلوك الحسن، بالقدوة، بالنور الذي يضئ للآخرين، بالمحبة العملية.
نقطة أخري أقولها وهي تكامل الفضائل:
تكامل الفضائل

الفضائل تتكامل معًا، ولا تتعارض. وإن سلكت في فضيلة ما، فلابد ستقودك إلي فضائل أخري كثيرة. وإن فقدت إحدي الفضائل، فما اسهل أن يجرك هذا السقوط إلي فقد فضائل أخري عديدة.. إنها سلسلة مترابطة. إن إنفك عقد أحدها، انفرط الباقي.. فاحترس من الاهتمام بفضيلة واحدة، تفقد معها باقي الفضائل.
وهنا سهل أن نتكلم عن خطورة الفضيلة الواحدة.
محبتك لابنك مثلًا، ينبغي ألا تنفصل عن تربيتك لابنك.
وينبغي أن لا تنفصل عن الحكمة في هذه التربية. والحكمة ترتبط أيضًا بالمعرفة. واهتمامك بجسد ابنك وصحته، لا يمنعك من الاهتمام بعقله، وبتثقيفه. وأيضًا يجب أن تهتم بروحيات إبنك وبأبديته..
وهكذا في باقي الفضائل..
كوني أحب الناس، هذا حسن. ولكن ليست محبتهم معناها مجاملتهم في كل شيء، ولو علي حساب الحق. ولكن أحب الله، وأحب الناس في نفس الوقت. وليس الحب معناه العطف الجسدي أو المادي فقط إنما معناه أولًا الحب الروحي.
الراعي يحب رعيته. ولكن ليس معني هذا أنه يعطف عليها عطفًا، يجعلها تستمر في الخطأ ولا تخاف.
محبة الله يجب أن ترتبط أيضًا بمخافته، أي بمهابته.
كيف نتكامل إذن في الفضائل؟ وكيف نصل إلي الوحدة التي ترتبط بها كل الفضائل؟ هذا ما أود أن أحدثكم عنه في الصفحات التالية.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:06 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
خطورة الفضيلة الواحدة

إنه خطأ يقع فيه الكثيرون، إن لم يكن غالبية الناس، أعني الاهتمام بفضيلة واحدة أو التركيز علي فضيلة واحدة، بأسلوب مع الفضائل أخري، أو تهمل فيه فضائل أخري.
فالحياة الروحية ليست مجرد فضيلة معينة. ولكنها حياة تشمل كل شيء.
كما أن الكتاب المقدس ليس مجرد آية واحدة، أو وصية واحدة، إنما هو كتاب، تحدث عن الخير كله، وعن البر كله، وينبغي أن نلتفت إلي كل ما فيه من وصايا، لكي نحيا حياة لا نقص فيها ولا صراع.. لأنه ربما نقص فضيلة واحدة قد يضع الحياة كلها..! وكما قال الرسول:
"إن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئًا" (1كو2:13).
تصوروا إنسانًا ركز علي فضيلة واحدة عظيمة جدًا هي الإيمان، ووصل إلي قمتها. ولكن نقصته المحبة، فأصبح لا شيء!
وبنفس الوضع الذي يجاهد حتى يصل إلي مستويات عليا في حياة الفضيلة والبر، وينقصه فضيلة واحدة هي التواضع.. ما أسهل أن يقع في الكبرياء أو في البر الذاتي أو المجد الباطل، ويهلك!!..
مثال ذلك الفريسي الذي وقف يصلي مفتخر في الهيكل.
كان يذهب إلي الهيكل ويصلي، وكان يصوم يومين في الأسبوع، ويعشر جميع أمواله. ولم يكن من الناس الظالمين الخاطفين الزناة. وهكذا لم يحصل فقط علي فضيلة واحدة، وإنما علي جملة من الفضائل. ولكن لأنه كانت تنقصه فضيلة الاتضاع، بل كان يفتخر بنفسه، ويدين ذلك العشار. لذلك لم يخرج من الهيكل مبررًا مثل العشار (لو14:18).
وسنحاول أن نضرب أمثلة لخطورة استخدام الفضيلة الواحدة:
الوداعة

بعض الأشخاص يتمسك جدًا بفضيلة الوداعة، علي اعتبار أن السيد المسيح قد قال تعلموا منى فإني وديع ومتواضع القلب "مت29:11" وأيضًا قوله في العظة علي الجبل "طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض" (مت5:5). ويفهم الوداعة، علي أنه يكون باستمرار لا يغضب.
وتأتي موافق تحتاج إلي نخوة وإلي شجاعة وشهامة، ولا يتحرك هذا (الوديع)، لأنه يحب أن يكون باستمرار طيبًا هادئًا!!
وفي تصرفه هذا لا يكون إنسانًا فاضلًا، لأن كل مناسبة تحتاج إلي الفضيلة تناسبها. وتمسك هذا الإنسان بفضيلة الوداعة، بدون الشهامة والشجاعة توفقه في موفق الملام الناقص.. وقد قال الحكيم "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت" (جا1:3).

+ إبراهيم أبو الآباء كان أنسانًا وديعا، إذ سجد أمام بني حث، لما اشتري منهم مغارة المكفيلة، لتكون قبرًا لسارة (تك12:23). ومع ذلك ظهرت نخوته وشجاعته "لما سمع أن أخاه لوطًا قد سُبِيَ، جمع رجاله المدربين" (تك14:14). وقام ضد أربعة ملوك وهزمهم ورد سبي لوط وسادوم. ولما أراد ملك سادوم أن يكافئه ويعطيه شيئًا من الغنائم، ورفض وقال له في عزة نفس "لا آخذ خيطًا ولا شراك نعل.. فلا تقول أنا أغنيت إبرآم" (تك23:14).
+ كان الرهبان ودعاء. ولنهم لم يكتفوا بالوداعة وحدها. ولما حان وقت الدفاع عن الإيمان كانوا شجعانًا.
+ ومن الخطأ أن تكتفي بالوداعة، وتظن أنها تغنيك عن الشجاعة، أو تحولك إلي جثة هامدة بلا حركة، لا نخوة فيها ولا شجاعة.
بل تستخدم الوداعة حين تحسن الوداعة. وتستخدم الشجاعة حين تلزم الشجاعة تكون كلتاهما فيك، وتظهر كل منهما في الحين الحسن المناسب لها.
الوداعة ليس معناها الضعف. والقسوة ليس معناها العنف.
والوداعة والقوة تمتزج كل منهما بالحكمة والفهم. والإنسان الضعيف لا يمكن أن يكون صورة الله ومثاله. والإنسان القوي لا ينحرف إلي التهور، ولا يفقد وداعته وأدبه.
موسى النبي كان وديعًا. ولكنه أضاف إلي وداعته الشجاعة والقوة.
كان وديعًا إلي أبعد الحدود، إذ قيل عنه "وكان الرجل موسى حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين علي وجه الأرض" (عد3:12). وفي نفس الوقت كان شجاعًا وشهمًا وقويًا. إذ وقف ضد الشعب كله لما عبد العجل الذهبي. ووبخ أخاه هرون رئيس الكهنة حتى خاف منه وأرتبك "وأخذ العجل الذي صنعوه، وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا، وذراه علي وجه الماء" (خر20:32).
وداود النبي أيضًا أضاف الشجاعة والقوة إلي وداعته.
كان وديعًا حقًا. ونحن نقول في المزمور "اذكر يا رب داود وكل دعته" (مز1:131). ولم يركن إلي الوداعة وحدها. بل لما وجد الجيش كله خائفًا أمام جليات الجبار، قال "لا يسقط قلب أحد بسببه" (1صم32:17). وذهب بكل شجاعة وحاربه، وقتله، وأزال العار عن الشعب كله.
والسيد المسيح نفسه كان وديعًا (مت29:11). وكان قويًا.

وقف ضد الكتبة والفريسيين، وقال لهم "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون" (مت23). ووقف ضد الصدوقيين والناموسيين وأفحمهم وأخجلهم، وكذلك بكت كهنة الشعب اليهودي (مت21:22).
وهنا ننتقل إلي فضيلة أخري وهي الطيبة:
الطيبة

كثيرون يحاولون أن تكون لهم فضيلة الطيبة، لأنها ميزة واضحة للأنقياء وللقديسين. ولكنهم إذ يسلكون في طيبة القلب وحدها، بلا إفراز وفهم، كثيرا ما يصبحون ألعوبة وهزأة في أيدي المستهترين.
كن طيب القلب. ولكن أضف إلي الطيبة فضيلة الحكمة. فقد قال السيد المسيح "كونوا بسطاء كالحمام، وحكماء كالحيات. ولكن أحذروا من الناس" (كت10: 16،17). فكن طيبًا، ولكن ليس بالقدر الذب تفقد فيه كرامتك وهيبتك. وإلا فإن البعض -بسببك- سوف يكرهون الطيبة التي تجعل الغير يستهزئ بهم.
المشكلة إذن ليست في الطيبة، وإنما هي عدم مزجها بالحكمة، وبقوة الشخصية. بهذا ندرك عيب استخدام الفضيلة الواحدة.
إذن يجب عليك أن تزن كل فضيلة بميزان دقيق، ولا تمارسها منفردة عن باقي الفضائل، وإن رأيت من نتائجها سلبيات، أعرف أن السلبيات ليست بسبب الفضيلة، وإنما بسبب وقوفها وحدها بعيدة عن سائر الفضائل التي ينبغي أن تصاحبها وتحميها. يمكن، تكون طيب القلب. ولكن ليس معني الطيبة أن تسلم قيادتك لغيرك، أو أن تشترك بضعف شخصية في أخطاء الآخرين. أو أنك خوفًا من أن تغضب غيرك تشترك معه في خطأ، أو تجامله في ذنب واضح!
كان السيد المسيح طيب القلب جدًا. وكان أيضًا قويًا جدًا.
كان طيب القلب، إذ يقل عنه إنه كان "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف. وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (مت12:19،20). وفي نفس الوقت لم تقف وداعته وحدها. وإنما إلي جوارها شخصية قوية. إذ كان قويًا في كلامه وفي إقناعه وتأثيره. قويًا في محبته، وفي بذله، وفي مواجهته للموافق.
كان طيبًا يحب الأطفال ويحنو عليهم. ويدافع عن المرأة الخاطئة. وفي نفس الوقت يخزي الذي قبضوا عليها فينسحبون (يو8:7-9).
في طيبة قلب سمح للشيطان أن يجربه. ولما زاد عن حده، انتهره في قوة قائلًا "اذهب يا شيطان". فمضى (مت4).
سمح للجنود أن يقبضوا عليه. وفي نفس الوقت لما قال لهم "أنا هو"، سقطوا علي الأرض من هيبته (يو6:18).
من المفروض في الآباء والمعلمين، أن يكون في طبعهم الحنو، وأيضًا تكون لهم الهيبة. وليس من الصالح أن حنوهم يفقدهم هيبتهم.
لعل هذا ينقلنا إلي فضيلة أخري هي الحزم.
الحزم

قد يقال عن راهب إنه إنسان طيب يصلح أبًا، وكنه قد لا يصلح أن يكون أسقفًا، إذ تنقصه الإرادة والحزم ضد الروحيات!!
الإنسان الروحي يمكنه أن يجمع الأمرين معًا. ولا يستخدم الحنو بدون حزم. فمثل هذا الحنو الخالي من الحزم يضر ويتلف..
يوسف الصديق كان خادمًا جدًا في إدارة شئون مصر،وفي نفس الوقت كان له قلب حساس مملوء من الحنو. كان حازمًا جدًا في معاملته لأخوته، حتى أنهم ارتاعوا منه وخافوا، لما قال لهم "أنا يوسف. أحيٌّ أبي بعد؟" (تك3:45). ومع ذلك لم يستطيع أن يضبط نفسه، لما عرف أخوته بنفسه، وأطلق صوته بالبكاء (تك45: 1،2).
السيد المسيح كان يحب تلاميذه. وكان ينتهرهم أحيانًا.
قيل إنه "أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهى" (يو1:13). ومع ذلك لما أراد بطرس أن يمنعه عن موضوع الصلب "قائلًا له: حاشك يا رب" قال الري لبطرس "اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي" (مت23:16). هنا نجد الحزم واضحًا وبنفس الحزم وبخ الرب تلميذيه يعقوب ويوحنا، لما رفضت قرية السامريين أن تقبله، فقال التلميذان "أتريد يا رب أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضًا "فالتفت الرب وأنتهرهما. وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن إبن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص" (لو9: 53-56).. نعم في هذه المناسبة انتهر الرب يوحنا، الذي كان يتكئ في حب علي صدره..
من الأشياء العجيبة التي نجدها أحيانًا. في محيط الأسرة، أن الأبوين قد يوزعان الحب والحزم بينهما.
فيكون الحب مثلًا للأم، والحزم للأب!! بينما الحب والحزم يجب أن يتصف بهما كل منهما..
فإن أخطأ الإبن، أو حاول أن يخطئ، تقول له الأم "لئلا يغضب أبوك ويعاقبك "دون أن تقول له إنها هي أيضًا لا ترضي عن تصرفه. ويختلط الأمر علي الابن، ولا يعرف أين الحق؟ كل ما في الأمر أنه يتقي غضب الأب!
ويحدث أحيانًا أن كاهنًا يريد أن يكسب محبة شعبه، أو رئيسًا يحب أن يكسب محبة مرؤوسيه.. من أجل هذا يتهاون الأب الكاهن في حقوق الله. ويتهاون رئيس العمل في حقوق العمل!! ولا يضم أحد منهم إلي محبة الناس محبة الله والإخلاص للعمل!!
الخدمة والتأمل

هناك خدام يركزون علي خدمتهم تركيزًا كبيرًا، ومن فرط انشغالهم بها يقدرون أهمية الصلاة والتأمل في حياتهم، ويهملون روحياتهم في تركيزهم علي فضيلة واحدة هي الخدمة!!
ولا شك أن هذا ضد التكامل في حياة الروح.
إن السيد المسيح يطوف المدن يكرز ببشارة الملكوت (مت35:9). ومع ذلك كان يقضي الليل كله في الصلاة، وله خلوته في جبل الزيتون (يو1:8). وفي بستان جسيماني.
ويوحنا المعمدان كانت له خدمته الناجحة جدًا التي أعد بها الطريق أمام الرب. ومع ذلك قضي 30 سنة من حياته في البرية حتى ظهر لإسرائيل (لو80:1).
وإيليا النبي كانت له خدمته التي قضي بها علي أنبياء البعل وأنبياء السواري، ووبخ بها آخاب الملك (1مل18). وفي نفس الوقت كانت له خدمته علي جبل الكرمل.
وبولس الرسول كانت له حياة التأمل التي صعد بها إلي السماء الثالثة (2كو2:12). ومع ذلك كانت له خدمته القوية التي تعب فيها أكثر من جميع الرسل (1كو10:15). والتي بشر بها في آسيا وأوروبا وكتب 14 رسالة، بل كتب رسائل وهو في السجن أيضًا.
الإنسان المتكامل يجمع بين الحياتين: لا تكون الخدمة علي حساب التأمل، ولا التأمل علي حساب الخدمة. ولا يكتفي بفضيلة منهما مهملًا الأخرى.
من الأمثلة الواضحة لخطورة الفضيلة الواحدة، موضوع الطاعة:
الطاعة

لقد أمر الله بطاعة المرشدين الروحيين الذين يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابًا (عب17:13). وفي بستان الرهبان أمثلة كثيرة عن الطاعة لآباء كانوا قدوة عجيبة في حياة القداسة. وهنا يقف أمامنا سؤال هام وهو: هل تجب الطاعة مهما كان الأمر متعبًا للضمير؟! هنا ونضع إلي جوار الآية التي تدعو إلي الطاعة، آية أخري مشهورة وهي:
"ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس "(أع29:5).
فالمسيحية لا تنادي إطلاقًا بمبدأ (الطاعة العمياء). فينبغي أن يكون الإنسان واعيًا في طاعته، مدركًا أنه يطيع المرشد داخل طاعة الله. وإلي جوار طاعة المرشد، ينبغي أن توضع أيضًا طاعة المرشد لله. وكذلك روحانية المرشد. ونفس الكلام يقال في محيط الأسرة. إذ يقول الكتاب:
"أيها الأبناء، أطيعوا واليكم في الرب، فإن هذا حق" (أف1:6).
ونضع تحت عبارة (في الرب) أكثر من خط. فإن أمرك احد واليك أمرًا يخالف وصية الله، فلا تطعه. وإنما تطيع وصية الله. وهذا الأمر يحتاج إلي إفراز. وفي الكتاب أمثلة واضحة له. لعل من أبرزها: موقف سليمان الحكيم من طاعة أمه بثشبع، وموقف يوناثان من طاعة أبيه شاول الملك:
أ- موقف سليمان الحكيم من طاعة أمه.

كان سليمان الملك يحترم أمه جدًا ويكرمها. فلما جاءت لزيارته، يقول الكتاب إنه "قام للقائها، وسجد لها. وجلس علي كرسيًا، ووضع كرسيًا لأم الملك، فجلست عن يمينه" (1مل19:2). ولما قالت له "سؤالًا واحدًا صغيرًا، لا تردني".
قال لها "إسألي يا أمي، لأني لا أردك" (1مل20:2). ولكنها لما طلبت إعطاء أبيشج الشونمية زوجة لأخيه أدونيا (1مل1: 1-4). فكيف يجرؤ أدوينا أن يطلب الزواج بإمرأة أبيه، وهذا أمر مخالف لشريعة الله (لا8:18). لأنها بمثابة أمه. لذلك صار مستوجب القتل. كذلك كان خطأ من بثشبع أن تتوسط لأودينا في هذا الطلب الخاطئ (1مل18:2). لذلك رفض سليمان طلبها، بل وبخها علي ذلك (1مل33:2). علي الرغم من سجود لها قبلًا.
ب- موقف يوناثان من شاول الملك أبيه.

كان شاول الملك يحسد داود، ويخاف أن يأخذ داود الملك منه. لذلك حاول أن يقتل داود أكثر من مرة. أما يوناثان فانضم إلي داود ضد شاول أبيه. وكان يخبر داود بخطط أبيه لكي يهرب داود منه (2صم2:19). بل إن يوناثان وبخ أباه شاول من جهة محاولته قتل داود، وقال له "لا يخطئ إلي الملك عبده داود، لأنه لم يخطئ إليك، ولأن أعماله حسنة لك جدًا فلماذا تخطئ إلي دم برئ، بقتل داود بلا سبب؟! (2صم19: 4،5). وعمل يوناثان علي إفساد خطة أبيه في قتل داود، وأنقذه منه (2صم20).
الطاعة إذن موجهة أصلًا إلي الله.
أما طاعة الآباء والمرشدين، فهي داخل طاعة الله.
الكتبة والفريسيون كانوا علماء الشعب وقادته. ولكن السيد المسيح قد وصفهم بأنهم (قادة عميان) كما في (مت23: 16،24). وهكذا ما كان يحب طاعتهم، وبخاصة فيما يعملون به عن السبت، والهيكل والمذبح والقربان (مت23). وهم وأمثالهم ينطبق عليهم قول الكتاب "يا شعبي، مرشدوك مضلون" (أش12:3). وقوله أيضًا "وصار مرشدو هذا الشعب مضلين" (أش16:9).
هكذا كما أن هناك أشخاصًا يهلكون بالعصيان،هناك من يهلكون بالطاعة.
والأمر يتوقف علي نوعية الطاعة والعصيان، ونوعية المشورة المقدمة هل هي توافق كلام الله أم لا. فإن كانت وصية الله واضحة أمامك يجب أن تطيع الوصية الإلهية، مهما كانت شخصية الذي يقدم لك المشورة، أو الذي يصدر لك الأمر. وإن لم يكن الأمر واضحا بوصية إلهية، فماذا تفعل؟
علي الأقل يجب أن تطاوع ضميرك.
والمثال واضح في قصة أوريا الحثي مع داود الملك مسيح الرب: كان داود الملك يحاول أن يغطي علي خطيئة ما امرأة أوريا، بأن يجعل أوريا يبيت في بيته مع إمرأته. ولك ضمير أوريا لم يسمح له أن يكون باقي الجيش في البرية يحارب، بينما يأتي هو إلي بيته ليأكل ويشرب ويضطجع مع امرأته. لذلك قال لداود الملك "وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر" (2صم11:11). وهنا لأطاع أوريا ضميره، ولم يطع الملك مسيح الرب..
هناك أمر في الإنجيل، بعدم طاعة التعليم الخاطئ.
وذلك في قول القديس بولس الرسول: "إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم به، فليكن أناثيما.." (غل8:1). أي أنه مهما كانت درجة الذي يوصل إليكم التعليم -رسولًا كان أو ملاكًا- فلا تطعه فيما يخالف كلام الله. ومن يطيعه يكون محرومًا..
وينطبق ذلك علي التعليم الذي يصدر من "نبي أو حالم حلمًا "حتى لو أنه "أعطاك آيه أو أعجوبة. ولو حدثت الآية أو الأعجوبة" (تث13: 1-3).
يقول الكتاب "فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم. لأن الرب إلهكم يمنحكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" (تث3:13).
موقف القديسة دميانة من أبيها

كان أبوها واليًا علي البرلس والزعفران، فلما خضع لديوقلديانوس، وأنكر الإيمان ولو خوفًا، اعتبرت القديسة دميانة أنه لم تعد له عليها طاعة كأب. بل وبخته بشدة، وقالت له إنها تتبرًا من أبوته إن ظل هكذا منكرًا الإيمان. وظلت حتى أعادته إلي الإيمان واستشهد.
إن طاعة الوالدين نضع أمامها قول الرب:
"من أحب أبًا أو أمًا أكثر منى، فلا يستحقنى.." (مت37:10).
إذن أنت تكرم والديك إلي أبعد حد، فهذه أول وصية بوعد، كما قال الرسول (أف2:6). وتطيعها أيضاَ إلي أبعد الحدود، وكن "في الرب "داخل وصية الله. أما خارج الوصية، فالطاعة لله أولي.
ونفس الوضع يقال عن الآباء بالروح، وعن المرشدين..
لا شك أن أريوس -ككاهن- كان له أبناء في الاعتراف.
فلما سقط في هرطقة، لم تعد له طاعة عليهم. وهكذا بالنسبة إلي كل من خرجوا عن الإيمان، وكل المعلمين المخطئين كالكتبة والفريسيين.. والكهنة الذين يستخدمون الحل والربط ضد وصية الله. وهكذا نقول:
"كل حل ضد وصية الله هو باطل..
مهما كانت الدرجة الكهنوتية التي تصدره. فالكاهن إنما يعطي الحل، باعتباره منفذًا لوصية الله "ومن فمه تُطْلَب الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (سفر ملاخي 2: 7). فإن كان الحل منافيًا للشريعة يكون جلا باطلًا..
وينطبق هذا أيضًا علي الكهنة الذين يعطون تصريحًا بالزواج للمطلقين بعكس وصية الله. أو أي تصريح بزواج غير شرعي.
أنت تطيع الكاهن. والكاهن ينبغي أن يطيع الله.
وأنت تطيع المرشد، ولكن ينبغي للمرشد أيضًا أن يطيع الله. وليس من حق الكاهن أو المرشد أن يعطيك جلًا بأن وصية الله. فالراهب مثلًا الذي برهبنته قد نذر البتولية، ومن ذا الذي يستطيع أن تمنحه حلًا بأن يتزوج كاسرًا وصايا الله بخصوص النذر (جا5:5)..؟!
إن فضيلة الطاعة فضيلة جميلة تدل علي الأدب والتواضع واحترام الكبار والخضوع لهم، ولكن..
هناك بعض الموافق، التي يجب أن نقول فيها "لا"..
صدقوني، أتجرأ وأقول أن البعض استخدموا كلمة لا مع الله نفسه، وكانوا من الأبرار والقديسين..
موسى النبي، قال له الرب "رأيت هذا الشعب، وإذا هو شعب صلب الرقبة. فالآن أتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم.." (خر32: 9،10). ولكن لم يتركه ليحمي غضبه. بل قال له "أرجع عن حمو غضبك، وأندم علي الشر بشعبك" (خر12:32). والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر32:32).
ولم تعتبر هذه عدم طاعة الله، وإنما دالة. ولم يكن كلام الله أمرًا لموسى ينبغي أن يطيعه، وإنما كان اختبارًا لمحبته لشعبة وطول أناته عليهم.
إن المناقشة مع الله، لا تنفي حياة التسليم لمشيئته وأوامره.
ومثال ذلك مناقشة أبينا إبراهيم أبي الآباء مع الله بخصوص إهلاك سادوم وقوله له "أفتهلك البار مع الأثيم؟! حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر" (تك18: 23،25). ولم يقل إبراهيم "لتكن مشيئتك. احرق سادوم "!! بل كان نقاشه مع الله جزءًا من بره.
وهنا أيضًا نذكر ما قاله أرميا النبي "أبر أنت يا رب من أن أخاصمك. ولكني أكلمك من جهة أحكامك:
لماذا تنجح طريق الأشرار؟! اطمأن كل الغادرين غدرًا (أر1:12).
إذن يكمن أن تقول لا أحيانًا لمن هو أكبر منك. ولكن قلها في أدب.
كما قالتها أبيجايل لداود النبي، بكل إحترام وفي نصح ومحبة، حينما أدار أن يقتل نابال الكرملي"..لا تكون لك هذه مصدمة ومعثرة قلب لسيدي، إنك سفكت دمًا عفوًا، أو أن سيدي قد أنتقم لنفسه" (1صم31:25). وسبقت ذلك بكثير من كلام المديح. فسمع داود لها وامتدح عقلها، لأنها منعته في ذلك اليوم من إتيان الدماء وإنتقام يده لنفسه (1صم33:25).
يوحنا المعمدان وجد من واجبه أن يقول لا، للملك هيرودس.
فقال له "لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك" (مر18:6).
إذن في بعض الموافق ينبغي للإنسان أن يشهد للحق، علي شرطين:
1- أن يكون متأكدًا أم ما يتكلم عنه هو الحق. فلا يدافع عن جهل.
2- أن يقول ذلك في أدب. فلا يخطئ بلسانه ولا بقلمه ولا بمشاعره، ولا يجعل الآخرين يسلكون في سبيله ويخطئون معه، ومن أجل الحق، أو ما يظنه أنه الحق.
لأنه ليس من الحق، أن يخطئ إنسان باسم الدفاع عن الحق.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:11 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
الفضيلة ليست مظهرًا خارجيًا | كل مجد ابنة الملك من داخل

"كل مجد ابنة الملك من داخل" (مز45)
قال السيد الرب "ملكوت الله داخلكم" (لو 21:17).
أي في داخل العقل والقلب، في المشاعر والنيات والأحاسيس.. وطبعًا إذا ملك الله في الداخل، فمن الطبيعي أن تظهر ثمار ذلك التصرفات الخارجية.
الداخل والخارج

أما البر الذي من الخارج فقط، فقد يكون رياء!
الكتبة والفريسيون كانوا يظهرون من الخارج أنهم أبرار. ولكنهم كانوا مرفوضين من الرب، وقد وصفهم بأنهم مراؤون. ووبخهم قائلًا "أنكم تتقون خارج الكأس والصحفة، وهما من الداخل مملوءان اختطافًا ودعارة"، "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة، تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات ولك نجاسة.." (مت23: 252،27).
"إذن المهم هو البر الداخلي، ومن أجله قال الرب:
"يا ابني أعطني قلبك" (أم26:23).
أعطني قلبك أولًا، فأسكن في داخلك، في مشاعرك، في أعماقك، وحينئذ ونتيجة لذلك سوف "نلاحظ عيناك طرقي" وهذه نتيجة طبيعية إذا ما أعطيتني قلبك. فالخير يبدأ داخل القلب والفكر. وهكذا قال القديس بولس الرسول "تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو2:12). وما معني تجديد الذهن؟ معناه أن ينظر الإنسان إلي الأمور بنظرة جديدة، باقتناع آخر. وحينئذ سوف يتغير شكله، ولا يشاكل هذا الدهر، أي لا يصير شكله مثله. لذلك شرح الرسول الطريق السليم بقوله:
"لا تشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو2:12).
فجعل تغيير الشكل الخارجي نتيجة طبيعية لتجديد الذهن، أي للتجديد الداخلي.
وفي هذا الحالة إن تعرض الإنسان لحرب روحية من الخارج، فإن محبته لله وللخير التي هي داخل قلبه، ستجعله قويًا ينتصر علي كل حرب خارجية ويرفض أفكار العدو.
الحرب الخارجية تعرض لهل الكل، حتى المسيح!
وهو علي جبل التجربة، قدم له الشيطان ثلاثة أفكار. ولكنه رفضها جميعًا، ورد عليها. لأن البر الداخلي لا يتفق معها.
وهكذا الأبرار في كل جيل: ما أكثر الحروب التي تعرض عليهم من الخارج، ولكن برهم الداخلي يرفضها. كالإغراءات الكثيرة التي عرضت علي الشهداء قبل استشهادهم، ورفضوها.. كالحروب الروحية التي تعرض لها يوسف الصديق، وكانت تلح عليه كل يوم. وكلن بره الداخلي رفضها، قائلًا في تعجب "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلي الله؟! (تك9:39).
ونحن حينما نقول البر الداخلي، لا نقصد أعمال البر الخارجية:
فقد يفعل الإنسان الرب رياء كالكتبة والفريسيين، وفي داخله حب الخطية. أو قد يفعل البر خوفًا من انتقاد الناس، أو خوفًا من عقوبة المجتمع، أو عقوبة القانون.. أو قد يفعل ذلك خجلا. أو قد يعمل البر من أجل كسب مديح الناس، وليس
من أجل محبة الله ومحبة الخير. أو قد يعمل الخير مجاراة وتقليد لتيار في المجتمع، وهو غير مقتنع من الداخل، وربما وهو محرج لا يستطيع أن يقول: لا..
إذن الفضيلة ليست في عمل الخير، إنما هي أصلا في محبة الخير.
محبة الخير في القلب، حتى لو كانت هناك موانع تعوق التنفيذ علميًا. لذلك فالأب الكاهن في (أوشية القرابين) يصلي طالبًا البركة لأولئك "الذين يريدون أن يقدموا لك، وليس لهم"، فيأخذون البركة علي مجرد النية أو الرغبة الداخلية، بدون الممارسة الخارجية، مادام هناك عائق يمنع ذلك...
والله تبارك اسمه هو وزان القلوب (أم2:21). ووازن الأرواح (أم2:16). ويكافئ علي البر الداخلي، الذي في القلب والروح ويعرف مدي صدقه، ومدي التزامه إذا أتيحت له الفرصة..
والإنسان البار، تحاربه الخطايا من خارج فقط. لأنه من الداخل بار، وقوي ورافض للخطية.
أما الإنسان الضعيف من الداخل، فأمامه حربان:
1- إما أنه يسعى بنفسه إلي الخطية.
2- أو إذا سعت إليه الخطية، لا يرفضها ولا يفارقها.
3- إن أتته الخطية، تجد بيته "مزينًا وفارغًا" (مت44:12). فتستريح فيه. إن قلبه مثل البيت المبني علي الرمل الذي إذا نزل المطر، جاءت الأنهار، وهبت الريح وصدمته، يسقط ذلك البيت ويكون سقوطه عظيمًا (مت27:7).
هناك إنسان ضعيف من الداخل، وإنسان آخر يتسبب في إضعاف نفسه..
إنسان ضعيف من الداخل، ويحاول أن يقوم نفسه، ولا يعتبر الضعف الذي فيه طبيعة ثابتة، وكلنه يحاول أن يغير نفسه. ولكن هناك من يلجأ إلي الأسباب التي تؤدي إلي ضعفه، أو التي تريد ضعفه ضعفًا.
أما الإنسان البار فهو محصن من الداخل.
مهما صادمته الحروب الروحية، لا تقدر عليه، فأبوابه مغلقة أمامها. كما قيل عن عذراء النشيد:






"أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش12:4)،
وكما يقول المزمور "سبحي الرب يا أورشليم سبحي إلهك يا صهيون، لأنه قوي مغاليق أبوابك" (مز147).
حينما يكون الإنسان قويًا من الداخل، وقد أغلق أبواب فكره وقلبه أمام كل خطية وكل شهوة، هذا يستطيع أن يقاوم إبليس وكل حيله. وبعكس الضعيف في داخله يسقط بسهوله، إن لم يكن في نفس الوقت فبعد حين.
علي أن الإنسان قد تمر عليه فترات قوة أو ضعف.
فأحيانًا يكون قويًا من الداخل ينتصر في كل حرب مهما كانت شدتها. وأحيانًا يكون في حالة ضعف من الداخل، فيسقط وهو نفس الشخص الذي أنتصر قبلًا.
مثال داود النبي

كان شاول الملك الشرير يطارد داود من برية ألي أخري، ومن مكان إلي آخر، ويريد قتله بكل السبل. وأخيرًا حانت الفرصة لداود، ووقع في يده شاول وكان نائمًا. وأصحاب داود حرضوه علي قتله وقالوا له إن الله دفعه إلي يده. ولكن داود رفض ذلك بطريقة فأمد يدي إليه. لأنه مسيح الرب هو "ووبخ رجاله (1صم24: 6،7).
ولكن داود حينما كان ضعيفًا في الداخل، أراد أن يقتل نابال الكرملي.
لأنه رفض أن يعطيه طعامًا لرجاله في يوم جز الغنم.. وأمر داود رجاله أن يتقلدوا سيوفهم، وصمم أنه لا ينقي لنابال حتى الصباح بائلًا بحائط (1صم25: 4-22). لولا أن أبيجايل بحكمتها منعته من إتيان الدماء والانتقام لنفسه (1صم33:25).
داود هو داود، نفس الشخص. ولكن هناك فرقًا بين حاله في وقت القوة الداخلية، وحاله وهو في وقت ضعفه.
داود في وقت ضعفه، في مرة أنقذته النعمة، وفي مرة أخري سقط.
أنقذته حينما أرسلت إليه أبيجايل لتوبخه في حكمة وتنعمه من سفك الدماء. ولكنه سقط في مرة أخري، حينما أشتهي بثشبع، وزني بها، وتحايل علي قتل زوجها أوريا الحثي، وقتله بحيلة لا تتفق من المنهج الروحي، واستحق لذلك عقوبة من الرب علي فم ناثان النبي (2صم12:11).
مثال إيليا

حينما كان إيليا قويًا من الداخل، استطاع أن يوبخ آخاب الملك علي سماحه بعبادة الأصنام، بل استطاع أن يقتل 450 نبيًا من أنبياء البعل عند جبل الكرمل (1مل18). وفي مرة أخري، قال في قوة لقائد الملك أخزيا "إن كنت أنا رجل الله، لتنزل نار من السماء، وتأكلك أنت والخمسين الذين لك" (2مل10:1). وقد كان، وتكرر الأمر.
أما حينما ضعف إيليا من الداخل، فإنه خاف من إيزابل وهرب. ولما افتقده الرب في هروبه، وسأله قائلًا "مالك يا إيليا"... أجاب "نقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي. وهم يطلبون نفسي ليأخذوا" (1مل14:19). وأمره الرب أن يمسح أليشع نبيًا عوضًا عنه (1مل16:19).
مثال إبراهيم

لما كان أبونا إبراهيم قويًا في إيمانه من الداخل، بالإيمان وضع إبنه وحيده إسحق علي المذبح، ورفع السكين عليه ليقدمه لله محرقة "هذا الذي قيل عنه: باسحق يدعي لك نسل"، "إذ حسب أن الله قادر علي الإقامة من الأموات" (عب11: 18،19). وبالعكس لما ضعف أبونا إبراهيم، في الداخل وخاف من الموت، قال عن سارة إنها أخته. لئلا لو عرفوا أنها زوجته يقتلوه ويأخذوها. وقال لسارة "هذا معروفك الذي تصنعين إلي. في كل مكان آتي إليه، قولي عني هو أخي" (تك20: 13،11).
بالمثل شمشون الجبار

كان بدء حياته قويًا جسدًا وروحًا. اختاره الرب قبل أن يولد، وكان روح الرب يحركه (قض13: 7،25). ولكن لما ضعف من الداخل، وملك الزنا علي قلبه (قض1:16). ثم أحب دليلة، وملكت عليه، استجاب أخيرًا لإلحاحها في معرفة سر قوته كشف لها سرة أخيرًا "لما كانت تضايقه كل يوم بكلامها، وألحت عليه حتى ضاقت نفسه إلي الموت" (قض16:16). وهكذا لما ضعف من الداخل، استسلم لها، وناله ما ناله بعد ذلك.. وقد أتاه الضعف الداخلي عن طريق التدريج.
* أحيانا يكون سبب السقوط من الداخل والخارج معًا.
مثال ذلك ما حدث لأبينا يعقوب: كان محاربًا من الداخل بأن ينال البركة، كما نال البكورية من قبل بحيلة مع أخيه، إذ اشتراها منه وهو جوعان ومعيي بأكلة عدس (تك25: 27-34). لذلك عندما عرضت عليه أمه حيله أخري أن يخدع بها أباه وينال البركة، كان ضعفه الداخلي مؤهلًا لقبول التحايل، لسابق عهده به، ولشهوة قلبه الداخلية. لذلك علي الرغم من أنه أظهر شيئًا من التخوف، إلا أنه أن يخدع أباه. وقال له "أنا عيسو بِكرك" (تك19:27).
أخاب الملك

كان ضعيفًا من الداخل، أمام شهوته في إمتلاك حقل نابوت اليزرعيلي. فلما أتته نصيحة زوجته الخاطئة إيزابل بحيلة لقتل نابوت وأخذ حقله، حينئذ استجاب آخاب، وبفذ الخطة الشيطانية التي اقترحتها إيزابل. كان الداخل والخارج متجاوبان معًا.
يهوذا أيضًا

كان داخله مثقلًا بمحبة المال، لذلك لما جاء إغراء رؤساء الكهنة من الخارج استجاب له، وأخذ المال، واتفق معهم علي تسليم سيده.
هيرودس الملك

كان محاربًا من الداخل بمحبة المديح لذلك لما جاء تملق الناي من الخارج قائلين له لما تكلم "هذا صوت إله لا صوت إنسان" (أع22:12). ابتهج بصوت المديح ولم يرفضه. فضربه ملاك ومات في الحال.
بعكس بولس الرسول، لما شفى الرجل المقعد في لسترة وقام ومشى، وأتي الكاهن ليقدم له الذبائح مع زميله برنابا! لكن بولس رفض وقال "ونحن يشر تحت الآلام مثلكم ووبخ الناس ودعاهم إلي الإيمان بالإله الحي".. فكانت النتيجة رجموه حتى ظنوا أنه مات" (أع14: 8-19).
الخوف كمثال

ليس سبب الخوف باستمرار، هو عوامل خارجية تسبب الخوف. فالقلب القوي من الداخل لا يخاف. والمؤمن بحماية الله له لا يخاف وقد قال المرتل في مزمور الراعي "إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا، لأنك أنت معي" (مز23). وقال أيضا "إن يحاربني جيش، فلن يخاف قلبي. وإن قام علي قتال، ففي ذلك أنا مطمئن" (مز27). داود لم يخف من جليات، لأن قلبه كان مملوء بالإيمان، أن الرب سيحسبه في يده، وأن الحرب للرب (1صم17: 46،47).
والشهداء لم يخافوا من الموت، لأن قلوبهم البارة، كانت تشتهي أن تلتقي بالرب في الفردوس. وكذلك يوحنا المعمدان لم يخف من هيرودس الملك، بل وبخه.. لذلك إذا خفت، أعرف أن هناك ضعفًا في الداخل، حاول أن تنتصر عليه. فبطرس الرسول، خاف وهو يمشي إلى الماء مع المسيح. ذلك لأن إيمانه من الداخل قد ضعف. لذلك وبخه الرب قائلًا "يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟" (مت31:14).
* القلب القوي في الإيمان لا تهزه الشكوك الخارجية.
لأن إيمانه أقوي من الشكوك. وهكذا كان أثناسيوس الرسولي حصنًا قويًا للإيمان ضد كل شكوك الأريوسية، وما استخدمته من فهم خاطئ لنصوص الإنجيل المقدس.
لهذا ينبغي علي كل أسرة أن تقوي إيمان أطفالها، حتى يستطيعوا بالقوة الداخلية أن يصمدوا أمام كل الشكوك التي يثيرها بعض رجال الفلاسفة أو العلم، أو الملحدون، أو بعض الطوائف المنحرفة مثل شهود يهوه والسبتيين وغيرهم..
دائمًا الخارج يضغط، ملتمسًا استجابة من الداخل..
فإن لم يجد، تفشل كل حيله. فأيوب مثلًا لم يستجب...
مثال أيوب الصديق

هذا الرجل الكامل، إذ كان بارًا في داخله، حلت عليه تجارب مؤلمة لم تحدث لأحد من قبله، جردته من ماله، ومن أبنائه وبناته، ومن صحته ومن رأفة أصحاب عليه ولكن إيمان بالرب لم يتزعزع، بل قال عبارته المشهورة "الرب أعطي والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركًا" (أي21:1). ووبخ امرأته بقوله لها تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات. هل الخير من عند الله نقبل والشر لا نقبل؟! (أي10:2).
في التطبيق العملي

* إنسان صائم: قد يبدو من الخارج صائمًا، وهو في داخله يشتهي الأكل، ويتحايل علي الطعام النباتي، ويتخير ما بكون منه شهيًا، بعكس دانيال النبي، الذي كان قلبه نقيًا في صومه. وقد روي في إحدى المرات قائلًا "كنت نائحًا ثلاثة أسابيع أيام. لم آكل طعامًا شهيًا، ولم يدخل فمي لحم ولا خمر، ولم أدهن.." (دا10: 2،3).
لذلك ليس الصوم مجرد ممارسة من الخارج، وإنما من الداخل يكون القلب صائمًا وتكون زاهدة، فلا يكون الصوم شكليًا.
مثال العفة

ليست العفة هي مجرد امتناع الجسد عن الزنا فقد يمتنع الجسد بينما تكون الروح زانية بشهواتها. وهذا ما قصده الرب بقوله "فقد زني بها في قلبه" (مت28:5). إذن العفة الداخلية، هي نقاوة القلب من شهوة الزنا.
كذلك الحشمة مجرد أوامر نصدرها من جهة الملابس أو الزينة، إنما هي حياء داخلي، سواء في أسلوب الكلام أو النظر. ويقول ما إسحق عن (الزي الحسن) أن الإنسان يكون محتشمًا حتى وهو جالس في غرفته الخاصة..
مثال التسامح

ليس التسامح أن تقول للمسيء بلسانك "الله يسامحك، بينما أنت تفرح إذا انتقم الله لك منه!! لأن (التسامح) هنا لا يكون من القلب. وبالمثل ليس أن تسلم علي خصمك، أو يصلي الأب الكاهن علي رأسيكما معًا. وليس هو أن تغفر، بل بالحرى أن تنسى Not only to firgive, but rather to forget.
وبالمثل ليس التواضع أن تقول كلمات "أخطأت".
دون شعور - حقيقي بذلك. إذا يقول إنسان كلمة "أخطأت "ولكن إذا قيلت له من آخرين، يتضايق، وربما يجادل ويدافع عن نفسه.. وليس التواضع أن تضرب مطانية لغيرك، وتنحني رأسك، بل التواضع هو أن تنحني نفسك.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:13 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
حياة الفضيلة والبر هي الحياة بالروح

قيل في الكتاب المقدس "لا دينونة الآن علي الذين في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح" (رو1:8).
فما هي إذن الحياة بالروح؟
ملخص الحياة الروحية

الحياة بالروح تتوقف علي نقطتين أساسيتين هما:
أ- انتصار الروح البشرية في جهادها.
ب- عمل روح الله القدوس في الإنسان.
إن الروح البشرية لها بطبيعتها طاقات جبارة، لو أحسن الإنسان استخدامها، لترتفع إلي مستوي عال جدًا، حتى لو كان غير مؤمن، فهكذا يفعل اليوجا، وهكذا يفعل كثير من نساك الهندوس، برياضيات روحية يتدربون عليها، لكي تصل أرواحهم إلي ملء طاقاتها الطبيعية.. منتصرة علي الجسد والمادة...
فإن كانت هكذا الروح البشرية حسب طبيعتها،
كم تكون إذن إذا إشتركت مع روح الله القدوس!
لذلك يحتاج الإنسان أن تقوي روحه، وأن يعمق شركتها مع روح الله. وليقويه الروح عليه أن يبعد بها عن السلبيات والعثرات، وأن يقدم لها باستمرار الغذاء الروحي من صلاة، وتأملات، وقراءات روحية، وتسابيح وألحان وقداسات، وتداريب روحية واجتماعات روحية منشطة.
ومن جهة العلاقة بالروح القدس، عليه ألا يحزن روح الله (أف30:4). ولا يطفئ الروح (1تس19:5) ولا يقاوم الروح. هذا من الناحية السلبية. ومن الناحية الإيجابية، ينمو حتى يصل إلي الامتلاء بالروح (أف18:5).
تطور علاقتنا بالروح

1- تبدأ علاقتنا بالروح في سر المعمودية، حينما نولد فيها من الماء والروح (يو5:3).

2- والعلاقة الثانية تكون في سر المسحة، حينما ندهن بزيت الميرون المقدس ويسكن الروح في بداية العسر وتصير أجسادنا هياكل للروح القدس (1كو19:6).

كان هذا الأمر في بداية العصر الرسولي، بوضع أيدي الرسل، فينال الناس الروح القدس كما حدث لأهل السامرة (أع17:8). ولأهل أفسس (أع6:19). ولما كثر عدد المؤمنين جدًا، استخدموا المسحة المقدسة بدلًا من وضع اليد (1يو2: 20،27).
3- ولا يكفي أن ننال الروح القدس، إنما يجب أن تكون لنا شركة معه.

إنه يعمل فينا وبنا. ويجب علينا نحن أيضًا أن نعمل معه. ويشترك الروح القدس معنا في كل عمل نعمله.
والكنيسة تذكر شركة الروح القدس في البركة التي يبارك بها الكاهن الشعب في نهاية كل إجتماع (2كو14:13).
4- وبشركتنا مع الروح القدس، تظهر ثمار الروح في حياتنا.

وقد ذكر القديس الرسول ثمر الروح في رسالته إلي غلاطية فقال "وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام،؟ طول أناة لطف إيمان، وداعة تعفف. ضد أمثال هذه ليس ناموس" (غل23:22).
ثمار الروح تأتي نتيجة لعمل الروح القدس في الإنسان ونتيجة لاستجابة روح الإنسان لعمل روح الله فيه..
5- وكلما يزداد ثمر الروح، تزداد الحرارة الروحية في الإنسان.

وفي هذا المعني يوصينا الرسول أن نكون "حارين في الروح" (رو11:12). لقد قيل عن الرب "إلهنا نار آكله" (عب29:12). كذلك فالذي يسكن فيه روح الله، لابد أن يكون مشتعلًا بهذه النار المقدسة.

وهكذا حل روح الله كألسنة من نار علي التلاميذ. فأشعلهم نارًا وغيرة، ألهبهم للخدمة، فملأوا الكون كرازة.
وهؤلاء "الذين لا قول لهم ولا كلام، وصلت أقوالهم إلي أقطار المسكونة (مز19).
الله ظهر كنار في العليقة (خر2:3). ويتمثل في المجمرة نارًا تشتعل في الفحم فتصيره جمرًا مشتعلًا. وكان قبول المحرقات في العهد القديم يتمثل في النار المقدسة التي تشتعل، "نادرًا دائمة تتقد علي المذبح لا تطفأ" (لا13:6).
ولأن الملائكة قريبون من الله، يعمل فيهم روحه القدوس، لذلك قيل عنهم "الذي خلق ملائكته أرواحًا، وخدامه نارًا تلتهب" (مز4:104).
ومن هذه النار، أخذ إسم طغمة السارافيم.
نستطيع إذن أن نعرف رجل الله، من ثمار الروح التي تظهر في حياته. لأن الرب يقول "من ثمارهم تعرفونهم" (كت20:7).
ويمكننا أيضًا أن نعرفه من حرارته الروحية.
فصلاته صلاة حارة في ألفاظها وفي دموعها وفي إيمانها وفي لهجتها، صلاة تزعزع المكان كما حدث مع التلاميذ (أع31:4). والإنسان الروحي تكون خدمته خدمة حارة، في قوتها وفي انتشارها، وفي تأثيرها، وفي غيرتها المقدسة وحماسها العجيب.. خدمة كلها نشاط، وتأتي بثمر كثير..
والإنسان الذي يعمل فيه روح الله، يتميز بحرارة المحبة.
هذه المحبة الملتهبة من نحو الله والناس، التي قيل عنها في سفر النشيد "مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" (نش7:8). وتشمل هذه المحبة كل أحد، وتسعي بكل قوة في خدمة الناس، ولخلاص الناس.
لذلك إن كنت إنسانًا لست فيك حرارة، فأعرف أن عمل الروح فيك ليس كما ينبغي.
وطباعًا من محاربات هذه الحرارة، الفتور الروحي.. وإن زاد الفتور في إنسان وطالت مدته، يتحول إلي برودة روحية.. ويصير هذا الإنسان جثة خامدة في الكنيسة لا حرجة، ولا بركة.
هنا وأقول إن البعض يفهم الوداعة بطريقة خاطئة.
فيظن أنه في وداعته، يكون بلا حرارة ولا حيوية!! ولا يتأثر ولا يؤثر ولا تشتعل عواطفه، ولا يغار للرب!! كلا، فالسيد المسيح كان وديعًا ومتواضع القلب، ومع ذلك كان حارًا في عواطفه وفي خدمته، يجول يصنع خيرًا (أع38:10).
6- الإنسان الذي يسكن فيه روح الله، تكون تصرفاته روحية.

نواياه ومقاصده واتجاهاته تكون روحية، ووسائله وسائل روحية. وكل لفظة يلفظها تكون كلمة روحية، لها تثير روحي في نفوس سامعيه.
فهو إن تكلم يكون روح الله هو المتكلم علي فمه.
كما قال السيد المسيح لتلاميذه "لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت20:10). فهل في كل مرة تتكلم، يكون روح الله هو الذي ينطق. وهل تقول له في كل مرة "افتح يا رب شفتي، فيخبر فمي بتسبيحك" (مز50).
وإذ وقع في مشكلة، يحلها بطريقة روحية.
هناك من يحل المشكلة بأعصابه، فيثور لها ويضح. وهناك من يقابلها بمشاعره فيبكي لها وينوح. وهناك من يعالج المشكلة بعقله، فيجلس ليفكر. وهناك أيضًا من يحلها بروحه. فيصلي من أجلها، ويصوم، وينذر نذرًا، ويقيم القداسات،وفي تفكيره للحل، يفكر بطرية روحية، بغير خطية، بلا لوم أمام الله والناس.
7- وإذا سكن روح الله في إنسان، فإنه يقدسه.

يقدسه بالكلية، يقدس قلبه وفكره وجسده وروحه ونفسه، ويقدس الحياة التي يحياها.. كما قال الرسول "وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام، ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم.." (1تس23:5).
إنه تقديس من الناحيتين: الإيجابية والسلبية.
الإيجابية: من جهة قدسية الحياة التي يحياها، وثمر الروح فيها. ومن الناحية السلبية: لا تكون لك شركة في أعمال الظلمة، مادمت قد دخلت في شركة الروح القدس. فالرسول يتعجب قائلًا "أية شركة للنور مع الظلمة؟!"(2كو14:6). ويقول أيضًا "لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحرى بكتوها" (أف11:5).
فإن كنت تشترك في عمل من أعمال الظلمة، فلا يكون روح الله يعمل فيك.
علي الأقل في وقت هذا العمل.. إلا إذا كان يبكتك وقتذاك، وأنت تقاوم الروح!! وتقسي قلبك. الأمر الذي حذرنا منه الرسول قائلًا "إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم" (عب3: 7،15).
في حالة اشتراكك في عمل الظلمة، تكون قد فصلت نفسك عن عمل الروح فيك.
انفصلت عن الروح، ولو إنفصالًا مؤقتًا.. إنفصالًا في العمل والتصرف، وفي الإرادة والمشيئة. ومن الجائز أن الروح لا ينفصل عنك، بل يظل يبكتك. ولكنك أنت منفصل عنه فكرًا وحسًا. لك طريق آخر غير الطريق الروحي، تسلكه أو تشتهيه.
ما أجمل تلك العبارة التي قيلت عن شمشون الجبار في بدء حياته الروحية "وابتدأ روح الرب يحركه في محلة دان" (قض25:13).
فهل أنت مثله: روح الرب يحركك؟
أم أنت تحرك من ذاتك؟ أم تحرك مشاعر خاطئة وفكر خاطئ، أم تحركك إرادة أخري غير إرادتك من قريب أو صديق أو موجه أو مرشد؟! وإن كان يحركك مرشد، فهل هذا المرشد يحركه روح الله؟
والذي يحركه روح الله يسلك بالروح.
هذا السلوك يقول عنه القديس بولس الرسول "إذن لا شيء من الدينونة الآن علي الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح" (رو1:8).
ويقيم مقارنة خطيرة بين السلوك بالروح، والسلوك بالجسد.
فيقول "فإن الذين هم حسب للجسد، فبما للجسد يهتمون. ولكن الذين حسب الروح، فبما للروح، لأن اهتمام الجسد هم موت، ولكن اهتمام للروح هو حياة وسلام. لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله.. فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله".
"وأما أنتم فلستم في الجسد، بل في الروح، إن كان روح الله ساكنًا فيكم".
"فإذن أيها الأخوة "نحن مديونون وليس حسب الجسد، لنعيش حسب الجسد. لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون. ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو8: 5-13).
8- إذن هناك صراع بين الروح والجسد، يقول عنه الرسول:

"اسلكوا بالروح، فلا تكملوا شهوة الجسد".
"لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد".
"وهذان يقاوم أحدهما الآخر.." (غل5: 16،17).
فهل يظل الإنسان في هذا الصراع طوال حياته علي الأرض، يشكو من الجسد ومن شهوات الجسد، ويصرخ قائلًا "إني أعلم ليس ساكنًا في أي جسدي، شيء صالح "ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت؟(رو7: 18،24).
أم تراه صراعًا في بدء الحياة الروحية؟ إلي أن يتم استسلام الجسد للعمل الروحي.
وخلال هذا الصراع، يقول إنسان الله "أقمع جسدي وأستعبده. حتى بعد ما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1كو9:27).
ومتي تقدس الجسد بالتمام، وخضع للروح، بل اشترك معها في العمل الإلهي، العمل الروحي، حينئذ لا يكون بينهما صراع، بل يتعاونان معًا.
9- وإذا نما الإنسان في العمل الروحي، يصل إلي درجة أعلي:

فيصبح لروحه سلطان، ويصير لها قوة.
يصبح لوحه سلطان علي الجسد، وسلطان علي الناس، أقصد تأثيرًا عليهم أكثر عمقًا.. ويصبح للروح أيضًا علي الشياطين. هذا السلطان منحه الرب لتلاميذه، فقال "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو.." (لو19:10). ما أعمق عبارة "وكل قوة العدو"!!
وهكذا كانت الشياطين تخاف من القديسين، وتصرخ من هيبتهم وسلطانهم. وحدث ذلك عندما نفي القديس مقاريوس الكبير إلي جزيرة فيلا بواسطة الأريوسيين، فصرخ الشيطان لما دخل الجزيرة، وقالوا له "تركنا لك البرية، فجئت إلي هنا لتهلكنا".
بهذا السلطان كان القديسون يخرجون الشياطين.
الشياطين جربتهم أولًا بمحاربات، فلم يخضعوا لها، وانتصروا علي الشياطين في كل حرب روحية، حتى صارت الشياطين تخاف منهم. وأصبح لصلواتهم سلطان يمكن أن يطرد الشياطين.
يا ليتكم تأخذون هذا الموضوع مجالًا لدراستكم وتأملاتكم، أعني خوف الشياطين من أولاد الله. وتجدون فصلًا عن ضعف الشياطين في كتاب القديس أثناسيوس الرسولي عن حياة القديس الأنبا أنطونيوس..
أما السلطان علي الناس، فيظهر في التأثير عليهم.
إنسان يتكلم بسلطان لأن روحه لها سلطان علي السامعين. لها سلطان أن تدخل إلي العقل، وإلي القلب، وأن تؤثر علي الإرادة. وبخاصة لو كانت روحه أكبر من أرواحهم.." وإذا بالكلمة لا ترجع فارغة، وإنما تعمل عملًا، وتقتدر كثيرًا في عملها. بعد هذا ننتقل إلي نقطة أخري في علاقتنا بالروح وهي:
10- المواهب التي يمنحها روح الله للناس.

وقد شرح القديس بولس الرسول هذه المواهب في إصحاح كامل وهو (1كو12) وذكر كيف أن كل هذه المواهب "يعملها الروح قاسمًا لكل واجد بمفرده كما يشاء" (1كو11:12). وليس الآن مجال الحديث عن هذه المواهب..
وأنا أفضل أن تهتم بثمار الروح أكثر من المواهب.
ثمار الروح هي خاصة بحياتك أنت وأبديتك. أما المواهب فغالبيتها خاصة بخدمة الآخرين. وقد يقع البعض بسببها في الكبرياء والمجد الباطل.
11- ننتقل إلى نقطة أخري وهي أن الروح يمنح قوة خاصة للمؤمن، وعن ذلك قال. السيد الرب لرسله القديسين:

"ولكنك ستنالون قوم متي حل الروح القدس عليكم" (أع8:1).
وهكذا تظهر القوة في حياة أولاد الله، قوة ليست من العالم، وإنما من روح الله، قوة في الكلمة، في الخدمة، في الانتصار علي الشياطين، في تحمل الشدائد والضيقات. قوة في الصلاة، في الإيمان، في عدم الخوف، مهما كانت الأسباب. وهكذا قيل:
"ملكوت الله قد أتي بقوة" (مر1:9).
هذه القوة تميز بها العصر الرسولي الذي عمل فيه الروح القدس بقوة، وتميز بها عصر المجامع وأبطال الإيمان، كما تميز بها عصر الرهبنة وبخاصة في بدء نشأتها..
قوة ظهرت في عظة بطرس، التي أدت إلي إيمان ثلاثة آلاف (أع2).
وتميزت بها خدمة اسطفانوس (أع10:6) وتميزت بها كرازة القديس بولس الرسول في تأثيرها وانتشارها.
المشكلة التي نعانيها أن كثيرًا من الخدام يخدمون بنشاط ومعرفة، وربما باتساع كبير في الخدمة، ولكنهم لا يخدمون بقوة الروح. وربما تدخل بعض الأساليب العالمية في الخدمة.
الخادم الحقيقي يخدم بروحه، وبروح الله معه.
والإنسان الروحي تكون روحه مزينة بالفضائل.
تحدث الرسول عن "زينة الروح الوديع الهادئ" (1بط4:3).
وما أجمل ما قيل في سفر النشيد عن الروح المزينة بالفضائل، التي تعجب منها المنشد فقال "من هذه الطالعة من البرية مستندة علي حبيبها" (نش5:8)." معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش6:3).

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:15 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
حياة البر في البعد عن الإثنينية

عندما خلق الله الإنسان، خلقة بارًا قديسًا بسيطًا، لا يعرف سوي الخير فقط. ولما سقط الإنسان في الخطية، وأكل من شجرة معرفة الخير والشر، بدأ يعرف الشر إلي جوار الخير. وفقد بساطته، وعرف أنه عريان، واستحي من عريه وتغطي.
ومن ذلك الحين، وقع الإنسان بين شقي الرحى، أعني الخير والشر. ودخل في الصراع الداخلي بين الخير والشر والحلال والحرام، وما يليق وما لا يليق.
الصراع

عاش الإنسان في صراع الإثنينية. أمامه الاثنان "أيهما يختار؟ وكما قال له الله في سفر الشريعة "أنظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر.. قد جعلت قدامك الحياة والموت،والبركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك" (تث30: 15،19).
وأول صراع عاشه الإنسان: هو الصراع بين الروح والجسد.
وفي ذلك قال القديس بولس الرسول "اسلكوا بالروح، فلا تكلموا شهوة الجسد. لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد. وهذان أحدهما الآخر.."(غل5: 16،17). ويقول في هذا الصراع الروحي "فإني أعلم أنه ليس ساكنًا في، أي في جسدي، شيء صالح.. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل، فلست بعد أفعله أنا، بل الخطية الساكنة في.." (رو7: 18-20). ويكمل الرسول كلامه عن هذا الصراع فيقول:
"أري ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلي ناموس الخطية" (رو7:23).
وبهذا يكون الإنسان قد تحول إلي اثنين يتصارعان معًا. وكما قال أحد الأدباء الروحيين "كنت أصارع نفسي وأجاهد حتى كأنني اثنان في واحد: هذا يدفعني، وذلك يمنعني.. إنه صراع داخلي.
صراع سببه معرفة الخطية، ثم محبة الخطية.
وقد يكون أحيانًا صراعًا بين الشهوة والضمير.
وهو صراع في هذا العالم فقط، الذي نوجد فيه بالجسد، ونحاط بالمادة، ونعرف الخطية. أما في العالم الآخر، في الأبدية السعيدة، فسوف نعود إلي بساطتنا، ولا نعرف سوي الخير فقط. وتنزع منا تمامًا معرفة الخطية. ولا يوجد صراع بين الروح والجسد، لأننا في القيامة العامة سنقوم بأجساد روحانية. ولا نلبس بعد أجسادًا ترابية، بل سماوية. لأن هذا الفاسد لأبد أن يلبس عدم فساد. وهذا المائت يلبس عدم موت (1كو15: 44-53).
أما علي الأرض، فلا يزال صراع الإنسان قائمًا.
إنه صراع مع نفسه، حتى يصل إلي ضبط النفس.
صراع مع رغائبه، ومع أفكاره، ومع حواسه. وينتهي الصراع حينما يصير الإنسان واحدًا، وليس جبهات داخلية تقاوم إحداها الأخرى. وعلي رأي مار اسحق "إذا أصطلح العقل والجسد والروح، حينئذ تصطلح معك السماء والأرض"..
ولكن الصراع الداخلي هو مرحلة للمبتدئين، أو للذين لم يتحرروا بعد من الداخل.
فإن تحرروا، يكون منهجهم هو النمو في النعمة، وليس الصراع بين الخير والشر...
بالإضافة إلي الصراع في حالة الإثنينية، يوجد أيضًا:
الخوف

مادام الإنسان لم يتحرر من شهوات العالم والجسد، فلابد أن يقع في الخوف".
لأنه يشتهي، ويخاف أن شهوته لا تتحقق. فإن تحققت، يخاف إنها لا تستمر. فإن استمرت قد يخاف من نتائجها. وفي حالة الخطية، يخاف أن تنكشف، ويخاف من العقوبة ومن الفضيحة. وإن لم يستيقظ ضميره، يخاف من غضب الله، بل قد يخاف من كيفية الاعتراف بخطئه. وإن ترك الخطية، وقد يخاف من إمكانية عودته إليها..!
إن حالة الإثنينية ترتبط بالخوف، كما ترتبط بالشهوة. ولذلك لما تخلص منها القديس أغسطينوس، قال عبارته المشهورة: "جلست علي قمة العالم، حينما أحسست في نفسي: أنني لا أشتهي شيئًا، ولا أخاف شيئًا".
الخوف مرتبط دائمًا بالشهوة وبالخطية. ونقصد هذا المعني للخوف، ليس الخوف الصبياني من الظلام والأرواح..
فالإنسان الروحي لا يخاف أبدًا. إنه يشعر بوجود الله معه يحميه ويخلصه ويقويه. لا يخاف الموت، لأنه يعرف أن الموت يوصله إلي حياة أفضل. أما الخاطئ فيخاف، لأنه لا يضمن حياته بعد الموت.. وإذا صار الإنسان واحدًا، يتحد هذا الواحد بالعشرة مع الله وملائكته، أما إن كان بعيدًا عن هذه العشرة، فإن يخاف..
ولعل الخوف بهذا المعني، هو الذي وضعه القديس يوحنا الرائي في المقدمة حينما تحدث عن الهالكين!
فقال "وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت" (رؤ21:8).
مادام هناك خوف، إذن لابد من وجود خطًا في الداخل.
الثلاثة فتية لم يخافوا من أتون النار، ولا دانيال خاف من جب الأسود. ولا الشهداء خافوا من الموت أو التعذيب. لأن كلًا منهم واحدًا، يشتاق إلي الله. ولم يكن أحدهم إنسانين: أحدهما يحب الله. والثاني يخاف الموت!!
الإثنينية تقود إلي الصراع، والخوف، وإلي أخطاء كثيرة:
أخطاء كثيرة

الإثنينية تقود إلي الرياء:
فالإنسان هنا اثنان: أمام نفسه شيء، وأمام الناس شيء آخر..! أمام الناس يلبس ملابس الأبرار والقديسين، وأمام نفسه قد يكون عكس ذلك تمامًا.. حينما يكون وحده قد يسلك بإهمال أو بخطأ أو بما لا يليق. وأمام الناس ربما يحرص علي أن يكون محترسًا مدققًا في تصرفاته.
وبالإثنينية يكون إنسانه الداخلي غير إنسانه الخارجي.
ربما تكون كل أفكاره، ومشاعره ونيته، غير ما يظهر للناس. أو أن الناس -بسلوكه أمامهم- محال أن يظنوا أن له أفكارًا حسب واقعه! حقًا لو كشف الله أفكارنا ومشاعرنا، كم تكون دهشة الناس، وكم يكون خجلنا؟!
بالإثنينية قد يكون قلب الإنسان غير لسانه!
فهو يقول ما يعجب سامعه، وقد يكون قلبه غير ذلك أو عكس ذلك! وقد يصلي بشفتيه، وقلبه مبتعد عن الله تمامًا (أش13:39) (مت8:15).
فهو من الظاهر يبدو قريبًا من الله بشفتيه، بينما قلبه مبتعد. أليس هذا الإنسان اثنين؟! ولذلك نحن نقول في التسبحة "قلبي ولساني يسبحان القدوس".
إنسان آخر تتدرج به الإثنينية إلي التملق وإلي النفاق.
يكون في قلبه كارهًا لرئيسه، حاقدًا عليه، ومع ذلك يكلمه بكلام المديح والملق! أليس هذا لونًا من النفاق، صار فيه هذا الإنسان اثنين: الإنسان الداخلي فيه يختلف عن الخارجي، بل يتناقض معه إلي أقصى حد..
متى يصير الإنسان واحدًا؟ قلبه واحد مع لسنه؟!
وليس معني الوحدة أن يخطئ لسانه كما يخطئ قلبه!
كشخص باسم الصراحة يقع في أخطاء عديدة.
كلا، بل يصلح قلبه، وينقيه من الحقد والكراهية، حتى يصير واحدًا مع لسانه،أو علي الأقل يصمت، فلا يتكلم بلسانه ما لا يعتقد به في قلبه. وفي كل علاقاته إذا لم يستطيع أن يوبخ الخطية، فعلي الأقل لا يتملقها! ولا يكون اثنين: قلبه في جهة، ولسانه في جهة مضادة..
أو إنسان داخل الكنيسة بصورة، وخارجها بصورة عكسية.
سواء في عبادته أو في خدمته.. في محيط الخدمة: بمنتهى الرقة واللطف والأدب. وفي البيت أو العمل بمنتهي الشدة والعنف والقسوة.. أو يكون داخل الكنيسة في أسبوع البصخة كما يليق بأسبوع الآلام، وخارج الكنيسة ضحك وهزل.. إنه إنسانان مختلفان...
وفي معاملات لا يجوز أن يكون اثنين، أو بوجهين، أو يلعب علي حبلين!
فهو يعامل شخصًا برقة أو بإخلاص أو باحترام! ومن خلفه يدبر له مكيدة، أو يتكلم عليه بالسوء.. أو يكون معه بكل القلب، أو يبدو كذلك، فإذا انقلب الجو انقلب معه وكما يقول المثل العامي (معاهم معاهم، عليهم عليهم)...!
وهذا الذي يعيش بالإثنينية، لا يكون له ثبات.
فهو كثير التغير، وقد يكون أيضًا كثر التردد. ويتحول من حال إلي حال بغير ثبات وقد يفكر فكرًا، ثم يجد فكرًا في داخله ضده. وتتصارع أفكاره أو قد تتصارع أذنه مع عقله. ولا يعرف هل يصدق أذنيه ويتبعهما، أو يصدق قلبه وإقناعه الداخلي.
الإثنينية قد تقود إلي انقسام الشخصية.
وربما تقود إذا استمرت إلي ازدواج الشخصية، أو تؤدي به إلي الشيزوفرينيا. وتري مثل هذا الشخص في أحد الأيام بصورة، وفي يوم آخر بصورة مُغايرة. وتقول في نفسك "ليس هذا هو الذي عرفته بالأمس. إنه شخص آخر تمامًا!!
الإثنينية قد تقود الإنسان إلي التحايل.
وقد يريد غرضًا سليمًا، ويلجأ في سبيل تحقيقه إلي وسيله خاطئة. وهكذا يجتمع فيه الخير والشر في عمل واحد. والوسيلة الخاطئة تشوه الخير الذي يريده. وتعجب كيف يجتمع الاثنان معًا. ولكنه التحايل علي الوصول!
وقد يتعامل مع الناس بأسلوبين، ويزن بميزانين.
صديق له يعمل عملًا، فيحكم عليه بميزان. ونفس العمل يعمله شخص آخر، فيحكم عليه بميزان آخر. وإذا بالإثنينية تخرجه عن نطاق الحق والعدل، وتخرجه عن مبدأ المساواة في التعامل. وتقف متعجبًا أمام مصداقيته...
وقد يغضب من كلمة تقال له، ويبرز غضبه بأنه إنسان حساس لكرامته. بينما يقول هو نفس الكلمة لغيره، ولا يضع في ذهنه حساسية هذا الغير وشعوره!
وتجد مثل هذا التناقض في تصرفات امرأة أب:
تعامل ابنها بمنتهي العطف والحنو. بينما بمنتهي القسوة والظلم تعامل أبناء زوجها من زوجته الأولي. ويقف الإنسان متعجبًا: كيف يجتمع الحنو والقسوة في قلب واحد؟! ولكنها الإثنينية، الحكم بأسلوبين، وبميزانين، وربما أيضًا بمنطلقين متناقضين.. في معاملة القريب والغريب!
في اليوم الأخير، حينما يكشف الخفيات، تري أين نخبئ وجوهنا.
حينما تفتح الأسفار، وتكشف الأفكار، وتعلن الخفيات، ويري الناس إنساننا الذي لم يكن ظاهرًا لهم.. تراهم ماذا يقولون؟!
أما أنت يا أخي، فدرب نفسك أن تكون واحدًا.
إن كنا نبحث عن الوحدة بين الكنائس، والوحدة بين الأمم والشعوب، ألا نبحث بالحري عن الوحدة داخل النفس الواحدة، فلا يكون داخلها صراع بين طرق متعددة.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:16 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
حياة الفضيلة بين الهدف والوسيلة

كلنا تقريبًا نتفق في الأهداف أو الأغراض، ما دام الهدف سليمًا وخيرًا. ولكننا نختلف في الوسائل المؤدية إلي الهدف..
فما هي أسباب اختلاف الوسائل إذن؟
سببها اختلاف الفكر والعقل. كل منا له فكره الخاص ونظرته الخاصة إلي الأمور. كذلك تختلف الأفكار في درجة الذكاء، وبالتالي في الاستنتاج وفي الحكم والتقدير. ويختلف الناس أيضًا في الطباع وفي نوع النفسية. كذاك يختلفون من جهة البيئة المحيطة بكل منهم ومدي تأثيرها عليه.
لذلك نجد أناسًا طيبين، ويريدون الخير. ومع ذلك فوسائلهم مختلفة.
كل واحد له طريقته وأسلوبه، وله منهجه الخاص في الوصول إلي الغرض. ولهذا كثيرًا ما يحدث خلاف في العمل الجماعي. سواء في كنيسة أو جمعية أو لجنة أو أية هيئة.
أحيانًا يوجد تنوع، وأحيانًا يوجد اختلاف وخلاف.
ونحن لا نعترض علي التنوع، فهو يؤدي إلي ثراء في الفكر وفي الخبرة. أما الاختلاف فكثيرًا ما يتسبب في انقسام وصراعات. وربما يتحول من الموضوعية إلي خلاف شخصي، وربما إلي خصام وإلي عداوة.
ففي موضوع الإصلاح مثلا:
كلنا نحب أن تنصلح الأمور. من منا لا يريد ذلك؟! ولكن يختلف الأسلوب.
* إنسان يقول نصلي ونصوم، والله يتدخل ويصلح كل شيء.. ويري أن هذا هو الأسلوب الروحي السليم.
* وآخر يقول تنصلح الأمور بالصبر، بطول الأناة. فالكتاب يقول "بصبركم تقتنون أنفسكم" (لو19:21)." انتظر الرب. تقو وليتشدد قلبك وانتظر الرب" (مز14:27).
وثالث يري أن الإصلاح يأتي عن طريق الحكمة والتفكير والتفاهم.
* ورابع أسلوبه في الإصلاح هو العنف، عن طريق النقد الشديد، والمنشورات والتجريح والتشهير. ويقول إن هؤلاء المخطئين لا يصلحهم إلا اتخاذ الشدة معهم..
* وخامس يجب أن تنصلح الأمور بالوداعة والهدوء، بأسلوب متضع لا تفقد فيه روحياتنا ولا نفقد فيه علاقتنا مع الآخرين، والكتاب يقول "لتصر كل أموركم في محبة" (1كو14:16).
لا شك أن أسلوب حبيب جرجس في الإصلاح، كان يختلف عن أسلوب غيره وكانت دعامته العمل البناء، والبعد عن السلبيات.
لذلك إن اشتركت مع أحد في عمل ما، أو من أجل خير ما، لا يكفي أن يكون مشتركا معك في الهدف والغرض، وإنما ينبغي أن يكون أيضا مشتركا معك في الوسيلة وأسلوب العمل. لئلا تكون طريقته في تنفيذ المشترك غير طريقتك، فتختلفان معًا، أو يسبب لك مشاكل باعتباركما شريكان في عمل واحد.
لذلك أن اشتركت مع أحد في عمل ما أو من أجل خير ما، لا يكفي أن يكون مشتركا معك في الهدف والغرض، وغنما ينبغي أن يكون أيضا مشتركا معك في الوسيلة وأسلوب العمل. لئلا تكون طريقته في تنفيذ الغرض المشترك غير طريقتك، فتختلفان معا، أو يسبب لك مشاكل باعتباركما شريكان في عمل واحد.
العجيب في مسألة الوسيلة هو المبدأ المكيافيللي:
فيظن البعض أن الهدف الطيب يبرر الوسيلة الخاطئة!
وهذا ما كان يقوله مكيافيللي إن "الغاية تبرر الوسيلة".
فإنسان باسم الغيرة المقدسة مثلا، يستخدم العنف في الكنيسة، ويصيح وينتهر ويوبخ ويشتم، وربما يفع قضايا. وإن عاتبته أو ناقشته في كل ذلك، يحتج بقول المزمور (غيرة بيتك أكلتني) (مز9:69). ولكننا نقول لمثل هذا:
إن الغيرة المقدسة تناسبها وسيلة مقدسة.
وبالمثل أب يقسو جدا علي ابنه يعقده نفسيا، ويحتج بغرض مقدس هو تربية ابنه! إن الغرض سليم، ولكن الوسيلة خاطئة. أو زوج يحبس زوجته في البيت، ويقيد كل تحركاتها وكلامها، بحجة الحفاظ عليها!! الوسيلة أيضا خاطئة..
أو أم تتدخل في صميم الحياة الزوجية لابنتها، وعلاقة هذه الابنة بزوجها. وقد تتسبب في فصلها عن زوجها. وتتخفي وراء هدف مقدس هو الحرص علي ابنتها، وضمان راحتها وكرامتها.
وكثيرا ما ضيع الناس أنفسهم وعلاقاتهم، بالوسيلة الخاطئة.
شخص يسعى إلي مصالحة غيره. هدف سليم بلا شك. ويري أن الوسيلة هي العتاب لا مانع. ولكنه في طرية العتاب، يعيد الأوجاع والجروح القديمة، ويضغط عليها بأسلوب يتعب الطرف الآخر. ويخرج من العتاب وقد ساءت العلاقة عن ذي قبل، لأن طريقة العتاب كانت خاطئة. وبعكس ذلك إنسان آخر يستطيع بالعتاب أن يكسب الموقف بل يجعل الطرف الآخر يتفهم الموقف، ويعتذر له، ويخرجان صديق كأن شيئًا لم يكن..
العتاب هو العتاب. ولكن طريقته عند واحد مقبولة ومُجْدِية. وعند آخر متعبة ومؤذية، وتأتي بعكس المطلوب..
إنسان يعاتب بطرية، والآخر يعاتب بطريقة ساخطة.
الأول يعاتب بحب وعشم. والثاني يعاتب بحقد وانتقام.
هذا يريد أن يصالح. والآخر يريد أن يثبت للطرف الآخر أنه مخطئ، ويستحق ما ناله منه!!
ثلاثة أشخاص مثلًا يصيرون أعضاء في مجلس الكنيسة.

كل واحد منهم غرضه طيب، يريد الخير للكنيسة بلا شك. ولكنهم لاختلافهم في الأسلوب والطريقة لا يستطيعون أن يعلوا معا!! فأحدهم يحب أن يعمل متعاونا مع الأب الكاهن،والآخر يقول: كل إدارة الكنيسة لنا، والكاهن له العمل الروحي فقط، ولا شأن له بالمشروعات والأمور المالية والإدارية والمعمارية. وهكذا يصطدم بالأب الكاهن وبزميله في عضوية الكنيسة. لأن أحدهما كان أسلوبه التعاون. والآخر كان أسلوبه السيطرة..
المجالس الملية كمثال آخر.
هي نفس المجالس منذ أكثر من مائة عام، وبنفس الاختصاصات ونفس طريقة الانتخابات. ولكنها الآن في تعاون مع الإكليروس. وقديما كانت في صراعات وانقسامات وقضايا. والسبب هو أن الأسلوب تغير عن ذي قبل، سواء من
جهة الإكليروس أم من جهة المجالس الملية..
لنأخذ غرضا هو الوصول إلي الله..
إنه هدف واحد يتفق فيه الكل. ولكن تتعدد الوسائل. البعض يريد أن يصل إلي الله عن طريق الرهبنة. والبعض عن طريق الكهنوت. والبعض عن طريق التكريس. والبعض عن طريق الخدمة، مع حياة الزواج المستقر، وبناء المجتمع وتنشئة جيل جديد تنشئة روحية.
نقول: هنا تنوع، ليس هو اختلافًا. ولكن يحدث الاختلاف حينما يري البعض أن طريقه هو الطريق الوحيد السليم، وينتقد غيره من الطرق!! أو يحاول تحطيمها!!
يمكن أن يوجد تنسيق وتكامل وتعاون بين الطرق المتنوعة المتعددة الواصلة إلي غير واحد. ولكن يحدث التصارع بين الطرق المتناقضة.
نتطرق إلي موضوع آخر هو تربية الأولاد..
كل الناس يريدون تربية أولادهم تربية سليمة. إنه هدف يتفق فيه الجميع. ولكنهم يختلفون في أسلوب التربية..
فالبعض يمنحون أولادهم الحرية الكاملة، كما حدث في كثير من بلاد الغرب وحينما يكبر الأولاد لا يصبح لآبائهم وأمهاتهم أية سلطة عليهم. ويبررون أسلوبهم في التربية بأنهم يريدون للابن أن يكون له شخصيته المستقلة التي لا تقع تحت ضغط.
هناك أسلوب آخر يلجأ إليه إلا بإذن، ولا ينضم إلي ناد أو إلي أية أنشطة، وهذا التضييق يوجد عنده كبتا تكون له ردود فعل سيئة في المستقبل.
وهناك طريق وسط في التربية بين هذين الأسلوبين. لا هو بالحرية التي فيها تسبب ولا بالتشديد الذي فيه تقييد..
أسلوب أب يصادق ابنه. ويشرح ويعلم ويقنع ويحاور.
ولاشك أن الإقناع -ولو قد يأخذ وقتًا وجهدًا- إلا أنه يوجد حافزًا في الداخل، أفضل بكثير من الأوامر والنواهي التي هى مجرد ضغوط من الخارج تربية الأولاد إذن هى هدف مشترك. ولكن البعض يستخدم فيه السلطة والهيبة، والبعض يستخدم الصداقة والحب. والبعض يستخدم الحرية والسلبية إنها وسائل مختلفة لهدف واحد.
نفس الوضع نقوله في معاملة المخطئين.
كلنا نكره الخطأ ونأخذ من أصحابه موقفًا معارضًا. هنا غرض واحد، ولكن الوسائل تختلف فالبعض يبعد عن المخطئين، ينعزل عنهم ولا يختلط بهم. والبعض يأخذ منهم موقف المقاومة، ويرد لهم بالمثل، ويحاسبهم على كل خطأ. ولا يترك الأخطاء تمر بسهولة، أو بدون مؤاخذة.
والبعض يحاول أن يصلح هؤلاء ويكسبهم، ربما بالحب والصبر، وربما بالمواجهة والإقناع.. المهم أنه يوصلهم إلى الله وإلى الطريق السليم، ويربح نفوسهم..
هناك نقطة أخرى أقولها في موضوع الهدف والوسيلة وهى أنه:
كثيرا ما تتحول الوسيلة إلى هدف!!!
الهدف الروحي الوحيد هو الله. وما الصلاة والصوم والقراءة والتأمل والوحدة سوى وسائل توصل إلى هذا الهدف. كذلك الفضائل هي مجرد وسائط توصل إلى الهدف الذي هو الله.. ولكن للأسف، قد تتحول هذه الوسائط كلها إلى أهداف..!!
* فإنسان يقرأ الكتب المقدسة والكتب الروحية. والمفروض أن هذه القراءة توصله إلى محبة الله والثبات فيه. ولكن قد تتحول القراءة نفسها إلى هدف. فالمهم عنده أن يقرأ، ولو من غير فهم، ولا تأمل ولا تداريب روحية0
*أو قد يتغير الهدف الروحي في الطريق.
‍‍‍ويقرأ الإنسان لكي يكون عالما، أو لكي يكون معلما. ولكي يبدو كثير المعرفة واسع الإطلاع، يجيد الكلام في أي موضوع يتحدث فيه أو يسألونه عنه.. وأين الله هنا؟ لقد اختفى، لكي تظهر الذات، ولكي تظهر المعرفة والعلم..
* وكما تتحول القراءة إلي هدف، هكذا تتحول الوحدة..
المفروض أن الإنسان يسعى إلي الوحدة لكي يجد وقتا هادئًا صافيًا يجلس فيه الله. فإن لم يجلس في وحدته مع الله، يكون الهدف الروحي الحقيقي قد أختفي. وتصبح الوحدة هدفا في ذاتها، حتى لو كان فيها الشخص نائما أو في ملل أو ضجر، أو في حروب الأفكار..
* أو قد يتغير هدف الوحدة، ويتحول إلي الذات.
فيجلس إنسان في الوحدة، لمجرد أن يقال عنه أمه أنه متوحد.. سعيا وراء الشهرة أو ألقاب. وليس من أجل الله.
أو قد تعطيه الوحدة فرصة لسعي الناس إليه، وتحوله إلي مرشد أو مانح للبركات التي يلتمسونها منه..
لهذا ينبغي أن يراجع الإنسان هدفه.
ويتحقق أن الوسيلة توصله إليه.
ويتأكد أن الهدف سليم وروحي، وأنه لم ينحرف عنه إلي هدف آخر، وأنه يستخدم الوسائل العليمة التي تحقق هدفه الروحي، بحيث تبقي هذه الوسائل مجرد وسائط ولا تتحول إلي أهداف.
*نقول نفس الكلام عن الصمت.
إنه مجرد وسيلة توصل إلى أمرين: أحدهما هو البعد عن أخطاء اللسان. والثاني أن تكون لنا عن طريق الصمت فرصة للصلاة والتأمل.. فإذا كان الإنسان مجرد صامت، دون أن يكون له عمل روحي داخلي، لا يكون الصمت قد حقق هدفه.
وإن كان صامتا، واستبدل الكلام بإشارة أو إيماءة تعبر عما يريد أن يقول، فهو أيضا في مستوى المتكلم.
وإن كانت الأخطاء التي أراد أن يتفاداها بصمته، لا تزال باقية معه، ولكنها تحولت فقط من أخطاء لسان إلى أخطاء لسان إلى أخطاء فكر، فما المنفعة أيضا من صمته؟
إنه قد صمت ليبتعد عن إدانة الآخرين، وهاهو لا يزال يدينهم بفكره وقد صمت ليبعد عن كلام الغضب، ولكنه مازال غاضبًا في قلبه.
الأخطاء موجودة لم يمنعها الصمت، وإنما حولها إلى القلب والفكر. وفى كل ذلك الهدف الروحي لم يتحقق.
* نقول نفس الكلام أو ما يشبهه عن الصوم.
لماذا نحن نصوم؟ هل لمجرد الصوم، كما لو كان الصوم هدفا في ذاته؟ أم نصوم لكي نوجد في فترة روحية تساعدنا على الوصول إلى الله؟؟ نمنع أنفسنا عن أكل ما، فهل نحن نحرص في صومنا أن يوصلنا إلى هذا الهدف الروحي.
أم نصوم لمجرد الصوم، بلا هدف؟ وبلا غاية، وبلا نتيجة
* وكذلك الصلاة: ما هدفها في حياتنا؟ أو ماذا تحققه من هدف؟ هل نصلى بهدف التمتع بعشرة الله والحديث معه؟ أم لمجرد أداء واجب؟ حتى لو كانت صلواتنا بغير روح، ولا عاطفة، ولا حرارة، ولا عمق، ولا حب، ولا أي شعور بالوجود في الحضرة الإلهية
ليت صلواتنا تحقق هدفها الروحي، ونشعر فيها أننا نتحدث مع الله ونتمتع بعشرته.
ونضع الصلاة في موضعها السليم، أنها مجرد وسيلة توصل إلى هدف، ويجب أن نجاهد روحيا للوصول إلى هذا الهدف.
نفس الكلام نقوله عن المزامير والتسبحة والألحان..
نلاحظ أنه كلما ازداد حفظ الإنسان للمزامير والتسبحة، كلما ازدادت سرعته في التلاوة، وعلى هذا القدر ما أسهل أن يقل فهمه لما يقول.. وما أسهل أن ينشد لحنا، أو قطعة من الابصلمودية، أو يتلو مزمورا، دون أن يصل إلي عمق ما يقوله.. وكأن اللحن قد صار هو الهدف. أو قد صارت التلاوة هدفًا..
وهنا نسأل: متى يمكننا أن نحقق في أعماق قلوبنا وفهمنا الهدف الروحي الذي من أجله وضعت المزامير والألحان والتسبحة؟
متى تدخل فيها العاطفة والحرارة والتأمل والفهم وروح الصلاة؟ متى لا نهتم بالكثرة وإنما بالعمق. لا بعدد المزامير، إنما بعمقها وروحانيتها..

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:18 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
مقاييس الفضيلة: التعرف، الهدف، والوسيلة

ما هو العمل الفاضل؟ هل هو مجرد مسميات أو عناوين؟ كأن نقول: الصلاة، الصوم، الخدمة، العطاء.. أم أن هناك مقاييس، نستطيع بها أن نصف العمل بأنه فاضل.
هناك ثلاثة مقاييس لكل فضيلة، وهي: التعرف، الهدف، والوسيلة.
وسنحاول أن نطبق هذه المقاييس الثلاثة لكي نختبر الفضائل هل هي حقيقة أم زائفة.
الصلاة

ندخل أولا في التعريف، ونقول: ما هي الصلاة؟
هل هي حديث مع الله، أم هي مجرد تلاوات؟
والتلاوات كيف تؤدي؟ ما مقاييس الشعور فيها؟ وما مقياس الفهم، وما مدي الصلة بالله؟
وإن كانت حديثا مع الله،، فمن هو الله الذي نحدثه؟ الله الذي تقف أمامه الملائكة ورؤساء الملائكة، الله الخالق، غير المحدود ملك الملوك ورب الأرباب.. بأي خشوع نحدثه، وبأية هيبة وإجلال.. هذا الذي قال له إبراهيم أبو الآباء "عزمت أن أكلم المولي، وأنا تراب ورماد" (تك18).
وإن كان الله هو الأب الحنون الذي يقول له داود النبي "اشتاقت نفسي إليك يا الله، كما تشتاق الأرض العطشانة إلي الماء (مز1:63). فبأي حب نتحدث معه؟
أم الصلاة هي شعور بمتعة روحية للوجود في حضرة الله؟
إذن هي ليست مجرد كلام، بل هي متعة روحية. وهنا يكون الهدف من الصلاة هو التمتع بالله، وليس مجرد أي طلب خاص. بل الطلب هو الله نفسه. كما قال داود النبي في مزاميره "طلبت وجهك ولوجهك يا رب التمس. لا تحجب وجهك عني" (مز8:26)..
إن الصلاة ليست مجرد واجب تؤديه.
بحيث تعتذر لله أحيانا وأنت تقول آسف "لست أجد وقتًا للصلاة"، ولكنك تقول عمليًا "لست أجد متعة في الصلاة".
إن الصلاة ليست فرضًا عليك، وليست مجرد الاستجابة لجدول روحي تملأه، حتى لا يتعبك ضميرك.. واعلم تمامًا أنك المحتاج إلي الصلاة، علي الأقل لتشعر بوجود قوة علي جوارك تسندك وعينك.. وإنك محتاج إلي الله..
الصلاة هي شركة مع الملائكة الذين يسبحون الله.
وهي جسر يربط الأرض بالسماء، ويربطك أنت بالسمائيين.
والصلاة هي مصدر للشبع الروحي.
كما يقول المرتل في المزمور "باسمك ارفع يدي، فتشبع نفسي كما من شحن ودسم" (مز5:62). هي غذاء للروح، وكما أن الجسد يتغذى بأنواع كثيرة من الأطعمة، كذلك الصلاة هي من الأغذية الأساسية للروح.
إذن لابد أن نعرف ما هي الصلاة، حتى تعرف كيف نصلي.
تعرف أن تصلي بحب، وتصلي بفهم، وبإيمان: بشعور بالوجود في حضرة الله وتكون صلاتك أيضا بفرح، فرح التمتع بالله في الصلاة..
وإن صليت بعاطفة، وانسكبت دموعك في الصلاة، فلا تنشغل بالدموع وتفرح بها أكثر من الله الذي تحدثه، لأن الدموع ليست هي الهدف من الصلاة..
وإن كانت الصلاة ناتجة عن محبتك لله الذي تتحدث إليه،إذن أحرص علي هذه المحبة. ولا ترتكب خطايا تبعدك عن الله، وتفقدك الدالة في صلاتك. ولا تجعل صلاتك مثل التي لا تصل إلي الله الذي قال للشعب الخاطئ "حين تبسطون أيديكم، استر وجهي عنكم. وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دما" (أش15:1). إذن نقاوة القلب هي أحدي وسائل الصلاة، التي نقترب بها إلي الله.
الصوم

ننتقل إلي نقطة أخري، وهي الصوم.
هل هو مجرد قهر الجسد، وعدم إعطائه ما يشتهيه من طعام، أم أن ضبط الجسد، هو مجرد وسيلة لضبط النفس، وضبط الفكر، وضبط الحواس؟ وضبط الإرادة عن كل خطأ. وهنا تسأل نفسك عن تعريف الصوم.
هل الصوم هو مجرد صوم الجسد، أم أيضا صوم الفكر واللسان وصوم النفس؟.
هل الصوم هو حالة جسد ممتنع عن الطعام، أم حالة نفس زاهدة في الطعام، كجزء من زهدها في المادة عمومًا؟ هل أنت في الصوم تمتنع عن طعام تشتهيه، أم وصلت إلي المستوي الذي لا تشتهي فيه طعامًا؟ أهو تدريب للارتفاع عن الشهوة المادية بصفة عامة؟ هنا نبتدئ أن نفهم ما هو الصوم.
هل الصوم إذن إسكات للجسد، لكي تتلكم الروح؟
أهو إخضاع للجسد، لتأخذ الروح حريتها وفرضتها؟
هل هو عدم إعطاء الجسد ما يشتهي، لكي يرتقي بأن يشتهي ما تشتهيه الروح ويسير في طريقها؟ افهم ما هو الصوم.
كثير من الناس يصومون ولا يستفيدون روحيًا، لأنهم لم يفهموا ما هو الصوم ولم يصوموه بطريقة روحية.
أنت في الصوم تقول: أنا يا رب لا أريد أن أشتهي شيئًا ماديًا ولكن لأن جسدي يحتاج بين الحين والحين أن يأكل، لكي يظل حيًا، ويشترك مع الروح في عملها الإلهي.. لذلك أنا بين الحين والحين أعطيه ما يأكل، ولكن لا يكون الأكل بالنسبة إليه هدفًا.. وإنما الهدف هو شركته مع الروح في الإتحاد بك. لذلك أنا أعطي الجسد ما يحتاجه لا ما يشتهيه..
فهل نحن نصوم بهذا الهدف وبهذا الأسلوب؟
العطاء

ما هو العطاء؟ هل هو صدقة من غني لفقير.
هل تشعر أنك أنت تعطي؟ وأنك تعطي المحتاج من مالك؟ كلا يا أخي، ليس الأمر هكذا ولن تستفيد من عطاء بهذا الشعور..

فالمعطي هو الله، وأنت مجرد وكيل علي ماله.
فالمال هو مال الله. هو الذي أعطاك إياه، لكي تعطي منه لهؤلاء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.وأنت إن لم تعط لهؤلاء حقهم، يكون المال الذي احتجزته هو مال ظلم، لأنك ظلمت مستحقيه..
بهذا المعني، إذا أعطيت لا تفتخر.
لأنك لم تعط من مالك شيئا، وإنما من حقوق الله عليك..
ولكنك ربما تقول "مجرد الرغبة في إعطاء الفقير هي فضيلة "هذا حق، ولكن تذكر أن الله هو الذي وهبك هذه الرغبة في أن تعطي وفي أن تطيع، لأن الله -كما قال الرسول- "هو العالم فيكم أن تريدوا وأن تعلموا لأجل المسرة" (في13:2).
الله هو الذي أعطاك المال وهو الذي أعطاك الرغبة في العطاء. ففيم الفخر إذن؟!
النقطة التالية في فهم العطاء هي:
من هم أولئك الذين تعطيهم؟
أنت تعطي أولئك الذين سماهم السيد الرب أخوته فقال: "مهما فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي قد فعلتم" (مت40:25). لذلك يسميهم الكثيرون "أخوة الرب"..
أعرف إذن جيدا أن هؤلاء ليسوا هو الشحاذون أو المتسولون أو الفقراء المعوزين، وإنما هم أخوة الرب.
إذن عاملهم علي اعتبار أنهم أخوة الرب، بمحبة واحترام.
عاملهم بلطف، بغير إذلال. ولا تتكلم معهم بانتهار، أو من فوق. لا تتعال عليهم. ولا تشعرهم بأنك تعطيهم، وإنما أنت مجرد موصل لعطاء الله لهم. وكن في عطائك كمن يعطي المسيح نفسه. لأنه قال عن الفقراء "كنت جوعانا فأطعمتموني.
كنت عطشانا فسقيتموني. كنت عريانا فكسوتموني" (مت25: 35، 36).
أعرف أيضا أن العطاء هو شركة حب مع المحتاجين.
إذن ليكن عطاؤك بحب. حاول أن تعرف مقدار احتياج الفقير، لكي تسد حاجته، ليس بطريقه جزئيه، بل بطريقه كاملة تحل أشكاله. وتجعله يخرج من عندك مستريحا. فالعطاء ليس مجرد دفع صدقة مع ترك الفقير محتاجا. وان لم تستطع. فحاول أن تشرك معك الآخرين لسداد حاجه المحتاج.
وفى نطاق محبتك للمحتاجين: تذكر قول الكتاب "لا تمنع الخير عن أهله، حين يكون في طاقه يدك أن تفعله. لا تقل لصاحبك اذهب وعد فأعطيك غدًا، وموجود عندك" (أم 3: 27،28).
وأنصت أيضا إلى قول الكتاب "من يسد آذنيه عن صراخ المسكين،يصرخ هو أيضا ولا يستجاب" (ام13:21).
نبدأ أولا بتعريف الخدمة: ما هي؟
الخدمة

الخدمة ليست مجرد نشاط في الكنيسة.
سواء كان هذا في مدارس الأحد، أو في الخدمة الاجتماعية، أو العمل الإداري أو المالي في الكنيسة. وليست هي مجرد تدريس أو وعظ أ وتقديم معلومات.
الخدمة هي روح تفيض من إنسان إلى أخر.
سواء كان هذا في مدارس الأحد، أو في الخدمة الاجتماعية، أو العمل الإداري أو المالي في الكنيسة. وليست هي مجرد تدريس أو وعظ أو تقديم معلومات.
الخدمة هي روح تفيض من إنسان إلى آخر.
أو هي قدوة تقدم من شخص لآخر، أو هي عبارة روحية تنتقل من خلال العمل الكنسي.
المعلومات هي مجرد وسيلة، ولكن الهدف الحقيقي هو خلاص النفس. كما قال القديس يعقوب الرسول "من رد خاطئًا عن ضلال طريقه، يخلص نفسًا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا (يعقوب 20:5). أو كما يقول القديس بطرس الرسول "نائلين غاية إيمانكم: خلاص النفوس" (1بط 9:1).
إذن هدف الخدمة هو خلاص النفس، وهو بناء الملكوت.
وكل وسائط الخدمة، ينبغي أن تتجه نحو هذا الهدف.
وطبيعي أنك لا تستطيع أن تعمل في بناء الملكوت وحدك، بل بشركة مع الله. لأنه "إن لم يبن الرب البيت، فباطلا تعب البناءون" (مز 1:126). وقد قال السيد الرب "بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئا" (يو5:15).
أذن الخدمة هي شركة مع الله في العمل.
كما قال القديس بولس الرسول عن نفسه وزميله أبلوس "نحن عاملان مع الله" (1كو9:3). فكر إذن:هل أنت تعمل مع الله، أم تعمل وحدك؟ وعليك أن تبدأ بأن تعمل مع الله، تشرك الله معك، كما نقول للرب في الاوشية "اشترك في العمل مع عبيدك في كل عمل صالح".
وان كانت الخدمة هي عمل الله فيك وبك ومعك، إذن لابد أن تبدأ بالامتلاء من الله.
لأن هذه هي الوسيلة التي توصلك ألي هدفك من الخدمة. وهكذا قال الرسول "امتلئوا بالروح" (أف18:5). امتلئوا، لكي تفيضوا علي غيركم..
هذه وسيلة أساسية، ومنها تنبع وسيلة اخري وهي:
لكي تسعي لخلاص الناس، ينبغي أن تحبهم.
تحب الناس فتريد لهم أن يحبوا الله، كما أحببته أنت، وأن يذوقوا ما أطيب الرب كما ذقته أنت. وبهذا الحب تعرفهم طريق الرب وتعرفهم إسمه. وليتك في ذلك تذكر قول السيد المسيح في حديثه مع الآب عن تلاميذه، إذ قال "عرفتهم إسمك، وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم" (يو 26:17) الخدمة أذن هي رسالة حب. هذا هو تعريفها.
وما دام الله هو العامل في الخدمة، أذن فالصلاة هي من أهم وسائل الخدمة.
ليست الخدمة هي مجرد تعبك وسعيك ووعظك وتعليمك، أنما لكي يأتي كل هذا بثمر، ينبغي أن تسكب نفسك أمام الله في الصلاة، لكي تعطي الكلمة النافعة كما قال بولس الرسول "صلوا لأجلي لكي أعطي كلاما عند افتتاح فمي، لأبشر جهارا بسر الإنجيل" (أف 19:6). إن كان القديس بولس يطلب هذا، فكم بالأولي نحن عليك أيضا أن تصلي، لكي يعطي الله قوة للكلمة، فتدخل إلي قلوب الناس، وتحدث تأثيرها، وتأتي بثمر. لا تسقط علي أرض محجرة، ولا علي شوك، ولا تخطفها الطيور (مت13).
وإن كانت الخدمة لبناء الملكوت، فلا تكن إذن لبناء الخادم.
فكثير من الخدام يهدفون إلي بناء أنفسهم، وتدخل الذات في خدمتهم، مثلما وبخ الرب الرعاة الذين يرعون أنفسهم (خر34: 8،9). ولذلك في خدمتك، رتل أيضا المزمور "ليس لنا يا رب لنا، لكن لاسمك القدوس أعط مجدًا" (مز1:115).
وأسلك في خدمتك باتضاع، كخادم.
لأن كثيرون يخدمون، وينسون أنهم خدام، وفي ذلك ما أجمل صلاة القديس أوغسطينوس من أجل رعيته، إذ يقول: "أذكر يا رب سادتي عبيدك.."
الكلام

ما أكثر الذين يحبون الصمت، ويرون أنه فضيلة، ويحترسون من الكلام. فهل كل كلام خطية، وهل كل صمت فضيلة. هنا لابد أن ندرك تعريف الصمت وتعرف الكلام، وعلاقتهما بالفضيلة.. قال القديس برصنوفيوس لما سئل عن هذا الأمر:
الصمت من أجل الله جيد، والكلام من أجل الله جيد.
من أجلك يا رب نصمت، ومن أجلك نتكلم. نصمت لكي نعطي أنفسنا فرصة للصلاة وللتأمل، والبعد عن أخطاء الكلام. ولكننا نتكلم حينما تكون كلمتنا: كلمة منفعة، أو كلمة تعزية، أو كلمة نصح أو تحذير، أو شهادة لك ولملكوتك. كما قال الحكيم "فم الصديق ينبوع حياة" (أم11:10).
وحينما يكون الكلام فضيلة لأزمة، حينئذ ندان علي صمتنا.
المهم أن تمجيد الله بكلامنا، ويتمجد بصمتنا. ولنعرف ان الكلام ليس هو طاقة مختزنة فينا من الألفاظ، تريد أن تخرج منا إلي آذان الناس، ولا بغير هدف، ول كانت طاقة مدمرة لسلام الآخرين وروحياتهم!!
في هذه الحالة يكون صمتك أفضل، إلي أن يعطيك الرب كلمة تقولها، كما قال المرتل في المزمور الخمسين "افتح يا رب شفتي، فيخبر فمي بتسبيحك: والذين يتكلمون بهذا الأسلوب، ينطبق عليهم قول الرب "لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم هو المتكلم فيكم" (مت20:10).
فهل الكلام عندك من هذا النوع؟! وهل الصمت عندك للصلاة والتأمل؟ أم أنت تصمت، وفي نفس الوقت أفكارًا خاطئة!!
كذلك إن تكلمت عن الحق، تكلم بأسلوب حقاني..
المعرفة

ما هي المعرفة الصحيح؟ أليست هي مجرد معلومات.
إنما المعرفة الحقة، هي المعرفة التي تبنيك، وتبني غيرك عن طريقك.
إن كان الأمر هكذا فتكون الوسيلة هي أن تدقق فيها ينبغي لك أن تعرفه. ولا تفعل مثل الإنسان الأول الذي أكل من شجرة المعرفة، فصار جاهلًا، إذ بدأ يعرف الشر أيضًا، هذا الذي قال عنه الحكيم:
"الذي يزيد علمًا يزيد حزنًا" (جا18:1). يقصد معرفة قد تعقد العقل، أو تجلب الشك، أو تكشف طريق الخطية، أو تسبب لونًا من الكبرياء، كما قال الرسول "العلم ينفخ" (1كو1:8).
المعرفة الروحية، هي معرفة الله، وعرفة طرقه.
كما قال السيد المسيح فت تأملاته مع الله الآب "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو13:17). كذلك يقول المرتل في المزمور "عرفني يا رب طرقك، فهمني سبلك".
هناك معرف أخري مفيدة جدًا.
وهي أن تعرف نفسك، وتعرف ضعفك، فتتضع، وتعرف حروبك فتجاهد لتنتصر. وتعرف حيل الشياطين فتبعد عنها. وتعرف الحق، والحق يحررك..

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:19 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
حياتك في الفضيلة تُقاس بنوع اهتمامك

"قال السيد المسيح لمرثا: أنت تهتمين وتضطربين لأمور كثيرة، ولكن الحاجة إلي واحد" (لو41:10).
أما مريم فقد اختارت النصيب الصالح، واهتمت به..
وأنت يا أخي بماذا تهتم؟ ما هي الأولويات في حياتك؟ حسب أولوياتك، يكون حماسك، ويكون عملك وتكون إرادتك..
إن الناس يختفون في اهتمامهم، كما اختلفت مريم ومرثا. كان اهتمام مرثا أن تهتم بالمسيح في ضيافته: بينما مريم بمحبته، والجلوس عند قدميه والاستماع إليه:
وصارت أحدهما مثالًا للخدمة، والأخرى مثالًا للتأمل.
وقليلون -مثل القديس بولس- من جمعوا بين الأمرين الرعاة اهتموا بالخدمة، والرهبان بحياة التأمل.
وحسب اهتمام كل واحد، هكذا كانت حياته..
وأنت مثلًا حينما تستيقظ كل يوم، بماذا يكون اهتمامك؟
هل تهتم بحياتك اليومية، تغسل وجهك، تقطر، تعد ملابسك، تستعد للذهاب إلي عملك؟ أم اهتمامك الأول كيف تبدأ اليوم مع الرب، بالصلاة والقراءة والتأمل..؟ حسب إهتمامك سيكون تصرفك..
البعض يعتذر أحيانا ويقول: لك يكن وقت الصلاة..! وأنا دائمًا ارفض هذا العذر، ولا اعتبره اسبب الحقيقي، وأقول:
لو وضعت الصلاة والتأمل في قمة اهتمامك، لأمكنك أن تجد لهما وقتًا..
نفس الوضع نقوله بالنسبة إلى الصلاة في مجال الخدمة، وفي حياة كثير من الخدام.. إنهم يهتمون بتحضير الدس، أكثر من اهتمامهم بتحضير أنفسهم روحيًا.. يهتمون بمواعيد الخدمة، واجتماعاتها، بالصور والهدايا، والمكتبة والنادي، وبالافتقاد وبالأنشطة.. ونادرًا ما يهتمون علي نفس القياس بصلواتهم!! فلا نجد اجتماعات الصلاة مثل اجتماعات الشبان أو الشابات.
النشاط يأخذ الاهتمام الأول، وليس الصلاة.
ولو دخلنا في التفاصيل، ولوجدنا أيضا أن العمل الروحي لا يأخذ الاهتمام الأول.. فالنادي مثلًا: مثلًا: قد نهتم بمكانه، وترتيبه، وما توجد فيه من ألعاب ومن أنشطة رياضية وتسليات. وقد نهتم بتنظيم الكارنيهات والمواعيد، والمسابقات، وفرق التمثيل والكورال.. وفي كل ذلك قد لا يوجد الإشراف الروحي الكامل. ونجد النوادي في ضوضائها وفي أخطائها، لا تعطي الصورة الروحية المرجوة، وربما لا تختلف عن النوادي العادية، لعدم وجود المشرف الروحي..
لماذا؟ الجواب صريح.. لأننا لم نضع ذلك في قمة اهتمامنا.
وفي الخدمة الاجتماعية، قد نجد نفس الظاهرة.
اهتمامنا الأول أو الوحيد هو العناية بالفقراء ماديًا، سواء في المساعدات المالية، أو مشاكل التعطيل أو المرض أو الإسكان.. وما إلي ذلك. وينذر أن يعطي اهتمام حقيقي بروحيات هؤلاء المحتاجين.. وإن عقد اجتماع روحي، قد يكون شكليًا.. لا اهتمام فيه بربط هؤلاء الناس بالله، وبالاطمئنان علي حياتهم الروحية، وعلي تناولهم واعترافاتهم وتوبتهم..
نفس الوضع ربما نجده أيضًا في إنفاقات ومشروعات بعض الكنائس.
غالبية المال قد تنفقه علي البناء والتعمير، أو علي تجميل الكنيسة وتزيينها بالديكور، وبالأيقونات وبالنجف الغالي.. ولا يعطي مجلس الكنيسة ولا كهنتها نفس الاهتمام لخدمة الفقراء والحالات المحتاجة من اجل الحياء المجاورة إلى رعاية روحية، ولا حتى الاهتمام بالخدمة الروحية في نفس الكنيسة.. للأسف كل الاهتمام مركز في البناء والديكور..
نفس الوضع في عناية الأسرة بالطفل
يقول الأب والأم إن اهتمامهما الأول هو تربية أطفالهما ورعاية مستقبلهم. وحسنًا يقولون. ولكن أي نوع من التربية يهتمون به؟ إنهم يهمتمون بصحة أولادهم، وأكلهم وشربهم ولبسهم، وأيضا بتعليمهم واعدادهم لوظيفة لائقة. ثم بعد ذلك بتزوجهم.. ويقول الأب بعد ذلك، ويقول الأم كذلك: "أشكرك يا رب، إنى أديت رسالتى نحو أبنائى. الآن ضميرى استراح من جهتهم.
ومع ذلك لا يضعون إهتمامهم الأول بتربيتهم الروحية وبمصيرهم الأبدى!!

لا يعطونهم الغذاء الروحي اليومى، مثلما يعطونهم غذاءهم الجسدى. وإن سألتهم عن واجبهم في ذلك، ربما يجيبون "إننا أرسلناهم إلى مدارس الحد"..! دون متابعة لما أخذ وه أوحفظوه من دروس، ودون إضافة شيء خلال الأسبوع. كان الأب غير مسئول عن معلومات أبنه الدينية، وعن تربيته روحيًا وكان الأم غير مسئولة، وهى التي استلمت أبنها من المعمودية كإشبينة له تتعهده بالعناية الروحية، وبالتعلم الديني وبالتدريب على الفضائل..
ويبقي السؤال قائمًا وهامًا في كل ما قلناه:
ما هو إهتمامنا الأول؟ إهتمامنا العميق الحقيقي؟
إنسان آخر في الخدمة، يهتم كيف تمتلئ الكنيسة بالناس هذا كل هدفه، ولا يهتم بأن يصل هؤلاء الناس إلي الله. وربما يلجأ إلي وسائل عالمية ‍‍!!
مثلما تلجأ الطوتئف إلي منح المعونات المالية والاجتماعية لجذب بعض المحتاجين إليهم، ويخرجهم بذلك من كنائسهم !! الاهتمام كله ليس في الملكوت، إنما في أن يزيد عددهم ولو علي حساب كنائس أخرى.
كثيرون يهتمون بأنفسهم إهتمامًا جسديًا.
إما من جهة الأكل والشرب والملبس، وإما من جهة شهوات الجسد.. بينما يقول الرب "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون.. فإن هذه كلها تطلبها الأمم.. (مت6: 25،32).
أما عن وضع الإنسان همه كله في شهوات جسده، فيقول الرسول "إهتمام الجسد هو موت، ولكن إهتمام الروح هو حياة وسلام. لأن إهتمام الجسد هو عداوة لله.. فالذين هم في الجسد، لا يستطيعون ان يرضوا الله" (رو8: 6-8).
ويستمر الرسول، إلي أن يقول:
"إن عشتم حسب الجسد، فستموتون".
"ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد، فستحيون" (رو13:8). ففي أي شيء نضع متعتنًا، وبالتالي إهتمامنا؟ كل شهوات الجسد الحسية تمتع بها سليمان، في مغالاة شديدة، إلي أن قال "ومهما أشتهته عيناي، لم أمنعه عنهما" (جا10:2)،وماذا كانت النتيجة؟ رأي ان الكل باطل وقبض الريح (جا11:2).
والبعض يهتم بالراحة النفسية، له ولغيره.
حتى لو لم تكن علي أساس روحي..
الأم مثلا قد تضع في اهتمامها الأول، أن تكسب محبة ابنها، وأن تريحه لكي يريحها، ولو علي حساب روحياته.. ! فتدلله، وتعطيه كل ما يطلب، وتغطي علي أخطائه، ولا توبخه علي خطأ خشية أن تفقد محبته !! وينشأ الولد مدللا ويفسد.. لأن
أمه لم تضع في اهتمامها أن تقوده في الطريق السليم، حتى لو غضب حينًا، حتى لو وقفت ضد إرادته الخاطئة، ثم تقنعه وتصلحه وتصالحه. إنها إن إهتمت براحة نفسيته، وليس بروحياته، ستفقده أبديته.. بل حتى حياته الاجتماعية. لأن سيخرج إلي المجتمع فلا يجد نفس التدليل الذي اعتاده في البيت، فيتعب من المجتمع، أو ينعزل عنه. وتكون التربية المنزلية قد أضرت به نفسيا أيضًا، ولو بعد حين.
كذلك قد نهتم بحالة المريض النفسية، وليس بمصيره الأبدي.
وبألوان كثيرة من الكذب والخداع، نخفي عنه حقيقة مضه، ولا نلمح بخطورة المرض ولو من بعيد، خوفًا علي نفسيته ومعنوياته التي نضعها في قمة اهتمامنا.. إلي أن يفاجئه الموت، ويموت بدون استعداد، ويهلك..
المفروض في الأمراض الميئوس منها، أن نعد المريض لأبديته، بحكمة.
لست أنصح أن نكشفه بحقيقة مرضه إن كان لا يحتمل.. وإنما نضع في عمق اهتمامنا أن نعده روحيًا، حتى إن حدثت معجزة وشفي.. بكل حكمة نقوده إلي الحياة مع الله، وليس بسبب الخوف من الموت.. إنما بأسلوب إيجابي مؤثر، بكل وسائط النعمة المتاحة.
كذلك هناك سؤال أساسي، نعرضه في موضوع الاهتمام:
هل أنت تركز كل اهتمامك بنفسك؟
أم تهتم بغيرك، ولو فضلته علي نفسك؟
ما هو اهتمامك الأول: أهو ذاتك؟ أم أنت تخرج من دائرة الذات، لتهتم بالآخرين.. اهتمامًا من عمق قلبك، تصل فيه إلي الخدمة والعطاء والبذل، إلي حد بذل النفس أيضًا..
هل تهتم براحتك ام براحة غيرك؟
وهل في إهتمامك براحتك، لا مانع لديك أحيانًا أن تبني راحتك علي تعب الآخرين.. كالأسرة التي تطلب من عائلها طلبات فوق احتماله، ترهقه وتحرجه وتربكه، ولا تبالي..!
إن الروحيين والمصالحين جعلوا إهتمامهم الأول يتركز في المجتمع الذي يعيشون فيه.
الإهتمام بالأسرة، بالمعارف والأصدقاء، بالمجتمع، بالكنيسة، بالوطن كله وبالعالم البشري كله والمساهمات في راحته وفي تخفيف أتعابه. وهكذا ظهرت هيئات وجمعيات هدفها إنقاذ الآخرين أو إعانتهم، منكل ناحية.. مثل الهيئات العالمية للصحة ولتربية الأطفال، ولإنقاذ العالم من الجوع والكوارث والمشكلات الاجتماعية.. كذلك الهيئات التي تعمل علي طبع الإنجيل ونشره، والتي تعمل علي نشر الكلمة والهيئات التي تجاهد للمحافظة علي (حقوق الإنسان).
السيد المسيح كان كل اهتمامه بالآخرين.
كان "يجول يصنع خيرًا (أع38:10). ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كل مرض وضعف في الشعب" (مت23:4). يتحنن علي الكل، ويشبع كل حي من رضاه.. ويبشر المساكين، يعصب منكسري القلوب، ينادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق" (أش1:61).
وفي نفس الوقت لم يهتم بذاته، ولم يكن له أين يسند رأسه (لو58:9).
لم يهتم المسيح بكرامته لما أغلقت إحدى قري السامرة أبوابها في وجهه، ووبخ تلميذيه اللذين طلبا ان تنزل نار من السماء لتهلكها. وقال لهما "لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن إبن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص" (لو9: 51: 56).
وعلي الصليب كان كل اهتمامه بخلاص البشر، وبالمغفرة حتى لصالبيه، وبالفردوس للص اليمين. كما اهتم بأمه القديسة العذراء، وبتلميذه القديس يوحنا.
أحيانًا يكون اهتمام الإنسان، وأن يصل إلى غرض ما:
وربما لا يكون غرضًا روحيًا، وإنما هو إثبات الذات ووجودها، أو (ارتفاعها) بطريقة ما. وفى سبيل هذا الوصول، لا يهتم بالوسيلة ماذا تكون: روحية أو غير روحية. لا يهمه أن تكون حيلًا بشرية أو عالمية، أو طرقا خاطئة. تركيز الاهتمام كله في الوصول إلى الغرض، حتى لو ضيع هذا الإنسان نفسه. مثلما فعل آخاب الملك في الحصول على حقل نابوت اليزر عيلى، وما فعلته الملكة إيزابل في سبيل إن يصل زوجها إلى غرضه، ولو بالجريمة، والإتمام الباطل لنابوت، وشهود الزور. حتى نال كلاهما عقوبة من الله تناسب ذنوبهما (مل 21).
وبالمثل ما فعلته رفقة لكي ينال غبنها بركة ابيه. ومع إن الغرض هنا كان روحيًا، إلا أن التركيز علية افقدها الوسيلة الصالحة. فاستخدما إسلوب الخداع (تك 27)
وبالمثل قد يهتم خادم آخر إن يملا عقول سامعيه بالمعلومات لا في الروحيات..! أو أب كل اهتمامه أن يلقن أولاده كلامًا من الكتاب يحفظونه. ولا يهتم بالتداريب الروحية التي تعمق صلتهم بالله. والكتاب يقول "افعلوا هذه، ولا تتركوا تلك" (مت 23: 23).
ولعلنا بعد كل هذا، نسال بأي شيء يجب أن نهتم؟ عن ربنا يسوع المسيح يقول في العظة على الجبل:
اطلبوا أولا ملكوت الله وبره (مت 6: 33).

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:21 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
ثلاثة مستويات للفضائل الطموحات

هناك ثلاثة مستويات يسلك فيها غالبية البشر من جهة الفضيلة أو الطموحات، وهي المستوي الفردي، والمستوي الاجتماعي، والمستوي الروحي.
قد يختار البعض مستوي واحدًا منها، وقد يجمع البعض بين مستويين. والقليل من يحسن السلوك في المستويات الثلاثة. والبعض قد يكون سلوكه في هذه المستويات أو بعضها بحكمة، والبعض قد ينحرف. وسنحاول أن تشرح هذه المستويات..
المستوي الفردي

فيه يحاول الإنسان أن يبني ذاته في فضائل معينة، أو في طموحات أو صفات فاضلة، ترفع مستواه من الناحية الفردية.
كأن يهتم بعقله وذكائه وفهمه.
وينمي مواهبه في ذلك، أو يعمل علي إكتساب مواهب أخري. وربما يدخل في تدريبات عقليه لتنمية الذاكرة، أو الفهم أو الاستنتاج، أو سرعة البديهة، أو حل مشكلان عقلية أو ألغاز لتنمية الذكاء، أو قوة الملاحظة. فيصير شخصًا لمحًا، يدرك بشرعة ما لا يدركه غيره، ويظهر إلي الأمر الواحد من عدة زوايا، ويعمل حسابات وتوقعات لكل ردود الفعل لي عمل يقوم به. وبهذا يكتسب فراسة في أمور متعددة..
وقد يهتم الإنسان بثقافته ومعرفته.
فيضيف إلي عقله وذكائه كثيرًا من المعلومات والمعارف. في كثير من العلوم والفنون. ويصبح واسع الإطلاع. له دراية بكثير من الأمور، سواء من الناحية النظرية، أو الناحية العلمية والخبرة.
وقد يهتم أيضا بأن تكون له نفسية سوية.
نفسية بعيدة عن الخوف والقلق والاضطراب والتردد والشك. وما إلي ذلك من الأمراض النفسية. وإن كان فيه شيء من هذا كله، يحاول أن يحلله ويعرف أسبابه، ويعالجه حتى لا يقع. بل يضل إلي الصفاء النفسي. وطبعًا في كل ذلك يمارس الحكمة التي تقول أعرف نفسك".
وقد يهتم البعض برفاهية هذه النفس ومتعتها.
ويحيط نفسه بكل ما يمكنه من اسباب التسلية والمتعة، ويحرص أن تكون برئية، بحيث يقضى وقته فيها يلذه نفسيًا من مصادر الترفيه، من قراءة والعاب وموسيقي، وسائر أنواع الفنون التي يمارسها أو يشاهدها , والبعض يجد متعة في أنواع من الرياضة يتدرب عليها شخصيًا، وقد ينبغ فيها، أو يعجب بأبطالها، ويجد متعته في مجرد الفرجة أو تتبع أخبارها.
وقد يهتم البعض بقوة جسده أو صحته.
ويري أن العقل السليم في الجسم السليم، وأن صحة الجسد تساعد علي رفاهية الحياة والبعد عن المرض والألم. وهذا النوع قد يضع لنفسه نظامًا ثابتًا في الراحة، لا يتعداه مهما كانت الأسباب، أو نظامًا في الرياضة يقوم به يوميًا، أو نظامًا في التغذية يضبط نفسه فيه إلي ابعد الحدود، وكذلك يتبع نظامًا في الصحة وفي تقوية جسده.
أن كان رجلًا، يهمه قوة جسده وصحته. وإن كانت امرأة، يهمها جمال الجسد ورشاقته. وكل من الاثنين يبذل وقتًا من أجل الجسد والاهتمام به.
وغالبية الناس -من الناحية الفردية- يهمهم النجاح في الحياة.
سواء الطالب في دراسته، أو الموظف في عمله،أو رجل الأعمال في مشوعاته، وبالمثل العالم والمفكر. كذلك بر الأسرة يهمه أن يكون ناجحًا في حياته العائلية. وصاحب كل مسئولية يهمه النجاح في مسئوليته.
ولكن يختلف الناس في مستوي النجاح الذي يسعون إليه: هل هو نجاح عادي، أو متفوف، أو نجاح عبقري له رقم قياسي. كما يختلف الناس أيضًا في طريقة الوصول إلي هذا النجاح.
البعض قد يقيس نجاحه بالمركز الذي يصل إليه في حياته العلمية. والبعض الآخر يقيس نجاحه إتقانه للعمل الذي يعمله، مجردًا من عنصر المكافأة عليه..
كل هذا وما يشبهه يدخل في المستوي الفردي.
المستوي الاجتماعي

الفضائل التي يمارسها الإنسان علي المستوي الاجتماعي، هي الفضائل التي تمارسها وسط الناس أو في العلاقات مع الناس. ولها أمثلة كثيرة منها:
1- فضيلة الاحتمال وعدم الغضب أو النرفزة.

سواء الغضب داخل نفسه من تصرفات تحدث له من آخرين، أعني الغضب المكبوت أو غضب ثائر لا يستطيع ضبطه، ويكون له أثره في علاقاته مع غيره، مع ما يصاحب هذا الغضب من أخطاء ومن قرارات لها خطورتها.
فالإنسان الفاضل علي المستوي الاجتماعي يضبط نفسه وقت الغضب.
ويحرص علي ألا تصدر منه إهانة لغيرة أثناء غضبه، ولا جرح لشعور. لا بكلمة شتيمة ولا بكلمة تهديد. كما يحرص ألا يعلي صوته، ولا يفقد أعصابه. إنما يكون متزنا مالكًا لنفسه، لا تزعزعه إساءة غيره ولا تهبط بمستواه. كذلك في غضبه لا يستخدم العنف الجسماني، كالذي يدخل في عراك يستعمل فيه الضرب واللكم أو ما هو أسوأ من ذلك.
فإن هذا كله يهبط بمستواه الاجتماعي. وبعض الناس -حتى من غير المتدينين- يحترسون جدًا، فلا يهبطون إلي هذا المستوي من النرفزة، حرصًا علي كرامتهم الاجتماعية وسمعتهم وسط الناس.
2- البعد عن الغضب فضيلة سلبية، تقابلها إيجابيًا البشاشة والوداعة.

فالإنسان الفاضل إجتماعيًا يكون بشوشًا، له ملامح مريحة تجعل الآخرين يحبونه. وقد يتصف بالمرح البرئ وباللطف وبروح الدعابة، فيفرح من يختلط به، وتلذ له عشرته. وتتبسط علي جلسته مع الآخرين روح الصفاء والود.

ويتصف بالوداعة وطيبة القلب. وسعة الصدر في التعامل من الآخرين. ولا يسمح بأن تتأزم الأمور بينه وبين غيره. وما أسهل ان يرد علي إساءة الغير بفكاهة تجعله يبتسم، وينصرف روح التوتر. وهكذا ينطبق عليه الوصف العامي (إنسان بحبوح).
وعكس ذلك كله -من الناحية الاجتماعية- الإنسان النكدي.
الذي بروح النكد يخسر لناس، ويبعد الآخرين عن عشرته خوفًا من أن يفقدوا سلامهم الداخلي،ومن أمثله ذلك الزوجة النكدية التي تقابل زوجها بالبكاء والحزن، والتحقيقات الكثيرة، والعتاب الشديد علي أتفه الأمور.. وبهذا تجعل زوجها يهرب من منزله، ويفضل قضاء الوقت مع أصدقائه بعيدًا عن النكد..
3- من الفضائل الاجتماعية أيضًا التعاون وحسن التعامل وخدمة الغير...

فهو لا يعيش لنفسه فقط، إنما يكون خدومًا، يساهم مع الآخرين في أمورهم، ويتعاون معهم. ولا يدخل في مشاكل مع أحد، ويتحاشى كل ما يضر بالغير. بل يجدون فيه حسن التعامل، فيطمئنون إليه ويحبونه، ويتبادلون معه نفسه الروح والأسلوب ويرتبط بالصداقة مع كثيرين.
4- ومن الفضائل الاجتماعية ما يتعلق باللسان والكلام.

طبعًا فضائل اللسان لا تكون إطلاقًا علي المستوي الفردي، لأن الكلام يكون مع الآخرين. والكلام له خطورته كما قال الرب "بكلامك تتبرر، وبكلامك تدان" (مت37:12). فإنسان بكلامه يدخل نفسه في مشاكل، وتكرهه الناس أو تتحاشاه. وإنسان آخر له الكلمة الحلوة التي يجذب الناس إليه. فهو اللسان النقي، الذي لا يجرح ولا يحرج...
ومن فضائل اللسان: الصدق.

فالإنسان الصادق هو موضع ثقة الناس، يطمئنون إلي صحة كلامه وشهادته، وإلي صحة ما ينقله من أخبار، وبخاصة إذا كان يتصف بالدقة التامة وبعدم المبالغة. أما الكذوب فيفقد ثقة الآخرين، وبخاصة إذا إنكشف، فصار يغطي كل كذبة يقولها بكذبة أخرى. والكاذب يفقد احترام الآخرين، مهما كان مركزه. بينما الإنسان الصادق يحترم الناس شخصيته، كما يحترمون كلمته.
ومن فضائل اللسان أيضًا عفة الكلام.

فهناك ألفاظ لا يستطيع الإنسان العفيف أن ينطق بها، إن كانت خارجة عن حدود الأدب أو الذوق، أو تخدش مسامع الآخرين.
ولذلك فالإنسان الفاضل إجتماعيًا يكون مهذبًا في ألفاظه، ينتقيها انتقاء.. حتى إن تحدث عن شيء ردئ، ينتقي اللفظ الهادئ غير المكشوف غير الجارح. ومن أمثلة ذلك قول السيد المسيح للمرأة السامرية "كان لك خمسة أزواج. والذي لك الآن، ليس هو زوجك" (يو18:4). وكلمة الرب هنا لها عمقها الإجتماعي، وعمقها الروحي أيضًا....
وعفة اللسان أيضًا، تبعد عن الألفاظ الجنسية، وعن الفكاهات الرديئة، وعن الشتيمة والسباب، وعن التشهير ومسك سيرة الآخرين، وتبعد عن أفاظ المجون، وعن تناول الآخرين بالتهكم والحط من قيمتهم...
كل هذه يبعد عنها الإنسان الاجتماعي الفاضل، حتى لو لم يكن متدينًا.
والاجتماعي الفاضل تكون للسانه أيضًا إيجابيات.
فالذي يسمع إليه، يستفيد من عمله ومعرفته، بل ومن إسلوب كلامه أيضًا. وهو لا يضيع وقت غيره في ثرثرة، ولا يتحدث في أمور ليست من تخصصه، بل يقول الكلمة المتزنه، الكلمة الموثوق بها التي لها مراجعها، والكلمة التي تضيف إلي سامعه نفعًا يحتاج إليه، ربما وصل غليه المتكلم بعد دراسة وفحص وتحقق...
5- ومن الفضائل الإجتماعية أيضًا: العطاء، والشفقة، والإخلاص.

كما لو كان هذا الإنسان الإجتماعي كل من يقابله يأخذ منه شيئًا.. إن لم يكن نفعًا ماديًا، فعلي الأقل يدرك أنه يشعر به وباحتياجه، ويحس ظروفه ويتعاطف معه في إشفاق. ويعامله بكل إخلاص.
ونحن نري أن المؤسسات الإجتماعية هدفها هو الإشفاق علي الناس، وسداد إحتياجاتهم، ووسيلتها العطاء باستمرار، في غير إحراج، وفي غير بخل وتقتير..
6- كذلك الإنسان الإجتماعي الناجح هو إنسان عادل منصف.

يعطي كل ذي حق حقه، لا يظلم أحدًا، ولا ينحاز إلي أحد ضد أحد. بل يكون منصفا في كل أحكامه ومعاملاته. ويأخذ حق الآخرين حتى من نفسه. ولا يمكن أن يرتفع علي حساب غيره، أو يرتاح علي تعب غيره. وهو مستعد أن يعتذر لأي أنسان له حق عليه، وينصفه ويعطيه حقه. وبهذا يكون محترمًا ومحبوبًا...
ما أكثر الفضائل الإجتماعية التي ترتبط بالتعامل. ولكن هناك صفة ترتبط بالشخص الإجتماعي نفسه وهي:
7- الإنسان الإجتماعي الناجح، يتصف بالنشاط والحيوية.

فلا يكون ابدًا في المجتمع الذي يعيش فيه. إنه هو شعله من نشاط، أينما حل يملًا المكان حركة وبركة. وكل مسئولية يقوم بها، يظهر فيها إنجازه وإنتاجه. ويشعر الكل أنه دائمًا يعمل، لا يكسل ولا يبحث عن راحته بقد ما يبحث عن نجاح العمل. وهكذا يعجب الناس بحيويته، فيصبح موضع ثقة في كل ما يتولاه من مسئوليات، ويرشحونه لمسئوليات أكبر.
ننتقل بعد هذا إلي المستوي الروحي:
المستوي الروحي

وهو يختص بالقلب ونقاوته. وبالروح ومدي علاقتها بالله.
غير أن البعض قد يهتم في حياته الروحية وبعلاقات خارجية مع الله في الصلاة والصوم، وقراءة الكتاب المقدس، وحضور الكنيسة وممارسة أسرارها، مع بقاء القلب بعيدًا لا صلة له بالله، ولا مشاعر حب، ولا حتى مشاعر خشوع، بل ينطبق عليهم قول الرب:
"هذا الشعب يكرمني بشفتيه. أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا" (أش13:29) (مت8:15).
هذا الوضع رفضه الرب في العهد القديم أيام أشعياء النبي (اش1-11 -16). وأيضًا هذه المظاهر الزائفة ورفضها السيد المسيح من الكتبة والفريسيين المرائين، الذين "لعلة يطيلون صلواتهم" (مت14:23).وقال عنهم أنهم "مثل قبور مبيضة تظهر من الخارج جميلة، وهي من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت27:23).
وهذا النوع الذي يهتم بالمظاهر، وربما يركز اهتمامه في الخير الخارجي، إما لمجرد أن يكون قدرة لغيره، أو ينال مديحًا من غيره، أو يبعد عن نقد الناس، ولا يكون عثرة لهم.. بينما محبة الخير ليست في قلبه!! مثل الذي يقدم إحسانًا لفقير، ومحبة الفقير ليست في قلبه ولا أيضًا محبة الإحسان..أو مثل الذي يصوم في شكلية الصوم دون روحانية، وتظهر محبة الطعام أثناء صومه - بأنواع وطرق شتي...
هذه المظاهر التي تأخذ شكلًا روحيًا، ليست هي المستوي الروحي الذي تعنيه...!
هذا هو المستوي الذي يصلي فيه الإنسان في حب لله، وفي خشوع قدامه، وبكل حرارة وبكل إيمان. كما يقول المرتل في المزمور (محبوب هي أسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي) (مز119). ويقول له أيضًا (كما يشتاق الإيل إلي جداول المياه، كذلك اشتاقت نفسي إليك يا الله) (مز1:42). (عطشت نفسي إليك). (مز1:63).
وهو حينما يصوم، يكون ذلك زهدًا في الطعام، وليس مجرد امتناع عنه. فتصوم نفسه كما يصوم جسده، ويرتفع عن مستوي المادة لكي تسبح روحه في الإلهيات والسماويات..
وهذا المستوي الروحي تكون العبادة فيه مجرد ثمرة للإيمان الذي في القلب. ولا يكتفي الإنسان في هذا المستوي بالعبادة، بل تكون له ثمار الروح أيضًا (غل5: 22، 23).
نقول ذلك لأن البعض يظن أن الروحيات هي مجرد الصلاة والصوم في الكنيسة. وينس ما قاله الرسول (ثمر الروح: محبة فرح سلام، طول أناه، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف) (5: 22،23)... هذه الثمار هي تعبير عن الإيمان الحي.
لأنه كما يقول السيد الرب (من ثمارهم تعرفونهم) (مت20:7). لأن كل شجرة جيده لابد تصنع ثمرًا جيدًا..
والمستوي الروحي هو حياة القداسة التي تنمو حتى تصل إلي حياة الكمال ولا تقتصر محبتها لله علي ذاتها، بل تنشر محبته أيضًا وسط الآخرين.
وإذا وصل الإنسان إلي المستوي الروحي، يأخذ عنده المستوي الفردي والمستوي الاجتماعي معني أعمق.. فيصبح المستوي الفردي عنده من أجل ملكوت الله. ويصل به الاهتمام بالذات إلي بذل هذه الذات. ويضع أمامه قول السيد الرب:
(من وجد نفسه يضيعها. ومن أضاع ذاته من أجلي يجدها) (مت39:10) .
والمستوي الروحي أيضًا يعطي المستوي الاجتماعي طابعًا روحيًا.
يكون الشخص الروحي في المجتمع، إنسانًا خدومًا عن حب، يتعاون مع الكل ولكن في كل ما هو خير وبر. ويعطي كل من يقابله حبًا روحيًا، وأمثولة طيبة، ومعونة بكل كرم بل وبكل بذل، وفي الخفاء أيضًا. ويكون محترمًا من الكل لنقاوة قلبه وعفة لسانه، ليس لطلب مديح من الناس وإنما لأن: الرجل الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات" (مت35:12).
المستوي الروحي هو المستوي العالي الذي يمهد له المستوي الفردي والمستوي الاجتماعي. فيلو فوقها دون أن يلغيها، بل يمنحه مسحة من روحانيته.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 03:24 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
الروحانية والمقارنة بالمستوي النفساني والمستوي الجسداني

الروحانية هي أولًا سلوك بالروح.
وقد ورد الكثير عن هذا الأمر في رسالة بولس الرسول إلي روميه إذ قال (لا شيء من الدينونة الآن علي الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح) (رو1:8). وقال أيضًا "فإن الذين هم حسب الجسد، فبما للجسد يهتمون. ولكن الذين حسب الروح، فبما للروح (يهتمون). لأن اهتمام هو موت ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام. ولان اهتمام الجسد هو عداوة لله".. فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله.
إذن الروحانية هنا هي ارتفاع عن مستوي السلوك بالجسد.
هنا واجب أن أقول لكم إن الإنسان يتكون من ثلاثة عناصر: الروح والنفس والجسد. وقد وضح القديس بولس هذا الأمر، حينما قال في رسالته الأولي إلي أهل تسالونيكي "إله السلام نفسه يقدسكم بالتمام. ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم.." (1تس23:5)
إن الإنسان تكون من روح ونفس وجسد. وهنا نقول إن الإنسان الروحاني لا يسلك حسب الجسد، ولا حسب النفس. السلوك حسب الجسد واضح جدًا للجميع..
كالإنسان الذي يسلك في شهوات الجسد كشهوة الزنى، أو شهوة الطعام، أو شهوة الملبس.. ألخ. ولكن ماذا إذن عن السلوك النفساني؟ نقول اولًا:
لقد حارب الآباء الرسل السلوك النفساني وأدانوه.
فالقديس يهوذا الرسول يقول في رسالته "إنه في الزمان الأخير سيكون قوم مستهزئون سالكون بحسب شهوات فجورهم. هؤلاء هم المعتزلون بأنفسهم نفسانيون لا روح لهم" (يه19:18). لاحظوا إذن قوله:
نفسانيون لا روح لهم.
هؤلاء "سالكون بحسب شهوات فجورهم "ولعله يفهم من هذا ان شهوات الجسد تقودها عوامل نفسانية خاطئة، بعيدة عن اتجاه الروح..
والقديس يعقوب الرسول يفرق بين الحكمة الإلهية، وحكمة أخري يقول عنها إنها "ليست نازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية" وإنها تسبب الغيرة المرة والتخرب والتشويش وكل أمر ردئ (يع3: 14-16). لاحظوا أن صف نفسانية ارتبط أيضًا بعبارة "أرضية شيطانية".. ما أصعب هذا الوصف..
ربما هذا التفصيل غير مستخدم كثيرًا. فالناس غالبًا ما يتحدثون فقط عن السلوك الروحاني، والسلوك الجسدي. ونادرًا ما يتحدثون عن السلوك النفساني الممقوت...
الإنسان النفساني تقوده النفس وغرائز النفس وعقلية النفس ومشاعرها بدون روح.
وهذا أمر فيه أخطاء وخطايا كما سنري.
والإنسان الجسداني تقوده شهوات الجسد ورغباته.
فماذا إذن عن الإنسان الروحاني؟
الإنسان الروحاني يتصف بصفتين وهما:
1- ينتصر علي الجسد وعلي النفس، ويسلك حسب الروح.
2- الصفة الثانية أن روحه تخضع لروح الله...
يوجد إنسان في داخله صراع بين شهوات الجسد وشهوات الروح (غل5: 16،17). أما الروحاني فقد خضع فيه الجسد تمامًا للروح. ولكن هذا وحده لا يكفي، لأن اخطاء الإنسان ليس سببها فقط شهوات الجسد. فهو قد يخطئ بروحه وحدها.. ولا تتعجبوا من هذا فالشيطان روح، ومع ذلك فقد أخطأ. فهو روح متمردة وروح شريرة.
والكتاب يتحدث كثيرًا عن الأرواح الشريرة.
والسيد المسيح أعطي تلاميذه سلطانًا علي أخراج الأرواح الشريرة، اي أرواح الشياطين. إذن ممكن أن الأرواح تخطئ. وممكن أن الإنسان يخطئ بروحه..
إذن الإنسان الروحي، إنه لا يخطي بروحه، لأن روحه خاضعة تمامًا لروح الله..
إذن الإنسان الروحي: نفسه وجسده يخضعانه لوحه، وروحه تخضع لروح الله.

ولذلك نقرًا في الرسالة إلي رومية عبارة جميلة جدًا وهي "لأن كل الذين ينقادون بروح اله، فأولئك هم أولاد الله" (رو14:8). هؤلاء هم الروحانيون، الخاضعون لروح الله. الذين يقودهم روح الله، وهم طائعون لقيادة روح الله. ولكن تنقاد بروح الله ينبغي ان يكون روح الله ساكنًا فيك.
من أجل هذا، جعل الله روحه يسكن فينا.
فقال الكتاب "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله ساكن فيكم" (1كو16:3). وروح الله الذي فيك يعطي روحك معرفة، ويعطيها إرشادًا. ويقودها في الطريق.. يوبخها علي خطية، ويحثها علي الخير، ويذكرها بكل ما قاله الرب ويعلمها كل شيء (يو26:14).
لذلك الكنيسة تمنحك المسحة المقدسة، مسحة الروح.
وعن هذه المسحة تحدث القديس يوحنا الحبيب مرتين في رسالته الأولي، فقال "وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء" (وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم) (1يو2: 20،27). ونحن ننال هذه المسحة في سر الميرون المقدس. وكانوا ينالونها في بداية العصر الرسولي بوضع اليد.
إذن تعتمد علي قيادة روح الله لك، وليس علي الحكمة البشرية وحدها...
الحكمة البشرية وحدها هي جهالة عند الله (1كو19:3). وقد شرح القديس بولس الرسول هذا الأمر بعمق شديد وتفصيل، في رسالته الأولي إلي أهل كورنثوس، في الإصحاح الثاني...
أمثلة للمستويات الثلاثة:

الشهوة

هناك شهوات للجسد والنفس والروح.
شهوة الجسد هي الخطية كشهوة الحواس، وشهوة الزني، وشهوة البطن.
وشهوة النفس أحيانًا تكون نوعًا من الذات وحب النفس. ولنضرب مثالًا في كل ذلك بسليمان الحكيم.
لقد سلك في هذه الشهوات فقال "مهما اشتهته عيناي، لم أمنعه عنهما" (جا10:2)،وشرح تفاصيل ذلك فقال "بنيت لنفسي بيوتًا. غرست كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل ثمر. عملت لنفسي برك مياه. قنيت عبيدًا وجواري.. جمعت لنفسي فضة وذهبًا.. اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات" (جا2: 4-8).
هنا شهوة الجسد، وشهوة العيون، وشهوات باقي الحواس.. هذه هي شهوة الجسد، ووجدها باطلة وقبض الريح.
وماذا إذن عن شهوات النفس؟ يقول "لم أمنع قلبي من كل فرح. لأن قلبي فرح بكل تعبي. وهذا كان نصيبي من كل تعبي. وهاذ كان نصيبي من كل تعبي..".. وهنا نقول:
فرح سليمان بكل غناه وشهوات جسده كان فرحًا نفسانيًا.
ولم يكن فرحًا روحيًا علي الإطلاق. فما هو الفرح الروحي.
الفرح

الفرح النفساني، هو فرح بشهوات الجسد، كما فرح سليمان بكل متعه وغناه. أما فرح الروح فهو الذي يقول عنه الكتاب:
"أفرحوا في الرب كل حين.. (في4:4).
الفرح بالرب هو فرح روحاني.
تفرح لأنك عرفت الله، تفرح لأن لك صلة بالله وعشرة، تفرح بسكني روح الله فيك وإرشاده لك. تفرح لأنك نلت مذاقة الملكوت، تفرح لانتصار روحك التي حررها الله (يو36:8). تفرح لأنك استطعت أن توصل الناس إلي الله.
تقرأ عن فرح سليمان في (جا). فلا تجد اسم الرب إطلاقًا..! إنه فرح بالجنات والفراديس، والشجر، والبقر، والذهب، والفضة، والسيدات والمغنيات. وليس بروح وصله روحه بالله. إنه مجرد نفساني، باطل وقبض الريح.. لهذا نحن نفرق في امور الفرح بين تعبيرات عديدة مثل اللذة (وهي خاصة بالجسد والحواس). والسرور والفرح (وبعضها خاص بالنفس والآخر بالروح).
تلاميذ المسيح وقعوا أحيانًا في الفرح النفساني.
إنه فرح ليس من نوع فرح سليمان، بل هو نوع ارقي منه، ولكنه مرفوض أيضًا. رجع السبعون إلي الرب فرحين، بعد إرساليتهم التبشيرية، وقالوا له "حتى الشياطين يا رب تخضع لنا باسمك" (لو17:1). فوبخهم الرب علي هذا الفرح النفساني، وقال لهم "لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم. بل افرحوا بالحري أن أسماءكم قد كتبت في السموات" (لو20:10). وهكذا فرق الرب بين نوعين من الفرح: نوع وبخ عليه ونوع دعا إليه.
مثال آخر وهو الفرح البعض بموهبة الألسنة وما يشابهها.
إنه فرح بشئ يمجده أمام الناس ويرفع شأنه!! يريد أن يتعظم علي حساب مواهب الله.. وكان الأفضل أن يهتم بنقاوة قلبه وإمتلاء القلب بثمار الروح. وفي ذلك قال الرسول "لو كنت اتكلم بألسنة الناس والملائكة، وليس لي محبة، فقد صرت نحاسًا يطن وصنجًا يرن" (1كو13).
إذن افرح بثمار الروح، أكثر مما تفرح بالمواهب.
ثمار الروح التي هي "محبة وفرح وسلام، وطول أناة ولطف صلاح إيمان وداعة تعفف (غل5: 22،23). وهذه توصلت إلي الملكوت بينما المواهب والآيات والرؤي ربما لا توصل..! يقول السيد الرب:
"كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب، أليس بإسمك تنبأنا وبإسمك أخرجنا شياطين، وبإسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلي الآثم" (مت7: 22،23).
قيل عن القديس يوحنا المعمدان أنه لم يصنع آية واحدة (يو41:10) ومع ذلك شهد له الرب إنه أعظم من ولدته النساء (يو11:11). وفي التبشر بمولده قيل عنه إنه "من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو15:1). فلا تفرح إذن بالآيات.
القديس بولس الرسول خاف من كثرة الرؤى والاستعلانات.
لأنها خطيرة، ربما ترفع قلبه. ولذلك قال "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات، أعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع" (2كو7:12). وصلي ثلاث مرات أن يرفع الله عنه هذه الضربة، ولم يقبل صلاته في ذلك...
أم يعقوب ويوحنا الرسولين وقعت في الفرح النفساني الباطل.
فجاءت إلي السيد تطلب أن يجلس أحد إبنتيها عن يمينه، والآخر عن يساره في ملكوت (مت20: 20، 21).ولكن الرب لم يشأ أن يكون لها فرح بالعظمة، بل أن يكون لإبنيها فرح بالألم. فقال لهما "لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي اشربها، وأن تصطبغًا بالصبغة التي أصطبغ بها" (مت22:20).
واستجاب الرب لطلبة هذه القديسة، فكان إبنها أول الشهداء من الرسل الإثنتي عشر (أع2:12)، وجلس مع الرب عن يمينه..
حقًا إن الفرح بالألم هو جزء من الفرح الروحي.
ولذلك بعدما سجنوا التلاميذ وجلدوهم، يقول الكتاب عنهم "وأما هم فذهبوا فرحين، لنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه" (أ41:5).
ويقول القديس بولس الرسول "لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضربات والاضطهادات لأجل المسيح" (2كو10:12). وهكذا كان سرور الشهداء والمعترفين القديسين بملاقاة العذابات والموت. إنه فرح روحاني.
ولعل من الأمثلة البارزة تلك القديسة العظيمة التي ذبحوا أبناءها الخمسة علي حجرها وهي تشجعهم علي الاستشهاد، لكي يفرحوا مع الرب في ملكوته. وهي أيضًا فرحت باستشهادهم.
إن الذي يفرح بأن ينال موهبة المعجزات والآيات، هو ما يزال في مستوي الفرح النفساني. أما الفرح الروحاني، فهو بالرب وليس بمواهبه، وما تجلبه المواهب من عظمة..
إن المستوي الروحي، والمستوي النفساني، والمستوي الجسداني يمكن تطبيقها علي كثير من المشاعر والعمال، وعلي كثير من إتجاهات البشر وأعمالهم.
ولكننا ذكرنا ما ذكرنا كمثال.. والأمثلة كثيرة..

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:20 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
تأثر حياة الفضيلة بالقراءة والسمع وباقي الحواس

الفكر والحواس

فكر الإنسان أمر هام في حياتية الروحية،
والفكر ينبع من مصا، ويصب في أخري.
وحواس الإنسان هي من منابع الفكر.
ما يقرأه أو يسمعه يولد له أفكارًا. وما يراه أيضًا ينشغل به العقل والفكر.. الحواس توصل للعقل أفكارًا. وما يفكر فيه العقل، يوصله إلي القلب كمشاعر وأحاسيس. وما أسهل أن مشاعر القلب تصل إلي الإرادة، ومنها إلي العقل..
الحواس لا تؤثر علي العقل الواعي فقط، إنما علي العقل الباطن أيضًا.
ما تجمعه العين والأذن، من مناظر وسماعات وقراءات، كثيرًا ما يتطبع -حسب عمقها- في العقل الباطن. وتظهر فيما بع كأحلام أو ظنون أو أفكار أخري. لأن الفكر يلد فكرًا، أو أفكارًا كثيرة. والعقل دائم العمل لا يتوقف..
حسب الغذاء الذي تقدمة للعقل، تكون أفكاره...
قد تجلب له الحواس أفكارًا خيرة، وقد تجلب له أفكارًا شريرة.. وحس نوعية الوقود، أتون النار.. فاحرص علي حواسك، لتضمن سلامة فكرك. وأسأل نفسك أي نوع من الفكر يدور في عقلك؟ أهو فرك خطية، أم فكر تافه، من أمور العالم الزائلة؟؟
والكنيسة تستخدم الحواس كواسطة روحية:
فتجد في الكنيسة الأيقونات مثلًا. تقف أمام الأيقونة، فتأتيك أفكارًا عن حياة صاحبها، وقداسته وجهاده وآلامه.. نسمع عن المهاتما غاندي اكبر زعيم روحي للهند: أنه عندما زار فرنسا، وقف أما أيقونة السيد المسيح المصلوب وبكي..
الكنيسة أيضًا تقدم للحواس الألحان والموسيقي، ولها تأثيرها في القلب والفكر. وتقدم البخور، وهو صاعد إلي فوق برائحة زكية. وتقدم للعن أيضًا الملابس الكهنوتية البيضاء، والشموع المضاءة، وتحركات الكهنة والشمامسة، ومناظر الوقوف الركوع والسجود.. وكل ذلك يجلب للعقل أفكارًا، وللقلب وأحاسيس.. وهكذا مع باقي الطقوس الكنسية..
وبالإضافة إلي هذه القراءات، وتأثيرها:
القراءات

القراءات تؤثر كثيرًا في حياتك وشخصيتك.
· يمكن أن تغرس في النفس مبادئ وقيمًا، حسب نوعية القراءة. فالشاب الذي يقرأ كثيرًا عن الحرية، تغرس فيه أفكار غير الذي يقرأ عن الواجبات والالتزام والتضحية. والذي يقرأ عن النسك والزهد والموت عن العالم، تكون أفكاره غير الذي يقرأ عن غيرة والعمل والحماس والجهاد.. إن القراءة يمكنها أن تشك شخصية الإنسان.
· كذلك القراءة توسع الفكر، وتعمق مفاهيم معينة،؟ وتزيد المعارف. وما أصدق الشاعر الذي قال عن القراءة في التاريخ:
ومن وَعَى التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلي عمره
* القراءة تستطيع أن تبعد الفكر عن التوافه.
فالمرأة التي لا تقرأ، ربما لا تعرف سوي الحديث عن الطبيخ والملابس والحفلات وأخبار الناس، بعكس المرأة المثقفة التي تجيد الكلام في موضوعات لها عمق.. وبالمثل الرجل الذي لا يعرف سوي المقهى والنادي ودروب اللهو، تكون شخصيته سطحية، وأحاديثه بلا نفع أو قد تضر، وعلي عكسه الرجل الذي يقرأ ويدرس ويثقف نفسه...
ولهذا نحن نفرح بتعليم المرأة، ونحث الناس علي القراءة حتى الأطفال.. ونشجع علي تكوين المكتبات. ونطلب من الآباء والمرشدين أن يوجهوا أبناءهم في نوعية القراءة التي تفيدهم والتي تناسبهم.
* الكتب النافعة تؤثر علي الروح، وتقودها إلي الله.
فهي تشرح للعقل موضوعات ما كان يعرفها، وتناقش معه أفكارًا ربما كان يتقبلها بالتسليم، فأصبح بدخلها في نطاق الحوار.
وما كنا نقوله منذ سنوات عن مراحل السن عند الأطفال، تغير حاليًا عن ذي قبل تغيرًا كبيرًا جدًا، بقدر ما يقدمه المجتمع للطفل والشاب من معلومات، وما يقدمه أيضًا لرجل الشارع. وبازدياد المطبوعات سواء في الكتب أو الجرائد أو المجلات، تغير الفكر عن ذي قبل، بحسب نوعية القراءة ونوعية الثقافة..
والقراءة تمنح العقل لونًا من النمو والنضوج.
فهي تشرح للعقل موضوعات ما كان يعرفها، وتنافس معه أفكارًا ربما كان يتقبلها بالتسليم، فأصبح يدخلها في نطاق الحوار.
وما كنا نقوله منذ سنوات عن مراحل السن عند الأطفال، تغير حاليًا عن ذي قبل تغيرًا كبيرًا جدًا، يقدر ما يقدمه المجتمع للطفل والشاب من معلومات، وما يقدم أيضًا لرجل الشارع. وبازدياد المطبوعات سواء في الكتب أو الجرائد أو المجلات، تغير الفكر عن ذي قبل، بحسب نوعية القراءة ونوعية الثقافة...
مستوي المعرفة ازداد. ولكن أية معرفة؟
حسب قراءاتك تكون معرفتك، وحسب معارفك حياتك. فما هو نوع قراءاتك؟ السياسة والاقتصاد والأخبار؟ أم القراءة عن الجرائم والأحداث والانحرافات؟ أم القراءة في العقيدة والإيمان؟ أم القراءة في الروحيات؟ أم في النسك أو في سير القديسين....؟
ما تقرأ سيؤثر فيك، ويدفع حياتك في اتجاه معين.

لا تقل أنا لا أتأثر. فقد تأثرت عقليات جبارة جدًا.
مثال ذلك أوريجانوس، أعظم عالم لاهوتي في القرن الثالث، وعلي مدي قرون كثيرة تأثر بقراءاته الفلسفية، وتأثر بالأفلاطونية والأفلاطونية الحديثة. وظهر ذلك واضحًا في كتابته عن الرواح، وعن الوجود السابق لها. وتأثره في كلامه حتى عن الملائكة، وعن الخلاص، والحياة الأخرى.. وحرمته الكنيسة، وحرمته مجامع...!!
وكثيرون ممن قرأوا كتبًا غربية أو غريبة، تأثروا بها.
وظهر هذا التأثير واضحًا في أفكارهم؟؟ سواء الذين انحرفوا نحو طوائف أخري، أو الذين تأثروا بالقراءات الفلسفية، أو كتب الشيوعية والإلحاد، أو بكتب أخري تغرس الشكوك، كالذين قرأوا كتب شهود يهوه، أو كتب السبتيين وأمثالهم..
ومن هذا النوع كثيرون، أذكرهم وأنا باك كما قال الرسول ولعل في مقدمتهم شخص كان الأول علي كلية اللاهوت، ثم وضع كتابًا عنوانه (الإنسان هو الذي خلق الله علي صورته)!!
لهذا كله كانت الكنيسة تحرم كتب الهراطقة:
لا تحرم الهراطقة فقط، وإنما كتبهم أيضًا، وتأمر بحرقها. وهكذا قيل في سفر أعمال الرسل (وكان كثيرون من الذين يستعملون السحر، يجمعون الكتب ويحرقونها امام الجميع)(أع9:19).
لهذا كله ينبغي تنقية المكتبات في الكنائس، حرصًا علي أفكار القراء وعلي إيمانهم وتكون القراءة تحت أرشاد.
ومن يعرض -علي سبيل المعرفة- فكرًا خاطئًا، ينبغي في نفس الوقت أن يقدم الرد عليه، ويكون الرد قويًا..
كذلك من يتعرضون للنقد الكتابي Biblical Criticismلابد أن يكونوا علي مستوي القوة في مناقشة الأفكار.
هناك أمثلة كثيرة للمعرفة الخاطئة المضللة:

ولعله بسببها قال الحكيم في سفر الجامعة إن الذي يزداد علمًا، يزداد غمًا (جا8:1)،يقصد العلم بأشياء تضر أو تشكك أو تتعب الفكر. ولعله عن تلك المعرفة الضارة قال فستوس الوالي للقديس بولس الرسول "الكتب الكثيرة تحولك إلي الهذيان" (أع24:26). طبعًا كان يظلم القديس. في هذه العبارة ما كانت تنطبق عليه. ولكنها يمكن أن تنطبق علي غيره.
الهدف من القراءة

(*) هناك من يقرأ لمجرد الرغبة في المعرفة.
(*) ومن يقرا للدراسة، وللبحث عن الحقيقة.
(*) وهناك من يقرأ مقررات مفروضة عليه كالطلبة في الجامعات والمدارس، وذلك لكي ينجحوا ويحصلوا علي شهادات.
(*) نوع آخر يقرأ للتسلية وللمتعة، كمن يقرأ قصصًا وحكايات.
(*) وآخر يقرأ للتدريب علي الذكاء، كمن يقرأ الألغاز لحلها.
(*) نوع آخر لإشباع شهوة معينة في نفسه.
(*) وآخر يقرأ لمعالجة نفسه من شهوة أو من فكر ضاغط، وذلك باستبداله فكر بفكر، لعل قراءته تنقله إلي جو آخر من التفكير، وتخلصه من افكاره التي تتعبه، أو من الشهوات التي تضغط عليه، أو تقيم توازنًا لقتل الوقت.
(*) وهناك من يقرأ للهروب من الفراغ أو لقتل الوقت.
(*) ومن يقرأ للتعمق في العقيدة والإيمان، أو لتدريس ما يقرأ للغير.
(*) ونوع آخر يقرا لبناء نفسه، وللتفوق علي غيره في المعرفة.
(*) والنوع الأسمى هو الذي يقرأ لفائدته الروحية، لكي تكون القراءة له روحًا وحياة كما قال الرب عن كلامه (يو63:6).
فمن أي نوع أنت؟ وهل تستفيد روحيًا من قراءاتك؟
كيف تقرأ

* أولًا إقرأ بفهم، وبفحص، ولا تعتنق كل تقرأ.
فكثير من الناس يقبلون كل ما يقرأون باقتناع تلقائي، دون دراسة ودون تفكير، كما لو كان مكتوبًا بوحي!! أما أنت فضع أمامك قول القديس بولس الرسول "امتحنوا كل شيء وتمسكوا بالحسن" (1تس21:5). وأيضًا قول القديس يوحنا الرسول "لا تصدقوا كل روح. بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله؟" (يو1:4). وأعرف أن الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام" (جا14:2). لذلك لا تقبل كل شيء. وحبذا لو أنك وزنت كل ما تقرأه في ضوء كلمة الله التي تحكمك للخلاص (2تي15:3).
* ولا تنشر كل تقرأه...
لأن البعض لا يكتفون بتأثرهم بأفكار معينه، بل يتحمسون لها بالأكثر لدرجة أنهم ينشرونها في كل المحيط الذي يعيشون فيه وربما يكونون بذلك عثرة لغيرهم من جهة الفكر.
* ولا تعجب بكل جديد مما يقرأ.
المهم أن هذا الجديد لا يتعارض مع المسلمات القديمة الثابتة في الكنيسة التي تسلمناها من الآباء القديسين. والكتاب يأمرنا قائلًا "لا تنقل التخم القديم الذي وضعه آباؤك" (أم28:22) (أم10:23). وهنا تبدو الصول القوية في الكنائس التقليدية التي تحافظ علي الإيمان المسلم من القديسين (يه3) فلا تضيف إليه ما يتعارض معه...
* ولتكن قراءتك باتضاع..
لأنه أحيانًا: العلم ينفخ: (1كو1:8). كما قال الرسول:
وكثير من الناس يرتفع قلبهم بقراءاتهم، ويرون أنهم صاروا أعلي فكرًا وأوسع عقلًا من الآخرين. فينتفخون، ويتعالون علي غيرهم، ويصفون الغير بالجهل. وتكون لهم المعرفة مجالًا للافتخار. ويفقدون اتضاعهم حتى في حديثهم مع من هم أكبر منهم.
السماعات

أنت تسمع كثيرًا في الاجتماعات العامة والخاصة، وفي محيط الأقرباء والأصدقاء والمعارف. وتسمع من وسائل الإعلام: الراديو التلفزيون، والفيديو، والكاستات. ولكن المهم هو أمران:
أن تتخير ما تسمع، وتتحكم فيما تسمع:
الله وهب لك أذنين، لكي تسمع الرأي، والرأي الآخر. ولا تكون عبدًا لرأي واحد، أو لكل ما تسمع. فبين أذنيك وضع الله العقل ليزن ويحكم، يفحص ويدقق، ويقبل ما يصلح، ويرفض ما يضر، فلا تجعل عقلك في أذنيك، ولا تكن سماعًا..
ولا تصدق كل ما تسمعه. بل افحص كل شيء، وابحث عن الحقيقة.
تذكر أن أول خطية للبشرية جاءت نتيجة السماع.
حينما سمع أمنا حواء كلامًا خاطئًا معثرًا من الحية، وكانت الحية أحيل حيوانات البرية (تك3) وآخاب الملك أضاع نفسه نتيجة سماعه خاطئًا ظالمًا من زوجته إيزابل (1مل21). ونحن نقول في القداس علي المتآمرين الخاطئين "بدد مشورتهم يا الله الذي بدد مشورة أخيتوفل "فلا يكون في حياتك أخيتوفل يضرك...
ولتكن أذنك مصغية إلي السماع المفيد.
إلي كلمة النصح، وكلمة المنفعة، وكلمة التوبيخ المخلص، وكلمة الإرشاد من الحكماء، وعمومًا إلي الكلمة التي تبني.. تبنيك روحيًا وفكريًا، وتثبتك في الحياة مع الله.
واحترس من كلام المديح الضار، أو الملق، أو كلام الإغراء..
في السماع أيضًا لا ننس تأثير الموسيقي.
وقد اهتمت الكنيسة بالألحان والموسيقي، لأن لها تأثيرها العميق في النفس. وقال الرسول عن ذلك "مكلمين بعضكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب" (أف19:5).
ليتك تجعل التسابيح والألحان من الوسائط الروحية التي تبنيك.
واهتم بالترتيل وتأثيره علي أن تكون ألحانه سليمة. وليست مأخوذة من الأغاني العالمية كما يفعل البعض..
واحترس مما يسميه البعض "غسيل المخ".
وذلك بوقوع البعض تحت تأثير فكري معين، يضيع منه كل ما أخذه من قبل، وكل ما آمن به واقتنع. ويزرع فيه شكوكًا لا تحصي، ويغرس فيه أفكارًا أخري، دون أن يعطيه فرصة لمعرفة الرد أو الاتصال بالرأي الآخر.. إلي أن يخرج آخر الأمر شخصًا مختلفًا تمامًا عما كان، يفكر آخر غير فكره الأول في كل شيء..
وهذا ما كانت تفعله الشيوعية وغيرها من المذاهب.
ولذلك أيضًا تخبر أصدقاءك الذين تسمع منهم وتسمع لهم.
ولا تردد كل ما تسمع وتصبه في آذان غيرك.
إلا بعد أن تتحقق من صحة وفائدة ما قد سمعته، لئلا تصبح عثرة لغيرك وتفقده فضيلة. أحترس إذن من أسلوب الببغاوات، لئلا تنقل شائعات أو معلومات قد تكون ضارة.
باقي الحواس

احترس من النظر وتأثيره عليك.
وتذكر أن خطية داود الكبرى، كان هو بدايتها (2صم2:11). والنظر قاد إلي الشهوة التي قادته إلي الزنا والقتل.
وربما نظرة تقود إلي خطية إدانة. ونظرة تقود إلي خطية حسد.
النظر يؤثر علي مشاعر القلب. وكذلك فإن مشاعر القلب تشكل نوعية النظر. ولا ننسي في خطية أمنا حواء أنها -بعد أن تغير قلبها بحديث الحية- نظرت فإذا الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون، وأنها شهية للنظر (تك6:3).
وقد قال القديس يوحنا الرسول عن محبة العالم التي هي عداوة لله "كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة" (1يو16:2).
وكما تؤثر حاسة النظر، تؤثر أيضاُ حاسة اللمس وحاسة الشم.
لكل هذا، دقق القديسون علي حفظ الحواس، وضبط الحواس، حتى لا تقود الإنسان إلي مشاعر معينة تخرجه عن حياة البر.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:24 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
حياة الفضيلة تتبرهن بالاختبارات

لابد من اختبارات يجتازها كل شخص لكي يثبت أنه فاضل بالحقيقة إن نجح في تلك الاختبارات التي تقيم بها شخصيته، وتتحد بها ابديته، ودرجته في تلك الأبدية.
قد تكون فترة الاختبار قصيرة بالنسبة إلي البعض:
يوحنا المعمدان مثلًا، ربما خدمته كانت حوالي سنة أو ربما أزيد قليلًا، ولكنه عبر فيها عن نجاح هائل في الخدمة، وتواضع وإنكار ذات، وشجاعة.. وقد إكتفي الله بقترة الاختبار القصيرة هذه، واخذه إليه وهو في سن الثانية والثلاثين تقريبًا.
نفس الوضع بالنسبة إلي فترة اختبار القديسين مكسيموس ودوماديوس، الذين انتقلا إلي الفردوس في شبابهما. وكذلك القديس ميصائيل السائح الذي وصل إلي درجة السياحة، وهو في حوالي الخامسة عشرة من عمره.
كانت فترة اختبار قصيرة، ولكنها كافية..
كافية للتعبير عن نوعية الشخصية، وروحانيتها، وجهادها، ومدي المحبة الكائنة في القلب من نحو الله..
أيتساءل أحد ويقول: لماذا يا رب تأخذ مثل هذه النفوس الطاهرة، في هذه السن المبكرة؟ فيجيب الرب: لقد نجحوا في اختبارهم، ويكفي هذه الجهاد..
بالمثل الاختبار الذي تم بالنسبة إلي بعض الشهداء والمعترفين.
لقد تم اختبار إيمانهم، وثباتهم فيه، واحتمالهم من أجله.. ربما في ايام أو شهور.. وكان ذلك يكفي، إنتقلوا بعده إلي الفردوس.
علي أنه بصفة عامة، نقول بالنسبة إلي اختبار الناس:
إنه تؤخذ الحياة كلها للاختبار، وليست مجرد فترة منها.
لأن البعض قد تمر عليه فترة ضعف مثلًا، ولكنها لا تدل علي طبيعة حياته كلها، وإنما هي فترة فتور أو سقوط، استقام بعدها ونما في النعمة. وربما تكون فترة البداية سيئة، مثل أوغسطينوس أو موسى الأسود أو مريم القبطية، ولكن تدخل التوبة وتغير مجرد الحياة كلها.. ذلك قال الرسول:
"أنظروا إلي نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم" (عب7:13).
إن الله يأخذ الحياة في جملتها، وبخاصة في نهايتها. لأنه في اختبار الإنسان يعطيه فرصة لتصحيح، أو فترة للنمو. ولا يأخذه فجأة في ساعة ضعف طارئة..!
وكل إنسان إجتاز الاختبار بما في تلك ذلك أبوانا الأولان.
اختبرهما الله بوصية تبدو بسيطة.. إنهما لا يأكلاون من ثمرة معينة. وهذه الوصية تبين مدي طاعة الإنسان، ومدي التزامه بالوصية، ونوعية القلب أمام الإغراءات والشهوة والحروب الخارجية..
المهم ليس في نوع الاختبار، غنما في موقف الإنسان منه.
آدم وحواء اختبر بالامتناع عن ثمرة، أمام أبونا إبراهيم فكان اختباره أصعب. أن يترك أهله وعشيرته وبين أبيه، ويخرج "وهو لا يعلم أين يذهب" (عب8:11). وكان الاختبار ألصعب من ذلك لطاعة أبينا إبراهيم هو تقديم ابنه محرقة للرب (تك22: 1، 2).
يوسف الصديق وداود اختبرا بالنساء.
واحد منهما كان أعزب، وضغطت عليه الحرب من الخارج بشدة، ومع ذلك نجح في الاختبار. والثاني كان متزوجًا وله عدد كبير من الزيجات، ومع ذلك فشل، وأضاف إلي خطيته مع المرأة خطايا أخري تبعت ذلك.
ولعل البعض يتساءل: لماذا سمح الله أن يدخل داود في اختبار يعرف مقدمًا أنه سوف يفشل فيه.
نقول إن هذا السقوط، كان سببًا لانسحاق داود واتضاعه.
حيث بكي طول عمره بسبب هذه السقطة، وبلل فراشه بدموعه (مز6) واتضع بسببها كثيرًا، وانتفع روحيًا.
ونقول أيضًا إن الله لم يجرب داود بذلك.
وكما يقول القديس يعقوب الرسول "لا يقل أحد إذا جرب: إني أجرب من قبل الله ولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته.." (يع14:13).
وكذلك بم يجرب الله يوسف بامرأة فوطيفار، إنما شر هذه المرأة كان اختبارًا له...
غن ظروفًا معينه تحدث في حياة إنسان، تكون اختبار له.
وقد يأتي الاختبار من حسد الشياطين وحيلهم.
وحدث ذلك في قصة أيوب الصديق، حينما اشتكي عليه الشيطان، وطلب أن يقع في بيديه، مدعيًا إن زالت نعمة الله عنه "فإنه في وجهه يجدف عليه" (أي11:1). وما أكثر الاختبارات التي يقع فيها الإنسان لحروب الشياطين ومؤامراتهم.
وقد يأتي الاختبار بسبب مضايقات من البشر.
برما تعيش امرأة مع زوج قاس متعب، وتصرخ إلي الله "يا رب لماذا تتركه يتعبني هكذا؟! وقد تكون إجابة الرب "مثل هذا الزوج هو اختبار لاحتمالك.. وإن نجحت في الاحتمال، أما تكسبين الزوج، أو علي الأقل تنالين أكاليل..
والأكاليل هي أحدي منافع الاختبارات..
وعلي راي أحد القديسين، الذي قال "لا يكلل إنسان إلا إذا انتصر. ولا ينتصر إلا الذي حارب"...

نفس الوضع نقوله بالنسبة للتلميذ أو طالب العلم، توضع له اختبارات. وهذه تبين نوع عقليته وذاكرته وجهده في تحصيل العلم. وبناء عليه يكافأ بالنجاح أو التفوق.. وفي كل نواحي الحياة ومجالات العمل، نجد اختبارات لكفاءة الإنسان ومقدرته...
وفي السماء يأخذ الإنسان الأكاليل المعدة للغالبين.
كما ورد ذلك في رسالة من رسائل الرب إلي الكنائس السبع. وقد سجل ذلك في سفر الرؤيا (رو3:2).
والاختبارات هي تقييم لحياة الإنسان وعمله وروحياته.
تبين صلابته أو ليونته، قوته أو ضعفه.. فإن فشل ينطبق عليه قول الوحي الإلهي "وزنت بالموازين فوجدت ناقصًا" (دا27:5). وهذا واضح في مثل البيتين..
البيت المبني علي الصخر، اختبرت صلابته الرياح والأمطار.
هبت كلها عليه فلم يتزعزع، وظل ثابتًا بعكس البيت المبني علي الرمل. لما صدمته الرياح وسقط عليه الأمطار، سقط وكان سقوطه عظيمًا.. هذه الرياح والأمطار كانت اختبار للبيت.. أظهرته علي حقيقته.
والله يعرف حقيقتنا دون أن يختبرنا...
فلماذا الاختبار إذن؟ وما حكمته؟
علي الأقل؟، بهذا الاختبار يعرف الإنسان ذاته، وأن سقط يعرف ضعفه. وإن عوقب لا يشتكي علي عدل الله. وإنما يقول مع اللص اليمين "نحن بعدل جوزينا" (لو41:23). وأيضًا إذا عرف ضعفه، يتضع ويحترس ويدقق فيما بعد...
وقد يكون اختبار الشخص الناجح درسًا لغيره.
إن الله كان يعرف قدرة أيوب احتمال الاختبار. فسمح بذلك لكي يعطي به درسًا للأجيال به نطوِّب الصابرين (يع11:5). وكان السيد المسيح يعرف تمامًا قدرة المرأة الكنعانية علي سماع كله صعبة (مت26:15). وأنها ستنجح في الاختبار، فسمح بذلك، وقال لها بعد إجابتها المنسحقة "عظيم هو إيمانك "وصارت بإجابتها درسًا لنا.
طرق للاختبار

1) قد يختبر الإنسان بنقطة ضعف فيه:

الشاب الغني كان يحفظ الوصايا منذ حداثته، وكان يشتاق إلي الحياة الأبدية ويسعي إليها،وعلي الرغم هم هذا، كانت فيه نقطة ضعف، وهي محبته للمال. وقد اختبر في هذه النقطة بالذات "اذهب وبع كل مالك وأعطه للفقراء" (مت21:19). فمضي حزينًا، وفضل في الاختبار...
ابحث إذن: ما هي نقطة الضعف التي فيك، التي تسقطك.
2) وقد يختبر الإنسان بأخذ شيء منه:

مثال ذلك أن يطالبك الرب بالعشور وبالبكور، ويري هل تدفع أم لا، وهل تتحايل علي الأمر؟ وهل تعتذر بأسباب؟ علي اقل هل تؤجل؟ وما هو مدي إلتزامك بالوصية.
وقد يختبرك بيوم الرب. هل تحفظه وتعطي وقتك للرب؟
3) وقد يختبر الإنسان بالأمراض:

كما حدث في تجربه ايوب (أي2). وكما حدث بالنسبة إلي بولس الرسول الذي قال "ولئلا أرتفع من فرط الإعلانات، أعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع" (2كو7:12).
ويري الله هل الإنسان يحتمل أم لا؟ هل يقبل أم يتذمر؟
4) وقد يختبر الإنسان بعدم استجابة الصلاة.

كما صلي بولس الرسول من أجل أن يخلصه الله من هذه الشوكة التي في الجسد. وقال "إلي الله تضرعت ثلاث مرات "ومع ذلك استبقي الله الشوكة في القديس بولس وقال له "تكفيك نعمتي" (2كو12: 8، 9). ولم يتذمر هذا القديس.
5) وقد يختبر الإنسان بتأخر الله عليه!!

أقصد ما يظنه هذا الإنسان تأخرًا... ويختبر الله هذا الإنسان ماذا يفعل؟ هل يلجأ إلي الطرق البشرية، مثلما لجأت سارة إلي هاجر، لما تأخر حبلها (تك2:16). ومثلما لجأت رفقة إلي حيلة بشرية لخدع إسحق، حتى يمنح البكوريةليعقوب (تك27). أم أن الإنسان لا يتعبه التأخر، ويستمر في اللجاجة، مثلما فعل إيليا النبي، لما صلي من أجل سقوط المطر، فلم يستجيب الرب إلا في الصلاة السابعة (1مل44:18). إذ استمر في صلاته ولم ييأس...
6) وقد يكون الاختبار بالاضطهاد أو سوء المعاملة:

كما اختبرت الكنيسة الاستشهاد الذي استمر من عهد نيرون إلي حكم ديوقلديانوس، أكثر من 250 سنة، بأقصى ألوان التعذيب... وصمدت الكنيسة في هذا الاختبار، ونجحت، فكوفئت بمرسوم ميلان سنة 313.
أما عن سوء المعاملة، فهو اختبار يحدث في محيط المجتمع، أو الأسرة، أو العمل، في جو الرؤساء أو الزملاء. ويري به معدن الإنسان...
7) وقد يكون اختبار إنسان عن طريق العتاب أو الصراحة:

فهناك أشخاص لا يحتملون العقاب ويثورون وينفعلون. وأشخاص لا يحتملون الصراحة، ويعتبرونها اتهامًا أو إهانة. وتظهر طبيعتهم التي كانت تخفيها عبارات المجاملة أو المديح. ولذلك قال أحد أصحاب أيوب له "أن امتحن أحد كلمة معك، هل تستاء؟" (أي2:4).
8) والإغراءات هي اختبار آخر للإنسان:

سواء كانت إغراءات جسدية، أو مالية، أو خاصة بالمناصب والألقاب، أو أية شهوة آخري يتعرض لها الإنسان. والشهداء لم يحاربوا بالتعدي بالتعذيب فقط، وغنما بالإغراءات أيضًا،
9) كذلك فإن النجاح والعظمة هي اختبار للإنسان.

هل يرتفع قلبه إن نجح في حياته؟ وهل يتعالي علي غيره؟ وهل يفقد تواضعه ام يبقي كما هو.. كما قال أحد الأدباء عمن ينجح في هذا الاختبار إنه "يكبر دون أن يتكبر، ويحتفظ بثباته في وثباته.. "
وقد فشلت هاجر في هذا الاختبار. فلما صار لها ولد، بل مجرد حبلت، صغرت مولاتها في عينيها (تك4:16).
10) المواهب أيضًا أختبار للإنسان:

أولًا كيف يستخدمها: هل في الخير أم الشر؟ كالذكاء مثلًا، والجمال والفن.. وثانيًا هل يرتفع قلبه بها؟ كما حدث أن التلاميذ في بعثتهم التبشيرية الولي، فرحوا بإخراج الشياطين، وقالوا للرب "حتى الشياطين تخضع لنا بإسمك" فوبخهم قائلًا "لا تفرحوا بهذا" (لو10: 17، 20).
هل يستخدمونها لبنيان الكنيسة (1كو5:14). لتبشير الأمم الذين لسان آخر.. ام يرونها مجالًا للظهور والافتخار والمجد الباطل.
11) من الاختبارات التي تتعرض لها البشرية التمدي (الـModernism):

فهل في زحمة التهافت علي التجديد، يحتقرون كل ما هو قديم، من غرف وتقاليد، بل من تراث مجيد، ويريدون أن يجدوا كل شيء بتحطيم كل التخم القديمة (أم22: 28). ويدخل (التجديد) حتى في اللاهوتيات والعقائد.
12) يدخل الاختبار أيضًا في المحبة:

وكما اقل القديس يوحنا الرسول "لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1يو18:3). إن بطرس الرسول قال للسيد المسيح: إن شك فيك الجميع فأنا لا اشك...
ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك.. (مت26: 33، 35). ولكن لما اختبرت محبته، أنكر وجدف، وقال "لا أعرف الرجل" (مت74:26).
وبنفس الوضع نختبر الطاعة، إذا تلقي الإنسان أمرًا لا يوافقه.
لأنك غن تلقيت أمرًا يوافق رغبتك وأطعته، وربما قد تكون نفذت رغبتك وليس المر الصادر إليك. أما إذا تلقيت أمرًا ضد رغبتك، فهنا تظهر الطاعة. وإذا غيرت رغبتك بسبب الأمر، ورأيت أن العكس هو النافع لك، تكون قد ارتفعت من مستوي الطاعة إلي التسليم..

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:26 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
الثمر في حياة البر والفضيلة

أهمية الإثمار

الحياة الروحية لابد أن يكون لها ثمر في حياتنا،بل وفي حياة الآخرين أيضًا.
وقد اهتم الرب بهذا الثمر فقال "أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام. كل غصن في لا يأتي بثمر ينزعه. وكل ما يأتي بثمر، ينقيه ليأتي بثمر أكثر.. أنا الكرمة وأنتم الأغصان.
ووصية الإثمار موجودة من بدء الخليقة. إذ قال الرب:
"أثمروا وأكثروا، واملأوا الأرض" (تك28:1).
وأم كانت هذه الآية تتعلق بالإثمار الجسدي، أي التوالد، إلا أنها من الناحية الرمزية يمكن أن نتناولها بمعني روحي.. كأنها دعوة إلي المؤمنين أن يثمروا روحيًا، ويكثر عملهم الروحي حتى يملأ الأرض..
وفي قصة الخليقة يقول سفر التكوين أيضًا أن تنبت الأرض "شجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه"، "شجرًا يعمل ثمرًا بذره فيه كجنسه" (تك1: 11، 12).
إذن ينبغي أن يكون كل منا شجرة مثمرة في جنة الرب، شجرة ذات ثمر تصنع ثمرًا بذره فيه كجنة..
ومادمنا أشخاصًا روحيين، إذن لابد أن يكون ثمرنا روحيًا. وليس جسديًا. فالكتاب يقول "من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا. ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد حياة أبدية" (غل8:6).
وهكذا يحدثنا الكتاب عن ثمر الروح.
فيقول "وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف" (غل23:22).
ويشدد الكتاب علي أهمية الثمر، وعقوبة من ل يثمر، فيقول:
"كل شجرة لا تصنع، تقطع وتلقي في النار".
هذا قاله السيد المسيح في العظة علي الجبل (مت 19:7). ونفس الكلام قاله أيضًا يوحنا المعمدان: والآن قد وضعت الفأس علي أصل الشجرة. فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقي في النار" (مت10:3).
ولقد لعن الرب شجرة التين التي ليس فيها ثمر (مت19:21).
الثمر الجيد

شدد الرب علي أهمية الثمر الجيد" أجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدًا"، "لأن من الثمر تعرف الشجرة" (مت33:12). وقال:
"من ثمارهم تعرفونهم" (مت20:7).
كل شجرة جيدة تصنع أثمارًا جيدة. وأما الشجرة الرديئة فتصنع أثمارًا رديئة. لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا رديئة ولا شجرة رديئة أن تصنع أثمارًا جيدة" (مت7: 17،18). لأنهم لا يجتنون من الشوك تينًا، ولا يقطفون من العليق عنبًا" (لو6: 43،44).
إذن يا أخي، انظر ما هو نوع ثمرك؟ وما مقدراه؟
قال الرب عن الأرض الجيدة إنها "أعطيت ثمراُ: بعض مئة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين" (مت8:13). من تواضع الرب أنه ذكر الثمر الذي أعطي ثلاثين..! طوبه لأنه ثمر، ولو انه قليل. إذن لابد أن تعطي ثمرًا ولو قليلًا.....
وماذا الرب إن وجدك تعطي ثمرًا ولو كان قليلًا؟! يقول إنه:
"ينقيه ليأتي بثمر أكثر" (يو2:15).
إذن لا أن تكون أرضك جيدة، وتعطي ثمرًا. وماذا؟ يقول الرب "أنا اخترتكم وأقمتكم، لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم" (يو16:15). ومع داود هذا الثمر، ينقيه الرب ليأتي بثمر ليأتي بثمر أكثر..
إذن ينبغي أن يكون لك ثمر دائم، غير منقطع.
وما اشبع الصورة التي رسمها القديس يهوذا غير الأسخريوطي إذ قال "أشجار خريفية بلا ثمر ميتة" (يه12). فاعتبر أن الشجرة التي بلا ثمر هي شجرة ميتة.. ولقبها بشجرة خريفية، اي من النوع الذي يتساقط ورقة في الخريف.
ولذلك حسنًا قيل عن الشجرة الجيدة في المزمور الأول:
"تعطي ثمرها في حينه، وورقها لا ينتثر" (مز3:1).
"في حينه" أي لا يتأخر في إعطاء الثمر، أو في حينه بمعني أن يعطي الثمر في وقته المناسب.. ولماذا وصف الشجرة بهذا الوصف الجميل؟ يقول: لأنها "مغروسة علي مجاري المياه".. وهنا نتحدث عن عوامل الإثمار:
عوامل الإثمار

1) لكي تعطي الشجرة ثمرًا، لابد أن تكون الأرض جيدة.

وهذا ما قاله الرب في مثل الزارع، فقال عن البذار، فقال عن البذار "وسقط البعض علي أرض جيدة فأعطي ثمرًا.. (مت8:13). فلا تكون الأرض محجرة، علي الطريق، ولا مملوءة بالأشواك، ولا ضحلة بغير عمق، كما ورد في المثل.
فالكلام الذي قال الرب للشاب الغني، لم يقع علي أرض جيدة، وإنما علي نفسية محبة للمال، لذلك سمع الشاب الكلام "ومضي حزينًا" (مت22:19). بينما نفس العبارة سمعها في الكنيسة شاب آخر غني، ولكن أرضه جيدة، فمضي وباع أملاكه ووزع علي الفقراء. وصار له ثمر كثير.. عشرات الآلاف من الرهبان، ومن النساك تبعوا طريقة، وسلكوا مثله، لأن بذره كان يصنع ثمرًا كجنسه (تك11:1).

الأرض الطيبة تعني أن الإنسان يميل إلي الخير بطبيعته، يقبل كلمة الرب بفرح وباستعداد للعمل، ويعطي ثمرًا. أما الأرض المحجرة فتمثل القلب القاسي الذي لا يتأثر بسرعة، وربما لا يتأثر إطلاقًا، مهما سمع من عظات، ومهما قرأ من كلام روحي لذلك يقول الرسول عن نداء الله في القلب "إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" (عب3: 7، 8).
الأرض الطبية تكون من الداخل غير محجرة. ومن الخارج لا تحيط بها الأشواك وتخنق زرعها.
سليمان الحكيم كان أرضًا طيبة. ومع ذلك أحاطت به الأشواك. أعني زوجاته الأجنبيات غير المؤمنات اللائن "أملن قلبه وراء آلهة أخري"، فلم يعد قبله كاملًا أمام الرب. وأخطأ كثيرًا، وأقام مرتفعات لآلهة الأمم" (1مل11: 4-8).
وشمشون في أول حياته "ابتدأ روح الرب يحركه" (قض25:13). وحل عليه روح الرب (قض6:14). ثم أحاطت الأشواك بهذه الأرض الجيدة أعني صاحبته دليلة، حتى فقد نذره، وقص شعره، وقلعوا عينيه وصار يطحن في بيت السجن (قض21:16). وقبل وقتذاك "إن الرب قد فارقه" (قض20:18).
2) ومن عوامل الإثمار أن يتمتع الشجر بالغذاء والري.

ومن أمثلة هذا الغذاء، ما قيل عن الشجرة التي لم تصنع ثمرًا ثلاث سنوات "أتركها هذه السنة أيضًا، حتى أنقب حولها وأضع زبلًا، فإن صنعت ثمرًا، وإلا ففيما بعد تقطعها" (لو13: 8، 9). والزبل هو من أجود أنواع السماد البلدي... أن كل إنسان يحتاج إلي غذاء روحي لكي يثمر...
والأغذية الروحية اللازمة للإثمار كثيرة ومنها:
قراءة الكتاب المقدس والكتب الروحية، كلمة اله التي يحيا بها الإنسان (مت4:4). كذلك التأملات الروحية والتداريب الروحية، والصلاة والتناول من سر الإفخارستيا المقدس.. لقد قيل عن الشجرة التي لا تعطي ثمرها في حينه.
"إنها مغروسة علي مجاري المياه.. والماء يمثل عمل الروح القدس في القلب (يو38:7). إنه الماء الحي الذي يروي النفس.
إذن لكي تثمر لابد من عمل الله فيك.
لابد من ثباتك في الله، كما يثبت الغصن في الكرمة،ولهذا قال السيد الرب "كما إن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته، إن لم يثبت في الكرمة، كذلك انتم أيضًا إن لم نثبتوا في"، "الذي يثبت في وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير، عن كان احد لا يثبت في، يطرح خارجًا كالغصن، فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق (يو15: 4- 6).
تثبت في الله معناها ان تثبت في محبته (لو9:15). ومعناها أيضًا أن تشترك مع روحه في العمل، فتدخل في شركة الروح القدس (2كو14:13).
فهل حياتك الروحية مغروسة علي مجاري المياه؟
وهل باستمرار تمتص من الله الماء الحي (ار2)؟
هل تأخذ من الماء الحي الذي وعد به المرأة السامرية؟ (يو4: 10،11) هذا الماء الذي "ينبع إلي حياة أبدية"..
هل أنت مستمر علي غذائك الروحي، لا ينقطع عنك بل تنمو به نفسك.. وماذا أيضًا:
3- لكي تعطي الشجرة ثمرًا، لابد أن تمنع عنها الآفات.

سواء الآفات البشرية أو الأعشاب المتطفلة المؤذية، أو الأمراض الزراعية. وهكذا تنتقي الأرض ويتبقي الشجر، فيثمر ولا يتلف ثمره..
افحص نفسك، ما هي الآفات التي تعطل ثمرك الروحي؟ وهل أنت تلاحظ نفسك وتحرص ان تنتقي باستمرار من هذه الآفات: سواء كانت أخطاء روحية أو نفسية أو فكرية، أو عادات مسيطرة عليك، أو صداقات تجرك إلي اسفل..
وتذكر قول الشاعر:
متى يبلغ البنيان يومًا إذا كنت تبنه وغيرك يهدم
ما فائدة أن تعطي أرضك الطيبة غذاءها الروحي، ثم يأتي الطير فيلتقط ثمرها، أو تحل عليه لطع تفسد الثمر، أو تدخل الديدان فتأكله أو تتعرض لقول الكتاب: أن المعاشرات الرديئة تفسد الجيدة (1كو33:15).
فهل تتعرض إلي عثرات تفسد كل تأثيراتك الروحية؟
** لابد أن تموت نفسك عن كل أمور العالم. وكمل يقول الكتاب عن حبة الحنطة أنها "إن ماتت تلتي بثمر كثير" (يو24:12).
ثمار متعددة

هناك أنواع كثيرة من الثمر في حياة الإنسان: بعضها نافع له والبعض غير نافع...
هناك ثمر عقلاني، مجرد فكر يعمل، وله إنتاج فكري، ولا علاقة له بالروح، وليس له ثمر في حياة الإنسان الروحية وهناك ثمر إجتماعي: إنسان دائب العمل داخل المجتمع ومشاكله. وقد يكون لهذا النشاط الاجتماعي ثمر في حياته وقد لا يكون.
وهناك ثمر روحي، وهو بروجك، أو بعلاقتك بالله، أو بعلاقتك بالناس:
فالخاص بعلاقتك بالله هو المحبة والإيمان.
والثمر الخاص بك هو الفرح والسلام والصلاح.
والثمر الخاص بعلاقتك بالناس هو الوداعة والتعفف واللطف، وكل الأناة، والمحبة أيضًا. كل هذه ثمار روحية (غل5: 22، 33). إذا ظهرت في حياتك يعرفك الناس بها..
وهذه الثمار يسمونها أحيانًا ثمر البر.
وعن هذه يقول الرسول "لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة إلي ويوم المسيح، مملئين من ثمر البر الذي بيسوع المسيح لمجد الله" (في1: 10، 11). ويقول الكتاب "وثمر الروح يزرع في السلام" (يع18:3).
ومن ثمر البر، ثمار التوبة، كما قال المعمدان:
"اصنعوا ثمارًا تليق بالتوبة (مت8:3).
وثمر التوبة يظهر في انسحاق القلب وفي الدموع، كما قيل في المزمور الخمسين. "القلب المنسحق والمتواضع لا يرذله الله". وكما قيل أيضا "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج" (مز125). ومن ثمار التوبة الحرارة الروحية، والعمل علي إصلاح الأخطاء الماضية والشفقة علي المخطئين وعدم إدانتهم (عب3:13). وبهذه الثمار وأمثالها، لا يعود التائب يرجع إلي الوراء.
ومن الثمار الروحية أيضًا ما قال عنه القديس بولس الرسول إن الرب: لم يترك نفسه بلا شاهد. وهو يفعل خيرًا. يعطينا من السماء أمطارًا، وأزمنة مثمرة، ويملًا قلوبنا طعامًا وسرورًا" (أع17:14). إذن الأزمنة القاحلة هي الخالية من كل خير. أما المثمرة فهي المملوءة بالعمل الصالح.. البعيدة عن أعمال الظلمة غير المثمرة (أف11:5).
ومن الثمار الروحية ثمر الخدمة في كسب النفوس إلي الرب.
أتراك يا أخي لك ثمر في خدمتك، وثمر كثير يفرح به الرب، كما يقول الرسول "من رد خاطئًا عن طريق ضلاله، يخلص نفسًا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا" (يع20:5).أعلم إذن أن كل نفس تخلصها، تكون ثمرة في شجرة حياتك تقدمها حلوة إلي الله....
وهي ثمرة لمجد الله، كمل قال الرب "بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير، فتكونون تلاميذي" (يو8:15). بل حتى حياتنا الروحية وأعمالنا الصالحة، يكون ثمرها تمجيد الله أيضًا، كما قال الرب أيضًا: لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت16:5).
أن الكلمة الطيبة، كلمة المنفعة أو كلمة التسبيح، يسميها الكتاب ثمر الشفاه.
فيقول "فلتقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه" (عب15:13). فما هي الثمار التي تقدمها شفتاك للرب. كما يقول الكتاب "الصديق ينبوع حياة" (أم:11:10). "فم الصديق ينبت الحكمة" (ام31:10).
ومن أمثلة الثمار في الخدمة، أرسل القديس بولس الرسول إلي أهل رومية يقول لهم قصدت مرارًا كثيرة أن آتى إليكم.. ليكون لي ثمر فيكم أيضًا كما في سائر الأمم" (رو13:1).
أخيرًا يا أخوتي، أن الثمر بركة من الرب.
كما قال الرب لمن يطيع وصاياه "مباركة تكون ثمرة أرضك، وثمرة بطنك، وثمرة بهائمك: نتاج بقرك وإناث غنمك" (تث4:28). ويقول في المزمور "إمرأتك مثل كرمة مثمرة في جوانب بيتك" (مز3:128).
حقًا إنها بركة من الرب، ولكنها بسبب رضاه. ورضا الله بسبب حياة الإنسان الصالحة المقبولة أمامه. فلنسك إذن حسنًا قدامه، لكيما يعطينا ثمرًا في حياتنا الروحية، وثمرًا في خدمتنا.. يعطينا ثمر الروح القدس العامل في أرواحنا البشرية هذا الذي شرحه القديس بولس الرسول في (غل23:22).

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:29 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
أكاليل لمكافأة حياة الفضيلة والبر

حياة الفضيلة والبر، هي حياة جهاد مع النفس، وجهاد ضد المادة والعالم والشيطان.
والغالبون أو المنتصرون يكللون في الأبدية بأكاليل...
والسيد المسيح في رسائله إلى الكنائس السبع التي في آسيا، يقول لملاك كنيسة فيلادلفيا "تَمَسَّك بما عندك، لئلا يأخذ أحد إكليلك" (رؤ11:3). ونوم اليوم أن نتحدث عن هذه الأكاليل.. ليكما تسأل نفسك أي إكليل ستحصل عليه، أو أية كاملة...
أكليل البر

يقول القديس بولس الرسول "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الديان العادل. وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا" (2تي8:4).
فما هو إكليل البر هذا؟ ما معني أن نتكلل بالبر؟
معناه أننا نحيا في البر الدائم. لا نعود نخطئ. تتكلل طبيعتنا البشرية بالبر، فتنتهي علاقتها تمامًا بالخطية. ونصير كالملائكة الذين جازوا فترة الاختبار وانتصروا، فتكللت طبيعتهم بالبر، وما عادت تخطئ، بعكس الشياطين الذين سقطوا ومازالوا يخطئون.
الأبرار في الأبدية، ليسو فقط لا يقعون في خطية، إنما حتى مجرد معرفة الخطية تزول من ذاكرتهم تمامًا.
كان آدم في الفردوس بارًا. وكان بسيطًا طاهرًا لا يعرف شرًا، وكذلك حواء ولكنهما لما أكلا من شجرة معرفة الخير والشر، تعكر صفو الطبيعة البشرية، وبدأت تعرف الشر، ثم تطورت إلي أن صارت تشتهي الشر، ودخلت محبة الخطية إلي النفس البشرية. فهل ستظل الخطية قائمة أو سائدة إلي الأبد؟ طبعًا لا.
الأبرار في الأبدية، ستنتهي علاقتهم بالخطية. سوف لا يعرفون سوي الخير فقط وتنتهي الخطية من معرفتهم ومن ذاكرتهم ومن عقولهم.
يعود المنتصرون إلي البساطة الأولي التي كانت للبشرية حينما كانت علي صورة الله ومثاله، قبل الخطية. بل يصيرون في بساطة ونقاوة أمس من حالة آدم وحواء.. وأبوانا الأولان كان في حالة بساطة كاملة ونقاوة كاملة. ولكن معها حرية قابلة للسقوط...
أم حرية الأبرار في الأبدية، فهي حرية غير قابلة للسقوط. إنها "حرية مجد أولاد الله" (ور21:8).
لأ، الخليقة "ستعتق من الفساد"، وتتكلل بالبر.
هذا العتق من الفساد، يشمل القلب والفكر والإرادة، يشمل الحياة كلها.. وبالبر نحيا في المتعة بالله باستمرار. هنا إكليل آخر وهو:
إكليل الحياة:

إنه الذي وعد به السيد المسيح ملاك كنيسة سميرنا، حينما قال له "كن أمينًا إلي الموت، فسأعطيك إكليل الحياة" (رو10:2).
إكليل الحياة يعني أن يحيا الإنسان إلي الأبد، ويحيا في الرب. ففي الأبدية تنتهي الخطية، وينتهي أيضًا الموت.
وكما قال الرسول في الإصحاح الخاص بالقيامة "آخر عدو يبطل هو الموت" (1كو26:15). وهذا طبيعي، لأنه مادامت "أجرة الخطية هي موت" (رو23:6). فحينما تبطل الخطية في الأبدية، يبطل معها الموت.
ولا يعني (إكليل الحياة) مجرد الخلود، أو الحياة الدائمة، التي يشتهيها الكل ولا يعني فقط مجرد انتهاء الموت، الذي يخافه كل إنسان مهما علا قدره في العالم.
إنما إكليل الحياة، يعني أيضًا الحياة في الله، ومعه. لأن "فيه كانت الحياة" (يو4:1). وهو الذي قال "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي لو مات فسيحيا" (يو25:11). حقا ما أجمل قول الرسول "لي الحياة هي المسيح" (في20:2).
حقًا، أن الحياة في الأبدية، حياة غير عادية، إنها إكليل.
كيف تكون هذا الحياة؟ هذا سر لم يعلن لنا بعد. إنها "ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر علي بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه" (1كو9:2).
أنها حياة اللذين تعبوا هنا واحتملوا. يقول في ذلك معلمنا يعقوب الرسول "طوبي للرجل الذي يحتمل التجربة. لأنه إن تزكي ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب الذين يحبونه" (يع12:2).
إذن إكليل الحياة، هو للذين يحيون الرب.
الذين كانوا من أجل محبته يسلمون دائما للموت، والموت يعمل فيهم (2كو4: 11،12). ولكنهم بالموت ههنا من اجله، يحيون معه إلي الأبد.. ولن تمح أسماؤهم من سفر الحياة (رؤ5:3). بل يأكلون من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله (رؤ7:2).
إكليل المجد:

في الواقع إن الله حينما خلق الإنسان، إنما خلقه للمجد، فجعله علي صورته، وجعل له سلطانًا علي الطبيعة (تك26:1). وعن هذا قال المزمور "بالمجد والكرامة كللته، وعلي أعمال يديك أقمته، أخضعت كل شيء تحت قدميه" (عب2: 7،8)، (مز5:8). فكانت لآدم خشية علي كل الكائنات وهكذا كان نوح أيضًا في الفلك.
الإنسان فقد كرامته بالخطية. ولكن الله في الأبدية، سيرة إلي رتبته الأولي يعيد إليه الصورة الإلهية، ويكلله بالمجد.
قد يتعرض البعض ويقول "المجد لله وحده". ونحن نقول في صلواتنا "لأن لك المجد والقوة..(فنجيب: أن مجد الله شيء آخر، مجد غير محدود، ولا ينطق به. وعم ان الله له المجد، إلا أنه من محبته للإنسان، منحه أيضًا مجدًا: "الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم. وهؤلاء دعاهم أيضًا، وبررهم، ومجدهم أيضًا" (رو30:8). بل ما أروع وأجمل قول السيد المسيح لله الآب:
"وأنا أعطيهم المجد الذي أعطيتني" (يو22:17).

نعم، إن كنا نتألم معه، فلكي نتمجد أيضًا معه" (رو17:8). وفي ذلك يقول الرسول "إن الآم الزمان الحاضر، لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا" (رو18:8). "لأن خفة ضيقتنا الأرضية، تنشي لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا" (2كو17:4).
كان عربون هذا المجد علي جبل التجلي (مر9: 3-5).
وهناك أيضًا مجد القيامة ومجد الابدية.
فعن القيامة يقول الرسول "نزرع في هوان، ونقام في مجد". ويشرح ذلك بأن الجسد سيقام جسدًا روحيًا، وجسدًا سماويًا (1كو15: 43، 50). "علي صورة جسد مجده" (في 21:3). ويقول القديس بطرس الرسول للرعاة "ومتي ظهر رئيس الرعاة، تنالون إكليل المجد الذي لا يبلي" (1بط4:5)،ويقول الكتاب أيضًا "الفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلي البر، كالكواكب المجد الذي لا يبلي" (1بط4:5). ويقول الكتاب أيضًا "الفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلي البر، كالكواكب إلي أبد الدهور" (دا3:12). ويشبه الأبرار في السماء بالنجوم ويقول "لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد" (1كو41:15).
ومن المجد الذي يهبه الله لمحبيه، أنهم يجلسون علي عروش معه في مجده!
قال لرسله القديسين "متى جلس أبن الإنسان علي كرسي مجده، تجلسون انتم أيضًا علي أثني عشر كرسيًا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (مت28:19). والقديس يوحنا في رؤيا، رأى عرش الله "وحول العرش أربعة وعشرين عرشًا، ورأى عليها أربعة وعشرين قسيسًا جالسين متسربلين بثياب بيض، وعلي رؤوسهم أكاليل من ذهب" (رؤ4:4). أي أكاليل مجد هذه؟! ولكن لئلا يظن البعض أن هذا المجد هو للرسل فقط ومن فم مستواهم، هوذا الرب يقول:
"من يغلب، فسأعطيه أن يجلس معي في عرش، كما غلبت أنا، وجلست مع أبي في عرشه (رؤ21:3).
وهذا المجد سيكون في المجئ الثاني حينما يأتي الرب "علي سحاب السماء بقوة ومجد كثير" (مت30:24)." وجميع الملائكة القديسين معه" (مت31:25). وليس مع هؤلاء فقط، بل سيأتي "في ربوات قديسيه" (يه14). والقديسون سيلبسون ثيابًا بيضًا (رؤ9:3). رمزًا لبرهم...
حقًا عن مجد الأبدية قال المرتل "وبعد مجد تأخذني" (مز24:73). وماذا غير إكليل المجد؟!
إكليل البهاء (الجمال)

الذين لم ينالوا جمالًا علي الأرض، سينالون في الأبدية.
ففي الأبدية كل شيء جميل.. جمال في الجسد الروحاني النوراني السماوي، وجمال في الروح أيضًا - وليس فقط في الأبدية، بل حتى علي الأرض. يقول الرب للخاطئة أورشليم في عمل نعمته معها "وضعت تاج جمال علي رأسك. فصلحت لمملكة. وخرج لك اسم لجمالك، لأنه كان كاملًا. ببهائي الذي جعلته عليك، يقول السيد المسيح" (خر16: 12، 13).
ما أعجب أن بهاء الله، يجعله علي إنسان.
وعل هذا يذكرنا بعبارة، عجيبة قالها أشعياء النبي "في ذلك اليوم يكون رب الجنود إكليل جمال، وتاج بهاء، لبقية شعبه" (أش5:28). ولعله يذكرنا بالثياب التي امر الرب بصنعها لهارون رئيس الكهنة، إذ قال لموسى النبي "اصنع ثيابًا مقدسة لهرون أخيك للمجد والبهاء" (خر2:28). وكذلك لبنيه "تصنع لهم قلانس للمجد والبهاء" (خر40:2). ماذا أيضًا غير إكليل المجد والبهاء..
أكاليل أخرى

لعل شخصًا كبولس الرسول قد تحلي بأكاليل: منها إكليل الرسولية، وإكليل الكهنوت، وإكليل البتولية، وإكليل الجهاد، وإكليل الشهادة، وبالإضافة إلي أكليل البر.
أن القديس بولس الرسول يعتبر خدمته إكليله.
فيقول لشعبه في فيلبي "يا سروري وإكليلي" (في1:4).
ولعل أول إكليل يناله الإنسان يكون في المعمودية،
حينما يخرج منها في بر، وقد لبس المسيح (غل27:3). وهكذا يلبس أكاليل فضه، وأكاليل حجر كريم، وضعها الرب علي المعمدين الأطهار...
أن أجمل إكليل قد لبس، هو أكليل الشوك الذي لبسه السيد المسيح له المجد (مز17:15).
وبهذا الإكليل في الألم والبذل، يمنحنا كل الأكاليل الأخرى.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:35 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
فضائل، ولكنها وحدها لا تكفي

أحيانًا يقول البعض: أنني أصوم واصلي، وأعترف وأتناول، واقرأ الكتاب المقدس والكتب الروحية، وأخدم وأتصدق، واسلك في فضائل كثيرة.. ومع ذلك فحياتي الروحية متوقفة لا تنمو...! فلماذا؟
لعلها فضائل ناقصة. تنقصها صفة جوهرية.
أما ناقصة في طبيعتها أو في هدفها، أو تنقصها فضائل أخري يجب أن ترتبط بها..
وعلي هذا الأساس، سنتناول فضائل كثيرة ونحللها..
الصوم

في فترة الصوم: كثيرًا ما يقول الواحد ما: صمت هذا الصوم سنوات عديدة، كما صمت غيره في الأصوام أيضًا. ومع ذلك حياتي كما هي! لماذا إذن لم استفد من الرب (مت21:17). ولكن اي صوم تصوم أنت؟
ربما تظن أن الصوم هو صوم الجسد. وربما تظن أن الصوم هو الامتناع عن الأكل!
ولكن الإمتناع عن الطعام وحده لا يكفي. إن الزهد في الطعام هو الأهم.
الزهد هو الذي يدل علي إرتفاع القلب فوق مستوي المادة، وفوق مستوي الأكل، وهذا هو الأهم، وهو المفيد لك روحيًا.. لأنك بهذا تدخل في روحانية الصوم.
وصوم الجسد وحده لا يكفي، لابد أن يصحب الصوم بصوم النفس.
لابد أن تصوم فكرك عن الأخطاء، وتصوم قلبك عن المشاعر والعواطف الردية، وكذلك تصوم لسانك عن الكلام الباطل.
ومع ذلك فكل الفضائل في الصوم لا تكفي. إنها تمثل فقط العنصر السلبي من الصوم، وهو البعد عن أخطاء الفكر واللسان والقلب وشهوات النفس.
صوم الجسد والنفس لا يكفي. لابد أن يضاف إليه غذاء الروح.
ولذلك نقول في صلوات القداس الإلهي "الصوم والصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين، وليس الصوم وحده. أننا نصوم لكي نخرج من نطاق الجسد والمادة، وندخل في نطاق الروح.. فيجب أن نعطي الروح فرصتها أثناء الصوم. ويجب أن نعرف حقيقة هامة وهي:
الصوم ليس فضيلة للجسد، إنما هو فضيلة للروح.
ننتقل بعد هذا إلي مثال، وهو:
الصلاة فضيلة من أهم الفضائل، حتى أن كثيرًا من القديسين تفرغوا لها.. ولكن ما هي الصلاة في مفهومك؟ أترها مجرد الكلام مع الله؟!
إن الكلام مع الله وحده لا يكفي.
فهناك خصائص روحية، إن لم ترتبط بالصلاة، فالصلاة، وحدها لا يكفي! ينبغي أن يضاف إلي الصلاة عنصر الحب، كما قال داود النبي "محبوب هو إسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي" (مز119). "باسمك أرفع يدي، فتشبع نفسي كما من شحم ودسم" والصلاة بغير حب ليست صلاة،
وهي غير مقبولة من الله الذي قال "هذا الشعب يكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عن بعيدًا" (مر6:7).
يجب أن تضاف مشاعر كثيرة للصلاة، لأنها وحدها لا تكفي.
الحب، والخشوع، والفهم، والحرارة، والإيمان.. وكذلك أيضًا نقاوة القلب، لأن "صلاة الأشرار مكرهة للرب "كما يقول الكتاب. وقد قال الرب لبني إسرائيل ايام أشعياء النبي "حين تبسكون أيديكم، استر وجهي عنكم. وإن أكثرتم الصلاة، لا أسمع. ايديكم ملآنة دمًا (أش15:1).
إذن الصلاة وحدها لا تكفي، بدون نقاوة القلب.
ولا يقل إنسان "أنا اصلي "ويظن أن الصلاة مجرد ألفاظ!
الاعتراف

الاعتراف بالخطية فضيلة، وله فوائده الكثيرة، روحيًا وعقائديًا.. ومع ذلك الاعتراف وحده لا يكفي، إذ ليس هو مجرد سرد للخطايا في سمع الأب الكاهن وفي كلمات الصلاة....
ينبغي أن يضاف إلي الاعتراف عنصر الندم والخزي.

مثلما فعل العشار الذي وقف من بعيد، لا يجسر أن يرفع عينيه نحو السماء وقرع صدره قائلًا: ارحمني يا رب فإني خاطئ (لو13:18). لذلك خرج مبررًا. إن بطرس الرسول بعد خطيته بكي بكاء مر (مت75:26) وداود النبي بلل فراشه بدموعه (مز6). وأنت هل تعترف بعين جافة، ولا ندم. أنظر إلي دانيال وهو يقول "لك يا سيد البر. أما لنا فخري الوجوه.. لنا خزي الوجوه.. لأننا أخطأنا إليك" (دا9: 7،8).
كذلك فالإعتراف وحده لا يكفي، إن كان بلا توبة.
لذلك سر الاعتراف في الكنيسة يسمي سر التوبة.
يمارسة الإنسان بروح التوبة، بعزيمة صادقة أنه لا يعود إلي الخطية مرة أخري باذلًا كل جهده في ضبط نفسه وفي البعد عن كل أسباب الخطية وعثراتها.
وفي إعترافه يحاول أن يصلح نتائج خطيته.
مثلما قال زكا العشار في أعترافته توبته: إن كنت ظلمت أحد في شيء، ارد أربعة أضعاف" (لو8:19).
وهكذا لا يقتصر الاعتراف علي الماضي، وإنما يتدرج للعمل بكل جده من اجل المستقبل.
والاعتراف مفيد إن كان مصحوبًا أيضًا بالإتضاع.
إنسان معترف بخطيئته، يعامل نفسه كخاطئ، وبغير مستحق. لا يرتفع علي غيره ولا يتعالي، لأنه عارف بضعفه وبأنه أيضًا خاطئ. ولا يعود يفتخر في المستقبل، لأنه يذكر ماضيه. ويصنع خطيئته أمامه في كل حين (مز50). ويحتمل كل ما يأتيه، لأنه معترف بخطيئته وشاعر بأنه يستحق كل جزاء.. مثلما حدث لداود النبي لما شتمه شمعي بن جيرا، وسبه باسلوب جارح.. فقال هذا النبي العظيم المعترف بخطيئته: "الرب قال له سب داود" (2صم10:16).
من كل هذا يبدو أن الاعتراف وحده لا يكفي.
فرعون قال اكثر من مره "أخطأت" ولكن بلا توبة.
قال لموسى وهرون "أخطأت إلي الرب إلهكما وإليكما. والآن اصفحا عن خطيئتي هذا المرة فقط.." (خر16:10). وقال قبل ذلك "أخطأت هذه المرة. الرب هو البار، وأنا وشعبي الأشرار" (خر27:9).
ولكنه كان اعترافا بلا توبة، وبلا رجوع إلي الحق. وظل قلبه قاسيا وهلك..
القراءة

القراءة في الكتاب المقدس والكتب الروحية لها تأثيرها الكبير في اللقب. وهي فضيلة نافعة، لأنها واسطة من وسائط النعمة.
فالقراءة وحدها لا تكفي، لا فهم لا روح ولا تطبيق.
فالمفروض أن الإنسان الروحي يقرأ بعمق، ويدخل إلي روح الكلمة ويحولها إلي حياة، كما قال الرب "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو63:6)،لذلك لكي تكون القراءة الروحية نافعة، ينبغي أن ترتبط بالممارسة العملية والتدرايب الروحية، ولا تكون مجرد معلومات، أو مادة للوعظ أو التباهي بالمعرفة، أو لمجرد الدراسة. وإنما الإنسان يقرأ، ويطبق علي نفسه ويجعل القراءة تكشف له أخطاءه، وتحثه علي تركها..
العطاء

العطاء فضيلة جميلة، بسببها قال الرب لكثيرين "تعالوا يا مباركي ابي، رثوا الملك المعد لكم.. لأني كنت جوعانًا فأطعمتموني، عطشانًا فسقيتموني عريانًا فكسوتموني.."(مت25: 34، 35). ومع ذلك فالعطاء وحده لا يكفي. لماذا؟ لابد أن تمتزج العطاء بالفرح، ولا يكون بتذمر. كقول الكتاب:
"المعطي المسرور يحبه الرب" (2كو7:9).
لأن كثيرين يعطون عن اضطرار، ويدفعون العشور بتضرر...!
كذلك ينبغي أن يكون العطاء في الخفاء, أن يعطي الإنسان بسخاء. ولا يقتصر في عطائه علي ما يفضل عنه، أو يعطي فقط الأشياء المرفوضة.
وتظهر فضيلة العطاء، أن كان الإنسان يعطي أفضل ما عنده. أو يعطي من أعوازه.
كما أعطيت الأرملة من أعوازها، فأمتدحها الرب (مز44:12).
وكما قدم هابيل محرقة من أبكار غنمه ومن سمانها (تك4:4). كذلك يشعر في عطائه أنه سيعطي المسيح، ويقول له في عطائه "من يدك أعطيناك (1أي14:29).
والعطاء بغير هذه المشاعر كلها، يكون فيه نقص كفضيلة.
الإيمان

يظن البعض أن الإيمان كل شيء، ويقتصر علي مجرد الإيمان النظري أو الإسمي بالمسيح. ولا يفيده هذا الإيمان كثيرًا، كما قال القديس يعقوب الرسول:
"إيمان بدون اعمال ميت" (يع2: 17، 20).
وأيضًا قال القديس بولس الرسول "أن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، وليست لي محبة، فلست شيئًا" (1كو2:13). فماذا ينتفع الإنسان إن كان له إيمان بدون ثمر؟!. أن كان إيمانه غير عامل بالمحبة؟! (غل6:5).
لا يخلصك مجرد الإيمان بالمسيح، إنما بالأكثر أن يحيا المسيح فيك.
وفي ذلك تترنم مع القديس بولس قائلًا "لكي أحيا لا أنا بل المسيح في" (غل20:2).
نؤمن بالمسيح، هذا حسن جدًا، ولكنه لا يكفي. بل ينبغي أن تتبعه، وكما يلك ذاك، تحاول أن تسلك أنت أيضًا (1يو6:2). ويكون لك شركة معه، وتتناول من جسد ودمه، وتموت وتقوم معه، وتكون لك أيضًا شركة مع الروح القدس. وتسلمه حياتك حتى يعمل هو فيك، ثم تنظر إلي كل ما عمله فيك.
أنا الرب من ذاتي لم اعمل شيئًا. وإنما كل شيء بك كان، وبغيرك لم يكن شيء مما كان (يو3:1).
العبادة

العبادة فضيلة بلا شك. ولكنها وحدها لا تكفي، إن كانت بعيدة عن الله، ولا تصدر عن نقاوة قلب. وقد وبخ الرب شعبه علي هذه العبادة الباطلة في أيام إشعياء النبي فقال لهم عن هذه العبادة "أبغضتها نفسي. صارت علي ثقلًا. مللت حملها"، "لا تعودوا تأتون إلي بتقدمة باطلة.. لست أطيق الإثم والاعتكاف" (أش1: 13، 14).
كذلك العبادة لا تكفي، إن كانت بلا روح، بلا حكمة، بلا اتضاع.
النشاط

ما أكثر الذين يملأون الدنيا حيوية ونشاطًا، ولهم الكثير من الإنجازات والأعمال في مجالات متعددة..
ولا شك أن هذه فضيلة، ولكنها وحدها لا تكفي، إن لم تكن مقرونة بالاتضاع والهدوء لأن النشاط الذي يرتبط بالافتخار والمجد الباطل ليس فضيلة. وكذلك النشاط الذي يحتك فيه الإنسان بالغير ويجور عليه، ليس فضيلة...

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:36 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال

إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال (مت3:18).
إنها وصية عجيبة وخطيرة كشرط أساسي وهام لدخول ملكوت السموات بحثت إن لم نسلك في الطفولة الروحية فلن ندخل الملكوت.
خطورة الوصية

هناك أمور جوهرية تمنع الملكوت.
مثال ذلك قول الرب "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو5:3).
وقوله أيضًا "أن لم تأكلوا جسد إبن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم" (يو35:6). وقوله كذلك "إن لم تؤمنوا إني أنا هو، تموتون في خطاياكم" (يو24:8). وكذلك "أن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو13: 3، 5). وهكذا جعل الرب هذه الأمور كلها لازمة للخلاص: المعمودية، والتناول، والإيمان، والتوبة.
ونراه يضع شرط الرجوع إلي شبه الأطفال لازما لدخول الملكوت.
بنفس عبارة "إن لم" التي قالها عن المعمودية والتناول والإيمان والتوبة نراه يقول لتلاميذه القديسين "الحق أقول لكم أمن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت3:18).
وهذا يدل علي خطورة هذه الوصية. ويجعلنا نتساءل:
ما هي الصفات التي يتصف بها الطفل،
حتى تحاول أن نتشبه به ونصير مثله؟
نحن نظن أننا نعلم الأطفال، ونقف أمامهم كقدرة، وهوذا الرب يعكس الأمر، ويضع الأطفال أمامنا كقدوة، حتى نتشبه بهم، وإلا.. فإنه يقدم لنا تحذيرًا خطيرًا، وهو عدم دخول الملكوت.
طبعًا لا نتشبه بالطفل في العقل، وإنما في القلب والروح والنفسية.
والمقصود طبعًا أن نتشبه بالطفل السوي، وليس الذي ولد بميول أو طباع منحرفة، سواء بالوراثة أو لأسباب أخري.
صفات الأطفال

* أول صفة للأطفال هي البراءة والبساطة.
وهكذا كان أبونا آدم قبل أن يعرف وهكذا كانت أمنا حواء. إذن كأن الرب يقول لنا إن لم ترجعوا إلي البراءة والبساطة فلن تدخلوا الملكوت...
الطفل في بدء حياته، لا يشك في شيء. يقبل الأمور في براءة وثقة، إلي أن يغيره المجتمع، ويدخل الشك إلي قلبه، وفي طباعه فتتعكر نقاوته. وقد يزيد الشك عنده فيصبح مرضًا، سواء وجد سبب للشك أم لم يوجد.
* الطفل يتصف أيضًا بحب المعرفة والتعليم.
فهو يسأل ويريد أن يعرف. ولا يخجل من السؤال والإقرار بعدم المعرفة. وهو يقبل التعليم، وعن طريقة ينمو في المعرفة يومًا بعد يوم.
أما الكبار، فقد يمنعهم عن التعليم إما كبرياء لا تريد أن تظهر أنها لا تعرف، أو يمنعهم الخجل، أو الاكتفاء بما هم فيه من معرفة. وكلما كبر الإنسان في سنة، قد يخجل من التعلم لئلا يخطئ أثناء تدربه فيخجل من خطئه. لذلك فالطفل اقدر علي تعلم اللغة من كبير السن، لأنه لا يخجل أن ينطق ولو نطقًا خاطئًا يصححه له معلمه، بينما الكبير لا يعقل.
حاول إذن ان تنمو في المعرفة، واقصد المعرفة النافعة لك.
وما دمت قد كبرت في السن، أمامك ألوان أساسية في المعرفة غير ما يسعي إليه الطفل. عليك أن تعرف نفسك، وأن تعرف الله، وتعرف الحق، وتعرف الطريق السليم الذي يوصلك. وليكن لك التواضع الذي به تسال وتطلب المعرفة، دون أن تخجل. ودون أن ترتئي فوق ما ينبغي، ظانًا انك تعرف.. ودون أن تكون حكيمًا في عيني نفسك...
* من صفات الطفل دائم النمو.
قيل عن يوحنا المعمدان في طفولته "أما الصبي فكان ينمو ويتقوي بالروح. وكان في البراري إلي يوم ظهوره لإسرائيل" (لو80:1). وقيل أيضًا عن الطفل يسوع "وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو52:2).
من جهة القامة، يصل الكبار إلي حد معين لا تنمو فيه قامتهم. ولكن هناك مجال آخر ينبغي ان يمارسوا فيه صفة النمو. وهو النمو في الروح في العقل، في المعرفة، في الحكمة، في كل فضيلة وعمل صالح.
* تعجبني في الطفل أيضًا صفة البشاشة.
هو باستمرار يحب البشاشة، يحب المرح، يحب ان يضحك، ويحب من يضحكه. إنه لا يحمل هموم الدنيا فوق كتفيه كما يفعل الكبار. ولا يحمل همًا، ولا يفكر في مشاكل الغد ومشاكل المستقبل، إنما يلقي كل ذلك -إن صادفه- على أبيه أو أمه. ويملك السلام علي قلبه، حتى في أشد الأوقات خطورة، تجد البيت كله منزعجًا، متوقعًا شرًا، ما عدا الطفل.
أريد لك يا أخي هذا السلام وهذا الفرخ، فهما من ثمار الروح (غل22:5).
* من الصفات الجميلة في الطفل أنه لا يحمل حقدًا.
قد يوجد ما يغضبه أو يضايقه أو يحزنه - ولكن هذا كله يأخذ وقته وينتهي في وقته دون أن يخزيه في قلبه أو في مشاعره. وما أسرع أن يتصافي ويلعب مع طفل آخر كان يتعارك معه منذ لحظات.
الذين يخزنون الإساءة هم الكبار، في ذاكرتهم التي كثيرًا ما تنسي الخير، ولكن لا تنسي الإساءة. ويتحول الغضب عندهم إلي حقد وإلي عداوة، وربما رغبة في الانتقام.
وهؤلاء يقول لهم الرب "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال... "أن الطفل سريع التصالح. وقد يضربه ابوه أو أمه. وبسرعة يأتي فيرتمي في حضنهما. وفي العطف والحنان الذي يأخذه، ينسي كل ما حدث.
ليتنا نكون أيضًا مثل الطفل في حبه الكبير.

الحب الذي يتسع لكثيرين. والذي فيه يتصادق بسرعة مع كثيرين ويزيد عدد معارفه وأحبائه.
ويجعل الآخرين يحبونه، دون أن يعرف تحزبًا. وقد يتشاجر الأب والأم معًا. بينما الطفل يحب الاثنين معًا بل قد يعمل علي مصالحتهما...
* والطفل عنده الإيمان والثقة.
بعض الطوائف لا تعمد الأطفال، وتنتظر إلي أن يؤمنوا أولًا. ولكنني أقول ليتنا جميعًا نكون مثل الأطفال في عمق إيمانهم. الأطفال الذين يقبلون كل حقائق الإيمان دون أدني شك أو سؤال.
إن الطفل يولد مؤمنًا، تقول له نصلي،يصلي. ترفع يدك إلي السماء وتقول يا رب، يفعل مثلك،يؤمن أن الله قادر علي كل شيء، ولا يشك في ذلك. بل يؤمن أن أباه الجسدي يقدر أن يعطيه كل شيء، وأن يحميه من كل خطر ولا شك. إيمان الطفل إيمان عجيب لا يفسده إلا الكبار، حينما يدخلون إلي ذهنه أمور تؤذيه.
* الطفل أيضًا يتميز بالصدق، ول يجامل علي حساب الحق.
وهو لا يعرف الرياء. فإن كلن يحبك يقول لك إنه يحبك. ويكون ذلك من قلبه، وهو صادق فيما يقول. وإن كان يخافك أو قد آذيته قبلًا، لا يمكن أن يجاملك كذبًا ويقول لك إنه يحبك. بل يقول لك رأيه فيك بصراحة. إنه لا يعرف النفاق. هو صادق في التعبير عن مشاعره.
محبه الأطفال محبة حارة أكثر من محبة الكبار.
وهي محبة بريئة وطاهرة. أنه يرتمي في حضن من يحبه بكل عواطفه.
وقد يبكي من كل قلبه. لأنه قد غاب عنه أو أمه قد غابت عنه. ولا يستريح إلا إذا وجد من يحبه. ليتنا نحب مثلما الأطفال يحبون.
* والطفل يشتهي المثل العليا.
إنه يستطيع أن يميز بفطرته. لذلك فهو يحب الخير بطبيعته. وله ضمير لم يفسده المجتمع يميز به بين من يحبه، وبين الإنسان الخير الذي يتصف بالروح الطيبة وغير ذلك، وهو يستطيع أن يحكم عليك من مجرد النظر إلي ملامحك. يعرف داخلك من نظرة عينيك، ومن تقاطيع وجهك، ومن نبرة صوتك، وهو حساس جدًا، وحسه سليم. أنه لا يقبل أن يري اباه غاضبًا أو ثائرًا مقطب الملامح أو الجبين، أو محتد الصوت. كل هذا ضد مثله العليا.
* ومن الأشياء الجميلة في الطفل أن فضائله طبيعية تلقائية.
بلا تصنع، بلا تمثيل، بلا جهاد في الوصول إلي الفضائل، فهي فيه بالفطرة. لا يحاول أن يظهر في زي فضيلة ليست فيه. لا يجاهد ليحصل علي البساطة، فهو بسيط بطبيعته. وهكذا باقي الفضائل.
* الطفل ليس عنده غرور.
حتي عندما تمدحه. يرضي لكي يشعر بأنه تصرف حسنًا، دون أن يتكبر. الغرور رذيلة تتعب الكبار..
المسيح والأطفال

كان السيد المسيح يحب الأطفال. وكان يحتضنهم ويباركهم (مز16:10). وكان يحذر الناس من أن يسببوا لهم عثرة. وهكذا قال "من اعثر أحد هؤلاء الصغار فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر" (مت6:18). وقال في محبته للأطفال "أنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار" (6:18). وقال في محبته للأطفال "أنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء.. (مت10:18). بل جعلهم مثالًا يتشبه الكبار بهم.
والتاريخ وضع أمامنا أمثله لأطفال قديسين.
مثل الطفل أبانوب تبني علي اسمه كنائس في مصر والمهجر. ومثل الطفل قرياقوص إبن القديسة يوليطة. ومثل صمؤئيل الطفل الذي كلمه الله وأرسله يحذر عالي الكاهن العظيم. ومثل القديس شنوده رئيس المتوحدين في طفولته.. والأمثلة كثيرة. ليتنا نرجع ونصير مثل الأطفال في فضائلهم.
إن طبيعة الطفل الفاضلة هي أمثولة طيبة قبل أن تغرس فيه البيئة والتربية صفات أخري لم تكن من طبيعته الأصلية.
وقبل أن يتعلم ممن حواليه أمورًا يريدونها له لكي يصبح مثلهم في طباعهم، وقد لا تكون طباعهم مقدسة ولا صالحة ولا فاضلة..!
إنما السيد المسيح حينما أوصانا أن نرجع ونصير مثل الأطفال، إنما قصد أن نرجع عما أكتسبناه من صفات غرستها فينا البيئة والتربية والتعليم، ونصير في الطبيعة التي أرادها الله لنا، في البراءة التي كانت لآدم وحواء قبل الخطية، وقبل أن يأخذا من مصدر خارجي هو الحية..

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:39 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
فضيلة ضبط النفس

قال سليمان الحكيم "البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يملك مدينة" (أم32:16).
فمن هو إذن الذي يملك روحه؟ أي الذي يضبط نفسه؟
لاشك أن ضبط النفس يشمل عناصر كثيرة منها:
ضبط اللسان، وضبط الفكر، وضبط الحواس، وضبط البطن (من جهة الأكل)، وضبط الرغبات والشهوات، وضبط الأعصاب (من جهة الغضب)، وضبط لك تصرفات الإنسان.
ضبط اللسان

يقول الحكيم أيضًا "كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أما الضابط شفتيه فعاقل" (ام19:10). ويقول القديس يعقوب الرسول "وأما اللسان فلا يستطيع أحد أن يذلله. هو شر لا يضبط مملوء سمًا مميتًا" (يع8:3).
لذلك قال الرسول أيضًا:
إن كان احد ل يعثر في الكلام، فذلك رجل كامل، قادر أن يلجم كل الجسد أيضًا" (يع2:3).
ومن أجل هذا كان المرنم يلتمس معونة الله قائلًا:
"ضع يا رب حافظًا لفمي، بابًا حصينًا لشفتي".
والذي يضبط لسانه ينجو من خطايا عديدة جدًا.
فلا يقع في إهانة الآخرين بالشتيمة أو التهكم أو التوبيخ القاسي، أو التهديد، أو الترفع عليهم. ولا يقع في الكذب ولا المبالغة ولا الحلفان ولا التجديف.. ولا في كلام المجون، ولا في الثرثرة.. ولا المعلومات الخاطئة، ولا في الافتخار والبر الذاتي، والحديث عن النفس، ولا في إدانة الآخرين، ولا كلام الغضب بل أن الكتاب يقول:
"بل الأحمق إذا سكت، يحسب حكيمًا" (أم28:17).
وضبط الشفتين له فوائد إيجابية كثيرة:
فالذي يضبط شفتيه، يعطي نفسه فرصة للتروي والتفكير قبل أن يتكلم، ويأخذ فرصة أيضًا لانتقاء الألفاظ واختيار الكلمة المناسبة، وحسبان ردود الفعل لكل ما يقول.
لأن الكلمة التي تقولها تحسب عليك، مهما اعتذرت عنها.
فمادمت قد لفظتها، ووصلت إلي آذان الناس وإلي أذهانهم ومشاعرهم، لم تعد ملكًا لك وحدك تتصرف فيها!
لقد كنت تحكم عليها قبل أن تقولها. أما بعد كلامك فقد أصبحت هي التي تحكم عليك "لأنه بكلامك تتبرر، وبكلامك تدان" (مت37:12). يكفي ان القديس أرسانيوس قال مرة.
"كثيرًا ما تكلمت فندمت. أما عن سكوتي فما ندمت قط".
لذلك أضبط لسانك. القديسون أيضًا كانوا يسكتون لكي يعطوا أنفسهم فرصة للصلاة وللتأمل، كما قال الشيخ الروحاني "سكت لسانك لكي يتكلم قلبك " وأيضًا "كثير الكلام يدل علي أنه فارغ من الداخل، أي من عمل الصلاة "قال حكيم:
"ليس كل ما يسمع يقال. وليس كل يقال يكتب".
فليس كل ما تسمعه، تردده علي آذان غيرك، وإلا فإنك قد توقع بذلك بين الناس. وتصل إلي النميمة أو إلي الغبية؟ وأخطر من ذلك ما تكتبه، لأنه يصير وثيقة عليك.
ضبط الفكر

فاحرس إذن أفكارك. ولا تقبل كل فكر يأتي إليك. واحرص علي أن تكون أفكارك نقية. وإن وصل فكر خاطئ. أحذ من التمادي فيه والتعامل معه. اطرده بسرعة لئلا يسيطر عليك، ويتحول إلي مشاعر في قلبك.
احذر من أفكار الغضب والانتقام والشهوة، ومن أفكار الإدانة وأفكار الأباطيل، وأيضًا من فكر الحسد والغيرة والحقد، ومن أفكار الكبرياء والمجد الباطل.. ومن كل فكر لا يمجد الله. وإن لم تستطع، فأنصت إلي المقل الذي يقول:
إن لم تستطع أن تمنع الطير من أن يحوم رأسك، فعلي الأقل لا تجعله يعشش في شعرك.

لا تستبق في داخلك فكر خاطئًا. وحاول أن تشغل ذهنك باستمرار بأفكار نافعة، أو بتأملات روحية، حتى إن حارب الشيطان أفكارك لا يجدها متفرغة له..
وهناك وسيلة أخري لحفظ الفكر وهي ضبط الحواس:
ضبط الحواس

الحواس هي أبواب للفكر. فأحرس هذه الأبواب:
أضبط السمع والنظر واللمس. حتى لا تدخل إليك فكرًا خاطئًا. ولتكن حواسك طاهرة. وما تقع عليه حواسك بدون إرادتك، لا تفكر فيه، ولا تعد إليه بإرادتك...
قد تكون النظرة الأولي مصادفة أو بغير إرادتك. ولكن النظرة الثانية لا شك أنها إرادية تحاسب عليها.
اعرف أن حواسك لا تجلب لك أفكارًا فقط، وإنما قد تتسرب في عقلك الباطن، وتتحول إلي أحلام وظنون.
فضبط الحواس يساعد إذن علي نقاوة الفكر، ونقاوة الأحلام والظنون. بل يساعد علي نقاوة المشاعر أيضًا.
ضبط المشاعر

لتكن مشاعرك منضبطة. وإن وجدت شعورًا خاطئًا قد دخل إلي قلبك، فلا تتجاوب معه. بل اطرده بسرعة، قبل أن يرسخ فيك. وحاول باستمرار أن تحتفظ بنقاوة قلبك.
لا تستسلم لأية شهوة أو رغبة خاطئة.
بل قاومها، قال القديس بولس الرسول "لم تقاوموا بعد حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية" (عب4:12).
لا تجعل الأمر يتطور معك إلي أسوأ..
أضبط حواسك حتى لا تجلب لك فكرًا. وإن وصل إليك الفكر، إضبطه حتى لا يتحول إلي شعور وإلي شهوة. وإن وصلت إلي مستوي الشهوة، اضبطها حتى لا تتحول إلى عمل.. وإن تدرجت إلي العمل، فامتنع عنه بسرعة، حتى لا يتحول إلي عادة ويسيطر عليك...
أغصب نفسك باستمرار

واعرف أن التغصب يدربك علي قوة الإرادة...
أغصب نفسك علي تنفيذ الوصية، وعلي الطاعة والخضوع.
أضبط نفسك في طاعة الرب، وفي طاعة القانون والنظام العام،ولا تتحايل علي مخالفة قانون، أو مخالفة ضميرك، ولا تجلب لنفسك الأعذار. ولا تسمح أن يتسع ضميرك ليقبل أشياء كثيرة..
أعرف أن الأعذار والتبريرات هما عداون خطيران لضبط النفس.
فلا تعذر نفسك في اي خطأ من الأخطاء. وبدلًا من أن تدلل نفسك، حاول أن تقومها، وترغمها علي عمل الخير، وتبعدها عن كل شر وشبه شر.
محبة الذات

أضبط نفسك من جهة محبة الذات. فقد قال الرب "من يحب نفسه يهلكها. ومن يبغض نفسه في هذا العالم، يحفظها إلي حياة ابدية" (يو25:12).
أبعد عن محبة الذات، وعن محبة النصيب الأكبر، وعن محبة المتكآت الأولي. ولا تفضل ذاتك علي غيرك. ولا تجعل راحتك علي تعب الأخرين. وإن وجدت ذاتك منقادة في طريق خاطئ، أضبط مسيرتها بكل حزم.
وأضبط نفسك من جهة الاندفاع والتهور، ومن جهة إتخاذ اي قرار سريع.
إن وجدت نفسك منفعلًا، أضبط أعصابك، وأضبط لسانك، وأضبط ملامحك، وأضبط حركاتك، ولا تسمح لنفسك بأن تخطئ في حق غيرك، مهما أخطأ هو في حقك.
واضبط نفسك من جهة استخدام الحرية.
حسن أن تتمنع بالحرية. ولكن لتكن حريتك منضبطة.
لتكن حرية طاهرة لا تفعل فيها ما لا يليق. ولتكن حرية مسالمة وعاقلة، لا تتعدي فيها علي حريات الغير ولا علي حقوق الغير، ولا علي النظام العام.
ليتحرر قلبك أولًا من كل خطأ. فإن تحررت من الداخل، يمكنك أن تستخدم حريتك الخارجية بحكمة وسلام.
الضبط الخارجي | الانضباط

أعرف أنك إن لم تنضبط من الداخل، فسوف ترغ علي الانضباط من الخارج.
كإنسان يرغمه إلى الانضباط: القانون والعرف والعقوبة. وكابن لا ينضبط من تلقاء نفسه، فيضبطه التأديب والديه له. وكأي إنسان يضطر إلي الانضباط بطريق الخوف....
وهناك من يضطر إلي الانضباط بدافع الخجل من الناس، أو الخوف من الانكشاف ومن الفضيحة.
أو لص يضطر إلي الانضباط مؤقتًا خوفًا من الحراس.
أو إنسان يضطر إلي الانضباط نتيجة للتوبيخ.
أو نتيجة لوجود موانع كعدم وجود قدرة، أو عدم وجود فرصة، أو لمقاومة الآخرين له. كلها أسباب غير روحية.
أما الشخص الروحي فينضبط من الداخل، بإراداته، حبًا منه للخير، وحبًا منه لله وتقويمًا منه لنفسه.
وانضباطه الداخلي يساعده علي الانضباط من الخارج أيضًا. أو أن انضباطه الخارجي يكون هو العبير العملي علي الانضباط الداخلي.
علي أنه باستمرارية الانضباط الخارجي، سواء أكان الإنسان مرغمًا عليه من الخارج أو أنه يغضب نفسه علي ذلك. بهذا الاستمرار قد يتعود الإنسان أن يكون منضبطًا...

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:41 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
نفوس مريحة ونفوس غير مريحة

النفوس المريحة هي التي تريح غيرها.
قد يجلس إنسان معك، فتستريح لوجوده معك، وتود لو أن جلسته تطول مهما مر الوقت. بينما يجلس إليك آخر، فتظل تعد الدقائق وتتمني لو أنه رحل عنك. ذلك لأن أحدهما مريح والآخر متعب.
إنسان يمر عليك كالنسيم الهادئ أو النسيم العطر.
وآخر يمر بك، وكأنه عاصفة هوجاء.
فما هي إذن النفس المريحة؟ وما هي صفاتها؟
ولماذا تكون نفوس بعض الناس متعبة وغير مقبولة؟
أول نفس مريحة في تاريخ كل إنسان هي أمه.
يري الطفل راحته في صدرها الدافئ، وفي رضاعته منها، وفي نظراتها الحانية، وفي ابتسامتها، وفي استجابتها لاحتياجاته.. ومعها يشعر بالاطمئنان والأمن.
واللطف الرضيع الذي نظن أنه لا يدرك شيئًا، ومن العجيب أنه يستطيع أن يميز أمه -أو مرضعته- عن أي امرأة أخري. فهي حينما تحمله تبش له، ويبتسم هو لها في فرح وبشاشة وبراءة. بينما تحمله امرأة أخري، فيصرخ...
الطفل حساس جدًا من جهة ملامح الناس.
هو لا يتضايق مما يقال له من كلام، لأنه لا يفهمه، ولكنه يفهم الملامح: يميز النظرة المريحة من النظرة المتعبة. ويميز الملامح البشوشة من الملامح المزعجة. يطمئن إلي النفس المريحة من نوع النظرة، وشكل الملامح، ونبرة الصوت. ويميز النفس المريحة التي تداعبه وتلاعبه. لذلك احترسوا في ضبط ملامحكم حينما تقابلون الأطفال. واحترسوا من جهة الانتهار والتوبيخ لأن الملامح فيه لا تكون مريحة.
وصدقوني، نفس الأمر يكون في معاملة الكبار.
هم أيضًا يحتاجون إلي التعامل مع النفوس المريحة. يريحهم شكل الإنسان، كما تريحهم أيضًا ملامحه، ومعاملاته. وربما تري شخصًا لأول مرة، فلا تستريح هم أيضًا يحتاجون إلي التعامل مع النفوس المريحة. يريحهم شكل الإنسان، كما تريحهم أيضًا ملامحه، ومعاملاته. وربما تري شخصًا لأول مرة، فلا تستريح إليه... لا تستريح إلي تعبيرات وجهه، ولا إلي نبرة صوته، ولا إلي حركاته، ولا إلي شكله جملة.. يوحي إليك بعدم الاطمئنان وعدم الثقة.
ويحدث هذا أحيانًا في اختيار الأصدقاء. هناك من تنجذب إليه، وتشعر من أول مرة كما لو كنت تعرفه منذ زمان. وآخر تنفر منه تلقائيًا.
نفس الكلام نقوله أيضًا عن الأطباء.
هناك طبيب يستريح إليه المريض: في بشاشته من جهة، وفي شرحه للمرض وللعلاج. وفي إعطائه ريقًا من الأمل والرجاء مهما كان خطيرًا. ويشعر المريض بالاطمئنان إلي أنه في يد أمينة، ومع قلب عطوف...
بينما طبيب أخر -بعد مقابلته للمريض- يخرج المريض منهارًا.
ونفس الوضع بالنسبة إلي أب الاعتراف.
أب الاعتراف المرح، هو الذي يعرف نفسية المعترف وظروفه وحروبه، ويعطيه من الإرشادات ما يمكنه تنفيذها، ويقود إلي التوبة وإلي الحياة الروحية في هدوء وفي تدرج معقول. ويشعره بالحب والحنو،
ويفتح له باب الرجاء مهما كانت خطاياه. ويقوده إلي فتح قلبه في الاعتراف بكل اطمئنان.
أما أب الاعتراف غير المريح، فهو الذي يرتبك لمعترف أمامه، ولا يدري ما يقوله. وربما يخاف ولا يستطيع أن يكمل اعترافه. يخشي انتهاره له، أو قسوته عليه، أو تغيير فكرته عنه، أو حرمانه من التناول أو قسوة عقوبته...
بينما أب الاعتراف المريح قد يعاقب ولكن في احتمال المعترف، مقنعًا إياه بأن العقوبة نافعة له في تقويم حياته وفي إراحة ضميره...
من صفات النفوس المريحة

* الإنسان البشوش نفسه مريحة.
الناس يحبون البشاشة، ويستريحون للوجه البشوش الذي من فيض سلامه القلبي يفيض بالراحة والسلام علي كل من يقابله..
البشاشة هي فرح ينتقل من نفس إلي نفس. لذلك فإن غالبية الناس يحبون أصحاب النفوس المرحة التي تدخل البهجة إلي القلب. ومن أمثلة ذلك القانون الذين يرسمون الرسوم الكاريكاتيرية مع فكاهات لطيفة، طالما أن الفكاهة بريئة ولطيفة ولا خطأ فيها.
ولأن البشاشة والفكاهة تريح النفوس، لذلك فإن المصورين قبل أن يلتقطوا الصور يطلبون إلي الناس أن يبتسموا أولًا، لأن الوجه المبتسم هو وجه مريح لمن يراه. والبعض يبتسمون بطريقة مصطنعة أثناء التصوير.
غير أن البعض لهم بطبيعتهم وجوه مبتسمة بشوشة في كل المناسبات، وبدون تصنع هؤلاء أصحاب نفوس مريحة.
* كذلك الإنسان الوديع الهادئ هو من النفوس المريحة.
بهدوئهم يدخلون الهدوء إلي قلوب الآخرين. ومهما كانت الأمور تبدو صعبة، يعلمون علي تهوينها وتخفيف وقعها، وبهذا يريحون غيرهم. وفي جو من الطمأنينة يبحثون معهم الأمور بهدوء للوصول
إلي حل. كذلك الإنسان الوديع هو إنسان مريح في معاملته. لأنه يأخذ الأمور ببساطة. لا يغضب أحدًا، ولا يغضب من أحد. ويتعامل مع الناس في سهوله ويسر، ولا تتعقد الأمور مطلقًا في التعامل معه.
* المبشرين بالخير هم من أصحاب النفوس المريحة.
لإن الناس يحبون من يبشرهم بخير طيب.. يعتبرونه بشرة خير. ويستبشرون به ولذلك يقول الكتاب "ما أجمل قدمي المبشر بالخيرات" (أش7:25)(نا15:1).
بعكس الذي يجلب الحزن للنفوس بأخبار سيئة ينقلها إليهم. إنهم يعتبرونه كالبوم التي تنذر بالخراب. ومن أمثلة هؤلاء من ينقلون أخبارًا بتعليقات متعبة للنفوس.
إت الإخبار التي تنشر في الجرائد، تختلف من واحدة إلي أخري.. فمنها ما يريح النفوس بأخبارها، ومنها ما تزعج الناس وتخيفهم، وتشعرهم بأخطار مقبلة ومصائب يتوقعونها.
* صانعو الخير هم من أصحاب النفوس المريحة:

وفي ذلك ما أجمل ما قيل عن السيد المسيح إنه كان يجول يصنع خيرًا (أع38:10). كان يكرز بالإنجيل، ويشفي كل مرض وكل في الشعب" (مت23:4). وهكذا كان تلاميذه وهكذا كان القديسون في كل زمان، يصنعون الخير ويقومون بأعمال البر نحو كل واحد.
إن الناس يحبون من يعمل معهم خيرًا.
عكس ذلك الذين يعقدون الأمور، والذين يكون بإمكانهم أن يصنعوا خيرًا ولا يفعلون. ما أخطر قول الكتاب "من يسمع صراخ المسكين ولا يستجيب، يصرخ هو أيضًا ولا يستجاب له.
من صفات النفوس غير المريحة

1) من صفاتها القسوة.

سواء القسوة في الألفاظ، أو القسوة في الأحكام، وفي التعامل مع الأخطاء بطريقة تعب المخطئين دون أن تقومهم، أو بأسلوب يحطم نفسياتهم، ويتسبب في هبوط معنوياتهم.
وقد يحدث هذا من بعض الآباء والأمهات في توبيخهم ومعاقبتهم علي أخطائهم بأسلوب ربما يجعلهم يبحثون عن صدر حنون خارج البيت، مع ما يترتب علي ذلك من نتائج خطيرة.
وربما تصدر هذه القسوة من الذين يقومون بأعمال الإدارة فيصدرون الجزاء علي أتفه الأخطاء،أو قد تصدر هذه القسوة من الذين يشرفون علي أعمال التدريب أو علي الاختبارات الشخصية فيحكمون علي الشخص بعدم الصلاحية. أو قد تصدر من بعض الأساتذة والمدرسين، فيخشي الطالب أن يقع في يد أحد منهم.
ولكن من الأمثلة الصالحة، ما قلناه عن الأرشيدياكون حبيب جرجس.
يا حكيمًا أدب الناس وفي زجره حب وفي صوته عطف
لك أسلوب نزيه طاهر ولسان أبيض الألفاظ عف
لم تنل بالذم إنسان ولم تذكر السوء إذا ما حل وصف
إنم بالحب والتشجيع قد تصلح الأعرج، والأكدر يصفو
2) ومن صفات النفوس عير المريحة: النكد.

هناك أشخاص -وبخاصة في المجال العائلي- يحاولون حل المشاكل عن طريق النكد، ويضفون علي المنزل جوًا من الكآبة والحزن يبحث بعض أفراد الأسرة عن سلامهم القلبي بالهروب من البيت. وقد ينتهي الأمر بالزوجين إلي محاكم الأحوال الشخصية أو إلي المجلس الإكليريكي. يشعر كل طرف في الأسرة أنه يتعامل مع نفوس عير مريحة.
3) ومن صفات هذه النفوس غير المريحة: كثرة التحقيقات.

بحيث يشعر الشخص أنه محاصر بجو من الأسئلة تضيق الخناق عليه لتعرف تفاصيل التفاصيل. ماذا فعلت؟ وأين كنت؟ ومن قابلت؟ ومتى؟ وما موضوع الحديث؟ وماذا قلت وماذا قال؟ وما النتيجة؟ وماذا فعلت؟
ومهما بدا علي الشخص أنه تضايق، تلاحقه التحقيقات بغير هوادة، وبغير مراعاة لنفسيته وإحساساته، مما يؤدي به الأمر إلي الهروب من أمثال هؤلاء الأشخاص الذين لهم هذا الأسلوب من التحقيق. وربما لا تكون لبعضهم صفة تسمح له بكل هذه الأسئلة. ويقودنا هذا إلي نقطة أخري وهي.
4) التدخل في خصوصيات الغير.

كل إنسان له خصوصياته التي يحب أن يحتفظ بها، ولا يحب أن يكشفها لك واحد. بل يجب أن يحترمها الآخرين.
لهذا نجد في كثير من البلاد الغربية: إذا وصل خطاب لابن في البيت، لا يستطيع الأب أو الأم أن يفتحه. وكذلك إن وصل خطاب للزوجة، لا يفتحه الزوج. وإنما بالحب، الذي بين أفراد الأسرة، صاحب الخطاب يكشف ما جاء فيه، أو بعضًا مما جاء فيه لأسرته دون أن يطالبوه بذلك. ولكن المتعب أن بعضًا من المعارف في خصوصيات غيرهم بطريقة يريدون بها أن يعرفوا كل شيء عنه، سواء في حياته الخاصة، أو حياته العائلية، أو في مجال العمل، كما لو كانوا يترصدون حركاته، ويرهقونه بالأسئلة أو يرسلون من يتتبع أخباره ويقولها لهم. بحيث يشعر أن هؤلاء يتطفلون علي حياته وخصوصياته، بغير وجه حق وبطريق متعبة..
وإن لم يخبرهم يتهمونه بعدم الحب، وبعدم الإخلاص في صداقته، ويسألونه: ما هذا الشيء الذي تكتمه؟ وهل فيه خطر أو خطأ؟ قل لنا ونحن ننصحك.
إنه لون من التطفل غير معقول، ويتعب النفس، ويسئ إلي العلاقات.
5) من صفات النفوس المتعبة أيضًا: الشك.

هناك نفوس في طبيعتها الشك: يشكون في صدق غيرهم وفي محبته. ويشكون في أقواله وفي أخباره. بل يشكون أيضًا في سلوكه. ويبدو الشك في طريقة كلامهم، وفي لهجة صوتهم، وفي نظراتهم، وفي نوع أسئلتهم؟
وبندر أن يقبل أحد أن يكون موضع شك. لذلك يعتبر الذين يشكون فيه من النفوس غير المريحة، ويحاول أن يتجنبهم. ويعتبر شكهم نقصًا في محبته. فالكتاب يقول المحبة لا تظن السوء (1كو5:13).
6) وعكس ذلك الذي يقابل غيره بروح الثقة والاحترام.

إنها صفة من صفات النفوس المريحة. والثقة تولد ثقة، وتدل علي الاحترام. كما أن الاحترام يولد احترامًا. وهكذا يعيش الناس مع بعضهم البعض بأسلوب سوى. وكل إنسان يستريح للذي يثق به.
7) أيضا من صفات النفوس غير المريحة: الإلحاد والمجادلة.

هناك أشخاص -من كل ما يريدون- يستخدمون أسلوب الإلحاد والضغط. فإن أرادوا شيئًا من أحد، يلحون عليه بطريقة متواصلة متتابعة، في كل يوم، وربما مرات كل يوم. ولا يعطونه فرصة للتفكير أو التدبير. ولا يعطونه مجالًا للاعتذار، وربما ما يطلبونه يكون فوق طاقته، أو لا يريح ضميره.. ويتوالى إلحاحهم وضغطهم بطريقة متعبة، وربما تجعل من يلحون عليه يهرب من لقائهم بكافة الطريق.
وربما يكون الإلحاح والضغط في معرفة خصوصياته، كما حدث مع دليلة في معرفة سر قوة شمشون (قض16).
8) ومن صفات النفوس غير المريحة أيضًا: فرض الرأي.

وفي هذا ضغط علي الفكر، وضغط علي التصرف. ومحاولة من هؤلاء أن يسير غيرهم في تيارهم الفكري أو السلوكي علي الرغم منه، مما يشكل ضعفًا علي حريته الخاصة، بشيء من السيطرة.
وقد يحدث فرض الرأي من أحد الأبوين، بالنسبة إلي زواج ابنتهما، ضغطًا عليها في الزواج بمن لا تحب، مما يتسبب عنه تعاسة أو فشل في حياتها الزوجية.
وفي فرض الرأي نوع من السيطرة هو صفة أخري للنفوس غير المريحة.
9) ومن الصفات الأخرى للنفوس غير المريحة: كثرة الجدل.

بحيث لا يمر أمر من الأمور سهلًا، مهما كان بسيطًا. كل فكر وكل تصرف يتخذونه موضوعًا للجدل، وربما يستغرق وقتًا طويلًا، كما أنه يرهق الأعصاب ويضيع الوقت.
أمثال هؤلاء قد لا يحاول أحد أن يفتح لهم موضوعًا أو بيدي رأيًا، لأنه لن يخلص من مجادلاتهم العميقة. وإن تكلموا هم ربما يلجأ إلي الإجابات التقليدية: "مثل ربنا يعمل ما فيه الخير"، "نشكر ربنا علي كل حال "أو أن يقول "هذا الموضوع لا أعرفه وليس لي فيه رأي يقيني". كل ذلك ليهرب من الجدال. وصدق الكتاب حينما قال "أفعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة" (في14:2).
وقد يسأم الإنسان ويقول لمثل هؤلاء "ألا يمكن أن يتم شيء بدون مجادلة؟! أو يقول فيما بينه وبين نفسه "هل يستحق هذا الأمر البسيط كل هذا الجدل والنقاش".
نصيحتي لك: لا تجادل إلا في أمر هام أو أمر خطير يستحق ذلك. وأيضًا لاحظ في نقاشك هل الذي تناقشه يقبل الكلام أو لا يقبله، أو هو يريد النقاش لمجرد حب الجدل وتقضية الوقت، أم ينطبق علي هذا النقاش قول الرسول "المباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالمًا أنها تولد خصومات" (2تي23:2).
وقد يكون الغرض من المجادلة هو فرض الرأي.
كإنسان يريد فرض رأيه في إدارة الأمور، أو في تصريف أمور الكنيسة إن كان المناقش عضوا في لجنة ما في كنيسة، أو مجرد فرض رأيه كشخص يقول إنه صاحب رأي، وإنه باستمرار علي حق وذو علم ومعرفة. وربما يكون فرضه لرأيه مصحوبًا بالتهديد وبالتشهير.
10) ومن النفوس غير المريحة من لا تقدر ظروف الآخرين.

كأن يكلمك إنسان في وقت أنت مشغول فيه، فتعتذر إليه بضيق الوقت، وتؤجل الموضوع إلي موعد آخر، فيصر إصرارًا شديدًا لأن الموضوع مهم ولا يحتمل التأجيل، ولا يبالي بأهمية مشغولياتك، مما يجعلك تستمع إليه مضطرًا وأنت شاعر بضغطه عليك، بينما الموضوع لا يستحق ذلك كله.
وربما يأتيك شخص وأنت مريض، ويطلب نمك ما لا تحتمله ظروفك الصحية. أو يظل يكلمك وأنت علي فراش المرض، مما يؤذيك صحيًا وهو غير مقدر ذلك. مما جعل كثير من المستشفيات تحدد أوقاتًا تمنع فيه زيارة بعض المرضي.
أو قد يكلمك إنسان في التليفون، وقد تكون مشغولًا. ولكنه لا يبالي ويظل يتكلم ويتكلم مهما طال الوقت. ومهما حاولت أن تؤجل المكالمة أو تشرح ظروفك، لا يهمه ذلك ويستمر في حديثه. فتشعر أنه من النفوس المتعبة التي لا تقدر ظروف الآخرين، وتتخذ منه موقفًا في أحاديثه التالية.
يذكرنا هذا الأمر بالذين يزورون العائلات في أوقات الامتحانات النهائية للتلاميذ. ويتكلمون ويرفعون صوتهم، ويوجدون جوًا من الضوضاء لا يساعد علي المذاكرة، غير مبالين بمشاعر الطلاب وامتحاناتهم ويصبحون من النفوس المتعبة. وكذلك الذين يقيمون احتفالات ويرفعون أصوات الميكروفونات...
11) من النفوس المتعبة من تتصف بالغضب.

سواء سرعة الغضب، أو حدة الغضب، أو الغضب بدون سبب معقول، أو الغضب المصحوب بأخطاء أو إهانات أو اعتداءات. أمثال هؤلاء الناس يتجنبهم غيرهم لاتقاء شرهم. أو علي الأقل عملًا بقول الكتاب:
"لا تستصحِب غضوبًا، ومع صاحب سخط لا تجيء" (ام24:22).

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:43 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
من له أذنان للسمع فليسمع

من له أذنان للسمع فليسمع (مر4: 9،23).
الرسائل التي أرسلها الرب إلي الكنائس السبع التي في آسيا كل منها تشمل عبارة أنا عارف أعمالك وتنتهي بعبارة "من له أذنان للسمع فليسمع ما يقوله الروح للكنائس، ونريد اليوم أن نتأمل هذين الأمرين.
رسائل للكل

جميل أن الله يرسل رسائل للناس، يبعث كلمته للكل، للأبرار وللأشرار معًا، للذين يحبونه وللذين تركوا محبتهم الأولي. يرسل حتى إلي ملاك كنيسة ساردس الذي قال له الرب "إن لك اسمًا أنك حي وأنت ميت" (رؤ1:3). وإلي ملاك كنيسة لاوديكية الذي قال له "لست حارًا ولا باردًا. بل أنت فاتر، أنا مزمع أن أتقيأك من فمي" (رؤ3: 15،16). ومع ذلك يرسل إلي كل منها رسالة.
كل إنسان في الحياة، لأبد أن تصله رسالة من الله.
يتكلم في قلبه،يرسل له كلمه تناسبه بأية الطرق، عن طريق الكتاب، عظة، عن طريق نصيحة من إنسان.
تصوروا أنه كلم حتى قايين، قبل أن يقتل أخاه.
وقال له عند الباب خطية رابضة، وإليك اشتياقها، وأنت تسود عليها" (تك7:4). خذ حذرك مازال الأمر في إرادتك. أحترس من تلك الخطية.. ومن إشتياقك، أحترس من مشاعرك وطرق شتي، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب1:1، 2). بأنواع وطرق شتي.
لا تستطيع أن تقول إن صوت الله لم يصل إليك.
البعض قد يكلمهم الله بالرؤى والأحلام. ولكن ليست كل الرؤى والأحلام من الله!
وهناك من كلمهم الله بصوته شخصيًا كما حدث للأنبياء... والبعض كلمهم عن طريق الرسل، والكتاب يقول "إلي أقطار المسكونة بلغت أقوالهم" (مز19). ومن كلمهم الرب عن طريق الوحي المقدس، الكتاب المقدس، الذي هو كلمة الله إليك.. وهناك من كلمهم الرب عن طريق الملائكة.. والكل عن طريق الوعظ. كما كان بولس يقول "كان الله يعظ بنا.. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله" (2كو5: 19،20).
جائز الكلمة التي يرسلها لك الرب تكون كلمة بركة، أو كلمة تعزية، أو تعليم، أو كلمة إنذار...
وياليتك تسأل نفسك باستمرار: ما هي كلمة الله إليَّ؟ إنك تسمع كثيرًا من الناس... ولكن ما هي كلمة الله إليك؟ تصوروا أن السيد المسيح يقو: أكتب إلي ملاك كنيسة أفسس.. إلي ملاك كنيسة سميرنا.. إلي برغامس.. إلي ثياتيرا.. إلي فلادلفيا. إلي سادرس.. إلي لاوديكية.. أكتب كل واحد له رسالة، الله يوجهها إليه.
إنها وصية إلهية: من له أذنان للسمع فليسمع.
هذه العبارة قالها السيد المسيح مرات عديدة غي الإناجيل.
قالها بعد كلامه عن يوحنا المعمدان (مت15:11). وبعد مثل الزارع (مت9:13). (مر9:4). وبعد شرح مثل الحنطة والزوان (مت43:13). (مر22:4). وبعد كلامه عن أن ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان (مر16:7). وبعد كلامه عن الملح الذي يفسد (لو35:14). وهكذا قال في سفر الرؤيا للكنائس السبع "من له أذنان فليسمع ما يقوله الروح للكنائس "سبع مرات (رؤ3:2).
وعبارة ما يقوله الروح للكنائس عبارة معزية:
تعني أن الروح القدس مازال يكلم الكنائس. الروح يعمل فينا، ويرشدنا إلي جميع الحق (يو13:16). ويذكرنا بكل ما قاله الرب لنا (يو26:14).
أذنان للسمع

هناك أشخاص كانت لهم آذان تسمع وتستجيب وتطيع.

مثل إبرآم أبو الآباء، حينما قال له الرب "أخرج من أهلك ومن عشيرتك" (تك12). وحينما قال "خذ ابنك وحيدك الذي تحبه، إسحق، وقدمه لي محرقة.."(تك22). أطاع، ولم يناقش. له أذنان للسمع.. لوط لما قال له الملاك أخرج من سادوم.. لا تقف في كل الدائرة (تك19). سمع وأطاع...
من أكثر خلق الله سمعًا: الملائكة.
يقول عنهم المرتل في المزمور "باركوا الله يا ملائكته.. الفاعلين أمره، عند سماع صوت كلامه" (مز20:103). بمجرد سماع الكلمة ينفذون، سواء للإنقاذ أو للعقاب.. لذلك ونحن نريد أن نكون سامعين لكلمة الله، منفذين لمشيئته نقول: كما في السماء، كذلك علي الأرض"، أي نطلب أن تكون لنا آذان للسمع.
ومن أمثلة الذين سمعوا الكلمة واستجابوا، تلاميذ المسيح.
مؤتي (لاوي) حالما سمع كلمة الله "اتبعني "ترك مكان الجباية وتعبه (مت9:9). وكذلك بطرس وأخوه أندراوس تركا السفينة والشباك والأهل، حالما سمعا عبارة هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس (مر1: 17،18). وكذلك فعل يوحنا ويعقوب.. ونفس الوضع أيضًا من شاول الطرسوسي (أع9). ولهذا قال السيد المسيح مطوبًا تلاميذه:
"أما انتم فطوبي لآذانكم لأنها تسمع".
ذلك لأن هناك آخرين لهم آذان لا تسمع (مز11:8) (رؤ21:28). وما أكثر الأمثلة لهذا النوع وما أكثر أسبابها.. السيد المسيح نفسه، كان كثير من معاصريه، لهم آذان ولكنها لا تسمع آذان لا تسمع.
أول أذن لم تسمع، كانت لآدم وحواء.
سمعا الوصية، وكأنهما لم يسمعا. تذكرا الوصية بحذافيرها، وعملا العكس! (تك3) لماذا؟ لأن كلمة أخرى قالتها الحية، غطت علي كلمة إليهما، وكانت أكثر تأثيرًا وأكثر إغراء، وإذا كلمة الله وكأنها لم تسمع.
لذلك احترس من أم الكلمة، يخطفها أحد منك.
كما قيل في مثل الزرع أن بذارًا خطفها الطير فلم تنبت (مت4:13). ألقيت البذار، أي نزلت علي الآذن، ولكن هناك من خطفها.. تسمع النصيحة أو العظة، وتتأثر، ويأتي إنسان آخر، تأثير آخر يغطي علي الكلمة ويخطفها منك، ويترك عندك تأثيره هو.
قايين سمع الإنذار من الله، وكأنه لم يسمع! فلماذا؟
كانت هناك مشاعر وانفعالات في القلب، غطت علي كلمة الله، وأزالت تأثيرها وكأنه لم يسمع!
كانت مشاعر الحسد والحقد والغضب التي في قلبه، كأنها حاجز قوي يمنع كلمة الله من أن تدخل. فسمعها، وكأنه لم يسمع.. كان مشغولًا بسماع صوت الحقد والحزن الذي في قلبه.. قال له الله احترس، الخطية أمامك، ولا تزال تسود عليها. أحرص ألا تخطئ.. ولكن الانفعالات الداخلية كانت تمنعه من سماع النصيحة. وبعد أن كلمه الله، ذهب وقتل أخاه!!
أحترس إذن من انفعالاتك الداخلية، ومن سيطرتها.
الشاب الغني، كلمة المسيح، وقدم له كلمة منفعة. ولكنه مضي حزينًا، ولم يسمع للرب (مت22:19). فلماذا؟
لأن هناك شهوة في القلب، تمنع وصول الكلمة للقلب.
مع أن هذا الشاب كان يحفظ الوصايا منذ حداثته. ولكنة عند الوصية الخاصة بالمال، لم يستطع أن يسمع. لأن هنا كانت الشهوة المسيطرة التي تحجب كل وصية وكل كلمة وتصد وترد..
كإنسان مستعد أن يسمع لك في كل شيء، ما عدا شيئًا واحدًا لا يستطيعه.
هنا عدم السمع ليس مطلقًا، ولكنه في شيء واحد. في نقطة الضعف، في الشهوة المسيطرة.. مثال سليمان الحكيم، كان أحكم الناس جميعًا، وقد أخذ الحكمة من الله.. ولكنه من جهة شهوة النساء والتزوج بالنساء الغريبات، لم يستطع أن يسمع كلمة الله، ولم يكن قلبه أمينًا للرب مثل أبيه (1مل 11: 1-10).
ولم يحفظ ما أوصى به الرب...
إذا وجدت أذنك لا نسمع، ابحث ما هو السبب؟
اذهب إلى طيب آذان يعالجك، بل اذهب بالأكثر إلى طبيب قلب، يكشف ما في قلبك من شهوات. مثل أي إنسان يخالف أباه وأمه، ويخالف الوصية والكنيسة، يخالف القانون أيضًا، لأن هناك شهوة في قلبه يريد أن يحققها. والشهوة تصم أذنيه عن السماع...
أحيانا يكون عدم السماع بسبب قساوة القلب..
ولذلك يقول الكتاب "إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" (عب 3: 15).. فرعون كان من هذا النوع القاسي القلب، الذي لم يستطع أن يسمع لكل إنذارات الله، ولم تؤثر فيه كل الضربات. وكم من مرة صرخ إلى موسى وهرون، ووعد بأن ينفذ، ثم عاد كما كان.
والقساوة تولد العناد. والعناد يمنع من سماع الكلمة.
العناد الذي يغلق القلب، ويغلق الفكر، مهما قيل له من كلام نافع ومقنع، لا يسمع! إنسان متشبث بفكره، مهما كلمته، كأنك لم تتكلم،لأن في التشبث بالفكر نوعًا من الكبرياء. تغلق الأذن عن السماع، بعكس الوديع المتواضع يمكن أن يسمع. حتى إن أخطأ، يقبل التأديب والنصيحة، ويصلح طريقه ويسمع.
الهراطقة كانت لهم آذان لا تسمع، أغلقها العناد والكبرياء.
آريوس مثلًا، لم يسمع لصوت بطريركه، ولا لصوت المجمع المحلى الذي عقد في الإسكندرية من مائة
أسقف، ولم يسمع لإقناعات القديس أثناسيوس، ولم يسمع لقرار المجمع المسكوني. كان عناده يغلق أذنيه، وكانت كبرياؤه تغلق أذنيه. ومات في هرطقته دون أن يسمع.. تمنعه العزة بالذات، والتمسك بالفكر...
وكذلك كل حوار لاهوتي من نفس النوع.
قد تحاور إنسانًا، وتجده متحفزًا للرد قبل أن تكمل كلامك. لسانه أسرع من أذنيه، لا رغبة لدية في السماع، ولا رغبه في الاقتناع. يمنعه التشبث والعناد. له آذان ولكنها لا تسمع. وبالمثل كل إنسان متمسك بفكره الخاص، مصر عي فكره، كأنك تكلم صخرًا صلبًا. لا توجد منافذ تدخل منها الكلمة...
ونفس الوضع مع كل إنسان معتز بكرامته.
قديشعر أن نصيحتك كأنها تهينه، وتهز كرامته، وتشعره بخطأه، وتتعب نفسيته فلا يكون مستعدًا إطلاقًا، لأن السماع يحتاج إلي تواضع. ولهذا ليس كل عتاب يأتي بنتيجة: المتواضع المحب تعاتبه فتكسبه. والمتكبر المعتز بكرامته، تعاتبه فيزداد الأمر سوءًا...
هيرودس الملك، لم يستطع أن يسمع كلمة يوحنا المعمدان.
كلام يوحنا المعمدان واضح "لا يحل لك أن تكون لك امرأة أخيك" (متي4:14). إنها وصية إليهة واضحة في موانع الزواج (لا18:16). والكتاب يعتبرها نجاسة (لا21:20). ولكن هيرودس لا يسمع. إغراء هيروديا يمنعه. كما كان إغراء دليلة يمنع شمشون من بقاء وصية النذير في أذنيه (قض7:13).
هناك تأثير آخر، يمنع تأثير كلمة الرب عليه.
هناك محبة أخري طغت علي محبة الله، فمنعت الأذن من أن تسمع.. كم نسمع كلام الله في القراءات وفي العظات في كل قداس، وكأننا لم نسمع، والطبع هو نفس الطبع. شعب اليهود كانت تتلي عليه البركات من فوق جبل جزريم، واللعنات من فوق جبل عيبال باستمرار (تث28:27). ومع ذلك ما كان يعبًا!!
السيد المسيح كان يكلم علماء اليهود، فلا يسمعون، علي الرغم من قوة إقناعاته، ولكنهم تشبثوا بآرائهم.
كانت الحرفية وتقاليد آبائهم الخاطئة وتعاليمهم، تمنعهم من السماع...
وربما كانت هناك مشاعر الحسد التي في قلوبهم التي كانت تدفعهم إلي محاولة التخلص من السيد المسيح، وليس سماع كلامه. ماذا أيضًا. هل أسباب أخري تمنع من السماع؟
الخوف أيضًا يسد الأذن أحيانًا عن السماع.
بيلاطس البنطي كان مقتنعًا ببراءة المسيح، وقال إنه لا يجد فيه علبة تستوجب الموت (لو22:23). وقد حذرته زوجته قائلة "إياك وذلك البار، لأني تألمت اليوم كثيرًا في حلم لأجله" (مت19:27). ولكنه لم يسمع، لأن الخوف كان يمنعه من السماع. كان يخاف أن يشكوه إلي قيصر. الخوف علي المركز وربما نفس الخوف منع أغريباس الملك من سماع تبشير القديس بولس الرسول، مع أنه قال له "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيا" (أع28:2).. إن قبل أغريباس المسيحية، سيضيع منه منصب الملك.
كثيرون يضيعون البعض بالخوف.. إن فتحت فمك لتتكلم، إن هربت منا، إن كشفت المؤامرة، إن لم تخضع، سيحدث كذا وكذا منن التهديد. وبهذا الخوف لا تنفع معه كل نصيحة لإنقاذه! تكلمه لا يسمع... الخوف يسد أذنيه...
هناك سبب آخر يمنع الأذن من السماع، وهو الاستهتار واللامبالاة.
أهل سدوم نصحهم لوط أن يخرجوا من المدينة فبل أن تحترق، فقابلو كلامه باستهزاء "وكان كنماذج في وسط أصهاره" (تك14:19). ونفس الوضع حينما تكلم بولس الرسول في مدينة أثينا، قابلوه بنفس التهكم قائلين "ماذا يريد هذا المهذار أن يقول" (أع18:17). إنه أيضًا نوع من الاستهتار، لم يأخذوا فيه الكلام بجدية. لذلك لم تكن آذانهم للسمع.. كإنسان تنصحه، فيقابلك بتهكم، أو يحول الجو إلي عبث.. ولا يسمع بل يتهكم ويهزأ...
إنسان أيضًا لا يسمع، لأنه يعرج بين الفرقتين.
آخاب إن سمع كلمة من إيليا تستطيع إيزابل أن تعمل له غسيل مخ، وتحوله إلي الناحية الأخرى.. فإن أردت أن تعطي نفسك فرصة للسماع، لابد أن تبعد عن الجو الذي يمكنه أن يحولك... كشاب يشمع عظة، فيضيع تأثيرها بسبب أصدقائه.
أصعب مثل في عدم السماع، هو مثال يهوذا، الذي كانت تمنعه الخيانة من السماع.
كم مرة أنذر السيد المسيح.. ولكن الخيانة كانت تصم أذنيه، مضافة إليها شهوة المال. القلب كان في تلف، كذلك تلفت أذناه فلم تسمع.
لكي تسمع أذناك، ينبغي أن تكون لك رغبة في أن تسمع، وتكون لك الجدية في التنفيذ.
وتكون مشتاقًا أن تسمع الكلمة، ولو أدي الأمر أن تبذل حياتك من أجلها, إن أتاك الصوت الإلهي، احتفظ به في قلبك وفي إرادتك. كما فعل القديس أنطونيوس لما سمع كلمة الرب، وللحال نفذها في جدية، بغير إبطاء بغير توان.
ولنحاسب أنفسنا، كم مرة سمعنا ولم نعمل، وكأننا لم نسمع.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:47 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
عوائق للفضيلة ولكنها ليست موانع

حياة البر والفضيلة لا تسير سهلة باستمرار، إنما تصادفها عوائق في الطريق. حتى في سير القديسين صادفتهم في حياتهم عوائق:
لماذا سمح الله بهذه العوائق؟ ما مصادرها وأسبابها وفوائدها؟
أسباب العوائق ومصادرها

1) هناك عوائق الشيطان:

الذي يجول مثل أسد زائر يلتمس فريسة. الذي يلقي الزوان في كل حقل. الذي ألقي نصيحة مهلكة في أذن أمنا حواء.. هذا إلي يجب أن نحترس منه، كما قال معلمنا بولس الرسول "لأننا لا نجهل أفكاره" (2كو11:2).
إن القديس أثناسيوس في جهاده ضد الأريوسية قال "إن عدونا الأول ليس هو الأريوسية وإنما الشيطان".
من ضمن اسبابها: الأكاليل الناتجة عنها:
فإذا وجدت عوائق، وأنتصر الإنسان عليها، إنما يدل ذلك علي محبته لله، وإصراره علي السير في الطريق الروحي، مهما صادفته من عقبات. وهكذا ينال أكاليل علي محبته وجهاده وإنتصاره.. فلا يقل احد: تصادفني متاعب في البيت والعمل والبيئة، نقول له: هذه طبيعة الطريق الروحي. لابد أن يكون هكذا.. فلماذا؟
هناك ما يسمونه "حسد الشياطين" يحسدون الأبرار علي برهم.
يحسدونهم علي أنهم نجحوا في منهج، فشلوا هم فيه. ويحسونهم علي النعمة المصاحبة لهم علي عمل الروح القدس فيهم.. بل يحسدونهم علي الحياة مع الله. لذلك يثيرون حولهم الزوابع، لكيما يفشلوا ويصيروا مثلهم ضمن مملكتهم.
فإن وجدت عوائق، اطمئن، لأنك سائر في الطريق السليم:
لو كنت سائر في طريق الشيطان، ما كان يحاربك! بل علي العكس يسهل طريقك ويشجعك. أما محاربته لك أو محاربة أعوانه، فدليل أكيد علي ان مسلكك يتعب الشيطان.. ولهذا قال السيد المسيح له المجد:
"لو كانت من العالم، لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا أخترتكم من العالم، ذلك يبغضكم العالم".
"إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أهم قد ابغضني قلبكم" (يو15: 19، 18)... إن بغضة العالم لك، ومضايقته لطريق، أمر طبيعي ومطمئن، ووسام علي صدرك.
وقد وصف الرب الباب بأنه ضيق، والطريق بأنه كرب (مت14:7).
إن العمل العظيم هو الذي يستحق المحاربة من عدو الخير، كذلك فإن البداية الطيبة تخيفه، لئلا تنمو وتثمر. لذلك نري كثيرًا أن البدايات تكون صعبة في كل عمل ناجح لأنك كلما تبدأ في عمل الخير، يبدأ الشيطان وأعوانه عملًا مضادًا لك...
حتى في حياة الرسل وكبار الآباء القديسين، كانت هناك عوائق أمام خدمتهم وكرازتهم.
قام ضدهم أباطرة وملوك وولاة وحكام وقضاء، ودفعوا إلي محاكمات وسجون ونفي، وتعرضوا للطم وإضطهادات ووقفت ضدهم الدينات والفلسفات القديمة. ويكفي قو السيد لهم "وتكونون مبغضين من الجميع لأجل إسمي" (مت22:10). وقوله أيضًا "تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله" (يو2:16). ولكننا في كل ذلك نقول:
كانت هناك عوائق، ولكنها لم تكن موانع:
قامت، عوائق كثيرة ضد الكرازة، ولكنها لم تستطع أن تمنع الكرازة. بل امتد الإيمان وانتشر، وتأسست الكنائس في كل مكان. ويكفي في ذلك قول الكتاب: والذين تشتتوا، جالا مبشرين بالكلمة" (أع4:8). وقيل ما يشبه ذلك في العهد القديم "ولكن بحسبما أذلوهم، هكذا نموا وانتشروا" (خر12:1). وقيل أيضًا عن الكنيسة "كل آلة صورت ضدك لا تنجح" (أش17:54).
وقف العالم كله ضد أثناسيوس الرسولي، ونفي عدة مرات، وعزلوه ورجع إلي منصبه ومع كل ذلك أنتصر أثناسيوس علي كل مقاوميه.
2) من العوائق أيضًا: العالم ومحبته، والحواس وطياشتها.


فالحواس هي ابواب للفكر، والفكر يوصل إلي القلب والمشاعر، والعالم يقدم حروبًا كثيرة وعوئق في طريق الروح.. وهكذا الجسد وكل عوائقه.
3) ومن العوائق أيضًا: الأخوة الكذبة والمرشدون المضلون والعشرة الردية.

كما قال الري لإسرائيل"، مرشدوك مضلون" (أش 12:3). وكما وصف الرب الكتبة والفريسيين بإنهم قادة عيمان (مت23). وقال إن أعمي يقود أعمي، كلاهما يسقطان في حفرة...
ويدخل في هذا الأمر المفاهيم الخاطئة، التي تنتشر في وسط أي جماعة قتضللها وتعيقها عن الوصول إلي الله. إن بطرس بمفهومه الخاطئ عن الآلام وقف معثرة امام الرب فانتهره وقال له "أذهب عني" (مت23:16)..
ومن ضمن هذه المعوقات الكتب والمطبوعات الخاطئة..
4) ومن المعوقات أيضًا الطباع الشخصية للإنسان:

وربما تكون بعضها طباعًا موروثة، أو طباعًا مكتسبة من البيئة، أو من كثرة الممارسة.. ولكن علي الإنسان أن ينتصر عليها، سواء كان الشخص غضوبًا أو سماعًا أو متسرعًا.. إلخ.
5) هناك عوائق من شهوات النفس الداخلية:

ومن أهدافها الخاطئة. كما قال الكتاب "لم تصبكم تجربة إلا بشرية "ونحن نصلي إلي الله أن ينقذنا من كل العوائق ايًا كانت مصادرها.
ولكنني في كل هذه العوائق والمحاربات، أحب أن أطمئنك وأقول لك: لا تخف، بل أثبت واستمر. فهناك حقيقة.
أنت لست وحدك في محاربتك. إنما معك المعونة الإلهية:
الشيطان يعيقك، والنعمة تشجعك وتقويك.. الله يسمح بوجود العوائق، هذه نصف الحقيقة، أما النصف الآخر فهو ان الله في نفس الوقت، يعطيك القوة التي تجاهد بها وتنتصر، بل هو نفسه يقودك في موكب نصرته (2كو14:2)،إنه يسمح بالتجارب، ولكنه "أمين، لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون. بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كو13:10). ولكنك لعلك تسأل: ولماذا يسمح اله بالتجربة؟ ولماذا يسمح بالعوائق؟ وهذا ينقلنا إلي نقطة أخري وهي:
الاختبار

سمح الله بالعوائق لاختبار محبتنا. ولاختبار إرادتنا، واختبار مدي طاعتنا.
كل إنسان يمكنه أن يقدم نية طيبة. ووعودًا طيبة، مثلما فعل بطرس حينما قال: "وإن شك فيك الجميع. فأنا لا اشك أبدًا"،"ولو إضطررت أن أموت معك لا أنكرك" (مت26: 23، 35)... ولكن في ساعة التنفيذ، حينما تبدو المخاوف والمخاطر، هنا يقف الاختبار أمام كل الكلام النظري، وكل النيات الطيبة.
وهناك أمثلة كثيرة، ترينا كيف تقع العوائق كاختبار:

أ) إنسان متيسر وغني، يستطيع أن يعطي، دون أن يؤثر العطاء علي مركزه المالي. أما إن وجدت عوائق من الإحتياج أو العوز، فهنا تختبر فضيلة العطاء، وهكذا ظهرت فضيلة الأرملة التي أعطت من أعوازها، مدحها الرب (مز44:12). وهكذا أيضًا ظهرت فضيلة أرملة صرفة صيدا، التي أعطت إيليا النبي - في أيام المجاعة ما معها من دقيق وزيت، ستعمله، ليكون أكلتها الأخيرة هي وإبنها، ثم يموتان" (1مل12:17). إذن فالذي يدفع للرب - وليس عنده تكون محبته أعمق، وأجره اكبر....
ب) وينطبق العطاء من العوز، علي الوقت. وعلي العشور أيضًا، كما ينطبق كذلك علي القوة والصحة.
فالذي يدفع العشور، وهو فقير، كل إيراده لا يكفيه، هذا الذي انتصر علي عائق الفقر، وأطاع الوصية علي الرغم من العوائق، بعكس الذي يتخذ العوز عذراء يغطي أو يبرر به عدم طاعته. كذلك الخادم إلى يستمر في خدمته، في عمق أيام الامتحانات، وليس لديه وقت علي الإطلاق، بل هو محتاج إلي كل دقيقة. وكذلك الذي يتعب في الخدمة، علي ضعف صحته.. كل هؤلاء في انتصارهم علي العوائق. دلوا علي أن محبتهم لله وللناس أكثر عمقًا. وبرهنوا علي تمسكهم بعمل الخير مهما كانت العوائق...
ج) وكذلك من يحتمل غيره، علي الرغم من عمق الإساءة. وعلي الرغم من الإحراج أمام الناس.
إنه يدل علي أن فضيلة الاحتمال التي عنده انتصرت علي العوائق.. وذلك قال السيد المسيح له المجد "لأنهإن أحببتم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم؟ أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك. وإن سلمتم علي اخوتكم فقط، فأي فضل تصنعون؟ أما أنا فأقول لكم احبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم...
(مت5: 44-47). هنا المحبة والسلام علي الرغم من طول المدة في الاحتمال.. وكذلك من يتحمل خيانة صديق عيل الرغم من عمق الخيانة ونتائجها:
د) كذلك من يقول كلمة حق، مع عوائق من النتائج المتعبة:
سهل أن ياقل كلمة الحق، إن كانت سهلة، ولا أذية من قولها.. أما من يقول كلمة الحق، علي الرغم من الإضطهاد الذي يلحقه بسببها، فهذا يدل علي مدي إهتمامه بالشهادة للحق، كما يدل أيضًا علي شجاعة وجرأة. ومن أمثلة ذلك القديس يوحنا المعمدان، الذي قال للملك هيرودس: "لا يحل لك أن تأخذ امرأة أحيك" (مر18:6). وكانت النتيجة أن يوحنا ألقي به في السجن، وقطعت رأسه علي طبق.
ه) مثال آخر، هو الشكر علي الرغم من العوائق:
كل إنسان يمكنه أن يشكر الله في حالات الصحة والراحة والسعة والنجاح.. أما أن تشكر الله وأنت في المرض والألم، أو تشكره وأنت تحتمل ظلمًا وإضطهادًا، أو تشكره وأنت في الفقر والعوز، أو تشكره وقد صليت صلوات كثيرة ولم تشعر باستجابته.. ففي هذا كله يظهر عمق فضيلة الشكر عندك، ويظهر أنك تحب الله من أجل ذانه، وليس من أجل خيراته...
العوائق تظهر مدي ثبات الإنسان في إيمانه، وفي علاقته بالله والناس.
إن الشهداء أظهروا عمق إيمانهم، علي الرغم من التهديدات والعذبات والسجن والنفي، وعلي الرغم من الإغراءات التي عرضت عليهم.. وبرهنوا أنهم كانوا اقوي من كل ذلك. وانتصروا علي عوائق الألم والإغراء، وناولوا الأكاليل.
وأيوب الصديق ظهرت فضيلته علي الرغم من فقده ماله وأولاده وصحته، كما فقد العطف من اصدقائه وزوجته، وفقد الإحترام من عبيده، بل فقد كل شيء. لكنه إستطاع أن يقول "الرب أعطي، الرب أخذ، ليكن إسم الرب مباركًا" (اي21:1).
كذلك في التعامل مع الأصدقاء والمعارف، بيدو عمق العلاقة إن إستطاع الإنسان أن يحتفظ بمحبته، ولا يضحي بها بسبب خطأ يحدث، أو إهمال مقصود أو غير مقصود أو سبب تقصير أو زلفة لسان.. إلخ..
الفضيلة الثابته علي الرغم من العوائق، تشبه البيت المبني علي الصخر:
ثبات هذا البيت تعرض لعوائق الرياح والأمطار والأنهار ولكنه أنتصر ولم يسقط (مت7). كذلك الإنسان الروحي الذي يبقي إيمانه ثابتًا، ولا يفقد هدوءه ولا سلامه ولا محبته، علي الرغم من كل العوائق.. لا يهتز، ولا يتغير، ولا يضطرب، ولا يشك ولا يضعف.. تدل الاختبارات علي أن معدنه طيب وقوي، وعلي أنه يحيا حياة الإنتصار باستمرار....
مثال ذلك: إبراهيم أبو الآباء، في كل اختبارات إيمانه:
كانت دعوته الأولي: أن يترك أهله وعشيرته وبين ابيه (تك12). ويمضي وراء الله "وهو لا يعلم إلي اين يذهب" (عب8:11). ومع ذلك "لما دعي أطاع". ولم يناقش، ثم كان الاختبار الثاني والأصعب، أن يأخذ إبنه وحيده الذي تحبه نفسه، ويقدمه لله محرقة علي أحد الجبال" (تك2:22). ولم يقف هذا الأمر عائقًا أمام محبة إبراهيم لله ولا أمام إيمانه ولا طاعته...
كذلك هناك فرق كبير بين الخدمة السهلة والخدمة الصعبة:
كثيرون يفضلون الخدمة السهلة المريحة. وبلا شك أن أجرها عند الله لا يمكن أن يكون في مستوي الخدمة الصعبة، التي بلا إمكانيات، مثل كرازة مارمرقس في أرض مصر.. أو تكون خدمة فيها مشاكل ومتاعب من الأوضاع ا, من الناس أو من أخوة كذبة كما حدث لبولس الرسول (2كو4: 6،11). الذي قال أيضًا "حاربت وحوشًا في أفسس" (1كو8:3). فكلما انتصر الإنسان علي عوائق الخدمة لأجل بناء ملكوت الله، هكذا يكون أجره عظيمًا في السماء.
فوائد العوائق

1) العوائق تذكرنا بضعف طبيعتنا، وتقودنا إلي الاتضاع.

ربما لو كانت الحياة الروحية سهلة وبلا عوائق، وسلسلة من الانتصارات، لوقع الإنسان في المجد الباطل والشعور بالقوة. بينما العوائق كثيرًا ما توقفنا أمام حقيقة أنفسنا، فنشعر بأننا ضعفاء، وأن الأمر ليس سهلًا، ويحتاج إلي جهد قد يكون فوق مستوانا.
وهكذا تتضع قلوبنا من الداخل، وبخاصة إن فشلنا في بادئ الأمر، كما حدث مع بطرس، ومع داود، ومع شمشون.
2) وهذه العوائق كما تسبب لنا الاتضاع، تدعونا إلي الصلاة:

فلا نعتمد علي أنفسنا، إنما نعتمد علي الله، ونقول مع المرتل: لولا أن الرب كان معنا.. لابتلعونا ونحن أحياء" (مز124).
ونقول للرب أيضًا "إصغ إلي صراخي، لأني قد تذللت جدًا. نجني من الذين يضطهدونني، لأنهم اشد مني فصرخت إليك يا رب. وقلت أنت هو رجائي وحطي في أرض الأحياء" (مز142). والعوائق تجعل صلواتنا أكثر عمقًا وأكثر حرارة.
3) والعوائق أيضًا تعطينا خبرة روحية، ونلمس يد الله وتدخلها لإنقاذنا.

أليس هو القائل "بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا" (لو5:15). نلمس قوله "أنا معكم كل الأيام وإلي إنقضاء الدهر (مت20:28). وهكذا نري عمليًا كيف أن الله يحل لنا المشاكل، ويزيل العوائق والعقبات. وندرك عمليًا قول الله عن زربابل "من أنت ايها الجبل العظيم؟ أمام زربابل تصير سهلًا" (زك7:4).
ونختبر كيف يحول الله الشر إلي خير، وكيف يتدخل في الأحداث، ويديرها حسب مشيئته، ويجعلها كلها تؤول إلي مجد اسمه.
وبخبراتنا في الانتصار علي العوائق بمعونة إلهية نختبر عمليًا تفسير الآية التي تقول:
"قفوا وانظروا خلاص الرب.. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر14: 13-14).
وإذا بالقصص التي نقرؤها في الكتاب - تصبح واقعًا عمليًا أمامنا كقصة الثلاثة فتية في الأتون، أو قصة دانيال في الجب، ونضيف إلي حياتنا سجلًا واقعيًا من معاملات الله معنا أو مع أقاربنا وأصحابنا وزملائنا وبالتالي شجاعة وقوة، ولا نعود نخاف من الشدائد ولا العوائق ولا من الأمور الصعبة.. ونري كيف أن الله يسمح العوائق، ولكنه يوجد طريقًا داخلها للفكاك منها....
4) وبهذا علي الرغم من العوائق، ندخل في حياة الشكر.

الشكر لله الذي أنقذ ودبر وأزال العوائق. الله الذي يفتح ولا أحد يغلق. الله الذي هو أقوي من فرعون ومن نيرون ومن ديقلديانوس. وهكذا نرتل قائلين "نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر ونحن نجونا عوننا من عند الذي خلق السماء والأرض" (مز124).
ونري في كل العوائق أن الذين معنا أكثر من الذين علينا (2مل16:6).
نري أن الملائكة المحاربين معنا، أكثر من الشياطين القائمين علينا. ونري أن عمل الله الهادئ أكثر من قوي الشر الصاخبة.. وعمل الروح القدس أعمق من كل الإغراءات المضادة. إن آدم لم يشعر بقيمة كل الخيرات المحيطة به وهو في جنة عدن. ولكن. الشعب التائه في سيناء، عرف قيمة الماء المتفجر من الصخرة، والمن النازل من السماء لن الاحتياج يعطي قيمة للشيء أكثر من توافره...
5) العوائق تنشط أرواحنا للقتال مع العدو.

وهكذا يغني القلب الذي يواجه العوائق، ويقول "مبارك.. الذي الرب يعلم يدي القتال، وأصابعي الحرب" (مز1:144). لولا جليات ما اختبر داود قوة رب الجنود، وأولًا الحروب الروحية، ما كنا نحصل علي تعاليم الآباء الذي جربوا خداع العدو، ووصفوا لنا قتالاته وطريقة الانتصار عليها. لقد عاش بولس البسيط في ظل صلوات القديس أنطونيوس الكبير. ثم دعاه القديس أن يسكن بمفرده في الوحدة "لكي يجرب قتالات العدو "لكي تنشط روحه في الجهاد، وتختبر الانتصار.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:49 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
أكبر عائق للفضيلة هو الذات

خطورة الذات

ما أسهل أن الذات تضيع الإنسان، كما قال السيد المسيح:
"من وجد حياته يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلي يجدها" (مت39:10).
حقًا ما أخطر أن يركز الإنسان كل اهتمامه علي ذاته، كيف تكبر وتعظم. ويحب أن يكون بارًا في عيني نفسه (أع1:32). وعظيمًا في عيني نفسه وفي أعين الناس (أع12: 21،23). وأن يكون حكيمًا في عيني نفسه (أم7:3). الأمر الذي نهي الرب عنه.
وحرب الذات من الخطايا الأمهات. تلد كثيرًا من الخطايا، كما سنري فيما بعد..
وهي أول خطية في العالم:
هي الخطية التي سقط بها الشيطان، حينما قال في قلبه "أصعد إلي السموات، أرفع كرسي فوق كواكب الله.. أصير مثل العلي" (أش14: 13، 14). وبنفس الخطية ذاتها أغرس أبوينا الأولين علي السقوط، بقوله لهما "تصيران مثل الله.." (تك5:3).
موضوع (الذات) يذكرنا بخطية يونان النبي.
الذي خاف أن تسقط كلمته إلي الأرض. إذ ينذر أهل نينوى بانقلاب مدينتهم، فتكون النتيجة أن يتوبوا فيرحمهم الله، وتسقط كلمة يونان. ويغتم يونان غمًا شديدًا ويغتاظ (يو1:4).
وثقة الإنسان أنه بار في عيني نفسه، كانت مشكلة أيوب (أي1:32). ونفس الوضع من جهة الثقة بالحكمة الشخصية، إذ يقول الكتاب:
"لا تكن حكيمًا في عيني نفسك" (أم7:3).
إذ يثق الإنسان بفكره الخاص وبحسن تدبيره، دون سماع مشورة من أحد، ويري أنه علي حق في كل شيء. الأمر الذي نهي عنه الكتاب قائلًا "وعلي فكر لا تعتمد (أم3: 6). وقال أيضًا توجد طريق تبدو للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت" (أم12:14). (أم35:16).
نتائج حرب الذات

1) أن تكون الذات في قمة الاهتمامات.

بحيث كل ما يدور في فكر هذا الشخص: مستقبلي، مركزي، كرامتي، رأيي، شخصيتي. بل تحول الذات إلي هدف، وهي محصلة كل أعماله وأقواله وتصرفاته. وتكثر في فكره وفي أقواله عبارة (أنا).
2) وربما يصل إلي امتداح نفسه لنفسه.

فيفقد الاتضاع، ويتعلق بمحبة المجد الباطل، وهكذا لا يستطيع أن يلوم نفسه في شيء. ويحاول باستمرار أن يبرر نفسه في كل شيء. وقد لا يستطيع أن يحتمل كلمة عتاب من ا؛د، وليس فقط كلمة تبكيت، ولا يكون فقط بارًا في عيني نفسه، إنما يحب بالأكثر أن يكون أيضًا بارًا في أعين الآخرين، ويسعي إلي مدحهم وتطويبهم، ويسر بذلك لأجل هذا، ولغيره أيضًا، قال السيد الرب:
"من أراد أن تأتي، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني" (مت24:16).
وفي بعض الترجمات "يمجد نفسه "وفي ترجمات أخري "يكفر بنفسه "وقال الرب أيضًا "من أضاع نفسه من أجلي يجدها" (مت39:10). بل قال كذلك أن يبغض الإنسان حتى نفسه لكي يكون تلميذًا للرب" (لو26:14).
3) هذه الذات التي تجعل الإنسان يقف أحيانًا ضد الله.

يعادله وقاومه، وينفصل عنه، ويكس وصاياه، وينضم إلي أعدائه. كل ذلك لكي يشبع الشخص رغباته، ويسير حسب هواه.
وإن طلب من الله طلبًا، يصر أن يكون الله مجرد منفذ لرغباته، دون أن يضع في اعتباره حكمه الله ومشيئته. وإن تأخر الله عليه، أو ظن ان الله قد تأخر، يغضب ويتضتيق.. ويشك في محبة الله ورعايته، ويتذمر، ويهدد نترك الكنيسة أو اجتماعاتها.
بل أن الوجوديين أنكروا وجود الله، شاعرين أنه ضد رغباتهم وضد تمتعهم (بالوجود)!!
وهكذا نري إلي أحد حد يمكن أن تكون محبة الذات.....! وقد قادت الشيوعيين أيضًا إلي الإلحاد، وقادت كثيرًا من الفلاسفة إلي الوثوق بأفكارهم أكثر من الثقة بكلمة الله، وهكذا فعلت الذات مع بعض رجال الدين في الغرب الذين وضعوا عقولهم رقيبة علي الكتاب المقدس نفسه!! يقبلون منه ما يوافق هواهم وفكرهم، وينكرون الباقي!!
4) والذات أيضًا دخلت في محيط الأبوة الروحية والجسدية.

وأصبح البعض لا يطيع الأب الروحي إلا فيما يوافق هواه، وإلا يغيره..! أو أنه لا يعرض عليه، إلا ما يعرف مسبقًا أنه سيوافق عليه!!
ونفس الوضع في محيط الأسرة بالنسبة إلي طاعة الوالدين، ومن هم في مرتبتهما من الكبار في العائلة، وحتى في الكنيسة من المشيرين والمدبرين.
5) وكانت للذات أثرها في مجال الخدمة أيضًا.

ومن جهة محبة الرئاسة والقيادة وفرض الرأي، الأمر الذي سبب انقسامات في مناطق متعددة. كل (خادم) يحب أن يفرض رأيه ومنهجه وأسلوبه، هو الذي يقود ولا يقاد. أو علي الأقل يكون له
مجموعة تتبعه، وتقف ضد كل من يعارضه أيًا كان مركزه.
إنه في الخدمة يبحث (ملكوته) هو، وليس عن ملكوت الله!!

حتي لو أدي الانقسام إلي تدخل الطوائف الأخرى وضياع الخدمة! وحتى لو أصبح الانقسام عثرة للمخدومين وشتتهم! المهم عند هؤلاء هو الذات وإسباعها من حب السيطرة وتنفيذ الرأي الخاص والحصول علي الكرامة الشخصية، ولو استوفوا خيراتهم علي الأرض" (لو25:16).
6) بل قد تدخل الذات في محيط العقيدة!

حيث يصر (لخادم) في محيط التعليم، أن يكون له فكره الخاص، ينشره ولو كان ضد كل التعليم المعروف في الكنيسة، وضد التقليد والإجماع العام!! المهم عنده هو فكره وثقته بعلمه. وإن جاءه توجيه، يقاوم، ويري نفسه اكبر من كل الموجهين!
حقًا، كيف ظهرت البدع والهرطقات إلا من الذات والاعتداد بالفكر الخاص، حتى لو كان الهرطوقي قد أنذر مرة واثنتين وأكثر. ولكن التصاقه بذاته أقوى من كل إنذار...
7) وتوصية محبة الذات إلي العناد.

حيث لا يريد الشخص فقط أن يكون الأول، إنما بالأكثر أن يكون الوحيد، وكأنه يقول "أنا وليس غيري"!! وقد يصل في محبته لذاته، أن يقف ضد الآخرين. وقد يهاجم بعنف. وقد يستخدم أسلوبًا عدوانيًا. ويهاجم كل من هو ضد رأيه.
8) وتوصله محبة الذات إلي العناد.

وإلي تصلب الفكر، وعدم قبول أي رأي غير رأيه أو ضد الرأي. إما أنه لا يحب أن يسمع، أن يسمع يرفض. أو يصل في المجادلة إلي التشبث بفكره مهما سمع من إقناعات.
9) والذات هي التي تضيع الأسرة.

وتصبح هي العامل الأول في الخلافات الزوجية، إذا تشبث فيها كل طرف بفكره. وإذا بحث أحد الطرفين عن راحته فقط، ولو تعب الطرف الآخر. أو إن أصر أن يخضع له الطرف الأخر في كل ما يقوله أو يريده، ولو عن غير اقتناع وضد رغبته، وبدون تفاهم! المهم عنده هو الخضوع، مهما كان ثمنه، ومهما كانت نتائجه.
10) بل الذات تتلف كل المجتمعات.

فالمجتمع يقوم علي تبادل الرأي، وليس علي فرض الرأي. ويبني القار علي الحوار. فإن أراد أحد أن يخضع لرأيه، أو إن تجاهل فكر غيره، ينقسم المجتمع ولا يثبت.
والذات تقود باستمرار إلي الأنانية.
والأنانية لا تبني اية علاقة إجتماعية، بل تهدمها...
مظاهر محبة الذات:
الذي يهتم بذاته، إما أن يكون من ناحية الجسد، أو من ناحية النفس، أو من ناحية الروح.
فمن ناحية الجسد، يسعي إلي شهوة الجسد وشهوة العين (1يو16:2). اي في محبة العالم والمادة البعيدة عن محبة الله.
وفي محبة الجسد والمادة وقع سليمان الحكيم، فقد حكمته.
قال "بنيت لنفسي بيوتًا، غرست لنفسي كرومًا، عملت لنفسي جنات وفراديس...
جمعت لنفسي أيضًا فضة وذهبًا. أتخذت مغنين ومغنيات وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات" (جا2: 4-8).
لاحظو عبارة (نفسي) أي ذاتي، التي تكررت كثيرًا في كلامه..
وماذا كانت النتيجة؟ يقول الكتاب في زمان شيخوخة سليمان، أن نساء أملن قلبه إلي آلهة أخر، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب كقلب داود أبيه" (1مل4:11).
ومثل سليمان، نتكلم عن شمشون وعن داود في خطية كل منهما. وفي حياة الرفاهية والمال والنساء والعظمة وشهوة الجسد، وعقوبة الله لكل من هؤلاء.
كلهم أرادوا أن يبنوا أنفسهم بطريقة غير روحية.
بتحقيق شهواتهم، بالمغنين والمغنيات، بالسيدة والسيدات، بدليلة وبثشبع.. وانطبق عليهم قول الرب "من وجد حياته يضيعها".
والفضيلة تكون هنا في الإنتصار علي الذات.
في ضبط النفس. في قول القديس بولس الرسول "أقمع جسدي واستعبده، لئلا بعدما كرزت لآخرين، أكون أنا نفسي مرفوضًا" (1كو27:9).
ومن جهة النفس، الذي يريد أن يشبع رغبات نفسه، قد يقع في الغيرة والحسد، لأنه يريد لنفسه ما في يد غيره.. وقد يقع في مصارعات مع الآخرين.. قد يقع فيما وقع فيه أخوة يوسف لما حسدوا أخاهم (تك37)،أو في الشعور السيء الذي كان للأخ الكبير تجاه أخيه الأصغر الذي ذبح له ابوه العجل المسمن (لو15). أو ما حدث بين يعقوب وعيسو الذي قال "اقوم وأقتل يعقوب أخي" (تك41:37). أو حدث بين راحيل وليئة التي قال "مصارعات صارعت الله أختي" (تك8:30). هؤلاء كلهم دخلوا في صراعات، وانطبق عليهم ما قيل عن إبراهيم ولوط:
"ولم تحتملهما الأرض ان يسكنا معًا" (تك6:13).
لذلك فإن أبانا إبراهمي البعيد عن الذات، ترك للوط حرية الأرض. واختار لوط لضياعه فيما بعد، في سبي سادوم (تك14). وفي حريقها (تك19).
إن صراعات الذات دخل في شكوي مرثا من مريم بقولها "اختي تركتني أخدم وحدي" (لو40:10). وكانت مريم قد أختارت النصيب الصالح، الشكوي التي قدمت ضدها كانت من جهة صلاحها!!
ولكن الذات تقف حتى ضد الأخوات!!
وضد الأخوة معًا، والأقارب، والخدام...!!
لا أنا

ما أجمل وما أعمق قول القديس بولس الرسول:
"فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في" (غل20:2).
هنا النكران الكامل للذات في كل شيء.. "لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك "هكذا كان السيد المسيح يقول للآب، وهكذا نقول أيضًا في الصلاة الربانية كل يوم "لتكن مشيئتك".
وهكذا فعل أبونا إبراهيم حينما قال له الرب "أذهب من ارضك ومن عشيرتك ومن بيت ابيك إلي الأرض التي اريك" (تك12).." فخرج وهو لا يعلم إلي أين يذهب" (عب8:11). وفي طاعته تخلي عن ذاته وعن كل شيء.. بل في طاعته لما أمره الله بتقديم إبنه الوحيد محرقة (تك2:22). تخلي عن عواطفه وآماله. وترك كل ما يتعلق بالذات، منشغلًا بالله وحده. وفي قلبه أيضًا عبارة (لا أنا) "لا مشيئتي، بل مشيئتك "
ومثل القديس بولس وأبينا إبراهيم، القديس يوحنا المعمدان أيضًا.
كان يختفي لكي يظهر المسيح. يقول "من له العروس، فهو العريس "أما أنا فمجرد صديق للعريس اسمع وأفرح "ينبغي أن ذاك يزيد، وأني أنا انقص" (يو3: 29، 30).
ومع ذلك، فهذا الذي قال "أنا أنقص "قال عنه الرب "لم تلد النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان" (مت11:11).
وعبارة "أنا أنقص "أكملها بولس بقوله "لا أنا"....

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:51 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
وإذ لم يكن له أصل جف

وإذ لم يكن له أصل جَف (مت6:13).
كثير من الناس يبدأون الحياة مع الله ولا يستمرون.
إما أنهم يبدأون بحرارة، ثم يبردون، أو كما يقول الكتاب أحيانًا أن بعض الناس يرتدون. وأحيانًا البعض قد يتركون محبتهم الأولي، أو يفترون، أو يبردون..
والسيد المسيح لما قدم لنا مثل الزارع، أعطانا صورًا عن أناس وقعت البذار في أرضهم، ولكن بعضهم فشلوا. وأريد أن أحدثكم اليوم عن نوع واحد من هؤلاء، قال عنه الرب إنه "إذ لم يكن له اصل جف" (مت6:13)..
هذا النوع بدأ بداية، ربما تبدو طيبة.
قيل عنه إنه نبت حالًا (مت5:13). وإنه النوع "الذي يسمع الكلمة، وحالًا يقبلها بفرح" (مت20:13). ومع ذلك قيل مرة إنه جف، ومرة أخري إنه احترق. لماذا لأنه "لم يكن له أصل في ذاته، بل هو إلي حين"، وإنه "ليس له عمق أرض".
المشكلة أنه "ليس له اصل "اي ليست له جذور قوية ممتدة، أو ليس له عمق أرض.
هذا النوع هوائي، ليست له عمق صلة مع الله، لذلك استمر في علاقة مع الله إلي حين، ثم جف. مع أنه قبل الكلمة حالًا بفرح.. إنها مأساة لأناس يقبلون الكلمة بفرح يقوله القديس بولس الرسول:
"لأن كثيرين.. ممن كنت أذكرهم لكم مرارًا، والآن أذكرهم أيضًا باكيا، وهو أعداء صليب المسيح (في18:3).
وكمل الرسول فيقول "الذين نهايتهم الهلاك.. ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات "هؤلاء كانوا من مساعديه، من أوقي العاملين. آمنوا، وخدموا مع الرسول.. قبلوا الكلمة، وساروا مع الله شرطًا ومع ذلك يذكرهم الرسول الآن وهو باك، وقد صاروا أعداء صليب المسيح....
لعله من أمثلة هؤلاء ديماس، أحد مساعدي الرسول الكبار.
الذي كان يذكره أحيانًا إلي جوار اسماء لوقا ومرقس الإنجيليين، وارسترخس.. ثم قال عنه الرسول أخيرًا "ديماس تركني لأنه أحب العالم الحاضر" (2تي10:4). نبت قليلًا بعد أن قبل الكلمة بفرح، ولكن "إذ لم يكن له اصل جف" بل احترق (مت6:13).
ومن الأمثلة أيضًا "الذين بدأوا بالروح وكملوا بالجسد".
فرق بين الذين يجفون أو يحترقون، والذين يفترون.

ملاك كنيسة لاودكية كان فاترًا، وكانت أمامه فرصة للتوبة (زؤ3: 16، 19). وملاك كنيسة أفسس ترك محبته الأولي، وكانت له أيضًا فرصة للتوبة (رؤ2: 4، 5). وهناك نوع أصعب من هذين. وهو ملاك كنيسة سادرس، الذي قال له السيد المسيح: لك اسم إنك حي، وأنت ميت" (رؤ1:3). ولكن الجميل أن هؤلاء الملائكة الثلاثة، علي الرغم من سوء حالتهم، السيد أرسل لهم رسائل يدعوهم إلي التوبة.. هنا قلب المسيح الطيب الذي يتحنن حتى علي الذي لم اسم إنه حي وهو ميت.. إنه لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا، بل هو يدعو الكل إلي الخلاص.. ولكن.
من هذا الذي ليس له أصل، وليست له جذور عميقة؟
هناك أشجار لها جذر عميق في الأرض مثل النخلة. وأشجار لها جذور تمتد عرضيًا بقوة مثل أشجار الكافور، ولها عمق أيضًا. والجذور القوية تستطيع أن تحمل الشجرة وتحمي الشجرة مهما صدمتها الرياح والزاوبع والرمال....
ونحن قد تعلمنا هذا الدرس من الأشجار، وطبقنا في المباني. فجعلنا لها أساسات قوية وعميقة من الخراسانات العادية والمسلحة، قواعد تربطها سملات عرضية. وكلما ارتفع البيت، يستعد له المهندسون بأساسات أقوي وأكثر عمقًا تحميه.. ولكن مسكين ذلك البيت الذي ليس له أساس ولا عمق، بل هو مبني علي الرمل، إنه يسقط مثل أوراق الشجر....
ما هي الجذور العميقة؟

أول جذر عميق يربط الإنسان بالله، هو الحب.
لأن هناك أناسًا يتحركون في حياة الفضيلة، ويتحركون داخل الكنيسة حتى في حياة الخدمة، ومع ذلك لا يربطهم بالله حب، الواحد منهم يصلي ويصوم وليست له محبة إليهة، كما وبخ السيد المسيح أولئك اليهود الذين انطبق عليهم قول الرب في سفر إشعياء النبي "هذا الشعب قد أقترب إلي بفمه، وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيدًا (أش13:29) (مت8:15).
يكومني بشفتيه تعني النبات الظاهر علي وجه الأرض.
وقلبه مبتعد تعني عدم وجود جذور تربطه بالأرض.
كم أناس يصلون، وقلبهم بعيد عن الله. ويرفعون أيديهم إلي الله رافض لهذه الصلاة، كما قال الرب لهؤلاء "حين تبسطون استر وجهي عنكم. وإن أكثرتم الصلاة لا اسمع. ايديكم ملآنة دمًا" (أش15:1). هؤلاء يصلون، ولكن لا محبة في قلوبهم من نحو الله والناس..! ولذلك يجف.....
قد يوجد إنسان يجف، وهو داخل الكنيسة...!
من الجائز أن هذا الإنسان يخدم، وله نشاط جبار يخدم في فروع عديدة، وفي بلاد وفي مؤتمرات، وله اسم وله شهرة. ومع ذلك ليس له أصل من الحب يربطه بالله...
ربما تسمع عن نشاطه فتعجب به. فإذا اصطدمت به وعاملك بعنف، تعجب منه..
إنسان يجف وهو داخل الكنيسة، مثل إبنة يايرس التي ماتت وهي في بيت أبيها.ومثل الإبن الضال لكبير الذي اساء إلي إبيه (لو15: 28- 30). وقال لأبيه "ها أنا أخدمك سنين عديدة.. وقط لم تعطني جديًا لأفرح مع أصدقائي "وكأنه يصف أبه بالبخل والظلم.. إنه ان يخدم الأب، ولكن قلبه مبتعد عنه بعيدًا...
أناس أثناء معجزة ظهور العذراء في الزيتون انتعشوا روحيًا...
وربما نذروا نذورًا، وفرحوا بالرب، وصلوا وتناولوا، وتحدثوا في إعزاز عن كرامة العذراء والقديسين،ولكنهم إلي حين! وابحثوا عنهم تجدوا الشعور الروحي قد أنتهي. لقد أنتهي. لقد قبلوا المعجزة بفرح.. وهللوا بفرح.. وهللوا لها.. ولكن لم يكن في قلوبهم حب عميق نحو الله.. وإذ لم يكن لهم أصل جفوا..
من أهمية محبة القلب لله، يقول الرب:
"يا ابني أعطني قلبك" (أم26:23).
ولماذا تطلب يا رب هذا القلب؟ لكي أمد جذوره في الأرض، وأجعل له فروعًا في كل مكان، وأثبته وأقويه، فل يقتصر فقط علي العمل الخارجي..
الكل مؤمنون. ولكن هل الكل جذور قوية، تمتص الحياة وترسلها إلي الفروع، وتضخها ضخًا إلي الجذع والفروع والأوراق. ذلك يقل عن القلب أنه مضخة. وعصارة الحياة تصل إلي كل الشجرة.
أما الشجرة التي ليس لها جذور فإنها تجف.
الشجرة القوية خضرتها داكنة وقوية. فإذا لم تصلها عصارة الحياة من الجذور تبدأ تجف. وكيف؟ خضرتها تبعت قليلًا، ثم تصفر، وتفقد حيويتها، وتجف، وتسقط أوراقها.
ما هي إذن المحبة الإلهية التي عندك، التي هي مضخة، توصل الحب إلي صلواتك، وأصوامك وتأملاتك، وخدمتك ومعاملاتك للناس.
عندما بدأت حياتك: هل بدأتها بالسماع عن الله، أم بالإيمان القوي بالله؟ ولذلك كما قلنا إن المحبة هي جذر من الجذور القوية في النبات الروحي، نقول أيضًا:
الأيمان هو اصل من الأصول القوية التي تحفظ الحياة.
فهل عندك هذا الإيمان. أم دخلت الكنيسة وأنت طفل علي الإيمان واليك. وظللت حتى الآن علي إيمان والديك، وليس لك الإيمان الشخصي الذي ينمو في محبة الله؟! هل عشت بالإيمان. فإن كان لك الإيمان القوي، لا يمكن أن تجف. بل الذي له مثل هذا الإيمان، يقول مع المرتل:
إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا (مز23).
لماذا؟ لأن الرب معي. أنا أؤمن بوجود في حياتي، فلا أخاف مطلقًا أنني أجف حتى إن ضعفت، حتى إن سقط. فالكتاب يقول "إن الصديق يسقط سبع مرات ويقوم" (أم19:24). إن بطرس كان له إيمان كبير بالرب، ومع ذلك سقط، ولكنه قال للرب: هذا سقوط ضعف، وليس سقوط خيانة. حدث ان بطرس الرسول سقط وسب ولعن وقال لا أعرف الرجل، ومع ذلك قال للرب بعد القيامة "أنت تعلم يا رب كل شيء. أنت تعلم أني أحبك" (يو17:21).
بعد سقطة بطرس بكي بكاءًا مرًا، لأن الجذر القوي مدة بالدموع وبالتوبة. وهكذا فالشخص الذي له أصل في الأرض، إن سقط يقول:
"لا تشمتي بي يا عدوتي، فإني إن سقط أقوم" (مي8:7).
له أصل في الأرض، يقيمه إن سطق.والرب يقول إن الذي ليس له اصل "إذا حدث ضيق أو أضطهاد من أجل الكلمة، فحالًا يعثر" (مت21:13). لذلك يقال عن الذي يرتد في وقت الضيقة، إنه "ليس له اصل"، فجف وسقط.. لذلك لابد أن يكون للمؤمن أصول قوية، منها الحب، ومنها الإيمان.
من ضمن هذا الإيمان، الإقتناع القوي بالحياة الروحية.
يكون مقتنعًا بالفضائل، بكل تفاصيلها. ونحن نري مثلًا أن الإقتناع يدفع إلي العمل دفعًا قويًا. فالذي يكون مؤمنًا بأهمية كرامته الشخصية مثلًا. إذا ما مست هذه الكرمة تراه يثور لها، وتقوم الدنيا ولا تقعد بسبب
ذلك. كذلك الذي يؤمن بأهمية الاتضاع والتسامح والوداعة مهما حاربه التأثر لكرامته يبقي إيمانه بالفضيلة وبالروحيات وإيمانه بالطيبة والوداعة والتسامح. جائز أن البعض يؤمنون بالفضيلة مجرد إيمان عقلي.
أي أنه بعقله إن المغفرة أفضل من الحقد، والتسامح أفضل من انتقامه لنفسه. والاحتمال أفضل من الغضب والثورة. ولكن عملياًُ هذا غير موجود في حياته. إنه مجرد إيمان عقلي، وليس إيمانًا قلبيًا ولا عمليًا. إنه إيمان عقلي بالفضيلة، ولكنه في دائرة العقل فقط، وليس له اصل ولا جذور داخل القلب، إذا اختبر عمليًا لا يكون له وجود..
قيل إن الشياطين يؤمنون ويقشعرون.
أنه مجرد إيمان عقلي، ليس له جذور، غير مبني علي حب إلهي، ولا إقتناع داخلي بالتنفيذ...
لذلك أردكم لا أن أن تهتموا فقط بالأعمال الظاهرة..
إنما إهتموا بالأكثر بالعوامل الداخلية وليس الظاهرية في الإيمان والحب.
لذلك فالشخص المؤمن إيمانًا عمليًا بالفضيلة والخير نحو الله والناس، إذا حورب فإن أصله الداخلي لا يسمح له بالسقوط. لذلك فإنها عبارة عجيبة ان يقول شخص:
"فلان كان يحبني زمان، أما الآن فليرحمنا الله".
يقول "فلان تغير. لم يعد كما كان أولًا "! لماذا هل هذا الحب لم يكن له أصل، فلما هبت الريح علي هذا البيت سقط. ولماذا سقط؟ لأنه لم يكن له اصل وأساس قوي ولم يكن له عمق..
والمعروف انه كلما يزيد الارتفاع لي مبني، لابد أن أساسه يزداد عمقًا وقوة ليحتمل كما في "ناطحات السحاب".
وأنت بناؤك الروحي، ليس هو مجرد ناطحات سحاب، بل أنه يرتفع حتى السماء الثالثة بل يصل إلي أورشليم مسكن الله مع الناس (رؤ3:21). فلابد أن تعمق أساساتك، تجعل جذورك تمتد. وكلما تنمو يجب أن تجعل جذورك تمتد إلي تحت.
لذلك فإنه من الجذور التي تحمي الإنسان: تواضع القلب.
مهما إرتفع، تواضع القلب يحميه، أرتفع في مركزه في شعبيته، في قيمته عند الناس، لابد أن يكون عنده إنسحاق قلب نازل إلي تحت، تحت التراب، حتى أنه مهما إرتفع من الخارج، فإن جذور التواضع تجذبه إلي أسفل، وتقول له: أعرف من أنت؟ أنت مجرد تراب ورماد إرتفعت... هذا حقًا له اصل.
للأسف كثير من الناس يهتمون بالأعمال الخارجية الظاهرية، ولا يهتمون بالجذور التي تحت.
يقول واحد منهم "لا أريد أن أغضب". ويظل يكبت الغضب في داخله، ولا يلفظ بأية لفظة خارجة. يضبط لسانه ويحاول أن يضبط أعصابه، ولكن القلب من الداخل كله ثورة وسخط. وسكوت هذا الإنسان من الظاهر ليس له أصل. لذلك قد يضبط نفسه إلي حين.. وبعدها ينفجر!
أما الإنسان المتواضع، فإن جذوره الداخلية تقول له: ألا تتذكر خطاياك. أنت فعلًا أخطأت في أشياء كثيرة، ولعلك تستحق ما يفعله هذا الإنسان بك...
وهذا ما قاله بعض الآباء عن تحويل الخد الآخر..
قال: بينما يكون المسيء إليك قد لطمك علي خدك من الخارج، تكون أنت تلطم نفسك من الداخل بتوبيخك لنفسك وبتذكرك خطاياك. فيكون هناك توافق بين داخلك وخارجك. أما مجرد الاحتمال لنفسك الظاهري الخارجي مع ثورة القلب الداخلية، فإن هذا يوقعك في الثنائية المتعبة. وتجد نفسك في صراع بين ما هو كائن فيك، وما ينبغي أن يكون....
إنسان آخر قد يتقن صمت اللسان من الخارج، ولكن قلبه من الداخل يروي فنونًا وفيه أفكار كثيرة.
إنه ليس له أصل، مهما حاول أن يمسك لسانه فلا يتكلم؟ حقًا إنه أمتنع عن الخطأ بلسانه، ولكن الخطأ في قلبه لا يزال موجودًا. إنه إنسان ليس له أصل، والله قاري الأفكار وفاحص القلوب، يعرف ما كان يريد هذا الإنسان أن يقوله..
كإنسان يصوم من الخارج، وليس له زهد في الداخل.
هو يصوم الأربعين المقدسة، وأسبوع الآلام، ثم يقول "انتقمت لنفسي في أيام الخمسين، ومهما اشتهته عيناي في تلك الأيام لم أمنعه عنهما.. إنه إنسان ليس له أصل في الصوم، كالذي يصوم وهو يحاول أن يتحايل علي الصوم بالتفنن في الأطعمة الصيامية وصنعها بطريقة مشتهاة.. إنه يصوم ولا ينتفع بالصوم، وذلك بسبب أسلوبه الخاطئ، ولأنه ليس له لأنه أصل في الزهد في المادة وفي شهوات الجسد، وليس له أصل في الاهتمام بالروح والسمو بها.....

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:53 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
طرق تبدو مستقيمة

هناك آية تكررت مرتين بنفس النص في سفر الأمثال وهي:
"توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت" (أم12:14).
وهي بنفسها في (أم25:16). ولابد أن لهذا التكرار أهمية خاصة، في التركيز علي نفس المعني. فما هو هذا المعني؟
لعل المقصود اولًا، أن الإنسان لا يجوز له أن يعتمد علي مجرد رؤيته الخاصة للأمور وفهمه الخاص. فمن الممكن أن يخطئ، ويظن أن الخير له في طريق تضره. ولذلك يقول الكتاب في نفس السفر:
وعلي فهمك لا تعتمد" (أم5:3).
ولذلك لا يجوز للإنسان أن ينفذ كل ما يطرأ علي ذهنه من أفكار، أو من رغبات، قد تبدو له سليمة، بينما تتعبه أخيرًا.. إذن فهمك وحده، لا تعتمد عليه، ولا تثق ثقة مطلقة بكل أفكارك وأتجاهاتك...
هوذا الكتاب يلوم الإنسان "الحكيم في عيني نفسه...".
ويقول "أرأيت إنسانًا حكيمًا في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به" (أم 12:26). إن الحكيم في عيني نفسه، يسير حسب فكره، وحده. وربما يري إحدي الطرق مستقيمة، بينما عاقبتها طرق الموت.
أول خطية للإنسان، كانت تبدو له مستقيمة، بينما عاقبتها الموت.
قالت الحية في إغرائها للأكل من الشجرة "تصير مثل الله، عارفين الخير والشر "ولكن هذا الإغراء لم يتحقق، ووقع الإنسان تحت حكم الموت، وطرده الله من الجنة..
والشيطان نفسه، كانت طريقة تبدوا مستقيمة!
وذلك حيث قال "اصعد إلى السموات. ارفع كرسي فوق كواكب الله.. أصعد فوق مرتفعات السحاب. وأصير مثل العلي" (أش14: 13، 14). وكانت النتيجة أنه "انحدر إلي الهاوية، إلي اسافل الجب "وفقد مركزه كملاك، وانفصل عن الله إلي الأبد آدم دفعه الشيطان. أما الشياطين فدفعته شهوة قلبه الردية.
حقًا كم من أناس تجذبهم طرق تبدو أمامهم مستقيمة، كالباب الواسع والطريق الرحب...!
وقد حذر الرب من هذا الطريق في أخر العظة علي الجبل. وقال عن هذا الباب الواسع إنه "يؤدي إلي الهلاك. وكثيرون يدخلون منه" (مت13:7). وعكس ذلك الباب الضيق والطريق الكرب المؤدي إلي الحياة.. ولا شك أن كثيرين ربما يختارون الباب الواسع، ويظنون الطريق الرحبة هي الطريق المستقيمة!!
إذا لا تعتمد علي كرك فقط، فربما يضيعك.
الأبن الضال كان يري ان الخروج من بيت أبيه طريقًا مستقيمة!(لو15).
ستؤدي به إلي الحرية والمتعة، وصحبة الأصدقاء، والإنفاق كما يشاء، وعدم الخضوع لقيود وأوامر ووصايا من الأب أو من نظام بين ابيه، ولكن هذه الطريق التي كانت تبدو أمامه مستقيمة، كانت نتيجتها هي ضياعه!
نفس الوضع مع رحبعام، كان يري أن طريق السلطة والكرامة هي الطريق المستقيمة.
كان يري أهن ليس مع الحكمة ان يتمرد أفراد الشعب علي سلطانه، قال لهم في إعتزازه بالقوة "ابي أدبك بالسياط، وأنا أؤدبكم بالعقارب. أبي ثقل نيركم، وأنا أزيد علي نيركم" (1مل14:12). فكانت النتيجة أن عشرة أسباط إنقسموا عليه، وكونوا لهم مملكة مستقلة عنه!!
مشورة أخيتوفل، كانت تبدو مستقيمة فعلًا!
كان أخيتوفل مشيرًا لداود النبي والملك، قبل إنشقاقه عليه. وكان حكيمًا في نظر الناس "كانت مشورة أخيتوفل التي يشير بها في تلك الأيام، كمن يسأل بكلام الله" (2صم 23:16). كانت في نظر الكل مستقيمة، بينما "عاقبتها طرق الموت" لذلك صرخ داود إلي الرب قائلًا "حَمِّق يا رب مشورة أخيتوفل" (2صم31:15).
شاول الطرسوسي في إضطهاده للكنيسة، كان تبدو له طريقة مستقيمة.
ولذلك قال مرة مفتخرًا "من جهة الناموس فريسي. من جهة الغيرة مضطهدة للكنيسة" (في6:3). كان يسمي إضطهاد الكنيسة غيرة مقدسة! وفي سبيل هذه الغيرة "كان ينفث تهديدًا وقتلًا علي تلاميذ الرب "وكان حتى ظهر له الرب، وأبعده عن هذه الطريق التي تبدو مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت...
نفس الوضع بالنسبة إلي نيرون ودقلديانوس...
وكل اباطرة الرومان الذين اضطهدوا المسيحية بكل عنف وقسوة، ومعهم ولاتهم الجبابرة أمثال اريانوس وإلي انصنا.. أولئك الذين افتنوا في وسائل تعذيب المسيحيين، وسجنهم وقتلهم. وكانوا يظنون أن تلك هى الطريقة المستقيمة،حفظا لديانتهم الوثنية من خطر عبادة الله الحى...
قيافا رئيس الكهنة، ومعه مجمع السنهدريم، في إتهامهم للمسيح.
وكانوا يرون ان تلك طريق تبدو مستقيمة، للتخلص من هذا المسيح الذي قالوا عنه إن الكل قد سار وراءه. وهكذا عقدوا مجمعًا وقالوا "ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. فإن تركناه هكذا، يؤمن الجميع به، فيأتي الرومان ويأخذون موضعنًا وأمتنًا!! وقال قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة "خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة لها "!!(يو12: 47- 50).
وبنفس الغيرة التي تبدو مستقيمة، القي دانيال في جب السود، والثلاثة فيتة في أتون النار (دا6:3).
وبنفس الشعور تقريبًا صاح أهل أفسس في ثورة عارمة دفاعًا عن آلهتهم قائلين "عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين" (اع34:19). وامتلأت المدينة غضبًا. وأشكر أن يقتلوا القديس بولس الرسول في ذلك اليوم. إنها طريق تبدو لهم مستقيمة، تدفعهم إليها غيرة جاهلة!
سليمان الحكيم في كثرة زيجاته ومتعه، كان يظنها طريقًا مستقيمة.

وهكذا شرح كل متعة في سفر الجامعة (2: 4-10). وقال "عظمت عملي فعظمت وإزددت أكثر من جميع الذين كانوا قلبي في أورشليم. وبقيت أيضًا حكمتي معي. ومهما إشتهته عيناي لم أمسكه عنهما. لم أمنع قلبي من كل فرح".. واخيرًا أضاعته كل هذه المتع، واضاعته نساؤه، واملن قلبه وراء آلهة أخري. ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه، كقلب داود أبيه" (1مل4:11). وأخيرًا عرف أن كل ذلك باطل وعاقبته طرق الموت.......
العجيب ان كل إنسان تبدو طريقة جميلة في عينيه.
فكره هو أحسن فكر، ورأيه هو أفضل رأي! وتصرفه هو أحكم تصرف! ويعارض كل رأي يخالفه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.وكما قال الكتاب "كل طرق الإنسان نقية هي عيني نفسه. والله هو وازن الأرواح" (أم2:16).
حتى الذي يعيش في الملاهي والخمر والمخدرات...
يظن واهمًا أن سعادته في هذا اللهو، والسكر، وفي المخدرات التي تنقله إلي عالم آخر، وعاقبتها طرق الموت.. طريق تبدو أمامه مستقيمة تدفعه إليها الشهوة.. وربما بسببها يسرق ويحتال ويقتل، ليصل إلى هذه المتعة الجميلة في عينيه...
حتي طوائف المبتدعين والهراطقة، يظنون طريقهم مستقيمة!
وليسوا فقط يتمسكون بها بل ويدعون الناس إليها، ويحاورون من أجلها في إصرار أو في عناد شديد. ويحاربون الإيمان السليم في عنف وبكل الوسائل، ويستخدمون الكتاب المقدس في محاولة لإثبات هرطقاتهم.. طريق تبدو للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت.. يقول كل واحد: مذهبي احسن مذهب، وعقيدتي أصح عقيدة. والباقون مخطئون.
التلميذ الذي يعيش في الأمتحان، ألا يجد طريقة مستقيمة؟!
طريقة سهلة في الوصول إلي النجاح بأسهل السبل، بدون تعب ومشقة! بينما قد تؤدي به إلي الرفت، وعاقبتها طرق الموت..!!
كذلك الإنسان الذي ينتقم ويتشفي، ولو بمؤامرات، تسأله، فيقول: لابد أن أنتصر مهما كان الأمر، وأكون أنا الأقوي. ويسمي تصرفه إنتصارًا.. إنها طريق تبدو مستقيمة. وقس علي ذلك أمثلة لا تحصي.
أسباب

1) جائز الطريق تبدو مستقيمة، بسبب الجهل.

او نتيجة التعليم الخاطئ، يقبله إنسان ساذج أو جاهل، فيظنه أنه الحق، ويتمسك به ويدافع عنه، وربما
ثقة بمعلمه، أو لأنه لم يسمع كلامًا مقنعًا عكس هذا الكلام. فيبدو أمامه هذا الفكر مستقيمًا، ويعتنقه.. وعاقبته طرقة الموت.
ولذلك قال الرب "هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو6:4).
من أجل ذلك كانت التوعية السليمة لازمة في كل المجالات: في الدين، في الروحيات في العلم، في الإجتماع، في السرة، في كل مجال.. لتقديم الفكر السليم الروحي...
بالتوعية أمكن لنا بنعمة الله إصلاح ما كان يحدث في (الموالد) وفي (المأتم) وأبطلت كثير من الأعمال الخاطئة، التي كان الناس قد تعودوها، وكانت تبدو لهم مستقيمة.
2) جائز تبدو الطريق مستقيمة، من أجل شهوة في القلب.

وهذه الشهوة مسيطرة، ويمكنها أن تخضع العقل لها! حتى إنني قلت كثيرًا: ما اسهل أن يكون العقل خادمًا مطيعًا لرغبات النفس! وهكذا تعمل كل قواه العقلية في إثبات صحة ما يشتهيه وفائدته وشرعيته، ويبدو طريقة أمامه مستقيمة!
كإنسان يجد سعادته في تطليق زوجته، يظل يبحث عن اسباب، ويقنع نفسه ويحاول ان يقنع غيره، بكافة الإثباتات، أن تطليق هذه الزوجة هي الطريق المستقيمة لأنها الحل الوحيد لساعدته وعاقبتها طريق الموت.
ومثال ذلك أيضًا من يحب امرأة من غير دينه، ويتعلق قلبه بها، ويحب ان يتزوجها مهما ضحي، حتي بدينه!
الشهوة دائمًا تعمي العقل عن الرؤية السليمة.
3) ممكن تصير كل طريق مستقيمة، إذا تحول العقل إلي الدهاء.

إلي لمكر، إلي الحيلة، أو التحايل، الذي يستطيع أن يجد حلًا لكل مشكلة، وله مسالك كثيرة، ويجعل كل التصرفات تلبس ملابس بيضاء لاخطأ فيها.. والعجيب أن الناس قد يمتدحون هذا العقل في كل حيلة ويقولون "فلان ده جن "!! كما لو كان وصفه بالجن مديحًا!! وتبدو الطريق مستقمة...
4) قد يبدو الطريق مستقيمة، بتأثير الصحبة الشريرة.

التي تقدم للعقل أساليب جديدة، وتبرر له كل مسلك خاطئ، بل قد تغير تفكيره تمامًا، وتعمل له ما يسميه البعض "غسل مخ" فيتغير، ويقبل ما كان يرفضه من قل، ويعتبره طريقًا مستقيًا...
5) من الجائز أن التعلق بالمادة والعالميات، يصور أمورًا كثيرة بأنها مستقيمة.

هل تظنون ان التمسك بالروحيات، وعدم محبة العالم وما فيه، والزهد في الماديات. هل كل هذه تبدو عند الناس مستقيمة، كلا، طبعًا. بل يظنون العكس هو وضع السليم لأن المبادئ غير راسخة فيهم. يقول الرسول عن أمثال هؤلاء "الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلهتهم بطونهم، ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات" (في19:3). مع أن هذه الأرضيات، عاقبتها طرق الموت...
بل إنهم ينتقدون الشخص الروحي، ويقولون عنه إنه إنسان مسكين، محروم من الدنيا.
كما لو كانت الدنيا هي الهدف وهي الطريق المستقيمة. ولاشك أن هؤلاء يحاربون التكريس والطريق الروحي، ويلومون من يسيرون في هذا الاتجاه، لنهم في نظرهم مساكين لم يتمتعوا بالدنيا!!
ولكي ينجو الإنسان من طرق الموت، لابد أن يرجع إلي الله ويعرف بطلان هذا العالم.
هذه الحقيقة هي التي عرفها سليمان الحكيم، بعد أن تاه طويلًا في متع العالم، واكتشف أخيرًا أن كلها باطل وقبض الريح.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:56 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
هل الجسد عائق للفضيلة؟ ومتى يكون عائقًا لها؟

أحب أن أقول أولًا أن الجسد ليس خطيئة في ذاته:
الجسد ليس خطيئة

ليس الجسد شرًا في ذاته، لأسباب عديدة:
1) لو كان الجسد شرًا، ما كان الله قد خلقه. ونلاحظ أنه خلق الله الإنسان -وله هذا الجسد- ونظر الله إلي كل ما عمله، فإذا هو حسن جدًا" (تك31:1).
2) لو كان الجسد شرًا في ذاته، ما كان السيد المسيح قد تجسد، ولبس جسدًا مثلنًا. وقيل عنه "والكلمة صار جسدًا" (يو14:1).
3) لو كان الجسد شرًا، ما كان الكتاب يقول "ألستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم.." (1كو19:6). وما كان يقول أيضًا "ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء للمسيح" (1كو15:6).
4) لو كان الجسد شرًا، ما كان الكتاب يقيم هذا الجسد!! يقول "ويكفي أن الإنسان قد احتمله علي الأرض، ولا داعي أن يحتمله أيضًا في الأبدية!!
5) لو كان الجسد شرًا، ما كان الله يمجد هذا الجسد في القيامة، فيقوم جسدًا روحيًا وجسدًا سماويًا (1كو15: 44، 49). "يقام في قوة، وفي مجد، ويلبس عدم موت" (1كو15: 43، 53). بل يكون ممجدًا في شبه جسد الرب الممجد، ما يقول الرسول عن الرب "الذي سيغير شكل جسد تواضعنا، ليكون علي صورة جسد مجده" (في21:3).
6) لو كان الجسد شرًا، ما كان الكتاب يقول "قدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة..." (رو1:12). بل ما كان يقول "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو20:6). وعلي الرغم من كل هذا يتحدث الكتاب ضد الجسد (رو8). و"أعمال الجسد" (غل19:5). والاهتمام بالجسد، والسلوك حسب الجسد (رو8: 1-9).
7) فعن أي جسد يتكلم؟ إنه لا يتكلم عن الجسد في ذاته، أو الجسد بصفة عامة، إنما عن الجسد الخاطئ.
الجسد الخاطئ

* إنه الجسد الذي يقاوم الروح...
هذا الذي قال عنه الرسول "لجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر، حتى تفعلون ما لا تريدون" (غل17:5).
هذا الجسد الخاطئ، ذكر الرسول في نفس الرسالة أمثلة عديدة من أعماله الخاطئة (غل5: 19-21).
* الجسد الخاطئ هو الجسد الشهواني.
وشهواته مادية ونجسة. ولذلك يقول الرسول "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد" (غل16:5). وشهوة الجسد قد تكون "الزني والنجاسة والدعارة" (غل19:5). وقد تكون شهوة البطنة هي في الطعام والشرب والسكر. أو قد تكون في شهوة أمور حسية نتحول إلي عادة مسيطرة أو إلي إدمان، مثل التدخين والمخدرات...
* الجسد الخاطئ هو الذي يقود الروح والنفس إلي الخطأ.
فحينما تخطئ حواسه، تشرك معها نفسه وروحه،فيتدنس الإنسان كله روحًا وجسدًا. كما قال الرب "من نظر إلي امرأة وليشتهيها، فقد زني بها في" (مت28:5). فهناك اشتراك بين الجسد في نظره، وبين النفس في شهواتها، والروح التي يمثلها القلب....
انظروا إلي سليمان كيف أخطأ حينما أستسلم إلي شهوات الجسد.
وقال "بنيت لنفسي بيوتًا، غرست لنفسي كرومًا.، عملت لنفسي جنات وفراديس...
جمعت لنفسي أيضًا فضة وذهبًا. أخذت لنفس مغنيين ومغنيات، وتنعمات بني الشر سيدة وسيدات.. ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما" (جا2: 4-10). وهكذا عاش حياة جسدانية. وسقط عن طريق النساء (1مل11). بل تقول عنه الكتاب إن "نساءه أمان قلبه وراء آلهة أخري. ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب "ر1مل4:11).
وهكذا استطاع جسده أن يهوي بروحه إلي عمق الخطية.
ولم يمجد الله في روحه، ولا في جسده. بل سقط كله!
حقًا ما أعمق العبارة التي قالها القديس بولس الرسول:
"ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت؟!" (رو24:7).
أعضاء خاطئة

قد لا يخطئ الجسد كله، ولكن يخطئ عضو واحد منه، فيتدنس الجسد كله، ويدنس الروح معه أيضًا.

* خذوا اللسان كمثال، وهو عضو صغير.
ولكن كما يقول القديس يعقوب الرسول "هكذا اللسان أيضًا، هو عضو صغير ويفتخر متعظمًا. هوذا نار قليلة، أي وقود تحرق. فاللسان نار، عالم الإثم.. الذي يدنس الجسم كله. ويضرم دائرة الكون ويضرم من جهنم" (رسالة يعقوب 3: 5، 6).
انظروا كم هو عدد الخطايا، التي يقع فيها الإنسان لسقطات اللسان، كما يقول الكتاب "كلامك تتبرر، وبكلامك تدان" (مت37:12).
بل باللسان يتنجس الإنسان، كما يقول الرب".. بل ما يخرج من الفم، هذا ينجس الإنسان" (مت11:15).
وكما نذكر دنس اللسان، نذكر دنس العين أيضًا.
فإن كانت محبة العالم هي عداوة لله كما قال القدس يعقوب الرسول (يع4:4)... فهوذا القديس يوحنا الرسول يقول "إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب , لأن كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العين، وتعظم المعيشة" (1يو2: 15،16). شهوة العين التي وقعت فيها أمنا حواء، لما نظرت إلي الشجرة فإذا هي "بجهة للعيون، وشهية للنظر" (تك6:3).
ما أكثر الخطايا التي تقع فيها العين.
حينما ينظر الإنسان نظرة شهوة، أو نظرة غضب أو حقد، أو نظرة جسد أو انتقام، أو نظرة كبرياء أو استهزاء بالغير، أو ينظر نظرة ماكرة، أو نظرة قاسية.. وتتعدد الخطايا، وتظهر صورتها واضحة في العين.
أو أكثر الأعضاء الأخرى التي تخطئ..
اليد التي تسرع إلي الضرب، أو إلي القتل، أو إلي السرقة، أو إلي خطايا أخرى عديدة......
والقدم التي تسرع إلي أماكن الخطية......
أو ملامح الوجه، التي تظهر عليها الكبرياء، أو الغضب، أو القسوة.. وكل هذه ناتجة عن نزوات الجسد أو انفعالاته أو شهواته..
لهذا كله ولغيره، تحدث الكتاب عن إخضاع الجسد.
إخضاع الجسد

· لعل من أهم الآيات وأخطرها في إخضاع الجسد، هو قول القديس بولس الرسول "بل أقمع جسدي واستعبده. حتى بعد ما كرزت لآخرين، لا أصير أنا لنفسي مرفوضًا" (1كو27:9). إنها عبارة مرعبة يقولها هذا القديس الذي صعد إلي السماء الثالثة (2كو2:12). والذي تعب أكثر من جميع الرسل (1كو10:15). لكي يرينا بهذا خطورة الجسد وأهمية إخضاعه وقمعه واستعباده.....
· من الأقوال البارزة أيضًا في إخضاع الجسد، هي قول الرسول "ولكن الذين هم لمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل24:5). أي أن كل شهوة للجسد ضد السلوك بالروح، يدقون فيها مسمارًا ويصلبونها، فلا تتحرك فيهم فيما بعد.
ومن الوسائل الهامة لإخضاع الجسد، فضيلة الصوم.
سواء من جهة إخضاع الجسد بالامتناع عن الطعام، وبتحمل الجوع، أو بالامتناع عما تشتهيه من الأطعمة، كما قال دانيال النبي في صومه "لم آكل طعامًا شهيًا، ولم يدخل فمي ولا خمر" (دا3:10). وإن لم تستطيع الامتناع الكامل، فلتقلل وكما تمنع جسدك عن الآكل، تمنعه عن الشهوات الأخرى.
ومن وسائل إخضاع الجسد، ضبط الحواس، واللسان.
ضبط النظر، والشم واللمس. وكما قال الرب في العظة علي الجبل "إن كانت عينك اليميني تعثرك فاقلعها والقها عنك. وإن كانت يديك اليميني تعثرك، فاقطعها والقها عنك" (مت5: 29، 30). علي الأقل تقطع شهواتها...
من وسائل ضبط الجسد أيضًا السهر.
ونقصد به السهر في الصلاة والعبادة. كما قال الرب "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة" (مت41:26). وكما قال أحد الآباء "اغصب نفسك في صلاة الليل، وزدها مزامير"...
ومن وسائل ضبط الجسد: الزهد والنسك.
علي الأقل البعد عن الترفيهات والكماليات، وعن المبالغة في الزينة العالمية، فقد ركز الرسول علي "زينة الروح الوديع الهادئ، الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1بط4:3)،المهم هو أن تتزين بالروح بالفضائل. كما يقول عنها في النشيد "معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش6:3).
وليعرف الإنسان أن الجسد ليس للمتعة والترفيه.
بل هو لتمجيد الله، كما قال الرسول "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو20:6).
كيف نمجد الله بأجسادنا؟

1) باشتراك الجسد مع الروح في عملها.

الروح مثلًا تصلي، والجسد يشترك معها في الوقفة الخاشعة، وفي رفع اليدين وحفظ الحواس، وفي الركوع والسجود. نقول ذلك لأن البعض يخطئون ويظنون أن الله "إله قلوب "فقط فلا يهتمون باشتراك الجسد!! وقد يصلون وهو جلوس، وربما وهم مستلقون علي الفراش!!
أو بعض الأجانب لا يخلعون أحذيتهم في دخولهم إلي الهيكل ناسين قول الكتاب "اخلع حذاءك من قدميك، لأن المكان الذي أنت واقف عليه موضع مقدس" (خر5:3). (يش15:5).
2) نمجد الله بتعب الجسد في الخدمة.

كما قال الرسول عن خدمته "في أعاب أسهار في أصوام" (2كو5:6). وأيضًا في الأتعاب أكثر. بأسفار مرارًا كثيرة. بأخطار في البرية، بأخطار في البحر. في تعب وكد، في أسهار مرارًا كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مرارًا كثيرة، في برد وعري." (2كو11: 23-27).
آباؤنا كانوا في خدمتهم وفي بذلهم كالشمعة التي تذوب لكي تضئ للآخرين. لذلك نوقد الشموع أمام أيقونات القديسين، لأن حياتهم كانت نورًا، ولأنهم بذلوا أنفسهم في خدمتهم وعبادتهم.
3) آباؤنا الشهداء لاشك مجدوا الله بأجسادهم.

ولذلك فالكنيسة ترفع الشهداء فوق درجات القديسين الآخرين، لأنهم تألموا كثيرًا من أجله. وكما يقول الكتاب "إن كنا نتألم معه، فلكي نتمجد معه أيضًا" (رو17:8).
4) أما نحن فعلي الأقل فلنمجده بتعب الجسد.

كان القديس الأنبا بولا يتعب كثيرًا بالجسد وفي جهاده الروحي، حتى ظهر له الرب وقال له "كفاك تعبًا يا حبيبي بولا "فرد القديس "وماذا يكون تعبي إلي جوار ما بذلته لأجلنا يا رب".
5) إننا نمجد الله أيضًا عن طريق طهارة الجسد.

حتى يستريح روح الله في داخلنا، إذ يجد أجسادنا هياكل مقدسة له.. وحتى بطهارة الجسد نقدم للناس الصورة الإلهية، وأيضًا نستطيع التقدم إلي الأسرار المقدسة، ونتطهر بها أيضًا..
ومن مظاهر هذه الطهارة العفة، والحشمة.
أجساد القديسين

هؤلاء القديسون الذين مجدوا الله في أجسادهم، مجد الله أجسادهم كذلك.
مثال ذلك جسد العذراء الذي اصعده إلي السماء.
وكذلك البركة التي كانت تمنح لهذه الأجساد، حتى أن عظام أليشع كان لها البركة التي ميت فقام (2مل21:13).
وقد مجد الله أجساد القديسين حتى في حياتهم.
مثل وجه موسى النبي الذي أضاء بنور مقابلته للرب الجبل، حتى أن الشعب لم يستطع النظر إيه، فوضع علي وجهه برقعًا، ليمكنهم النظر إليه (خر34: 30-35).
ومثل وجه استفانوس الشماس الذي أثناء محاكمته "شخص إليه جميع الجالسين في المجمع ورأوا وجه كأنه وجه ملاك" (أع15:6).
ومن أمثلة ذلك المناديل، والعصائب التي كانوا يأخذونها من علي أجساد الرسل فتشفي الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة (أع12:19).

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 04:57 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
من عوائق الفضيلة: التساهل مع الخطية

كثيرون يبدأون مع الله بداية طيبة، مشتعلة بالحب، ولكنهم لا يستمرون، وتبرد فيهم هذه المحبة الأولي، فما السبب؟
من ضمن الأسباب البارزة: التساهل مع الخطية ومع النفس...
كيف سقط الإنسان الأول؟ سقط بالتساهل مع الخطية.
تساهل لنفسه أن يجلس إلي الحية ويسمع منها كلامًا ضد الوصية، فقاده إلي الإغراء، ثم إلي الضعف فالسقوط.
لم تكن حواء حازمة مع الفكر الخاطئ الذي قدمته الحية. إنما قبلته، وناقشته، ثم استسلمت له وانتصر عليها الفكر ثم تطورت إلي خطايا أخري كثيرة. وفقدت بساطتها، ونقاوتها.......
كثيرون سقطوا نتيجة للتساهل وعدم التدقيق، كما في سفر القضاء.
يحكي لنا هذا السفر، كيف أن بني إسرائيل وقعوا في عبادة الأصنام، وعبدوا آلهة الأمم. وعبدوا ملوك الأمم، واسلمهم الرب إلي أيدي أعدائهم فأذلوهم. فكيف حدث هذا؟ نبحث عن سبب هذا السقوط وهذا الذل، فنجد أنهم لما دخلوا الأرض، استبقوا بعض الكنعانيين فيها، مجرد إهمال، أو تساهل، أو رغبة في فائدة معينة. ثم اختلطوا بهم وزادت الصلة، وتزاوجوا منهم. وتطور الأمر إلي أمر عبدوا آلهتهم.. وكل هذه المشكلة سببها التساهل في الاختلاط بالأمم!
لا تظنوا أن الشيطان عندما يوقع الناس، يبدأ بضربة قاضية! كلا، بل قد يبدأ بشيء بسيط، ثم يتدرج به...
قال عنه أحد الآباء إنه "فقال حبال" وحباله طويلة إلي أبعد الحدود. قد يرسم خطة لعشرة سنوات، يسقط فيها إنسانًا بعد هذه المدة، بسياسة المدى، سياسة التدرج والنفس الطويل، بطريقة قد تبدو غير محسوسة...!
فلنأخذ مثالًا آخر للسقوط التدرجي، هو شمشون الجبار.
إنه رجل الله، الذي حب عليه روح الرب. كن يسكن في أورشليم، وتساهل في أن يذهب منها أحيانًا إلي غزة. وفي غزة وجد لذة لنفسه، فكثر تردده عليها، وأقام، وأتخذ له إمرأة. ثم تدرجت علاقاته الخاطئة، إلي أن تعرف أخيرًا علي دليلة، وتدرج معها حتى باح لها أخيرًا بسره، وبنذره وسقط السقوط الأكبر الخطير.
ومتى صحا لنفسه، أخيرًا. بعد أن فقد بصره، وأذله أعداؤه، وطلب إلي الرب أن تموت نفسه معهم....!
يعقوب أبو الآباء تساهل في غلطة تحولت عنده علي طبع.
تساهل مع نفسه، في استخدام الحكمة البشرية، بدلًا من مشيئة الله، فاعتمد علي ذكائه ودهائه وجلب لنفسه الويل.
استخدم ذكاءه وحيلته لما وجد أخاه جائعًا ويطلب منه طعامًا، فأتخذها فرصة لن يشتري بكوريته. ثم استخدم أيضًا الحيلة والعمل البشري لما خدع أباه واخذ البركة. واستخدم نفس الأسلوب في الإستيلاء علي غنم خاله لابان. واستخدم الفكر البشري في النجاة من أخيه عيسو، وصار هذا الأمر طبعًا تطبع به...
وقد أدبه الرب بأن أذاقه من نفس الكأس، فسمح أن يخدعه خاله في تزويجه من ليئة، وأن يخدعه أبناؤه في قولهم له إن يوسف قد افترسه وحش رديء..
إن يعقوب لم يترك تصريف أموره لله منذ البدء، وتساهل في استخدام الحيل البشرية، حتى تمكن منه هذا الطبع.
وكثيرون وقعوا في نفس الخطية، تركوا الوصية جانبًا، ولجأوا إلي الحكمة البشرية والذكاء الخاص، لعلهم يصلون بهذا!
كثير من السرقات الروحية، تأتي بالتدريج البطئ، الذي لا يحس.
إن الهبوط المفاجئ الشديد، يتنبه له الإنسان، ولكنه قد ل يشعر بالنزول التدريجي البطئ، فتسرقه خطة الشيطان، لهذا ما اجمل قول الكتاب في سفر نشيد الأناشيد:
"خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغيرة، والمفسدة للكروم"...
أن الثعلب الكبير الماكر قد يلفت نظرك، وقد يقتحم اسوارك بصعوبة، أما الثعالب الصغيرة، فإنها قد تجد لها مدخلًا إليك، من أي ثقب بسيط داخل نفسك لست ملتفتًا إليه:
كثيرون سقطوا، لأنهم وقعا فيها نسميه بالصحو المتأخر.
اي أنهم لم يستيقظو لأنفسهم ويعرفوا حالتهم إلا متأخرين، بعد ان تمكنت الخطية منهم. وسنضرب لذلك أمثلة:
لنأخذ مثال لوط، وكيف صحا متأخرًا جدًا، فسقط كثيرًا.
بدأت خطة الشيطان بفصله عن أبينا إبراهيم، عن القدرة الصالحة، عن رجل الله، وعن المذبح والإرشاد الإلهي، وتساهل لوط في هذه النقطة، ووافق أن يسكن بعيدًا ثم وافق أن يختار لنفسه، وفي الإختيار سقط في محبة الأرض المعشبة، وهكذا أختار سادوم علي الرغم من فسادها..
وفي سكني سادوم، تدرج أيضًا فلم يدخل في أعماقها مرة واحدة. ولكنه ما لبث أن اختلط بأهلها، ثم تزاوج معهم. ووقع معهم في السبي، لم يستيقظ ضميره. وظل في المدينة كان الرجل البار يعذب نفسه يومًا يومًا في الاختلاط بهؤلاء الأشرار (2بط8:2). وأخيرًا متي صحا؟ عندما جاءه الملاكان ينذر أنه بهلاك المدينة وخرج منها. وقد فقد كل ما كان له حتى زوجته.
كان لوط درسًا. فلنأخذ مثالًا لتدقيق القديسين، من قول الكتاب:
"كل كلمة بطالة تخرج من أفواهكم، تعطون عنها حسابا في يوم الدين".
لم يفهم القديسون عبارة (الكلمة البطالة) علي أنها الكلمة الشريرة مثل الكذب والشتيمة والتجديف والإدانة، وإنما فهموا الكلمة البطالة، علي أنها كل كلمة ليست للمنفعة، ليس للبنيان لا تبني نفس السامع، ولا تبني الملكوت. وهكذا صمتوا، لا يتكلمون إلا بحساب، حينما يرون ان كلامهم سيكون للبنيان. الروحي.
لاشك أن الذي يدقق في كلامه، بحيث لا يلفظ إلا بكلام نافع روحيًا، ليس من السهل أن يلفظ بكلمة شريرة..
أن التدقيق هام جدًا، تري له مثالًا في وصية الرب:

"إن اعثرتك عينك فاقلعها عنك. وإن أعثرتك يدك اليمني فاقطعها." إلي هذا الحد، طلب الرب منا أن ندقق.
من أمثلة التساهل مع الخطية، التساهل مع الأفكار.....
فبينما يقول بولس الرسول "مستأسرين كل فكر إلي طاعة المسيح"، نجد إنسانًا يتساهل مع الفكر، فيتحول إلي شعور. ويتساهل مع الشعور، فيتحول إلي شهوة، ويتساهل مع الشهوة فتحاول أن تجد منفذًا إلي الخارج تعبر به عن ذاتها بأشياء علمية،وإن تساهل مع هذه الأشياء العملية، تتردج به خطوة خطوة، حتى تقتلع كل روحياته من جذورها.
قد تتساهل مع الفكر، تقبله، تناقشه، ثم يتمكن منك، فتحاول أن تتخلص منه ولا تستطيع، لأنه ثبت أقدامه داخلك بتساهلك. ولا شك أنك كنت تقوي عليه في بادئ الأمر.
هناك أشخاص في منتهي الحزم، لا يتساهلون مع أنفسهم.
لهم رقابة شديدة علي أنفسهم، رقابة علي كل فكر، علي كل شعور، علي كل حس علي كل تصرف، عي كل لفظ.
وأحيانًا يبدأ الإنسان بهذا الحزم، في أول علاقته مع الله ولكنه بعد حين يتساهل. يسمح لأشياء تدخل إلي نفسه، وهذه الأشياء تكبر، ويبحث عن روحياته فلا يجدها.
الإنسان الروحي لا يتساهل، حتى مع الأشياء التي تبدو بسيطة.
إن الذي يحترس من الأشياء الصغيرة، لا يقع في الكبائر.
قالت القديسة سارة في النسك "إن فمًا تمنع عنه الماء، لا يطلب خمرًا. وبطنًا تمنع عنها الخبز، لا تطلب لحمًا".
يحتاج الإنسان أن يكون مدققًا جدًا في كل تصرف، لا يوسع ضميره، ويقول: هذا الأمر بسيط، ولا تأثير له..
الشيطان يخاف أولاد الله الحقيقيين، لأنهم صورة الله ومثاله، ولأنهم هيكل للروح القدس، ولأن الله يعمل فيهم ونعمته معهم. لهذا كان الشيطان يهرب خائفًا أمام القديسين لما نفي القديس الأنبا مقاريوس إلي جزيرة فيلا، فحالما رآه شيطان كان علي إبنه كاهن الأصنام، صرخ الشيطان قائلًا "ويلاه منك يا مقارة، تركنا لك البرية، فجئت إلي هذه الجزيرة لتطردنا منها أيضًا".
وقصص خوف الشيطان من القديسين كثيرة جدًا.
ولكنه يجس نبض المؤمن العادي ويختبره: من أي نوع هو: فإن وجده مترائيًا أمامه، ويقيل أفكاره، ويفتح له أبوابه، ويخون الرب بسببه، حينئذ تسقط هيبة هذا الإنسان، ويلعب به الشيطان!
وإذ يسلم الإنسان نفسه للشيطان، إنما يبعد عنه الملائكة التي تحرسه، ويرفض العمل الإلهي فيه.
كلما يتساهل الإنسان مع الخطية، علي هذا القدر تضعف إرادته، وتفتر محبته، ويقل احتراسه، ويفقد صلابته...
إنك تكون في ملء قوتك في بداية الحرب الروحية، وكلما تتساهل تضعف، وتجد أن مقاومتك قد قلت، وتجد أن تأثير الخطية قد زاد عليك. وعندما تحاول الهروب، تجد عقبات في داخلك وتقع في صراع، ويبدأ الجو يرتبك معك.
سبب ضعفك عندما تتساهل مع الخطية، هو وقوعك في الخيانة، وبخيانتك لله ومحبته، وبخيانتك لعهودك الروحية، تتنازل عن النعمة المعطاة لك، وترفض السلاح الروحي، بل تطفئ الروح، وتحزن روح الله القدوس الذي فيك. وتنهار فتسقط.
وعندما تتساهل مع الخطية، تضعف مثاليتك وتهبط مستوياتك الروحية وتنسي الحزم الذي قال به يوسف "كيف أخطئ وأفعل هذا الشر العظيم امام الله".
وبتساهلك مع الخطية، تفقد هيبتك الروحية امام الشياطين.
لذلك أبعد عن الخطوة الأولي. كن حازمًا، واسلك بتدقيق.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 05:01 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
الخطيئة الكبرى في حياتك

كثيرًا ما يخطئ الإنسان، وينسي ما قد ارتكبه. ولكن تقف خطية معينة أمامه، لا يستطيع أن ينساها...
مثال ذلك داود النبي: إنه يقول للرب في صلاته "إن كنت للآثام راصدًا يا رب، يا رب من يثبت؟!" (مز3:130). "لت تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتزكي قدامك أي حي (مز3:143). خطايا شبابي وجهالاتي لا تذكر" (مز6:25).
كل هذه يطلب من الله ألا يذكرها، لأنها كثيرة، وجهالات، ولن يتزكي منها أحد. وهي مثل الشهوات التي يقول عنها "الشهوات (الهفوات) من يشعر بها. من الخطايا المستترة يا رب أبرئني (مز12:19).
ومع كل ذلك هناك خطية يقول عنها "خطيتي أمامي في كل حين" (مز3:15).
لقد تركت عمقًا معينًا في مشاعره، وعمقًا آخر في ذاكرته، بحيث لم يستطع أن ينساها هي التي هزته هزًا فقال "تعبت في تنهدي، أعوم كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي" (مز6).
كذلك شمشون: لاشك أنه ارتكب خطايا كثيرة، شرحها في سفر الخطاة. ولكن خطية كبري هزت كيانه كله. وهي أنه باح بسره لدليلة، مما أدي إلي كسر نذره، وانتصار أعدائه عليه، وفقًا عينيه، وأخذه أسيرًا يجر الطاحون (قض16).
هذه الخطية لم ينسها مطلقًا.........
ومثل داود وشمشون، هناك سليمان.
لقد غرق في الملاذ العالمية إلي أعماقه، ولم يتعب ضميره شيء من ذلك كله (جا2: 9، 10). ثم أرتكب خطيته الكبري التي ذهب فيها وراء عشتاروت إلهة الصيدونيين، وملكوم رجس العمونيين، وبني مرتفعة لكموش رجس الموآبيين.. ولمولك رجس بني عمون (1مل11: 5- 7).
هذه ليس فقط سليمان لم ينسها.
بل الله نفسه، لم يتركها له.
وهكذا فرض الله عليه عقوبات "وغضب الرب علي سليمان."(1مل11: 9-13). ونفذ الله وعده فيه، حينما قال عنه "إن تعوج أؤدبه بقضيب الناس، وبضربات بين آدم" (2صم14:7). وهكذا أقام الرب عليه خصومًا لتأديبه "هَدَدَ الأَدُومِيَّ ورَزُونَ بْنَ أَلِيدَاعَوَيَرُبْعَامُ بْنُ نَابَاطَ.. (سفر الملوك الأول 12: 14، 23، 26).
مثال ذك فتاة تخطئ في علاقاتها بشباب...
ويمر ذلك عليها سهلًا، تفيق من علاقة لتدخل في أخري، بضمير نائم، ثم تصحو منزعجة علي خطية كبري تفقد فيها بكارتها، وقد تحبل. وتجد نفسها مساقة إلي عملية إجهاض لتقتل جنينًا. والعملية تحتاج إلي مال كيف يحصل عليه؟ ويحتاج الأمر كله إلي مجموعة من الأكاذيب لتغطيته، فيحفر في عقلها وفي أحاسيسها وقائع لا يمكن أن تنسي!!
إنها كاخطأ الذي يقع فيه الإنسان، فيضيع مستقبله كله.
كطالب يضبط في غش، ويرفت سنتين من الكلية، وتضيع سمعته، وتلاحقه أنظار الناس وألسنتهم. أو شاب آخر يقع في إدمان المخدرات. وتكون هي الخطية الكبرى في حياته، تحكم نفسيته وأعصابه وسمعته، سواء شفي من الإدمان لو لم يشف. وأصعب من هذين، إنسان يصاب بمرض الإيدز الذي يحطم صحته وسمعت، ويجره نحو الموت جرًا. ويصرخ في داخله: كيف سقطت؟! وكيف ضعت؟! إنها غلطة العمر....
وغلطة البشرية كلها، هي خطية آدم وحواء.
بكل ما جبلته من نتائج خطيرة استمرت دهورًا.
خطية فسدت بها الطبيعة البشرية كلها. وكان يلزم لعلاجها التجسد والفداء. وبلغ من خطورتها ان ترك الله آثار باقية حتى الآن. بقوله لآدم "بعرق جبينك تأكل خبزًا، حتى تعود إلي الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلي التراب تعود". وبقوله لحواء "تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، وبالوجع تلدين أولادًا" (تك3: 16- 19). واستمرت آثار هذه الخطية، مهما حاوّل الإنسان أن يتمرد علي ذلك..
هناك خطايا تسببت في هلاك مقترفيها.
وماتوا في خطاياهم هالكين: مثل خطية يهوذا. ولاشك أن يهوذا كانت له خطايا كثيرة، ومنها أنه "كان سارقًا. وكان الصندوق عنده، وكان يحمل ما يُلقَى فيه" (يو6:12). ولكن خيانته لسيده، كانت الخطية الكبري التي لم يستطع أن يحتملها، فمضي وخنق نفسه" (مت5:27).
كذلك خطية أولاد عالي الكاهن التي قال عنها الرب "لا يكفر عن شر بيت عالي بذبيحة أو بتقدمة إلي الأبد" (1صم14:3). وبنفس الغضب حكم الرب علي عالي نفسه "من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا به اللعنة علي أنفسهم، ولم يردعهم (1صم13:13).
أيضًا خطية حنانيا وسفيرا، التي استحقا بها الموت مباشرة دون إعطائهما فرصة للتوبة (اع5).
وهناك خطايا امتدت آثارها أجيالًا طويلة.
مثل لعنة كنعان، للاستهانة بكرامة الأب. ومع أنها خرجت من فم أبينا نوح (تك25:9). إلا أنها استمرت إلي أيام السيد المسيح نفسه الذي استخدمها في حديثه مع المرأة "نبلبل ألسنتهم" (تك7:11). ولا تزال بلبلة الألسنة قائمة إلي يومنًا هذا.....
هناك خطايا عديدة لم تسجل في الكتاب المقدس، الذي قال بصيغة إجمالية "الكل قد زاغوا معًا وفسدوا. وليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد" (مز3:14).
ومع ذلك سجل الكتاب خطايا معينة. وسجل معها أيضًا عقوبات لها.
سجل خطايا الزنا الجماعي، الذي أدي إلي الطوفان (تك6)،وسجل الشذوذ الجنسي الذي أدي إلي حرق سادوم (تك19). وسجل محاولة اغتصاب سر الكهنوت التي وقع فيها قورح وداثان وأبيرام، ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم (عد16). وسجل خيانة أبشالوم لأبيه داود (1صم18:16). وسجل إنكار بطرس (مت26). ومسامحة الرب له (يو21). وسجل طمع آخاب في حقل نابوت اليزرعيلي (1مل21). وسجل عبادة الأصنام علي يد يربعام بن ناباط، وعلي يد آخاب وغيرهما (1مل12). وسجل خطايا أخري لا تنسي حتى للأنبياء...
إن شاول الطرسوسي لم ينس مطلقًا اضطهاده للكنيسة.

علي الرغم من ا،ه فعل ذلك بجهل قبل إيمانه بالمسيح، وعلي الرغم من توبته واختياره رسولًا وصنع عجائب وآيات علي يديه، وتعبه الكثير في نشر رسالة الإنجيل... إلا أننا نراه يقول عن نفسه "أنا الذي كنت قبلًا مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا. ولكنني رحمت لنني فعلت ذلك بجهل في عدم إيمان" (1تي13:1). ويقول عن ظهور السيد المسيح بعد قيامته "وآخر الكل، كأنه للسقط ظهر لي أنا، لأني أصغر الرسل. أنا الذي لست أهلًا لأن أدعي رسولًا، لأني اضطهدت كنيسة الله" (1كو15: 8، 9). إنه لم يستطع مطلقًا أن ينسي اضطهاده للكنيسة.
خطورة الخطايا ليست في كثرتها، بل في بشاعتها.
خطية سيمون الساحر، لم تكن في عددها، إلا انه لم يكررها. لكن خطورتها كانت في بشاعتها، إذا أنه أراد أن يشتري موهبة الله بدراهم (أع8: 18-20).
كذلك كانت خطية هيرودس الذي قبل من الناس قولهم له "هذا صوت إله، لا صوت إنسان "فضربه في الحال ملاك الرب، لأنه لم يعط المجد له، فصار يأكله الدود ومات (أع12: 22، 23).
وخطية بطرس في إنكار، لم تتكرر. إنما بشاعتها في نوعيتها.
حقًا إن الخطايا لا تعد، إنما توزن.
فإذا أضيف إلي بشاعتها تكرارها، يكون الأمر أصعب وأخطر. وبخاصة تلك الخطايا التي ترسخ في العقل الباطن، وتتعمق جذورها فيه. وتصبح مصدرًا لأحلام، وأفكار، وظنون، وشهوات، ويحاول الإنسان أن يتخلص منها فلا يستطيع..! وقد أصبحت كأنها طبع فيه، أو كأنها طبيعة له، وجزء من تكوين شخصيته.. وعادة تعودها فلصقت به..
وكأنه قد ذاق شيئًا فاستطعمه، وما عاد يستغني عنه!!
وهو مستعد أن يتوب عن جميع خطاياه، ويتركها، ما عدا هذه!! هذه التي صارت تجري في دمه، وفي عمق مشاعره وعمق شهواته...
هناك من يذكر خطية، ولا يستطيع أن ينساها، لأنها تتعب ضميره في توبته. لذلك هو يصرخ في داخله، في الم عميق: كيف وصل بي الحال أن انحدر إلي هذا المستوي؟!
وهناك من يذكر خطيته الكبرى، وهو أسير لها، عاجز عن مقاومتها وهذا أصعب..
إنه يحتاج إلي دفعه كبيرة من الخارج، تنقذه من الهوة التي تهبط إليها، وتنزع عنه الربط التي تقيد بها.. ويحتاج إلي عمل من النعمة ومن روح الله القدوس لكي يكره هذه الخطية، ولا يعود فينجذب إليها.
هناك خطايا أخري تتعب الإنسان.
وتهز ضميره هزأ متي استيقظ، مثل خطية الارتداد، وخطية التجديف، وخطايا الشك. نعم الشك الذي يقال عنه إنه من السهل أن يدخل إلي عقل الإنسان، ومن الصعب جدًا أن يخرج. الشك الذي يفقد به الشخص ما كان له من بساطة الإيمان، ويتوه ذهنه في عقلانيات لا تنتهي. هذا إن كان شكًا في الله. أما إن كان شكوكًا في إنسان، فإنه يفقد الثقة ويعجز عن استرجاعها...
وخطايا أخري لا ينساها الإنسان بسبب نتائجها.
مثل زرج أهان زوجته إهانة كبيرة جدًا لم تستطع إحتمالها، فتركت بيت الزوجية إلي بيت ابيها. وعجزت كل محاولات المصالحة من أجل عمق ما احست به المرأة، مما جعلها تقفد محبتها لذلك الزوج، وما اخذت من فكرة عن طباعه ومعاملاته.. وهو نفسه يذكر ذلك الخطأ في ندم، معتبرًا أنه الخطية في حياته الزوجية.. ويزداد الأمر خطورة وعمقًا، إن كان قد وصل إلي قضايا ومحاكم....
وقد تصبح الخطية هي الكبري في الحياة، إن كان لا يمكن علاجها...
كراهب مثلًا قد تزوج، وفقد نذره ورهبنته وبتوليته وسمعته. وفقد كهنوته أيضًا إن كا كاهنًا..! ولم يعد باستطاعته ان يسترجع كل هذا. ثم فقد هذه الزوجة أو أختلف معها، ووجد نفسه في فراغ كامل. وفي فراغ روحي وجسدي
وإجتماعي، وعقيدي أيضًا.
من الجائز أن تكون خطية الإنسان الكبري بسبب فيه:
كخطية محبة الأخبار مثلًا، التي تفقده كل أصدقائه وغير الأصدقاء أيضًا.
فهو جوعان أخبارًا، يحب أن يعرف الأخبار ويبحث عنها، ويسأل عنها الناس ويفتش ويسمع ويتسمع، ويستنتج، ويسأل سؤال محرجًا، لكي يعرف منه خبرًا. ويتقاض مع غيره من محبي الأخبار، لكي يعطيهم خبرًا مقابل معرفة خبر.
ثم يجد نفسه يحمل كنزًا كبيرًا من الأخبار يثقل عليه حمله.
فيتحول من جامع أخبار إلي ناقل أخبار.
وتصبح سمعة الناس مضغة في فمه، يلقيها في آذان الناس كعليم ببواطن الأمور، ومتداخل في اسرار الناس. وقد يسمعها الناس منه، وقد يتهرب البعض خشية ان يسمع ما يؤذيه روحيًا. وقد يتحاشاه البعض خشية أن يصبحوا هو أيضًا هدفًا له ولمحبته للأخبار. ويجد أن الأخبار قد ابعدت الناس عنه. وأيضًا قد أتعبت أفكاره، فما عاد يثق بأحد...
وقد يتحول من ناقا للأخبار إلي مؤلف للأخبار!!
أصعب خطية هي التي تلتصق بالإنسان، أكثر مما يلصق جلده بلحمه.
كإنها جزء من كيانه، ومن صفات شخصيته. وقد تتحول في حياته إلي مرض نفسي يتوالد في داخله، وتنشأ عنه أمراض أخري خلقية وأجتماعية، صعبة الشفاء.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 05:06 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
المحبة الخاطئة للنفس

كل إنسان يحب نفسه، ولا يوجد أحد لا يحب نفسه.
ومحبة النفس ليست خطية، إن كانت محبة روحانية.
والسيد الرب لما قال إن الوصية الأولي والعظمي هي "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك "قال بعد ذلك "والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك" (مت22: 37- 39). أي أن أعظم مستوي تحب به القريب، هو أن تحبه كما تحب نفسك......
غير أن هناك محبة خاطئة للنفس، وقال عنها الرب:
"من وجد حياته يضيعها.. ومن أضاع حياته من أجلي يجدها" (مت39:10).
فكيف تفرق بين الوصيتين؟ وما معني "من وجد حياته يضيعها"؟
الحل هو أن هناك شيء يسمي حروب الذات، أو عبارة الذات، التي يتمركز فيها الإنسان حول نفسه. ويقول أريد أن أبني نفسي، أن احقق ذاتي، أن أرفع ذاتي......
وهناك طرق خاطئة يلجأ إليها الإنسان في بناء ذاته فتضيعه.
فما هي هذه الطرق، التي بها يحب الإنسان نفسه محبة خاطئة.
المحبة الجسدانية

هذه التي قال عنها الرسول "شهوة الجسد، وشهوة العين، وتعظم المعيشة" (1يو16:2). وقال إنها جزء من محبو العالم الذي يبيد وشهوته معه..
إنها المحبة الخاصة باللذة والمتعة والرفاهية.
لذة الحواس، التي تقود إلي الخطية. والتي جربها سليمان الحكيم، وقال فيها "ومهما إشتهته عيناي لم أمسكه عنهما" (جا10:2). وقال في تفصيل ذلك "عظمت عملي. بنيت لنفسي بيوتًا، غرست لنفسي كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس... جمعت لنفسي أيضًا فضى وذهبًا، وخصوصيات الملوك والبلدان. أتخذت لنفسي مغنيين ومغنيات، وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات. فعظمت وأزددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم" (جا2: 4-9).
فهل هذه المتعة نفعت سليمان أم أضاعته؟

إنه لم ينتفع بها، بل وجد أن كل كا عمله "الك باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" (جا11:2). بل هذه الرفاهية وهذه المتعة الجسدانية اضاعت سليمان، أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة آخري. ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهة كقلب داود أبيه" (1مل4:11). وتعرض لعقوبة شديدة من الرب عليه.. وتمزقت دولته.
ومثال سليمان أيضًا الغني الغبي:


أراد أن يبني بمحبة مادية، عن طريق الاتساع في الغني والمتعة الأرضية، فقال "أهدم مخازني، وابني أعظم منها، واجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. واقول لنفسي: يا نفسي لك خيرات كثيرة لسنين عديدة. استريحي وكلي واشربي وافرحي". فهل تمكن بهذا من تحقيق ذاته وبناء نفسه؟! كلا، بل قال له الله "يا إني في هذه الليلة تطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها، لمن تكون؟!"(لو12: 16-20).
إنها ليست محبة حقيقية للنفس، التي تأتي عن طريق اللذة والمتعة.
ولهذا قال الرب إن من يحب نفسه يهلكها، اي الذي يحبها محنة خاطئة تقودها إلي المتعة الجسدية أو إلي شهوات العالم، فإنه يهلكها فيا يظن أنه قد وجد حياته.
هناك نوع آخر خاطئ، في إشباع النفس، وهو:
محبة خيالية

شخص لا يستطيع أن يمنع نفسه ماديًا، فيسبح في تصورات إسعادها بالفكر، يلذذ نفسه بالفكر والخيال.
ويسعد نفسه يسمونه: أحلام اليقظة.
فكل ما يريد أن يمتع به نفسه من أمور العالم، يغمض عينيه ويتخيله. ويؤلف حكايات وقصصًا، عن متعة لا وجود لها من عالم الحقيقة. ويقول لنفسه سأصير وأصير، وأعمل وأتمتع. وقد يستمر في هذا الفكر بالساعات، روبما بالأيام، ويستيقظ لنفسه فإذا في فراغ. وقد أضاع وقته..!
إن المحرومين علميًا، يعوضون أنفسهم بالفكر.
دون أن يتخذوا اي أجراء عملي بناء يبنون به أنفسهم. وكما يقول المثل العامي "المرأة الجوعانة تحلم بسوق العيش".
مثال ذلك تلميذ، لم يستذكر دروسه، ولم يستعد علميًا للامتحان. وإنما يجلس إلي جوار كتبه،ويسرح في الخيال: يتخيل أنه نجح بتفوق كبير، وانفتحت أمامه جميع الكليات، وصار وارتفع وأرتقي وتخرج. ثم يصحوا إلي نفسه، فيجد أنه أضع وقته وأضاع نفسه. ويقف أمامه قول الرب "من وجد نفسه يضيعها".
إن المتعة بالخيال، قد تكون أقوي من المتعة الحسية.
لن الخيال مجاله واسع، لا يقف عند حد. ويتصور تصورات لا يمكن ان تتحق في الواقع. ويكون سعيدًا بذلك سعادة وهمية.
وكثير من المجانين يقعون في مثل هذا الخيال الذي يشبعون به أنفسهم، ويجدون به أنفسهم في مناصب ودرجات وألقاب. والفرق بينهم وبين العاقلين، أنهم يصدقون أنفسهم فيما يتخيلونه. ويصيبهم نوع من المض يسمي البارانويا، وحكاياته كثيرة...
إنه خيال يظن به هذا النوع من الناس أنهم يجدون أنفسهم، بالإشباع الفكري والمتعة الخيالية، والأحلام والأوهام..
هناك نوع ثالث يظن أنه يبني ذاته بالعظمة.
العظمة

هناك نوع يجد نفسه، حينما يصير عظيمًا، بالمقاييس النادية:
وأول من وقع في هذه المحبة الخاطئة للنفس: الشيطان.
وهكذا قال في قلبه "اصعد إلي السموات. أرفع كرسي فوق كواكب الله. واصعد فوق مرتفعات السحاب، وأصير مثل العلي" (أش14: 13، 14). ولنطبق عليه قول الرب "من وجد نفسه يضيعها "وإذ به قد انحد إلي الهاوية، إلي اسفل الجب. ومصيره أسوا بكثير من سقطته (رؤ10:20). لقد ظن أنه يجد نفسه بشهوة العظمة، وبهذه الشهوة فقد كل شيء......
وبهذه الشهوة أيضًا أضاع الشيطان أبوينا الأولين، حينما قال لهما وهما في الجنة "تنفتح أعينكما، وتصيران مثلي العلي، عارفين الخير والشر" (تك5:3).
ووقع في هذه المحبة الخاطئة أيضًا، الذين أرادوا بناء برج بابل.
أولئك الذين قالوا "هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ" (سفر التكوين 11: 4). فكانت النتيجة أنهم اضاعوا أنفسهم، وبلبل الله ألسنتهم، وبددهم علي وجه كل الأرض. فلا بنوا مدينة ولا برج.
في شهوة العظمة العالمية، محبة خاطئة للنفس. أما العظمة الحقيقة فيصل إليها الإنسان بالاتضاع، حسب قول الرب "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نسفه يرتفع (مت12:23).
أما الذي يحاول أن يجد نفسه بالرفعة العالمية، ما أسهل أن يدخل في حروب ومنافسات، قد تضيعه علي الأرض، وإن حصل علي ما يريد علي الأرض، فهذه العظمة الأرضية في الأبدية.
ومن الأمثلة البارزة في هذا المجال: أبشالوم بن داود.
ذلك الذي أحب نفسه محبة خاطئة عن طريق العظمة،فانشق علي أبيه داود، وأساء إليه إساءات بشعة؟ وحاربه بجيش لكي يجلس علي كرسيه في حياته، ويحقق لنفسه العظمة بأن يصير ملكًا.. فماذا كانت النتيجة؟ لقد فقد كل شيء. ومات في الحرب وهو خاطئ متمرد، ففقد الأرض والسماء معًا.
هناك أشخاص لا يجدون أنفسهم بعظمة عالمية، فيحاولون أن يجدوا العظمة بالكلام.
بالمجد الباطل، بالفرح بمديح الناس لهم. وإن لم يجدوا ذلك يمدحون أنفسهم، ويتحدثون عن فضائلهم وأعمالهم المجيدة لكي ينالوا مجدًا من الناس.
وعكس هؤلاء كان القديس يوحنا المعمدان، الذي كان يخفي نفسه ليظهر المسيح ويقلل منن شأن نفسه ممجدًا سيده المسيح، قائلًا "ينبغي أن ذاك يزيد وأنا أنقص" (يو30:3). وبهذا الاتضاع ارتفع يوحنا المعمدان. وقال عند السيد الرب إنه أعظم من ولدته النساء (مت11:11).
حقًا ما أجمل ما نقوله عن الرب في القداس الإلهي:
"الساكن في الأعالي، والناظر إلي المتواضعات".
إن حروب العظمة قد ضيعت كثيرين، والأرملة كثيرة.
هناك نوع أخر من المحبة الخاطئة للنفس، يظن بها البعض أنهم يبنون أنفسهم فيضعونها، ذلك هو أسلوب المعارضة والصراع.
المعارضة والصراع

تجد أشخاصًا وكأنهم شعلة من النار، في التفكير والحركة والعراك.
لا يقدرون علي العمل البناء، فيظنون أنهم يجدون أنفسهم بهده البنائين.
إنهم يعملون علي هدم وتحطيم غيرهم. لا يسرهم شيء مما يعمله العاملون، فينتقدون كل شيء، ويبحثون عن أخطاء لتكون مجالًا لعملهم من النقد والنقض والتشهير. كأنهم يعرفون ما لا يعرفه غيرهم. وفي نفس الوقت الذي يحطمون فيه بناء غيرهم لا يبنون شيئًا.
حياتهم كلها صراع , ويظنون الصراع بطولة.
يرون أنهم ابطال ويفرحون بذلك. ويفتخرون بأنهم هاجموا فلانًا وفلانًا من الأسماء المعرفة. ويقول الواحد منهم إن عنده الشجاعة التي بها "يقول للأعور أنه اعور في عينه". وقد تكون شهوة قلوبهم أن يفقأوا عيون المبصرين، ثم يعبروهم بما فعلوه بهم!!
لهم الطبع الناري. وشهوتهم أن يرتفعوا علي جماجم الآخرين! فهم قادرون - في نظرهم علي تحطيم العاملين. ويفرحون بهذا. ولكن الله لا يقبلهم لن قلوبهم خالية من المحبة. وفي صراعهم يفقدون انفسهم. وفيما يتخيلون أنهم قد وجدوا أنفسهم، يرون أنهم قد ضيعوها. كالطفل في الفصل، الذي يشعر أنه قد وجد ذاته في معاكسة المدرسين! ويظن ذلك جراة وشجاعة وقوة وبطولة يبني بها نفسه التي يحبها. ولكنها محبة خاطئة للنفس.
والعجيب ان هذا النوع يفتخر بنفسه ويقول في تحطيمه للغير: أنا إنسان مقاتل I am afighter علمًا بأن الهدم أسهل من البناء. وكما يقول المثل "البئر الذي حفره العاقل في سنة، ويمكن أن يردمه الجاهل في يوم".
هناك أشخاص يظنون أنهم يحققون ذواتهم بالحرية.
الحرية

كالشاب في بلاد الغرب "إذا كبر، فلا سيطرة لأحد عليه، لا أبوه ولا أمه في البيت، ولا مدرسوه في معاهد التعليم. بل يظن انه يفعل ما يشاء بلا قيد. حتى المبادئ والقيم والتقاليد، يجب أن يتخلص منها. ويعتبر أنه بهذا يصير حرًا ويجد نفسه. والوجوديون يريدون -في تمتعهم بالحرية- أن ينحلوا حتى من (قيود) الله ووصاياه. ولسان حال كل منهم يقول "من الخير أن الله لا يوجد، لكي أوجد أنا "!!
كل هؤلاء يقصدون بالحرية، الحرية الخارجية.
وليست حرية القلب من الرغبات الخاطئة.
ولا يقصد التحرر من الخطايا والأخطاء والتحرر من المعادات الفاسدة. كل ذلك الذي قال عنه السيد المسيح "إن حرركم الإبن، فالحقيقة تكنون أحراارًا (يو36:8). الإبن الضال ظن أنه ومجد نفس بالحرية بتركه لبيت أبيه، ولكنه بذلك أضاع نفسه (لو15). وكذلك الذين يظنون أنهم يجدون أنفسهم بالحرية في الإدمان والفساد والتسيب واللامبالاة! أو بالرحية في الخروج من الحصون التي تحميه إلى القضاء الواسع الذي يهلكه!
العجيب أنه في الحياة الروحية، يظن أنه يجد الحرية في الخلص من قيود الإرشاد الروحي!
فلا يستشير الأب الروحي، إلا الأمور التي تعرف انه سيوافق عليها. وأما ما يشعر أنه سينهاه عنه، فذلك يخفيه! وهكذا يسير حسب هواه، فيضل الطريق. أو يقول "ابحث عن اب إعتراف آخر".. حقًا الاستخدام الخاطئ للحرية يضر. وقد أوصل البعض إلي الإلحاد.
والأخطر من هؤلاء: الذين يعطون أنفسهم الحرية في تفسير الكتاب، وينشرون آراءهم كعقيدة!!
فيفسرون الكتاب حسب هواهم. يخضعونه لأفكار، بدلًا من أن يخضعوا أنفسهم لنصوصه. من اجل هذه وجدت طوائف وكنائس متعددة تتعارض في عقائدها، ووجدت يشاء (كما فعل شهود يهوه وأمثالهم) والعجيب أن كل هؤلاء يظنون أنفسهم أكثر معرفة من غيرهم. وهنا تدخل النفس في حرب المعرفة.
المعرفة

يظن البعض أنه وجد نفسه عن طريق المعرفة.
أو عن طريق حرية المعرفة، أو المعرفة التي يقول عنها الكتاب أنها تنفخ (1كو1:8). ويحب الواحد منهم ان يكون مرجعًا في المعرفة، يقود غيره في المعرفة. ويحاول أن يأتي بفكر جديد ينسب إليه، ويتميز به، وينفرد به، حتى يقولون "فلان قال"......
ومن هنا ظهرت البدع، لأنها بها إبتداع أناس أفكارًا جديدة ضد التسليم العام...
يظن بها الشخص أنه يجد نفسه، كصاحب رأي وفكر وعقيدة، ولا يتضع بالخضوع لتعليم الكنيسة، بل يريد ان يخضع الكنيسة لتعليمه.. وهكذا يضع نفسه.
إنسان آخر يظن أنه يبني نفسه بالإعجاب بالنفس.
الإعجاب بالنفس

فيكون بارًا في عيني نفسه و"حكيمًا في عيني نفسه".
ويدخل في عبادة النفس. ولا مانع أن يكون الكل مخطئين، وهو وحده الذي علي صواب! وهذا النوع يبرد ذاته في كل عمل وفي كل خطأ. وإن قال له أحد أنه مخطئ لا يقبل ذلك. ويرفض كل توجيه. وإن عوقب علي خطأ، يملأ الدنيا صراخًا إنه مظلوم. ولا ينظر إلي الذنب الذي أرتكبه، وإنما يدعي قسوة من عاقبه!
وترتبك مقاييسه الروحية والأدبية والعقلية، ويضيع نفسه.
ويمدح نفسه، ويحب ان يمدحه الآخرون. وإن مدحوا غيره يستاء! كما استاء قايين، لما قبل الله قربان هابيل اخيه...
والكثير من هؤلاء الذين يقعون في الإعجاب بالنفس، يكون الله منحهم مواهب ولكنهم استخدموا المواهب في الإضرار بأنفسهم.
مجال آخر يظن الإنسان أنه يبني نفسه وهو الأنشطة:
الأنشطة

قد تجد إنسانًا كثير الحركة يعمل في أنشطة متعددة، وربما بلا عمق، ويظن أنه يبني بها نفسه!
يري أننا نعيش في عصر التكنولوجيا، فينبغي أن يكون هو أيضًا إنسانًا تكنولوجي، يسير مثل الآلة، حركة دائمة بلا توقف، بعضوية في كثير من الهيئات، وفي نشاط دائم لا يعطي له فرصة للصلاة ولا القراءة ولا التأمل، ولا الإهتمام بنفسه روحانيته، بلا عمق، مجرد نشاط في كل مكان، له مظهر العامل المجد، ناسيًا قول الكتاب:
"كل مجد ابنه الملك من داخل" (مز44).
وكلن الأجدر أن يعطي وقتًا وأهمية لروحياته، لأنه يضر نفسه بهذه المشغوليات المستمرة، التي قد تتحول عنده إلي هدف، ينسي فيه الهدف الأصلي وهو خلاص نفسه.
نوع آخر يحب نفسه محبة خاطئة، ويجد نفسه عن طريق:
المركز والشهرة

فيركز كل اهتمامه في هذه الأمور التي يدخلها الرسول تحت عنوان تعظم المعيشة وهكذا يفرح بالألقاب والمناصب والغني. وكلما اضاف إلي نفسه لقبًا جديدًا، ظن به أنه أوصلها إلي قمة المجد. بينما الفرح الحقيقي هو بناء النفس من داخل مهما كانت "مشتملة وبأطراف موشاة بالذهب ومزينة بأنواع كثيرة".
ليس المجد في أن تكون عظيمًا أمام الماس، إنما في أن تكون "عظيمًا أمام الرب "كما قيل عن يوحنا المعمدان (لو15:1). وهنا نتحدث عن الوضع السليم لبناء النفس.
المحبة الحقيقية للنفس

عن كنت تحب نفسك حقًا، حاول ان تبنيها من الداخل، من حيث علاقتها بالله، والمحبة التي تربطها بالكل. بأن تتكر ذاتك ليظهر الله في كل اعمالك. وينكر ذاتك لكي يظهر غيرك. وتصلب ذاتك لكي يحيا الله فيك. ويقول "مع المسيح صلبت، لكي أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في" (غل20:2). وهكذا تصلب الجسد مع الأهواء والشهوات (غل24:5).
تقهر ذاتك،وتغلب ذاتك. وبهذا الأنتصار علي النفس، تحيا نفسك مع الله. الذي يقويك في مركب نصرته (2كو14:2). وهنا تكون المحبة الحقيقية للنفس أما المظاهر العالمية من عظمة وشهرة ولذة ومتعة وحرية خاطئة، فلن توصلك إلي البناء الحقيقي للنفس.
المهم أن تجد نفسك في الله، وليس في العالم.
تجدها لا في هذا العالم الحاضر، إنما في الأبدية.
تبني نفسك بثمار الروح (غل5: 22، 23). التي تظهر في حياتك. وذلك بأن تكون غصنًا ثابتًا في الكرمة الحقيقية عطي ثمرًا، والرب ينقيه ليعطي ثمرًا أكثر (يو15: 1، 2).
أي ينقيه من الشهوات والرغبات المهلكة للنفس، التي يجب أن تبغضها لتحيا مع الله، واضعًا أمامك قول الرب:
"ومن يبغض نفسه في هذا العالم، يحفظها إلي حياة أبدية" (يو25:12).
وهنا كلمة "يبغض نفسه "تعني يقف ضد رغباتها، ولا يطاوعها في كل ما تطلب، ولا يجعلها تسير حسب هواها، بل يقمعها ويستعبدها (1كو27:9). حتى بهذا تتطهر من كل دنس. وتكون هذه هي المحبة الحقيقية للنفس.

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 05:12 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
النظرة البيضاء والنظرة السوداء
https://st-takla.org/Gallery/var/resi...k-VS-White.jpg

الحياة هي نفس الحياة بالنسبة إلي الكل : بحلوها ومرّها.. وقد تتشابه الظروف الخارجية بالنسبة إلي كثيرين. ولكن انفعال البعض بها يختلف عن انفعال البعض الآخر.ونظرة كل من الفريقين تختلف عن الآخر. البعض له نظرة بيضاء. والبعض له نظرة سوداء. وسنضرب أمثلة لذلك في أمور متعددة:
***


النظرة إلي المشكلة:
لا يوجد أحد لا تصادفه مشاكل في حياته. كل انسان له مشاكله. ولكن البعض ينظر إلي المشكلة بنظرة سوداء معقدة كئيبة. كما لو كانت المشكلة بلا حل. ولا مخرج ولا منفذ..
كما لو كانت ألما صرفا وضياعا.. وكأنها مأساة.. وهناك أناس تسبب لهم بعض المشاكل بأمراض صعبة: مثل ضغط الدم. أو مرض السكر. أو قد يصاب البعض بانهيار نفسي. أو بتعب في أعصابه. أو بقرحة في المعدة. وإن كنت المشكلة خطيرة - أو هي هكذا في نظره - قد يقع علي الأرض مشلولا . أو يصاب بذبحة أو بجلطة..
كل ذلك حسب درجة انفعاله بالمشكلة. وحسب مقدار ضغطها عليه.. وشعوره أنه قد أنتهي. ولا خلاص.
***

أما صاحب النظرة البيضاء. فيري أن كل مشكلة لها حل
ويري أن الأمر ليس خطيرا ولا مستحيلا.. وأن الله لابد أن يتدخل في المشكلة ويحلها.. والله عنده حلول كثيرة.
وهكذا تمتزج المشكلة عنده بالإيمان والرجاء.. فبالإيمان يثق تماما بوجود الله أثناء المشكلة. وبيد الله العاملة سواء رأها أو لم يرها.. فلا يأبه بالمشكلة. ولا يدعها تعصره أو تحصره. ولا يسمح للمشكلة أن تضغط علي أعصابه وعلي نفسيته..

بالنظرة البيضاء يقابل المشكلة: ليس فقط بأعصاب هادئة. إنما بشعور أكثر عمقا. يري فيه أن المشكلة سوف تعطيه خبرة بالحياة. وخبرة برعاية الله. وتدريبا علي هدوء الأعصاب والفكر.
كما ستكون المشكلة فرصة له. يلمس فيها يد الله العاملة في حياته. وعناية الله به. وطريقة الله في حل المشاكل..
إن المشكلة واحدة. ولكن تختلف النظرة إليها والانفعال بها. ويختلف وقعها ومقابلتها. اعني يختلف الـ Response.
***
صاحب النظرة البيضاء. كان أكبر من المشكلة
أما صاحب النظرة السوداء. فكانت المشكلة أكبر منه
صاحب النظرة السوداء. لا يبصر الا ما في المشكلة من ألم ومن ضيق وتعب. ولذا يقابلها بخوف وانزعاج. وقد تضغط علي تفكيره فيتوقف. ويترك الأمر إلي أعصابه المنهارة. وقد يصل به الأمر إلي اليأس. وقد يصل به اليأس إلي الانتحار.. أما صاحب النظرة البيضاء. فيضع رعاية الله بينه وبين المشكلة. فتختفي المشكلة. وتبقي رعاية الله هي الظاهرة..
***
صاحب النظرة السوداء. يري أن كل نهار يعقبه ليل مظلم
أما صاحب النظرة البيضاء. فيري أن كل ليل مظلم يأتي بعده نهار مضئ
النظرة السوداء تتعب من كل خطأ موجود والنظرة البيضاء تقول إن كل خطأ يمكن تصحيحه.
***
النظرة إلي المادة
وهي تتناول نظرة الإنسان إلي المادة عموما. وإلي المال. وإلي الجسد. انسان ينظر إلي المادة. كأداة يُخدم بها الله
وآخر ينظر إلي المادة. كوسيلة لإشباع الشهوات!
المادة هي نفس المادة. ولكن نوعية النظرة إليها. تحدد نوعية العلاقة بها والتصرف معها. هل المادة تملكك. أم أنت تملكها؟!

والمال هو نفس المال. ولكنه في يد البعض يستخدمه للخير. وهو في يد الغير يهلكه! لأن نظرة الواحد إليه غير نظرة الآخر . نفس الوضع بالنسبة إلي الجسد. يستخدمه البعض في الركوع والسجود وخدمة الله. وخدمة المجتمع. بينما ينظر إليه البعض كأداة لإشباع شهواته. وكأنه شر في ذاته. وعنه تصدر خطايا عديدة.
***
كذلك تختلف النظرة إلي الشئ من حيث الاعتقاد فيه:
هل هو محلل أم محرم أم نجس..
* إن نظرة المسلم إلي الخنزير. من حيث أنه نجس ولا يجوز أكله. غير نظرة إنسان آخر لا تحرم عقيدته أكل لحم الخنزير..

* نفس الوضع تقريبا بالنسبة إلي التدخين وشرب الخمر. إنسان يكره رائحة السيجارة ولا يطيقها. ويكاد يختنق من رائحتها ولو بعيدا. هذا غير شخص آخر مدمن للتدخين.

وما يقال عن التدخين يقال عن الخمر بشتي أنواعها..

* أيضا نظرة الرجل إلي النساء. سواء إلي المحرمات منهن. أو إلي المرأة العادية. نظرة رجل إلي امرأة انها محرمة عليه من جهة نوع القرابة أو النسب. غير نظرته إلي امرأة ليست من المحرمات.

إن يوسف الصديق لم يستطع أن يقترب من امرأة سيده - علي الرغم من طلبها ذلك منه - ذلك لأن عقيدته لا تسمح له بالاقتراب من امرأة رجل آخر.

يمكن أن نطبق مثل هذه النظرة علي كل المحرمات من الخطايا.

***

بين الشكر والتذمر

إنسان ينظر إلي الذي معه. فيرضي ويشكر

وآخر ينظر إلي الذي ينقصه. فيشكو ويتذمر

وقد يكون الاثنان في نفس الظروف ونفس الأوضاع.

فما هي نظرتك أنت؟ هل تنظر إلي الذي معك؟ أم إلي الذي ينقصك؟ والذي ينظر إلي ما ينقصه. لا يهدأ من الطلب. كذلك الذي ينظر إلي ما في أيدي غيره. ويقارن..

كثير من الذين يتذمرون ويتعبون: لو أنهم نظروا الي الذي معهم. لوجدوا أنهم في خير. وقد أعطاهم الرب الكثير والكثير. ولكنهم لم ينظروا إلي ما عندهم..

***

نفس الوضع نقوله بالنسبة إلي المناصب والألقاب

قد يكون انسان في وظيفة مرموقة يحسده عليها الكثيرون. وقد يكون معه من المال ما يجعله من كبار الأثرياء. ومع ذلك كله فإنه يشقي! لماذا؟ لأنه ينظر إلي عضوية مجلس تشريعي أو عضوية مجلس المدينة. أو عضوية هيئة كبيرة أو ناد مشهور..! أو أنه يشتهي وساما أو لقبا.

أو ينظر إلي أصحاب الدرجات العلمية والشهادات الجامعية. مما ليس له. فيشكو حظه وتتعب نفسيته!

***

ما أكثر النعم والخيرات التي تحيط ببعض الناس. ولكنهم لا ينظرون إليها. بل ينظرون إلي شئ غيرها ينقصهم!

وإن حصلوا علي ذلك الشئ. لا يكتفون. بل ينظرون إلي مستوي آخر أعلي وأبعد ينقصهم..! وقد يتذمرون وهم في وضع يشتهيه غيرهم ولا يجده! هنا الاختلاف بين نظرة القناعة البيضاء ونظرة الطمع السوداء.

إذن بنوع نظرة الانسان يسعد نفسه. وبنوع نظرته يشقيها

وهكذا. فإنه ليست الظروف الخارجية هي التي تتعبه. وإنما يتعبه أسلوبه في التفكير. ونوع نظرته إلي الحياة.

***

النظرة إلي أعمال الآخرين:

انسان ينظر إلي الخير الذي في الناس. فيمتدحهم

وانسان آخر لا ينظر إلا إلي النقائص والعيوب. فيذم ويعيّر

هذا النوع الثاني له نظرة نقّادة. لا تري إلا الشئ الأسود! وتتخصص في رؤية العيوب. حتي بالنسبة إلي شخص يمدحه الكل وهو موضع رضي الكل. ومع ذلك ما أسهل أن يوجد فيه شئ يُنتقد.

هذا النوع يتعود أن ينتقد ويعارض. ويتكلم بالسوء علي كل أحد. ولا يعجبه أي تصرف. علي الأقل بالنسبة إلي شخص معين أو مجموعة معينة أما أصحاب النظرة البيضاء. فهم عكس ذلك.

***

لو كانت لك النظرة البيضاء ستري في كثيرين شيئا يُحبّ ويُمتدح

درّب نفسك علي هذه النظرة: أن تنظر إلي محاسن الناس وليس إلي عيوبهم. هناك نظرة واقعية: أن تري ما فيهم من محاسن ومن عيوب. ولكن أي النوعين له التأثير الأكبر عليك؟

الذي لا ينظر إلا إلي العيوب. قد تجده ساخطا علي الكل..

لا يعجبه شئ.. كل ما يراه هو موضع انتقاد.. وبعض الذين ينادون بالإصلاح. لا ينظرون إلا إلي السواد فقط.. ويحتار البعض معهم كيف يرضونهم! هم باستمرار عدوانيون Aggressive لابد أن يجدوا شيئا يهاجمونه. فإن لم يجدوا فيخترعونه..!

***

وبعض أصحاب النظرة السوداء: بدلا من الهجوم. يتحولون إلي الانعزال!

بسبب نظرتهم السوداء. ينفرون من المجتمع. وينطوون علي أنفسهم. إذ لا يجدون شيئا يعجبهم أو يرضيهم.. بل هم ساخطون علي كل شئ.

وأحيانا يصاب هؤلاء بأمراض نفسية أهمها مرض الكآبة Despression فتجد الواحد منهم حزينا كئيبا. ينتظر أن يري الشر أمامه.. وأحيانا يخاف المجتمع. ويظن أن الغالبية تدبر له ما يضايقه. وهكذا يقع في عقدة الاضطهاد Perseuction Complex ويخيل إليه أن كثيرين يريدون الإضرار به!

أو قد يصاب بالعصبية. فتجده دائما "غضوبا" حاد الطبع عالي الصوت. يحتد وربما بلا سبب يدعو إلي ذلك. وفي غضبه يثور ويتكلم بما لا يليق. إنه لا يري سوي سواد يثيره!

***

وربما يُحارَب بالشكوك في كل شئ:

في كل ما يحيط به. يفترض أسبابا سوداء تدعوه إلي الشك!

وإن بدأ الشك يحاربه. يلتقطه الشيطان لكي يضيف إليه مخترعات وأسبابا تزيد من شكه. حتي يصبح في جحيم من الشك. وكل هذا بسبب نظرته السوداء التي تفترض الشك. بعكس غيره من أصحاب النظرة البيضاء الذين يؤولون نفس الأمور تأويلا طيبا لا يحزن النفس.

إن كثيرا من الشكوك ليس الدافع إليها أسبابا خارجية. بل هناك مصدر آخر وهو حالة القلب والفكر من الداخل.

***

قد تكون النظرة السوداء إذن مرضا نفسيا نتجت عنه هذه النظرة وربما تؤدي هذه النظرة السوداء إلي مرض نفسي. فتكون سببا أو نتيجة.

أي أنه إذا بدأ بالنظرة السوداء. قد يصل إلي المرض النفسي.

أو إذا بدأ بالمرض النفسي. تكون من نتائجه النظرة السوداء.

وبالنظرة السوداء يفقد الإنسان سلامة القلب. بعكس صاحب النظرة البيضاء الذي يحيا باستمرار في بشاشة وفرح.

والعجيب أن النظرة السوداء قد تأتي في العلاقة مع الله!

***

في العلاقة مع الله:

الشيطان قد يحارب صاحب النظرة السوداء حتي في علاقته مع الله. فيصور له أن الله لا يهتم به. وأن الله قد أهمله. وأنه لا يستجيب صلواته. أو أنه يضطهده ويعاقبه!

وهكذا بالنظرة السوداء يوصله الي التجديف!

وبإيعاز من الشيطان. فإن صاحب النظرة السوداء لا يشعر فقط بأن الناس ضده. وإنما الله أيضا ضده. والسماء مغلقة في وجهه! إذ يهمس الشيطان في أذنه - أثناء ضيقاته - "لماذا يعاملك الله هكذا؟! لماذا يتركك في تعبك. ولا يهتم بك!"

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 05:14 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
يكون عائقًا للفضيلة إن أهملنا خلاصًا هذا مقداره

يكون عائقًا للفضيلة إن أهملنا خلاصًا هذا مقداره (عب4:2).
البعض لا يريد

في ميلاد السيد المسيح، نتذكره أنه جاء لخلاصنا. وقال إنه:
"جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو10:9).
ولهذا فإن سمعان الشيخ، لما رأي في ميلاد الرب تباشير الخلاص، قال "الآن يا رب تطلق عبدك بسلام، لأن عيني قد ابصرتا خلاصك" (لو30:2). مع أن الخلاص لم يكن قد تم، لكنه رأى في الميلاد تباشير أو بداية هذا الخلاص.
وبهذا الخلاص بشر الملاك الرعاة قائلًا "إنه قد ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب" (لو11:2). ولهذا في ميلاد المسيح، دعي إسمه يسوع أي مخلص، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (مت21:1).
ومع أن السيد المسيح جاء لخلاص العالم كله، فإن العالم كله لم يخلص، لأن البعض رفضوا هذا الخلاص!!
"إلي خاصته جاء وخاصته لم تقلبه"، "أضاء النور في الظلمة والظلمة لم تدركه" (يو1: 11، 5). إذن أمامنا موضوعان هامان:
الخلاص الذي جاء المسيح ليقدمه، وقبول أو رفض هذا الخلاص.
"الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله" (يو11:1).
وفي نفس الوقت رفض هذا الخلاص من الكتبة والفريسيين والصدوقيين والناموسيين، والكهنة ورؤساء الشعب وغيرهم.
لما سمع هيرودس الملك بميلاد المسيح "اضطرب وجميع أورشليم معه" (مت3:2).
ودبر مؤامرة لقتله، ولو أدي الأمر أن يقتل كل أطفال بين لحم. أنه لم يفرح بهذا الخلاص الأتي، ولم يؤمن به!! وهكذا يحذرنا الرسول قائلًا:
"كيف ننجو، إن أهملنا خلاصنا هذا مقدراه؟!(عب4:2).
هذا الخلاص الذي تنبأ عنه أنبياء كثيرون، ووردت عنه العديد من الرموز، وانتظرته أجيال طويلة.. حينئذ يقف أمامنا سؤال هام: ما موقفنا من هذا الخلاص؟
لا تقل: هل الله يريدني أن أخلص أم لا؟
فالله يريد أن الجميع يخلصون، وإلي معرفة الحق يرجعون" (1تي4:2). والمهم هو أنك تريد أن تخلص.. كما كان الرب يسأل المريض أحيانًا "اتريد أن تبرأ" (يو6:5). لأن هناك مرضي يحبون المرض ولا يريدون الشفاء، كما قيل:
"أحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو19:3).
الذين يحبون الظلمة، ولا يحبون أن يخلصوا، إن أراد الرب أن يخلصهم من خطاياهم، يرفضون ويتمسكون بها بالأكثر!!
وهذا يذكرنا ببكاء المسيح علي أورشليم، وحينما قال لها "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم اردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا.."(مت27:23). انظروا ماذا يقول؟
كم مرة أردت.. ولم تريدوا!!
وذلك كانت النتيجة "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا".
إنه العتاب الذي عاتب به الرب شعبه منذ القديم، واشهد عليه السماء والأرض، وأنشذ له نشيد الكرمة، وقال "أحكموا بيني وبين كرمي. ماذا يصنع لكرمي، وأنا لم اصنعه؟! (أش5: 3، 4).
إنها قاعدة يجب أن نعرفها في الخلاص الذي يقدمه الرب.
الرب يقدم الخلاص. ولكن لا يرغم أحدًا علي قبوله.
الله يريد القلب، يريد الحب، ولا يجذب أحدًا إليه بالعنف إطلاقًا. إنه يترك الأمر لاختيار البشر، ويقول "قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فأختر الحياة لكي تحيا" (تث30: 19، 15).
الله يرشد وينصح، وتبقي الإرادة كلها في يدك، تعمل أولًا تعمل، تقبل أولا تقبل.
هو واقف علي الباب يقرع (رؤ20:3). وأنت حر، تفتح أو لا تفتح...

وهكذا حدث مع عذراء النشيد، قرع علي بابها طويلًا، وأنتظر حتى امتلأ رأسه من الطل، وقصصه من ندي الليل، وخاطبها بأرق العبارات، ولكنها اعتذرت عن فتح بابها، وتأخرت، فكانت النتيجة أنه: تجول وعبر" (نش5: 2- 6). وهكذا نتيجة حريتها فقدت الحياة مع الله فترة، ثم عادت بعدها ورجعت إليه.
إن دم السيد المسيح كفارة غير محدودة، كاف لمغفرة جميع الخطايا، لجميع الناس، في جميع العصور. ومع ذلك لم يخلص الكل , والسبب راجع إليهم هم.
النعمة مستعدة أن تعمل مع كل واحد، ولكن ليس الجميع يستسلمون لعمل النعمة.. الروح القدس مستعد أن يهب القوة للكل ويعمل فيهم، ولكن ليس الكل يشتركون مع الروح القس في العمل. الخلاص مقدم للجميع. ولكن كثيرون لاهون عن خلاصهم.. فلماذا كل هذا؟
أسباب من الإنسان

أول سبب يضيع خلاص الإنسان هو محبته للخطية.
محبة الجسد والمادة والأشياء التي في العالم. الناس يهتمون بأجسادهم أكثر مما يهتمون بأرواحهم،عقلهم ينشغل بالعالم وليس بالسماويات. فتتعلق قلوبهم بالدنيا وما فيها، ويركزون فيها رغباتهم. وهكذا لا يصبح القلب لله. وتتدرج علاقتهم بالخطية: وقد تصبح الخطية عادة، وتسيطر. وقد تصبح شهوة ويستعبد الإنسان لها.
وبتدرج الإنسان من محبة الخطية إلي العبودية لها.
يدخل في حالة من السبي، حتى أنه يفقد إرادته تمامًا.
وقد شرح القديس بولس الرسول هذه الحالة فقال"... الشر الذي أريده، إياه أفعل.. فلست بعد افعله أنا، بل الخطية الساكنة في.. أري ناموسًا في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلي ناموس الخطية..."(رو7: 19- 32).
إذا ليس المهم فقط، الخلاص من العقوبة.
إنما الأصل والأهم هو الخلاص من الخطية.
ضع أمامك إذن كيف تخلص من الخطية، وتصل إلي التوبة، وإلي النقاوة، وإلي محبة الله. وهذا ما ينبغي أن تفكر فيه من بداية سنة جديدة، فتكون لك حياة مع الله..
كثيرون يفقدون الخلاص لأن نظرتهم تغيرت.
نظرته للروحيات تغيرت، نظرته إلي الله نفسه تغيرت. لم يعد له الاهتمام الأول، ولا الحماس السابق. بل لم تعد له لذة في العشرة مع الله. وقد يصلي، ويقرأ الكتاب، ويحضر القداسات والاجتماعات. ولكن بغير روح.
وربما نظرته إلي الخطية أيضًا قد تغيرت:
وأصبح الضمير واسعًا، ويبتلع أشياء كثيرة. وهكذا صار في أعمال عديدة يفقد حرصه وإحتراسه، ويفقد تدقيقه، وبالوقت يصل إلي الإستهانة واللامبالاة. اي يرتكب الخطية بلا مبالاة، ونفس الإستهانة في صلواته وعبادته...
وبمرور الوقت تختفي مخافة الله من قلبه.
وإذا بعبارات الله حنون محب غفور طيب، تجعله لا يبالي، كأنما يستغل محبة الله استغلالًا سيئًا في كسر وصايا الله بدون خوف. وهنا يقف أمامه قول الرسول عن العلاقة بالرب "أم تستهين بغني لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلي التوبة" (رو4:2).
وهذه الاستهانة تجعله بفقد الجدية في حياته الروحية.
لا ينظر إلي وصايا الله في جدية، ولا يعترف ويتناول في جدية. ويمكن أن يتناول ويخطئ مباشرة، بلا خجل، بغير مخافة لله، ولا هيبة ولا خشية!! وبلا إهتمام.. لا يضع في ذهنه أن الله يراه، وأن أرواح الملائكة وأرواح معارفه الذين انتقلوا تراه!!
يصاب ببرودة في حواسه الروحية، فتتبلد!
وهذا النوع ربما يسمع العظات فلا يتأثر، ويقرأ عن لروحيات فلا يتأثر. بل تتحول الروحيات عنده إلي معلومات تزيد معرفه، وليست إلي مناخس تنخس قلبه وضميره...
ويفقده الواعز الداخلي، تفقد الدوافع الخارجية تأثيرها.
لأنها لا تجد في داخله ما يقبلها وينفعل بها، أو لأنه تعودها. كما يتعود مريض دواء معينًا، فيفقد الدواء تأثيره عليه. وهكذا تدخل حياته في فتور روحي، أو في بروده روحية، وقد يبعد حياة الروح تمامًا. ولا يفكر مطلقًا في خلاص نفسه. وإن ناداه الرب، لا يجد في قلبه صدي، إذ قد وصل إلي قساوة القلب التي حذر منها الرسول قائلًا:
"إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم" (عب3: 7، 15).
وحتى هذا الإنسان، تحاول النعمة أن تجذبه. وقد يسمع صوت الله فيتأثر به، ويود ان يرجع إلي الحياة مع الله. ولكنه يدخل في صراع داخلي. ويصبح مثل إنسان مشلول يريد أن يقف، فلا تقوي قدماه علي ذلك.
وهكذا يبرر رفضه للخلاص بعنصر التأجيل.
تمامًا مثل فيلكس الوالي، الذي ارتعب لما سمع بولس الرسول يتحدث عن البر والدينونة والتعفف. ولكنه قاوم التأثير الروحي بقوله للرسول "اذهب الآن، ومتى حصلت علي وقت أستدعيك" (أع25:24).
بالإضافة إلي كل هذا، توجد الحروب الخارجية.
التي تنتهز الضعف الداخلي، فتهجم وتضغط. وتفتح أمامه أبوابًا واسعة للخطية طالما اشتهاها من قبل وما كان يجدها..
وإن حاول أن يضع أمامه قول الرسول "لا تشاكلوا أهل هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو12: 2). يصور له العدو صعوبة التغير، وردود الفعل في الوسط الذي يعيش فيه. وماذا يقول الناس عنه، وقد تعودوا عليه في صورة معينة!!

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 05:18 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
من عوائق الفضيلة: سوء الفهم أو عدم الفهم

للخطأ أو للخطيئة أو للشر أسباب متعددة، من أهمها:
الجهل، أو سوء الفهم، أو عدم الفهم. قال السيد الرب:
"قد هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو6:4).
فكثيرًا ما يكون سبب الخطية الجهل. فممكن أن أنسانًا يخطئ بسبب عدم المعرفة ولا يقصد عدم المعرفة بصفة مطلقة، وإنما ممكن بصفة جزئية..
وفي سفر إشعياء النبي في الإصحاح الأول، يقول الرب "الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه. أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم" (أش3:1).
ومن أمثلة الجهل الذي يخطئ به البعض: أهل نينوى.
قال عنهم الرب ليونان النبي "أفلا أشفق أنا علي نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من إثنتي عشرة ربوة من الناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم" (يو11:4). والربوة عشرة آلاف. أي يوجد في نينوى العظيمة أكثر من 12 ألف نسمة لا يعرفون يمينهم من شمالهم.
كثير جدًا من الناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم.
مثل بعض القري والأحياء المخدومة. لا يعرفون شيئًا. فتأتي إحدي الطوائف تتلقفهم. ومثلما تقول لهم، هكذا يرددون كما تريد. وما اسهل عمل شهود يهوه مثلًا في أمثال هؤلاء الناس. ليس فقط في القري، بل حتى في قلب المدينة، حيث توجد عائلات لا يزورها أحد من رجال الكهنوت. وكما قال الرب "هلك شعبي من عدم المعرفة"..
وسبب عدم الفهم يقدمه السيد المسيح عذرًا لصالبيه فيقول:
"أغفر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون" (لو34:23).
ويقول الرسول عن هذا، "لأنهم لو عرفوا، لما صلبوا رب المجد" (1كو8:2). حتى الشيطان نفسه ما كان متأكدا هل هذا هم إبن الله ام لا. هل صلبه ينفعه كشيطان للتخلص من تعليمه. أم أن صلبه يخلص العالم.هو نفسه كان عدم معرفة!
حقًا ما أكثر الناس الذين لا يدرون ماذا يفعلون! يظن الخير حيث يوجد الشر! وربما يوجد ناس كبار في مراكزهم العلمانية، أو في مراكزهم الدينية، وهم لا يدورن ماذا يقولون أو ماذا يفعلون!
الكتبة والفريسيون من قادة الشعب في معرفة الدين، ومع ذلك قال عنهم السيد المسيح إنهم:
"يغلقون ملكوت السموات قدام الناس، فلا هم دخلوا، ولا جعلوا الداخلين يدخلون (مت13:23)..
وقال إنهم قادة عميان: الذي يرشدون، يجعلونه إبنا لجهنم أكثر منهم مضاعفًا (مت23: 15، 16).!! كانوا ينصحونه الشعب بطرق خاطئة، ويشرحون الوصايا بطريقة حرفية، مثل كلامهم عن وصية السبت. الرجل المولود أعمي الذي منحه السيد المسيح بصرًا: قالوا له إن السيد المسيح الذي شفاه هو رجل خاطئ (يو24:9). لأنه شفاه في يوم السبت!!
وفي العهد القديم يقول الرب لإسرائيل "مرشدوك مضلون" (أش12:3).
وعن أمثال هؤلاء المرشدين المضلين قال الرب:
"أعمي يقود أعمي، كلاهما يسقطان في حفررة" (مت14:15).
ولاشك أن المذاهب الدينية المتعددة سببها عدم الفهم.
إنهم يفهمون الكتاب بطريقة خاطئة، وينقلون هذا الفهم الخاطئ إلي الناس فتتكون مذاهب، وربما تتكون أيضًا بدع وهرطقات، نتيجة اعدم الفهم، وإنتشار سوء الفهم بين الناس.
ونحن في القداس الإلهي نسمي خطايا العامة جهالات.
فعند تقديم الذبيحة، يقول الكاهن للرب سرًا "لتكن مقبولة عن خطاياي وجهالات شعبك" بالنسبة ككاهن لا يعتبرها جهالات، لأنه من فم الكاهن تُطْلَب الشريعة (ملا7:2). أما الشعب فله جهالات....
من أجل هذا كله أوجد الله التعليم في الكنيسة.
وأرسل رسلًا وأنبياء وعين كهنة ومعلمين.
ومن أجل التوعية والإرشاد والإنقاذ من الخطأ منحنا الله الوحي الإلهي في كتابه المقدس. وقيل "كل الكتاب موحي به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب" (2تي16:3).
وعن التعليم وأهميته يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس:
لاحظ نفسك والتعليم، وداود علي ذلك" (1تي16:4).
ويكمل قائلًا: لأنك إن فعلت هذا، تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضًا"..
ويقول لتلميذه تيطس "وأما أنت فتكلم بما يليق بالتعليم الصحيح" (تي1:2).
وهنا يشير الرسول إلي التعليم الصحيح، لأن هناك معلمين مخطئين.
يعلمون وهم لا يعرفون الحق كما ينبغي ان يكون. ولذلك "يأخذون دينونة أعظم (يع1:3). لأنهم في اشياء كثيرة يعثرون. مع انهم معلمون. ولهذا نجد القديس بولس الرسول يقول لتلميذه تيموثاوس "وما تسلمته مني بشهود كثيرين أودعه أناسًا أمناء، يكونون أكفاء ان يعلموا آخرين أيضًا" (2تي2:2).
نلاحظ هنا في التعليم عبارة أمناء، وعبارة أكفاء.
لأن الذي لم يصل بعد إلي الفهم السليم، لا يجوز له أن يعلم، مهما ظن في نفسه أنه ذو معرفة، ومهما كان حكيمًا في عيني نفسه" (أم26: 5، 12). لئلا يرتئي فوق ما ينبغي، ولا يرتئي إلي التعقل (رو3:12).
والتوعية والتعليم لازمان أيضًا في محيط الأسرة.

وهذه بلا شك مسئولية الوالدين والأقارب والأشابين...
من الجائز أن ابنك يكون محتاجًا إلي إرشادكم في كثير من الأمور. وإذ لا يجد هذا الإرشاد يتلقاه من صحبة شريرة أو بيئة خاطئة، ويضل،إذ يستقبل المعلومات بعقلية لا أساس لديها من الفهم، ولا قواعد ثابتة تعتمد عليها..
وحينئذ لا يكفي من جهتك أن تقابله بمجرد الأوامر بمعناها السليم. وما أجمل ما قيل في تعاليم آبائنا الرسل:
أمح الذنب بالتعليم (الدسقولية).
قد يتزوج شابان، وهما لا يعلمان إطلاقًا ما هي الحياة الزوجية، ولا ما هي العلاقات السرية، ولا يعرفان كيف يحلان مشاكلهما،وهكذا يفشلان نتيجة لعدم المعرفة، أو نتيجة الفهم الخاطئ من أم أو صديق أو من جاره، أو من أي مصدر آخر....
حقًا ما أعمق قول الرب "هلك شعبي من عدم المعرفة".
إذن كيف يمكن أن توجد استنارة في عقل كل واحد؟
الله من أجل التعليم، أوجد في أعماق كل إنسان الضمير.
يهديه إلي الخير، ويمنعه عن الخطأ بصفة عامة. ولكن الضمير قد يحيطه ضباب أحيانًا، فيرتبك اين الخير وأين الشر؟ وبخاصة في الأمور غير الواضحة، فكيف يستنير الضمير؟
يستنير الضمير بالوصية، وبعمل الروح القدس.
ولذلك يقول المرنم في المزمور "سراج لرجلي كلامك، ونور لسبلي" (مز119). ويقول "وصية الرب مضيئة تنير العينين عن بعد (مز119). ويقول لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي، لهلكت في مذلتي "رمز119).
من أجل هذا شيء الشموع عند قراءة الإنجيل في الكنيسة.
لأمه يضئ لنا الطريق، وبه ننال الاستنارة.
وعن عمل الروح القدس، يقول انا السيد الرب عنه إنه روح الحق (يو26:15). وإنه يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو26:14). وإنه "يرشدكم إلي جميع الحق" (يو13:16).
كثير من الأخطاء الروحية أيضًا سببها عدم المعرفة..
لا تظنوا أن كل إنسان يعرف الله معرفة سليمة. ما أكثر الآباء والأمهات الذين يهددون الطفل بأن الله، يزعل منه". في كل تصرف، فينشأ الطفل يرتعب من الله، ولا توجد بينه وبين الله علاقة طيبة. وهكذا المعرفة الخاطئة تشوه عقولهم.
السيد المسيح جاء يعرفنا بالله بطريقة جميل.
جاء يعلمنا أنه "هكذا أحب الله العالم.." (يو14:3). وقيل عن السيد نفسه إنه كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهي" (يو1:13). ورسوله يوحنا علمنا أن الله محبة. ومن يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه" (1يو16:4).
صدقوني، أننا لم نعرف الله بعد كما ينبغي.
وبولس الرسول في كل ما عمله، يقول "لأعرفه..."(في10:3). والسيد المسيح يقول للآب "هذه هي الحياة الأبدية ان يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك.."(يو3:17).
يالتنا نبدأ ان نعرف الله المعرفة الحقيقية...
بل لأبد أن نعرف أنفسنا حتى لا نخطئ.
لأنه إن عرفنا أننا صورة الله ومثاله، وإن عرفنا أننا أبناء الله، وينبغي أن الابن يشبه أبه، وإن عرفنا أننا هياكل للروح القدس، وروح الله ساكن فينا" (1كو16:3). إن عرفنا كل ذلك، قد نستحي من الخطية ونخجل ولا نخطئ. كذلك إن عرفنا أن الله يرانا في كل ما نفعله، قد نخجل أيضًا ولا نخطئ...
نتناول الآن بعض نقاط الخطية ونري كيف يعمل فيها عدم الفهم. ولنبدأ بأعمق الخطايا: الإلحاد.
الإلحاد
يقول الكتاب "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز1:4).
إذن الإلحاد جهل. جهل بالله، وجهل بالطبيعة التي حولنا التي كل ما فيها يشير إلي وجود الله "السماء تحدث بمجد اله والفلك يخبر عمل يديه" (مز1:19). حقًا إن الذي يتأمل في قوانين الفلك العجيبة، والعلاقة بين الشموس والأقمار والكواكب والنجوم والشهب والمجرات، لابد أن يبهر ويذهل ويؤمن بوجود الله...
ولذلك كانوا يعلمون الفلك في كليات اللاهوت، وكذلك الطب....
لأن الذي يتأمل في تشريح جسم الإنسان، وفي وظائف الأعضاء، لابد أن يدرك قدرة الله الخالق العظيم الذي صنع كل ذلك. لذلك فالملحد جاهل، مهما أدعي العلم والفلسفة، لن كل عمله جهالة عند الله....
الحرية

كثير من الناس يقعون في الخطأ، لأنهم لا يفهمون مق\طلقًا معني الحرية، كما اخطأ الإبن الضال في فهم الحرية.
إن الحرية الحقيقية هي تحرر الإنسان في الداخل.
يتحرر الإنسان من العادات الخاطئة، ومن الرغبات والشهوات الشريرة. والذي يتحرر من الخطايا بمعناها الحقيقي هي التي قال عنها السيد المسيح "إن حرركم الإبن، فالحقيقة تكنون أحرارًا" (يو36:8).
ولابد ان تعرف أنه لا توجد حرية مطلقة.
معني الحرية أنك تستخدم، بحيث لا تتعدي علي حرية غيرك، ولا تعتدي علي حقوق الإنسان، ولا علي النظام العام. ولا علي وصايا الله...
إن فهمت هذا، لا تخطئ.
السعادة

كثير من الناس لا يفهمون معني السعادة، ولا معني الفرح. نفس سليمان الحكيم في مبدأ حياته، خلط بين الفرح واللذة، وظن ان الفرح مصدره كثرة المقتنيات والجواري والنساء، والقصور والأشجار، والمغنيين والمغنيات، وكثرة الغني، فقال ومهما اشتهته عيناي لم امنعه عنهما" (جا10:2). وأخيرًا وجد أن الكل باطل وقبض الريح.
يوجد فرح روحي من نوع آخر، أكثر عمقًا.
كما قال الرسول "أفرحوا في الر كل حين، وأقول أيضًا أفرحوا" (في4:4).
يوجد فرح في الإنتصار علي النفس، وعلي فخاخ الشيطان.
إنه فرح الغالبين الذين إنتصروا، ليس علي غيرهم، وغنما علي أنفسهم، وأنتصروا علي الإغراءات والشهوات وكل الضعفات. الفرح بالنمو الروحي، الفرح بمعرفة الله، ومذاقة الحياة معه.
إنه فرح دائم. إن نلتموه لا ينزع منكم. أما أفراح العالم فكلها مؤقتة وزائلة ومادية.
العظمة

كثيرون لا يعرفون معني العظمة الحقيقة، ويظنونها في المظهر الخارجي والتباهي، والمال والمناصب والقوة..
إنها عظمة من الخارج، وليس عظمة النفس من الداخل.
العظمة الحقيقية هي الشخصية الكاملة، المتجملة بالفضائل، التي هي علي صورة الله ومثاله.
يوحنا المعمدان كان عظيمًا، بل أعظم من ولدته النساء. بل قيل إنه يكون عظيمًا أمام الرب. لماذا؟ لأنه من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو15:1). هذه هي العظمة الحقيقية. أتراك أدركتها أو ذقتها. أم تتمسك بعظمة العالم الذي يبيد وشهوته معه...
أعرف نفسك

من أهم مظاهر عدم الفهم، أن الإنسان لا يفهم نفسه. ويظن أنه مجرد جسد، فيسلك حسب الجسد، لكي يتمتع بالجسد ومتطلباته. وفي كل ذلك أن في داخله روحًا لها مطالبها، وهي التي يكون لها شركة مع الروح القدس.
وإذا عرف الإنسان أهمية روحه، يهتم بها.
الروح تحتاج أن تتغذي بكل الأغذية الروحية، وتحتاج أن تتزين وتتجمل بالفضيلة وتحتاج أن تنمو في المعرفة وفي محبة الله... وإذ هي أهم من الجسد يجب أن يبذل الإنسان جهده من أجلها. من أجل السلوك بالروح.. ولكن من ذا الذي يعرف؟ حقًا كما قال الله: "قد هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو6:4).

Mary Naeem 20 - 01 - 2014 05:24 PM

رد: كتاب حياة الفضيلة والبر - البابا شنوده الثالث
 
الشر هو في سوء الاستخدام

هناك أسباب تؤدي إلي الخطية وإلي الشر، ولعل في مقدمة هذه الأسباب: سوء الاستخدام. فما المقصود بهذا؟
إن الله قد وهبنا عطايا كثيرة. ولكننا نسيء استخدامها.
وهناك في الحياة أشياء كثيرة، يمكن أن تستخدم في الخير، ويمكن أن تستخدم في الشر.
هي في ذاتها ليست خطية، إنما الخطية هي في سوء استخدامها.
فما تفسير هذا كله؟ فلنحاول معًا أن تنفهم الأمور جيدًا، حتى نستطيع أن نحدد أين يوجد الخطأ؟ وما هو مصدره؟ ولنبدأ ببعض المواهب، ونتدرج أيضًا إلي المادة، وإلي الغرائز، وإلي المخترعات، ونفحص الأمور جيدًا.
الحب

أعطانا الله عاطفة الحب. وهي ليست خطأ. بل الخطأ هو أننا لا نحب. وقيل عن الله تبارك اسمه "الله محبة" (1يو8:4). وقال الرسول "كل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله" (1يو7:4).
الخطأ هو أن نسئ استخدام الحب، ونوجهه توجيهًا غير سليم.
الحب أصلًا يكون موجهًا إلي الله، وإلي الناس داخل نطاق محبة الله. ويكون موجهًا إلي الخير والمثاليات، وإلي السماء والأبدية.
وقد قال الوحي الإلهي "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك" (تث5:6). هذه هي الوصية العظمي في الناموس. والثانية مثلها "تحب قريبك كنفسك" (مت39:22).
ولكن نخطئ إذا أسانا استخدام الحب، فأصبحنا نحب العالم أو الجسد أو المادة أو الذات.
وفي هذا قال الكتاب "محبة العالم عداوة لله" (يع4:4). وقيل "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب احد العلم فليست فيه محبة الآب. لأن كل ما في العالم: شهوة الجسد وشهوة العين، وتعظم المعيشة" (1يو2: 15، 16).
كذلك يخطئ الإنسان إن أحب ذاته محبة خاطئة.
فليس خطأ أن يحب الإنسان ذاته محبو روحية، كما قيل: تحب قريبك كنفسك". ولكن إذا أساء استخدام محبته لنفسه، بحيث توجهت هذه المحبة إلي الجسد والذات، أو إلي العظمة والكبرياء حينئذ تصبح محبة الذات خطية.
ومن ضمن محبة العالم: محبة المال.
المال

المال ليس شرًا في ذاته، إنما الشر في سوء استخدامه.

فقد كان أبونا إبراهيم أبو الآباء غنيًا، وكان أمام الله. أيوب الصديق كان اغني بني الشرق، ومع ذلك كان رجلًا كاملًا ومستقيمًا يتقي الله ويحيد عن الشر (اي8:1). "وكان أبًا للفقراء، وعيونًا للأعمى، وأرجلًا للعرج. وكم أنقذ المسكين المستغيث واليتيم الذي لا معين له. وكم جعل قلب الأرملة يسر" (أي29: 12- 16). لقد استخدم ماله بطريقة سليمة.
وبالمثل كان يوسف رجلًا غنيًا (مت75:27). وهو الذي كفن السيد المسيح ودفنه. وفي الجيل السابق لنا كان إبراهيم الجوهري رجلًا غنيًا. وكان إنسانًا بارًا ينفق علي الكنائس والأديرة، ويعول الفقراء والمعوزين.
ولكن يصير المال شرًا، إذا أسيء استخدامه، في اللهو، وملاذ الدنيا، أو اعتمد الإنسان عليه، وصار مجالًا للكبرياء. وليس عيبًا أن يمتلك الإنسان مالًا، إنما العيب ان يمتلك المال هذا الإنسان..
الغضب

ليس الغضب شرًا في ذاته، فهناك غضب مقدس.
والغضب المقدس هو الذي يمنح الإنسان الغيرة المقدسة، والنخوة والشهامة، والدفاع عن الحق. ويبقي الغضب مقدسًا، إن كانت وسيلة مقدسة، ودوافعه مقدسة. وهنا نفرق بين الغضب والنرفزة، فالنرفزة هي تعب في الأعصاب. وقد يغضب الإنسان، ويبقي في وقاره، متزنًا، محتفظًا بأعصابه.
وقد غضب موسى النبي، عندما عبد الإنسان العجل الذهبي، وأحرق هذا التمثال بالنار، وطحنه وذراه علي وجه الماء، وبكت أخاه هرون (خر32: 20، 21).
ولكن إذا إسئ استخدام الغضب، يصبح خطية.
وذلك إذا استخدم من أجل كرامة شخصية، أو بقسوة وبغير سبب يدعو إليه، أو إذا خلط هذا الغضب بالفاظ غير لائقة، أو باعتداء، أو بإهانات وجرح الشعور، أو بعنف، أو بظلم. ففي كل هذا يصبح الغضب خطية، لأنه قد أسئ استخدامه.
الفن

ليس الفن خطيئة، لأنه يمكن استخدامه في الخير.
نقول هذا عن الشعر، والموسيقي، والرسم، والنحت، ونقوله أيضًا عن التمثيل في المسرح أو السينما، وسائر الفنون الأخري إذا كان استخدامها في الخير.
كان داود النبي شاعرًا، وكان موسيقيًا....
كان ينظم المزامير شعرًا، ويغنيها علي مزماره وكان يحس الضرب علي العود" (1صم16: 16، 18). وكان آساف أيضًا شاعرًا ومغنيًا، ومريم النبية أخت هرون كانت تضرب علي الدف، وتغني للرب. وقد فعلت في معجزة شق البحر الأحمر، وهي تقود النساء في التسبيح (خر15: 20، 21). والرسول يقول "بمزامير وتسابيح وأغاني روحية،
مترنمين في قلوبكم للرب" (أف19:5). والغناء الروحي موجود في الكنيسة في الألحان والتراتيل والتسابيح، بل في القداس الإلهي نفسه. والمزمور يقول "غنوا للرب أغنية جديدة"، "رنموا للرب" (مز98:95). وسفر نشيد الأناشيد يمكن أن يترجم اغنية الأغنيات The Song of the Songs.
إذن الغناء ليس خطأ في ذاته، ولكن إذا أسئ استخدامه في المجون والعبث، حينئذ يصبح خطية.
ونفس الوضع بالنسبة إلي الشعر، وإلي الموسيقي، يتوقف الخير أو الشر فيهما علي حسن الاستخدام أو سوء الاستخدام. ونفس الكلام نقوله عن الرسم والنحت. فلوقا الإنجيلي كان رسامًا. ولا ننسي ميشيل انجلو وأيقوناته في الكنائس. أما الرسامون الذين يسيئون استخدام الموهبة إلي الغرائز الجسدية، فهؤلاء يخطئون بسوء الاستخدام.
وتبقي الموهبة صالحة إذا استخدمت حسنًا، كما قيل:
"كل شيء طاهر للطاهرين" (تي15:1).
الخيال

هو أيضًا يتوقف خيره أو شره علي استخدامه.
فالخيال الخير هو مصدر القصص النافع المفيد، والشعر الروحي المؤثر، بل قد يكون مصدرًا صالحًا للتأمل. ويمكن للإنسان أن يسرح خياله في السماء والملائكة والأبدية، بل وفي صفات الله نفسه.
ويصبح الخيال شرًا، إذا أسئ استخدامه، كما في أحلام اليقظة وتصور الشرور في الذهن.
أي إذا سرح خياله في خطية...
الطموح

الطموح يكون خيرًا إن كان سعيًا وراء الكمال.
وفي ذلك قال الرسول "إذا أنسي ما هو وراء، وأمتد إلي ما هو قدام" (في3: 13). ولولا الطموح، ما كان النمو الروحي في الفضيلة، وما كان السعي إلي استرجاعنا لصورة الله فينا،.ويكون الطموح خيرًا إذا سعي الإنسان إلي إن يكون ناجحًا في كل عمل تمتد تمتد إليه يده (مز3:1). كما كان يوسف ناحجًا في كل شيء (تك3:39).
أما إذا أسئ استخدام الطموح، وصار طموحًا في العظمة والماديات، وفي الإنتصار علي الآخرين، حينئذ يصبح خطية.
كذلك إذا قاد الطموح إلي الحسد أو إلي الكراهية، أو إلي التآمر علي الآخرين لأخذ مراكزهم.. هنا نكون قد أسانا استخدام الطموح.
العقل

العقل موهبة من الله، يمكن أن تستخدم في الخير وفي الشر.
العقل إذا استخدم في خير الإنسان روحيًا، وفي خير البشرية، وفي التوصل إلي السلوك السليم، حينئذ يتحول إلي حكمة طاهرة نافعة.
ولكن العقل يسئ البعض استخدامه، كالخطاة والمجرمين وكالشيطان نفسه.
ومن هنا قد يستخدم العقل في تدبير المؤامرات، مثلما كان يفعل أخيتوفل. ومثلما استخدمت الملكة إيزابل عقله في الفتك بنابوت اليزرعيلي (1مل21) ومثلما يدبر الشيطان لإهلاك البشر، ومثلما يفعل العظماء في اختراع أسلحة تدميرية فتاكة. وكما يفعل أصحاب الحيل والدهاء والمكر...
هنا يكون قد أساء استخدام عقله، في ضرر الآخرين أو ضرر نفسه.
الاختراعات

يمكن استخدام الاختراعات في الخير أو في الشر.
الطاقة الذرية مثلًا التي استخدمت في تدمير هيروشيما، يمكن أن تستخدم سلميًا من أجل خير البشرية. هي ليست شرًا في ذاتها، ولن الشر يمكن في سوء استخدامها.
يسأل البعض أحيانًا: هل الراديو والتلفزيون حلال أم حرام، خير أم شر؟ وكذلك التمثيل؟
يمكن استخدام هذه المخترعات في الخير، إذا اشرف عليها أناس روحيون يهتمون بنقاوة القلب والفكر، وبقيادة الإنسان في طريق الخير.
والكنيسة تستخدم المخترعات الحديثة.
مثل الميكروفونات، ومكبرات الصوت، والفيديو، وأجهزة التسجيل، وكل المخترعات النافعة.
ويمكن أن يستخدم المسرح والتمثيل في متعة الناس روحيًا.
وذلك بتقديم روايات دينية من الكتاب المقدس، أو من تاريخ الكنيسة، أو حتى من الخيال، المهم أن تترك ثأثيرها الروحي العميق في نفوس مشاهديها.
القوة

يمكن استخدامها في الخير، وإذا أسئ استخدامها تصبح شرًا.
والدين يدعونا أن نكون أقوياء. والإنسان القوي الشخصية، هو إنسان نافع للمجتمع، ونافع لسرته، ونافع لنفسه في الانتصار علي كل إغراءات الشر. وهنا أحب ألا يفهم الناس التواضع فهمًا خاطئًا، يكون مظهره الضعف والتخاذل.
فالسيد المسيح كان متواضعًا جدًا، وفي نفس الوقت كان قوي الشخصية، وكان يفحم الكتبة والفريسيين والصدوقيين وغيرهم في كل حواره معهم. وكانوا يشعرون بقوته وكان الجميع يبهرون بشخصه...
ولكن إذا أسئ استخدام القوة، وتحولت إلى البطش والعنف، أو الاستبدال والتسلط أو تحولت إلي الإرهاب والظلم، حينئذ تصبح شرًا.
وهنا نميز بين القوي العادل النافع، وبين القوي المغلوب من نفسه المتسلط علي غيره كل شيء نافع إذا أسئ استخدامه يتحول إلي شر.
الحرية

لا أظن أن أحدًا في العالم يقول أن الحرية شر. ولكن لأشك أن سوء استخدام الحرية هو خطية بلا شك.
كأن يستخدم إنسان حريته في فعل ما لا يليق، أو بغير ضابط خلقي.. أو أن يستخدم حريته في إقلاق الآخرين وإزعاجهم، أو في أن يكون عثرة لهم، وسببًا في سقوطهم.
أو أن يستخدم حريته في اللعب واللهو ويترك دروسه فيفشل.
أو أن يستخدم الإنسان حريته في الاعتداء علي حريات الآخرين أو علي حقوقهم، أو في انتهاك النظام العام..
هنا يكون الاستخدام السيء للحرية خطية.
الغريزة

ليست الغريزة خطأ في ذاتها، وإلا ما خلقها الله فينا.
كما أن المادة ليست خطأ في ذاتها، وإلا ما كان الله خلقها. إنما المهم أن تسير الغريزة في مجراها الطبيعي، ولا يساء استخدامها...
وموضوع الغرائز موضوع طويل ليس الآن مجاله...
ونفس الكلام نقوله علي الرغبات.
المادة

المادة ليست شرًا في ذاتها، إذا أسئ استخدامها تتحول إلي شر.
كذلك إذا أحبها الناس أكثر من الله، أو إذا سيطرت محبتها في قيادة الإنسان، بحيث يقولون عنه إنه إنسان مادي..
أي أن المادة استخدمت بأسلوب قضي علي روحياته ومثالياته ومحبته للخير...
ومن منطلق هذا المفهوم نتكلم أيضًا علي الخمر.
الخمر - كمادة ليست شرًا. ولكن الاستخدام السيء للخمر هو الشر. ونحن لا نحرم الخمر كمادة، ولكن نُحَرِّم استخدامها السيء.
أخطر ما في الخمر هو الكحول، هو الذي يتلف الصحة والإرادة، ويقود إلي السكر ويضيع هيبة الإنسان، إن زاد مقدار الكحول عن الحد....
ولكن الكحول ليس شرًا في ذاته، ونحن لا نحرمه.
وكثيرًا ما نستخدم الكحول في عديد من الأدوية، وفي العطور، وفي الصناعات وفي الوقود. ولكن الاستخدام السيء للكحول في إتلاف صحة الإنسان، أو في إشعال الحرائق، وما يماثل ذلك، هذا هو الخطأ.


الساعة الآن 02:40 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025