منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   كتب البابا شنودة الثالث (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=25)
-   -   كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=238282)

Mary Naeem 25 - 12 - 2013 05:39 PM

كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث



كلنا نؤمن بالخير، ونريد أن نعمل الخير.

ولكننا نختلف فيما بيننا في معنى الخير وفي طريقته.
وما يظنه أحدنا خيرًا، قد يراه غيره شرًا!!
فما هو الخير إذًا؟ وما هي مقاييسه؟
لكي نحكم على أي عمل بأنه خير، ينبغي أن يكون هذا العمل خيرًا في ذاته، وخيرًا في وسيلته.. وخيرًا في هدفه، وبقدر الإمكان يكون أيضًا خيرًا في نتيجته.
وسنحاول أن نتناول هذه النقاط واحدة فواحدة، ونحللها. وسؤالنا الأول هو: ما معنى أن يكون العمل خيرًا في ذاته!
وفى الواقع أن كثيرين -بنيه طيبة- قد يعملون أعمالًا يظنونها خيرًا. وهى على عكس ذلك ربما تكون شرًا خالصًا..
مثال ذلك الأب الذي يدلل ابنه تدليلًا زائدًا يتلفه، وهو يظن ذلك خيرًا!! ومثال ذلك أيضًا الأب الذي يقسو على ابنه قسوة تجعله يطلب الحنان من مصدر آخر ربما يقوده إلى الانحراف. وقد يظن ذلك الأب أن قسوته نوع من الحزم والتربية الصالحة. ومن أمثلة الذين يظنون عملهم خيرًا وهو شر في ذاته، أولئك الذين عناهم السيد المسيح بقوله لتلاميذه: "تأتى ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله".
إن الناس يختلفون فيما بينهم في معنى الخير. ويختلفون في حكمهم على الأعمال. ويتناقشون حول ذلك ويتصارعون. وقد يعمل أحدهم عملًا، فيعجب به الناس ويمتدحونه، ويسرفون في مدحه، بينما يتضايق البعض من نفس هذا العمل الذي يمدحه زملاؤهم. ويتناظر الفريقان، وكل منهما يؤيد وجهة نظره بأدلة وبراهين، ويتولى الفريق الآخر الرد عليها بأدلة عكسية. ويبقى الحق حائرًا بين هؤلاء وهؤلاء.
من أجل هذا كان على الإنسان أن يتمهل ويتروى، ولا يتعجل في حكمه على الأمور.
بل على العكس أيضًا أن يعمل عملًا، ويحاول أن يتأكد أولًا من خيرية تصرفه. ومن أجل هذا أيضا أوجد الله المشيرين وذوى الخبرة والفهم كإدلاء في طريق الحياة. وهكذا قال الكتاب المقدس "الذين بلا مرشد يسقطون مثل أوراق الشجر". وأوجد الله المربين والحكماء. وجعل هذا أيضًا في مسؤولية الوالدين والمعلمين والقادة وآباء الاعتراف، وكل من يؤتمنون على أعمال التوعية والإرشاد.
ولكن يشترط في المرشد الذي يدل الناس على طريق الخير، أن يكون هو نفسه حكيمًا، وصافيًا في روحه..
وينبغي أن يكون هذا المرشد عميقًا في فهمه، لئلا يضل غيره من حيث لا يدرى ولا يقصد. ولهذا السبب لا يصح أن يسرع أحد بإقامة نفسه على هداية غيره، فقد قال يعقوب الرسول: "لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا".. حقًا ما أصعب السقطة التي تأتى نتيجة أن يتبوأ أي إنسان مسئولية الإرشاد فيضيع غيره.. ولهذا قال السيد المسيح: "أعمى يقود أعمى، كلاهما يسقطان في حفرة".
لذلك كان كثير من الآباء المتواضعين بقلوبهم يهربون من مراكز القيادة الروحية، شاعرين أنهم ليسوا أهلًا لها، وخائفين من نتائجها. وعارفين أن الشخص الذي يقود غيره في طريق ما، أو ينصح غيره نصيحة معينه، إنما يتحمل أمام الله مسئولية نتائج توجيهاته ونصائحه، ويعطى حسابًا عن نفس هذا الشخص الذي سمع نصيحته. وقد قيل في ذلك إن نفسًا تؤخذ عوضًا عن نفس.
فعلى الإنسان حينما يسترشد أن يدقق في اختيار مرشديه، ولا يسمع لكل قول، ولا يجرى وراء كل نصيحة مهما كان قائلها. وأن يتبع الحق وليس الناس. وكما قال بطرس الرسول: "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس". إذن الخير مرتبط بالحق، ومرتبط بكلام الله إن أحسن الناس فهمه، وإن أحسنوا تفسيره، وإن ساروا وراء روحه لا حرفه.
إن كلام الله هو الحق الخالص، والخير الخالص، ولكن تفسير الناس لكلام الله قد يكون شيئًا آخر.
إن كلام الله يحتاج إلى ضمير حي يفهمه، وإلى قلب نقى يدركه. وما أخطر أن نحد كلام الله بفهمنا الخاص!! وما أخطر أن نغتر بفهمنا الخاص، ونظن أنه الحق ولا حق غيره، وأنه الفهم السليم ولا فهم غيره..!
إن الذي يريد أن يعرف الخير، عليه أن يتواضع..
يتواضع فيسأل غيره، ويقرأ ويبحث ويتأمل، محاولًا أن يصل وأن يفهم.. وحينما يسأل، عليه أن يسأل الروحيين المتواضعين الذين يكشف لهم الله أسراره. وعليه أن يسأل الحكماء الفاهمين ذوى المعرفة الحقيقية والإدراك العميق. وكما قال الشاعر:
فخذوا العلم على أربابه واطلبوا الحكمة عند الحكماء
لو كنا جميعًا نعرف الخير، ما كنا نتخاصم وما كنا نختلف.. علينا إذن - في تواضع القلب - أن نصلى كما صلى داود النبي من قبل: "علمني يا رب طرقك، فهمني سبلك".
إن الصلاة بلا شك هي وسيلة أساسية لمعرفة الحق والخير، فيها وبها يكشف الله للناس الطريق السليم الصحيح.
وهنا نسأل سؤالًا هامًا:
هل الضمير هو الحكم في معرفة الخير؟ وهل نتبعه بلا نقاش؟

أجيب وأقول: يجب على الإنسان أن يطيع ضميره، ولكن يجب أيضا أن يكون ضميره صالحًا. فهناك ضمائر تحتاج إلى هداية. إن الأخ الذي قتل أخته دفاعًا عن الشرف، أو الأخ الذي قتل أخته لأنها أرادت الزواج بعد زوجها الأول.. ألم يكن كل منهما مستريح الضمير في قتله لأخته؟! ألم يسر كل منهما على هدى من ضميره، وكان ضميره مريضًا؟!
إن الضمير يستنير بالمعرفة: بالوعظ والتعليم، بالاسترشاد، بالنصح، بالقراءة.. فلنداوم على كل هذا، لكي يكون لنا ضمير صالح أمام الله..
لأننا كثيرًا ما نعمل عملًا بضمير مستريح، واثقين أنه خير..!!
ثم يتضح لنا بعد حين أنه كان عملًا خاطئًا!
فنندم على هذا العمل، الذي كان يريحنا ويفرحنا من قبل.

وأمثال هذا العمل قد يسمى في الروحيات أحيانًا" خطيئة جهل"..
إن الإنسان الصالح ينمو يومًا بعد يوم في معرفته الروحية. وبهذا النمو يستنير ضميره أكثر، فيعرف ما لم يكن يعرفه، ويدرك أعماقًا من الخير لم يكن يدركها قبلًا..
وربما بعض فضائله السابقة تتضح له كأنها لا شيء، بل قد يستصغر نفسه حينما كان يتيه بها في يوم ما..!
من هنا كان القديسون متواضعين.. لأنهم كل يوم يكشفون ضآلة الفضائل التي جاهدوا من أجلها زمنًا طويلًا..!
وذلك بسبب نمو ضميرهم وشدة استنارته في معرفة الخير..

والخير يرتبط بنسيانه..
إذ ننسى الخير الذي نفعله، من فرط انشغالنا بالسعي وراء خير آخر أعظم منه، نرى أننا لا نعمله نحن، وإنما يعمله الله بواسطتنا. وكان يمكن أن يعمله بواسطة غيرنا، ولولا أنه من تواضعه ومحبته شاء أن يتم هذا الخير على أيدينا، على غير استحقاق منا لذلك..
ولكن ما هو الخير؟ وكيف يكون خيرًا في ذاته؟ وفي وسيلته؟ وفي هدفه؟ وفي نتيجته؟
أري أنني قد طفت معك حول إطار هذه الصورة..

Mary Naeem 25 - 12 - 2013 05:41 PM

رد: ما هو الخير؟
 
ما هو الخير؟
كلنا نؤمن بالخير. ونريد أن نعمل الخير.
ولكننا نختلف فيما بيننا في معني الخير وفي طريقته. وما يظنه أحدنا خيرًا. قد لا يراه كذلك! فما هو الخير؟ وما هي مقاييسه؟
لكي نحكم علي أي عمل بأنه خير: ينبغي أن يكون هذا العمل خيرًا في ذاته. وخيرًا في وسيلته.. وخيرًا في هدفه. وبقدر الإمكان يكون أيضًا خيرًا في نتائجه..
وسنحاول أن نتناول هذه النقاط واحدة فواحدة. ونحللها.. وسؤالنا الأول: ما معني أن يكون العمل خيرًا في ذاته؟

في الواقع أن كثيرين بنيّة طيبة قد يعملون أعمالًا يظنونها خيرًا. وقد تكون علي عكس ذلك تمامًا.
مثال ذلك الأب الذي يدلّل ابنه تدليلا زائدًا. يتلفه!
ومثال ذلك أيضا الأب الذي يقسو علي ابنه قسوة تجعله يطلب الحنان من مصدر آخر ربما يقوده إلي الانحراف!
وقد يظن كل من هذين الأبوين أنه يفعل خيرًا. وأن أسلوبه هو التربية السليمة الصالحة. بينما يكون مخطئًا في فهم معني الخير..
وربما يكون الخير في مرحلة متوسطة بين التصرفين: بين التدليل والشدة. وقد يكون في التدليل حينًا. وفي الشدة حينًا آخر. حسبما تقتضي الظروف والأسباب.

وإذا شك إنسان فيما يكون خيرًا. عليه أولًا أن يتروي حتى يتثبت. ومن الممكن أيضًا أن يسترشد بغيره.
يستشير شخصًا راجح الفكر وواسع العقل. وذا خبرة في مثل هذا الأمر. فيضيف إلي عقله عقلًا. وربما يطرق معه زاوية معينة. أو يعرض له بعض ردود الفعل.
من أجل ذلك أوجد الله المشيرين وذوي الخبرة والفهم. كل منهم دليل في طريق الحياة. كما أوجد المربين والحكماء. وجعل هذه المشورة أيضًا في مسئولية الوالدين والمعلمين والقادة. وكل من يؤتمنون علي التربية والتوعية والإرشاد.

ولكن يُشترط في المرشد الذي يدل الناس علي طريق الخير. أن يكون هو نفسه حكيمًا. صافيًا في روحه.
وينبغي أن يكون هذا المرشد عميقًا في فهمه. لئلا يضل غيره من حيث لا يدر ي ولا يقصد. فقد قال السيد المسيح "وأعمي يقود أعمي. كلاهما يسقطان في حفرة".
حقًا ما أصعب السقطة التي تأتي نتيجة أن يتبوأ إنسان غير مؤهل مسئولية الإرشاد. فيضّيع غيره. فلا يصح إذن أن يسرع شخص بإقامة نفسه علي هداية غيره. نتيجة ثقة زائفة بذاته.
لذلك كان كثيرون من المتواضعين يهربون من مراكز القيادة الروحية. عارفين أن الشخص الذي يقود غيره في طريق ما. أو ينصح غيره نصيحة ما. إنما يتحمل أمام
الله مسئولية نصائحه وإرشاداته.

فعلي الإنسان حينما يسترشد. أن يدقق في اختيار مرشديه:
ولا يسمع لكل قول. ولا يجري وراء كل نصيحة مهما كان قائلها. ولا يتبع الناس بل يتبع الحق. لأنه "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس" فنصائح الناس يجب أن تكون موافقة لوصايا الله.
إذن الخير مرتبط بالحق الخالص. ومرتبط بكلام الله إن أحسن الناس فهمه. وإن أحسنوا تفسيره. وإن ساروا وراء روحه لا حرفه.
إن كلام الله هو الحق الخالص. والخير الخالص
ولكن تفسير الناس لكلام الله. قد يكون شيئا آخر!
إن كلام الله يحتاج إلي ضمير حي يفهمه. وإلي قلب نقي يدركه. وما أخطر أن نحدّ كلام الله بفهمنا الخاص! وما أخطر أن نفتر بفهمنا. ونظن أنه الحق ولا حق غيره! وأنه الفهم السليم ولا فهم غيره!

إن الذي يريد أن يعرف الخير. عليه أن يتواضع..
يتواضع. فيسأل ويقرأ ويبحث ويتأمل. محاولًا أن يعمل وأن يفهم. وحينما يسأل. عليه أن يسأل الروحيين المتواضعين الذين يكشف لهم الله أسراره. كما يسأل الحكماء الفاهمين. ذوي المعرفة الحقيقية والإدراك العميق. وكما قال الشاعر:
فخذوا العلم علي أربابه .. واطلبوا الحكمة عند الحكماء
لو كنا جميعا نعرف الخير. ما كنا نتخاصم وما كنا نختلف..
علينا إذن في تواضع قلب أن نصلي كما صلي داود النبي من قبل: "علّمني يا رب طرقك.. فهمني سبلك".
إن الصلاة بلاشك. هي وسيلة أساسية لمعرفة
الحق والخير.
وبها يكشف الله للناس الطريق السليم الصحيح.

وهنا نسأل سؤالًا هامًا:
هل ضمير كل إنسان هو الحكم في معرفة الخير؟ وهل يتبعه بلا نقاش؟
بداءة أقول: يجب علي كل إنسان أن يطيع ضميره

ولكن يجب أيضًا أن يكون ضميره صالحا. فهناك ضمائر تحتاج إلي هداية.
إن الأخ الذي قتل أخته دفاعًا عن الشرف!. أو الأخ الذي قتل أخته. لأنها أرادت أن تتزوج بعد وفاة زوجها الأول.. ألم يكن كل منهما مستريح الضمير في قتله لأخته؟! ألم يسر كل منهما علي هدي من ضميره. وكان ضميره مريضًا؟!
إن الضمير يستنير بالمعرفة: بالوعظ والتعليم والإرشاد والنصح. وبالقراءة السليمة.. فلنداوم علي كل ذلك. لكي يكون لنا ضمير صالح أمام الله.
لأننا كثيرًا ما نعمل عملًا بضمير مستريح. واثقين أنه خير! ثم يتضح لنا بعد حين أنه كان عملًا خاطئًا. فنندم علي ذلك العمل الذي كان يريحنا ويفرحنا من قبل!
ومثل هذا العمل قد يسمي في الروحيات أحيانًا "خطيئة جهل".

إن الإنسان الصالح ينمو يومًا بعد يوم في معرفته الروحية.
وبهذا النمو يستنير ضميره أكثر. ويعرف ما لم يكن يعرفه. ويدرك أعماقًا من الخير لم يكن يعرفها قبلًا. وربما بعض فضائله السابقة يتضح له كأنها لاشيء. بل يستصغر نفسه حينما كان يتيه بها في يوم ما!
من هنا كان القديسون متواضعين.. لأنهم بنموهم في الفضيلة يتكشفون كل يوم ضآلة الفضائل التي جاهدوا من أجلها زمانًا طويلًا!
وذلك بسبب نمو ضميرهم. واستنارته في معرفة الخير.

الخير أيضا يرتبط بنسيانه: إذ ننسي الخير الذي نفعله. من فرط انشغالنا بخير أعظم نريد أن نعمله.. أو ننسي أننا عملنا هذا الخير. موقنين أن الله هو الذي عمله بواسطتنا. وكان يمكن أن يعمله بواسطة غيرنا. لولا أنه من تواضعه ومحبته. شاء أن يتم هذا الخير علي أيدينا. علي غير استحقاق منا لذلك.
ما هو الخير؟
الخير هو أن ترتفع فوق ذاتك ولذاتك. وأن تطلب الحق أينما وجد. وتثبت فيه. وتحتمل لأجله. الخير هو النقاء والقداسة والكمال.

الخير لا يتجزأ. فلا يكون إنسانًا خيرًا وغير خير في نفس الوقت.
أي لا يكون صالحًا وشريرًا في وقت واحد.
الإنسان الخير ليس هو الذي تزيد حسناته علي سيئاته. فربما سيئة واحدة تتلف نقاوته وصفاء قلبه. إن ميكروبا واحدًا كاف لأن يلقي إنسانًا علي فراش المرض. ليس هو محتاجًا إلي مجموعات متعددة من الجراثيم. لكي يحسب مريضًا!! تكفي جرثومة واحدة. هكذا خطية واحدة تضيّع نقاوة الإنسان.

إن الشخص الشرير ليس هو الذي يرتكب كل أنواع الشرور.
إنما بواسطة شر واحد يفقد نقاوته. مهما كانت له فضائل متعددة.
فالسارق إنسان شرير. لا نحسبه من الأخيار. مهما كان في نفس الوقت لطيفًا أو بشوشًا. أو متواضعًا أو متسامحًا. أو كريمًا أو خدومًا.
والظالم إنسان شرير. وكذلك القاسي والشتّام. وقد يكون أي واحد من هؤلاء شجاعًا. أو مواظبًا علي الصلاة والصوم!
فإن أردت أن تكون خيّرًا. سر في طريق الخير كله. ولا تترك شائبة واحدة تعكر نقاء قلبك. ولا تظن انك تستطيع أن تغطي رذيلة
بفضيلة.. أو أن تعوّض سقوطك في خطيئة معينة. بنجاحك في زاوية أخري من زوايا الخير.. بل في المكان الذي هزمك الشيطان فيه. يجب أن تنتصر.. علي نفس الخطية. وعلي نفس نقطة الضعف.

كن خيّرًا. وقس نفسك بكل مقاييس الكمال. وأعرف نواحي النقص التي فيك. وجاهد لكي تنتصر عليها..
فنحن مطالبون بأن نسير في طريق الكمال حسبما نستطيع. لأن النقص ليس خيرًا.
والخير ليس هو فقط أن تعمل الخير. بل بالأكثر أن تحب الخير الذي تعمله. فقد يوجد إنسان يفعل الخير مرغمًا دون أن يريده. أو أن يعمل الخير بدافع من الخوف. أو بسبب الرياء. لكي ينظره الناس. أو لكي يكسب مديحًا أو لكي يهرب من انتقاد الآخرين...!
وقد يوجد من يفعل الخير وهو متذمر ومتضايق. كمن يقول الصدق ونفسيته متعبة. ويود لو يكذب وينجو. أو من يتصدق علي فقير. وهو ساخط وبوده ألا يدفع!
فهل نسمي كل ذلك خيرًا ؟
بل عمق الخير. هو محبة الخير الذي تفعله...

فقد يوجد من يفعل الخير لمجرد إطاعة وصية الله. دون أن يصل قلبه إلي محبة الوصية! كمن لا يرتكب الزنا والفحشاء. لمجرد وصية الله التي تقول "لا تزن". دون أن تكون في قلبه محبة العفة والطهارة! وفي ذلك قال القديس جيروم: يوجد أشخاص عفيفون وطاهرون بأجسادهم. بينما تكون نفوسهم زانية!
مثال آخر: من يدفع من ماله صدقة للفقراء. لمجرد إطاعة الوصية. ويكون كمن يدفع ضريبة أو جزية! دون أن تدخل محبة الفقراء إلي قلبه..

كل هؤلاء اهتموا بالخير في شكلياته. وليس في روحه. والخير ليس شكليات. وليس لونا من المظاهر الزائفة. إنما هو روح. ويكمن في القلب.
لذلك فاختبار الخير يكون بمعرفة حالة القلب من الداخل.
ولكي نحكم علي أي عمل بأنه خير. يجب أولًا أن نفحص دوافعه وأسبابه وأهدافه. فالدوافع هي التي تظهر لنا خيرية العمل من عدمها.
فقد يوبخك اثنان: أحدهما بدافع الحب. والآخر بدافع الإهانة.. ويكون عمل أحدهما خيرًا. وعمل الآخر شرًا. وقد يشترك اثنان في تنظيم سياسي وطني: أحدهما من أجل حب الوطن والتفاني في خدمته. والآخر من أجل حب الظهور أو حب المظاهر. وهنا الهدف يختلف. والنية تختلف..

الخير أيضًا ليس عملًا مفردًا أو طارئًا. إنما هو حياة.
فالشخص الرحيم ليس هو الذي أحيانًا يرحم. أو الذي ظهرت رحمته في موقف معين.. إنما الرحيم هو الذي تتصف حياته كلها بالرحمة. فتظهر الرحمة في كل أعماله. وفي كل معاملاته: في أقواله وفي مشاعره. حتى في الوقت الذي لا يباشر فيه عمل رحمة.
الخير هو اقتناع داخلي بالحياة الصالحة. مع إرادة مثابرة مجاهدة في عمل الخير وتنفيذه.. هو حب صادق لفضيلة. مع حياة فاضلة.
الخير هو شهوة في القلب لعمل الصلاح. تعبر عن ذاتها وعن وجودها بأعمال صالحة. وليس هو مجرد روتين إلى للعمل الصالح.
ما لم يصل الإنسان إلي محبة الخير. والتعلق به. والحماس لأجله. والجهاد لتحقيقه. فهو لا يزال في درجة المبتدئين.

Mary Naeem 15 - 09 - 2022 12:55 PM

رد: ما هو الخير؟
 
- الإنسان الخيِّر

الخير هو أن ترتفع فوق مستوى ذاتك ولذاتك.. وأن تطلب الحق أينما وجد، وتثبت فيه وتحتمل من أجله.
الخير هو النقاوة، هو الطهر والقداسة.. هو الكمال.
الخير لا يتجزأ:
فلا يكون إنسان خيرًا وغير خير في وقت واحد..
أي لا يكون صالحًا وشريرًا في نفس الوقت.
الإنسان الخير:
ليس هو الذي تزيد حسناته على سيئاته!
فربما سيئة واحدة تتلف نقاوته وصفاء قلبه!
أن نقطة حبر واحدة كافية لأن تعكر كوبًا من الماء بأكمله، وميكروبًا واحدًا كاف لأن يلقى إنسانًا على فراش المرض. ليس هو محتاجًا إلى مجموعات متعددة من الجراثيم لكي يحسب مريضًا!! تكفى جرثومة واحدة.. كذلك خطية واحدة يمكنها أن تضيع قداسة الإنسان..
إن الشخص الشرير ليس هو الذي يرتكب كل أنواع الشرور. إنما بواسطة شر واحد يفقد نقاوته مهما كانت له فضائل متعددة..

فالسارق إنسان شرير. لا نحسبه من الأخيار. وربما يكون في نفس الوقت لطيفًا أو بشوشًا، أو متواضعًا، أو متسامحًا، أو كريمًا، أو نشيطًا..
والظالم إنسان شرير، وكذلك القاسي، وكذلك الشتّام، وقد يكون أي واحد من هؤلاء غيورًا أو شجاعًا، أو مواظبًا على الصلاة والصوم..!
إن أردت أن تكون خيرًا، سر في طريق الخير كله.. ولا تترك شائبة واحدة تعكر نقاء قلبك.
ولا تظن أنك تستطيع أن تغطى رذيلة بفضيلة.
أو أن تعوض سقوطك في خطيئة معينه، بنجاحك في زاوية أخرى من زوايا الخير.. بل في المكان الذي هزمك الشيطان فيه، يجب أن تنتصر.. على نفس الخطية، وعلى نفس نقطة الضعف..
كن إنسان خيرًا، قس نفسك بكل مقاييس الكمال. واعرف نواحي النقص فيك، وجاهد لكي تنتصر عليها.. فهكذا علمنا الإنجيل المقدس: "كونوا كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.. كونوا قديسين، كما أن أباكم الذي في السموات هو قدوس.." (مت48:5).
نحن مطالبون إذن بأن نسير في طريق الكمال، لأن النقص ليس خيرًا.. والخير ليس هو فقط أن تعمل الخير.. بل بالأحرى أن تحب الخير الذي تعمله..
فقد يوجد إنسان يفعل الخير مرغمًا دون أن يريده، أو أن يعمل الخير بدافع الخوف، أو بدافع الرياء لكي ينظره الناس أو لكي يكتسب مديحًا.. أو لكي يهرب من انتقاد الآخرين. وقد يوجد من يفعل الخير وهو متذمر ومتضايق: كمن يقول الصدق ونفسيته متعبة، وبوده لو يكذب وينجو. وكمن يتصدق على فقير وهو ساخط، وبوده ألا يدفع..
فهل نسمى كل ذلك خيرًا..؟!
قد يوجد من يفعل الخير لمجرد إطاعة وصية الله، دون أن يصل قلبه إلى محبة تلك الوصية! كمن لا يرتكب الزنا والفحشاء، لمجرد وصية الله التي تقول: "لا تزن"، دون أن تكون في قلبه محبة العفة والطهارة..! وفي ذلك قال القديس جيروم: (يوجد أشخاص عفيفون وطاهرون بأجسادهم، بينما نفوسهم زانية!!)
ومثال ذلك أيضًا، الذي يتصدق على الفقراء لمجرد إطاعة الله، ويكون كمن يدفع ضريبة أو جزية!! دون أن تدخل محبة الفقراء إلى قلبه..!
كل هؤلاء اهتموا بالخير في شكلياته، وليس في روحه..!
والخير ليس شكليات، وليس لونًا من المظاهر الزائفة. إنما هو روح وقلب.. ولذلك اهتم الله بحالة القلب، أكثر من ظاهر العمل. وهكذا قال: "يا أبني أعطني قلبك"..
من أجل هذا، لكي نحكم على العمل بأنه خير، يجب أولًا أن نفحص دوافعه وأسبابه وأهدافه. والدوافع هي التي تظهر لنا خيرية العمل من عدمها.. فقد يوبخك اثنان: أحدهما بدافع الحب، والآخر بدافع الإهانة. وقد يشتركان في نفس كلمات التوبيخ
ولكن عمل أحدهما يكون خيرًا وعمل الآخر يكون شرًا.. وقد يشترك اثنان في تنظيم سياسي وطني، أحدهما من أجل حب الوطن والتفاني في خدمته، والآخر من أجل حب الظهور أو حب المناصب.. الهم إذن في الدافع والنية..
والخير ليس عملًا مفردًا أو طارئًا، إنما هو حياة..
فالشخص الرحيم ليس هو الذي أحيانًا يرحم، أو الذي ظهرت رحمته في حادث معين.. إنما الرحيم هو الذي تتصف حياته كلها بالرحمة. تظهر الرحمة في كل أعماله وفي كل معاملاته، وفي أقواله، وفى مشاعره، حتى في الوقت الذي لا يباشر فيه عمل الرحمة..
الخير هو اقتناع داخلي بحياة القداسة، مع إرادة مثابرة مجاهدة في عمل الخير وتنفيذه.. هو حب صادق للفضيلة، مع حياة فاضلة.
الخير هو شهوة في القلب لعمل الصلاح تعبر عن ذاتها وعن وجودها بأعمال صالحة وليس هو مجرد روتين إلى للعمل الصالح..!
هو - حسب رأى القديسين - استبدال شهوة بشهوة.. ترك شهوة المادة، من أجل التعلق بشهوة الروح.. والتخلص من محبة الذات، من فرط التعلق بمحبة الآخرين..
ما لم تصل إلى محبة الخير، والتعلق به، والحماس لأجله، والجهاد لتحقيقه، فآنت ما تزال في درجة المبتدئين، لم تصل بعد لغاية، مهما عملت أعمالًا صالحة..!
والذي يحب الخير، يحب أن جميع الناس يعملون الخير..
لا تنافس في الخير..
فالتنافس قد توجد فيه ناحية من الذاتية..
أما محب الخير، فإنه يفرح حتى ولو رأى جميع الناس يفوقونه في عمل الخير، ويكون بذلك سعيدًا.. المهم عنده أن يرى الخير، وليس المهم بواسطة مَنْ! به أو بغيره..
لذلك فعمل الخير بعيد عن الحسد وعن الغيرة..
والإنسان الخير يقيم في حياته تناسقًا بين فضائله، فلا تكون واحدة على حساب الأخرى..
خدمته مثلًا للمجتمع، لا تطغى على اهتمامه بأسرته. ونشاطه لا يطغى على أمانته لعمله. بل أن صلاته وعبادته، لا يصح أن تفقده الأمانة تجاه باقي مسئولياته..
إن الفضيلة التي تفقدك فضيلة أخرى، ليست هي فضيلة كاملة أو خيرة.. إنما الفضائل تتعاون معًا.. بل تتداخل في بعضها البعض..
فهكذا نتعلم من الله نفسه تبارك اسمه: فعدل الله مثلًا لا يمكن أن يتعارض مع رحمته، بل لا ينفصل عنها. عدل رحيم، ورحمة عادلة. عدل الله مملوء رحمة الله، فليس من جهة الفصل نتكلم، إنما من جهة التفاصيل، لكي تفهم عقولنا القاصرة عن إدراك اللاهوتيات..
والخير ليس هو سلبية، بل إيجابية:
ليس هو سلبية تهدف إلى البعد عن الشر، إنما هو إيجابية في عمل الصلاح ومحبته. فالإنسان الخير ليس هو فقط الذي لا يؤذى غيره، بل بالحري الإنسان الذي يبذل ذاته عن غيره.. ليس فقط الإنسان الذي لا يرتكب خطية، إنما بالحري الذي يعمل برًا..
والإنس\ان الخير هو الذي يصنع الخير مع الجميع، حتى مع الذين يختلفون معه جنسًا أو لونًا أو لغةً أو مذهبًا أو عقيدة..
إنه كالينبوع الحلو الصافي، يشرب منه الكل.. وكالشجرة الوارفة يستظل تحتها الكل. إن الينبوع والشجرة لا يسألان أحدًا: ما هو جنسك؟ أو ما هو لونك؟ أو ما هو مذهبك؟!
الخير يعطى دون أن يتفرس في وجه من يعطيه ويحب دون أن يحلل دم من يحبه..

Mary Naeem 15 - 09 - 2022 12:57 PM

رد: ما هو الخير؟
 
كلمة أخرى عن الخير


https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg

تكلمنا في المقالات السابقة عن: الخير، والعمل الخيِّر، والإنسان الخير..
وبقى أن نكمل هذا الموضوع بكلمة بسيطة عن الخير وعن وسائله أيضًا..
قلنا من قبل إن الخير لابد أن يكون في ذاته، وخيرًا في هدفه، وخيرًا في وسيلته، وبقدر الإمكان يكون خيرًا في نتيجته.
ونحن نتكلم عن الخير بمعناه النسبي فقط، أقصد بالنسبة إلى ما نستطيع إدراكه من الخير، وما نستطيع عمله من الخير.. وأقصد الخير بقدر فهمنا البشرى له، وبقدر طاقتنا المحدودة في ممارسته..


لذلك فالإنسان الخير يعمل باستمرار على توسيع طاقاته في عمل الخير. ولا يرضى عن الخير الذي يعمله من أجل اتجاهه نحو خير أكبر.. وفي اشتياقه نحو اللامحدود، يشعر في أعماقه بأن هناك آفاقًا في الخير أبعد بكثير وأوسع مما يفهمه حاليًا.
وربما بعدما نخلع هذا الجسد المادي، وندخل في عالم الروح.. سننظر إلى ما عملناه قبلًا من خير، فنذوب خجلًا! ونتوارى منه حياء!! فكم بالأولى ما قد ارتكبناه من شر..؟!
لهذا فإن مستوى الخير عند القديسين أعلى من مستواه عند البشر العاديين. ومستوى الخير عند الملائكة أعلى بكثير من مستواه عند البشر أجمعين. أما مستواه عند الله، فإنه غير محدود، وغير مدرك.. حقًا ما أعجب قول الكتاب عن الله: "إن السماء ليست طاهرة قدامه، وإلى ملائكته ينسب حماقة"..
إن الله هو صاحب الخير المطلق، وأعمالنا تعتبر خيرًا بقدر ما تدخل فيها يد الله.. وبقدر ما نسلم إرادتنا لمشيئة الله الصالحة، فيعمل الله فينا، ويعمل الله بنا، ويعمل الله معنا.. ونكون نحن مجرد أدوات طيعة في يد الله الكلية الحكمة والكلية القداسة..
وبقدر بعدنا عن الله، نبعد عن الخير..
يبعد الإنسان عن الخير، عندما يعلن استقلاله عن الله..

عندما يرفض أن يقود الله حياته. وعندما تبدأ إرادته البشرية أن تعمل منفردة!
أما القديسون فإنهم يحيون حياة التسليم، التسليم الكامل لعمل الله فيهم.. هؤلاء لا تكون عليهم دينونة في اليوم الأخير.. وكأن كلا منهم يقول للرب في دالة الحب: (على أي شيء تحاكمني يا رب؟ وأنا من ذاتي لم أعمل شيئًا! كل شيء بك كان، وبغيرك لم يكن شيء مما كان.. فيك كانت حياتي، وفي يدك استسلمت إرادتي..).
حياة الخير إذن، هي حياة التسليم.

هي الحياة التي فيها يسلم الإنسان نفسه لله كل فكره، وكل مشاعره، وكل إرادته، وكل عمله.. فإذا ما فكر، يكون له فكر الله، وإذا عمل فإنما يعمل ما يريده الله، أو ما يعمله الله بواسطته..
فهل أعمالك أيها القارئ العزيز هي أعمال الله؟ أم هي أعمال بشرية قابلة للزلل والخطأ والسقوط..؟
والخير كالماء.. دائمًا يمشى، ولا يقف..

و إن وقف، أصابه الركود!
لذلك فالخير باستمرار يمتد إلى قدام، وينمو ويكبر. وباستمرار يتحرك نحو الناس ونحو الله.. لا يتوقف وينتظر مجيء الناس إليه يخطبون وده، بل هو يتجه إليهم، ويذهب دون أن يطلبوه.. ولأنه الخير، لذلك فيه عنصر المبادرة..
والخير فيه لذة. حتى إن كان مملوءًا آلاما، فآلامه حلوة، تريح القلب، ويجد الإنسان فيها عزاءًا..
والخير لا يشترك إطلاقًا مع الشر، لأنه أية شركة للنور مع الظلمة.
لذلك نحن لا نوافق إطلاقًا على المبدأ المكيافيللى Machiavelli القائل بأن الغاية تبرر الواسطة (الوسيلة)، أي أن للغاية الخيرة يمكن أن تكون تبريرًا للواسطة الخاطئة..!
إن وسيلة الخير ينبغي أن تكون خيرًا مثله. والخير لا يقبل وسيلة شريرة توصل إليه. إذ كيف يجتمع الضدان معًا؟!
فالذي يلجأ إلي الكذب لينقذ إنسانًا، والذي يلجأ إلي القسوة والعنف لكي ينشر بهما الحق أو ما يظنه حقًا، والذي يلجأ إلي الرشوة لكي يحقق لنفسه خيرًا، والذي يلجأ إلي الإجهاض لكي ينقذ فتاة، كل أولئك استخدموا وسائل شريرة لكي يصلوا بها إلي الخير أو ما يظنونه خيرًا..
ولكن لعل البعض يسأل:
ماذا نفعل إذن، إن كنا مضطرين إلي هذه الوسائل؟!

أقول إن هذه كلها وسائل سهلة وسريعة، يلجأ إليها الإنسان تلقائيًا دون أن يحاول أن يبذل مجهودًا للوصول إلي الخير، دون أن يبذل تضحية، ودون أن يتعب أو يحتمل..
فالكذب مثلًا حل سريع وسهل. أما الإنسان الحكيم الخير، فإنه يفكر ويجهد ذهنه بعيدًا عن هذه الوسيلة ويقينًا أنه سيصل إلى وسيلة أخرى تريح ضميره..
كذلك العنف والقسوة، كلاهما حل سهل يلجأ إليه إنسان لا يريد أن يتعب في الوصول إلي حل آخر وديع ولطيف..
إن الخير يريدك أن تتعب لأجله..
ولا تلجأ إلي الحلول السهلة، السريعة الخاطئة..
وبمقدار تعبك من أجل الخير، تكون مكافأتك عند الله. وبهذا المقياس تقاس خيريتك إن الحل السهل أو التصرف السهل، يستطيعه كل إنسان. أما الذي يكد ويتعب للوصول إلي تصرف سليم، فإنه يدل على سلامة ضميره وحبه للخير.
قال السيد المسيح له المجد: (أدخلوا من الباب الضيق) لأنه واسع هو الباب، ورحب هو الطريق الذي يؤدي إلي الهلاك، وكثيرون يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق، الذي يؤدي إلى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه..).
إذن ينبغي أن تتعب من أجل الخير، ينبغي أن تجد لذة في هذا التعب.

عليك أيضًا أن تفحص الوسائل التي تستخدمها للوصول إلى الخير، وتتأكد من أنها وسائل خيرة.. لأن هناك طرقًا رديئة قد يسلكها البعض من أجل محبتهم للخير!! وكما قال البعض: (كم من جرائم قد ارتكبت باسم الفضيلة)!!
إن الشيطان عندما يفشل في إقناعك بطريق الشر، ويجدك مصرًا على طريق الخير، حينئذ يقول لك: "خذني معك"..!
وهكذا قد تسير في طريق الخير، ويسير معك الشيطان، ويرشدك في الطريق ويوجهك، ويقدم لك الوسائل، والخطط، والحلول..!!
والشيطان حينما يفقد السيطرة على الهدف أو على نوع العمل، قد يقنع بالسيطرة على الوسيلة.

أما أنت أيها القارئ المبارك، فلا تترك للشيطان شيئًا فيك، ولا تدخله معك في خططك ومشروعاتك الخيرة، ولا تجعله يكسب أية جولة في صراعه معك..
واطلب من الله أن تكون نتائج عملك خيرًا أيضًا.
ولا شك أنك قد لا تستطيع أحيانًا أن تتحكم في النتائج. وقد تتدخل في الأمر عوامل شريرة خارجة عن إرادتك، محاولة أن تفسد نتائج مجهوداتك الخيرة..
إنك كما تجاهد بكل قوتك في أن تعمل الخير، كذلك فإن الشيطان يعمل بكل قوته لكيما يعرقل عملك.. ولكن لا تيأس، فإن الله موجود..
لهذا قلت إن العمل الخير، تكون نتائجه -بقدر الإمكان- خيرًا أيضًا..

Mary Naeem 15 - 09 - 2022 12:59 PM

رد: ما هو الخير؟
 
مقياس الطول ومقياس العمق
(روحانية العبادة)


https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg



أود في هذا المقال أن أحدثكم عن روحانية العبادة لكي يختبر الإنسان مقدار درجته في العبادة، هناك مقياسان:


أما مقياس الطول، فهو مقدار الوقت الذي يقضيه الإنسان مع الله في كافة نواحي العبادة: في الصلاة، في التأمل، في الترتيل، في الألحان، في التسبيح، في القراءات الروحية..
في مقياس الطول لا أريد أن أحداثك عن الدرجات الروحية العالية لئلا تقع في اليأس. لا أريد أن أحدثك عن حياة الصلاة الدائمة فربما لا يكون هذا هو طريقك في الحياة، وقد تكون هذه من درجات النساك العابدين. ولا أريد أن أحدثك عن تدريب صلب العقل الذي سار فيه القديس مقاريوس الإسكندري، ولا عن حالات اختطاف الفكر، ولا عن تدريب خلط كل عمل من أعمال الحياة بالصلاة.




ولا أريد أن أحدثك عن أمثال القديس أرسانيوس الذي كان يقف للصلاة وقت الغروب والشمس وراءه، ويظل واقفًا مصليًا حتى تطلع الشمس أمامه مقضيًا الليل كله في الصلاة..
ولكني أحب أن أسألك كم تعطى الله من وقتك؟ وكم تعطى لأمور العالم من وقتك؟ وهل هي نسبةعادلة؟ وهل الوقت الذي تقضيه في العبادة كاف لغذاء روحك؟
هناك إنسان يزعم أنه يصلى كل يوم. وقد يكون مجموع صلواته في اليوم بضع دقائق، لا تشبع روحه ولا تشعره بالصلة بالله..
وقد يقف إنسان ليصلى، وسرعان ما يشعر بالسأم والملل، ويحب أن ينهى صلاته بأية طريقة كما لو كان عبئًا ثقيلًا عليه!! ذلك لأن قلبه جاف من الداخل ليست فيه محبة الله..
وقد يعتذر إنسان عن الصلاة بضيق الوقت. وقد يكون السبب الحقيقي هو عدم وجود الرغبة وليس عدم وجود الوقت!
إن أكبر رد على مثل هذا الإنسان هو داود النبي الذي كان ملكًا، وقائدًا للجيش، ورب أسرة كبيرة جدًا، ومع ذلك نراه يصلى "عشية وباكر ووقت الظهر". ويقول لله: "سبع مرات في النهار سبحتك على أحكام عدلك".. ولا يكتفي بالنهار بل يقول أيضا: "في نصف الليل نهضت لأشكرك على أحكام عدلك". ولا يكتفي بالليل بل يقول: "كنت أذكرك على فراشي، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك". ولا ينهض فقط في وقت السحر بل يقول للرب: "سبقت عيناي وقت السحر، لأتلو في جميع أقوالك ومع كل صلوات الليل هذه، نراه يقول في شوق إلى الله: "يا الله أنت ألهي، إليك أبكر، عطشت نفسي إليك"..
وفى النهار يقول: "محبوب هو أسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي"..
إنه مثل جميل، لرجل من رجال الصلاة، كان مشغولًا جدًا، وعليه مسئوليات وأعباء لا حصر لها، ومع ذلك نجح في عمل الصلاة، وضرب مثالًا رائعًا لمقياس الطول في العبادة.. فلا يصح إذن أن نعتذر بالمشغوليات. لأننا إن آمنا بأهمية أمر من الأمور، نستطيع أن نوجد له وقتًا. المشكلة إذن في عدم وجود الرغبة.
وقد يكون السبب هو عدم الإحساس بالاحتياج إلى الصلاة.. مثال ذلك الشاب الذي زارني في إحدى المرات وقال لي: "إن شاء الله ستبدأ امتحاناتي يوم السبت، فأرجوك أن تذكرني في صلواتك يوم الأربعاء لأنها مادة صعبة". فقلت له: (وماذا عن امتحان يوم السبت؟). فأجاب: "إنها مادة سهله لا تحتاج إلى صلاة"..! نعم، ما أكثر تلك الأمور التي نراها لا تحتاج إلى صلاة.. إنها الثقة بالنفس أو بالظروف المحيطة أو ببعض المعونات البشرية، التي تجعلنا نشعر أننا لسنا في حاجة إلى صلاة.. كأننا ننتظر الوقت الذي يسمح فيه الله بضيقة أو مشكلة، وحينئذ فقط نصلى!!
أعود إلى سؤالي: ماذا عن مقياس الطول في حياتك الروحية؟ وهل أنت من جهة وقت العبادة في نمو مستمر؟
أما عن مقياس العمق فهو حالة القلب أثناء العبادة.. فقد يصلى إنسان وقتًا طويلًا ولكن في غير عمق.. بصلوات سطحية أو بصلوات من العقل فقط أو من الشفتين وليست من القلب، أو بصلوات من عقل غير مركز يطيش أثناء الصلاة في العالميات..!
إن مقياس العمق في الصلاة يجعلنا نسأل الأسئلة الآتية:
هل صلواتك بحرارة؟ وهل هي بإيمان؟ وهل هي بحب وشوق نحو الله؟ وهل صلواتك في انسحاق وتواضع قلب؟ وهل هي في خشوع وهيبة شديدة لله؟ وهل هي في تركيز وجمع للعقل؟ وهل صلواتك تشعر فيها بالصلة الحقيقية أمام الله كما لو كان قائمًا أمامك تخاطبه وجهًا لوجه ؟ وهل هي من القلب حقًا أم من الشفتين فقط؟ وهل تتكلم فيها مع الله بدالة وثقة؟ وهل أنت تجد لذة في صلاتك وتتمنى لو استمرت معك كل الوقت أم أنك تؤدى فرضًا لابد أن تؤديه؟ وهل صلواتك من أجل نفسك فقط أم من أجل الآخرين أيضًا؟ وهل صلاتك هي لله وحده أم فيها عناصر الرياء ومحبة الظهور أمام الناس..
إنها أسئلة كثيرة إن أجبت عليها تعرف مقدار العمق الذي لك في عبادتك..
ويدخل في مقياس العمق نوعية الصلاة أيضًا.. فهل صلاتك مجرد طلب، أم فيها أيضًا عنصر الشكر، وعنصر التسبيح والتمجيد، وعنصر التوبة والانسحاق والاعتراف بالخطية..
ثم أيضًا هل صلاتك بفهم؟
هل تعنى كل كلمة تقولها لله؟ وهل تفهم معاني الألفاظ التي ترددها وبخاصة في الصلوات المحفوظة وفي المزامير؟
ويبقى بعد كل هذا أن نسأل: هل أنت حقًا تصلى؟ هل ينطبق عليك مقياس العمق؟ هل تشعر أن صلواتك قد وصلت فعلًا إلى الله؟ وهل تشعر أنه قبلها، وأنك مطمئنًا واثقًا أن الله سيعمل معك عملًا..
وهل في صلاتك تشعر أنك حفنة من تراب تحدث خالق الكون العظيم، فتقف أمامه في خشوع تشكره على الشرف الذي منحك إياه إذ سمح لك أن تقف أمامه..
إن قست نفسك بهذين المقياسين، مقياس الطول ومقياس العمق، ووجدت نفسك لم تبدأ بعد حياة العبادة، فنصيحتي لك أن تبدأ من الآن، وأن تحسن حالتك يومًا بعد يوم.. ولا تنهمك في أمور العالم الانهماك الذي يجفف قلبك ويقسي روحك ويجعلك تنظر إلى أمور العبادة بعدم اكتراث!!
أيها القاري العزيز، ضع أمامك على الدوام قول السيد المسيح: "ماذا يستفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! أو ماذا يعطى عوضًا عن نفسه "؟!.. اهتم إذن بنفسك واحرص على أبديتك. ولتكن لك علاقة عميقة بالله. وان وجدت صعوبة في بداية الطريق فلا تيأس. وان حاربك الشيطان فقاومه، واثبت في عبادتك. وسيأتي الوقت الذي تذوق فيه جمال الحياة الروحية فتجدها شهية وممتعة، فتأسف على الأيام التي ضاعت عبثًا من حياتك. ابدأ في عمل الصلاة، وفي صلاتك اذكر ضعفي. وليكن الرب معك يقويك على عمل مرضاته..

Mary Naeem 15 - 09 - 2022 01:06 PM

رد: ما هو الخير؟
 
بين السرعة والبطء


https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg



هل الصالح الإسراع في العمل أم البطء فيه؟ انه سؤال حير الكثيرين، وتعددت فيه الآراء، وتناقضت، وبقى الناس حائرين بين السرعة والبطء.



نسمع أحد الشعراء يشجع على التروي والتأني فيقول:
قد يدرك التأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
ولكن هذا الكلام لا يعجب شاعرًا آخر فيرد عليه قائلًا:
وكم أضر ببعض الناس بطؤهمو وكان خيرًا لهم لو أنهم عجلوا
وهكذا بقى الأمر كما هو، موضع حيرة: هل نبت في الأمر بسرعة، أم نتأنى ونتروى.. فما هو الحل؟
لا شك أن كثيرًا من الأمور لا يمكن أن تقبل التباطؤ. وقد يكون البطء فيها مجالًا للخطر والخطأ، ويحسن فيها الحزم والبت السريع.





فمثلًا لا يصح أن يتباطأ إنسان في التوبه. لأنكل وقت يمر عليه في الخطيئة، إنما يزيد عبوديته لها.
و يحول الخطأ إلى عادة، وقد يحول العادة إلى طبيعة. وربما يحاول الخاطئ أن ينحل من رباط شهواته فلا يستطيع، أو قد يستطيع أخيرًا بمرارة وصعوبة وبعد جهاد مميت. كل ذلك لأنه أبطأ في توبته وفي معالجة أخطائه..
وبالمثل فإن التباطؤ في معاجلة الأمراض الجسدانية، قد ينقلها إلى مراحل من الخطر يصعب فيها علاجها أو يستحيل.. وبالمثل في مسائل التربية، حيث يؤدى التباطؤ في تقويم الطفل أو الشاب إلى إفساده.
وقد صدق الشاعر الذي قال:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت و لا يلين -إذا قومته- الخشب
هناك إذن مواقف تحتاج إلى بت سريع وإلى حزم قبل أن تتطور إلى أسوأ، وقبل أن يسبق السيف العزل.. وربما تحتاج إلى تصرف قد يكون مؤلمًا، ولكنه يكون لازمًا وحاسمًا بقدر ما يكون سريعًا وحازمًا. وهناك علاقات ضارة وصداقات معثرة ينبغي أن تؤخذ من أولها بحزم. كذلك قد توجد اتجاهات فكرية مخزية، أو اتجاهات سلوكية منحرفة، إن لم يسرع المجتمع في التخلص منها، فقد تقاسى هذا التباطؤ أجيال وأجيال..
ومع هذا الفضل الذي ننسبه إلى السرعة، هناك مواقف كثيرة تحتاج إلى التباطؤ وإلى التأني والتروي، ويتلفها الإسراع أو الاندفاع.
فمتى يصلح التباطؤ إذن؟
من النصائح الجميلة في الكتاب المقدس، قول الوحي الإلهي: "ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئًا في الغضب. لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله".
نعم إن التباطؤ في الغضب فضيلة عظمى. فإن الذي يسرع به الغضب، قد يصل إلى الاندفاع، وفي اندفاعه قد يفقد سيطرته على أعصابه، أو قد يفقد سيطرته على تفكيره.. وهكذا يخطئ..
لذلك حاذر من أن تأخذ قرارًا حاسمًا في ساعة غضبك، لئلا بذلك تضر نفسك أو تضر غيرك إنما تحاول أن تهدئ نفسك أولًا.. ثم بعد ذلك فكر وأنت في حالة هدوء.. أو ببطء في الموضوع وأجل الأمر إلى أن تهدأ. إن القرارات السريعة التي تصدر في حالة غضب، تكون في غالبيتها عرضة للخطأ.
قد يطلق إنسان امرأته، إن أسرع باتخاذ قرار في ساعة غضب.. وقد يفقد أعز أصدقائه، وقد يتخلى عن عمله، بل قد يهاجر أيضًا من وطنه، كل ذلك لأنه أخذ قرارًا سريعًا في ساعة انفعال، ولم يتباطأ، ولم يؤجل الموضوع إلى أن يهدأ.
بل قد ينتحر إنسان ويفقد حياته، لأنه أسرع باتخاذ قرار في ساعة انفعال، أو قد يسرع بقتل غيره، أو يأخذ ثأره، كل ذلك في ساعة انفعال.. لذلك أمر الله أن يكون الشخص منا بطيئًا في غضبه.. لا يغضب بسرعة. وإن غضب لا يقرر شيئًا بسرعة..
وإن قرر إنسان شيئًا بسرعة، فلا مانع من أن يرجع في قراره. وقد يظن البعض أنه ليس من الرجولة ولا من حسن السمعة أن يرجع إنسان في كلمته، أو يلغى قرارًا له. ولكن الحكمة تقتضي منا أن يراجع الإنسان نفسه فيما اتخذه من قرارات سريعة..

اترك القيادة لعقلك، لا لأعصابك. إن أسرعت في التصرف في حالة انفعال، تكون مقادًا بأعصابك لا بعقلك، وفي هذا خطر عليك وعلى غيرك.

وحاذر من أن تكتب رسالة إلى غيرك في ساعة غضب، لأنك ستندم على ما كتبته ويؤخذ وثيقة ضدك.. وإن لم تستطع أن تقاوم نفسك، وكتبت مثل هذه الرسالة، فنصيحتي لك أن تتباطأ في إرسالها. اتركها في مكتبك يومين أو ثلاثة، ثم عاود قراءتها مرة أخرى، فستجد أنها تحتاج إلى تعديل وتغيير أو تجد أنك استغنيت عنها ولم تعد تتحمس لإرسالها..

أن التباطؤ في الغضب قد يصرفه.. الغضب يحركه شيطان سريع الحركة، والتباطؤ يشل حركته ويوقفه عن العمل.. فإن دخلت في نقاش أدى بك إلى الغضب، أجله لوقت آخر، حتى تهدأ..

كذلك البطء في التكلم نافع ومفيد.. استمع كثيرًا قبل أن تتكلم.. حاول أن تفهم غيرك.. حاول أن تلم بالموضوع إلمامًا كاملًا. أعط نفسك بهذا البطء فرصة لمعرفة ما ينبغي أن تقوله. وهكذا يكون كلامك عن دراسة، وبروية وهدوء، فلا تخطئ.

وأن تكلمت فليكن كلماتك هادئة.. لا تسرع في حديثك، بل تخير ألفاظك. زنها جيدًا بميزان دقيق قبل أن تلفظها. وأن تلفظها. وإن وجدت عبارة منها غير مناسبة، أبدلها بغيرها.. وهذا لايتأتى لك إلا إذا كنت مبطئًا في التكلم، غير مندفع فيه.



إن الكلمة الخاطئة التي تقولها، لا تستطيع أن تسترجعها مرة أخرى. لقد خرجت من فمك وانتهى الأمر، ووصلت إلى آذان سامعيك، وتسجلت، وحسبت عليك.. ربما يمكنك أن تعتذر عنها، أو تندم عليها، ولكن لا يمكنك أن تسترجعها داخل فمك. لقد حسبت عليك.. لذلك تباطأ في كلامك..
إن العربة المندفعة بسرعة هائلة، لا تستطيع أن تقف فجأة، أو تغير اتجاهها وهى مسرعة، كذلك المسرع في كلامه: ربما لا يمكنه أن يغير أسلوبه فجأة إن أحس بخطئه، وقد لا يحس.. أما الذي يبطئ في كلامه ويتخير ألفاظه، فما أسهل عليه أن يعدل أسلوبه إن شعر بخطأ..
الهادئ في كلامه يناقش الفكرة قبل أن يتكلم بها. أما المسرع في حديثه، فيقول الفكرة ثم يناقشها بعد ذلك، وقد تكون خاطئة! وقد يضطر إلى أن يسحب فكرته، أو يتنازل عنها، أو يعترف بخطئها. وقد يصيبه حرج في كل ذلك بسبب إسراعه..
وكما ينفع البطء في الغضب والكلام، كذلك ينفع البطء في إصدار الأحكام. لا تحكم بسرعة. ولا تصدق كل ما يقال. ولا تقبل وشاية أو دسيسة ضد إنسان. إنما فكر كثيرًا، ولا تصدر حكمك إلا بعد مزيد من التروي والفحص، فهناك أخبار ربما تصلك من أصدقائك أو من أبنائك أو من مرؤوسيك أو من رؤسائك، أو من مصادر غير موثوق بها، لذلك تباطأ في حكمك.
و مما ينفع فيه البطء أيضًا، البطء في الرغبات.. إذا أتتك رغبة، فلا تسرع في تنفيذها، لأنك لا تضمن فربما تكون من الشيطان. وأن كانت رغبة مقدسة، فلا تلهبك السرعة إليها لأن السرعة تورث القلق واللهفة والاضطراب وتوقعك في تعب الانتظار..
اطرح رغبتك بين يدي الله، وهو سيختار لها الموعد المناسب بحكمته الإلهية. وفي بطء رغباتك تعلم الصبر. وانتظر الرب.. وإذا طلبت من أحد شيئًا، فلا تلح عليه الحاحًا أن ينفذ بسرعة، لئلا يتضايق منك، ولئلا تكون هناك عوائق أمامه تحتاج إلى وقت وأنت لا تدرى.

Mary Naeem 15 - 09 - 2022 01:08 PM

رد: ما هو الخير؟
 
هناك موضوع معين يتسبب في كثير من المشاكل، وفي كثير من الخصومات ويخلق جوًا من النزاع، ومن سوء التفاهم بين الناس..
ليتنا نحلل هذا الموضوع لكي نصل إلى حله..
إنه مشكلة أنصاف الحقائق.
إن الحقيقة هي كل متكامل، وليست جزءًا قائمًا بذاته. وأنصاف الحقائق ليست كلها حقائق..
و كثير من الناس يشوهون الحقيقة، ولا يقدمون لها صورة سليمة، بسبب استخدامهم أنصاف الحقائق..




وفى كل قضية تقدم إلى المحاكم، كل طرف من المتنازعين يقدم نصفًا للحقيقة، يصورها تصويرًا خاصًا، ويقدم الطرف الآخر النصف الآخر، ولا تظهر الحقيقة إلا باجتماع النصفين معًا.
لأن الذي يقدم نصف الحقيقة لا يكون منصفًا. فتقديم الأنصاف ليس فيه إنصاف..

قد تشرح إساءة الناس إليك، دون أن تشرح الأسباب التي دفعتهم إلى هذه الإساءة، وتكون في حديثك عن إساءاتهم، مهما كان كلامك صادقًا، مجرد معبر عن نصف الحقيقة. وعندما تجلس إليهم وتناقشهم في اتهاماتك لهم، ويدافعون عن أنفسهم، حينئذ يقدمون لنا النصف الآخر من الحقيقة الذي لم تذكره أنت.
ليتك كلما تتهم إنسانًا، تنصفه أيضًا بأن تذكر النصف الآخر من الحقيقة الذي يدافع به هو عن نفسه.

ففي دفاعك نوع من النبل ومن محبة الحق، ومن الإنصاف.. وليتك تدافع عنه أمام نفسك قبل أن تتهمه، فربما هذا الدفاع يمنعك من الاتهام..
كثيرًا ما سمعت زوجات وأزواجًا في مشاكل عائلية قد تتطور إلى طلاق، فأسمع أنصاف حقائق. استمع إلى الزوجة فتشعرني بأن زوجها وحش كاسر، قاسى الطبع سيئ المعاملة، واستمع إلى الزوج، فيشعرني بأن الزوجة مستهترة أو مقصرة في واجباتها. ويندر أن يذكر واحد من الطرفين حجج الآخر..
وبسبب أنصاف الحقائق قد يحدث سوء تفاهم بين الناس. وسنضرب لذلك أمثلة.. قد يشكو ابن من أن والده لا يقوم باحتياجاته ولوازمه ولا يصرف عليه، وربما يكون النصف الآخر من الحقيقة أن الأب لا يملك ما يصرفه على ابنه، ولو كان يملك ما قصر في حقه.. وقد تشكو سيدة من أن صديقة لها أخلفت موعدها معها. وربما يكون النصف الآخر أن هذه الصديقة معذورة، وقد منعها زوجها من الذهاب وهى لا تستطيع أن تصرح بهذا لأسباب خاصة..
وقد نحكم على طالب بأنه فاشل في دراسته، ونقسو عليه في حكمنا. وربما يكون النصف الآخر من الحقيقة أن ظروفه العائلية قاسية جدًا، لا تساعده اطلاقًا على الاستذكار، أو أن ظروفه المالية لا تساعده على شراء الكتب اللازمة..
ليتنا نكون مترفقين في أحكامنا، فنحن قد نرى الخطأ فقط، دون أن نرى أسبابه ودوافعه وظروفه.
لقد خلق الإنسان محبًا للخير بطبيعته، وما الشر إلا دخيل عليه. وللشر في حياة الإنسان أسباب كثيرة، ربما يكون بعضها خارجًا عن إرادته. وقد يرجع بعضها إلى عوامل بيئية، أو وراثية، أو لأمور ضاغطة يعلمها الله وحده. لذلك كونوا مترفقين بالناس..
وقد يكسر إنسان قانونًا من القوانين، أو نظامًا من الأنظمة. وربما يكون هذا الكسر هو نصف الحقيقة، ويكون النصف الآخر هو خطأ في هذا القانون أو في هذا النظام يحتاج إلى تعديل.. لهذا كانت كثير من الدول تعدل في أنظمتها، وتطور في قوانينها
لأن المشرعين ليسوا آلهة. ولهذا أيضًا كان المنصفون ينظرون دائمًا إلى روح القانون وليس إلى حرفيته.
إن الذين يتمسكون بحرفية القوانين وينسون روحها، لا يكونون عادلين في أحكامهم.. ومن أمثال هؤلاء الذين يتمسكون بحرفية وصية من وصايا الله، دون أن يدخلوا إلى روح الدين وعمقه، ودون أن يتكشفوا الأسباب والأهداف التي من أجلها وضع الله تلك الوصية..
والذين يتمسكون بأنصاف الحقائق، إما يفعلون ذلك عن جهل أو عن عمد وعن معرفة.. فإن فعلوا ذلك عن معرفة يكونون مدانين، لأنهم أخفوا الحقيقة، وقد يكون وراء الإخفاء خطأ آخر أبشع.. ولذلك تطلب غالبية المحاكم من الشهود أن يقولوا: "الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق" فعبارة: "كل الحق " عبارة لها وزنها ولها عمقها..
ومشكلة أنصاف الحقائق بدأ النقاد المنصفون يتحاشونها.. كان الناقد قديمًا يكتفي بذكر العيوب والنقائص فقط. وهكذا كان ينقص بدلًا من أن ينقد.. أما الناقد المنصف فهو الذي يحلل الأمر تحليلًا، ويذكر ما فيه من مزايا ومن عيوب، من نواحي قوة ونواحي ضعف. وقد يُرجع كل شيء إلى أسبابه، في صدق، وفي إنصاف..
وقد يقع الإنسان في أنصاف الحقائق نتيجة لكراهية أو تعصب أو تحيز أو ميل خاص.. مثال ذلك مدير عمل لا يذكر موظفًا معينًا إلا بالإساءة والتجريح، ولا يذكر موظفًا آخر إلا بالتقدير والإطراء، ويكون لكل منهما ما له وما عليه.. ولكنها أنصاف الحقائق..
وقد تدخل مشكلة أنصاف الحقائق في الرئاسة والإرادة.. فلا يتذكر المدير أو الرئيس إلا سلطته فقط، وكيف أنه صاحب حق في أن يأمر وينهى، ويعين ويعزل، كأنه متسلط في مصائر الناس. وفى ذلك ينسى النصف الآخر من الحقيقة، وهي آن الرئاسة محدودة بقانون وبضمير وبمسئولية أمام الله، وبواجبات من الرعاية الحقة وينبغي أن يحيط بها كل رئيس عمل جميع من تشملهم إدارته ومسئوليته..
وقد تدخل مشكلة أنصاف الحقائق في حياتنا الروحية، حينما نعمل لدنيانا فقط، وننسى حياتنا الأخرى.. حينما نهتم بكيف نعيش ههنا على الأرض، وننسى النصف الآخر من الحقيقة وهو أننا سنقدم عن حياتنا هذه حسابًا أمام الله في اليوم الأخير، يوم لا يجدي عذر، ولا ينفع شفيع..
وقد تدخل أنصاف الحقائق هذه في مسائل التربية.. فيظن الأب المسكين أن كل واجبه هو مستقبل أبدى من حيث تعليمه وتوظيفه، وأكله وشربه وصحته وكافة احتياجاته المادية. وينسى النصف الآخر من الحقيقة وهو واجبه حيال أبدية هذا الابن وروحياته وعلاقته بالله..
ومشكلة أنصاف الحقائق هذه قد تدخل في الحياة الاجتماعية، وتسبب متاعب كثيرة وبخاصة في الفهم الخاطئ للحرية. فقد يقول إنسان: "أنا حر. أفعل ما أشاء" وينسى النصف الآخر من الحقيقة وهو أن عليه أن يمارس حريته بشرط ألا يتعدى على حريات غيره من الناس..
فالذي يقيم حفلة ويرفع مكبرات الصوت فيها كما يشاء، وينتشر هذا الصوت العالي في كل مكان، مدعيًا بأنه حر. إنما ينسى حريات الآخرين، وكيف أن هذا الصوت قد يزعج نائمًا في فراشه، أو مريضًا محتاجًا إلى الراحة، أو تلميذًا يذاكر دروسه، أو قومًا يتحدثون في موضوع ما أو أي شخص يريد أن يستغل وقته في شيء آخر غير سماع هذا الحفل..
ليتنا ننظر إلى الحقائق كاملة.. ولا نكتفي بأنصاف الحقائق، لئلا تضللنا..

Mary Naeem 15 - 09 - 2022 01:11 PM

رد: ما هو الخير؟
 
رحلة الخبر إلي أذنيك


https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg
ليس كل ما يصل إلي أذنيك هو صدق خالص.
فلا تتحمس بسرعة ولا تنفعل بكل ما تسمع وكل ما تقرأ.
ولا تتخذ إجراء سريعاً لمجرد كلام سمعته من إنسان ما...
بل تحقق أولاً.. واعرف أن كثيراً من الكلام يقطع رحلة طويلة قبل أن يصل إلي أذنيك. ربما تصيبه أثناءها تطورات وتغيرات..
وصدق الحكيم الذي قال: "لا تصدّق كل ما يقال"...

***

اجعل عقلك رقيباً علي أذنيك وافحص كل ما تسمعه. ولا تصدق كل خبر. لئلا تعطي مجالاً للوشاة وللكاذبين. ولمن يخترعون القصص. ولمن يصنعون الأخبار. ولمن يدسون ويشهدون شهادة زور..

كل اولئك يبحثون عن انسان سهل يصدقهم. وكما قال عنهم وعن أمثالهم أمير الشعراء أحمد شوقي:

قد صادفوا أذناً صفواء لينة..
فأسمعوها الذي لم يسمعوا أحدا
وما أجمل ما قاله أيضا عن مثل هذا الذي يصدق كل ما يسمعه بدون فحص. ويقبل الأكاذيب كأنها صدق:

أثر البهتان فيه .. وانطوي الزور عليه
ياله من ببغاء.. عقله في أذنيه



***

نعم. لو كنا نعيش في عالم مثالي. أو في وسط الملائكة. لأمكنك حينئذ أن تصدق كل ما تسمعه. ولا تتعجب ذاتك في فحص الأحاديث.. ولكن ما دام الكذب موجوداً في العالم. وما دمنا نعيش في مجتمع يشتمل علي أنواع من الناس يختلفون في مستويات اخلاقياتهم. وفي مدي تمسكهم بالفضيلة. فإن الحكمة تقتضي اذن أن ندقق ونحقق قبل أن نصدق.. ونفحص كل شيء. ولا نتمسك الا بما هو صدق وحق...

***

ولكن قد يقول شخص: إنني أصدق هذا الخبر علي الرغم من غرابته. لأنني سمعته من إنسان صادق لا يمكن أن يكذب...

نعم. قد يكون هذا الإنسان صادقاً. ولكنه سمع الخبر من مصدر غير صادق. أو من مصدر غير دقيق!!

قد يكون الشخص الذي حدثك. أو الذي حدث من حدثك. جاهلاً بحقيقة الأمر. أو علي غير معرفة وثيقة أكيدة بما يقول...

أو قد يكون مبالغاً. أو مازحاً أو مداعباً. أو ربما يكون قد سمع خطأ. أو أن المصادر التي استقي منها معلوماته غير سليمة...

***

أو ربما يكون المصدر الأصلي الذي أخذ عنه هذا وذاك. غير خالص النية فيما يقول.. وله أسباب شخصية تدفعه إلي اختراع أكاذيب أو أخبار
وهنا اتذكر قول أحد الشعراء:

لي حيلة فيمن ينم .. وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
* حقاً. ما أكثر من يطمس الحقائق. ومن يعمل علي الدس والإيقاع بين الناس بنفسية منحرفة. ويفرح بما يفعل. بل يفتخر بذلك ويقول: قد استطعت أن ألقي بينهم "زمبة" ولسوف ترون نتائجها الخطيرة...

* وقد يكون صانع الخبر محباً للاستطلاع. يلقي الخبر الذي يخترعه. لكي يعرف مدي تأثيره علي الناس أو علي بعض الناس..!

***

وقد يود شخص أن يكون الأول في نشر الخبر. ويفتخر بذلك. ولهذا السبب. فإنه لا ينتظر حتي يتحقق من صدق الخبر. وينشره بما فيه من زيف..
وما أكثر ما يقع بعض الصحفيين في إغراء ما يسمي بالسبق الصحفي! فما ان يتلقي الواحد منهم خبراً. حتي يسرع بنشره. ويأخذه القراء كحقيقة بينما يكون كل الخبر أو بعضه بعيداً عن الواقع تماماً!! هذا بعكس آخرين لا يهتمون بالسبق الصحفي. وإنما بالتحقيق الصحفي الذي يتميز بالدقة والصدق..

* شخص آخر يسعي إلي إحداث ضجة بنشر أخباره. أو ما يسمونها "فرقعة".
ومثل هذا يهمه الضجة ويتباهي بإحداثها. ولا يبالي بصحة الخبر..!
* وشخص ثالث هدفه من نشر الخبر أن يكون له تأثير اقتصادي أو تأثير سياسي. وهو يعلم عن يقين أن الخبر غير سليم . إنما المهم عنده الهدف.. وأنت أيها القاريء العزيز تصلك هذه الأخبار وما يشبهها فتصدقها عن حسن نية. دون أن تعرف ما وراءها من أهداف أو أغراض..!

***

وربما يقول مصدق الخبر: إنني لم أسمع هذا الخبر من مصدر واحد فقط!

ويظن أن سماعه من كثيرين يجزم بصحته..!! وننصح بأنه لا يجوز أن تحكم عن طريق السماع بدون تحقيق. حتي لو سمعنا بالخبر من كثيرين...
فما أكثر ما يكون كلام الكثيرين علي وفرة عددهم له مصدر واحد مخطيء.. وما أسهل ما تتفق جماعة من الناس علي كذب مشترك.. مثلما فعل أخوة يوسف حينما بلغوا آباهم خبراً كاذباً عن ابنه أن وحشاً قد افترسه...
وقد تتآمر مجموعة من الناس وتتفق علي نشر خبر يحقق مؤامرتهم. ويؤكده كل واحد من أفراد هذه المجموعة.. وما أكثر شهود الزور الذين قرأنا عنهم في أحداث معينة رواها التاريخ في قصصه..

لهذا ليس سماع الخبر من كثيرين دليلاً علي صحته.. فربما يكون اتفاقاً بين هؤلاء علي نشر خبر معين لغرض في نفوسهم.. ويكون الخبر غير صادق..

***

من هذا المنطلق. يمكن أن نتحدث عن الشائعات التي تنتشر بين الناس. وكلها عبارة عن أخبار غير حقيقية...

وقد قيل "إن أردت أن تشعل في مجتمع حريقاً. أو تسبب فيه ضجيجاً. اطلق اذن شائعة تؤثر علي الرأي العام فيه.."

والذين ينشرون الشائعات. غالباً ما يكونون علي دراية بنفسية الجماهير ومشاعرهم وما يمكن أن يؤثر فيهم ويكون أقرب إلي تصديقهم. وربما تكون الشائعة هادفة إلي المساس بشخصية معينة. أو بهيئة ما. أو هدفها التأثير علي مجري الأمور السياسية أو الاجتماعية. وأحياناً تطلق شائعة خاصة بأحد الأمراض أو أحد الأدوية. أو لتخويف الناس من وضع معين. أو لتحميسهم لاتجاه خاص. أو دفعهم لكراهية سياسة ما...
وكثيراً ما أدت بعض الشائعات إلي هياج شعبي ضد بعض الأوضاع...
وقد تكون الشائعة محبوكة حبكاً محكماً. وربما يتباطأ المسئولون في تكذيبها. ولا يعلنون زيفها إلا بعد أن تكون قد انتشرت وتركت تأثيرها في النفوس...!
وبخاصة في نفوس العوام والبسطاء.. والأمثلة عديدة في تاريخ الشائعات.

***

والخبر الكاذب قد يكون عن عمد. أو عن جهل. أو عن طبيعة كاذبة..ووحيه " لا تكذب" ليست موجهة فقط إلي المتكلم. بل إلي السامع أيضاً..
فالذي يسمع الكذب ويقبله. إنما يشجع الكاذب علي الاستمرار في كذبه. كما يضر نفسه إذ يحيط ذاته بأشخاص كاذبين غير مخلصين.
كذلك فإن ناقل الكذب يعتبر كاذباً. وشريكاً في الكذب ونشره
ويدخل في هذا المجال أيضاً مروجو الشائعات الكاذبة. وقد يقع في هذا الأمر أيضا الاناس "البسطاء" الذين يصدقون كل ما يسمعونه. ويتكلمون عنه كأنه حقيقة بدون أي فحص أو تدقيق!!

وفي الحقيقة لا نستطيع أن نسمي هذه بساطة لان البساطة في جوهرها هي عدم التعقيد. وقد يكون الانسان بسيطاً وحكيماً في نفس الوقت. أما كون الانسان يقبل كل ما يسمعه بدون تفكير. فهذا له اسم آخر غير البساطة!!
اثنان يشتركان في مسئولية خطية الكذب: وهما قابل الكذب. وناقل الكذب..وكلاهما يشتركان مع الكاذب الأصلي في نشر كذبه...

وإن كانت بعض المشاكل قد تتسبب عن نقل الكلام. فإن أخف الناس ضرراً من ينقلون الكلام كما هو كما يفعل جهاز تسجيل الصوت الأمين المخلص. الذي لا يزيد علي ما قيل شيئاً. ولا ينقص. ويعطي صورة دقيقة عما قيل بدون تعليق...

***

إنما بعض الناس يسمعون الكلام. ويضيفون عليه رأيهم الخاص واستنتاجاتهم وأغراضهم. ويقدمون كل ذلك لإنسان آخر. كأنه الكلام المباشر الذي سمعوه ممن نطق به..!!

انظروا ماء النيل وقت الفيضان. وهو بني اللون من كثرة ما حمل من طمي.. هذا الماء كان في بدء رحلته ماءً صافياً رائقاً عندما نزل مطراً علي جبال الحبشة. ولكنه طول رحلته في الطريق. ظل يفت الطمي من الصخور ويختلط بالطين. حتي وصل إلينا بهذه الصورة...
هكذا كثير من الأخبار التي تصل إليك مشبعة بالطين. ربما كانت رائقة صافية في أولها.. والفرق بينها وبين ماء الفيضان أن طينه مفيد للأرض. أما الطين الذي خلطه الناس في نقلهم للأحاديث. فإنه ضار وخطر ومفسد للعلاقات بين الناس...

***

كثير من الأخبار عندما تصل إليك تكون أخباراً مختلفة جداً عن الواقع. وسأضرب لذلك مثلاً...

يقول شخص لآخر "ألم تسمع؟ لقد حدث كذا مع فلان" فيجيبه "لا شك انه غضب لذلك جدا". فيقول له محدثه "طبعاً غضب بلا شك".
ويصل الخبر إلي ثالث بأن "فلاناً غضب جداً بسبب ما حدث له" فيجيبه:
"من غير المعقول أن يكون قد غضب فقط. لابد أنه سينتقم".
ويصل الخبر إلي رابع انه سينتقم فيجيب "حسب معرفتي لطبعه. لابد أنه سيدبر دسيسة لمن أغضبه". ويصل الخبر إلي خامس فيقول:
"ربما يرسل خطاباً إلي مكان وظيفته. يتهمه باتهامات كيدية". فيجيبه سادس "لا يبعد أن يقول عنه إنه ضد الدولة. ويشترك مع آخرين في تدبير مؤامرات خطيرة". ويصل الخبر إلي سابع. فيسرع إلي الشخص المقصود. ويقول له: خذ حذرك فلان أرسل خطاباً إلي مكان وظيفتك يتهمك فيه بأنك تشترك في تدابير خطيرة ضد الدولة!!"..
يحدث كل هذا. وربما يكون الشخص الذي يتحدثون عنه قد تضايق في وقتها. واستطاع أن يصرف غضبه ويسامح من أغضبه.. أو يكون قد أخذ الأمر ببساطة ولم يتأثر..! أو قد يحدث سوء تفاهم بسبب الخطاب المزعوم المرسل إلي مكان وظيفته. الذي لا وجود له علي الإطلاق..!

***

لذلك أكرر وأقول "لا تصدق كل ما يقال. ولا تكن سماعاً.. وأيضا لا تصدق كل ما يكتب.

فهناك من يكتبون بقصد الإثارة. ومن يظنونها شجاعة وجرأة. ان يشوهوا سمعة بعض الكبار عن طريق كتاباتهم وبعض من هؤلاء. ترفع ضدهم قضايا سب علني وقذف.. ومنهم من يعتبرون تقديمهم إلي قضايا النشر لوناً من الشهرة.. وبعض الصحف تنشر مقالات تحت عنوان "آراء حرة" تقول في مقدمتها إنها "تحت مسئولية الكاتب"...
وبعض الكتاب ينشرون آراء خاصة بهم. لا ترقي إلي مستوي المعرفة التي يتفق عليها الجميع. والآراء الخاصة هي مجرد آراء. لا تستطيع أن تصدقها جميعاً...
ونلاحظ أن خبراً واحد قد تتناوله صحف المعارضة والصحف القومية. بتعليقات ربما يوجد فيها شيء من التناقض.. ويقف القاريء حائراً بين هذه وتلك. يتساءل: يا تُري أين توجد الحقيقة؟!

لهذا. لا تصدق كل ما يكتب. إنما تناول كل الأخبار بالفحص والتدقيق.

***

إن عقليات الناس ومفاهيمهم ليست واحدة. وكذلك فإن تعليقاتهم علي الخبر الواحد ليست واحدة...

ولقد خلق الله لك أذنين: تسمع بهما الرأي. والرأي الآخر.
وجعل العقل بينهما تحكم به علي كل ما تسمع. ولا تقبل إلا ما يوافق عقلك وتفكيرك.. وبعض الأخبار تحتاج منك إلي مدي زمني. حتي يظهر ما فيها من حق أو من الزيف. فلا تسرع إذن في حكمك

Mary Naeem 15 - 09 - 2022 01:13 PM

رد: ما هو الخير؟
 
القلب الكبير
للبابا شنودة الثالث

https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg


لا يكن قلبك ضيقًا..

يتأثر بسرعة، ويتضايق بسرعة، ويندفع للانتقام لنفسه..

بل كن كبيرًا في قلبك، وواسع الصدر، تحتضن في داخلك جميع المسيئين إليك.

وحينئذ ستشعر بالسلام الداخلي، وتدرك بركة القلب الكبير..

القلب الكبير لا تتعبه إساءات الناس، ولا يقابل الإساءة بالإساءة. إنما تذوب جميع الإساءات في خضم محبته وفي لجة احتماله.

القلب الكبير أقوى من الشر.


الخير الذي فيه أقوى من الشر الذي يحاربه. ودائمًا ينتصر الخير الذي فيه.. ومهما أسىء إليه، يبقى كما هو، دائم المحبة للناس، مهما صدر منهم.. وفي إساءاتهم، نراه لا ينتقم منهم، بل يعطف عليهم..

إنهم مساكين، قد غلبهم الشر الذي يحاربهم.. وهم يحتاجون إلى من يأخذ بيدهم، وينقذهم من هذا الشر الذي خضعوا له في إساءاتهم لغيرهم..

وإذا انتقم الإنسان لنفسه، يكون الشر قد غلبه، وأخضعه لحب الانتقام، وأضاع من قلبه التسامح والاحتمال والمودة..

ومحبتنا للناس توضع تحت الاختبار عندما نتعرض لإساءاتهم.

كل إنسان يستطيع أن يحب من يحبه، ويحترم من يحترمه، ويكرم من يكرمه.. كل هذا سهل لا يحتاج إلى مجهود. ولكن نبيل هو الإنسان الذي يحب من يكرهه، ويكرم من يسئ إليه. وفي هذا يقول السيد المسيح في عظته المشهورة على الجبل: "لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم.. وإن سلمتم على أخوتكم فقط فأي فضل تصنعون؟! " أليس الخطاة أيضًا يفعلون هكذا؟! " وأما أنا فأقول لكم: أحبو أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".

هنا ولا شك تكون المحبة بلا مقابل. أي أن الإنسان المحب لم يأخذ محبة في مقابل محبته. لم يأخذ أجرًا على الأرض، ولذلك يكون كل أجره محفوظًا في السماء، إذ لم يستوف منه شيئًا على الأرض.

إن القلب الكبير ليس تاجرًا: يعطى حبًا لمن يقدم له حبًا، أو يعمل خيرًا مع الذي ينقذه شكرًا.

إنه يصنع الخير مع الكل، بلا مقابل. يعمل الخير لأن هذه هي طبيعته. لذلك فإنه يعمل الخير مع من يستحقه، ومع الذي لا يستحقه أيضًا، مع المحب ومع المسيء، مع الصديق ومع العدو.. مثل الشمس التي تشرق على الأبرار والأشرار، ومثل السماء التي تمطر على الصالحين والطالحين .. بل أنه درس نتعلمه من الله نفسه، الذي يحسن إلينا حتى ونحن في عمق خطايانا.

إن القلب الكبير لا يعامل الناس كما يعاملونه، وإنما يعاملهم حسب سموه وحسب نبله. وهو لا يتغير في سموه وفي نبله طبقًا لتصرفات الناس حياله. إنه لا يرد الإساءة بالإساءة لأنه لا يحب أن تصدر عنه إساءة لأحد، ولو في مجال الرد.

أما الضعاف فإنهم يتأثرون بتصرفات الناس، ويتغيرون تبعًا لها.


و هنا نسأل:
ما معنى رد الإساءة بالإساءة، ومقابلة الخطأ بالخطأ؟

لقد أجاب القديسون على هذا الأمر، وشرحوه في جملة نقاط لا مانع من أن نوضحها في هذا المقال:

1- هناك إنسان يرد الإساءة بمثلها: التصرف بتصرف، والشتيمة بشتيمة، والإهانة بإهانة.. وقد يرى نفسه أنه تصرف بعدل ولم يخطئ، لأن هناك من يردون الإساءة بأشد منها، ويعللون ضمائرهم بأنهم في موقف المعتدى عليه.

2- هناك نوع آخر لا يرد الإساءة بمثلها، فلا يقابل إهانة بإهانة، أو شتيمة بشتيمة. ولكن الرد يظهر في ملامحه: في نظرة احتقار، أو تقلب الشفتين بازدراء، أو في صمت قاتل.. الخ.

3- وقد يوجد من لا يفعل شيئًا من هذا، ولكن رده يكون داخليًا، في قلبه وفي نيته. ويتصور في قلبه أشياء تحمل معنى رد الإساءة أو أشد، ولكنها مخفاة..

4- و يوجد إنسان قد لا يفعل في الداخل من الإساءة. ولكنه إذا سمع أن المسيء أصابه مكروه يفرح بالخبر، ويرى أن الله قد انتقم له. وبهذا لا يكون قلبه نقيًا تجاه من أساء إليه..

5- وقد يوجد إنسان لا تحاربه هذه المشاعر، بل قد يحزن حقًا إذا حدث مكروه لمن أساء إليه، ولكنه في نفس الوقت لا يفرح إذا حدث خير لهذا المسيء. إذ يرى انه لا يستحق الخير، فيتضايق لأخباره المفرحة، وبهذا لا يكون قلبه نقيًا من جهته..

6- إنسان آخر قد لا يفعل شيئًا من هذا كله. ولكن إساءة المسيء تظل عالقة بذهنه. آه لم ينسها، لأنه لم يغفر بعد.. هذا أيضًا لم يصل بعد إلى الحب الكامل الذي ينسى الإساءة ولا يعود يذكرها. لأن المحبة – كما يقول الكتاب تستر كثرة من الخطايا.

7- وقد يوجد شخص ينسى الإساءة، ويستمر في نسيانها زمنًا. ثم تحدث إساءة جديدة من نفس الشخص، فيرجع ويتذكر القديمة أيضًا التي كان قد نسيها، ويتضايق بسبب الاثنتين معًا.. وبهذا يدل على أنه لم يغفر الإساءة القديمة، وأنها لم تمت في قلبه، وإنما كانت نائمة ثم استيقظت. مثل جرح ربما يكون قد اندمل، ولكن موضعه ما يزال حساسًا، أقل لمسة تؤذيه..

إن هناك طريقتين لمواجهة الإساءة: طريقة التصرف، وطريقة الترسيب.

أما طريقة التصرف فهي الطريقة الروحية، التي بها يصرف الإنسان الغضب بطريقة سليمة: بإنكار الذات، بلوم النفس، بعامل المحبة، بالبساطة..

أما طريقة الترسيب فتشبه دواء في زجاجة يبدو صافيًا من فوق، بينما هو مترسب في أسفلها، وأقل رجه تعكر السائل كله الذي يملأ الزجاجة. إن هذا الصفاء الظاهري من فوق، ليس هو صفاءًا حقيقيًا طاهرًا..

ولكن لعل إنسان يقول: كيف يمكننا الوصول إلى تلك الدرجات الروحية من صفاء القلب تجاه الإساءة؟ ألا تبدو غير ممكنة..؟

إنها قد تبدو صعبة أو غير ممكنة بالنسبة إلى القلوب الضيقة التي لم تمتلئ بالمحبة بعد ولا بالاتضاع. أما القلب الكبير فإنه يتسع لكل شيء. انه لا يفكر في ذاته ولا في كرامته، بل يفكر في راحة الآخرين وفي علاجهم. لذلك لا تهزه الإساءات..

كذلك هو يعلم أن المسيء، إنما قبل كل شيء - يسئ إلى ذاته لا غيره. إن الذي يقترف الإساءة إنما يسئ إلى مستواه الروحي وإلى نقاوة قلبه وإلى أبديته. ولكنه لا يستطيع أن يضر غيره ضررًا حقيقيًا.. فالذي يشتم غيره مثلًا، إنما يبرهن على نوع أخلاقياته هو، دون أن يضر المشتوم في شيء. يبقى المشتوم في مستواه العالي، لا تقلل الشتيمة من جوهر معدنه الكريم، بل هي تدل على خطأ مقترفها.. والذي أصابته هذه الإهانة، إن كان قلبه نقيًا كبيرًا، فإنه لا يتأثر: يأخذ موقف المتفرج الذي يرثى لضعفات غيره، لا موقف المنفعل.

وهكذا تتضح أمامنا درجات روحية لمواجهة الإساءة وهي:

احتمال الإساءة، ومغفرة الإساءة، ونسيان الإساءة، ومحبتك لمن أساء إليك. ففي أية درجة من هذه كلها تضع نفسك أيها القارئ العزيز؟

درب نفسك على هذه الدرجات الروحية، لكي تصل إلى نقاوة القلب. وإن لم تستطع أن تصل إلى أية واحدة منها، فعلى الأقل لا تبدأ بالإساءة إلى غيرك..

خذ موقف المظلوم لا موقف الظالم. واعلم أن الله سيقف إلى جانبك. وأما الظالم فإنه يعادى الله قبل أن يعاديك، وسيقف الله ضده.

و عندما يقف الله معك ضد ظالميك، قل له كما قال السيد المسيح: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون"..

Mary Naeem 17 - 09 - 2022 02:00 PM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
القلب الحنون


https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg




القلب الحنون، المملوء بالشفقة والحب..

القلب القاسي، باستمرار يحطم ويهدم. وقسوته لا تشفق، ولا ترحم. إنه نار تأكل كل شيء، حتى نفسها..

أما القلب الحنون العطوف، فإنه يفيض رقة وإشفاقاً على كل أحد، حتى الذين لا يستحقون، وحتى على أعدائه..

وحنو الإنسان على غيره، قد يشمل الكائنات جميعاً.. فيحنو على العصفور المسكين، وعلى الفراشة الهائمة، وعلى الزهرة الذابلة.. بل قد يحنو على الوحش المفترس، مثل القديس الذي رأى أسداً يئن من شوكة في قدمه، فانحني وأراحه منها..



وقد يكون الحنو في نواح مادية أو جسدية، وقد يكون في نواح نفسية أو روحية.

وخلاصة الأمر أن القلب المملوء حناناً، يفيض بهذا الحنان في كل المجالات، وعلى الكل. فيشفق على الفقير المحتاج، وعلى المريض المتألم، كما يشفق على البائس والمتعب نفسياً، وعلى الساقط في الخطية المحتاج إلى من يأخذ بيده ليقيمه.

والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب، وإنما تتحول فيه العاطفة إلى عمل جاد من أجل إراحة الغير.

إن الحنان النظري هو حنان قاصر، حنان ناقص، يحتاج إلى إثبات وجوده بالعمل. ولهذا قال القديس يوحنا الحبيب: "يا أخوتي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق".

إن القلب الحنون يمكنه أن يكسب الناس. أما القلب القاسي فينفرهم.

الناس يحتاجون إلى من يعطف عليهم، إلى من يأخذ بيدهم، إلى من يشجع الضعيف، ويقيم الساقط، ويفهم ظروف الناس واحتياجاتهم. وتكون له روح الخدمة فيخدم الكل، ويساعد الكل، ويعين الكل، ولا يحتقر ضعفات أحد.. كما قال الكتاب: "شددوا الركب المخلعة، وقوموا الأيدي المسترخية"..

وقيل عن السيد المسيح إنه كان: "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ".. هذه الفتيلة المدخنة ربما تهب ريح فتشعلها، فتضئ مرة أخرى..

و كان حنوه يشمل الروح والجسد معاً. وهكذا قيل عنه في الإنجيل المقدس إنه: "كان يجول يصنع خيراً".. كان يشفق على الأرواح الساقطة فيقيمها بالتوبة، ويشفق على الأجساد المريضة فيشفيها.. "يطوف المدن والقرى: يكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض وكل ضعف في الشعب".

أحضروا إليه مرة امرأة خاطئة قد ضبطت في ذات الفعل، وانتظروا منه أن يحكم برجمها حسبما تقضى الشريعة (اقرأ مقالاً آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). أما هو فقال لهم: من منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر". وانصرف المطالبون برجمها لأنهم أيضاً خطاة. واطمأنت المرأة. فنظر إليها السيد المسيح وقال لها: وأنا أيضاً لا أدينك.. أذهبي بسلام. ولا تعودي تخطئي أيضاً".. هذا هو الحنو الذي يكسب القلب، ويقوده إلى التوبة.. فليتنا نحنو على الخطاة، لكي نكسبهم إلى الله.

إن الله يحنو علينا، حتى ونحن في عمق خطايانا. ومن دلائل حنوه أنه يستر ولا يكشف.

كم من أناس قد غطسوا في الشر حتى غطاهم، وما يزال الله يستر.. لم يكشفهم، ولم يفضحهم، ولم يعلن خطاياهم للناس.. لأنهم ربما لو انكشفوا لضاعوا، وانسد أمامهم الطريق إلى التوبة بعد فقدهم لثقة الناس.

إن القلب الحنون يستر خطايا الناس. لا يتحدث عنها، ولا يشهر بها، ولا يقسو في الحكم عليها.. بل قد يجد لهم عذراً، أو يخفف من المسئولية الواقعة عليهم.. وأن قابلهم لا يفقد توقيره لهم، معطياً إياهم فرصة للرجوع.. بل قد يضحى بنفسه من أجلهم، ويتحمل المسئولية عوضاً عنهم إن استطاع.

قال القديس يوحنا ذهبي الفم: "إن لم تستطع أن تمنع من يتكلم على أخيه بالسوء، فعلى الأقل لا تتكلم أنت".

"وأن لم تستطع أن تحمل خطايا الناس، وتنسبها إلى نفسك لكي تبررهم، فعلى الأقل لا تستذنبهم وتنشر خطاياهم".

أن القلب الحنون يعيش في مشاعر الناس. يتصور نفسه في مكانهم، ولا يجرح أحداً ويبرهن على نقاوة قلبه بعطفه على الكل..

وهو يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات..

و إن أقوى الناس ربما تكون في حياته ثغرات..

و قد يسقط، إن اشتدت الحرب عليه، وأن تخلت عنه النعمة الحافظة..

لذلك ينظر إلى الناس في حنو، في قيامهم وفي سقوطهم أيضاً.

كان القديس يوحنا القصير إن سمع عن أحد أنه سقط، يبكى. فإن سئل في ذلك يقول: (معنى هذا أن الشيطان نشيط. وإن كان قد أسقط أخي اليوم، فقد يسقطني أنا غداً..). وهكذا -في أتضاع- لم يضع هذا القديس نفسه في مرتبة أسمى من غيره. وبكل حنو نظر إلى سقطة غيره، ونسبها إلى عمل الشيطان، لا إلى فساد طبع ذلك الأخ.

وبهذا كان أقوى المرشدين الروحيين هم الذين يفهمون النفس البشرية، ولا يقسون عليها في ضعفاتها.

إن القلب الحنون لا يعامل الناس بالعدل المطلق مجرداً، إنما يخلط بعدله كثيراً من الرحمة. ولا يجعل عدله عدلاً جافاً حرفياً يطبق فيه النصوص، بل أيضاً يقدر الظروف المحيطة، سواء كانت عوامل نفسية أو تربوية أو عوامل اجتماعية.

أما الذي يصب اللعنات على كل مخطئ، دون أن يقدر ظروفه أو يفحص حاله، فإنه قلب لا يرحم..

القلب الحنون لا يحكم على أحد بسرعة.. بل يعطى كل أحد فرصة للدفاع عن نفسه، ولتوضيح موقفه..

و هو أيضاً لا يكثر اللوم والتوبيخ، وإن وبخ، فإنما يكون ذلك بعطف وليس بقسوة. وقد يقدم لتوبيخه بكلمة تقدير أو كلمة حب، حتى يكون التوبيخ مقبولاً. وأن احتاج الأمر منه إلى حزم وشدة وعنف، فقد يفعل ذلك مضطراً. ولكنه في مناسبة أخرى يصلح الموقف، ويعالج بالحنو نفسية ذلك المخطئ.

والقلب الحنون لا يخجل أحداً، ولا يحرج أحداً. وقد يشير إلى الخطأ من بعيد، بألفاظ هادئة. وربما بطريق غير مباشر، وربما في السر وليس في أسماع الناس.

أما الذي يرجم الناس بالحجارة، فعليه أن يتروى، لئلا يكون بيته من زجاج. وليعلم أن كل الفضائل بدون المحبة ليست شيئاً. والمحبة تتأنى وتترفق. والحكمة هي أن نكسب الناس بالحنو، وأن لا نخسر الناس بالقسوة.


Mary Naeem 17 - 09 - 2022 02:01 PM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
الذين يعطون

https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg

تكلمنا عن القلب الحنون، الذي يعطف على الناس روحيًا. هذا القلب يعطف أيضًا ماديًا، وباستمرار يعطى..

وهذه هي شيمة الذين يعطون: يعطون بحب، وبسخاء وباستمرار، وبدون أن يطلب منهم.. وبراحة داخلية..

ما أجمل أن نشرك الله معنا في أموالنا، فيكون له نصيب منها.

وما نعطيه لله، لا نحسبه جزءًا ضائعًا من مالنا، وإنما نحسبه بركة كبيرة لباقي المال.

إذ أن الله عندما يأخذ من مالنا شيئًا، إنما يبارك هذا المال، فيزيد أكثر من الأصل بما لا يقاس. ويصبح مالًا مباركًا، ويعوضه الرب أضعافا من جهات أخرى. ونجد أننا بهذا العطاء قد زدنا ولم ننقص.

وفى الواقع أننا لا نعطى الله من مالنا، بل من ماله هو.. إن كل شيء نملكه هو ملك لله، ونحن مجرد أمناء عليه، مجرد وكلاء لله في هذا المال الذي استودعنا إياه لكي ننفقه في الخير. حقًا، ما الذي نملكه نحن؟! نحن الذين قيل عنا إننا:"عراة جئنا إلى الأرض، وعراة نعود إلى هناك".. الله هو المالك الحقيقي لكل ما نملك. وما أصدق داود النبي حينما قال لله "من يدك أعطيناك"..


وقد ظهر العطاء في التوراة في وصية العشور، حيث طلب الله من الناس أن يدفعوا العشور من كل ما يملكون.

ولكن العشور لم تكن كل شيء في العطاء.. كانت هناك أيضًا البكور، والنذور، والتقدمات، والقرابين، والنوافل.

وفي البكور كان الإنسان يعطي أوائل ثمار الأرض. أول حصيده يقدمه للرب، لكي يبارك الرب كل الحصاد. كما كان يقدم المولود البكر من كل حيواناته، حتى ابنه هو البكر، كان يقدمه لخدمة الرب، كما قال الرب في التوراة " قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم".

ما أجمل أن نعطي البكور للرب: المرتب الأول الذي يتقاضاه الإنسان، والعلاوة الأولى وأول إيراد خاص يصل إليه. فمثلًا أجرة أول عملية يجريها الجراح يقدمها للرب وأول كشف للطبيب، وأول درس خصوصي للمدرس، وأول عمل يد للصانع. وهكذا يبارك الله كل أعمالنا لأنها بدأت به، وقدمنا أولى ثمارها له..

بل أن بكور الوقت نقدمها لله أيضًا.. الساعة الأولى في النهار نقدمها لله. أول كلمة ننطق بها كل يوم تكون كلمة موجهه إلي الله. أول عمل نعمله في يومنا يكون مختصًا بالله وعبادته. وبهذا يبارك الله يومنا ويقدسه وبنفس الوضع أول يوم في عامنا يكون يومًا للرب.

وفي عطائنا لا يصح أن نحاسب الله بالدقة الحرفية. فإن دفعنا العشور مثلًا، لا يجوز أن نقول لله: "كفاك هذا! ليس لك شيء عندنا بعد!"

كلا، إن العشور والبكور هي الحد الأدنى للعطاء، وأما العطاء فلا حدود له، أنه يختص بالقلب الحنون العطوف الذي يعطي عن حب مهما كانت قيمة العطاء، دون أن يحاسب الله على ما يعطيه..

ولقد جاءت المسيحية فرفعت العطاء عن مستوى العشور. وقالت: "من له ثوبان، فليعط الذي ليس له". ولم تكتف بهذا، بل تطورت إلي العطاء بغير حدود. فقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس: "مَنْ سألك فأعطه. ومَنْ طلب منك، فلا ترده".

هكذا لم يقتصر العطاء على العشور والبكور والنذور.. بل بقى باب الكمال مفتوحًا لما هو أكثر من هذ . فعندما جاء الشاب الغني إلي السيد المسيح يستلهم منه معرفة الطريق الذي يوصله إلي الحياة الأبدية، أجابه بتلك الوصية الجميلة الخالدة..

"إن أردت أن تكون كاملًا، أذهب وبع كل مالك وأعطيه للفقراء، وتعال أتبعني".

هذه الوصية، نفذها القديس انطونيوس حرفيًا وبها أسس الحياة الرهبانية فباع ثلاثمائة فدان كان يملكها من أجود الأطيان، ووزع ثمنها على الفقراء، وعاش حياة الزهد والنسك..

وسير القديسين تحكي لنا صور عجيبة للعطاء..

فالقديس الأنبا سرابيون الناسك، رأى رجلًا فقيرًا، وإذ لم يكن له ما يعطيه، باع إنجيله وأعطاه ثمنه. وفي ذلك الوقت لم تكن هناك مطبوعات، وكان الإنجيل مخطوطة ثمينة.. ثم مر بعد ذلك فرأى فقيرًا آخر. وإذ لم يكن له شيء أخر يعطيه، خلع ثوبه وأعطاه له. ورجع إلي مسكنه بلا ثوب ولا إنجيل. فلما سأله تلميذه: (أين إنجيلك يا أبي؟)، أجابه: (كان هذا الإنجيل يقول لي: "اذهب بع كل مالك وأعطيه للفقراء" فبعته لأنه كان كل ما لي).. فقال له تلميذه: (وأين ثوبك؟) فأجابه: (خلعته ليلبسه المسيح..).

ولعل أجمل ما في العطاء، أن يعطى. الإنسان من أعوازه..

لأن الشخص الذي يعطى من أعوازه، إنما يفضل غيره على نفسه، بل يتعب لأجل إراحة غيره. وهذا هو منتهى الحب الذي فيه تزول الذاتية، وتحل في موضعها محبة الغير.. وقد مدح السيد المسيح الأرملة الفقيرة التي وضعت شيئًا ضئيلًا في الصندوق. وقال إنها أعطت أكثر من الجميع، لأنها أعطت وهي محتاجة..

إن القلب الحنون دائمًا يعطى. وإن لم يجد شيئًا يعطيه، فإنه يعطى كلمة حب..

و قد يوجد شخص يقترض لكي يعطى غيره. أو يطلب من الآخرين لكي يعطى للمحتاجين. ومن هنا نشأت الجمعيات الخيرية التي تجمع لتعطى..

ولكن أهم عطاء هو القلب ذاته. أعط الناس من قلبك، قبل أن تعطيهم من جيبك.

أعطهم عاطفة، قبل أن تعطيهم مالًا. أظهر لهم أنك شخص محب، وليس مجرد شخص محسن.. والعطاء الخالي من الحب يكون عملًا اجتماعيًا أو إداريا، ولكنه ليس عملًا روحيًا.

والقلب الحنون عندما يعطى، إنما يشعر أنه يتعامل مع الله ذاته:

من مال الله، يعطى عيال الله، دون أن يشعر بأي فضل من جهته.

هذا القلب العطوف يعطى للكل..

لا يقتصر على الأصدقاء والأحباء، وذوى القربى، وبنى جنسه، وأخوته في الدين والمذهب. كلا، بل يضع أمام عينيه أن يريح الكل، ويشفق على الكل. وبهذا يكسب الكل، ويحيط نفسه بجو من المحبة.

والقلب العطوف يعطى دون أن يطلب منه.

هو دائم التفكير في احتياجات الناس، دون أن يقولوا له.

يريد أن يريح الناس، يريد أن يسعدهم. وأن وضعت في يده مسئولية، يستخدمها لراحة الناس. وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أية إمكانية، فإنه يستخدمها لأجل راحة الناس، كل الناس.

والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام، إن سمع أن هناك شخصًا متعبًا أو محتاجًا. بل يظل يفكر ماذا يفعل لأجله.

لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذى أحدًا، لأنه يتألم لآلام الناس، أكثر من تألمهم هم.

Mary Naeem 17 - 09 - 2022 02:03 PM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
القلب المطمئن المملوء بالسلام


https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg


ما أعمق القلب الذي يعيش في سلام داخلي، يملك الهدوء عليه، وكل ضيقات العالم لا تزعجه.

إنه يستمد سلامه من الداخل، وليس من الظروف المحيطة.. لذلك فإن الظروف الخارجية لا تزعزعه.


حقاً، إنه ليس من صالح الإنسان أن يجعل سلامه يتوقف على سبب خارجى: إن اضطربت الأحوال يضطرب معها، وإن هدأت يهدأ. سبب خارجى يجعله يثور، وسبب يجعله يفرح، وسبب يبكيه، وسبب يبهجه.. مثل هذا يكون كما قال الشاعر:

كريشه في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق

الرجل القوى يجعل الظروف الخارجية تخضع لمشاعره، تخضع لقوة قلبه، ولحن تحكمه في انفعالاته. ولا يخضع هو لها..

إن حدث حادث معين، يتناوله في هدوء، يفحصه بفكر مستقر، ويبحث عن حل له. كل ذلك وهو متمالك لأعصابه، متحكم في انفعالاته. وبهذا ينتصر، ويكون أقوى من الأحداث، ويحتفظ بسلامه الداخلى.. وذلك لأن قلبه كان أكبر من الظروف وأقوى من الأحداث.. وما أصدق ذلك الكاتب الروحى الذي قال:

إن قطعة من الطين يمكنها أن تعكر كوباً من الماء، ولكنها لا تستطيع أن تعكر المحيط..
يأخذها المحيط، ويفرشها في أعماقه، ويقدم لك ماء رائقاً..

لذلك أيها القارئ العزيز، كن واسع القلب. كن رحب الصدر. كن عميقاً في داخلك. قل لنفسك في ثقة: أنا لا يمكن أن أضعف، ولا يمكن أن تنهار معنوياتى أمام الأخبار المثيرة، أو أمام الضغطات الخارجية. مهما حدث، فسأحاول أنى لا أنفعل. وإن انفعلت، سأحاول أن أسيطر على انفعالاتى.. سأبتسم للضيقات، وسأكون بشوشاً أمام الضغطات.. وسأثبت -بقوة من الله- حتى تمر العاصفة.
لا تفكر في الضيقة التي أصابتك، ولا في أضرارها ومتاعبها. بل فكر في إيجاد حل لها.

إن كثرة التفكير في الضيقة هي التي تحطم الأعصاب وتتعب النفس أحياناً يكون التفكير في الضيقة أشد إيلاماً للنفس من الضيقة ذاتها. إن التفكير في الضيقات هو الذي يجلب الأحزان والأمراض والهم والفكر. وهو لون من الانهيار ومن الخضوع تحت ثقل الضيقة.
أما التفكير في إيجاد حل للضيقة، فهو الذي يعمل على سلام النفس وراحتها.

ضع في نفسك أن كل ضيقة لها حل..

وكل ضيقة لها مدى زمنى معين تنتهى فيه.

فكر في حل لضيقتك، فإن وصلت إليه تستريح. وإن لم تصل، ثق بروح الإيمان أن الله هذه حلول كثيرة، وأنه – تبارك اسمه – قادر أن يعينك وأن يحل جميع إشكالاتك. وتذكر ضيقات سابقة قد حلها الله، ومرت بسلام.

واحذر من أن يوقعك الشيطان في اليأس، أو أن يصور لك الأمر معقداً لا حل له.. فإن الإنسان المؤمن لا ييأس.

المؤمن يعرف أن الله موجود، وانه إله رحيم، ورحمته غير محدودة، وهو ضابط الكل، والعالم كله في قبضة يديه.. وان الله يدبر كل شيء حسناً، ولا بد أنه سيتدخل ويعمل عملاً.. لذلك فإن المؤمن يستريح في أعماقه، ويلقى على الرب كل همه، ويستودعه جميع أشكالاته..

أما الذي يستسلم لليأس، فإنه يضيع نفسه. وقد يتصرف في يأسه أى تصرف خاطئ يكون أكثر ضراراً من المشكلة القائمة نفسها.

مثال ذلك الذي ييأس من مشاكل الحياة فينتحر.. أو مثال تلك الفتاة التي تخطئ، وتيأس من إيجاد حل لمشكلتها، فتستسلم للخطيئة وتضيع..

إن القلب القوى لا يستسلم للضيقات، والقلب الأقوى لا يشعر بالضيقة، لأنها لم تضايقه. وأتذكر أننى قلت في إحدى المرات:
إن الضيقة قد سميت ضيقة لأن القلب قد ضاق عن أن يتسع لها.

ولو كان القلب متسعاً، ما شعر أنها ضيقة. لو كان متسعاً، ما تضايق منها.. الضيق إذن قلا قلوبنا، وليس في العوامل الخارجية.. وإن تعكرنا نحن، تبدو أمامنا كل الأمور متعكرة وإن تعبنا في الداخل، تبدو أمامنا كل الأمور متعبة.. أليس حقاً أن أمراً من الأمور قد يضايق إنساناً ما، وفى نفس الوقت لا يتضايق منه إنسان آخر، هو نفس الأمر..
ليس المهم إذن في نوع الأحداث التي تحدث لنا، بل المهم بالأكثر هو الطريقة التي نتقبل بها الأحداث ونتصرف معها.

الإنسان القوى الذي يصمد أمام الاشكالات، يزداد قوة. والإنسان الضعيف الذي ينهار أمامها، يزداد ضعفاً. فالاشكالات، يزداد قوة. والإنسان الضعيف الذي ينهار أمامها، يزداد ضعفاً. فالاشكالات هي نفس الاشكالات.. ولكنها تقوى شخصاً وتزيده صلابة ومراساً وحنكة، وتضعف شخصاً أخر، وتزيده إنهياراً وخوراً وحزناً.
لذلك كونوا أقوياء من الداخل، وخذوا من الضيقات ما فيها من بركة، وليس ما فيها من ألم..

لقد سمح الله بالضيقات من أجل فائدتنا ونفعنا. وفى ذلك قال القديس يعقوب الرسول: "احسبوه كل فرح يا اخوتى حينما تقعون في تجارب متنوعة". إن المؤمن يشعر أن الله قد سمح له بالضيقة من أجل نفعه، لذلك يفرح بالضيقة.
وبهذا يقدم لنا الكتاب درجة روحية أعلى من احتمال الضيقات، وهى الفرح بالضيقات.. إن المسألة تحتاج إلى إيمان. لأنك ربما الضيقة فقط ولا ترى الخير الإلهى الكامن فيها..

إن هذا الخير لا تراه بالعين المادية، ولكنك تراه بالأيمان، بثقتك في عمل الله المحب وحسن رعايته.. مثال ذلك يوسف الصديق: أحاطت به التجارب والضيقات حتى اتهم اتهامات باطلة والقى في السجن. ولكن السجن كان طريقة إلى الملك إن أهل العالم قد تزعجهم التجارب، أما الإنسان المؤمن فهو ليس كذلك.

إن المتاعب قد تحيط به من الخارج، ولكنها لا تدخل مطلقاً إلى داخل نفسه..

إنه كالسفينة الكبيرة التي تمخر عباب المحيط، تضطرب الأمواج حولها، وهى سائر في رصانة نحو هدفها، طلما أن المياه أن تنفذ إلى داخلها..!! احذروا أيها الأحباء من أن تدخل المياه إلى أنفسكم.
واعلموا في كل ضيقة أن التجارب التي يسمح بها الله، لها شروط منها:
1- انها على قدر احتمالكم،
2- وأيضا كل تجربة معها المنفذ
3- وانها لابد تؤول إلى نفعكم، إن أحسنتم استخدامها.

إن الله في محبته للبشر، لا يسمح أن تحل تجربة بإنسان يكون احتمالها أكثر من طاقته. كل التجارب التي يسمح بها الله هي في حدود احتمالنا. والتجارب القوية، لا يسمح بها الله إلا للناس الأقوياء الذين يحتملونها..ما أجمل قول الكتاب: "ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة ايضاً المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوها " (1 كو 1. : 13).
4- والتجارب هي مدرسة للصلاة..

إنها تدرب الإنسان كيف يحنى ركبتيه أمام الله، وكيف يرفع قلبه قبل أن يرفع يديه، طالباً العون من الله، الذي هو معين من لا معين له ورجاء من لا رجاء له عزاء صغيرى القلوب، وميناء الذين في العاصف

Mary Naeem 17 - 09 - 2022 02:05 PM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
جحيم الرغبات


https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg http://upload.konozalsamaa.com/uploa...2661969171.jpg




أيُّها القارئ العزيز، لتكن رغبتك الأولى والعُظمى هى الحياة مع اللَّه. أمَّا باقي الرغبات فلتكن داخل هذه الرغبة العُظمى. واحذر من أن تعيش في جحيم الرغبات العالمية التي تستعبد مَن يخضع لها أو يسعى إليها.

بحث أحد الحكماء في أسباب السعادة والشقاء. فوصل إلى حقيقة عميقة في فهمها وهى: إن أهم سبب للشقاء هو وجود رغبة لم تتحقق: فقد يعيش الإنسان فقيراً. ويكون سعيداً في نفس الوقت. ولكن إن دخلت إلى قلبه رغبة في الغنى ولم تتحقق، حينئذ يتعب ويشقى. وأيضاً قد يكون الإنسان مريضاً وراضياً شاكراً، يُقابل الناس في بشاشة وابتهاج، لا يشقيه المرض. ولكن المريض الذي تدخل في قلبه رغبة في الشفاء ولم تتحقق فهذا بلا شك يتعب في رغبته.

إن رحلة الرغبات داخل القلب تتعبه وتضنيه، وترهقه وتُشقيه: إنه يشتاق، ويشقى في إشتياقه. يريد ويُجاهد ويتعب لكي يصل. ويلتمس الوسائل، فيُفكِّر ويُقابل ويكتب ويشكو، ويروح ويجيء، ويسعى ويتعب في سعيه.



وقد ينتظر طويلاً متى تتحق الرغبة، ويشقى في انتظاره. يصبر ويضيق صدره، ويمل ويضجر. ويدركه القلق حيناً، واليأس حيناً آخر. أو قد يتعبه الخوف من عدم الوصول إلى نتيجة. ورُبَّما يتعب من طياشة الفكر ومن أحلام اليقظة، أو من أن رغباته مُجرَّد آمال، مجرد قصور في الهواء، لا يراها إلا إذا أغمض عينيه! وقد ينتهي سعيه وتعبه إلى لا شيء. ويُحرم من رغبته التي يود تحقيقها، فيشقى بالحرمان.


وأخطر من هذا كله، فإن آماله وأغراضه قد تجنح به عن طريق الصواب. فتقوده إلى الخِداع، أو اللف والدوران، أو التذلُّف والتملق، أو الكذب أو الرياء، أو ما هو أبشع من كل هذا. وقد صدق أحد الحكماء حينما قال: " لابد أن ينحدر المرء يوماً إلى النفاق، إن كان في قلبه شيء يود أن يخفيه ".


والعجيب في هذه الرغبات الأرضية، أنها تُشقي الإنسان حتى إن تحققت! ذلك لأنها لا تقف عند حدٍّ ... فقد يعيش الأنسان في جحيم الرغبات زمناً. حتى إذا ما تحققت له رغبة، وفرح بها وقت ما، ما تلبس أن تقوده إلى رغبة أخرى، إلى خطوة أخرى في طريق الرغبات الذي لا ينتهي! إن الرغبات عندما تتحقق يلتذ بها، وتقوده اللذة إلى طلب المزيد. وللوصول إلى هذا المزيد، قد يجره إلى تعب جديد ... ويكون كمَن يشرب من ماء مالح، كُلَّما شرب منه يزداد عطشاً. وكُلَّما يزداد عطشاً يزداد اشتياقاً إلى الماء، في حلقة مفرغة لا يستريح فيها ولا يهدأ.

صاحب الرغبة يعيش في رُعب: إمَّا خوفاً من عدم تحقق رغبته. أو خوفاً من ضياعها إن كانت قد تحقَّقت.
ومن القصص اللطيفة في هذا المجال: أن رجلاً فقيراً لا يملُك شيئاً على الإطلاق، كان يعيش في منتهى السعادة. يضحك ملء فمه، ويُغنِّي من عُمق قلبه. وفي إحدى المرات رآه أحد الأمراء وأعجب به. فمنحه كيساً من الذهب. فأخذ الرجل الفقير كيس الذهب إلى بيته. وبدأت الآمال والرغبات تدخل إلى قلبه: أية سعادة سيبنيها بهذا المال! ثم لم يلبث الخوف أن ملك عليه، لئلا يسرق أحد منه هذا الذهب قبل أن يبني سعادته به. فقام وخبأ الكيس وجلس مفكَّراً. ثم قام وغيَّر المكان الذي أخفاه فيه. ثم حاول أن ينام ولم يستطع. وقام ليطمئن على الذهب... وفي تلك الليلة فقد سلامه. حتى قال لنفسه: " أقوم وأُعيد هذا الذهب إلى الأمير، وأنام سعيداً كما كنت ".
إن الإنسان قد يُقاد من رغباته. ورغباته تُمثِّل نقطة ضعف فيه، يقوده الناس منها ... وما أشقى الإنسان الذي تكون رغباته في أيدي الناس، في حوزتهم أو في سلطانهم أو في إرادتهم! وبإمكانهم أن يُحقِّقوها له. وبإمكانهم أن يحرموه منها. لذلك يعيش عبداً للناس. تتوقف سعادته على رضاهم.
لقد عاش النُّسَّاك في سعادة، زاهدين لا تتعبهم الرغبات ... هؤلاء قد ارتفعوا فوق مستوى الرغبات الأرضية. ولم تعُد لهم سوى رغبة واحدة مقدسة هى الحياة مع اللَّه والتَّمتُّع بعشرته. وهذه لا يستطيع أحد من الناس أن يحرمهم منها. وهكذا فإن سعادة الناسك الزاهد تنبع من داخله، من قلبه، من إحساسه بوجود اللَّه معه. وإذ تنبع سعادته من داخله، لا تصير تلك السعادة رهناً للظروف الخارجية، كما لا يتحكَّم الناس فيها.


حقاً أي شيء في العالم يُمكن أن تتعلَّق به رغبات الروحيين؟! لا شيء ... فليس في العالم سوى المادة والماديات، ومشتهيات الجسد والنفس ... أمَّا رغباتهم هم فتتعلَّق باللَّه وسمائه وبعالمالروح. لذلك ليس في العالم شيء يشتهونه. لو كان الذي يشتهونه في هذه الأرض، لتحولت الأرض إلى سماء. إن الروحيين أعلى من رغبات العالم وأسمى. العالم لا يعطيهم بل هم بركة للعالم. وبسببهم يرضى اللَّه على الأرض. إنهم نور للعالم يُبدِّد ظلماته. وهم بهجة للأرض ونعمة ... هؤلاء لا يعيشون مُطلقاً في جحيم الرغبات الأرضية.
ولقد تأملت في حياتي أحد هؤلاء الزاهدين المرتفعين عن مستوى الرغبات الأرضية، فناجيته بآبيات من الشعر قُلت فيها:

كل ما حولك صمت وسكون وهدوء يكشف السر المصون

هل ترى العالم إلاَّ تافهاً يشتهي المتعة فيه التافهون

هل ترى الآمال إلاَّ مجمراً يتلظَّى بلظاه الآملون

لست منهم. هُم جسوم بينما أنت روح فر من تلك السجون





نعم ما أجمل أن يعيش الإنسان سعيداً باللَّه. يمكن أن تكون له رغبات داخل محبة اللَّه. ولكن لا يُمكن أن تستعبده الرغبات. تكون الرغبات مُفتاحاً في يده، ولا تكون أغلالاً في يديه

Mary Naeem 17 - 09 - 2022 02:08 PM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
البابا شنودة الثالث

- يعيش خارج نفسه



إن نفسك أمانة في عنقك.
ستقدم عنها حسابًا في اليوم الأخير.
فاهتم بنفسك، واهتم بأبديتك، وحاذر من أن تعيش حياتك خارج نفسك.
فما أقسى أن يعيش الإنسان خارج نفسه.
هل فكرت أيها القارئ العزيز في أبديتك؟ أعنى في مصيرك الأبدي، في المكان الذي ستستقر فيه أخيرًا بعد رحلة هذا العمر؟ إنه سؤال خطير ينبغي أن تفكر فيه، وأن تعد حياتك كلها من أجله..

إن لك نفسًا واحدة إن ربحتها، ربحت كل شيء وإن خسرتها خسرت كل شيء.
ففكر في مصير هذه النفس، التي لا يوجد في هذا العالم كله ما هو أثمن منها. وفي ذلك قال السيد المسيح:
"ماذا يستفيد الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟‍! "
إن الشيطان مستعد أن يعطيك كل شيء، في مقابل أن يربح نفسك له.. هو مستعد أن يعطيك الغنى والشهرة والمجد واللذة، في مقابل أن يأخذ منك نفسك.. وكثير من الناس تغريهم أمثال هذه الأمور، فينسون أنفسهم..
كثير من الناس تغريهم أمور العالم الحاضر، حتى يصبح التفكير في الأبدية أمرًا ثقيلًا عليهم! تراهم يهربون من هذا الموضوع، ولا يحبون التحدث فيه، لأنه يزعج بهجتهم، ويعطل تمتعهم بالحياة.. ومع ذلك فهذا الموضوع حقيقة قائمة، الهرب منها لا يمنع وجودها..
والشيطان مستعد أن يشغل الإنسان بأي شيء، على شرط ألا يفكر في أبديته، وألا ينشغل بخلاص نفسه..
والشيطان مستعد أن يشغل الإنسان بأي شيء، لكي لا يضع أمام عينيه ذلك اليوم الرهيب الذي يقف فيه أمام منبر الله العادل، ليعطى حسابًا عما فعله في هذه الحياة الدنيا. نعم ذلك اليوم الرهيب، الذي تفتح فيه الأسفار، وتكشف الأعمال، وتعلن الأفكار والنيات..
ما أكثر المشغولين عن نفوسهم بأمور أخرى، لذلك هم يعيشون خارج نفوسهم..
قد جرفهم العالم بكل مشاغله ومشاكله، وبكل شهواته ونزواته، وبكل أخباره وأفكاره.. وإن فكروا في نفوسهم، فإنما يفكرون من حيث ارتباطها بأمور العالم، وليس من حيث ارتباطها بالأبدية..!
آمالهم وأحلامهم مركزة هنا، في هذا التراب، في أمجاد هذا العالم الزائل الذي قال عنه الكتاب إن "العالم يبيد، وشهوته معه". ويندر أن يفكر أحد منهم في العالم الآخر، في أمجاد السماء، في ذلك النعيم الأبدي الذي قال عنه بولس الرسول: "ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر ما أعده الله لمحبي اسمه القدوس"..
إننا نعيش في عالم مشغول.. عن خلاص نفسه.. ليس لديه وقت للتفكير في مصيره عالم تجرفه دوامة عنيفة في أبعاد سحيقة، خارج نفسه.. لذلك حسن قال الكتاب عن الابن الضال الذي تاب أخيرًا، إنه " رجع إلى نفسه"..
لقد نجح الشيطان في أن يشغلنا جميعًا، حتى لا يبقى لنا وقت للتفكير في أبديتنا.. بل إن استطاع واحد منا أن يهرب من مشغوليات العالم، لكي ينشغل بالله وحده، بأن يهدأ في البرية عابدًا ناسكًا مصليًا، مهتمًا بخلاص نفسه، مناجيًا الله طوال ليله ونهاره، مرتفعًا عن تفاهات العالم وأباطيله، نرى الشيطان يتهكم عليه ويقول: انظروا هذا الهارب من العالم!! هذا الخائف العاجز!! أية رسالة له؟ وأية منفعة؟! إن هدف الشيطان واضح: يريد أن يشغل هذا العابد أيضًا، أو هذا المصلى، حتى يرجع إلى مشاكل العالم ومشاغله..!
إن الشيطان يعدل خططه وأساليبه طبقًا للظروف ومقتضيات الحال..
كان يقنع الناس في القديم بأن الله هو تلك الأصنام والأوثان.. فلما فشل في ذلك الأمر، قدم للبشر فلسفات مضلة.. فلما فشلت تلك أيضًا، قدم لهم الشهوات واللذة حتى يغريهم بعيدًا عن الله.. فإن تنبه الناس لإغراءاته، يقدم لهم شيئًا آخر هو المشغولية الدائمة..
إنه لا يهمه نوع السلاح الذي يحارب به.. إنما المهم عنده أن يربح على كل حال قومًا.. فقد يحارب بهذا السلاح أو ذاك، أو بكل تلك الأسلحة جميعها، لكي يصل إلى هدف واحد، وهو أن ينفرد بالإنسان، بعيدًا عن الله، في متاهة.. خارج نفسه..
و إن اتجه الإنسان نحو الصلاح والخير، وعجز الشيطان عن إبعاده، يحاول حينئذ أن يجعل سعى الإنسان للخير خارج نفسه!.. فيدعو الناس للخير، دون أن يهتم بالسلوك فيه.
يكون كما قال أحد الآباء، كمن يشبه أجراس الكنائس، التي تدعو الناس إلى دخول الهياكل دون أن تدخل هي إليها.. أو كما قال أحد الاقتصاديين: يكون الخير عنده للتصدير الخارجي، وليس للاستهلاك المحلى..!
هذا الإنسان يتصل بالخير عن طريق المعرفة، وليس عن طريق الممارسة.
إنه يتحمس للخير لكي يسير فيه الناس، لا لكي يسير هو فيه. إنه يشبه ذلك الرجل الذي بكته الشاعر بقوله
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذوى الضعفى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
من أجل هذا الإنسان قال السيد المسيح له المجد: "أخرج أولًا الخشبة من عينك، قبل أن تخرج القذى من عين أخيك"..
إن كثيرين يهتمون بأخطاء غيرهم، دون أن يهتموا بأخطاء أنفسهم.
يتحمسون في مناقشة أخطاء الغير، كأنهم بلا أخطاء! يتأثرون بأخطاء الغير ويثورون عليها، كأنهم هم الذين سيحاسبون عليها في اليوم الأخير..! وأما أخطاؤهم هم فلا يبصرونها.. هم أمام أنفسهم ولا يصلحون لذلك، لأنهم يعيشون خارج أنفسهم! بل أن أخطاءهم ينسبونها إلى غيرهم، كما قال الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
أيها القارئ الكريم، اهتم بنفسك.. وقبل أن تفكر في أخطاء غيرك، جاهد لكي تصلح أخطاءك..
وقبل أن تطبق المثاليات على غيرك من الناس، طبقها على نفسك أولًا. وبدلًا من أن تكون واعظًا لسواك، كن عظة، كن قدوة، كن درسًا عمليًا، كن نموذجًا.. ولكن حاذر من أن تفعل الخير لكي تكون قدوة، وإلا عشت خارج نفسك. وإنما افعل الخير من أجل نفسك، لكي تكون نقيًا ومقبولًا أمام الله ومحبًا له..
وإن كنت قد عشت هذا الزمان كله خارج نفسك، ادخل الآن إليها، واكتشف خباياها، وأصلحها.. ولا تنشغل بأخطاء الناس، أو ما تظنها أخطاء، فربما تكون ظالمًا في ظنك.. ضع أمامك ذلك المثل المشهور الذي يقول:
" من كان بيته من زجاج، لا يقذف الناس بالحجارة".

Mary Naeem 17 - 09 - 2022 02:11 PM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
المحبة هي قمة الفضائل


https://upload.chjoy.com/uploads/166324653120291.jpg
المحبة هي الفضيلة الأولى بل هي جماع الفضائل كلها. وعندما سئل السيدالمسيح عن الوصية العظمى في الناموس، قال إنها المحبة" تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك.. وتحب قريبك كنفسك" " وبهذا يتعلق الناموس كله والأنبياء".

وقد جاء السيدالمسيح إلى العالم لكي ينشرالمحبة،المحبةالباذلةالمعطية،محبةاللهللناس،ومحب ةالناسلله،ومحبةالناس بعضهم لبعض. وهكذا قال لرسله القديسين: "بهذا يعلم الجميع أنكم تلاميذى، إن كان فيكم حب بعضكم نحو بعض".. وبهذا علمنا أن نحب الله، ونحب الخير.. ونطيع الله من أجل محبتنا له، ومحبتنا لوصاياه..

تربطنا بالله علاقة الحب، لا علاقة الخوف. إن الخوف يربى عبيدًا، أما الحب فيربى الأبناء، وقد نبدأ علاقتنا مع الله بالمخافة ولكنها يجب أن تسمو وتتطور حتى تصل إلى درجة الحب، وعندئذ يزول الخوف.

وفى إحدى المرات قال القديس العظيم الأنبا انطونيوس لتلاميذه: (يا أولادي، أنا لا أخاف الله). فلما تعجبوا قائلين: (هذا الكلام صعب يا أبانا)، حينئذ أجابهم القديس بقوله: (ذلك لأنني أحبه، والحب يطرح الخوف إلى خارج).

والإنسان الذي يصل إلى محبة الله، لا تقوى عليه الخطية. يحاربه الشياطين من الخارج، وتتحطم كل سهامهم على صخرة محبته. وقد قال الكتاب: "المحبة لا تسقط أبدًا". وقال سليمان الحكيم في سفر النشيد: "المحبة قوية كالموت.. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة". ولذلك قال القديس أوغسطينوس: (أحبب، وأفعل بعد ذلك ما تشاء)..

وقد بلغ من أهمية المحبة أنها سارت اسمًا لله. فقد قيل في الكتاب المقدس: "الله محبه، من يثبت في الله، والله فيه"..

إن المحبة هي قمة الفضائل جميعًا. هي أفضل من العلم، وأفضل جميع المواهب الروحية، وأفضل من الإيمان ومن الرجاء.. ولهذا قال بولس الرسول:

إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة، ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن، وإن كانت لي نبوءة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، وليست لي محبة، فلست شيئًا".

" العلم ينفخ، والمحبة تبنى".

إن الدين ليس ممارسات ولا شكليات ولا فروضًا، ولكنه حب.. وعلى قدر ما في قلب الإنسان من حب لله وحب للناس وحب للخير، هكذا يكون جزاؤه في اليوم الأخير..

إن الله لا تهمه أعمال الخير التي يفعلها الناس، إنما يهمه ما يوجد في تلك الأعمال من حب للخير ومن حب لله..

فهناك أشخاص يفعلون الخير ظاهرًا وليس من قلوبهم، وهناك أشخاص يفعلون الخير مجبرين من آخرين، أو بحكم القانون، أو خوفًا من الانتقام، أو خوفًا من العار، أو خجلًا من الناس.. وهناك أشخاص يفعلون الخير من أجل مجد ينالونه من الناس في صورة مديح أو إعجاب.. كل هؤلاء لا ينالون أجرًا إلا إن كان الحب هو دافعهم إلى الخير..

لذلك ينبغي أن نخطط بكل فضيلة بالحب، ونعالج كل أمر بالحب، يكون الحب دافعنا، ويكون الحب وسيلتنا، ويكون الحب غايتنا ). ونضع أمامنا قول الكتاب: "لتصر كل أموركم في محبة".

+ تدخل الحب في كل الفضائل:

كما ينبغي أن يدخل الاتضاع في كل فضيلة لكي يحفظها من الزهو والخيلاء والمجد الباطل، كذلك ينبغي أن يدخل الحب في كل فضيلة لكي يعطيها عمقًا ومعنى وحرارة روحية.. ولنضرب لذلك بضعة أمثلة..

الصلاة مثلًا، هل هي مجرد حديث مع الله؟ إنها أكبر من ذلك، إنها اشتياق القلب لله، وهى تعبير عن الحب الداخلي..

لذلك قال داود النبي في مزاميره: "يا الله أنت إلهي، عطشت نفسي إليك التحقت نفسي وراءك.. كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه، كذلك اشتاقت نفسي إليك يا الله.. محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي". "وجدت كلامك كالشهد فأكلته"..

والذهاب إلى بيت الله، أهو نوع من العبادة، أم هو أيضًا حب؟ نسأل في هذا داود النبي، فيقول في مزاميره: "مساكنك محبوبة، أيها الرب إله القوات. تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب". "فرحت بالقائلين لي: إلى بيت الرب نذهب".. "واحدة طلبت من الرب، وإياها التمس، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي..".

ليست الصلاة فقط هي علاقة حب، ولا الذهاب إلى بيت الله فحسب، وإنما العبادة كلها.. إن العبادة ليست هي حركة الشفتين بل القلب، إنها حركة القلب نحو الله. إنها استبدال شهوة بشهوة: ترك لشهوة العالم، من أجل التعلق بشهوة الله..

كذلك خدمة الله، والسعي لخلاص أنفس الناس.. كلها أعمال حب.. الخادم هو الإنسان الذي يحب الناس، ويهتم بمصيرهم الأبدي، ويسعى إلى خلاص نفوسهم. إنه كالشمعة التي تذوب لكي تضئ للآخرين، يقول مع بولس الرسول: "وددت لو أكون أنا نفسي مرفوضًا، من أجل أخوتي وأنسبائي حسب الجسد".. "من يفتر وأنا لا ألتهب؟!".

لذلك كل إنسان يخدم الله، عليه أن يتعلم الحب أولًا، قبل أن يخدم الناس.. فالناس يحتاجون إلى قلب واسع، يحس إحساسهم، ويشعر بهم ويتألم لآلامهم، ويفرح لأفراحهم، ويحتمل ضعفاتهم، ولا يحتقر سقطاتهم، بل أيضًا يحتاجون إلى قلب يحتمل جحودهم وصدودهم وعدم اكتراثهم. وبالحب نستطيع أن نربح الناس..

والإنسان الذي يعيش بالحب، عليه أن يحب الكل. إن القلب الضيق هو الذي يحب محبته فقط، أما القلب الواسع فيحب الجميع حتى أعداءه.

ولهذا قال السيدالمسيح له المجد: "أحبو أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وأعطانا مثلًا وقدوة من الله نفسه الذي: "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين".

لذلك علينا أن نحب الكل، ولا نضيق بأحد ونأخذ درسًا حتى من الطبيعة.. نتعلم من النهر الذي يعطى ماءه للكل، يشرب منه القديس، كما يشرب منه الخاطئ.. انظروا إلى الوردة كيف تعطى عبيرها لكل من يعبر بها، يتمتع برائحتها البار والفاسق، حتى الذي يقطفها، ويفركها بين يديه، تظل تمنحه عطرها حتى آخر لحظة من حياتها..

ليتنا نعيش معًا بالحب، وأقصد به الحب العملي، كما قال الكتاب: "لا نحب باللسان ولا بالكلام، بل بالعمل والحق".. لأن كثيرين قد يتحدثون عن الحب، وأعمالهم تكذبهم، هؤلاء الذين وبخهم الله بقوله: "هذا الشعب يعبدني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا"..

وأهم ما في الحب هو البذل، وأعظم ما في البذل هو بذل الذات.. لذلك قال السيدالمسيح: "ليس حب أعظم من هذا، أن يبذل أحد نفسه عن أحبائه". فلنحب الناس جميعًا، لأن القلب الخالي من الحب، هو خال من عمل الله فيه، هو قلب لا يسكنه الله.

وإن لم نستطع أن نحب إيجابيًا فعلى الأقل لا نكره أحدًا. فالقلب الذي توجد فيه الكراهية والحقد هو مسكن للشيطان..

إن لم نستطع أن نحب الناس، فعلى الأقل لا نكرههم، وإن لم نستطع أن ننفع الناس، فعلى الأقل لا نؤذيهم..

فليعطنا الله محب البشر، الذي أحب الكل في عمق، أن نحب بعضنا بعضًا، بالمحبة التي يسكبها الله في قلوبنا، له المجد الدائم إلى الأبد. آمين

Mary Naeem 17 - 09 - 2022 02:13 PM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
البابا شنودة الثالث


- كيف تحب الناس ويحبك الناس؟

هناك قواعد هامة، عليك أن تتبعها لكي تكسب محبة الناس، ونحاول هنا أن نعرض لبعض منها.
1- ضع هدفًا واضحًا أمامك، أن تكسب محبة الناس، حتى لو أدى الأمر أن تضحى في سبيل ذلك..
هناك أشخاص يهمهم ذواتهم فقط، ولا يهتمون بالآخرين. لا يبالون إن غضب فلان أو رضى. أما أنت فاحرص على شعور كل أحد، وحاول أن تكسب كل أحد، لأن الكتاب يقول: "رابح النفوس حكيم". وإن عرفت أن واحدًا من الناس متضايق منك، فلا يهدأ قلبك حتى ترضيه. اجعل كل أحد يحبك، وكما قال الكتاب: "أن استطعتم فعلى قدر طاقتكم سالموا جميع الناس". لذلك قدم للناس محبتك، واكتسب محبتهم، واعتبر أن محبة الناس كنز ثمين يجب أن تحرص عليه.
2- وفي سبيل محبة الناس، احترم كل أحد، حتى من هو أصغر منك وأقل شأنًا.
كثير من الناس يحترمون من هم أكبر منهم أو من هم أعظم مركزًا، ولكنهم يتجاهلون من هم أقل منهم، وبهذا يخسرون الكثير. أما أنت فتدرب على احترام الكل وتوقير الكل. لا تقل كلمة فيها إقلال من شأن أحد، أو جرح لشعور إنسان. ولا تعامل أحدًا باستصغار أو باحتقار، ولا تتجاهل أحدًا مهما كان مجهولًا. درب نفسك على عبارات تقدير وتوقير بالنسبة إلى أولادك أو أخوتك الصغار أو مرؤوسيك أو خدمك..

واعلم أن أمثال هذه العبارات سوف لا تنسى، سيتذكرها أولئك الصغار طول العمر، وسترفع من روحهم المعنوية، وستجعلهم يحبونك. إن كثيرًا من الكبار ينسون احترامك لهم لأنه شيء عادى بالنسبة إليهم. أما الصغار فلا ينسون. احترامك لهم عمل باق لا يضيع. واعرف أن الله لا يحتقرنا على الرغم من الفارق اللانهائي بين عظمته وضآلتنا، والله مع ذلك يتنازل ويكلمنا، ويتضع مستمعًا إلينا ساعيًا لخلاص أنفسنا.
3- لذلك فإن تواضعك للناس هو عامل هام في كسب محبتهم لك.
لا تكلم أحدًا من فوق، ولا تتعال على أحد، بل عامل الكل باتضاع، فإن الناس يحبون المتضعين. إن كان لك مركز كبير، إنس مركزك، وعش مع الناس كواحد منهم. لا تشعرهم بفارق..
في إحدى المرات سألني أحد الآباء نصيحة، فقلت له: (كن ابنًا وسط أخوتك، وكن أخًا وسط أبنائك) ذلك لأن الاتضاع يستطيع أن يفتح حتى القلوب المغلقة والناس قد يخافون من هو عال وكبير بينهم، ولكنهم يحبون من ينسي مركزه في محبتهم. أكتسب أذن محبة الناس لك لا خوفهم منك. ولا يكن هدفك أن يهابك الناس وإنما أن يحبوك. لا تطلب أن تكون فوق رؤوسهم، وإنما أطلب أن تكون داخل قلوبهم.
ولا تظن أن تواضعك للناس، يقلل من شأنك، بل على العكس إنه يرفعك أكثر.. تذكر قول الشيخ الروحاني: (في كل موضع حللت فيه، كن صغير أخوتك وخديمهم).. وقد قال السيد المسيح: "من وضع نفسه يرتفع، ومن رفع نفسه يتضع".. وما أجمل تلك النصيحة التي وجهها الشيوخ الحكماء لرحبعام الملك ابن سليمان الحكيم حينما قالوا له: "إن صرت اليوم عبدًا لهذا الشعب، وأحببتهم وخدمتهم، يكونوا لك عبيدًا كل الأيام"..
4- إن أردت أن يحبك الناس، اخدمهم، وساعدهم، وابذل نفسك عنهم.. أشعرهم بمحبتك بما تقدمه لهم من معونة ومن عطاء ومن بذل. أن الذين يحبون ذواتهم، يريدون باستمرار أن يأخذوا وأن ينالوا وأن يكسبوا. أما أنت فلا تكن كذلك. درب نفسك على البذل والعطاء. لتكن علاقتك بالناس تهدف إلى مصلحتهم هم لا إلى مصلحتك أنت. انظر كيف تريحهم، وكيف تجلب السرور إلى قلوبهم، وتدخل الفرح إلى حياتهم.. بهذا يحبونك..
إن أكثر إنسان مكروه هو الشخص الأناني، وأكثر إنسان محبوب هو الشخص الخدوم، الباذل المعطى.
لا تظن أن الطفل هو فقط الذي تعطيه فيحبك، بل حتى الكبير أيضًا.. الله نفسه علاقته مع الناس علاقة إعطاء وبذل، وكذلك الرسل.. الأم محبوبة جدًا لأنها باستمرار تعطى وتبذل..
وإن لم يكن لك شيء تعطيه للناس، أعطهم ابتسامة لطيفة وكلمة طيبة. أعطهم حبًا، أعطهم حنانًا أعطهم كلمة تشجيع.. أعطهم قلبك.. أظهر لهم أنك تريد، وأنك مستعد، لكل تضحية من أجلهم..
5- و إن أردت أن يحبك الناس، قابلهم ببشاشة ولطف..
إن الشخص البشوش شخص محبوب.. الناس أيضًا يحبون الإنسان المرح والإنسان اللطيف، والإنسان الذي ينسيهم آلامهم ومتاعبهم بكلامه العذب وشخصيته المريحة.. لذلك حاول باستمرار أن تكون بشوشًا.. حتى في عمق متاعبك وضيقاتك إنس متاعبك لأجل الناس..
لا تكلم أحد وأنت مقطب الوجه صارم الملامح، إلا في الضرورة الحتمية لأجل الصالح. أما في غير ذلك فكن لطيفًا..
كلم الناس بكل أدب وذوق، لا تعبس وجهك..
6- إن أردت أن تكسب محبة الناس، لا تكن كثير الانتهار، أو كثير التوبيخ.. إن الكلمة القاسية موجعة تتعب الناس. والكلمة الجارحة قد تضيع المحبة وتبددها، فلا تكن كثير الانتهار.. إن أردت أن توجه لومًا أو نصيحة، فليكن ذلك بهدوء ووداعة وفي غير غلظة. ولا تشعر الناس بكثرة توبيخك أنك تكرههم. وإن أردت أن تقول كلمة توبيخ، فلتسبقها عبارة تقدير أو عبارة مديح أو مقدمة لطيفة تمهد الجو لقبول التوبيخ. أو على الأقل تخير الألفاظ في توبيخك فلا يكن جارحًا مهينًا، ولا يكن أمام الناس حتى لا يشعر من توبخه بالذل والخزي.. كذلك لا توبخ على كل صغيرة وكبيرة وإنما على الأمور الهامة فقط، إذ لا يوجد إنسان يخلو من الزلل. ويمكنك أن توجه الناس دون أن تجرحهم. ولا توبخ كل أحد، لأن سليمان الحكيم يقول: "وبخ حكيمًا يحبك، وبخ مستهزئًا يبغضك"..
وإذا انتقدت فلا تكن قاسيًا في نقدك، إنما تكلم عن النقط الحسنة قبل أن تذكر السيئة. إذا انتقدت أحدًا لا تحطمه بل كن رفيقًا به. وليكن هدف النقد هو البناء وليس الهدم..
7- وإن أردت أن يحبك الناس، دافع عنهم، وامدحهم..
حساس جدًا هو القلب المسكين الذي يجد الكل ضده، ووسط هؤلاء يعثر على إنسان يدافع عنه. إنه يهبه كل قلبه.. لذلك دافع عن الناس، وبخاصة من تجده في مأزق أو من تجد الضغط شديدًا عليه، أو من تراه مظلومًا أو في حاجة إلى من يدافع عنه..
وفى تعاملك مع الناس تذكر حسناتهم وانس سيئاتهم. وتأكد أن كل إنسان مهما كانت حياته مظلمة، لا بد ستجد فيه بعض نقط بيضاء تستوجب المديح.. ابحث عن هذه النقط البيضاء وامتدحها وأبرزها واظهر له أنك تعرفها وتقدرها. عندئذ سيحبك ويكون مستعدًا لقبول توجيهك أو توبيخك بعد أن أظهرت له حبك..
لتكن ألفاظك بيضاء، حاول أن تكثر من ألفاظ المديح لمن يستحقها.. لا تكن شتامًا، ولا هدامًا، ولا مستهزئًا، ولا متهكمًا على الآخرين.. اضحك مع الناس، ولكن لا تضحك على الناس. اشعر كل أحد بتقديرك له، وأعلن هذا التقدير أمام الكل.. استفد من الخير الذي في الناس قبل أن تنقد الشر الذي فيهم. اعتبر أن الشر الذي في الناس دخيل عليهم، وواجِبك أن تنقذهم منه لا أن تحطمهم بسببه.
8- وإن أردت أن يحبك الناس فلتكن إنسانًا فاضلًا فيه الصفات المحببة إلى الناس.
لا تظن أن الناس يحبون عبثًا أو بلا مقابل، بل يحبون الشخص الذي تتركز فيه الصفات التي يحبونها.. يحبون الإنسان القديس، والإنسان الشجاع والإنسان الناجح والإنسان الذكي.. فلتكن فيك صفات جميلة.. عندئذ سيحبك الناس بسببها.. لذلك إن أردت أن يحبك الناس قوم نفسك أولًا..
أصلح العيوب التي فيك التي يكرهها الناس، عندئذ يحبك الناس..
إن واجهك أحد بعيب فلا تغضب، بل اختبر نفسك جيدًا فربما يوجد هذا العيب فيك. حينئذ اشكر من وجهك إليه ولا تحزن منه..
9- و إن أردت أن يحبك الناس، احتمل الناس.
لا تنتقم لنفسك، ولا تقابل السيئة بمثلها، ولا تغضب على مَنْ يسئ إليك.. كل إنسان له ضعفات فاحتمل الناس. لا تتضايق بسرعة، ولا تخسر الناس بسبب أخطائهم، بل اغفر لكل من يخطئ إليك.. وعندما يرجع لنفسه ويذكر احتمالك له ستزداد محبته لك.. وحتى الذين لا يرجعون لا تخسرهم أيضًا بل اذكر قول القديس يوحنا ذهبي الفم حينما قال: (مَنْ لا توفقك صداقته، فلا تتخذه لك عدوًا).
10- و إن أردت أن يحبك الناس كن مخلصًا لهم، وكن حكيمًا في إخلاصك.
عامل الناس بكل إخلاص، واحذر من أن تكون محبتك لهم ضارة بهم. بل لتكن محبتك في حكمة استخدم المديح ولكن لا تستخدم التملق ولا الرياء. واستخدم الحنو، ولكن ابعد عن التدليل الضار.. كن مخلصًا في حبك للناس، هدفك صالحهم وليس مجرد أن يحبوك.
والله المحب قادر أن يسكب المحبة في قلوبنا جميعًا لنحب بعضنا بعضًا كما أحبنا هو في قلبه الواسع الكبير.

Mary Naeem 01 - 10 - 2022 10:27 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166456217489361.jpg



البابا شنودة الثالث




- الأسرة السعيدة يجمعها الفهم والحب


إن أول علاقة ينشئها الإنسان في حياته هي علاقته بأمه، ثم علاقته بأبيه. لولاهما ما كان له وجود، ولولاهما ما بقى كما هو الآن. إن أقل غلطة تقع فيها الأم أو يقع فيها الأب من جهة تربية الابن والحفاظ عليه، كافية لتغيير مصير هذا الابن وخط سيره في الحياة. لذلك من أول الواجبات على الأبناء، العرفان بجميل الوالدين.
من أجل هذا أمر الله بمحبة الوالدين وطاعتهما واحترامهما. وأن وصية إكرام الوالدين هي أولى الوصايا الخاصة بالعلاقات البشرية التي كتبت ضمن الوصايا العشر، وسلمت إلينا على يد موسى النبي.

ما أقسى على قلب الأم أن تتعب دهرًا طويلًا من أجل وليدها، حتى إذا شب وكبر، يتنكر لها وكأنه لا يعرفها..إن الإنسان الذي يخون أمه وينسى محبتها، من الصعب أن يخلص لأحد من الناس.. حتى إن كان للأم أخطاء حالية، فلا يصح أن ننسى لها تعبها القديم كله.. إن شيئًا من الحب ومن العطف ومن الاحترام نقابلها به، يكفى جدًا لأن يذيب مشاعرها، فتقابله بالتجاوب السريع..
إن محبة الوالدين غريزة فينا، لذلك فالخروج عنها هو نوع من الشذوذ، ضد طبيعتنا. أنها فضيلة لا نبذل في سبيل اقتنائها شيئًا من الجهد.. لذلك كانت عقوبة الابن العاق شديدة جدًا. لذلك يقول الكتاب: "ملعون من يستخف بأبيه وأمه". وجاء في أمثال سليمان الحكيم: "العين المستهزئة بأبيها، والمحتقرة إطاعة أمها، تقورها غربان الوادي، وتأكلها فراخ النسر"..
وهناك وسائل كثيرة لإكرام الوالدين، نذكر من بينها النجاح في الحياة. لا شك أن الابن الناجح يفرح قلب أمه، ويرفع رأس أبيه. بينما الابن الفاشل أو الجاهل هو مرارة قلب لأبيه وأمه، وسبب خزي وعار لكليهما. لذلك فإن نجاح الابن يعد من أعظم الهدايا التي يقدمها لوالديه. أما إن كان فاشلًا في حياته، فإن أباه لا يعرف أين يخفى وجهه.. إن أوغسطينوس في فترة ضلاله كان مصدر ينبوع دموع مرة لأمه القديسة مونيكا.
ومن مظاهر إكرام الوالدين الاهتمام بهما وأعالتهما وبخاصة في حالات الشيخوخة والمرض والاحتياج.
قرأت قصة مؤداها انه في إحدى المرات غزا جيش الأعداء بلدًا من البلاد وقتل الجنود كل من فيها. وكان في تلك البلدة شابان على معرفة بقائد الجيش الذي غزا المدينة، وكانا قد فعلا معه جميلًا من قبل، أراد أن يرده لهما. فقال لهما: (أحملا أثمن ما عندكما، واهربا من البلد بسرعة، وأنا أضمن سلامتكما). فدخل الشابان إلى بيتهما ليحملا أثمن ما عندهما. فحمل أحد الشابين أباه، وحمل الآخر أمه، وتركا المدينة..
ومن إكرام الوالدين أيضًا المحبة والاحترام، على أن يكون هذا الحب عمليًا أيضًا، فيعمل الابن على إراحة والديه، وكسب رضائهما، ونوال بركتهما يظهر لهما محبته باستمرار. ويظل هكذا حتى بعد موتهما، يحفظ وصية كل منهما، ويقيم الصلوات من أجلهما.
ولا يصح أن يعامل الابن أبويه بنفس المستوى، كلمة بكلمة، وغضبة بغضبة، ونقدًا بنقد. إن من حقهما أن يوبخاه، ومن واجبه أن يسمع دون أن يرد. بل يحاول الاستفادة من توبيخهما، متذكرًا قول الكتاب: "أمينة هي جراح المحب، وغاشية هي قبلات العدو".
ومن علامات احترام الوالدين خدمتهما في كل ما يحتاجان إليه، دون أن يطلبا ذلك. بل على الابن أن يكون حساسًا جدًا من هذه الناحية، يدرك ما يلزم والديه فيحضره لهما دون أن يضطرهما إلى الطلب. عندما دخلت أم سليمان الملك لتزوره، قام عن عرشه، وسجد لها إلى الأرض، وأحضر كرسيًا وأجلسها بجواره..
وعلامات احترام الوالدين عدم الخجل من مركزهما إن كانا فقيرين. إن يوسف الصديق عندما كان نائب فرعون في مصر ووزيره الأول. لم يستح من والده يعقوب وكان راعيًا للغنم، فقدمه للملك وأكرمه فرعون من أجله.. من الخطأ أيضًا أن يظن ابن أن والده من جيل قديم عفا عليه الزمن، أو من عصر بال وتقاليد متأخرة..
ومن علامات إكرام الوالدين الطاعة والخضوع. على أن تكون طاعة حقيقية صادرة من القلب، وطاعة سريعة بدون تأخر، وطاعة بغير تذمر، وإنما برضى وثقة، وطاعة حتى في غيابهما، وطاعة بغير خداع. وتكون أيضًا طاعة صادقة وليست طاعة شكلية..
إذ قد يوجد ابن يريد أن يطيع والديه شكليًا. فإن رفضا له طلبًا، يظل يضغط ويلح، ويضغط ويلح وقد يتضايق وقد يحزن، ويظل هكذا حتى يحصل على موافقتهما.. وينفذ ما يشاء ويفتخر بأنه لم يخالف والديه مطلقًا، وهو يعلم تمامًا أن موافقتهما شكلية تمت بالضغط من جانبه، وإنها مجرد موافقة لسان وليست موافقة قلب. حقًا إن هذا الابن قد أطاع من جهة المظهر لكنه لم ينل رضى والديه ولم يرح قلبهما في تصرفه..
على أن من شروط طاعة الابن لوالديه أن تكون طاعة مقدسة في حدود وصايا الله.. ولا يصح أن يطيع أبًا أو أمًا فيما يخالف وصايا الله، ولا يطيع والدًا منحرفًا يبعده عن طريق الرب، لأن الطاعة لله أولى. وكما قال الكتاب: "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس".
كن طائعًا خاضعًا في كل شيء، بكل اتضاع حتى الموت من أجل والديك.. أنكر ذاتك وأنكر مشيئتك، وأنكر كرامتك.. ولكن لا تنكر ضميرك..
لأجل هذا يجب على الوالدين أن يكونا دقيقين ورقيقين في أوامرهما. كل أمر يصدر منهما للأبناء يجب أن يكون مملوءًا بالحكمة، وموافقًا لكلام الله، وفي حدود إمكانيات الابن في التنفيذ. أن وصية الله التي تقول لنا: "أيها الأبناء، أطيعوا آباءكم في الرب"، تقول أيضًا: "أيها الآباء، لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا".
ولا يصح أن نأخذ نصف الحقيقة، وننسى النصف الآخر. ويجب أن نعلم أن كل حق يقابله واجب. من حق الأب أن يطاع، ومن واجبه أن يأمر بما يليق، ويراعى شعور ابنه.. وكذلك الأم..
إن الأم التي توقع ابنها في حيرة وإشكال: أيهما أولى بالإرضاء، أمه أو زوجته؟! هي أم قاسية على ابنها. وأن كانت تحبه، فلا داعي إلى إحراجه بخصامها مع زوجته.. ترفقوا ببنيكم، لئلا يفشلوا..
نعود إلى إكرام الوالدين، فنقول إن هذه الوصية يمكن أن تتسع فوق نطاق القرابة الجسدية.
فهناك أنواع كثيرة من الأبوة والأمومة يجب إكرامها. هناك نوع من القرابات في مستوى الأبوة والأمومة كالعم والخال مثلًا والعمة والخالة. وهناك أبوة السن أعنى إكرام الكبار الذين هم في سن الوالدين. وهناك الأبوة الروحية كالمعلم والكاهن والمرشد الروحي وأب الاعتراف وكالآباء القديسين في تاريخنا. وهناك أبوة المركز ويدخل في نطاقها طاعة الرؤساء.. وفوق الكل هناك أبوة الله لنا.
وهناك أيضًا أبوة الوطن فكلنا أبناء لمصر، كلنا أبناء للنيل. كلنا أبناء لوطننا العزيز الذي يجب أن نكرمه في عيد الأسرة وفي كل حين.

Mary Naeem 01 - 10 - 2022 10:31 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
البابا شنودة الثالث

فلسفة الأخذ والعطاء






هل نحن في حياتنا نأخذ أم نعطى؟ أم نحن نأخذ ونعطى، أم نأخذ ولا نعطى؟ لسنا نستطيع أن نفهم كل هذا، ما لم ندرك في عمق: ما هي فلسفة الأخذ والعطاء.

كلنا في الحياة نأخذ ونعطى.. وسعيد هو الإنسان الذي مهما أعطى، يشعر أنه يأخذ أكثر مما يعطى، أو لا يشعر إطلاقًا أنه يعطى..

مسكين ذلك الشخص الذي يظن أنه لا يأخذ شيئًا، أو الذي لا يحس ما قد أخذه.. إنه يعيش تعيسًا في الحياة، شاعرًا بالظلم، وشاعرًا بالعوز، ويقضى عمره في التذمر وفي الضجر وفي الشكوى، وفى الافتقار إلى الحب.


واحد فقط، يعطى باستمرار دون أن يأخذ من أحد، إنه الله. والله وحده يعطى الكل، ولا يأخذ من أحد شيئًا.. لأنه لا يحتاج إلى شيء، فهو مكتف بذاته، كامل في كل شيء، يملك كل شيء، ولا يوجد عند أحد شيء يعطيه لله..

ولكن لعل البعض يسأل: ألسنا في الصلاة نعطى الله وقتًا، ونعطيه قلبًا، ونعطيه حبًا؟‍! كلا، ليس هذا هو المفهوم الحقيقي للصلاة. إننا عندما نصلى، إنما نأخذ من الله نعمة، ونأخذ منه بركة، ونأخذ منه كافة احتياجاتنا الروحية والمادية.. بل نأخذ أيضًا لذة التخاطب معه، ولذة الوجود في عشرته الإلهية..

إن الذي يظن أنه يعطى الله وقتًا، ويعطيه ركوعًا وتسبيحًا وتمجيدًا، ما أسهل عليه أن يمتنع أحيانًا عن الصلاة محتجًا بأن ليس له وقت ليعطيه!

وما أسهل على هذا الإنسان أن يجدف على الله الذي يطالبه بكل هذا التسبيح والتمجيد!! والذي يفرض عليه كل هذه الفروض! وما أسهل على هذا الإنسان أن يحتج بأنه ليست لديه صحة للصوم، وليست لديه رغبة للتعبد، وليس لديه وقت للصلاة.. وأن قام بمثل هذه العبادة، يقوم بها بطريقة حرفية آلية لا روح فيها.

الواقع إننا نصلى لأننا محتاجون إلى الله، لذلك نبسط إليه أيدينا إشارة إلى أخذنا منه.. إن أفواهنا تتقدس عندما تلفظ اسمه القدوس، وقلوبنا تبتهج بعشرته وإنه لتواضع كبير من الله أن يسمح لنا بمخاطبته، ومنه عظيمة منه أن يوقفنا أمامه. لذلك في كل مرة نقف للصلاة، ينبغي أن نشكره -تبارك اسمه- على هذا التفضل والتواضع.

وعندما يقول الله: "يا ابني أعطني قلبك"، إنما يقصد: أعطني هذا القلب لأملأه بركة وحبًا وطهارة. أعطني هذا القلب لكي أقدسه وأنقيه وأغسله من جميع أقذاره، وأرفعه عن مستواه الأرضي لكي أجلسه في السماويات، وأريه مجدي..

لذلك في كل مرة نذهب فيها للصلاة، ينبغي أن نشعر بأننا نأخذ ولا نعطى، وإنها بركة لنا وليست فرضًا علينا.

هذا من جهة الله، وأما من جهة الناس، فإنني أسأل: أترانا حقًا نعطيهم شيئًا مهما كنا محبين وكرماء؟

نحن لا نملك شيئًا لنعطيه. كل الذي لنا هو ملك لله، استودعنا إياه، وقد أخذناه منه لنعطيه لغيرنا كل ما نتبرع به لمشروعات الخير، إنما نقول عنه لله ما سبق أن قاله داود النبي: "من يدك أعطيناك". تمامًا كالابن الصغير الذي يقدم هدية في عيد الأسرة لأبيه أو أمه، ومنهما قد أخذ المال الذي اشترى به هذه الهدية..

إن الله قد أعطانا اليد التي تعطى، وأعطانا الخير الذي نعطى منه، بل قد أعطانا أيضًا محبة العطاء..

نعم، حتى موهبة العطاء قد أخذناها منه. هذه الفضيلة، فضيلة العطاء، قد تفضل الله فأنعم بها علينا.. هي جزء من عمله فينا، وجزء من مؤازرة نعمته لنا. لأن كل موهبة صالحة، هي نازلة من فوق، من عند الله..

كل شيء نعطيه سنجده في الأبدية، وسنأخذ أكثر منه بكثير. وسنرى أن المكافأة في السماء أغزر وأوفر. فالشيء الذي نعطيه، أو الذي يعطيه الله عن طريقنا، هو محجوز لنا فوق، لم يضع.. في الواقع أننا لم نعطه، وإنما ادخرناه! فأين العطاء إذن؟!

إننا نعطى الفانيات ونأخذ الباقيات، نعطى الأرضيات ونأخذ السماويات. نعطى المادة ونأخذ البركة. لا شك أننا نأخذ أكثر مما نعطى..

لذلك أيها القارئ العزيز، عوِّد نفسك على العطاء. فقد قال الكتاب: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ".

أعط بفرح وليس بتضايق لأن الكتاب يقول: "المعطى بسرور يحبه الرب". وأعط عن حب وعن عاطفة. وأعط بوفرة وبكرم أعط وأنت موسر، وأعط وأنت معوز، فالذي يعطى من أعوازه، يكون أعظم بكثير ممن يعطون من سعة. وأجره أكبر في السماء.

وإن لم يكن لك ما تعطيه، أعط ابتسامة طيبة، أو كلمة تشجيع، أو عبارة تفرح قلب غيرك. ولا تظن أن هذا العطاء المعنوي أقل من العطاء المادي في شيء، بل أحيانًا يكون أعمق منه أثرًا، ولكن حذار أن تكتفي بالعطاء المعنوي إن كان بإمكانك أن تعطى المادة أيضًا.

واشعر -عندما تعطي- أنك تأخذ. إن السعادة التي يشعر بها قلبك حينما يحقق سعادة لغيره، هي شيء كبير أسمى من أن يقتنى بالمال.. إن راحة الضمير التي تأخذها، وفرحة القلب برضى الناس، كلها أمور أسمى من المادة قد أخذتها وأنت تعطى.. وستأخذ أعظم منها في السماء.

وعندما تعطى لا تحقق كثيرًا مع الذي تعطيه. وإلا كانت منزلتك هي منزلة قاض لا عابد.. لا تحقق كثيرًا لئلا تخجل الذي تعطيه، وتريق ماء وجهه. أعطه دون أن تشعره بأنه يأخذ.. حسن إنك قد أعطيته حاجته، أعطه أيضًا كرامة وعزة نفس، ولا تشعره بذله في الأخذ.

وعندما تعطى أنس أنك قد أعطيت. ولا تتحدث عما فعلته، بل لا تفكر فيه. ولعل هذا هو ما يقصده السيد المسيح بقوله: "إذا أعطيت صدقة، فلا تجعل شمالك تعرف ما فعلته يمينك". وإن تذكرت قل لنفسك: "أنا لم أعط هذا الإنسان شيئًا، بل هو الذي أعطاني فرصة لأسعد بهذا الأمر".

إن الأم تعطى ابنها حنانًا، إنما تسعد هي نفسها بهذا الحنان. وهى عندما ترضعه، إنما تشعر براحة، ربما أكثر من راحته هو في الرضاعة. ذلك إن عمل الحب هو عمل متبادل يأخذ فيه الإنسان أثناء إعطائه لغيره.

وعمل الخير الذي لا تأخذ منه سعادة، ليس هو خيرًا على وجه الحقيقة. إن أجره ليس فيه، وليس فيما بعد. انه عمل ضائع.

كذلك عندما تأخذ، خذ من الله وحده، وممن يرسلهم الله إليك. وحاذر من أن تأخذ من الشيطان شيئًا ولا من جنوده.

إن الشيطان عندما يعطى، يأخذ أكثر مما يعطيه.

قد يعطيك لذة الجسد، ويأخذ منك كرامة الروح. وقد يعطيك الكرامة. ويأخذ منك الاتضاع، وقد يعطيك الغنى، ويأخذ منك الزهد، ويعطيك الدنيا، ويأخذ منك الآخرة ويعطيك اللهو والعبث، ويأخذ منك الحكمة والرزانة. ويعطيك اللعب، ويأخذ منك النجاح.. إنه يأخذ الجوهرة التي فيك، ويعطيك القشور التي لها.

تخطئ إن ظننت أنك تأخذ منه شيئًا. إنك الفاقد، ولست الآخذ، ولست المعطى.

أما الله، فإنه يعطى على الدوام، ويعطى بسخاء ولا يعير، ويعطى عطايا صالحة تليق بصلاحه.. إننا نعيش في عطائه كل لحظة من حياتنا.



المقال مع بعض التعديلات نُشِر في وقتٍ لاحق في جريدة الأهرام يوم 27 نوفمبر 2011



فلسفة الأخذ والعطاء



هل نحن في الحياة نأخذ أم نعطي؟ أم نحن نأخذ ونعطي؟ أم نأخذ ولا نعطي..؟ لكي نفهم كل هذا، علينا أن ندرك ما هي فلسفة الأخذ والعطاء.

† كلنا في الحياة نأخذ ونعطي، وسعيد هو الإنسان الذي مهما أعطي، يشعر أنه يأخذ أكثر مما يعطي، أو أنه لا يشعر إطلاقًا بأنه يعطي.. بينما مسكين ذلك الشخص الذي لا يظن أنه لا يأخذ شيئًا أو هو لا يشعر بما يأخذه.. إنه يعيش تعيسًا في الحياة، شاعرًا بالظلم، وشاعرًا بالعوز والاحتياج، وقد يقضي عمره كله في التذمر وفي الضجر والشكوى، وفي الافتقاد إلي الحب.

† واحد فقط يعطي باستمرار دون أن يأخذ من أحد، انه الله، والله وحده يعطي الكل، ولا يأخذ من أحد شيئًا. ذلك لأنه لا يحتاج إلي شيء فهو مكتف بذاته، كامل في كل شيء يملك كل شيء، ولا يوجد عند أحد شيء يعطيه لله.

لكن لعل البعض يسأل: ألسنا في الصلاة نعطي الله وقتًا، ونعطيه قلبًا وشعورًا وخشوعًا وحبًا؟ كلا ليس هذا هو المفهوم الحقيقي للصلاة، بل إننا عندما نصلي، إنما نأخذ من الله معونة، ونأخذ منه نعمة وبركة، ونأخذ كافة احتياجاتنا الروحية والمادية، بل نأخذ أيضا لذة التخاطب معه ولذة الوجود في عشرة الله.

والذي يظن أنه في الصلاة يعطي الله وقتا، ما أسهل عليه أن يمتنع أحيانًا عن الصلاة محتجًا بأنه ليس له، وقت ليعطيه!

في الواقع إننا نصلي لأننا محتاجون إلي الله، لذلك نبسط إليه أيدينا إشارة إلي أخذنا منه، إن أفواهنا تتقدس عندما تلفظ اسمه القدوس، ولاشك أنه تواضع كبير من الله عز وجل أن يسمح لنا بمخاطبته، لهذا ففي كل مرة نسجد للصلاة، ينبغي أن نشكر الله -تبارك اسمه- علي تواضعه وسماحه لنا بمخاطبته.


وعندما يقول الله: يا ابني أعطني قلبك.. فان ما يقصد: اعطني هذا القلب لكي أطهره وأقدسه، وأملأه حبًا ونقاء، وأجعل فيه ما يحتمله من كل أنواع الفضائل، وأرفعه عن مستواه الأرضي لكي أجلسه في السماويات.

† وعموما من جهة موقفنا من العطاء، نحن لا نملك شيئًا لنعطيه، فكل الذي لنا هو ملك لله، قد استودعنا إياه، وقد أخذناه منه لنعطيه لغيرنا، فكل ما نتبرع به لمشروعات الخير، إنما نقول عنه لله ما سبق أن قاله داود النبي: من يدك أعطيناك تماما كالابن الصغير الذي يقدم هدية في عيد الأسرة لأبيه أو أمه، ومن هنا قد أخذ المال الذي اشتري به هذه الهدية.

إن الله قد أعطانا اليد التي تعطي، وأعطانا الخير الذي نعطي منه، بل قد أعطانا أيضا محبة العطاء والقدرة علي العطاء، حقًا إن موهبة العطاء قد أخذناها منه، قد تفضل الله وأنعم بها علينا، هي جزء من عمله فينا، وجزء من مؤازرة نعمته علينا، لان كل موهبة صالحة هي نازلة من فوق من عند الله.

† كل شيء نعطيه سنجده في الأبدية، وسنري أكثر منه بكثير في المكافأة السمائية إذن فالشيء الذي نعطيه، أو الذي يعطيه الله عن طريقنا، هي محجوز لنا فوق، لم يضع.. وفي الواقع إننا لم نعطه، وإنا قد ادخرناه.. وبالإضافة إلي ذلك فإنما نحن نعطي الفانيات لكي نأخذ الباقيات، نعطي الأرضيات ونأخذ السماويات.. لا شك إذن أننا نأخذ أكثر مما نعطي.

† لذلك أيها القارئ العزيز، عود نفسك علي العطاء، فقد قال السيد المسيح له المجد: "مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ" (سفر أعمال الرسل 20: 35). أعط بفرح لا بتضايق، لان الكتاب يقول: المعطي المسرور يحبه الرب، ونص الآية هو: "الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 9: 7). إذن ليكن عطاؤك هو عن حب وعن عاطفة، وبسخاء وكرم، أعط وأنت موسر، وأعط وأنت معوز، والذي يعطي من أعوازه يكون أعظم بكثير من الذين يعطون عن سعة وأجره أكبر في السماء.

† وإن لم يكن لك ما تعطيه لغيرك أعط ابتسامة طيبة، أو كلمة تشجيع، أو عبارة تفرح قلب غيرك. ولا تظن أن هذا العطاء المعنوي أقل من العطاء المادي في شيء، بل أحيانًا يكون أعمق أثرا، ولكن حذاري أن تكتفي بالعطاء المعنوي إن كان بإمكانك أن تعطي المادة أيضًا.

وأشعر ـ عندما تعطي أنك تأخذ فالسعادة التي يشعر بها قلبك حينما يحقق سعادة لغيره، هي شيء أسمي من أن يقتني بالمال، راحة الضمير التي تأخذها، وفرحة القلب برضا الناس، كلها أمور أسمي من المادة، يأخذ علي الأرض ويأخذ أعظم منها في السماء.

† عندما تعطي، لا تحقق كثيرًا مع الذين تعطيه، وإلا كنت في موضع القاضي وليس العابد، لا تحقق كثيرًا لئلا تخجل الذي تعطيه، وتريق ماء وجهه. حسن إنك قد أعطيته حاجته، فأعطه أيضًا كرامة وعزة نفس، ولا تشعره بذلة في الأخذ،.

† وعندما تعطي انس أنك قد أعطيت، ولا تتحدث عما فعلته، بل لا تفكر فيه، ولعل هذا بعض ما قصده السيد المسيح حينما قال في العطاء، لا تجعل شمالك تعرف ما تفعله يمينك، ونص الآية هو: "لاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ" (إنجيل متى 6: 3)، وإنك تذكرت قل لنفسك، أنا لم أعط هذا الإنسان شيئًا، بل هو الذي أعطاني فرصة لأسعد بهذا الأمر أن الأم عندما تعطي ابنها حنانا إنما تسعد هي نفسها بهذا الحنان. وهي عندما ترضعه إنما تشعر براحة، ربما أكثر من راحته هو في الرضاعة، لذلك فان عمل الحب هو عمل متبادل، يأخذ فيه الإنسان أثناء إعطائه لغيره.

† كذلك عندما تأخذ احذر من تأخذ شيئًا من الشيطان ولا من جنوده، والشيطان عندما يعطي، يأخذ أكثر مما يعطيك، قد يعطيك لذة الجسد، ويأخذ منك كرامة الروح، قد يعطيك كرامة أمام الناس، ويأخذ منك فضيلة الاتضاع، أو يعطيك اللهو والعبث، ويسحب منك الحكمة والرزانة.. تخطيء إذن إن ظننت انك تأخذ منه شيئًا.

Mary Naeem 01 - 10 - 2022 10:33 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
البابا شنودة الثالث


الذاتية وإنكار الذات


لا تظنوا أيها الأخوة الأحباء أن عبادة الأصنام قد تلاشت من الأرض. فهناك صنم خطير يكاد يعبده الكل.. انه الذاتego..
كل إنسان مشغول بذاته، معجب بذاته، يضع ذاته في المرتبة الأولى من الأهمية.
. أو في المرتبة الوحيدة من الأهمية.. يفكر في ذاته، ويعمل من أجل ذاته
، ويهمه أن تكبر هذه الذات، بل تصير أكبر من الكل، ويهمه أن تتمتع هذه الذات، بشكل اللذات، بأى ثمن، وبأى شكل.
هذه هي الذاتية، أو التمركز حول الذات.. وفيها يختفى الكل، وتبقى الذات وحدها.
فيها ينسى الإنسان غيره من الناس، أو يتجاهل الكل
وتبقى ذاته في الصورة، وحدها.. ولا مانع من أن يضحى بالكل من أجل ذاته..
وأن يفكر هذا الإنسان في غيره، يكون تفكيره ثانوياً، في المرحلة التالية لذاته
أو قد يكون تفكيراً سطحياً، أو تفكير عابراً..
وإن أحب ذلك الإنسان الغارق في الذاتية، فإنه يحب من أجل ذاته، ويكون من يحبه مجرد خادم للذاته.. هو لا يحب الغير من أجل الغير، وإنما يحب من يشبعه في ناحية ما... يحب مثلاً من يمدحه، أو من يقضى له حاجياته، أو من يشبع له شهواته
أو من يحقق له رغبة معينة.. فهو في الحقيقة يحب ذاته لا غيره
وما حبه لغيره سوى وسيلة يحقق بها محبته لذاته.
لذلك لا مانع عند هذا الشخص أن يضحى بهذا الحب إذا اصطدم بذاته ورغباته.
ولعل هذا يفسر لنا الصداقات التي تنحل بسرعة إذا ما اصطدمت بكرامة ذاتية أو غرض ذاتى.. ولعل هذا يفسر لنا أيضاً الزيجات التي تنتهى إلى الطلاق
أو إلى الانفصال بينما يظن البعض أنها قد بدأت بحب، وبحب عنيف أو عميق.. قطعاً أن ذلك لم يكن حباً بمعناه الحقيقى
لأن في الحب تضحية، وفيه احتمالا وبذلا وعذراً للآخرين. والمحبة كما قال الكتاب: "تحتمل كل شيء"..

إنما مثل هؤلاء أشخاص كانوا يحبون ذواتهم فيما هم يتغنون بمحبتهم لغيرهم.
كان في محبتهم عنصر الذاتية، لذلك ضحوا بهذه المحبة على مذبح الذاتية أيضاً..
إن المحبة تصل إلى أعماقها حينما تتكلل بالبذل..
إن المحب الحقيقى هو الذي يضحى من أجل أحبائه بكل شيء، ولو أدى الأمر أن يضحى بذاته.. وكما قال الإنجيل:
"ليس حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه عن أحبائه"
أما المحبة التي تأخذ أكثر مما تعطى، فهى ليست محبة حقيقية، إنما محبة للذات.
كذلك المحبة التي تحب لتأخذ.. إنها تحب ما تأخذه، ولا تحب من تأخذ منه.
لذلك كانت محبة الله محبة كاملة مثالية، لأنها باستمرار تعطى دون أن تأخذ ولذلك أيضاً كانت محبة الأم لطفلها محبة حقيقية، لأنها باستمرار تعطى وباستمرار تبذل..
ولكن لعل إنساناً يسأل: ولماذا لا نحب ذواتنا؟
وأية خطيئة في ذلك؟ ومن من الناس لا يحب ذاته؟! إنها غريزة في النفس..
نعم، جميل منك أن تحب نفسك، ولكن تحبها محبة روحية
تحب ذاتك من حيث أن تهتم بنقاوة هذه الذات وقداستها وحفظها بلا لوم أمام الله والناس..
و تحب ذاتك من حيث اهتمامك بمصيرها الأبدى ونجاتها من الدينونة الأخيرة حينما تقف أمام منبر الله العادل لتعطى حساباً عن أعمالها وعن أفكارها ونياتها ومشاعرها.. هذا هو الحب الحقيقى للذات.. الحب الذي يطهر الذات من أخطائها ومن نقائصها، ويلبسها ثوباً من السمو والكمال.
وهناك شرط آخر لمحبة الذات الحقيقية، أن الإنسان في محبته لذاته يحب جميع الناس، ويكون مستعداً أن يضحى من أجلهم بكل ما يملك، ولو ضحى بذاته أيضاً...
لا يجوز لك أن ترتفع على جماجم الآخرين، ولا أن تبنى سعادتك على شقائهم، أو راحتك على تعبهم..
ضع مصلحة الآخرين قبل مصلحتك، وفضل خيرهم على خيرك.
ودرب ذاتك كيف تضحى من أجل الناس، سواء شعروا بهذه التضحية، أو لم يشعروا، وسواء شكروا عليها أو لم يشكروا...
من هنا علمنا السيد المسيح فضيلة عظمى، وهى إنكار الذات.. وشرح لنا كيف أن الذي يحب أن يسير في طريق الرب، عليه أولاً أن ينكر ذاته.
إن الشخص النبيل لا يزاحم الناس في طريق الحياة، بل يفسح لهم مجالاً لكي يعبروا، ولو سبقوه.. أنه يختفى لكي يظهر غيره، ويصمت لكي يتكلم غيره
ويمدح غيره أكثر مما يمدح نفسه، ويعطى مكانه ومكانته لغيره
ان كان بذلك يسعد نفسه من نفوس الناس..
إن الإنسان الكامل هو دائم التفكير في غيره، ومحبة غيره، وصالح غيره، وأبدية غيره، وقداسة غيره
أما ذاته فيضعها أخر الكل، أو يضعها خادمة للكل.. إنه لا ينافس أحداً من الناس.
طريق الله يسع الكل.. وهو يشعر بسعادة عميقة كلما أسعد إنساناً يجد سعادته في سعادته، وراحته، يجد فيهم ذاته الحقيقية.
لا ذاته الشخصية.. إنه يفرح لأفراحهم، ولو كانت الآلام تحيطه من كل جهة..
وإن أصابهم ألم لا يستريح، وإن كانت وسائل الراحة تحت قدميه..
إنه شمعة تذوب لكي تضئ للآخرين.. لا تفكر في ذاتها إنها تنقرض، إنما تنشغل بالآخرين كيف يستنيرون.. وفى أنارتها للناس لا تفرح بأنها صارت نوراً
إنما تفرح لأن الآخرين قد استناروا.. ذاتها لا وجود لها في أهدافها.. ولو فكرت في ذاتها، لما استطاعت أن تنير للناس..
إن أنجح الناس في المجتمع هم الأشخاص المنكرون لذواتهم
وأكثر الناس فشلاً هم الأنانيون.
إن انجح أدارى هو الذي يعطى فرصة لكل إنسان أن يعمل، ويشرف على الكل في عملهم، ويبدو هو كما لو كان لا يعمل شيئاً بينما يكون هو مركز العمل كله.
وأكثر إنسان محبوب في العمل، هو الذي كلما نجح عمله، يتحدث عن مجهود فلان وفلان، وينسب النجاح إلى كثيرين غيره، ويختفى هو كأنه لم يعمل شيئاً.. وكأنه يفرح بنجاح غيره لا بنجاح نفسه...
إن الناس يفرحون بمن يعطيهم فرصة، وبمن يقدرهم، وبمن يشيد بمجهودهم. أما الإنسان المتمركز حول ذاته، الذي يخفى الناس لكي يظهر هو، ويعطل كل الطاقات لكي يمجد طاقاته الخاصة، فإنه يفشل في كسب محبة الناس، وقد يفشل العمل كله بسببه...
الإنسان المخلص يهمه أن ينجح العمل، على أى يد تعمله. أما الأنانى فيهمه أن يتم النجاح على يديه، ولو أدى الأمر إلى تعطيل العمل كله. إن ذاتيته هي العقبة الكؤود التي تعرقل كل نجاح.
الإنسان المتمركز حول ذاته لا يفكر في راحة غيره، سواء كان راحة فرد أو راحة المجتمع كله. ربما لا يهتم بالصلح العام، ولا بالنظام العام، وإنما يرضيه فقط أن يجد طريقة.. لذلك فإن الأنانيين هم أكثر الناس كسراً للقوانين.
الرجل الكامل ينكر ذاته في علاقته بالناس، وأيضاً في علاقته بالله..
وما أجمل قول المرتل في المزمور "ليس لنا يارب ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس اعط مجداً"
إنه يبحث عن مجد الله وعن ملكوت الله أولاً وأخيراً.. يهمه أن يطيع وصية الرب، ولو أدى به الأمر أن يغضب ذاته، أو يضغط على نفسه، أو يضحى براحته.
إنه يبذل ذاته من أجل وصية الله..
حتى في صلاته، ينسى ذاته ويذكر الله.. إننى أتعجب إذ أجد كثيرين في صلواتهم متمركزين حول ذواتهم.. كل صلواتهم طلبات خاصة..
يزحمون الصلوات بطلباتهم ورغبتهم، وأيضاً بخطاياهم واعترافتهم.. أما الله وملكوته فلا يشغلهم في الصلاة..
ما أجمل ذلك المصلى الذي يقول في صلاته:
(من أنا يارب، التراب والرماد، حتى أتحدث عن ذاتى وطلباتى في صلاتى.
أريد أن أنسى نفسي وأذكرك أنت، أريد أن أسبح في جمالك غير المدرك، وفى كمالك غير المحدود..
أريد أن أتأمل في صفاتك الإلهية التي تبهرنى فأنس ذاتى..
وعندما أنسى نفسى، سأجدها فيك، في قلبك الكبير المحب..
هذا القلب الذي احبه من أعماقى، والذى أود أن أحيا عمرى كله
وأبديتى أيضاً متأملاً في محبته، وحنوه، وعفوه، ورقته، وطول أناته
واشفاقه على الخطاة الذين أولهم أنا)..

Mary Naeem 01 - 10 - 2022 10:35 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 


التواضع هو الفضيلة الأولى

https://upload.chjoy.com/uploads/166456217489361.jpg


البابا شنودة الثالث


أريد في هذا المقال أن أكلمكم عن فضيلة جميلة وأساسية وهى الاتضاع.
الاتضاع هو الفضيلة الأولى في الحياة الروحية.
الاتضاع هو السور الذي يحمى الفضائل ويحمى المواهب، وكل فضيلة خالية من الاتضاع، عرضة أن يختطفها شيطان المجد الباطل، ويبددها الزهو والفخر والاعجاب بالنفس.
لذلك إذا أعطاك الله موهبة من مواهبه، ابتهل إليه أن يعطيك معها إتضاعاً، أو أن يأخذها منك، لئلا تقع بسببها في الكبرياء وتهلك.


الاتضاع إذن هو الأساس الذي تبنى عليه جميع الفضائل.
ليس هو فضيلة قائمة بذاتها، إنما هو متداخل في جميع الفضائل، مثلة كالخيط الذي يدخل في كل حبات المسبحة.
والله يعطي مواهبة للمتواضعين، لأنه يعرف أنها لا تؤذيهم. ويقول الكتاب المقدس إن الله يكشف أسراره للمتضعين..هؤلاء الذين كلما زادهم الله مجداً، زادوا هم إنسحاقاً قدامه.
من أجل كل هذا دعانا الله جميعاً أن نكون متضعين. وقد كان الاتضاع والوداعة، إحدي سمات السيد المسيح البارزة التي حببته إلى الكل.. وقد وصفه الإنجيل المقدس بأنه كان: "وديعاً ومتواضع القلب".
وقد اتقن القديسون الاتضاع بصورة عجيبة..
ولم يتواضعوا فقط أمام الله والناس، بل حتى أمام الشياطين، وهزموهم بهذا الاتضاع.
القديس العظيم الأنبا انطونيوس أبو الرهبنة كلها، عندما كان الشياطين يحاربونه في عنف، كان يرد عليهم باتضاع قائلاً: (أيها الأقوياء، ماذا تريدون منى أنا الضعيف، وأنا عاجز عن مقاتله أصغركم)!! وكان يصلى إلى الله قائلاً: (انقذني يارب من هؤلاء الذين يظنون أنني شيء، وأنا تراب ورماد).. فعندما كان الشياطين يسمعون هذه الصلاة الممتلئة اتضاعاً، كانوا يقشعرون كالدخان.
وفي إحدي المرات ظهر الشيطان للمتوحد الناسك القديس مقاريوس الكبير وقال له: "ويلاه منك يا مقاره، أي شيء أنت تعمله ونحن لا نعمله؟! أنت تصوم، ونحن لا نأكل. وأنت تسهر، ونحن لا ننام، وأنت تسكن البراري والقفار، ونحن كذلك، ولكن بشيء واحد تغلبن " فسأله عن هذا الشيء. فقال له " بتواضعك تغلبنا"..
في مرة أخري أبصر الأنبا انطونيوس فخاخ الشياطين منصوبة، فألقي نفسه على الأرض أمام الله، وصرخ قائلاً: (يا رب، من يستطيع أن يخلص منها؟!) فأتاه صوت يقول: (المتواضعون يخلصون منها).
إن كان التواضع بهذه القوة التي تهزم الشياطين، فما هو التواضع إذن؟
التواضع هو أن تعرف ضعفك، وأن تعرف سقطاتك وخطاياك، وأن تعامل نفسك على هذا الأساس. المرجع: موقع كنيسة الأنبا تكلاهيمانوت
ليس التواضع أن تشعر بأنك كبير أو عظيم، وتحاول أن تتصاغر أو أن تخفي عظمتك فشعورك بأنك كبير فيه نوع من الكبرياء. وشعورك بأنك تخفي عظمتك فيه إحساس بالعظمة تخفيها عن الناس، ولكنها واضحة أمام نفسك.
أما التواضع، إحساس بعظمة تخفيها عن الناس، ولكنها واضحة أمام نفسك.
أما التواضع الحقيقي فهو تواضع أمام نفسك أولاً. شعور حقيقي غير زائف، في داخل نفسك، إنك ضعيف وخاطئ حتى في عمق قوتك تشعر أن القوة ليست منك، إنما هي منحة سماوية من الله لك، أما انت فبطبيعتك غير ذلك.
اعرف يا أخي من أنت، فهذه المعرفة تقودك إلى الاتضاع. إنك تراب من الأرض. بل التراب أقدم منك، وجد قبل أن تكون. خلقه الله أولاً، ثم خلقك من تراب.
أتذكر أنني (البابا شنودة 3) ناجيت هذا التراب ذات مرة في بضعة آيات قلت فيها:

يا تراب الأرض يا جدي وجد الناس طرا
أنت أصلي، أنت يا أقدم من آدم عمر
ومصيري أنت في القبر، إذا وسدت قبر
بل أنك يا أخي، إذا فكرت في الأمر باتضاع، تجد ان هذا التراب لم يغضب الله كما أغضبته أنت بخطاياك.
لذلك أقول لك حقيقية هامة وهي:
إن المتواضع الوحيد هو الله.
الله هو الكبير الذي يتنازل ويكلمنا نحن الصغار، وهو القدوس الذي يتنازل ويعاملنا نحن الخطاة.
أما نحن فالتواضع بالنسبة إلينا. ليس تنازلاً، وغنما هو مجرد معرفة للذات.
إن عرفت هذا، فعامل نفسك إذن بما تستوجبه هذه المعرفة، ولا تطلب من الناس كرامة ولا مجداً. وإن حوربت بهذا الأمر، رد على نفسك وقل: (أنا لا أستحق شيئاً بسبب خطاياي.. وإن كان الله من فرط رحمته قد ستر خطاياي عن الناس، ولكنني أعرفها جيداً ولا انساها لئلا أتكبر باطلاً)..
إحذر من أن تنسي خطاياك، لئلا تنتفخ، وتظن في نفسك الظنون، وتذكر قول ذلك القديس الذي قال:
(إن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله. وإن ذكرنا خطايانا، ينساها لنا الله).
اعترف بخطاياك أمام نفسك، وأمام الله، وإن استطعت فأمام الناس أيضاً.
وإن لم تسطع، فعلي الأقل لا تمدح ذاتك أمامهم، ولا تقبل مديحهم لك وإن سمعته أذناك، فليرفضه قلبك وعقلك..
ولا تسع وراء الكرامة. وتذكر قول مار اسحق:
(من سعي وراء الكرامة، هربت منه، ومن هرب منها بمعرفة، سعت وراءه).
ولا يكن تواضعك مظهرياً، أو باللسان فقط، إنما ليكن تواضعاً حقيقياً من عمق القلب، وبيقين داخلي، ليكن تواضعاً بالروح.
وإن عشت بالتواضع، ستحيا باستمرار في حياة الشكر.. سنشكر الله على كل شيء وفي كل حل، شاعراً على الداوم أن الله يعطيك فوق ما تستحق.
أما غير المتواضع، فأنه يكون في كثير من الأحيان متذمراً ومتضجراَ، شاعراً أنه لم ينل بعد ما يستحقه، وأنه يستحق الكثير، وأنه مظلوم، من الناس ومن الله!!
والشخص المتواضع سلام مع الكل، لا يغضب من أحد، ولا يغضب أحداً.
لا يغضب من أحد، لأنه باستمرار يلوم نفسه، ولا يلوم الناس. ولا يغضب أحداً، لأنه يطلب بركة كل أحد وصلواته. فلنكن جميعاً متضعين لكي نكون أهلاً لعمل الله فينا، الله الذي لا يحد الذي تنازل واهتم بنا، له المجد الدائم إلى الأبد آمين.

Mary Naeem 01 - 10 - 2022 10:38 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
البابا شنودة الثالث

- محبة المديح و الكرامة

حدثتكم في مقال سابق عن التواضع، وأهميته في الحياة الروحية، ومركزه بين الفضائل.
وأريد في هذا المقال أن أتابع هذا الموضوع، بالتحدث عن حرب عنيفة تقف في سبيل الاتضاع، وهي محبة المديح والكرامة.
أول ملاحظة أقولها في هذا الأمر هي أن:
التعرض لمديح الناس شيء، ومحبة هذا المديح شيء آخر. قد ينال الإنسان مديحًا من الآخرين ولا يخطئ، ولكنه إن أحب هذا المديح قد أخطأ. إن الرسل والأنبياء والقديسين والشهداء والقادة الفضلاء، كل أولئك مدحهم الناس ولم يخطئوا.. إنما الخطأ أن يحب الإنسان ألفاظ المديح ويشتهيها وتشكل جزءًا من رغباته.
والقديسون في كل جيل كانوا يهربون من المديح أيًا كان مصدره، سواء أتاهم المديح من الناس أو من داخل أنفسهم.
وبعضهم كان يتمادى في هذا الهروب، ويبعد عن كل أسباب المديح وكل مناسباته، حتى وصل الأمر إلى أن كثيرًا من هؤلاء المتواضعين كانوا ينسبون إلى أنفسهم عيوبًا، وكانوا يتحدثون عن نقائصهم وأخطائهم أمام الناس، ولا يدافعون عن خطأ ينسب إليهم حتى لو لم يكن فيهم.

أما محبو المديح، فإنهم أنواع ودرجات:
1 أقلهم خطأ هو الإنسان الذي لا يسعى إلى المديح، ولكن إن سمع مديحًا من الناس فيه، فإنه يسر بذلك في داخله ويبتهج، وقد يبدو صامتًا لا يشعر أحد بما في داخله من إحساسات.
2 نوع أخطر من هذا، وهو حالة الإنسان الذي إذ يبتهج في داخله من ألفاظ المديح التي يسمعها، ويحاول أن يستزيد منها. كأن يقول عبارات تجلب له مديحًا جديدًا، أو يجر الحديث إلى موضوعات مشرفة له، أو يتمنع عن سماع المديح بألفاظ متضعة تجلب له المزيد من الثناء.
3 نوع ثالث أخطر من هذين هو حالة الإنسان الذي إذ يشتهي المديح، يحاول أن يعمل أعمال بر أمام الناس لكي ينظروه فيمدحوه. وهذا النوع هاجمة السيد المسيح، وقال عنه إنه: "استوفى أجره" ولم يعد له أجر في السماء. ودعا الناس أن يصلوا في الخفاء، وأن يخفوا عن أعين الناس صومهم وصدقتهم وكل أعمال برهم.
والله الذي يري في الخفاء، هو يجازيهم علانية. هؤلاء الذين يعملون البر في الخفاء، إنما يفعلون الخير حبًا في الخير، وليس حبًا في المديح.
4 هناك نوع رابع في محبة المديح، وهو أصعب من كل ما سبق، وهو حالة الإنسان الذي لا يكتفي بالوصول إليه، وإنما يتطوع لمدح نفسه، ويتحدث عن أعماله الفاضلة. وهكذا يقع في الزهو والتباهي والخيلاء.. وقد يتمادى في هذا الأمر فيمدح نفسه بما ليس فيه.
5 نوع خامس أسوأ من كل ما سبق، وهو حالة الإنسان الذي يشتهي المديح وينتظره، إذا لا يصل إليه، يكره من لا يمدحه، ويعتبره عدوًا قد قصر في حقة فلم يقدره ولم يعترف بفضله كما ينبغي. وقد يتمادى في هذا الأمر فيتضايق أيضًا ممن يمدحه ولكن ليس بالقدر الذي كان ينتظره، وليس بالأسلوب الذي يشبع نهمه إلى العظمة والفخر..
مثل هذا الإنسان الذي يكره من لا يمدحه، ماذا تراه يفعل بمن ينتقده؟!
إنه ولا شك لا يمكن أن يحتمل النقد ولا النصح ولا التوجيه، وطبعًا التوبيخ ولا الانتهار حتى ممن هو أكبر منه كأب جسدي، أو أب روحي، أو معلم أو مرشد أو رئيس ويعتبر كل نصح أو توبيخ يوجه إليه، كأنه لون من الاضطهاد يقابله بالتذمر أو بالاحتجاج أو بالثورة والغضب.
6 على أن أسوأ درجة لمحبة المديح في نظري، هي حالة الإنسان الذي من فرط محبته للمديح يريد أن يحتكره لنفسه فقط، فلا يطيق أن يسمع مدحًا في شخص آخر، وإلا فإنه يكره نفسه ويحسد الممدوح.
وهكذا يعتبر من يمدح شخصًا غيره عدوًا له منحرفًا عن طريق صداقته، يشبه بحالة زوجة تحب رجلًا آخر غير زوجها.. وفي الوقت نفسه يحاول أن يقلل من شأن الشخص الآخر الذي سمع مدحًا فيه، وربما يتهمه بتهم ظالمة ويسئ إلى سمعته، لكي يبقي وحده، ولا شيئًا له في عذاب الناس. من كل هذا نري أن محبة المديح تقود إلى رذائل عدة نذكر هنا بعضًا منها..
أول – لا شك أن مُحِب المديح يقع في الرياء، ويحاولأن يبدو أمام الناس في صورة مشرفة نيرة خيرة غير حقيقته الداخلية، وقد يتظاهر بفضائل هو بعيد عنها كل البعد.. قد يتظاهر بالصوم وهو مفطر، وقد يتظاهر بالصفح وهو حاقد، وقد يتظاهر بالحب وهو يدس الدسائس..
ثاني – قد يقع محب المديح في الغضب وعدم الاحتمال: فيغضب من كل من يوجه إليه نقدًا، ومن كل من يخطئ له رأيًا، كما يغضبه من يمدح غيره أو يفضل أحدًا عليه. وتكون الكرامة صنمًا يتعبد له في كل حين.. وقد تراه ثائرًا في أوقات كثيرة يصيح صارخًا: "كرامتي.. ومركزي..".
ثالث – قد يقع محب المديح في الحسد وفي الكراهية، ولا يكون قلبه صافيًا تجاه من يظن أنه ينافسه، أو من يظن فيه أنه نال كرامة أو منصبًا أو مديحًا هو أولى به منه.. وقد تعذبه الغيرة والحسد إلى أخطاء أخرى عديدة..
رابع – قد يقع محب المديح في حالة عدم الاستقرار، فلا يثبت على حالة، وإنما يختار لنفسه في كل مناسبة الوضع الذي يجلب له مديحًا في نظر من يقابله حتى لو كان عكس موقف سابق له أو ضد رأى أبداه من قبل لنوال مديح من آخرين.
خامس – كثيرًا ما يقع محب المديح في الكذب أو المبالغة: فهو على الدوام يحاول أن يغطى أخطاءه ونقائصه بأكاذيب أو ألوان من التحايل، أو ينسب أخطاءه إلى غيره، ويظلم غيره لكي يتبرر هو.. وقد يكذب أيضًا حينما ينسب إلى نفسه مفاخر وفضائل ليست له، أو عندما يبالغ في وصف ما يرفعه في نظر الناس، محاولًا في كل ذلك أن يخفى الآخرين لكي يظهر هو.
سادس – وقد يقع محب المديح في رذائل أخرى، كأن يدبر دسائس لمنافسيه في الكرامة، أو يشتهى موت أحدهم لكي ينال مركزه، أو يسلك في أسلوب التشهير بالغير لكي يبقى وحده في الصورة..
وعمومًا فإن محب المديح يخسر محبة الناس، لأن الناس تحب الإنسان المتواضع الذي يقدمهم على نفسه في الكرامة، والذي يختفي هو لكي يظهروا هم، والذي يمدح كل أحد، ويحب كل أحد، ولا يعتبر أحدًا منافسًا له..
ومحب المديح لا يخسر الناس فقط، وإنما يخسر أيضًا أبديته، ويبيع السماء وأمجادها بقليل من المجد الباطل على هذه الأرض الفانية.. وكل الفضائل التي يتعب في اقتنائها، يبددها بمحبة المديح، ويأخذ آجر تعبه على الأرض، ولا يستبقى له أجرًا في السماء..
ومحب المديح قد يقع في خداع الشياطين التي إذ تراه مستعبدًا لهذه الشهوة، تضلله برؤى كاذبة وبأحلام كاذبة وبظهورات خادعة، وتوحي إليه بأشياء تضيع نفسه.. أو قد تحاربه من جانب آخر فتدعوه بالغرور إلى درجات أعلى من مستواه يحاول إدراكها فلا يستطيع.. وتضربه بضربات يمينية وتشتت هدوءه، وتجعله يعيش في قلق وفي جنون العظمة..
نطلب إلى الرب أن يعطينا جميعًا نعمة الاتضاع، فالمجد لله وحده، وله العظمة وله القدرة.. وما أجمل قول المرتل في المزمور: "ليس لنا يا رب، ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس أعط مجدًا".. له المجد الدائم إلى الأبد آمين.
المقال مع بعض التعديلات نُشِر مرة أخرى في وقتٍ لاحق في جريدة الأهرام يوم 18 ديسمبر 2011
محبة المديح والكرامة
التعرض لمديح الناس شيء، ومحبة هذا المديح شيء آخر. فقد ينال الإنسان مديحًا من الآخرين ولا يخطئ. ولكنه إذا أحب هذا المديح واشتهاه، وأصبح جزءا من رغباته. فحينئذ يكون قد أخطأ. وهكذا نقول: إن الرسل والأنبياء والقديسين والشهداء والقادة الفضلاء... كل أولئك مدحهم الناس ولم يخطئوا.
† علي أن القديسين في كل جيل كانوا بقدر إمكانهم يهربون من المديح أيا كان مصدره. سواء أتاهم المديح من الناس، أو من الشيطان، أو من داخل أنفسهم. وبعضهم كان يتمادى في هذا الهروب. وبعيد عن كل أسباب المديح وكل مناسباته. حتى وصل الأمر إلي أن بعضا من هؤلاء القديسين المتواضعين كانوا يتحدثون عن نقائصهم وأخطائهم أمام الناس، ولا يدافعون عن خطأ ينسب إليهم. حتى إن لم يكن فيهم.
† أما محبو المديح فإنهم أنواع ودرجات: وأقلهم خطأ هو الذي لا يسعى إلي المديح. ولكنه إذا سمع مديحا فيه من غيره، فإنه يسر بذلك في داخله ويبتهج. وقد يبدو صامتا لا يشعر أحد بما في داخله من إحساسات.
† نوع آخر، هو حالة الشخص الذي يبتهج في داخله بسبب ألفاظ المديح التي يسمعها. ثم يحاول أن يستزيد منها. كأن يقول عبارات تجلب له مديحًا جديدًا. أو يجر الحديث إلي موضوعات مشرفة له. أو يتمني عند سماع المديح بألفاظ متضعة تجلب له المزيد من الثناء.
† نوع ثالث هو حالة الشخص الذي إذ يشتهي المديح، يحاول أن يعمل أعمال بر أمام الناس لكي ينظروه فيمدحوه! وهذا النوع هاجمه السيد المسيح وقال عنه إنه قد استوفي أجره علي الأرض... ودعا الناس أن يعملوا الخير في الخفاء. والله الذي يري في الخفاء يجازيهم علانية.
ولاشك أن الذين يعملون البر في الخفاء، إنما يفعلون الخير حبا في الخير، وليس حبا في المديح.
† هناك نوع رابع لمحبة المديح، وهو أصعب من كل ما سبق. وهو حالة الشخص الذي لا يشبع مديح بعض الناس له، فإذا به يتطوع لمديح نفسه! وتحدث عن أعمال فاضلة له... وبهذا يقع في الزهو والتباهي والخيلاء... وقد يتمادى في هذا الأمر فيمدح نفسه بما ليس فيه.
† نوع خامس أسوأ مما سبق. وهو حالة الشخص الذي يشتهي المديح وينتظر. وإذا لا يصل إليه، يكره من لا يمدحه، ويعتبره عدوًا قد قصر في حقه، فلم يقدره حق قدره، ولم يعترف بفضله... وقد يتمادى في هذا الأمر، فيتضايق أيضا ممن يمدحه، ولكن ليس بالقدر الذي كان ينتظره، وليس بالأسلوب الذي يشبع فيه نهمه إلي العظمة والفخر.
† مثل هذا الشخص الذي يكره من لا يمدحه، ماذا تراه يفعل بمن ينتقده؟! إنه ولا شك لا يمكن أن يحتمل النقد ولا النصح ولا التوجيه. وطبعا لا يقبل التوبيخ ولا الافتقاد حتى ممن هو أكبر منه كأبيه بالجسد، أو أبيه الروحي، أو أي معلم أو مرشد أو رئيس! ويعتبر كل نصح أو توبيخ يوجه إليه، كأنه لون من الاضطهاد، يقابله بالتذمر أو بالاحتجاج أو بالثورة والغضب.
† علي أن أسوأ درجة لمحبة المديح في نظري، هي حالة الشخص الذي من فرط محبته للمديح، يريد أن يحتكره لنفسه فقط، فلا يطيق أن يسمع مدحا لشخص آخر. وإلا فإنه يكره المادح ويحسد الممدوح! وهكذا يعتبر من يمتدح غيره، بأنه منحرف عن طريق صداقته. كما لو يشبهه بحالة زوجة تحب رجلا آخر غير زوجها! ومحب المديح هذا يحاول أن يقلل من شأن الشخص الآخر الذي سمع مدحا له. وربما يتهمه ظالما ويسيء إلي سمعته. وكل ذلك لكي يبقي وهو وحده، ولا شريك له، في إعجاب الناس.
† من كل ما سبق نري أن محبة المديح تقود إلي رذائل عدة نذكر من بينها: فقد تقود من يحب المديح إلي الوقوع في الرياء، محاولا أن يبدو أمام الناس في صورة مشرفة نيرة خيرة غير حقيقته الداخلية، وقد يتظاهر بفضائل هو بعيد عنها تماما كأن يتظاهر بالصفح وهو حاقد، أو بالحب وهو يدس الدسائس، أو يتظاهر بالصوم وهو مفطر.
† وقد يقع محب المديح في الغضب وعدم الاحتمال. فيغضب من كل من يوجه إليه نقدًا، أو يخطئ له رأيًا. كما يغضبه من يفضل أحدًا عليه. وتكون الكرامة صنما يتعبد له محبو المديح في كل حين. وقد تراه ثائرًا في أوقات كثيرة يصيح صارخًا: كرامتي كرامتي.
† وقد يقع محب المديح في الحسد وفي الكراهية. ولا يكون قلبه صافيًا تجاه من يظن أنه ينافسه، أو في من يظن أنه نال كرامة أو منصبا أو مديحا هو أولي به منه! وقد تعذبه الغيرة والحسد بسبب كل هذا، وقد يجره الحسد إلي أخطاء أخري عديدة.
† وقد يقع محب المديح في حالة عدم استقرار. فلا يثبت علي حاله، وإنما يختار لنفسه في كل مناسبة الوضع الذي يجلب له مديحا في نظر من يقابله حتى لو كان في عكس موقف سابق له، وكثيرًا ما يقع محب المديح في الكذب أو المبالغة. وكثيرًا ما يغطي أخطاءه أو نقائصه بأكاذيب أو ألوان من التحاليل، أو ينسب أخطاءه إلي غيره، ويظلم غيره لكي يتبرر هو، أو يشتهي موت غيره مما نال مركزا يشتهيه هو.
† وعموما فإن محب المديح يخسر محبة الناس. لأن الناس تحب الإنسان المتواضع الذي يقدمهم علي نفسه في الكرامة، والذي يختفي لكي يظهروا هم، والذي يمدح كل أحد، ويحب كل أحد، ولا يكره منافسا له.
ومحب المديح لا يخسر الناس. إنما يخسر أيضا أبديته. ويبيع السماء وأمجادها بقليل من المجد الباطل علي هذه الأرض الفانية. وكل الفضائل التي يتعب في اقتنائها، يبددها بمحبة المديح.
ومحب المديح قد يقع في خداع الشياطين، التي تضلله برؤي وأحلام كاذبة وبظهورات خادعة.

Mary Naeem 01 - 10 - 2022 10:40 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
البابا شنودة الثالثما هي الصلاة وكيف تكون؟



في بدء السنة الجديدة وقف كثيرون يصلون، وارتفعت أكف الضراعة إلى الله..
ووسط صلوات الكثيرين، نريد أن نتحدث اليوم عن الصلاة: ما هي صلوات مقبولة، وأخرى غير مقبولة؟
و ما شروط الصلوات المقبولة؟
إن الصلاة جزء من طبيعة الإنسان، كأنها غريزة.. ومن هنا كان جميع الناس يصلون.. حتى أن الوثنيين أيضًا يعرفون الصلاة.. إن القلب بدون الله يشعر بفراغ كبير. فالله له وجود في حياتنا، ليس هو معتزلًا عنا، يسميه الكتاب المقدس: "عمانوئيل" أى الله معنا.. ونلاحظ أن الطفل يقبل فكرة الله وفكرة الصلاة، بدون شرح، إنها فيه..

إن قلنا إن الإنسان اجتماعي بطبعه، نستطيع أن نطبق هذه القاعدة جسديًا وروحيًا أيضًا.. فروح الإنسان تشتاق إلى الروح الكلي، وتجد لذة في الالتقاء به والجلوس إليه..
الصلاة إذن هي اشتياق إلى الله.. روح الإنسان تشتاق إلى عِشرة أخرى غير عِشرة المادة.. وفي داخل كل منا اشتياق إلى غير المحدود. واشتياق آخر إلى مثالية عالية غير موجودة في هذا العالم.. ومِن هنا يلجأ الإنسان إلى الله ليشبع شوقه الروحي..
الصلاة هي أعمق ما في الروحيات.. هي تَفَرُّغ القلب لله.. هي عمل الملائكة، وعمل الإنسان عندما يتشبَّه بالملائكة.. هي عمل النساك والمتوحدين الذين تركوا كل شيء من أجل محبتهم لله، ووجدوا في هذه المحبة ما يكفيهم وما يغنيهم.
الصلاة هي راحة النفس. هي الميناء الهادئ الذي ترسو عنده النفس بعيدًا عن أمواج العالم المتلاطمة. الصلاة هي واحة خضراء في برية العالم القاحلة.. هي الوقت الذي تلتقي فيه النفس بِمَن يريحها. تجد القلب الكبير الذي تأتمنه على أسرارها وتستطيع أن تحدثه بكل صراحة عن متاعبها وعن ضعفاتها وسقطاتها. وهى موقنة تمامًا أنه لن يحتقر سقوطها، بل يقابلها بكل حنو، ويعينها على القيام، ويشجعها..
الصلاة هي خلوة النفس مع الله، هي لقاء مع الله، لقاء حب. هي التصاق بالله. هي تلامس قلب الإنسان مع قلب الله. هي تمتع النفس بالله.. وفي هذا قال داود النبي: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب"، وقال أيضًا: "أما أنا فخير لي الالتصاق بالرب"..
الصلاة هي صلة بالله، وربما من هذا المعنى اشتق اسمها وهكذا يكون الإنسان في حالة صلاة، إن وجدت هذه الصلة، وإن شعر بالوجود في حضرة الله، وإن أحس القلب أنه قائم فعلًا أمام الله، يتحدث إليه.. ليس المهم هو طول الصلاة ونوع الكلام بقدر ما تتركز الأهمية في وجود صلة مع الله.. إن لم توجد هذه الصلة لا يعتبر الإنسان مصليًا، مهما ركع ومهما سجد ومهما ظن أنه كان يتحدث مع الله.. إن اللمبات الكهربائية مهما كانت قوية وجميلة، فإنها تكون عديمة الفائدة ما لم يَسِر فيها التيار.. هكذا الصلاة..
الصلاة هي تقديس للنفس، هي رفع الفكر إلى الله، ورفع القلب إلى الله. وعندما يرتفع الفكر إلى الله، يبعد عن المادة وعن محبتها والانشغال بها، ويكون في مستوى أعلى، في مستوى روحي، وهكذا يتطهر الفكر بالصلاة ويتنقى، وكذلك القلب.. ويدخل كلاهما في جو آخر له سموّه، يدخلان في عشرة الملائكة وأرواح الأبرار. وبمثل هذه الصلاة تبطل الأفكار الرديئة، وتبطل طياشة الأفكار، ويتجمع العقل في الله.
وبالصلاة يصل الإنسان إلى ما يسميه القديسون" استحياء الفكر" أي أن الفكر الذي يتقدس بالصلاة يستحى من التفكير في شيء رديء. وهكذا يخجل الإنسان من أن يستضيف في ذهنه فِكرًا شريرًا في الموضع الذي كان يوجد فيه الله في العقل في وقت الصلاة.. وبهذا تساعد الصلاة على حياة التوبة والنقاوة..
لكل هذا كانت الصلاة رُعبًا للشياطين.. فالشياطين يخافون جدًا من عمل الصلاة، ويرونه سعيًا لإمدادات إلهية ومعونات سماوية تصل إلى النفس، فتحطم قوى الشياطين التي تحاربها. لذلك فإن الشياطين تحاول بكل قوتها أن تعطل الإنسان عن عمل الصلاة، ونقصد الصلوات الروحية التي تخيفهم.. أما الصلوات الفاترة أو السطحية فلا يهتم الشيطان بمقاومتها. إنها لا تؤذيه..
إن الصلوات الروحية تسبب حسد الشياطين وتذكرهم بما فقدوه. وتشعرهم بالدالة الموجودة بين الله والإنسان فيتعبون.. ويحاولون أن يمنعوا الصلاة. فإذا أصرّ الإنسان على الصلاة، يحاول الشياطين أن يشتتوا فكره، ويقدموا له تذكارات ومشاغل وأفكارًا ليجذبوه إلى شيء آخر بعيدًا عن الحديث مع الله.
الصلاة هي طعام الروح، هي غذاء الملائكة. هي عاطفة مقدسة تُغَذّي القلب.. بل في أثنائها قد ينسى الجسد أيضًا طعامه، ولا يشعر بجوع. ومن هنا كان ارتباط الصوم بالصلاة. فعندما تتغذى الروح بالصلاة. ويمكنها أن ترفع الجسد معها وتشغله عن التفكير في طعامه، وتعطيه طعامًا آخر. وبهذا تستطيع الروح أن تحمل الجسد.. الصلاة هي حركة القلب، حتى بدون كلام.. إن الصلاة ليست مجرد حديث؛ فقد تكون خَفْقَة القلب صلاة، وقد تكون دمعة العين صلاة، وقد يكون رفع البصر إلى فوق، أو رفع اليدين نوعًا آخر من الصلاة.. إن الله يفهم اللغة التي نخاطبه بها خارج حدود الألفاظ، كالأب الذي يدرك مشاعر ابنه وطلباته دون أن يتكلم.. وهكذا يقول داود النبي لله: "أنصت إلى دموعي". ذلك لأن دموعه كان لها صوت خفي يسمعه الله..
الصلاة هي تسليم حياتنا لله، هي إشراكه في حياتنا، هي رفض من الإنسان أن يستقِل بحياته بعيدًا عن الله. فبالصلاة نطلب من الله أن يتدخل في حياتنا، ويدبرها حسب مشيئته الصالحة الطوباوية، معلنين في اتضاع أمام الله أننا لا نستطيع أن نعتمد على أذهاننا وحدها، وأننا لا نقدر أن نعمل شيء.
إن الصلاة شرف عظيم، بها نصعد إلى الله، وبها نتلاقى معه، نحن التراب والرماد. وبالصلاة تتحول النفس إلى سماء وتتمتع بالوجود في حضرة الله والعجيب أنه مع هذا الشرف العظيم الذي للصلاة يمتنع البعض عن الصلاة، يمتنع التراب عن مخاطبة رب الأرباب خالق السماء والأرض الكلى القدرة..
ليست الصلاة تَفَضُلًا مِنَّا على الله، كما لو كنا نعطى الله شيئًا من وقتنا أو من مشاعرنا. وليست هي ضريبة يفرضها الله علينا. وليست هي عملًا نُغْصَب عليه بأمر سماوي. كلا، إنما الصلاة هي أخذ لا عطاء. بها نأخذ من الله بركات وعطايا ومواهب دون أن نعطيه شيئًا. وإن كنا نقدم لله وقتًا أو نقدم له قلبًا، فإنما لكي يملأ هذا القلب من محبته، ويقدس هذا الوقت ببركته.. إن اعتقادنا الخاطئ في أن الصلاة إعطاء هو الذي يجعلنا في كبرياء وَتَمَنُّع. نُقَصِّر في أدائها، أقصد: نُقَصِّر في حق أنفسنا أولًا وقبل كل شيء، لأننا نحن المستفيدون من الصلاة وليس الله. فلنحاول أن نصلي، لكي نأخذ بركة ومعونة، ولكي نتمتع بالله، ولكي تتقدس قلوبنا وحياتنا كلها. وإن صلينا، ليتنا نعرِف كيف نصلي، وكيف نخاطب الله الذي له كل مجد وكرامة وعزة إلى الأبد آمين.

Mary Naeem 05 - 10 - 2022 09:50 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث


الإيمان العملي

أيها القارئ العزيز: لا شك أنك تعتقد في نفسك أنك شخص مؤمن وأن أيمانك بالله ليس هو موضع سؤال.
فهل اختبرت اعتقادك هذا في ضوء "الإيمان العملي"؟! ولعلك تسأل: وما هو الإيمان العملي؟
و للإجابة على هذا السؤال نقول: إن كثيرين يؤمنون بالله إيمانًا نظريًا، إيمانا فكريًا، إيمانًا يختص بالعقل فقط ولا يتعدى نطاق العقل.. أما الإيمان العملي، فهو الإيمان الذي تظهر ثماره وعلاماته واضحة في حياة الإنسان، بحيث تشهد أعماله وأقواله وسلوكه أنه شخص مؤمن.. لهذا يسأل القديس بولس الرسول ويقول: "لنختبر أنفسنا هل نحن في الإيمان". ولتوضيح هذا الأمر سأضرب بضعة أمثلة:
أنت تؤمن أن الله موجود، وأنه عادل، وأنه يحكم للمظلومين، لماذا إذن تخاف؟ ولماذا تضطرب؟ وهل خوفك يدل على أنك شخص مؤمن؟!
عن داود النبي يقول: "الرب نورى وخلاصي، ممن أخاف؟ الرب عاضد حياتي، ممن أجزع.. إن يحاربني جيش، فلن يخاف قلبي. وإن قام على قتال، ففي ذلك أنا مطمئن.. ".. داود النبي يؤمن أنه في رعاية الله، حمل صغير في غنم رعيته، ولذلك يخاطب الله قائلًا: "إن سرت في وادي ظل الموت فلا أخاف شرًا، لأنك أنت معي.. عصاك وعكازك هما يعزيانني"..
حقًا، إن القلب المؤمن لا يخاف. الإنسان المؤمن الذي يثق برعاية الله له، لا يمكن أن يخاف. إن الخوف دليل عملي على ضعف الإيمان. ضعف الإيمان برعاية الله، وحمايته، وحفظه..
إن المؤمن ينصت إلى صوت المزامير وهى تشجعه بقول الوحي الإلهي: "فلا تخش من خوف الليل. ولا من سهم يطير بالنهار.. يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات. وأما أنت فلا يقتربون إليك بل بعينيك تتأمل، ومجازاة الخطاة تبصر".
لهذا استطاع القديسون أن يواجهوا الأخطار بقلوب مملوءة بالسلام لا تعرف للخوف معنى.. وإن ضغطت عليهم الضيقات، وإن بدا أن أعداءهم أكثر قوة وعددًا، يرن في آذانهم القول الإلهي: "أنا معكم، لا تخافوا"، "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون"، "إن الذين معنا أكثر من الذين علينا". عاش آباؤنا في البراري والقفار، في وسط الوحوش والحيات والعقارب ودبيب الأرض، ولم يخافوا.. وتعرضوا لهجمات الشياطين وحروبهم، ولم يخافوا.. كانوا مؤمنين بعمل الله معهم، وعمل الله من أجلهم..
لذلك إن حاربك الخوف، وَبِّخ ذاتك وقُل: أين إيماني؟! اشعر باستمرار بأن الله موجود، وأنه يعمل، وأنه يحمي السائرين في طريقه؛ يحميهم من الأخطار التي يرونها، ومن الأخطار الخفية التي لا يعرفونها. هو يدافع عنا أكثر من دفاعنا عن أنفسنا.. ولكنه دائمًا يتدخل في الوقت المناسب في الوقت الذي تحدده حكمته الأزلية. فإن حاربك الخوف بسبب أن المعونة الإلهية بدت متباطئة في الوصول إليك، فلتتشجع بقول داود النبي في المزمور: "انتظر الرب، تقو وليتشجع قلبك، وانتظر الرب".. حالة واحدة تخاف منها. عندما تشعر أن الله قد تخلى عنك بسبب خطاياك.
وحتى في هذه الحالة يستطيع المؤمن أن يجد حلًا إذ يشعر أنه بالتوبة يصطلح مرة أخرى مع الله، ويعود الله إليه، وتعود معونته. والتوبة في مقدور كل إنسان: يكفى أن يندم من كل قلبه، ويرفع قلبه إلى الله في انسحاق.. وإذ يشعر برجوع الصلة، ويزول الخوف ويطمئن

الإنسان المؤمن لا يخاف. والإنسان المؤمن حقًا، لا نخطئ. إنك قد تخجل من أن ترتكب خطيئة أمام أحد معارِفَك، أو أمام من توقرهم في داخلك، فكن بالأولى أمام الله!! إن الذي يضع الله أمام عينيه، لا شك أنه يستحى أن يخطئ قدامه.. مثلما عرضت الخطية على يوسف الصديق، فقال: "كيف أخطئ، وأفعل هذا الشر العظيم أمام الله؟!".
أؤكد لكم أننا في كل مرة نخطئ، نكون قد نسينا الله، نسينا أنه يرانا ويبصر ما نفعله، وهكذا إيماننا في وجود الله قد ضعف.. في كل مرة نظلم غيرنا، نكون قد نسينا الله العادل، وفقدنا الإيمان بالله الذي يحكم للمظلومين.. في كل مرة نفعل ما لا يليق، لا تكون صورة الله واضحة أمام أعيننا..
إن الإنسان المؤمن لا يخطئ، ليس فقط لإيمانه بأن الله يراه، وإنما أيضًا لإيمانه بأن الله سيحاسب وهو الديان الذي لا مهرب منه..

لهذا كان الإباحيون يحاربون باستمرار فكرة وجود الله، ويتخذون الله عدوًا لهم، وتقود الإباحية إلى الإلحاد.. أما المؤمنون فتظهر ثمار إيمانهم في حياة العفة والطهارة والقداسة التي يسلكون فيها، وبها يشعر الناس أنهم مؤمنون. ولذلك قال السيد المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم". فإن كنت تسلك في الخطية فلا تفتخر باطلًا، وتقول إنك إنسان مؤمن!! لئلا تكذبك أعمالك، وتقف شاهدة ضدك!
إن الإيمان كما قلت من قبل، ليس مسألة عقلية أو نظرية، إنما يدخل في الحياة العملية، ويصبح إيمانًا عمليًا، تسمى الحياة فيه "حياة الإيمان".
الإيمان إذن يتعارض مع الخوف، ويتعارض مع الخطيئة والشر.. هو أيضًا يتعارض مع التذمر والضجر. أنت تؤمن بالله. حسنًا تفعل. فهل تؤمن أن الله يصنع معك خيرًا؟ إن كنت تؤمن بهذا فلماذا تتذمر؟ ولماذا لا تحيا في حياة الرضا والشكر؟
إن المؤمنين يحيون باستمرار في حياة الشكر، يشكرون الله في كل حين، على كل شيء.. يقبلون كل شيء من يد الله في رضى وفي فرح، لا يتذمرون ولا يتضجرون.. هم يؤمنون أنه ضابط للكل، وأنه يملك زمام الكون كله، ويدبر أموره حسب مشيئته الإلهية الصالحة. لذلك هم مطمئنون إلى عمل الله.. ما يعمله الله خير ومقبول. وكل ما يشاؤه الله هو نافع ومفرح. فلتكن مشيئته..
المؤمنون لا يضعون مشيئة الله تحت مقاييس حكمتهم البشرية، إنما يخضعون حكمتهم البشرية لمشيئة الله، ويقبلون مشيئة الله في غير تذمر شاعرين أنها لصالحهم مهما كانت تبدو غير ذلك.. وحقًا كم من أمور تضايق منها الناس في بادئ الأمر ثم أثبتت لهم الأيام أنها كانت خيرًا وبركة.. لذلك فإن المؤمن يحيا باستمرار في حياة التسليم.
حتى إن كان الأمر الذي يحدث للمؤمن هو شر واضح، فإنه لا يتذمر، شاعرًا بالإيمان أن الله قادر أن يحول الشر إلى خير.. إن أخوة يوسف صنعوا به شرًا، وامرأة فوطيفار الزانية فعلت به أيضًا شرًا، وقادته إلى السجن. ولكن الله حول ذلك الشر إلى خير.. كم من أمور يريد بها الناس ضررنا، ولكن هذه الأضرار في طريقها إلينا تمر على يد الله صانعة الخيرات، فتحول الضرر إلى خير.. فلنكن إذن مطمئنين شاعرين بالإيمان أن حياتنا في يد الله، وليست في أيدي الناس، ولنقل باستمرار تلك الآية الجميلة المعزية التي يقول فيها الوحي الإلهي: "كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الرب".
الإيمان إذن يتعارض مع الخوف، ومع الخطيئة، ومع التذمر.. وهو أيضًا بالأكثر يتعارض مع اليأس.. ألست تؤمن أن الله قادر على كل شيء؟ آمن إذن أن الله قادر على حل جميع إشكالاتك، وقادر على إزالة جميع متاعبك. لا داعي إذن لليأس، فهو لا يتفق مع الإيمان.. وقل لنفسك باستمرار: "عند الله لكل مشكلة حل، أو حلول. وهو قادر على كل شيء. "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله".
لهذا نجد أن رجل الإيمان بشوش باستمرار، فرح القلب، مهما أحاطت به المتاعب لا يحزن ولا يكتئب ولا ييأس..
إنه يعيش في الحل الآتي، وليس في المشكل الحاضر. يجعل الله بينه وبين المتاعب فتختفي المتاعب بينه وبين الله، لئلا يختفي إيمانه بالله.

Mary Naeem 05 - 10 - 2022 09:54 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث


- التوبة

توجد موضوعات روحية تخص مجموعة معينة من الناس دون مجموعة أخرى. على أن هناك موضوعًا يخص الكل، مهما حاول البعض أن ينكر احتياجه إليه. أما هذا الموضوع فهو التوبة..
كل إنسان يحتاج إلى التوبة. لأنه لا يوجد أحد بلا خطية. الكل معرض للخطأ. والذي يقول إنه لا يخطئ هو بغير شك واحد من اثنين: إما أنه إنسان لا يحاسب نفسه جيدًا، وإما أن مقاييسه الروحية في حاجة إلى تعديل.
شعور الإنسان باحتياجه إلى التوبة، هو دليل صحة نفسه، دليل على أنه يريد أن يصلح حاله وقلبه. أما الذي لا يشعر بحاجته إلى التوبة، فلابد أنه سيبقى في أخطائه، تمنعه كبرياؤه من الاعتراف بالخطأ.. إنه بار في عيني نفسه، ولكنه ليس بارًا أمام الله وأمام الناس.. حتى أن القديسين أنفسهم كانوا يجاهدون من أجل التوبة، ولكن في مستويات عليا غير المستويات العادية..
إن كان الأمر هكذا،

فما هي التوبة إذن؟
ليست التوبة هي مجرد ترك الخطية وعدم السلوك فيها.. فكثيرًا ما يحدث أن يترك الإنسان الخطية لأسباب غير روحية، يتركها ليس محبة للبر، وليس لمحبته لله وإنما لأسباب أخرى، يكون في خلالها خاطئًا دون أن يخطئ.
فقد يبتعد الإنسان عن الخطيئة أحيانًا بسبب الكبرياء، أو بسبب العناد، أو بسبب الخجل، أو بسبب الخوف: الخوف من أن يضبط أو الخوف من النتائج. أو بسبب أن الفرصة لم تكن متاحة، أو بسبب أن الخطية معتذرة أو رافضة.. وقد يرفض الخطية من أجل التظاهر بالبر أو من أجل مديح الناس..
وفى كل هذه الحالات لا تكون الخطية في سلوكه، وإنما قلبه.. هو يريد ولكنه لا يفعل.. والله فاحص القلوب والأفكار، يعرف تمامًا أن مثل هذا الإنسان ليس تائبًا. إنه لا يزال في حياة الخطيئة، ولا يزال للخطية سيطرة عليه، وإن كان لا يخطئ بالفعل..
إن التوبة هي حالة تغيير في القلب. هي نقطة تحول في حياة الإنسان.. هي تجديد للقلب.. هي حياة جديدة يحياها الشخص تختلف اختلافًا كليًا عن حياته الأولى في السقوط.
و قد يتغير إنسان ويسير في الفضيلة، ولكنه لا يعتبر تائبًا إلا إذا استمر في حياة الفضيلة دون أن يرجع إلى الوراء. فكثيرون يظنون أنهم تابوا، وأن حياتهم قد تجددت، ويستمرون في هذا الوضع الجديد مدة، ثم تحدث لهم نكسة روحية، فيرجعون إلى أخطائهم، والبعض يقومون ثم يسقطون، ثم يقومون ويسقطون. وفي هذه الذبذبة لا نستطيع أن نقول إنهم تابوا.. ربما يكونون في مجرد محاولات للتوبة.
إن ترك الخطية ولو إلى فترة، ليس هو التوبة الحقيقية..
فقد يبعد الشخص عن الخطية، أو تبعد الخطية عنه، ليس لأنه قد صار بارًا، وإنما لأنه في هذه الفترة بالذات غير محارب بهذه الخطيئة بالذات..
إن الشيطان ذكى في حروبه، يعرف متى يحارب، وكيف يحارب، وبأية خطيئة يحارب الإنسان وإن وجد الإنسان مستعدًا استعدادًا كاملًا ومتحفزًا كل التحفز لمواجهته في ميدان معين، قد يترك هذا الميدان ويحاربه في موقع آخر.
فإن وجدت نفسك مستريحًا فترة ما من خطيئة معينة، لا تظن أنك قد صرت نقيًا من جهتها. ربما يكون الشيطان قد تركك إلى حين ريثما يعد لك كمينًا في موضع آخر، ثم يرجع إلى محاربتك مرة أخرى على حين فجأة بهذه الخطيئة التي ظننت أنك قد تبت عنها. لذلك كن حريصًا باستمرار، يقظًا باستمرار، مستعدًا باستمرار، لأنك لا تعرف في أية ساعة أو بأي شكل تأتيك الحرب الروحية..
وقد تستريح فترة من خطيئة معينة بالذات، ليس لأنك تبت عنها، وإنما بسبب شفقة الله عليك. أراد لك فترة راحة حتى لا تكل في الجهاد، أو لكيلا تقع في اليأس.. وربما تكون الخطيئة قد بعدت عنك بسبب صلوات بعض القديسين الذين تشفعوا فيك أن يمد لك الله يد المعونة حتى لا تسقط. ربما تكون القوة الحافظة المحيطة بك هي التي دافعت عنك، ولا يكون قيامك راجعًا لتوبة..

هناك إذن فرق كبير بين إنسان منتصر في حياته الروحية، وإنسان غير محارب. وتظهر التوبة على حقيقتها إذا حوربت فانتصرت. وقد ينتصر إنسان في حرب خفيفة ولكنه يضعف ويسقط إذا كان أغراء الخطيئة شديدًا وقاسيًا. أما التائب الحقيقي فهو رجل الله الذي يحارب حروب الرب في عنفها وينتصر. تضغط عليه الخطية في أشد إغراءاتها، وفي أقسى صورها، وفي أقصى حدودها، وينتصر. ويستمر أمامه الأغراء، ويستمر في نصرته.. مثل يوسف الصديق..
هذه هي التوبة. إنها حياة النصرة. حياة الإنسان الذي يجاهد من أجل الرب وينجح. حياة القلب الذي يرفض الخطية مهما ضغطت عليه..
ترك الخطية هو بداية حياة التوبة. أما كمال التوبة فليس هو ترك الخطية، وإنما هو كراهية الخطية. وقد يكره الإنسان الخطية أحيانًا بعض الوقت اشمئزازًا منها أو كرد فعل لبشاعتها، ثم يرجع بعد حين، بعد زوال هذا الانفعال فيشتاق إليها مرة أخرى. ليست هذه هي التوبة. إنما التوبة هي كراهية حقيقية للخطية، كراهية دائمة بسبب أن هذه الخطية لم تعد تتفق إطلاقًا مع طبيعة الإنسان الجديدة التي تجددت بالتوبة..
على أن كراهية الخطية هي حالة سلبية. أما الحالة الإيجابية فهي محبة الله. والتوبة الحقيقية هي النتيجة الطبيعية لدخول محبة الله في القلب. إنها استبدال شهوة بشهوة. إنها حلول شهوة البر محل شهوة العالميات. حلول الله محل العالم في قلب الإنسان.
التوبة هي الدرجة الأولى في السلم الروحي. منها يرتقى الإنسان درجة درجة في حياة القداسة والنقاوة حيث يصل أخيرًا إلى الكمال. والكمال هو قمة الدرج الروحاني..
وهذه القداسة، وهذا الكمال، لا يعلنهما الله للإنسان دفعة واحدة، لئلا يقع في صغر النفس، ويرى أنه ليس من السهل عليه الوصول..
الكمال كالأفق، هو آخر ما تصل إليه رؤيتك. عنده ترى السماء والأرض متعانقتين. فإذا ما وصلت إليه ترى أفقًا آخرًا في انتظارك بعيدًا عنه. وعندما تصل إلى هذا الأفق الآخر تتطلع إلى أفق أبعد.
وتظل تنتقل من أفق إلى فوق، ترقى من كمال إلى كمال أعلى. وأعلى ما يصل إليه الإنسان من كمالات هو جهالة بالنسبة إلى كمال الله الذي فيه يتركز الكمال الذي لا يحد، له المجد في كماله إلى الأبد، آمين.

Mary Naeem 05 - 10 - 2022 09:56 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

- محاسبة النفس



هناك فضيلة تلزم لكل إنسان، أيًا كانت درجته، وبدونها ما أسهل أن يضل وأن ينحرف هذه الفضيلة هي محاسبة النفس.
أليس من العار أن نجتهد كثيرًا في محاسبة غيرنا من الناس، بينما أنفسنا لا نحاسبها!!
نفترض مثاليات عالية نضعها أمام الآخرين، وإن تخلفوا عنها ولو قليلًا، ننصب لهم الموازين، ونكيل لهم الاتهامات، ونحاسبهم حسابًا عسيرًا، كأننا مسئولون عن كل أعمالهم.. أما أنفسنا، فنادرًا ما نضعها تحت الحساب.
بينما في حقيقة الأمر نحن أقدر على محاسبة أنفسنا لا غيرنا.. أنفسنا معنا في كل حين، نعرف جميع خباياها، وجميع نواياها، وجميع ظروفها وأحوالها، ونعرف كل أعمالها وأفكارها، لذلك نحن نقدر على محاسبتها، ونكون عادلين في حسابنا، لأنه من معرفة يقينية أما غيرنا، فلا نعرف دواخله، ولا نعرف ظروفه وقد نظلمه في حكمنا. وما أصدق قول الكتاب: "لا يعرف الإنسان إلا روح الإنسان الساكن فيه".. فليتنا نحاسب أنفسنا لا غيرنا..

ليتنا نحاسب أنفسنا بدلًا من أن يحاسبنا الناس. ما أجمل قول القديس مقاريوس الكبير: (احكم يا أخي على نفسك، قبل أن يحكموا عليك).. ويقينًا أننا لو حاسبنا أنفسنا، وعرفنا أخطاءنا، سوف لا نتضايق من محاسبة الناس لنا، وسوف لا نغضب منهم، بل نقول -ولو في داخلنا- "نحن بعدل جوزينا"..
بل ليتنا نحاسب أنفسنا، قبل أن يحاسبنا الله في اليوم الأخير. إن محاسبتنا لأنفسنا، تقودنا إلى التوبة، إذ ندرك واقع سقطاتنا فنتوب عنها ونتركها، والتوبة تمحو الخطايا، وتستمطر مراحم الله، وتوقفنا بلا دينونة في اليوم الأخير..
ومحاسبة النفس تقود الإنسان إلى الاتضاع، وتبعد عنه الغرور والكبرياء.. إنما يتعجرف الإنسان الذي لا يدرى حقيقة ذاته، ولا يعرف نقائصه وعيوبه.. أما الذي يحاسب نفسه، وتنكشف أمامه خطاياه وسقطاته وضعفاته، حينئذ يدرك أنه أقل بكثير مما كان يظن في نفسه، وتتضع نفسه من الداخل وان حاولت أن ترتفع يذكرها بما اكتشفه فيها من عيوب..
ولكن كل ذلك يتم، إن كنا دقيقين في محاسبتنا لأنفسنا، غير مجاملين لها، وغير ملتمسين لها الأعذار في كل شيء..
حقًا، ينبغي أن نكون حازمين في محاسبتنا لأنفسنا. ولا يصح أن نغطى كل ذنب بعذر، ولا يصح أن نبرر ذواتنا فيما نرتكبه من أخطاء، ولا يصح أن نلقى اللوم على الظروف أو على الآخرين أو على الضعف البشرى، ولا أن نخفى خطايانا وراء نيات حسنة. بل نكون صرحاء مع أنفسنا، غير مجاملين لها، ولا مدللين لها..
فلنكن مدققين جدًا في محاسبتنا لأنفسنا، عطوفين جدًا في محاسبة الآخرين. لأننا لا نعرف ظروف الآخرين، فربما يكون لهم عذر. كذلك لا نعرف تكوينهم النفسي والعصبي، ولا نعرف كل ظروفهم العائلية والاجتماعية والصحية والوراثية. أما من جهة أنفسنا، فندرك أنها بلا عذر، ونعرف تمامًا مقدار الإرادة الخاطئة في عملها، ومقدار تدخل الظروف..
وفى محاسبتنا لأنفسنا، ينبغي أن نحاسبها على كل شيء على العمل الخاطئ، وعلى مجرد النية الخاطئة وعلى أخطاء الفكر والحس واللسان والشعور، وكل شيء.. ونحاسبها أيضًا على علاقتها بالله وبالناس.. ونحاسبها على مدى النمو في حياتها الروحية. لا يكفى أن يكون الإنسان بعيدًا عن الخطية، إنما يجب أن يكون سائرًا في الفضيلة وناميًا فيها.
ينبغي أن نحاسب أنفسنا في ضوء مقاييس الكمال المطلوب منا. وهنا نوضح أنه كلما كان الإنسان ناميًا في معرفته الروحية دارسًا لحياة القديسين والأبرار، متعمقًا في فهم الفضيلة، فعلى هذا القدر يكون مستوى محاسبته لنفسه عاليًا. إن أصحاب القامات الروحية العالية يحاسبون أنفسهم على أخطاء قد لا يراها غيرهم أخطاء، ولكنها في نظرهم كذلك بحسب نموهم الروحي.
إن الله أعطي لكل منا ضميرًا يحاسبه. وبعضنا يحاول أن يسكت هذا الضمير، وبعضنا يحاول أن يميته، وبعضنا يهرب منه وبعضنا يحاول أن يتحايل على ضميره بحيل عقلية لتبرير مسلكه.. ولكن الإنسان الصالح هو الذي يخضع لتوجيهات ضميره ويحنى نفسه لمحاسبته، بل يجعل هذا الضمير يستنير أكثر وأكثر، ويكون مرفهًا أكثر وأكثر، بالمداومة على القراءة الروحية والتأمل في الفضائل..
لذلك ننصحك باستمرار أن تكون رقيبًا على نفسك. لا تجعل شيئًا من تصرفاتك أو من نواياك يفلت من مراقبتك. لا تترك دوامة المشغوليات تجرفك وتجعلك تنسى نفسك، فتقلل من مراقبتك لها. اتبع هذه المراقبة، بمحاسبة، وبمعاقبة، إن استلزم الأمر..
قل لنفسك ما يخجل الناس من قوله لك. ربما تجرحك كلمة صريحة يواجهك بها الغير، ولكنك تستطيع أن تقول هذه الكلمة لنفسك. بل تستطيع أن تبكت ذاتك، وأن توبخ ذاتك، وأن تقوم ذاتك وتؤدبها، فهي تخضع لك..
لا تترك نفسك على هواها، تسير حسبما تشتهي، دون رقيب أو مؤدب..
وأعرف أنك خير قاض يحكم على نفسك، وأعرف أن الشخص المجتهد في محاسبة نفسه، إنما هو الشخص الحريص على خلاص نفسه، الحريص أن يحفظ ذاته نقيًا من كل شائبة ومن كل لوم..
ومحاسبة النفس تقود إلي الصلاة وإلي الاعتراف.. إن حاسب الإنسان نفسه ووجدها قد أخطأت إلي الله أو إلي الناس، عليه أن يسكب ذاته أمام الله، ويعترف له بهذا الخطأ، ويطلب منه المغفرة، ويطلب منه أيضًا القوة على تجنب هذا الخطأ وعليه أيضًا أن يعترف لمن أخطأ إليه حتى يكسب رضاه ويصفي قلبه من جهته.. إلي باقي عناصر الاعتراف الأخرى..
ولعل البعض يسأل: متى يتاح للإنسان أن يحاسب نفسه! إن البعض يحاسب نفسه في مناسبات معينة، وكأن يجلس في بداية سنة جديدة ويحاسب ذاته على سلوكه خلال السنة الماضية كلها، والبعض قد يحاسب نفسه قبل الذهاب إلي الاعتراف والبعض يحاسب نفسه في نهاية كل يوم، قبل أن ينام. والبعض يحاسب نفسه على كل فعل بعد هذا الفعل مباشرة، قبل أن يفقد تأثيره..
ولكن أفضل الناس هو الذي يحاسب نفسه على العمل قبل أن يعمله. فيسأل نفسه: أيجوز لي أن أفعل كذا أو أن أقول كذا؟
وإن فعلت هذا الأمر ألا أرتكب كذا وكذا من الإثم؟ وهكذا يتجنب الفعل الخاطئ، ويتجنب ما قد يسببه هذا الفعل من نتائج لا تليق..
إن محاسبة النفس قد تقود الإنسان إلي حياة البر، أو على الأقل إلي حياة التوبة. وفي أقل القليل تقوده إلي حساسية الضمير وإلي يقظة القلب، وإلي التواضع والانسحاق.


Mary Naeem 05 - 10 - 2022 09:57 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

لا تخفى اخطائك بالأعذار ...




في حياتك الروحية: واجه الواقع.. كن صريحًا مع نفسك، ومع الناس.. وإن أخطأت، لا تحاول أن تغطي الخطأ بالأعذار.. بل اعترف بالخطأ، في أتضاع وفي صدق وحاول أن تصلحه.

ما أسهل على الضمير الواسع أن يجد عذرًا يغطي به أية خطيئة يقع فيها..!! ما أسهل عليه أن يبرر أي موقف، بأي كلام!


إن الأعذار باب واسع إن فتحناه، اتسع لكل فعل...

إن الأعذار لا تعرف الخجل، وإن كان الخجل قد يدفع أحيانًا إليها!!

الدافع الأول للأعذار هو تبرير الذات.

والسبب الحقيقي للأعذار الخاطئة هو كبرياء النفس التي ترفض أن تعترف بالخطأ.

والذات صنم يتعبد له الإنسان، ويريده أن يكون كاملًا وجميلًا في عينيه

وفي أعين الناس..

يسئ إلي البعض أن يبدو مخطئًا، لذلك يغطي خطأه بعذر أو بأعذار. ويكون العذر في حد ذاته خطأ آخر قد يحط من قدر الإنسان أكثر من الخطأ الذي يحاول أن يخفيه. وكما قال المثل:
"عذر أقبح من ذنب".


الإنسان الذي يبرر ذاته بمختلف الأعذار، هو إنسان يرفض أن يتوب.

أما الاعتراف بالخطأ فهو دليل على صحة النفس، ودليل على الرغبة في التوبة، وإظهار لندم الإنسان على أخطائه. وقد صدق الكتاب حينما قال: "أنت بلا عذر أيها الإنسان".

والأعذار قد تكون مكشوفة أحيانًا ومفضوحة، ومجالًا للسخرية، وموضعًا لشك الناس، وبخاصة إذا كثرت، أو إن كان الخطأ واضحًا للكل. لذلك على الإنسان أن يراجع نفسه كثيرًا قبل أن يحاول تغطية أخطائه بالأعذار.

بل قد تكون الأعذار أحيانًا سببًا للإثارة، يتعب السامع..

ويكون خيرًا للمخطئ لو انه يصمت، إن لم يستطع الاعتراف. فالصمت لا يثير كالأعذار التي تدل على استهانة المخطئ بما فعله، وكأنه يظن الأمر طبيعيًا لا إثم فيه..!

** والأعذار قد تكون صادقة، وقد تكون مختلفة وغير حقيقية. والكذب معين لكل خطية، يقترب من كل مخطئ وبيده ورقة تين عريضة يحاول أن يستره بها. والأعذار الكاذبة خطيئة مزدوجة تدل على مرض الضمير..


** وقد تكون الأعذار لونًا من الخداع، أو شرحًا لما حدث على غير واقعه الحقيقي
وقد يلجأ فيها الشخص إلى الاحتماء وراء أسباب ثانوية عن السبب الأساسي للفعل..

** وقد ينكشف عذر، فيغطيه صاحبه بعذر آخر..

وهكذا يدخل في سلسلة لا تنتهي من الأعذار، كلها تصرخ قائلة:

(إنني مجرد ستار لنفس أتعبتها الكبرياء أو أتعبها الخجل، فتريد أن تقف بريئة أمام الناس بأى سبب وبأية وسيلة..).



إن الأعذار بهذه الصورة نوع من المكابرة، تحاول أن تخفى الحقيقة، وأن تلبس المذنب ثياب الأبرياء.

وهى غير الأعذار البريئة الحقيقية التي تتقبلها النفس في رضى..

ما أجمل أن يعترف الإنسان بخطئه.. فالاعتراف بالخطأ يدل على محبة الإنسان للحق والعدل وعدم تحيزه لنفسه.. وعدم مجاملته لذاته..


Mary Naeem 05 - 10 - 2022 10:03 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

- ثياب الحِملان



لقد نصحنا السيد المسيح أن نحترس قائلًا: "يأتونكم في ثياب الحملان، وهم ذئاب خاطفة".
فما هي إذن ثياب الحملان؟
ثياب الحملان، هي لون من الخداع، أو من التغطية، أو من الرياء، يُخفي به الإنسان حقيقته الخاطئة.
يمكن أن ينطبق هذا الوصف على العدو الذي يلبس ثياب الأصدقاء، أو على الخاطئ الذي يتظاهر بالبر، ويمكن أن ينطبق على المرائين الذين قال عنهم السيد المسيح إنهم: "يشبهون القبور المبيضة من الخارج، وفي الداخل عظام نتنة"..
وثياب الحملان يمكن أن يلبسها الشيطان نفسه. فالشيطان يتقن أساليب الخداع ويستطيع أن يظهر إن أراد في هيئة ملاك من نور، أو في صورة أحد الأنبياء أو القديسين، أو في هيئة روح من أرواح الموتى. وقد يتخذ له أي اسم من الأسماء وأي شكل، وأي صوت.. يستطيع الشيطان أن يظهر في رؤى كاذبة، أو في أحلام كاذبة، ويوجه الإنسان بطريقة ما.

لذلك ينبغي أن يكون الإنسان حريصًا وحكيمًا وله موهبة التمييز. وكما قال الكتاب: "ميزوا الأرواح".. وإن لم يكن للإنسان هذه الموهبة حينئذ تنفعه المشورة الصالحة حينما يذهب إلى أحد المختبرين ويستشيره في أمثال هذه الأمور ليكشفها له. لأن الشياطين استطاعت أن تضل كثيرين صدقوا خداعها ولم يكتشفوها لأنها كانت تلبس ثياب الحملان..
على أن تعبير "ثياب الحملان" يمكن أن ينطبق أيضًا على الرذائل التي تلبس ثياب الفضائل، وعلى الأخطاء التي تتسمي بغير أسمائها..
إن الخطية قد تحارب الأشرار مكشوفة وصريحة، ولكنها لا تحارب الأبرار والقديسين هكذا، لأنهم لو عرفوا أنها خطية لرفضوها. لذلك فإن الشيطان عندما يحاربهم بخطية معينة، قد يلبسها ثوب الفضيلة، أو يعطيها اسمًا يريح الضمير. وهكذا يضل غير الحكماء وغير العارفين. ومثل هذا التضليل يمكن أن يكشفه المرشد الروحي..
وقد تستخدم الأسماء المُستعارة التي تلبسها الخطية بواسطة أشخاص يعرفون تمامًا أنهم مخطئون. ولكنهم يخفون أخطاءهم بثياب الحملان حتى لا يخجلوا أمام الآخرين، وحتى لا ينكشفوا.
ثياب الحملان إذن قد يقع فيها البعض عن طريق الجهل، وقد يلبسها البعض عن طريق الخداع أو الرياء وأمثال هؤلاء المرائين إن استطاعوا أن يخدعوا غيرهم إلا أنهم مكشوفون أمام الله، وأمام ضمائرهم.. وأحيانًا يصل بهم الاستهتار إلى أن يتهكموا على الأبرياء المساكين الذين انطلى عليهم الخداع..
وثياب الحملان يستخدمها العقل أحيانًا لتبرير سلوك النفس.. إن العقل لا يكون في كل وقت عقلًا صرفًا، أو حقًا خالصًا.. وإنما كثيرًا ما يكون العقل خادمًا مطيعًا لرغبات النفس.. يحاول أن يبرر شهوات هذه النفس، وأن يبرر سلوكها، حتى لا تبدو مدانة أمام الضمير.. وهكذا يعطى الخطايا والنقائص أسماء مقبولة غير أسمائها الحقيقية..
وسنحاول أن نضرب لذلك أمثلة:
فالاستهتار مثلًا قد يلبس ثياب الحملان ويأخذ اسم الحرية. وكلمة الحرية كلمة جميلة لا يجادل أحد في سمو معناها.
وتحت اسم الحرية يفعل الإنسان ما يشاء مستخدمًا هذا الاسم الجميل في فعل ما لا يليق، ناسيًا أن الحرية معناها الحقيقي هي تحرر النفس من الأخطاء ومن الشهوات المعيبة فالشخص الحر هو الذي لا تستعبده عادة رديئة، أو شهوة بطالة أو طبع فاسد. وليس معنى الحرية أن نكسر وصايا الله، ونقول إننا أحرار نفعل ما نشاء. هذا الذي يدعى انه حر، هو في حقيقته مستعبد للشيطان.. قد ألبس الاستهتار ثياب الحملان وأعطاه اسم الحرية..
كذلك قد تلبس الشهوة ثياب الحملان وتتسمى باسم الحب.. والحب كلمة جميلة تنال توقير الجميع، ولكن هل كل ما يسمى حبًا هو حب في حقيقته؟ ألا يجوز أن خطية ما تخشي أن تكشف عن حقيقتها الفاسدة، فتلبس ثياب الحملان وتتسمى بهذا الاسم الجميل؟! ألا يجور أن شابًا يصادق فتاة صداقة غير بريئة مملوءة بالأخطاء الواضحة، ويسمى هذه العلاقة خطأ باسم الحب، وهى بعيدة عنه كل البعد.
فالذي يحب فتاة محبة حقيقية، المفروض فيه أن يحب لها الخير، فلا يسئ إلى عفتها، ولا يسئ إلى طهارتها، ولا يسئ إلى سمعتها.. وإن أتلف طهارة هذه الفتاة، وأفقدها بساطتها، وأدخلها في خبرات خاطئة، وشغل عقلها، وضيع وقتها أو مستقبلها، وعلمها الكذب على أهلها، وعودها العمل المستتر في الخفاء.. فلا يصح أن يقول مع كل ذلك أنه يحبها..! الذي يحب ينبغي أن يكون طريقه سليمًا وواضحًا ويعمل في النور لا في الظلام. ولا يصح أن يكون الحب مجرد ثياب حملان تخفى في داخلها ذئاب "ذئاب خاطفة".
كذلك قد تلبس القسوة ثياب الحملان وتتسمى باسم الحزم. فقد تعاتب أبًا قاسيًا يسوم أولاده ألوان العذاب فيبرر موقفه بأنه ليس قاسيًا، وإنما هو حازم. ويطلق على هذا التعذيب اسم التأديب أو التربية، ويقول إنه شديد في تربية أولاده، بينما تكون قسوته بعيدة كل البعد عن أساليب التربية، وقد تأتى بعكس ما يريد، وينشأ أولاده معقدين.. ولكنها ثياب الحملان التي تحاول أن تخفى وحشية الأب وقسوته..
وفي الناحية المضادة قد يلبس ضعف الشخصية ثوب الطيبة والوداعة. وتحت اسم الطيبة قد يتلف أب أولاده، وقد يتلف رئيس أو مدير كل الهيئة التي يعمل فيها لكونه متساهلًا معيبًا مع مرؤوسيه يطلق عليه اسم الطيبة. والمفروض أن يكون الإنسان لطيفًا في غير ضعف، وحازمًا في غير عنف. وقد يعاقب ويكون طيب القلب في عقوبته، وقد يعفو ويكون حازمًا خلال عفوه.. هكذا تكون الشخصية المتكاملة..
وثياب الحملان قد يلبسها البعض في معاملاتهم للآخرين. فقد يسلك إنسان في أسلوب من التملق والمداهنة، فإن عاتبته على ذلك، قال لك إن هذا نوع من السياسة، أو من الحكمة، أو من كسب الأصدقاء. بينما يستطيع أن يصل إلى كل ذلك بغير تملق.. وقد يدس شخص عند رئيسه في حق زملائه، ويسمى هذا الدس وهذه الوقيعة نوعًا من الإخلاص ومن المحبة..! وما هي إلا ثياب حملان..
ما أكثر الأسماء المستعارة التي تلبسها أخطاء الناس، ويعوزني الوقت في هذا المقال المختصر أن أتحدث عنها بالتفصيل.. فالدهاء أو المكر أو الخبث، قد يتسمى باسم الذكاء وحسن التصرف..
والإسراف قد يتسمى باسم الكرم. والتهكم أو المزاح الرديء، قد يتسم باسم خفة الروح.. والشتيمة والشوشرة والإساءة إلى الآخرين قد تتسمى باسم الإصلاح أو النظام. والتعصب الرديء قد يتسمى باسم الغيرة المقدسة والتمسك بالدين. والكذب الأبيض لإخفاء حقيقته. والملابس الخليعة قد تتسمى باسم الموضة.. والأغاني العابثة والصور العارية المثيرة، قد تتسمى كلها باسم الفن.. وقد تختفي الرشوة تحت اسم الهدية، وتختفي السرقة تحت شكليات رسمية لا ترضى الضمير.. إلخ..
ليتنا نواجه الحقائق عارية وصريحة، ولا نسمى الأمور بغير أسمائها، لكي نستطيع أن نصحح أنفسنا من الداخل، ونصلح المجتمع الذي نعيش فيه.. أما ثياب الحملان فإنها تخفى العيوب بدلًا من إصلاحها..





المقال مع بعض التعديلات نُشِر في وقتٍ لاحق
ثياب الحملان

قال السيد المسيح وهو يحذر تلاميذه من اليهود في أيامه "يأتونكم بثياب الحملان. وهم ذئاب خاطفة"!!
أي يأتونكم بمظهر الطيبة والوداعة والمسالمة. وهم عناصر عنيفة فتاكة تشبه الذئاب التي تخطف. فما هي تأملاتنا في ثياب الحملان هذه. وفي أية المجالات يمكن أن تنطبق؟؟
يمكن أن ينطبق هذا الوصف علي العدو الذي يلبس ثياب الأصدقاء. أو علي الخاطئ الذي يتظاهر بالبر. ويمكن أن ينطبق علي المرائين الذين قال عنهم السيد المسيح إنهم يشبهون القبور المبيضة من الخارج وفي داخلها عظام نتنة...






وثياب الحملان يمكن أن يلبسها الشيطان نفسه..!

فالشيطان يتقن أساليب الخداع. ويستطيع أن يظهر إن أراد في هيئة ملاك من نور. أو في صورة أحد الأنبياء أو القديسين. أو في هيئة روح من أرواح الموتى. وقد يتخذ له أي اسم من الأسماء وأي شكل وأي صوت.. ويستطيع الشيطان أن يظهر في رؤى كاذبة. أو في أحلام كاذبة. ويوجه الإنسان بطريقة ما...
لذلك ينبغي علي كل إنسان أن يكون حريصًا وحكيمًا. وله موهبة التمييز.
والكتاب ينصحنا بأن نميز الأرواح.. وإن لم يكن لأحد منا هذه الموهبة. حينئذ تنفعه المشورة الصالحة. حينما يذهب إلي أحد المختبرين. ويستشيره في أمثال هذه الأمور ليكشفها له. لأن الشياطين استطاعت أن تضل كثيرين صدّقوا خداعها ولم يكتشفوها. لأنها كانت تلبس ثياب الحملان.






علي أن تعبير "ثياب الحملان" يمكن أن ينطبق أيضا علي الرذائل التي تلبس ثياب الفضائل وعلي الأخطاء التي تتسمي بغير أسمائها.
إن الخطيئة التي تغري الأشرار وهي مكشوفة وصريحة. لا تستطيع أن تحارب الأبرار والقديسين هكذا. لأنها لو ظهرت لهم بوجهها الصريح لرفضوها. لذلك فإن الشيطان حينما يحاربهم بخطية معينة. قد يلبسها ثوب الفضيلة. أو يعطيها اسما يريح الضمير! وهكذا يضل غير الحكماء وغير العارفين. ومثل هذا التضليل يمكن أن يكشفه المرشد الروحي إذا ما عُرض عليه...






وهذه الأسماء المستعارة التي تلبسها الخطية. قد يستخدمها أشخاص يعرفون تماما أنهم مخطئون. ولكنهم يخفون أخطاءهم بثياب الحملان. حتى لا يخجلوا أمام الآخرين. وحتي لا ينكشفوا.
إن ثياب الحملان قد يقع فيها البعض عن طريق الجهل وعدم الخبرة. وقد يستخدمها البعض بأسلوب الخداع أو الرياء.
وأمثال هؤلاء المرائين: إن استطاعوا أن يخدعوا غيرهم. إلا أنهم مكشوفون أمام الله فاحص القلوب والأفكار والنيات. ومكشوفون أيضا أمام ضمائرهم... وقد يكشفهم الناس كما يقول الشاعر:
ثوب الرياء يشفّ عما تحته .. فإذا التحفت به فإنك عار
علي أن هؤلاء المرائين. قد يصل بهم الاستهتار أحيانًا إلي أن يتهكموا علي البسطاء. لكي ينطوي عليهم الخداع.




وثياب الحملان يستخدمها العقل أحيانًا لتبرير سلوك النفس:
إن العقل لا يكون في كل وقت عقلًا صرفًا. أو مفكرًا في الحق تفكيرًا سليمًا.. وإنما كثيرًا ما يكون العقل خادمًا مطيعًا لرغبات النفس... يحاول أن يبرر شهوات هذه النفس. وأن يبرر سلوكها. حتى لا تبدو مدانة أمام الضمير.. وهكذا يعطي الخطايا والنقائص أسماء مقبولة غير أسمائها الحقيقية.
وسنحاول أن نضرب لذلك بعض الأمثلة:
فالاستهتار مثلا يلبس ثياب الحملان. ويأخذ اسم الحرية!
وكلمة الحرية كلمة جميلة لا يجادل أحد في سمو معناها.




وتحت اسم الحرية يفعل الشخص ما يشاء. مُستخدمًا هذا الاسم الجميل في فعل ما لا يليق. ناسيًا أن الحرية في معناها الحقيقي. هي تحرر النفس من الأخطاء ومن الشهوات المعيبة..

فالشخص الحر هو الذي لا تستعبده عادة رديئة أو شهوة بطالة أو طبع فاسد. وليس معني الحرية أن يكسر أحد وصايا الله ويقول أنا حر أفعل ما أشاء!! فمثل هذا الشخص ليس هو حرًا. بل هو مستعبد للشيطان وإغراءاته.. هو يحاول أن يُلبس الاستهتار ثياب الحملان ويعطيه اسم الحرية.!!
وليست الحرية أن تكسر قواعد المرور. وتقول أنا حر أسير كيفما أشاء!! فهذه ليست حرية. إنما هي استهانة بالنظام العام...
وفي بعض بلاد الغرب لبس الفساد. والشذوذ الجنسي. وإدمان المخدرات ثياب الحملان. وتسمي باسم الحرية الشخصية..
وفي بعض البلاد لبس الإلحاد والانحراف الديني والمذهبي ثياب الحملان أيضا. وتسمي باسم الحرية الدينية وحرية العقيدة!! حتى أن بعضهم اعتنق عبادة الشيطان. وبني له بيوتًا للعبادة والممارسات.. وطالب الدولة بحمايتها. باسم الحرية!!






كذلك قد تلبس الشهوة الجسدية ثياب الحملان. وتتسمي باسم الحب!
والحب كلمة جميلة في معناها السامي تنال توقير الجميع...
ولكن هل كل ما يسمونه حبًا. هو حب في حقيقته؟! ألا يجوز أن خطية ما تخشي أن تكشف عن حقيقتها الفاسدة. فتلبس ثياب الحملان وتتسمي بهذا الاسم الجميل؟! ألا يحدث أحيانًا أن شابًا يصادق فتاة صداقة غير بريئة مملوءة بالأخطاء الواضحة الفاضحة. ويسمي هذه العلاقة خطأً باسم الحب. وهي بعيدة عنه كل البعد!!
أتذكر أنني مرة في حديث صحفي سئلت عن الفرق بين الحب والشهوة؟
فقلت إن الحب يريد دائما أن يعطي. والشهوة تريد دائما أن تأخذ..






إن الذي يحب فتاة محبة حقيقية. المفروض فيه أن يحب لها الخير.
فلا يسيء إلي عفتها وطهارتها. ولا يسيء كذلك إلي سمعتها...
فإن أتلف عفة هذه الفتاة. وأفقدها بساطتها. وأدخلها في خبرات خاطئة. وشغل عقلها. وضيّع وقتها أو مستقبلها. وعلّمها الكذب علي أهلها. وعوّدها العمل الخاطئ في الخفاء.. فلا يصح أن يقول علي الرغم من كل ذلك إنه يحبها..!
فالذي يحب. ينبغي أن يكون طريقه سليمًا وواضحًا. ويعمل في النور وليس في الظلام. ولا يصح أن يكون الحب مجرد ثياب حملان تخفي في داخلها ذئابًا خاطفة..




كذلك قد تلبس القسوة ثياب الحملان. وتتسمي بالحزم..
فقد تعاتب أبًا قاسيًا يسوم أولاده ألوان العذاب. فيبرر موقفه بأنه ليس قاسيًا. وإنما هو حازم! ويطلق علي معاملته الفظة الخشنة لأبنائه اسم التأديب أو التربية! ويقول عن عنفه في تربية أبنائه إنها حفظ لهم حتى لا يخطئوا! بينما تكون قسوته بعيدة كل البعد عن أساليب التربية. وقد تأتي بعكس ما يريد. وتغرس في نفوس الأبناء الكبت والشعور بالظلم. والرغبة في الانطلاق من هذا البيت.. ولكنها ثياب الحملان التي يحاول بها الأب إخفاء وحشيته وقسوته!






وثياب الحملان قد تدخل أحيانًا في بعض مجالات النصب علي عقول بعض البسطاء أو غير المتعلمين. وبخاصة في الأرياف..
* وربما يدخل في هذا المجال المشتغلون بقراءة الكف "باعتباره علمًا" أو بقراءة الفنجان. أو بضرب الرمل ووشوشة الودع. أو بمعرفة البخت عن طريق النجوم. أو طريق البندول. وغير ذلك من الغيبيات.. وتسمية كل ذلك باسم الموهبة. أو الفراسة. أو النبوة وإدعاء معرفة المستقبل. وكلها ثياب حملان تخفي مجموعة من الإدعاءات..
* ويدخل في مجال استغلال بساطة الناس: المشتغلون بالسحر و"العمل"! وإشعار بعض اليائسين والحائرين. بأنه قد عُمل لهم عمل يحتاج إلي فكه. أو إلي حجاب يحجب الشر عنهم. أو إلي الاتصال بالأرواح أو بالجن للتفاهم في هذا الأمر. وكل اتصال له أجره!





قتل الأخت الخاطئة قد يلبس أيضا ثياب الحملان. تحت عنوان غسل شرف العائلة. ومحو العار عنها..
وأيضًا الانتقام لقتل الأب أو الأخ بقتل قاتله. يلبس ثوبًا آخر من ثياب الحملان. ويعتبر لونًا من القوة وكرامة الأسرة. وقديمًا في أيام الجاهلية كانوا يجدون أحد ثياب الحملان يغطون به وأد البنات.. وجرائم كثيرة كانت تستتر وراء قوة الشخصية. وكان يبررها الذين مارسوا الحكم الاستبدادي والديكتاتوري أمثال هتلر في ألمانيا. وأيضًا روبسبير وشركائه بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.
وبعض جرائم القذف والسب العلني تحاول أن تأخذ اسم حرية الصحافة. والاجتماعات الثورية قد تأخذ اسم الحرية السياسية وسب المرشحين لبعضهم البعض في الانتخابات تلبس ثوب الديمقراطية!!






ومن ثياب الحملان المشهورة. ثوب آخر اسمه الفن:
وكلمة الفن محبوبة من الجميع. ومن فروعها الفنون الجميلة وكل ما تشتمل عليه. ولكن "فنونًا" أخري ليست جميلة تنتحل هذا الاسم أيضًا!
فهناك نوع من الرقص الخليع يسمونه أيضا فنًا. وكذلك بعض التماثيل والصور العارية التي تخدش الحياء تدخل في نطاق الفن. وعروض عديدة من الإباحية. ومن الأغاني العابثة. ومن الروايات المثيرة. تسمي أيضًا فنًا. وكلها تنطوي داخل ثياب الحملان. وإن رأي أن ينتقدها. يتهمونه بأنه يحارب الإبداع الفني!




وما أكثر الأسماء المستعارة التي تلبسها أخطاء الناس:
ويعوزني الوقت في هذا المقال أن أتحدث عنها بالتفاصيل:
فالدهاء أو المكر أو الخبث. قد يتسمى بالذكاء أو بحسن التصرف!
والإسراف قد يأخذ اسم الكرم. والتهكم أو المزاح الرديء. قد يتسمى باسم خفة الروح! والشتيمة والانتقاد المرّ والكلام الجارح ضد سياسات القادة. يسمونها كلها باسم الإصلاح.. والتعصب الرديء قد يأخذ اسم الغيرة المقدسة والتمسك بالدين. وأحيانًا يسمي الكذب بالكذب الأبيض لإخفاء حقيقته. والملابس الخليعة قد تأخذ اسم الموضة. وقد تختفي الرشوة تحت اسم الهدية. وتختفي السرقات تحت شكليات رسمية لا ترضي الضمير.. إلي آخر هذه الأنواع.




وثياب الحملان قد يلبسها البعض في معاملاتهم للآخرين:
فقد يسلك إنسان بأسلوب من التملق والنفاق. فإن عاتبته علي ذلك. يقول لك إن هذا لون من السياسة. أو من الحكمة. أو كسب الأصدقاء! بينما يستطيع أن يصل إلي ذلك بغير تملق.
وقد يدسّ شخص عند رئيسه في حق زملائه. ويسمي الدس والوقيعة بأنه إخلاص منه لرئيسه وللصالح العام! وما هو إلا من ثياب الحملان.




ومن ناحية أخري. قد يلبس ضعف الشخصية ثوب الطيبة والوداعة:
وتحت اسم الطيبة قد يتلف أب أولاده. وقد يتلف رئيس أو مدير كل الهيئة التي تحت إدارته. لكونه يسلك بتساهل معيب يسميه الوداعة! والمفروض أن يكون الإنسان لطيفًا في غير ضعف. وحازمًا في غير عنف. وقد يعاقب ويكون طيب القلب في معاقبته. كما قد يعفو ويكون حازمًا خلال عفوه... وهكذا تكون الشخصية المتكاملة..




ليتنا إذن نواجه الحقائق عارية وصريحة. ولا نسمي الأمور بغير أسمائها. لكي نستطيع أن نصحح أنفسنا من الداخل. ويصلح المجتمع الذي نعيش فيه.. أما ثياب الحملان فإنها تحاول أن تخفي العيوب دون إصلاحها..!!


Mary Naeem 05 - 10 - 2022 10:04 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

نقاوة الأفكار



الإنسان الطاهر النقي، ينبغي أن يكون طاهر في جسده وروحه، وأيضًا طاهرًا في أفكاره و حواسه ومشاعره، وحتى في أحلامه وظنونه. و في هذا المقال أود أن أحدثكم عن نقاوة الأفكار.
يجب أن يحرص الإنسان على نقاوة أفكاره، لأن فكره هو أيضًا ملك لله. وكما نحرص على قلوبنا أن تكون نقية لكي يسكن فيها الله، كذلك الحال مع عقولنا أيضًا.. وقد ورد في الكتاب المقدس قول الوحي الإلهي: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك".
إن الذي يترك فكره ينشغل بأمور خاطئة إنما يدل على أن الله لا يسكن قلبه، لأنه من داخل القلب تنبع الأفكار.. وقد قال الكتاب: "الرجل الصالح من كنز قلبه الصالح تخرج الصالحات. والرجل الشرير من كنز قلبه الشرير تخرج الشرور"..
إن القانون لا يحاسبك على أفكارك ولكن الله يحاسبك على أفكارك. ومن هنا كان الضمير أقوى من القانون وأعمق. لأن الذي يحترس ألا يخطئ بفكره، من الصعب أن يخطئ بالعمل والفعل.. ومن هنا نقاوة الفكر سببًا في نقاوة الإنسان كله..
إن أردت أن يكون فكرك نقيًا، أبعد عن الأسباب التي تسبب نجاسة الفكر، ابعد عن كل ما يجلب لك فكرًا خاطئًا.. وقد تأتى الأفكار بسبب قراءات خاطئة، أو سماعات رديئة، أو بسبب الوسط الخاطئ: من خلطة أو عشرة أو صداقة بطالة، وقد يتولد الفكر الرديء من فكر آخر رديء.. فابعد عن كل هذا لكي تحفظ أفكارك طاهرة.
وقد تتولد الأفكار الخاطئة من رغبات أو شهوات رديئة داخل القلب. وفى الواقع إن الرغبات والأفكار يتعاونان معًا. يمكن لكل منهما أن يكون سببًا ونتيجة. الفكر الرديء يمكن أن ينجب شهوة رديئة. والشهوة الرديئة يمكن أن تلد فكرًا رديئًا. وفي أحيان كثيرة تكون أفكارك معبرة عن رغباتك. حاول أن تنقى قلبك من رغباته الرديئة، حينئذ تتنقى أفكارك تبعًا لذلك.
والأفكار والشهوات قد يلدان أحلامًا أو ظنونًا، فالشيء الذي تفكر فيه أو الذي تشتهيه قد تحلم به. وبهذا تكون على الإنسان مسئولية في بعض الأحيان تجاه أحلامه. وكلما يتنقى قلب الإنسان وفكره، على هذا القدر تتنقى أحلامه وإن حلمت بشيء ضد أفكارك ورغباتك، فقد تنزعج وتصحو بسرعة ولا تستطيع أن تستمر في الحلم طويلًا..
وقد تكون الأفكار الشريرة في بعض الأوقات مجرد حرب من الشيطان، يريد بها أن يعكر صفو قلبك، ويفقدك سلامك الداخلي. ولكن ليست كل الأفكار الشريرة حروبًا من الشياطين. إن بين حرب الأفكار والسقوط بالفكر فرقًا واسعًا.
الفكر الشرير الذي هو مجرد حرب من الشيطان، يكون قلبك متمردًا عليه، وتحاول إرادتك بكل قوتها أن تطرده وأن تتخلص منه، ولا تقبله على الإطلاق. أما سقطة الإنسان بالفكر، فإنه يكون خلالها راضيًا بالفكر الشرير، أو ملتذًا به، وقد يحاول أن يستمر فيه ويستبقيه ويطيله، وقد يتعب إن طرأ سبب يقطع حبل هذه الأفكار. فهل حينما تخطر الأفكار الشريرة بذهنك، تكون مقاومًا لها بصدق، أم راضيًا بها؟ هنا المقياس، وهنا اختبار معدن نقاوتك..
نصيحتي لك أن تقاوم الأفكار الشريرة وتهرب منها. إن حاربك فكر شرير، حاول أن تشغل ذهنك بشيء آخر لكي تهرب منه. يمكن أن تفكر في أمر آخر أكثر عمقًا، لكي تحول مجرى تفكيرك. ويمكن أن تنشغل بالقراءة في شيء ممتع، لكي تتحول أفكارك من ذلك الموضوع الرديء إلى موضوع القراءة. ويمكن أن تصلى سرًا وترفع قلبك إلى الله لكي يبعد الفكر عنك.. وإن لم ينفعك كل هذا انشغل بعمل يدوي أو تكلم مع أي إنسان لكي تطرد عنك الفكر..
احذر أن تستسلم للفكر الخاطئ، لأن هذه خيانة منك لله وانضمام منك لأعدائه. وهروبك من الفكر من بدء وروده إلى ذهنك أسهل وأيسر من محاولتك الهروب بعد استبقائه فترة. لأن الفكر كلما استمر معك، يمارس سلطة عليك، ويخضع إرادتك لجاذبيته، حتى تصبح عبدًا له تنفذ مشيئته.. وإذا استمر معك الفكر قد يتحول إلى انفعال أو إلى رغبة أو إلى شهوة.. وقد يتطور إلى محاولة للتنفيذ وبهذا تنحدر من خطيئة فكر إلى خطيئة عمل..
وقد يأتي الفكر الشرير من الفراغ. وكما يقول المثل: "فكر الكسلان معمل للشيطان". فالإنسان المنشغل، العمال، يتحكم في أفكاره، لأنه يوجهها حسب نوع مشغوليته. التلميذ المجتهد يوجه أفكاره في طريق دروسه، والعالم تشغل أفكاره في العلم، والرياضي في الرياضة، والعابد في العبادة. وأما الذي يقضي وقته في فراغ، يتعرض ذهنه للأفكار الشريرة. إنه لا يوجه أفكاره، بل الأفكار هي التي توجهه. نصيحتي لك أن تبدأ المبادرة. قم أنت بتوجيه أفكارك، ولا تترك الأفكار تعبث بك وتوجهك.
إن الفكر يمكن أن يكون سلاحًا في يدك، ويمكن أن يكون سلاحًا ضدك، فاتخذه صديقًا لك لا عدوًا.
اعرف أن أعظم المشروعات النافعة بدأت فكرة. وكل الأعمال الإنسانية العظيمة بدأت بفكرة. ونحن قد نحتاج إلي خبراء نستقدمهم من بلاد بعيدة أو قريبة، لكي نحصل من كل منهم على فكرة.. فلتكن أفكارك كنزًا لك ولغيرك. لتكن أفكارك بركة للمجتمع الذي تعيش فيه.
فإن لم تستطع أن تجعل أفكارك مصدر نفع لك وللناس، فعلى الأقل لا تجعلها سبب ضياع لك يفقدك مصيرك الأبدي، ويفقدك نقاوة قلبك..
لا تنتظر حتى يأتي الفكر الشرير إلي ذهنك ثم تتعب في مقاومته، بل ابدأ أنت واشغل فكرك بالصالحات.. ليكن لك كنز في التأملات المقدسة ومن الأفكار الإلهية وكنز من مشاعر الحب نحو الله، حتى يستحي منك ذهنك إن أراد الشيطان أن ينجسه أو يسقطه..
وانشغل دائمًا بكل ما هو نافع وأعرف أن الله يقرأ أفكارك ويفحصها. لذلك ينبغي أن تخجل من نفسك كلما استسلمت للفكر الخاطئ.. وإن سقطت في الفكر فلا تيأس وتستمر، بل قم بسرعة وقوم أفكارك، وليكن الله معك، يهبك نقاوة الفكر كعطية مقدسة من عنده.


Mary Naeem 05 - 10 - 2022 10:06 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

- الشهوة والخوف



ما هي شهواتك في الحياة؟ وهل أنت عبد لشهواتك، أم أن شهواتك طوع يديك، تحت سيطرة حكمة مقدسة؟ هل في شهواتك تستشعر خوفًا. أريد أن أحدثك في هذا المقال عن الشهوة والخوف.
الإنسان العادي تقوده شهوته:
وإذا استبدت به الشهوة تستطيع أن تخضع لها عقله وضميره، وتستطيع أن تتمرد على جميع أحبائه ومشيريه، وتبقى الشهوة وحدها، وتصير إرادة هذا الإنسان ذليلة أمام شهوته.. لا يسمع لصوت عقله، ولا يسمع لصوت ضميره، ولا يسمع لصوت أحبائه ومشيريه ومرشديه، إنما ينقاد لشهوة قلبه..

وتتنوع الشهوات التي تقود الإنسان:
هناك إنسان تقوده شهوة الجسد، وأخر تقوده شهوة المال، وثالث تقوده شهوة الشهرة أو شهوة العظمة، ورابع تقوده شهوة التسلط علي الآخرين، وخامس تقوده شهوة الانتقام. إلخ وهناك شهوات جيده قد تقود الإنسان أيضا مثل شهوة العلم، أو الرياضة، أو الموسيقي. ولكن عيب أمثال هذه الشهوات يكمن في عدم التوازن، إذا سيطرت علي الوقت أو العاطفة علي حساب أمور أخري هامة.
وشهوات الإنسان قد تمثل نقطة ضعف فيه، وبخاصة إذا عرفت عنه، فيستطيع الغير أن يحرموه منها فيتعبوه. ولذلك فقد يضعف الإنسان أمام شهواته ومن أجل استبقائها أو من أجل تحقيقها قد يلجأ إلي طرق خاطئة كالتملق والرياء والمداهنة، وربما يلجأ إلي الكذب أو الخداع أو التحايل ليحقق شهوة ما.
والشهوة قد يتبعها الخوف أحيانًا: إذ يخاف الإنسان من عدم تحقق شهوته، وإن كانت قد تحققت وأصبح يعيش فيها، فإنه قد يخشى ضياعها أو عرقلة طريقها بسبب من الأسباب. ولذلك حسنًا قال القديس أوغسطينوس:
(جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي أني لا أشتهي شيئًا ولا أخاف شيئًا).
حقًا، إن الإنسان الذي لا يشتهي شيئًا، لا يمكن أن يخاف إذ لا يوجد شيء يحرص عليه أو يخشى عليه من الضياع وما أجمل ما قاله أحد القديسين في ذلك: (خير الناس من لا يبالي بالدنيا في يد من كانت)..
ومن هناك كان الزهد أحد العوامل الأساسية في القضاء على الخوف. إن الإنسان الزاهد لا يخاف موتًا ولا سجنًا ولا إيذاءً، ولا حرمانًا من مشتهيات العالم، ولا أي تهديد من أي نوع. لأنه قد زهد كل شيء، ولم يعد يحرص على شيء يخشى أن يضيع منه..
والشهوات قد تكون شهوات عالمية، أو شهوات مقدسة. الشهوات العالمية قد وقف منها الكتاب المقدس موقفًا حاسمًا في الآية المقدسة التي تقول (لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم، لأن العالم يبيد وشهوته معه). وذكر الكتاب أيضًا أن شهوات العالم تتركز في (شهوة الجسد، وشهوة العين، وتعظم المعيشة).
ولما كان الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون رغبة، لذلك كان على الرجل الحكيم أن يتحكم في شهواته، إن الإنسان الجاهل، أو الإنسان الخاطئ، أو الإنسان الضعيف، تتحكم فيه شهواته. أما البار فيسيطر على جميع رغباته، ولا يستسلم إطلاقا لشهوة خاطئة، ولا يجعل إرادته تخضع لأية رغبة ضد مشيئة الله.
والرجل الحكيم لا ينتظر حتى تضغط عليه الشهوة، ثم بعد ذلك يقاومها، بل هو يتجنب هذه الشهوات من بعيد. أنه يسد أمام نفسه الطريق الذي تصل منه هذه الشهوات.. يبعد عن جميع المثيرات والمعثرات، ويتجنب العوامل الخارجية التي تغرس الشهوة في نفسه.. يبعد عن القراءات الخاطئة، والسماعات الخاطئة والصداقات الخاطئة، والمناظر الخاطئة.
وفي نفس الوقت يقوى محبة الله ومحبة الفضيلة في قلبه، حتى تكون له حصانة داخلية، تصد عنه كل الحروب الخارجية التي تحارب القلب.
إن شهوة الخير أقوى من شهوة الشر. والرجل البار يصد شهوة بشهوة. شهوة الخير هي شهوة الروح. وشهوة الروح قوية جدًا إن كانت صادقة وعميقة. كما أن شهوة الروح تسندها المعونة الإلهية. إذا اشتهت الروح خيرًا، نجد أن الله يؤيدها بكل قوة. إن الإنسان البار في شهواته المقدسة وفي محاربته للخطية لا يقف وحده. بل يسنده الله بنعمته، وتسنده الملائكة وأرواح القديسين..
والشهوة الروحية لا تعرف خوفًا. الإنسان الروحي في محبته لله ومحبته للفضيلة لا يخاف، لأنه يشعر بقوة الله معه ويشعر باطمئنان داخلي سببه راحة الضمير وثقة القلب..
إنما قد يخاف الإنسان الذي يسلك في الفضيلة خوفًا من الله وليس حبًا للفضيلة. الذي يسلك في البر خوفًا من العقوبة، هنا أو في العالم الآخر، وليس اقتناعًا بهذا البر وحبًا له. وليس هذا هو طريق الكمال، إنما قد تكون هذه مجرد بداية تحتاج إلى أن تتعدل وتتطور في الطريق.
إننا نريد أن يصل كل إنسان إلى المستوى الروحي الذي فيه يحب الخير ويحب القداسة، ولا يجد صعوبة في السير في طريق الله، بل يجد في طريق الله لذة أقوى من محبة العالم كله.
ونريد الشخص الذي يرفض الخطية ولا يندم على رفضه لها، ولا يشعر انه خسر شيئًا أو ضحى بشيء من أجل الله..
نريد الشخص الذي يشعر أنه يحقق وجوده الحقيقي بمحبة الله وبالثبات فيه. ولا يري إطلاقًا أن محبة الله ستحرمه من ملاذ أخرى يشتهيها. كلا، أن طريق الله ليس فيه حرمان، إنما فيه سمو. إنما يشعر بالحرمان الشخصي الذي يشتهى الخطية، ويرى أن الله يمنعه عنها. فيتضايق من الله عدوًا له، ويقاوم الله.. مثل الوجوديين الملحدين الذين يظنون أن وجود الله يلغى وجودهم هم. فمن الخير لهم أن الله لا يوجد، لكي يتمتعوا هم بالوجود!!!
هؤلاء قد أخطأوا المفهوم الصحيح للوجود.. ما هو هذا الوجود؟ هل هو الاستغراق في اللذة؟! هل هو تحقيق الشهوات أيا كانت خاطئة؟! هل هو السير في طريق الحرية المطلقة، أي أن تسير النفس حسب هواها دون مراعاة أية مثل أو مبادئ؟!
إن الحرية الحقيقية هي تحرير النفس من الداخل، تحررها من الشهوات ومن الخوف.. وعند ذلك سيكون هواها هوى مقدسًا، وستكون لذتها في الله وفي وصاياه، وفي طريق البر والخير. وعندئذ ستحقق وجودها الحقيقي، وجودها المثالي الذي يضمن لها وجودًا في الأبدية السعيدة.

Mary Naeem 05 - 10 - 2022 10:07 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

التداريب الروحية



حدثتكم في المقالات السابقة عن بعض الفضائل. أما في هذا المقال فأود أن أتحدث عن ممارسة تلك الفضائل.. وفي رأيي أن الممارسة تأتى عن طريق التداريب الروحية.
الذي يريد أن يصل إلى الله، ينبغي أولًا أن يعرف الطريق الموصل إليه، ولكن المعرفة وحدها لا تكفى.. يجب أن يكمل الإنسان الطريق الواصل من المعرفة إلى الممارسة.
ماذا يفيدك إن عرفت كل المعلومات عن الفضيلة، وأنت لا تسلك فيها؟! أو ماذا تستفيد إن عرفت كل المعلومات عن الله، وأنت غير ثابت فيه؟! إن المعرفة وحدها ربما تقود إلى الدينونة. لأن الكتاب يقول" الذي يعرف أكثر، يطالب بأكثر". ولكن ليس معنى هذا أن الجهل أسلم؛ فالقديس أوغسطينوس يقول: إن هناك فرقًا كبيرًا بين الجهل ورفض المعرفة. إن الذي يرفض أن يعرف، يدان أمام الله على رفضه للمعرفة، أو على عدم سعيه إليها إن كان ذلك في إمكانه..
يبدأ الإنسان بمعرفة طريق الله، إما عن طريق القراءة أو السماع أو القدوة الصالحة أو صوت الضمير. ويتطور من المعرفة إلى الاقتناع، ثم إلى الرغبة والحماس، ثم إلى التنفيذ..

إن البعض قد يقرأ عن الفضيلة، ويعجب جدًا بما يقرؤه، وقد يقتنع به، وقد يتحدث عنه، وقد يعظ به.. ولكنه يقف عند هذا الحد، ويبقى الحديث عن الفضيلة مجرد أفكار تعيش خارج حياته.. فكيف يمكنه أن يحول هذه المعلومات إلى حياة؟ اقترح لذلك فكرة التدريبات الروحية..
والتداريب الروحية معناها أن الإنسان بدأ مرحلة جديدة وهى تدريب نفسه عمليًا على الفضيلة، أو تدريب نفسه على ترك خطية معينة، أو محاربة عادة خاطئة عنده أو أي عيب يراه في سلوكه. أو قد يدرب ذاته على معالجة ضعف معين في علاقته مع الله أو مع الناس..
بهذه التدريبات تتحول المعلومات الروحية إلى حياة، ويتحول الاقتناع النظري إلى سلوك عملي وتتحول وصية الله إلى طبع في الإنسان.
وبهذه التدريبات يواجه الإنسان ذاته، ويواجه الواقع، ويدخل في حرب روحية مع نفسه، ويحاول أن يخضعها للحق والبر.. ويعرف أيضًا العوائق التي تعترض طريقه الروحي..
وسنحاول أن نأخذ مثالًا عمليًا ونحلله، لنفرض أن إنسانًا اكتشف في نفسه أنه إنسان سريع الغضب، وأراد أن يدرب نفسه على الهدوء والوداعة. فماذا يفعل؟
ينبغي أولًا أن يكون مقتنعًا بفائدة هذا التدريب وعازمًا على السير فيه.
من أجل هذا عليه أن يضع أمامه أضرار الغضب، وجمال الطبع الوديع الهادئ، ويستعرض أمامه بعض أقوال القديسين في ذلك، ولا مانع من أن يقرأ بعض السير الجميلة التي تحببه في فضيلة الوداعة. ويقنع نفسه أيضًا بتذكر ما جره على نفسه من قبل نتيجة لغضبه..
بعد ذلك يراقب نفسه ويحاسبها. وفي كل مرة يحاربه الغضب يذكر نفسه بالتدريب ولا مانع من أن تكون له كراسة خاصة بالتدريبات (أو نوتة) يسجل فيها ما يحدث له بخصوص هذا التدريب. فإن نجح في تدريبه يشكر الله على ذلك، وإن فشل يحاول أن يحلل أسباب فشله.
يعرف مثلًا: مع من ثار وغضب، ولأي سبب، وما هي الأخطاء التي وقع فيها أثناء غضبه. ويحاول أن يعرف هل هذا الغضب كان أمرًا عارضًا، أم أن له عنصر الثبات. أقصد هل هو دائم الغضب مع هذا الشخص بالذات، أو لهذا السبب بالذات؟ بحيث إذا اصطدم بنفس الشخص أو بنفس السبب لا بد أن يغضب؟ ثم يسأل نفسه هل كان الغضب هو العلاج الوحيد للموقف، أم كان ممكنًا أن يعالجه بطريقة أخرى؟ وهل هو قد تسرع في تصرفه؟ وهل كان ممكنًا بشيء من التفكير أو بشيء من طول الأناة أن يسلك بطريقة أهدأ وأسلم..؟
إن محاسبة النفس هذه وتحليل تصرفاتها، أمر لازم لكل إنسان يريد أن يعالج أخطاءه.
فإن وجد أنه مع إنسان معين لا بد أن يخطئ، يحاول أن يتحاشى هذا الإنسان، ويتفادى الحديث معه أو الخلطة به أو يحاول أن يحدد لنفسه سياسة حياله في المرات المقبلة حتى لا يفاجأ بنفس التصرف منه فيغضب. أو يحاول أن يصلح شعوره من جهته..
كذلك عليه أن يعرف الأخطاء التي يقع فيها أثناء غضبه ويدرب نفسه على تركها، فإن كان في غضبه يرتفع صوته ويحتد، يدرب نفسه على الصوت المنخفض الخفيف، وإن كان في غضبه تحتد ملامحه ونظراته ويتغير شكل وجهه، حينئذ يدرب نفسه على هدوء الملامح. وإن كان في غضبه يستخدم الألفاظ الجارحة، يدرب نفسه على الألفاظ الهادئة.. إلخ.
المهم أن يضع الإنسان نفسه تحت مراقبة، وتحت توجيه خاص، ولا يترك نفسه على حريتها تتصرف كما تشاء دون حساب ودون تعديل للاتجاه الخاطئ.
الإنسان الذي يستخدم طريقة التدريبات الروحية هو إنسان ساهر على خلاص نفسه، مهتم بنقاوة قلبه. وهو أيضًا إنسان لا يجامل ذاته، ولا يدعي أنه بغير خطية.
كلنا نخطئ. وعلينا أن نلتفت إلى أخطائنا فنعرفها ونعالجها.
ويمكن أن يكون التدريب الروحي تحت إرشاد روحي يقود ويوجه. وعلى أية الحالات فإن الإنسان الذي يدرب نفسه باستمرار، سيأتي عليه وقت يصبح فيه خبيرًا بالحياة الروحية وبالمحاربات الروحية، بل يصبح أيضًا خبيرًا بالنفس البشرية وبما يتفاعل فيها من مشاعر وأحاسيس وأفكار.. ويمكنه بطول الخبرة أن يصلح لإرشاد غيره..
إن الدين ليس مجرد معلومات يتلقاها الإنسان بل هو حياة. فما أسهل أن يتحول الشخص إلى دائرة معارف، ويبقى فارغًا من الداخل.. أما الدين فهو الوسيلة التي تقودنا إلى حياة الكمال. لذلك يقول لنا الرب في الإنجيل: "الكلام الذي أقوله لكم هو روح وحياة"..
لذلك فإن المعرفة الدينية يجب أن تكون مجرد وسيلة توصيل إلى الحياة الفضلى. ولهذا لا يصلح كل إنسان لتدريس الدين. فالدين ليس مجرد علم.. إننا نريد أن نصل إلى الوضع الذي يصبح فيه مدرس الدين عبارة عن وسيلة إيضاح لجميع الفضائل، ويصبح فيه المدرس هو نفسه الدرس هو القدوة العملية والمثال العملي الذي يتعلم منه الناس، فلا يصير واعظًا بل عظة..
وعلى كل إنسان يسمع عن الفضيلة أو يقرأ عنها، أن يأخذها مجالًا للتدريب العملي، ويبذل في اقتنائها كل جهده. مصليًا في كل حين أن يعطيه الرب قوة على السير في طريقة، وعلى النجاح فيما يدرب نفسه عليه..

Mary Naeem 05 - 10 - 2022 10:10 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

- بين الصمت والكلام



كثيرًا ما يتحير الإنسان: أيهما أفضل: أن يصمت أم أن يتكلم؟ وهكذا عليه أن يحدد موقفه بين الصمت والكلام.
فضيلة الصمت:
نلاحظ أن غالبية القديسين قد فضلوا الصمت، واضعين أمامهم قول الحكيم: "كثرة الكلام لا تخلو من معصية". وفى ذلك قال القديس أرسانيوس -معلم أولاد الملوك- عبارته المشهورة:
"كثيرًا ما تكلمت فندمت.. وأما عن سكوتي، فما ندمت قط".
ومن أجل هذا صلى داود النبي قائلًا: "ضع يا رب حافظًا لفمي، بابًا حصينًا لشفتي".. وقال الوحي الإلهي: "الاستماع أفضل من التكلم".

وما أكثر ما تحدثت الكتب الروحية عن: "فضيلة الصمت" ودعت إليها، لكيما يتخلص بها الإنسان من أخطاء الإنسان وهى عديدة..
منها الكذب والمبالغة، وكلام الرياء والتملق والنفاق. ومنها التهكم، والكلام الجارح، والسب واللعن والإساءة إلى الآخرين، والتحدث بالباطل في سيرة الناس. ومنها الافتخار بالنفس والتباهي ومدح الذات ومنها الكلام البذيء، والقصص والفكاهات الخليعة، وكلام المجون. ومن أخطاء اللسان أيضًا: التجديف، وكلام الكفر، والتذمر على الله. ومنها التعليم الخاطئ، والضلالة والبدع.
ومن أخطاء اللسان أيضًا الثرثرة. لأن الله لم يخلق اللسان فينا لكي يتكلم عبثًا بلا فائدة. لكل هذا فضل القديسون الصمت..
ليس فقط، لكي يبعدوا عن أخطاء اللسان، إنما أيضًا لكي يتيح لهم الصمت فترة للصلاة والتأمل..
لأن الإنسان لا يستطيع أن يتكلم مع الله والناس في الوقت نفسه. لهذا قال الشيخ الروحاني:
(سكِّت لسانك، لكي يتكلم قلبك).
وقال مار إسحق: (كثير الكلام يدل على أنه فارغ من الداخل)، أي أن قلبه فارغ من مناجاة الله، فارغ من العمل الروحي في التأمل والصلاة..



كلام المنفعة:
يبقى بعد كل هذا سؤال هام وهو:
هل كل صمت فضيلة؟
وهل كل كلام خطيئة؟
كلا، طبعًا، فقد قال داود النبي في المزمور: "فاض قلبي بكلام صالح". إذن هناك كلام نافع ومفيد، وذلك حينما نتكلم بالصالحات.
إن الصمت حالة سلبية، بينما الكلام حالة إيجابية.
وإنما يدرب الناس أنفسهم على الصمت، حتى يتدربوا على الكلام النافع. الصمت إذن هو وضع وقائي يحمينا إن كنا نتكلم بدافع بشرى.
أما إن كان الله هو الذي يفتح شفاهنا، وهو الذي يضع كلامًا في أفواهنا، فحينئذ يكون كلامنا –لا صمتنا– هو العمل الفاضل.
كان السيد المسيح يتكلم، والناس "يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه". والشهيد اسطفانوس تكلم فأفحم المجامع الخاطئة " ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به". وقد قال سليمان الحكيم: "فم الصديق ينبوع حياة".
وقد كان حكماء العالم يجوبون البر والبحر، لكي يسمعوا كلمة منفعة من المتوحدين والنساك في براري مصر وقفارها..
كلام المنفعة هذا، هو كلام من الله يضعه في أفوه أحبائه، ليبلغوه للآخرين، هادئًا كان أم شديدًا.
ومن كلام المنفعة: كلمة النصح لمن يحتاج إليها، وكلمة العزاء لقلب حزين، وكلمة التشجيع لناشئ أو ليائس، وكلمة التعليم لبناء النفوس، وكلمة الله للهداية والإرشاد، وكلمة البركة، وكلمة الحق وكلمة الحكمة.. الخ.
نسأل سؤالًا بعد هذا، وهو: إن كان الكلام هكذا نافعًا في بعض الأوقات.
فهل يمكن أحيانًا أن يعتبر الصمت خطيئة، تمامًا كما يحسب الكلام الشرير خطيئة؟ وهل يمكن أن ندان على صمتنا، كما ندان على كلامنا!
نعم، أحيانًا ندان على صمتنا..
إن لكل شيء تحت السماء وقتًا. وقد قال سليمان الحكيم: "للسكوت وقت، وللتكلم وقت". فإن كان للتكلم وقت، فلا شك أننا ندان إذا صمتنا فيه.
فالبار لا يتكلم حين يحسن الصمت. ويصمت حين يحسن الكلام.
إنما يعرف متى يتكلم، وكيف يتكلم. ويضع لكلامه هدفًا نافعًا روحيًا. وقد قال الحكيم: "تفاحة من ذهب، في مصوغ من فضة، كلمة مقولة في موضعها".
وكثيرًا ما أمر الله الناس بالكلام، فكان يرسلهم أحيانًا للإنذار، وأحيانًا للتبشير، وأحيانًا لإعلان حقه بين الناس.
إن الله لا يكلم الناس مباشرة، وإنما يكلمهم عن طريق أحبائه من البشر. هو يريدنا أن نعلن وصاياه للناس، وقد طلب إلينا أن نكون شهودًا له على الأرض..
فإن صمتنا عن الشهادة للحق، ندان على صمتنا.
وإن صمتنا، وبصمتنا أعطينا مجالًا للباطل أن ينتشر وأن ينتصر فإننا ندان على صمتنا.
وإن قصرنا في إنذار البعض، فأضر بنفسه أو بغيره، ندان أيضًا على صمتنا.
فإن رأيت إنسانًا يسقط في حفرة وهو لا يدرى، هل تقول إن الصمت فضيلة أم تحذره؟! وإذا لم تحذره، ألا تدان على صمتك، ويطالبك الله بدم ذلك الإنسان؟
بهذا يكون هناك واجب على الرعاة أن يتكلموا، وواجب مثله على الآباء والأمهات، وعلى القادة الروحيين، وعلى المعلمين، وعلى كل من هو في مسئولية.. كل هؤلاء كلفهم الله أن يقولوا كلمة الحق، وأن يشهدوا لوصاياه في العالم.. ومثل هؤلاء يكون كلامهم أفضل من الصمت.
فليعطنا الرب أن نعرف كيف ومتى نتكلم. وليعطنا الكلمة التي تتفق ومشيئته الصالحة، والتي يعمل فيها روحه القدوس فلا ترجع فارغة، بل تثمر ثمرًا في قلوب الناس. ويرى الرب ثمار هذه الكلمة فيفرح وتفرح ملائكته، ويكون هو الذي تكلم وليس نحن.. وليتمجد الرب في صمتنا وفي كلامنا، له المجد إلى الأبد أمين.


المقال مع بعض التعديلات نُشِر مرة أخرى في وقتٍ لاحق في جريدة الأهرام يوم 1 يناير 2012

أيهما أفضل‏:‏ الصمت أم الكلام

نلاحظ أن غالبية قديسي البرية قد فضلوا الصمت. واضعين أمامهم قول سليمان الحكيم: كثرة الكلام لا تخلو من معصية. وفي ذلك أيضا قال القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك عبارته المشهورة: كثيرا ما تكلمت فندمت. وأما عن سكوتي فما ندمت قط.
من أجل هذا صلي داود النبي قائلًا: ضع يا رب حافظا لفمي، بابا حصينا لشفتي. وقال الوحي الإلهي: الاستماع أفضل من التكلم.
وما أكثر ما تحدثت الكتب الروحية عن فضيلة الصمت، ودعت إليها، وذلك لكي يتخلص بها الإنسان من أخطاء اللسان وهي كثيرة: منها الكذب، والمبالغة، وكلام الرياء والتملق والنفاق، ومنها التهكم والكلام الجارح، والسب واللعن والإساءة إلي الآخرين. والنميمة، والتحدث بالباطل في سيرة الناس. ومنها الافتخار بالنفس، والتباهي ومدح الذات. ومنها الكلام البذيء، والقصص والفكاهات الخليعة. وكلام المجون ومنها أخطاء الإنسان في حق الله، كالتجديف، وكلام الكفر، والتذمر علي الله، ومنها التعليم الخاطيء، والضلالة والبدع.
ومن أخطاء اللسان أيضا الثرثرة. ذلك لأن الله لم يخلق اللسان عبثا، لكي يتكلم بلا فائدة.
لكل هذا فضل القديسون الصمت... ليس فقط لكي يبعدوا عن أخطاء اللسان، إنما أيضا لكي يتيح لهم الصمت فترة للصلاة والتأمل. ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يتكلم مع الله والناس في الوقت نفسه. لهذا قال الشيخ الروحاني: سكت لسانك، لكي يتكلم قلبك وقال مار إسحق: الشخص الكثير الكلام، يدل علي أنه فارغ من الدخل أي أن قلبه فارغ من مناجاة الله، وفارغ من العمل الروحي للتأمل والصلاة.
كلام المنفعة:
يبقي بعد كل هذا سؤال مهم وهو:
هل كل صمت فضيلة؟ وهل كل كلام خطيئة؟!

كلا طبعا، قال داود النبي في المزمور: فاض قلبي بكلام صالح. إذا هناك كلام نافع مفيد. وذلك حينما نتكلم الصالحات.
إن الصمت حالة سلبية، بينما الكلام حالة إيجابية.
وإنما يدرب الناس أنفسهم علي الصمت، حتى يتدربوا علي الكلام النافع، الصمت إذن هو وضع وقائي، يحمينا إن كنا نتكلم بدافع بشري.
أما إن كان الله هو الذي يفتح شفاهنا، وهو الذي يضع كلاما في أفواهنا، فحينئذ يكون كلامنا ـ لا صمتنا ـ هو العمل الفاضل.
كان السيد المسيح يتكلم، والناس يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه والشهيد استفانوس تكلم، فأفحم المجامع الخاطئة ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به.
وقد قال سليمان الحكيم: فم الصديق ينبوع حياة وقد كان عظماء الناس يجوبون البر والبحر، لكي يسمعوا كلمة منفعة من المتوحدين والنساك في براري مصر وقفارها.
كلام المنفعة هذا هو كلام من الله يضعه في أفواه أحبائه ليقدموه للآخرين، هادئًا كان أم شديدًا.

ومن كلام المنفعة: كلمة النصح لمن يحتاج إليها. وكلمة العزاء لقلب حزين. وكلمة التشجيع ليائس أو لأحد الناشئين. وكلمة التعليم لبناء النفوس. وكلمة الحق للهداية والإرشاد. وكلمة البركة، وكلمة الحكمة.
نسأل سؤالا بعد هذا، وهو: إن كان الكلام هكذا نافعا في بعض الأوقات. فهل يمكن أحيانًا أن يعتبر الصمت خطيئة، تماما كما يحسب كلام الشرير خطيئة؟! وهل يمكن أن ندان علي صمتنا، كما ندان علي كلامنا في بعض الأوقات؟!
نعم أحيانا ندان علي صمتنا.
إن لكل شيء تحت السموات وقتا. وقد قال سليمان الحكيم: للسكوت وقت، وللتكلم وقت.
فإن كان للتكلم وقت فلا شك أننا ندان إذا صمتنا فيه.
الإنسان البار لا يتكلم حين يحسن الصمت. ولا يصمت حين يجب الكلام. إنما يعرف متى يتكلم وكيف يتكلم. ويضع لكلامه هدفا روحيا. وقد قال الحكيم: تفاحة من ذهب، في مصوغ من فضة، كلمة مقولة في موضعها.
وكثيرا ما أمر الله الناس بالكلام، فكان يرسلهم أحيانا للإنذار، وأحيانًا لإعلان حقه بين الناس.
إن الله لا يكلم البشر مباشرة وإنما يكلمهم عن طريق خدامه من البشر هو يريدنا أن نعلن وصاياه للناس. وقد طلب منا أن نكون شهوده علي الأرض.
فإن صمتنا عن الشهادة للحق، ندان علي صمتنا. وإن صمتنا، وبصمتنا أعطينا مجالا للباطل أن ينتشر وأن ينتصر، فإننا ندان علي صمتنا.
وإن قصرنا في إنذار البعض، فأضر بنفسه أو بغيره، فحينذاك ندان أيضًا علي صمتنا.
إن رأيت إنسانا يكاد يسقط في حفرة وهو لا يدري، هل تقول وقتذاك إن الصمت فضيلة أم تحذره؟! وإن لم تحذره، ألا تدان علي صمتك، ويطالبك الله بدم ذلك الشخص؟!
لهذا يكون هناك واجب من الرعاة والقادة أن يتكلموا وواجب مثله علي الآباء والأمهات، وعلي المعلمين وعلي كل من هو في مسئولية... كل هؤلاء عليهم أن يقولوا كلمة الحق، وأن يشهدوا لوصايا الله في العالم... ومثل هؤلاء يكون كلامهم في قول الحق أفضل من الصمت.
فليعطنا الرب أن نعرف كيف ومتى نتكلم، وليعطنا الكلمة التي تتفق ومشيئته الصالحة... ولا ترجع فارغة. بل تثمر ثمرًا في قلوب الناس.


Mary Naeem 05 - 10 - 2022 10:12 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

- فوائد النسيان



كثير من الناس يشكون من أنهم ينسون، ويسألون باستمرار عن علاج للنسيان.. وحقًا إن للنسيان مساوئ كثيرة ومع ذلك فلكي ننصفه، نقول إن هناك ولا شك فوائد للنسيان.
النسيان على أنواع. هناك نسيان ضار ليس هو الذي نقصده في هذا المقال. فمن الخطأ طبعًا أن ينسى المرء واجباته الدينية أو واجباته العالمية. ومن الخطأ أن ينسى عهوده ووعوده ومواعيده. ومن الخطأ أن ينسى فضل الناس عليه أو ينسى بالأكثر إحسانات الله العديدة.. الخ.
على أن النسيان ليس كله شرًا، لقد سمح الله به من أجل نفع الإنسان وفائدته، لو أحسن الإنسان استخدامه.. فالإنسان الحكيم يعرف متى ينبغي أن يذكر، ومتى ينبغي أن ينسى. فلا ينسى حيث يجب التذكر، ولا يتذكر حيث يجب النسيان.. وسنحاول في هذا المقال أن نشرح بعض المجالات التي يحسن فيها النسيان..

فمن فوائد النسيان مثلًا أن ننسي إساءات الناس إلينا.. ننساها لكي نستطيع أن نصفح وأن نغفر. وننساها لكيلا يملك الغضب على قلوبنا من جهتها.. ننساها لكي نهرب من شيطان الحقد ومن شيطان الكراهية.
الذي ينسى أخطاء الناس إليه، يمكنه أن يحب الجميع، ويملأ السلام قلبه من جهة الكل. ويستطيع أن يقابل كل أحد ببشاشة، ولا يختزن في قلبه شرًا من جهة أحد.. لذلك إن أساء إليك أحد، لا تحاول أن تسترجع في ذهنك إساءته إليك. ولا تجلس مع الناس وتحدثهم عما فعله بك هذا المسيء.. لا تفكر في هذا الموضوع، ولا تتكلم فيه، لئلا يرسخ في ذاكرتك وفي قلبك، ويتعبك..
ولا تنسى فقط أخطاء الناس، إنما إنس أخطاءهم عمومًا. لو تذكرت على الدوام أخطاء الناس، لاسودت صورتهم في نظرك، ولعجزت عن أن تجد لك في الناس صديقًا.. كل الناس لهم أخطاء، ولو تذكرنا لكل واحد أخطاءه لما استطعنا أن نتعامل مع أحد.. وربما يدخل الشك إلى قلوبنا من جهة الناس جميعًا.. وربما لا نستطيع نتكلم باحترام مع كل أحد..
إن الله لا يضع أخطاءنا على الدوام أمام عينيه، فلنفعل هكذا مع الناس.. يقول لنا الإنجيل المقدس: "بالكيل الذي به تكيلون، يكال لكم ويزاد". ليتنا إذن ننسى أخطاء الناس، لكي ينسى الله أخطاءنا. وفي نفس الوقت الذي ننسى فيه أخطاء الناس، ينبغي أن نذكر خطايانا الخاصة، لكي نصل إلى حياة الاتضاع.. قال القديس الأنبا أنطونيوس: (إن ذكرنا خطايانا، ينساها لنا الله، وإن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله)..
إذن اذكر خطاياك، وانس خطايا غيرك.. فإن هذا يقودك إلى الاتضاع وإلى المحبة أما الإنسان المتكبر أو غير المحب فإنه على العكس: دائمًا ينسى نقائصه الخاصة، ودائمًا يذكر أخطاء غيره. وقد يتحدث عن خطايا الناس، ويتضايق إن تحدث الناس عن خطاياه.
كذلك من النسيان النافع، أن تنسى فضائلك، أو تنسى الأعمال الحسنة التي شاءت نعمة الله أن تعملها على يدك.. إن عملت خيرًا أو إن عمل الله خيرًا بواسطتك، فالواجب عليك أن تنسى ما عملته. لا تذكره، ولا تتذكره. لئلا يوقعك في هذا الأمر في الإعجاب بالنفس أو في الكبرياء، وأيضًا لكيلا تجلب لنفسك مديحًا من الناس يضيع معه أجرك في السماء إذ تكون – حسبما يقول الإنجيل – " قد استوفيت خيراتك على الأرض"..
الذي يعمل خيرًا، عليه أن يخفى الأمر، ليس عن الناس فقط، إنما حتى عن نفسه هو، بالنسيان. وفى هذا يقول السيد المسيح: "وأما أنت فمتى صنعت صدقة، فلا تعرف شمالك ما تفعله يمينك. لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء، هو يجازيك علانية".. حقًا إن الذي يذكر فضائله، أو يظهر فضائله، إنما يقع في الغرور ويفقد ثوابه.. لذلك إنس الخير الذي تعمله، وإن ألح عليك الفكر في تذكره، أو أن تكلم الناس عنك فانسب ذلك إلى نعمة الله وعمله لا إلى نفسك.
ومن فوائد النسيان، أن تنسى المتاعب والضيقات..
أحيانًا يكون التفكير في الضيقة أشد إيلامًا وضررًا من الضيقة ذاتها.. اجعل الضيقات خارجك لا داخلك. لا تسمح بدخول الضيقات في فكرك أو في قلبك لئلا تتعبك. حاول أن تنساها. وإن ألح عليك الفكر ولم تستطع أن تنسى، حاول أن تنشغل بالقراءة أو بالعمل أو بالحديث مع الناس، لكي تنسى..
وعندما تنسى ضيقاتك ومتاعبك وآلامك، ستدرك أن النسيان نعمة وهبها لنا الله. وستشكر الله الذي جعلك تنسى.. أليس أن الأطباء يقدمون للمرضى المتعبين بأفكارهم ومشاكلهم النفسية، أدوية لكي تشتت تركيز أفكارهم فينسون.. وهكذا يحاول الإنسان أن يشترى النسيان بالطب والدواء والمال. مبارك هو الله الذي يهب النسيان مجانًا، لمحبيه..
إنس المتاعب إذن والهموم، لأن تذكرها يجلب الأمراض النفسية والعصبية، وأمراضًا أخرى باطنية كثيرة.
من فوائد النسيان أيضًا أن ينسى الإنسان المعثرات التي تجلب له الخطية. فقد يقرأ شاب قصة بذيئة، أو يرى منظرًا خليعًا، أو يسمع كلامًا مثيرًا.. وإن لم ينسى كل هذا، تظل هذه الأمور حربًا على فكره تضيع نقاوة قلبه. ومن الخير له أن ينسى.
و قد يقع شاب في مشكلة عاطفية، ويحاول من أجل راحة قلبه أن ينسى.. وإن استطاع يعترف أن النسيان نعمة عظيمة.
لذلك حاول أن تنسى كل ما يعكر نقاوة قلبك.. لا تجلس وتفكر في أي أمر ينجس ذهنك أو مشاعرك. إنما إن عبر شيء من هذه الأمور عليك لا تستبقيه ولا تعاود التفكير فيه لكي تنساه.
ومن فوائد النسيان أيضًا أن تنسى التافهات لكي تبقى في ذهنك الأمور الهامة النافعة لك ولغيرك..
تصوروا مثلًا لو أن إنسانًا تذكر كل ما يمر عليه طوال يومه أو طوال أسبوع أو شهر من كل الأمور التافهة التي تختص بالأكل والشرب وأحاديث الناس ومناظر الطريق وأيضًا كل القراءات وكل الإحداث، مثل هذا الشخص لا تحتمل طاقة فكره أن تخزن المعلومات اللازمة له والأساسية.. لذلك يسمح الله أن ننسى التافهات لكي تبقى في ذهننا الأمور الهامة فقط.
تصور مثلًا إذا أردت أن تصلى، وجاءت إلى ذاكرتك كل الأخبار والأحاديث التي عبرت عليك في يومك!! هل تستطيع حينئذ أن تركز فكرك في الصلاة. كذلك إن أراد أحد أن يذاكر درسًا، أو أن يكتب بحثًا، أو أن يناقش موضوعًا هامًا، أتراه يستطيع ذلك وفي ذهنه كل التفاهات التي عبرت عليه في يومه. أليس من صالحه أن ينساها؟! ولو إلى حين..
إن النسيان إذن عملية غربلة حيوية تغربل في الذهن وفي الذاكرة جميع المعارف والمعلومات والمناظر والسماعات والأخبار، فتستبقى منها النافع، وتترك ما لا يفيد..
حاولوا إذن أن تتحكموا في ميزان ذاكرتكم، ولا تستبقوا فيها إلا كل ما يفيدكم.. أما الباقي فانسوه. فلمثل هذا أوجد الله النسيان..


Mary Naeem 05 - 10 - 2022 10:16 AM

رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
 
https://upload.chjoy.com/uploads/166326382734691.jpg

قداسة البابا شنودة الثالث

المجد أم الألم






يحتفل المسيحيون اليوم بأحد الشعانين أو ما يسميه الناس "أحد السعف" حيث استقبل السيد المسيح في أورشليم بسعف النخل وبأغصان الزيتون.

وفي ذكرى اليوم نريد أن نتأمل في نقطة روحية هامة عن أيهما نختار:

في ذلك اليوم دخل السيد المسيح إلى أورشليم، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق كمعلم صالح بهت الناس من سمو تعاليمه، وكصانع معجزات يشفى المرضي، ويقيم الموتى، ويخرج الشياطين، ويعمل ما لم يعمله أحد من قبل. كما ذاعت شهرته كزعيم شعبي كبير استطاع أن يجمع القلوب من حوله فالتفوا حوله في حب وإعجاب..

لذلك عندما دخل إلى أورشليم استقبله الناس كملك، بسعف النخل وبأغصان الزيتون، وبالتهليل والهتاف، وأرادوا تنصيبه ملكًا عليهم، لكي يخلصهم من حكم الرومان، ويقيم لهم مملكة قوية ذات هيبة وسلطان، ويرجع لهم عظمة سليمان..


ولكن السيد المسيح رفض أن يكون ملكًا، ورفض هذه المملكة الأرضية، إذ أراد تكوين مملكة روحية يملك فيها الله على القلوب، لا مملكة أرضية ذات عرش وصولجان، وجنود وفرسان..

كان يعرف أن اليهود يسيرون بتفكير عالمي علماني، سعيًا وراء السلطة والشهرة والنفوذ. وهو قد جاء ليخلصهم ويخلص العالم من هذه النظرة المادية.. إنه لم يأت إلى العالم لكي يكون ملكًا على اليهود يحقق لهم العالمية، بل على العكس يخلصهم من الشهوات..

وإذ رفض المسيح فكرة الملك، رفضه هؤلاء اليهود، وتآمروا لكي يقتلوه.. وهكذا رفض المسيح المجد، وفضل عليه طريق الألم..

فضل أن يكون مضطهدًا من اليهود، عن أن يكون ملكًا عليهم
ولم يرد مطلقًا أن يشترك مع ذلك الشعب في رغباته وفي شهواته.. حقًا ماذا يفيدهم الملك وهم بعيدون عن الله، يأخذون من الدين مظاهره ويتركون روحه، حتى وبخهم الله بقوله: "هذا الشعب يعبدني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عنى بعيد"!

لقد أراد المسيح أن يطهر الناس ويقدسهم، لا أن يملك عليهم، أراد أن يحرر قلوبهم من الخطية، لا أن يحررهم من الرومان الذين ملكوا عليهم نتيجة لخطاياهم..

ولكن اليهود كانوا بعيدين عن هذا التفكير الروحي، بل لم يفكروا إطلاقًا في أرواحهم وخلاصهم، الأمر الذي كان شغل المسيح الشاغل.

كل تفكيرهم كان منحصرًا في الملك، وفي الملك وحده.. لذلك خابت آمالهم في المسيح الذي يحدثهم عن الروحيات ويرفض الملك الأرضي.. وهكذا استقر رأيهم على أن يقتلوه.. وبدأوا في التأمر عليه، من نفس ذلك اليوم الذي اختاروه فيه ملكًا!!! وهكذا رفضوه.. فقيل عنه..

"إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله". "النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه".. جاءالنور إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور.. رفضوا المسيح، وطلبوا بارباس.. كانت قلوبهم مظلمة، ولم يدركوا أين خيرهم.. وإذ سعوا لقتل المسيح، إنما جنوا على أنفسهم لا عليه.. وسار المسيح في طريق الجلجثة وفي طريق الصلب..

وبهذا وضع لنا المسيح مبدأً هامًا، وهو أن الألم أسمى من المجد العالمي، أو أن الألم هو طريق المجد الحقيقي.. ولا مجد بدون ألم.. أو أن مجد الإنسان كامن في ألمه..

لهذا يحب المسيحيون آلام المسيح، بل يحتفلون بآلامه.. وفي كل سنه لهم أسبوع اسمه "أسبوع الآلام".. ولا يخجل من آلام المسيح بل يفتخر. ويرى أن آلامه من أجلنا، هي علامة حب، وعلامة بذل، وعلامة زهد فيها رفض الأمجاد الزائلة العالمية. بل أن اسم المجد هو اسم خاطئ يطلق عليها بغير وجه الحق..

صدق أمير الشعراء أحمد شوقي حينما قال:

ومتعت بالألم العبقري وانبغ ما في الحياة الألم

إن كل من يسير في طريق الله، عليه أن يتألم من أجله، ويجد لذة في ألمه.. وكل فضيلة بغير ألم، هي فضيلة رخيصة خالية من البذل..

لذلك فكل إنسان في اليوم الأخير، سيعطى حسابًا عن أعماله، ويثاب بمقدار ألمه من أجل الرب. وكما قال الكتاب: كل واحد سينال أجرته بحسب تعبه".. إن كان الأمر هكذا، فيحق لنا أن نسأل:

ما هو مقدار تعبك من أجل الرب؟ وما هو مقدار بذلك وألمك؟

طبق هذه القاعدة في كل عمل من أعمالك.. وإن وجدت عقبة أمامك في طريق الفضيلة، فابذل جهدك لكي تتخطاها. وإن وجدت ألمًا في طريق الخير، فاحتمله بفرح ورضى. وإن وجدت عملًا صالحًا لابد أن يقضى جهدًا وتعبًا، فلا تبال بالتعب، وكن قوي القلب..

واعلم أن الله الذي تحبه، لا يمكن أن ينسى تعب المحبة.. واذكر سير الشهداء القديسين الذين تألموا من أجل الرب، وكانوا فرحين في آلامهم، وكان الناس ينذهلون من قوة احتمالهم.. ومهما كانت آلامك أنت، فإنها لا يمكن أن تقاس بآلامهم وعذاباتهم.. كذلك الأبطال وأصحاب الرسالات، كلهم تعبوا من أجل أهدافهم السامية، وكافأهم الله على أتعابهم، وكانت هي طريقهم إلى المجد..

إن الراحة لا تخلق أبطالًا، والمتعة لا تخلق قديسين.. وما أصدق قول الشاعر الحكيم الذي قال:

وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام

ونحن في هذه الحياة، علينا أن نبذل كل طاقاتنا، ونضحي بكل راحتنا، من أجل الله وملكوته، ومن أجل المثل التي نؤمن بها، واضعين أمامنا قول الكتاب: "إذن يا أخوتي الأحباء، كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم ليس باطلًا في الرب"..

والآلام التي نحتملها من أجل الله، يجب أن نتحملها برضى وبغير تذمر لأن التذمر يضيع أجرها، وهو دليل على أن القلب من الداخل غير متجاوب مع الألم الخارجي، وغير مقدم ذاته كذبيحة مرضية لله. أن آباءنا القديسين كانوا يفرحون في الألم، ويفرحون بالألم.. إن تلاميذ المسيح عندما جلدهم رؤساء اليهود، يقول الكتاب عنهم: "فخرجوا فرحين لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه".. ويرى لنا التاريخ أن السجون كانت تمتلئ بالتراتيل والتسابيح والأغاني الروحية في القرن المسيحي الأول من أشخاص ينتظرون موتهم بين حين وآخر..

إن آلام الدهر الحاضر، لا يمكن أن تقاس بالمجد العتيد الذي ينتظره المؤمن في الأبدية.. أن الذي يتأمل في السماء وأمجادها، وفي النعيم الأبدي، وفي الملائكة والقديسين، وفيما أعده الله لقديسيه في العالم الآخر، يهون عليه كل تعب يتعبه من أجل الله. ويهون عليه السهر الذي يسهره للصلاة، والتعب الذي يحتمله في الصوم وفي العبادة، والجهد الذي يبذله من أجل البعد عن خطية معينة، أو من أجل التخلص من عادة خاطئة..

واعلموا أن الألم المقدس ليس هو علامة ضعف، بل هو دليل على قوة القلب من الداخل.. لم يقل أحد أن الشهداء مثلًا كانوا ضعفاء في موتهم وفي مقاساتهم، بل كانوا أقوياء القلب والإيمان..


الساعة الآن 05:54 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025