منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   كلمة الله تتعامل مع مشاعرك (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=45)
-   -   وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=25)

Mary Naeem 27 - 09 - 2014 04:20 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
نشيد الشمس أختنا (12)
ايلوا لوكلير
في خريف عام 1225 قبل وفاته بعام، اشتد المرض على فرنسيس:
التهبت عيناه وفقدتا القدرة على تحمّل ضوء النهار. في تلك الفترة، أسكت ألمه ونظم النشيد الأكثر فرحاً:
نشيد الشمس أختنا، المعروف أيضاً " بنشيد الخلائق".
يعتبر هذا النشيد اندفاعا قوياً نحو " الله العلي"، وثبة تبدو كأنها تغيب في العبادة والصمت، أمام من " لا يستطيع أحد أن يذكر اسمه".
اصطف فرنسيس بتواضع بين الخلائق، وبعد أن تآخى معها بدأ بمديح الله. كرّر هذه الصلاة مرارا وأحسن فيها قولاً حتى عُرفت بنشيد الخلائق.
ليست المخلوقات جحّة لمديح الله. يراها فرنسيس جميلة ورائعة. وقد وردت الصفة " جميل " ثلاث مرات في النشيد. وفي كلّ مرّة أُطلقت على عنصر مضيء. ولم تكن المخلوقات البهية وحدها محور نشيده. هناك ما هو أكثر تواضعاً وأشدّ خفاء، كالأرض الأم ...إنها تجعله في حالة انخطاف. لنصغ إلى الفقير الصغير:
" أيها العليّ القدير والربّ الصالح
لك الحمد والمجد والشرف والبركات كلّها.
بك وحدك أيّها العليّ تليق
ولا إنسان أهل للتفوّه باسمك.
لك الحمد ربي على كلّ مخلوقاتك
ولا سيّما على أختنا الشمس، بها تعطينا النهار والنور.
إنها جميلة، مضيئة وسنية:
إليك ترمز أيها العليّ.
لك الحمد ربّي
على القمر أخينا وعلى النجوم،
فقد أبدعتها في السماء
منيرة، ثمينة ورائعة.
لك الحمد ربّي على الريح أختنا
على الهواء والسحب،
على السماء الصافية وكلّ الأزمنة،
بها تعضد مخلوقاتك.
لك الحمد ربّي على الماء أختنا،
إنها نافعة، متواضعة،
كريمة ونقية.
لك الحمد ربّي على النار أختنا
بها تضيء الليل،
إنها جميلة وفرحة، صامدة وقوية.
لك الحمد ربّي،
على الأرض: أمنا وأختنا
إنها تحملنا وتغذينا
تعطي من الثمار أنواعاً
ومن الأزهار والأعشاب أصنافاً وأشكالاً.
يُترجم نشيد الخلائق عمق الإعجاب بصنع الخالق. إنه بفضل إعجابه يتحمّل وجوده في العالم بروح أخوية.
غناء الرجل المصالح
يعبّر هذا المديح عن مصالحة الإنسان مع جذوره الكونية، مع " آثاراته" الكمينة، مع كلّ ما في الحياة من قوى مظلمة تعمل في الصميم وتكوّن وجوده الأول. والإنسان المعاصر، إذ يسعى للتحرّر من الطبيعة بالسيطرة عليها، فإنّ فرنسيس يتصالح معها، لأنّ التحرّر الكامل لا يتمّ إلا بالمصالحة.
يعتبر هذا النشيد تكريماً مدوّياً للخالق لأنه نشيد الخلق في قلب الإنسان، نشيد الإنسان الجديد حيث وجدت قوى الحياة الأولى المظلمة شفافية الينابيع ورونق الشمس.
مثل هذه المصالحة لا تتمّ إلا بفضل اللاتملّك الداخلي. وفرنسيس بعد أن تنقى وتنور واستعر بنار الروح القدس، استطاع أن يرفض استعادة العالم وامتلاكه. ومن هنا حصراً، انفتح على محبة الخالق لخلقه، فدخل بإرادته لعبة الحبّ الخلاّق... حتى أصبح العالم بالنسبة إليه، حقيقة مشرقة، فيها يدعى الإنسان ليس فقط للحياة بل وللمساهمة في الخلق.
لم يعد مستغرباً إذاً أن يكمل فرنسيس نشيده مضيفاً إليه نشيد رجل العفو والسلام:
الحمد لك ربّي
لأجل من يصفحون حبّاً بك،
لأجل من يتحمّلون المحن والمرض،
الطوبى لهم إذا احتفظوا بالسلام،
لأنّهم بك أيّها العليّ سوف يُكلّلون".
وعند اقتراب أجله أضاف فرنسيس فقرة أخيرة:
الحمد لك ربّي
لأجل لأخينا الموت الجسدي، إذ لا مفرّ منه،
والويل للذين يموتون وهم في الخطيئة.
طوبى لمن يجدهم الموت طوع مشيئتك المقدّسة،
لأنّ الموت الثاني لا يُلحق بهم ضرراً.
لا بدّ من حبور كبير حتى نستطيع استقبال الموت على أنه أخ لنا والأكثر عجباً أن يُغنّي الموت كالشمس وفي نفس الوقت. في هذه الساعة وهي الأخيرة، ما عادت الشمس والوفاة تتواجهان في قلب فرنسيس، ظل الموت لم يطفئ نور العالم، بل تحوّل إلى طريق من نور نحو ملء الوجود والحياة.

Mary Naeem 27 - 09 - 2014 04:21 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
مِذود القديس فرنسيس الأسيزي
الأب فراس لطفي الفرنسيسكاني

كيف اكتشف القديس فرنسيس فكرة المذود؟



سؤال يجيب عليه أحد المختصِّين في تاريخ العصور الوسطى بجامعة القديس أنطونيوس البادواني الحَبريّة في روما، الأب بييترو ميسَّا.

إذا أردنا معرفة الأحداث التي جرت في حياة القديس فرنسيس لا بدَّ من العودة إلى مصادر موثَّقة، وفي حالتنا هذه، إلى كتابات القديس نفسه، أو إلى الكتابات التي كتبها آخرون. وتعتبر الوثيقة التي كتبها توماس من تشيلانو،

بمناسبة إعلان قداسة فرنسيس عام 1228م، أي بعد مرور عامين على وفاته؛ هي الأقدم، يحدِّثنا فيها الكاتب عن فرنسيس في قرية كريتشو، المكان الذي جسَّد فيه فكرة المذود.



ولقد ورد في هذا النص أنه في عام 1223م أراد فرنسيس :" أن يتذكّر الطفل الذي ولد في بيت لحم،

كي يعيش بشكل حسّي المعاناة التي قاساها المولود الجديد (يسوع) في ظروف ينقصها كل ما هو ضروري؛ وكيف أنه وُضع في مذودٍ حقير ممدَّداً على التبن بين حمار وثور".
كان فرنسيس مدفوعاً بروحانيةٍ يمكن تسميتها "الواقعية المسيحية"، أي تلك النظرة التي تعطي الاحترام اللازم للجسد والتي تتعارض مع من يبالغ بإعلاء شأن الروح على حساب الجسد،

كتلك البدع التي كانت سائدة العصر آنذاك (الكاتاريين، على سبيل المثال الذين كانوا يؤمنون بأنّ الروح ينتمي إلى عالم القداسة، أما الجسد فإلى عالم الشرّ).


ولكي يحقِّق فرنسيس رغبته، طلب من رجلٍ في قرية كريتشو أن يُعيره مغارته مع الحمار والثور. وفي ليلة عيد الميلاد توافد سكان القرية إلى ذلك المكان بالشموع والمشاعل،

وأقيمت هناك ذبيحة القداس الإلهي. وتذكر المصادر التاريخية أن فرنسيس، بما أنه كان برتبة شماس إنجيليّ، قام بقراءة الإنجيل المقدس، ثمَّ "ألقى على الحاضرين عظة، تحدّث فيها بكلماتٍ رقيقةٍ عذبة مشيداً بالمولود الإلهي، الملك الفقير، وبمدينة بيت لحم الفقيرة".
لم يكن في مذود فرنسيس سوى الثور والحمار والمعلف. أما مريم ويوسف فلم يكونوا هناك.

وكأني به قصد أن يترك لنا المكان فارغاً لنملأه نحن بحضورنا. وكان الجمهور يشارك في القداس ويصغي لفرنسيس عظته عن يسوع طفل بيت لحم. لقد كان مذوداً "إفخارستياً" بامتياز!
ولكن، كيف تمّ الانتقال من ليلة الميلاد في قرية كريتشو سنة 1223م إلى المذود الذي نعرفه اليوم؟
كان لِما قام به فرنسيس في تلك الليلة صداه الكبير،
لدرجة أن كريتشو أصبحت ذات أهمية كبرى في تاريخ الفرنسيسكان. ولقد كتب توماس من تشيلانو: "أصبحت كريتشو وكأنها بيت لحم الجديدة".

وبسرعة كبيرة تمَّ بناء مصلّى صغير في ذلك المكان، حيث رُسمَت مشاهد ميلادية معبِّرة عن ذلك الحدث الفريد. وفي وقت قصير انتشرت عادة عمل المذود في كلّ مكان: يكفي على سبيل المثال لا الحصر، أن نذكر الهدية الرائعة (مجسَّم يمثّل المذود) التي قدمها أرنولفو دي كامبيو إلى البابا نيكولاو الرابع الفرنسيسكاني في أواخر القرن الثالث عشر،
لتوضع في كنيسة مريم الكبرى في روما، ويمكننا اليوم التأمل بروعة جمالها في متحف البازيليك نفسه. وقد قام أرنولفو دي كامبيو بعمل المذود في عام 1291م، في الحقبة التي لم يعد فيها تواجد يذكر للحضور اللاتيني الغربي في منطقة فلسطين، مع سقوط آخر حملة صليبية في المنطقة كان قد قادها جوفاني من عكّا. وبدأت تظهر، وبشكل بديهي وتلقائي، الحنين والرغبة عند الغرب في تجسيد ذكرى الأماكن المقدسة.

وفي عام 1581م تمّ للمرة الأولى وبشكل علني إعلان كريتشو على أنها أول مذودٍ في التاريخ، وكان ذلك على يد الفرنسيسكاني الإسباني خوان فرنسيسكو الذي كان يقطن دير آراشيلِّي في روما.
ولكن هل كان لهذا علاقة في اختراع فرنسيس لفكرة المذود ولقائه بالسلطان المُسلم الملك الكامل؟
لا نجد في المصادر الفرنسيسكانية صلة مباشرة بين الحدثين (أي مذود كريتشو وحدث لقاء فرنسيس بالملك الكامل)، لكن فرنسيس اختار عيش الحدثين اللذين يبدو وكأنهما في حالة من التناقض فيما بينهما: المذود الإفخارستيّ في كريتشو عام 1223م ولقائه مع السلطان الملك الكامل الذي كان الأخ الأكبر والخليفة للسلطان الشهير صلاح الدين الأيوبي.
وكما صار المذود اليوم رمزاً للهوية المسيحية، صار لقاء فرنسيس بالسلطان رمزاً للحوار (الأول من نوعه) بين الأديان.

ويمكننا القول أن المذود ولقاء قديس أسيزي بالسلطان، حدثان ينتميان إلى الخبرة المسيحية التي عاشها فرنسيس في حياته آنذاك. لقد عرف فرنسيس كيف يجمع بين الهوية والحوار بطريقة فريدة لا مثيل لها، تماماً كما علّم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني؛ الرجل ذو الهوية الثابتة، وصاحب المبادرات الشجاعة في الحوار،
كتلك التي حملت اسم "روح أسيزي". وهذا ما اقترحه البابا الحالي بنديكتس السادس عشر أيضاً، بأسلوبه الخاص، في محاضرته في جامعة راتيسبون في ألمانيا، وخلال زيارته التاريخية إلى تركيا.


وأخيراً، كيف تقيّم، باعتبارك دارساً للتاريخ، الجدل الحالي (على الأخص في أوروبا) المذود والرموز الدينية الأخرى؟
وللإجابة على هذا السؤال، ينبغي علينا، قبل كلّ شيء، أن نعرف ونفهم واقع ماضينا وحاضرنا، بتعقيداته وتناقضاته، بعيداً عن الشعارات. إذ لا وجود لحوار بدون هوية، كما يشهد بذلك مثال فرنسيس الأسيزي. فإيمانه الذي جعله يحتفل بليلة الميلاد في مغارة كريتشو، هو نفسه الذي دفعه للقاء السلطان آنذاك.


إذن فالمشكلة تكمن اليوم في الجمع بين الهوية والحوار، تماماً كما فعل فرنسيس نفسه. ولم تكن صدفة، تلك التي دعت البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لجعل أسيزي، مدينة القديس فرنسيس، مكان إشعاعٍ ونبوءة ترمز للمصالحة بين الهوية والحوار؛
لأن فيها عاش القديس فرنسيس خبرته المسيحية.
وخلاصة القول، أنّ ما يقترحه القديس فرنسيس اليوم هو "هوية سمحاء"، أو بعبارة أخرى إيماناً ناضجاً يمكنه أن يكون مضادّاً حيوياً لكل تعصّب يحاول تعميم الجزء على حساب الكلّ. ويكمن عامل التحدّي هنا في إيجاد نقاط علاّم تساعدنا على عيش كلّ ما قلناه سابقاً، ويمكن للمذود أن يكون وبحقٍ إحدى تلك العلامات النادرة.

Mary Naeem 27 - 09 - 2014 04:22 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
فرنسيس الأسيزي- معلّم للصلاة
أعماق الله : سرّ فقر (8)
ايلوا لوكلير





يقول القديس بولس: " إنّ الروح القدس يعرف كلّ شيء حتى أعماق الله."

اختبر فرنسيس ذلك في حياته. قد يصعب علينا فهم ماهية التكريم الذي خصّ به الفقر إن لم ندرك، باستنارة الروح، شيئاً من أعماق الله فيه.

انّه لمن المستحيل أن يكون فرنسيس قد التزم الفقر بمثل هذا الشغف حتى اعتبره خطيبة له، لا بل زوجة، وأعطاه لقب السيدة " فاقة" أي الفقر، متأثرا فقط بقصص الفروسية التي أشرقت شبابه.
ومن المستحيل أيضا أن يعطي فرنسيس الفقر هذه المكانة الوحيدة الخاصة بالله، إن لم يكن الفقر بالنسبة إليه هو الله نفسه.
لعلّ هذا الكلام يحتاج إلى توضيح: فقر المسيح الذي يتأمل فرنسيس من خلاله في تجرّد ابن الله العلي، يلقي ضوءاً قويّا على حياة الله الخاصة.
ضوء يجعلنا نستشفّ بأنّ حياته كلّها هي نكران للذات وعطاء كامل، أو بالأحرى هي ملء العطاء... هذا النكران وهذا العطاء هما في صميم الثالوث الأقدس.
إن الله وأبا سيدنا يسوع المسيح ليس إلها وحيدا، متجها إلى ذاته ومعيدا كلّ شيء إليها. منذ الأزل، هناك حياة تتواصل وتعطي ذاتها.
والذات الإلهية هي ذات معطاء. كلّ أقنوم من الثالوث الأقدس، إذ لا ينطوي على ذاته ولا يمتلك بحرص الملء الإلهي، فانه لا حياة له إلا في التواصل. أي في العطاء الذي يبذله للآخرين من هذا الملء الوحيد.
وسرّ الله الثالوث، هو سرّ عدم التملّك، هو سرّ الفقر الذي يُبعد كلّ تملّك أناني وكلّ تمركز على الذات الإلهية.
قمّة التأمل عند فرنسيس قد تكون في هذه الرؤيا المجيدة للثالوث الأقدس:
" أيها الربّ السيّد، أنت ثلاثة وأنت أحد،
أنت الخير، أنت الخير المطلق، أنت الخير الأسمى.
أنت الرّب الإله، الحيّ والحقّ.
أنت الحبّ وأنت المحبّة
..."
حدس خصب
أدرك فرنسيس، مستنيرا بالروح القدس، وجود علاقة جوهرية بين المحبّة والفقر. علاقة يقصد بها الحدس العميق. لنتوقف عند هذا الحدس لأنّه من صميم تأمله.
قال أفلاطون: الحب ابن الفقر. وباستطاعة فرنسيس أن يعتمد نفس المقولة ولكن بمعنى مختلف اختلافا كلّيا ومطلقا، ودون شكّ، بمزيد من الحقيقة والعمق.
يرى الفيلسوف اليوناني أنّ الحب يولد من نقصان: أي أنه في جوهره رغبة.
أما فرنسيس فإنه يرى أن الحب يولد من " عدم استملاك الذات".
إنّه عطاء من حيث الجوهر. إنّه الملء الذي يُعطي ذاته. من يحب لا يحتفظ بشيء لنفسه، إنّه لا يملك ذاته، لذلك لا يمتلك الآخر.
التخلّي عن التملّك في الحب. هذا هو سرّ المحبة في حقيقتها الإلهية. وقد عبّر فرنسيس عن ذلك بعبارة قالها لإخوته جاء فيها:
" لا تتركوا لكم شيئا من ذواتكم حتى يستقبلكم كاملين من أعطاكم ذاته كاملة".

هذا هو الفقر الذي نعيشه يوما بعد يوم، في علاقاتنا البشرية. إنّه يستوحي من حياة الثالوث، ويجعلنا متّحدين بهذه الحياة.
إنّه يؤسس الأخوّة.

Mary Naeem 27 - 09 - 2014 04:29 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قوانين و نصائح القديس فرنسيس الأسيزي


القانون الأول أو غير المثبت

القانون الثاني المثبت أو المعتمد

نصائح وتوصيات

قانون المحابس

مقتطفات من القانون

وصية صغرى

وصية كبرى





(القانون الأول أو الغير مثبت )





(1209 ـ 1221)

ذهب فرنسيس مع رفاقه الأحد عشر إلى البابا إينوشنسيوس الثالث، أواخر سنة 1209، أو أوائل سنة 1210، لكي يُثبت له "نهج الحياة" الذي اختاره وكان يحمل معه نص النهج هذا الذي كتبه "بكلمات وجيزة وببساطة". والحبر الروماني ثبتها له شفهيا. لكن، مع تطور الجماعة ونموّها لم يعد القانون الوجيز قادراً على الاستجابة لمتطلبات الاخوة الجديدة. فكان المجمع العام السنوي وسيلة لتطوير القانون، وكان كل الاخوة يشاركون في وضع الأنظمة. ففي القانون أُضيفت وسيلة لتطوير القانون، وكان كل الاخوة يشاركون في وضع الأنظمة. ففي القانون أُضيفت تعليمات المجمع اللاّتراني الرابع، خصوصا ما يتعلق منه بالإفخارستّيا. أما التعديلات الأخيرة فكانت بين سنة 1220 ومجمع العَنْصَرة سنة 1221، الأمر الذي أدى إلى ولادة نص القانون الأول كما نعرفه اليوم. لكنه لم يُقَّدم إلى الكرسي الرسولي، لذلك نسميه: القانون الأول أو غير المثبت. بالرغم من ذلك، فهو لم يفقد قيمته بالنسبة إلى الرهبنة، فالقانون الأول هو وثيقة روحية وتاريخية ثمينة جداً، وضرورية لفهم الحياة الفَرَنْسيسية وعيشها.



تمهيد
(1) باسم الآب، والابن، والروح القدس!


(2) هذا هو نهج حياة إنجيل يسوع المسيح، الذي طلب الأخ فرنسيس من السيد البابا منحه إياه وتثبيته وقد وهبه إياه وثبته له، ولاخوته الحاضرين والمستقبلين. (3) فعلى الأخ فرنسيس، وكل من سيصبح على رأس هذه الجماعة الرهبانية، أن يَعِد طاعة، واحتراما للسيد البابا إينوشنسيوس وخلفائه. (4) وليلزم سائر الاخوة جميعهم بالطاعة للأخ فرنسيس، وخلفائه.

1. على الاخوة أن يعيشوا من دون أي شيء خاص، وفي العفة والطاعة

(1) إن قانون هؤلاء الاخوة وحياتهم هو: العيش في الطاعة، والعفة، ومن دون أي شيء خاص، واتباع تعليم وآثار ربنا يسوع المسيح الذي يقول: (2) "

إن شئت أن تكون كاملاً، فاذهب وبِع كل ما هو لك، وأعطه للفقراء، فيكون لك كنز في السماء ثم تعال واتبعني". (3) "ومن أراد أن يتبعني، فلينكر ذاته، وليحمل صليبه، ويتبعني". (4) ويقول أيضا: "إن شاء أحد أن يأتي إليّ، ولم يبغض أباه وأمه، وزوجته، وأبناءه، واخوته، وأخواته، وحتى ذاته، لن يستطيع أن يكون لي تلميذاً". (5) "وكل من ترك أبا أو أمّا، اخوة أو أخوات، زوجة أو بنين، بيوتا أو حقولا، من أجلي سينال مئة ضعفٍ وسيرث الحياة الأبدية".

http://www.peregabriel.com/gm/albums..._24pajaros.jpg

2. قبول الاخوة ولباسُهُم

(1) إن شاء أحد، بإلهام إلهي، اعتناق نهج الحياة هذا، وجاء إلى اخوتنا، فليستقبلوه بلطف. (2) وإن كان مصمما على اعتناق نهج حياتنا، فليحذر الاخوة من التدخل في شؤونه الزمنية، بل فليقدموه في أسرع وقتٍ إلى خادمهم. (3) وليستقبله الخادم بلطف، وليُشَدّدْهُ، وليشرح له بعناية فحوى حياتنا.

(4) وعندئذ، فليبع ذلك الشخص كل ما له، وليَسعَ إلى توزيعه كله على الفقراء، إن شاء ذلك، وإن استطاع تتميمه روحياً، وبلا عائق. (5) ولِيَحْذَر الاخوة، وخادم الاخوة، من التدخل في شؤونه بأية وسيلة، (6) ومن قبول أي مالٍ لا مباشرة، ولا بواسطة الغير. (7) ولكن، إن كان الاخوة في عوز، بوسعهم قبول أشياء أخرى ضرورية للجسد، ما عدا المال، بسبب الحاجة شأنهم شأن سائر الفقراء.

(8) وعندما يعود، فَلْيُسلّمه الخادم ثياب الاختبار، لمدة سنة، أي ثوبين بلا قَبّوع، وحَبْلة، وسراويل، وعطفا ينحدر حتى الحَبْلة. (9) وفي نهاية السنة، ولدى إنجاز مدة الاختبار، فليقبل في الطاعة. (10) وبعد ذلك، لا يُسمح له أن ينتقل إلى جماعة رهبانية أخرى، ولا أن يتيه خارج الطاعة، وفقا لأمر السيد البابا، وبحسب الإنجيل، إذ " ما من أحد يضع يده على المحراث، ثم يلتفت إلى الوراء، يَصلُح لملكوت الله".

(11) ولكن، إن جاء من لا يستطيع توزيع أملاكه، بلا عائق، ولكن لديه إرادة روحية في ذلك، فليترك أملاكه، ولذلك يكفيه. (12) وينبغي ألا يقبل أحد خلافا لنهج الكنيسة المقدسة، ونظامها. (13) وليكن لدى الاخوة الآخرين، الذين نذورا الطاعة، ثوب بقبّوع، وآخر بلا قبّوع، إن كان ذلك ضروريا إضافة إلى الحَبْلة والسَّروايل. (14) وليرتدِ جميع الاخوة ثيابا فقيرة، يستطيعون ترقيعها بأكياس وقطع أخرى ببركة الله. فالرب يقول في الإنجيل: "إن الذين يرتدون ثيابا ثمينة، ويعيشون في النعيم"، "والذين يرتدون الثياب الناعمة، يقيمون في بيوت الملوك". (15) وحتى لو قيل فيهم إنهم مراؤون، عليهم ألا يكفّوا عن فعل الخير، وألا يسعوا، في هذا الدهر، إلى اقتناء ثياب ثمينة، لكي يستطيعوا الحصول على ثوب في ملكوت السموات.

3. الفرض الإلهي والصوم

(1) يقول الرب: "هذا الجنس من الشياطين لا يُخرَج إلا بالصوم والصلاة". (2) ويقول أيضا: "إذا صمتم، فلا تُعبّسوا كالمرائين". (3) ولذلك، على جميع الاخوة، إكليريكيين كانوا أم علمانيين، أن يتلوا الفرض الإلهي والتسابيح والصلوات، كما هو مطلوب منهم.

(4) على الإكليريكيين أن يتلوا الفرض الإلهي، ويُصلّوه من أجل الأحياء والأموات، كما هي العادة عند الإكليريكيين. (5) وليتلوا، كل يوم، عن مخالفات الاخوة، وإهمالهم، "ارحمني يا الله" مع "الأبانا". (7) ويمكن أن تكون لديهم، فقط الكتب الضرورية لتلاوة فرضه. (8) ويُسمح للعلمانيين القادرين على قراءة كتاب المزامير، أن يقتنوا واحدا. (9) أما الآخرون الذين لا يجيدون القراءة فلا يسمح لهم باقتناء كتاب. (10) وليتلُ العلمانيون "قانون الإيمان"، وأربعا وعشرين مرة "الأبانا" مع "المجد للآب"، لصلاة منتصف الليل، وخمس مرات لتسابيح الصباح، أما للساعة الأولى، فليتلوا: "قانون الإيمان"، وسبع مرات "الأبانا" مع "المجد للآب". وللساعة الثالثة والسادسة والتاسعة فليتلوا في كل منها، سبع مرات ولصلاة الغروب، اثنتي عشرة مرة، ولصلاة النوم، فليتلوا "قانون الإيمان"، وسبع مرات "الأبانا" مع "المجد للآب"، ومن أجل راحة الأموات، فليتلوا سبع مرات "الأبانا" مع "الراحة الأبدية" وتكفيراً عن نقائص الاخوة، وإهمالهم، فليتلوا ثلاث مرات "الأبانا" كل يوم.

(11) وكذلك، فليصم جميع الاخوة من عيد جميع القديسين حتى عيد الميلاد ومن عيد الغطاس، عندما شرع ربنا يسوع المسيح يصوم حتى عيد الفصح. (12) ولا يُفرض عليهم الصوم في الأزمنة الأخرى، وفق نهج الحياة هذا، سوى أيام الجمعة. (13) وليسمح لهم بأن يتناولوا من جميع الأطعمة التي تقدم لهم وفقا للإنجيل.

4. العلاقة بين الخُدّام وسائر الاخوة

(1) باسم الرب!

(2) على جميع الاخوة الذين أُقيموا خُدّاما وخدما لسائر الاخوة، أن يوزعوا اخوتهم على الأقاليم، والأمكنة التي يقيمون فيها، وليزوروهم غالبا، ولينبهوهم روحيا، ويُشدّدْوهم. (3) وعلى جميع اخوتي الآخرين المباركين أن يطيعوهم بدقة، فيما يتعلق بخلاص النفس ولا يتعارض مع نهج حياتنا.

(4) وليفعلوا فيما بينهم مثلما قال الرب: "

كل ما تريدون أن يفعله الناس لكم، افعلوه أنتم لهم". (5) "وما لا تريد أن يفعله الآخرون لك، لا تفعله أنت لهم". (6) وليذكر الخُدّام ما يقول الرب: "لم آت لأُخْدَم بل لأَخدُم"، وليذكروا أيضا، أن خدمة نفوس الاخوة قد أُوكلت إليهم، وإن فُقِدَ أحد بذنبهم، أو وبسبب قدوتهم السيئة، فعليهم أن يؤدوا عن ذلك حسابا يوم الدينونة أمام الرب يسوع المسيح.


http://www.peregabriel.com/gm/albums...2tUFtmE_ph.jpg

( القانون الثاني المثبت أو المعتمد )





(1223)

إن القانون الأول الذي كتبه فرنسيس على مراحل، وقدٌمه إلى المجمع العام سنه 1221، لم يلق موافقة الاخوة. فبإيحاء من الكاردينال هوغولينو، ومن الاخوة انفرد فرنسيس مرة أخرى مع اثنين من اخوته في فونتي كولومبو، خلال شتاء سنة 1222 و1223، ليعيد النظر في القانون، ويختصره ويجعله أكثر تسلسلا من الأول. وفي ربيع 1223، ذهب فرنسيس إلى روما ليستشير الكاردينال هوغولينو، محامي الرهبنة. ثم في المجمع العام، في 11 حزيران 1223، اقترح الرؤساء الإقليميون تعديلات حول النص. طبعا نحن لا نعرف ما هي كل التعديلات التي جرت على النص النهائي للقانون الثاني، لأنه كان في حالة تحوٌل خلال كل هذه الفترة قبل تثبيته نهائيا. وبالرغم من كل هذه التحولات، كان فرنسيس يتبنى هذا القانون، ويعتبره قانونه أو القانون على الإطلاق. تتبع الرهبنة الأولى بفروعها الثلاثة هذا "القانون الثاني" الذي ثبته البابا هونوريوس الثالث، في 29 تشرين الثاني 1223، ببراءة بابوية (

Solet annuere ). بين كل كتاباته فالقانون الثاني هو أكثر الكتابات التي تظهر وجود مساعدين. لكن، على الرغم من ذلك، حضور فرنسيس واضح جدا وهو الأكثر حضورا، خصوصا من خلال العبارات الخاصة به. فهو وحده يقدر أن يأمر بحزم، وهو وحده كان يهتزٌ بالحنان نحو اخوته، وهو وحده كان قادرا على مدح الفقر بشاعرية جميلة، وصوفية عميقة. فلا شك في أن هذه الصيغة الثانية للقانون تعكس نظرته الإنجيلية.

من أونوريوس،

الأسقف، وخادم خدام الله،
إلى الأبناء الأعزاء،
الأخ فرنسيس، وسائر الاخوة،
في رهبنة الاخوة الأصاغر،
تحية وبركة رسولية.


لقد ألف الكرسي الرسولي أن يستجيب الطلبات التقية ويلبي باهتمام وعطف رغبات الطالبين الصادقة. ولذلك أيها الأبناء الأعزاء في الرب، ونزولا عند توسلاتكم التقية، نثبت لك بسلطتنا الرسولية. ونزوٌد بحماية هذا الكتاب، قانون رهبتكم المدوٌن هنا والذي سبق أن وافق عليه سلفنا، البابا إينوشنسيوس، الطيب الذٌكر. ونص هذا القانون هو التالي:

1. باسم الرب، يبدأ نهج حياة الاخوة الأصاغر
(1) إنٌ قانون الاخوة الأصاغر وحياتهم هو: حفظ إنجيل ربنا يسوع المسيح المقدس بالعيش في الطاعة، ومن دون أي شيء خاص، وفي العفة. (2) إنٌ الأخ فرنسيس يعد طاعة واحتراما للسيد البابا هونوريوس، وخلفائه المنتخبين انتخابا قانونيا، وللكنيسة الرومانية. (3) وليلزم سائر الاخوة بالطاعة للأخ فرنسيس وخلفائه.


2. في من يريدون اعتناق نهج الحياة هذا، وفي كيفية قبولهم
(1) إن كان ثمة من يشاءون اعتناق نهج الحياة هذا، وجاءوا إلى اخوتنا، فليرسلهم هؤلاء إلى خدامهم الإقليميين، الذين يُمْنَح لهم وحدهم دون سوهم الإذن بقبول الاخوة. (2) وليفحصهم الخدام بعناية فيما يتعلق بالإيمان الكاثوليكي، وأسرار الكنيسة. (3) فإن كانوا يؤمنون بكل ذلك، ويريدون الاعتراف به بأمانة، وحفظه بثبات حتى النهاية. (4) وإن كانوا من دون زوجات، أو إن كان لهم زوجات دخلن ديرا، أو كنٌ في سنٌ لا يثير الشبهات، فأعطينهم إذنا بذلك، بموافقة أسقف الأبرشيّة، بعد إبرازهنٌ نذر العفة. (5) فليقل (الخدام) لهم كلام الإنجيل المقدس بأن يذهبوا ويبيعوا كل ما لهم، وليسعوا إلى توزيعه على الفقراء. (6) وإن تعذٌر عليهم تتميم ذلك، فيكفيهم حسن النية. (7) وليحذر الاخوة وخدامهم من التدخل في أمورهم الزمنية، بل فليدعوهم يتصرفون بها بحرية وفقا لما يلهمهم به الرب. (8) ولكن إن هم طلبوا مشورة، فليسمح للخدام بأن يرسلوهم إلى أشخاص يخافون الله، فبمشورة هؤلاء يوزعون خيراتهم على الفقراء.


(9) بعدئذ فليسلموهم ثوب الاختبار، أي ثوبين بلا قبٌوع، وحبلة، وسراويل، ومعطفا ينحدر حتى الحبلة. (10) ما لم يرى أحيانا هؤلاء الخدام رأيا آخر يلهمهم به الله. (11) في نهاية سنة الاختبار، فليقبلوا في الطاعة، وليعدوا بحفظ هذه الحياة والقانون دائما. (12) ولا يُسْمِح لهم بأي شكل من الأشكال الخروج من هذه الجماعة الرهبانية، وفقا لأمر السيد البابا. (13) لأنه بحسب الإنجيل المقدس، "ما من أحد يضع يده على المحراث، ثم يلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله". (14) وليكن لمن نذروا الطاعة ثوب بقبٌوع، وإن شاءوا آخر بلا قبٌوع. (15) وبإمكان من تضطرهم الحاجة أن ينتعلوا أحذية. (16) وليرتدِ جميع الاخوة ملابس فقيرة، يستطيعون ترقيعها بأكياس، وقطع أخرى ببركة الله.

(17) وإني أنبههم وأناشدهم ألاٌ يزدروا أو يدينوا من يرون من الناس مرتدين الألبسة الناعمة والملوثة، ويتناولون الأطعمة والمشروبات الفاخرة، بل بالحري فليزدر وبدون كل واحد ذاته.

3. الفرض الإلهي، والصوم، وكيف يجب أن يذهب الاخوة في العالم
(1) فليتلُ الإكليريكيون الفرض الإلهي، وفقا لطقس الكنيسة الرومانية، ما عدا كتاب المزامير. (2) ولذلك يمكن أن يكون لديهم كتب الفرض المختصر. (3) فليتلُ العلمانيون، أربعا وعشرين مرة "أبانا" لصلاة منتصف الليل، وخمس مرات لتسابيح الصباح، وسبع مرات لكل من الساعات الأولى، والثالثة، والسادسة، واثنتي عشرة مرة لصلاة الغروب، وسبع مرات لصلاة النوم. (4) وليصلّوا من أجل المتوفين.


(5) وليصوموا من عيد جميع القديسين، حتى عيد ميلاد الرب. (6) أما الصوم المقدس الذي يبدأ من عيد الغطاس، ويدوم أربعين يوما متتابعا، والذي كرَّسَهُ الرب بصومه المقدس، فليبارك الرب من يصومه طوعا، أما من لا يريدون صومه، فليسوا بمجبرين. (7) ولكن، فليصوموا الصيام الآخر، حتى قيامة الرب. (8) وفي الأزمنة الأخرى، لا يفرض عليهم الصوم سوى أيام الجمعة. (9) وفي زمن الحاجة الجليٌة، لا يلزم الاخوة بالصوم الجسدي.

(10) إنني أنصح وأنبه وأناشد اخوتي في الرب يسوع المسيح: عندما يذهبون في العالم، فليمتنعوا عن الخصام، والمشاجرة بالكلام، وإدانة الآخرين. (11) بل فليكونوا ودعاء، ومسالمين، وبسطاء، وحُلَماء، ومتواضعين، وليكلموا الجميع بصدق، كما يليق. (12) وليتجنبوا ركوب الخيل، ما لم تضطرهم إلى ذلك ضرورة بيٌنة، أو مرض. (13) وأيٌ بيت دخلوا، فيقولوا أولا: سلام لهذا البيت. (14) ووفقا للإنجيل المقدس، فليسمح لهم بأن يتناولوا من جميع الأطعمة التي تقدم لهم.

4. على الاخوة ألاٌ يقبلوا مالا
(1) آمر بحزم كل الاخوة ألاٌ يقبلوا بأية وسيلة دراهم أو مالا بأنفسهم، أو عن طريق شخص آخر. (2) ولكن من أجل حاجات المرضى، ومن أجل إكساء سائر الاخوة، فليهتم أحسن اهتمام، الخدام، والحراس وحدهم بواسطة أصدقاء روحيين، ووفقا للأمكنة والأزمنة، والمناطق الباردة، حسبما يرون مناسبا للحاجة. (3) ودائما بشرط ألاٌ يقبلوا دراهم أو مالا، كما سلف.


http://www.peregabriel.com/gm/albums...2shpvep_ph.jpg

( نصائح وتوصيات )





في العصور الوسطى لم تكن "التوصيات" تنبيهات بل كانت تُقدَّم نصاً أو فكرةً من الكتاب المقدس، على ضوئها تعرض التطبيق العلمي. لذلك فتوصيات القديس فرنسيس تعكس رؤيته الكتابية، وكيفية ترجمته إياها في الحياة اليومية. على الرغم من أن بعض التوصيات تعكس شيئا من الإطار التاريخي الذي جعلها تُبصر النور، يصعب تحديد تاريخها. ليست التوصيات مؤلفاً موحداً مترابطاً ذا مضمون واحد. إنما هي ثمانية وعشرون فصلا مختلفة المضمون والحجم وهي غير مترابطة بعضها ببعض. لا أحد يشك في نسبتها إلى فرنسيس فهي موجودة في كل مجموعات القرن الثالث عشر. الأمر الذي يعكس أهميتها بالنسبة إلى الاخوة منذ السنوات الأولى. فالأسلوب بسيط جدا والمنهجية التي يعتمدها فرنسيس في التوصيات هي وضع الاضداد، الواحد بالقرب من الآخر لكي يصبح الكلام أكثر تأثيرا مثلا: الخير والشر، الفضائل والرذائل، …. وهو يُقدَّم لنا القيم الفرنسيسية ليس من ناحية نظرية إنما من ناحية الواقع الملموس وضمن اختبار حياتي. فهذه التوصيات هي قاعدة لحياة مسيحية وهي تحمل أسس نظرته إلى الإنسان في عظمته وفي فقره وهي جديرة بأن يُطلق عليها اسم "نشيد الصغر". همُّ فرنسيس هو أن يزيل من قلب الإنسان كل رغبة في التملك: تملك الأشياء أو الذات أو الخيرات التي يصنعها الرب فيه أو كل أشكال السلطة أو حتى تملّك الأشياء أو الذات أو الخيرات التي يصنعها الرب فيه أو كل أشكال السلطة أو حتى تملك كلمة. أهم هذه التوصيات واشهرها هي التوصية الأولى التي تُشدَّد بعمق لاهوتي وصوفي على احترام الإفخارستيا وعلى معنى هذا السر كاستمرار لسر التجسد وكتحقيق لوعد الرب بأن يبقى دائما معنا. بعد التوصية الثاني عشر تبدأ "التطويبات الفرنسيسية": وهي قراءة فرنسيسية للتطويبات الإنجيلية، تبدأ بكلمة "طوبى". أخيرا في التوصيات نجد الكثير من التقارب في المضمون مع القانون الأول.



( قانون المحابس )





(1217 ـ 1221)

هذه الوثيقة هي ثمرة اختبار فرنسيس المزدوج: حبٌّ مُتَّقِدٌ للوحدة مع الله، وحب للحياة الأخوية. بكلمات بسيطة يضع فرنسيس قانونا للمحابس، لا يمكن تجاوزه من حيث البساطة والغنى. يقوم أخوان بمهمة الابنين، وآخران بمهمة الأمين. يعيش الولدان في العزل والتأمل بينما يقوم الآخران بالخدمة لكنهم يجتمعون عند صلاة الصباح، وفي أوقات الصلاة، مع العلم أن العيش في المحبسة بالنسبة إلى فرنسيس لم يكن إلى مدى الحياة. فكان يجمع بهذه الطريقة بين الصلاة والرسالة. إن سير حياة فرنسيس تملؤها أسماء المحابس والصوامع. وهذا يدل على أن الحياة النُّسكية في بداية الرهبنة كانت منتشرة للغاية. لكن بالرغم من أن هذه الوثيقة تعكس الكثير من عناصر الحياة النُّسكية التقليدية: الانفصال عن العالم، والقلاَّية الفردية وتقليد مرتا ومريم فإنها تُعبّر أيضا عن الميزات الفرنسيسية الخاصة كالحياة الأخوية، وطلب الحسنة ودور الخادم الإقليمي والحارس وزيارتهما. من ناحية أخرى نجد نص هذه الوثيقة القيمة في أقدم مجموعة لكتابات القديس فرنسيس (خطوط أسيزي رقم 338)، وفي مخططات القرن الرابع عشر والخامس عشر. فبالنسبة إلى عنوان هذه الوثيقة أعطى العلماء إمكانيات لا تحصى (قانون المحابس، السكن في المحابس بتدين، وثيقة التنسّك ….الخ)، إذ أن مخطوط أسيزي (رقم 338)، على عكس المخطوطات الأخرى لا يضع أي عنوان ولا يضع الآية الأخيرة. أما بالنسبة إلى تاريخ هذه الوثيقة فقد كتبت بعد سنة 1217، تاريخ تقسيم الرهبنة إلى أقاليم، وعلى الأرجح قبل 1221، أي قبل تدوين القانون الأول بصيغته النهائية. إلا أن بعض العلماء يعتبرن أنها دوّنت بين 1223 (أي بعد القانون الثاني) و1224.

(1) على من يريدون أن يكونوا بطريقة رهباني في المحابس أن يعيشوا ثلاثة اخوة أو أربعة، على الأكثر. وليكن اثنان منهم أُمّيْن وليكن لهما ابنان، أو واحد على الأقل.

(2) وعلى الاثنين القائمين بدور الأم، أن يعيشا حياة مرتا وعلى الابنين أن يعيشا حياة مريم، وليكن لهم مكان مُسيّج حيث لكل واحد قلاّية يصلي ويرقد فيها.

(3) وليتلوا دائما صلاة النوم الخاصة باليوم فورا بعد غروب الشمس وليجهدوا في الحفاظ على الصمت، وليتلوا صلوات الساعات ولينهضوا لصلاة منتصف الليل، وليطلبوا أولا ملكوت الله، وبره. (4) وليتلوا صلاة الساعة الأولى في الوقت المناسب وبعد صلاة الساعة الثالثة فليكفوا عن الصمت وليستطيعوا التكلم والذهاب إلى الأمّين. (5) وعندما يطيب لهما بإمكانهما أن يطلبا منهما الإحسان، حبا بالرب الإله، شأن الفقراء الصغار. (6) وبعد ذلك، فليتلوا صلوات الساعة السادسة، والساعة التاسعة، وليتلوا صلاة الغروب، في الوقت المناسب.

(7) وعليهم ألا يسمحوا لأحد بالدخول إلى المكان المُسيّج حيث يقيمون وألا يتناولوا الطعام فيه. (8) وعلى الأخوين القائمين بدور الأم أن يجهدا في البقاء بعيدين عن كل إنسان، وطاعة لخادمهما، فليحرسا ابنيهما من كل إنسان بحيث لا يكون باستطاعة أي كان أن يكلمهما. (9) ولا يتكلم الابنان مع أي إنسان، إلا مع أميهما ومع خادمها وحارسهما عندما يطيب له أن يزورهما ببركة الرب الإله. (10) وليَتَوَلّ الابنان بين حين وحين، مهمة الأمّين بالتناوب ولمدة يتم الاتفاق عليها. وليجهدوا في حفظ كل ما ذُكر أعلاه بعناية ودأب.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...467affecee.jpg

( مقتطفات من القانون )





(1209-1223)

نجد أجزاء كثيرة وكبيرة، من نص يطابق في جوهره نص القانون الأول، تحتويها وثائق متنوعة، للمثال: السيرة الثانية للقديس فرنسيس التي دوَّنَها توما من شيلانو، والتعليق على القانون من قبل الأخ هوغ من دينه، في منتصف القرن الثالث عشر، والمخطوط "ك 27" الموجود في مكتبة كاتدرائية ورتشستر (إنكلترا)، والعائد إلى النصف الأول من القرن الرابع عشر. فبينما هوغ يعالج شرحا قانونيا، رأينا مخطوط ورتشستر يحتوي على أبحاث مختلفة حول التوبة، مأخوذة من روحانية القديس أغوسطينوس، والقديس فرنسيس. من ناحية أخرى، تختلف تلك المقتطفات بعض الاختلاف عن نص القانون الأول، الأمر الذي جعل الكثير من العلماء الفرنسيسيِّين يرون فيها صيغة للقانون الأول مختلفة عن الصيغة المعروفة. وإذا صحَّ اعتقادهم، فقد تُشَكِل هذه المقتطفات مرحلة من مراحل تدوين القانون وتطويره، وقد تعبٌر عن مفهوم النٌهج الإنجيلي، لدى فرنسيس وأتباعه الأوائل.

1. المقتطفات في مخطوط كاتدرائية ورتشستر
(1) فلننتبه جميعنا، أيها الاخوة إلى ما يقوله الرب: "أحبوا أعداءكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم". إذ إنٌ ربنا يسوع المسيح، الذي علينا أن نقتفي آثاره، قد دعا خائنه صديقا، وقدٌم ذاته تلقائيا، لصالبيه. (2) إنهم إذا أصدقاء لنا، كل الذين يسببون لنا ظلماً، الشدائد والضيقات، والتٌعييرات، والإهانات، والأوجاع والآلام، والاستشهاد، والموت. علينا أن نُحِبَّهم حباً شديداً، فمن جراء ما يلحقونه بنا، تكون لنا الحياة الأبدية.


(3) ولنعاقب جسدنا صالبين إياه برذائله، وشهواته، وخطاياه، إذ إنه يَحِملُنا على العيش وفقا للجسد، ويرمي إلى سلبنا حبٌ يسوع المسيح، والحياة الأبدية، وإلى إرسال ذاته مع النفس إلى جهنم. (4) فنحن بذنبنا كُنّا نَتِنين، ومقاومين للخير، ومستعدين للشر، وميالين إليه، (5) على حدٌ قول الرب: "من القلب تنبعث، وتخرج الأفكار الشريرة، الخ.....".

(6) لكن، بعد أن تركنا العالم، فما علينا سوى اتباع مشيئته بعناية، وإرضائه. (7) فلنحذر من أن نكون الأرض الموضوعة على حافة الطريق، أو الأرض الصخرية، أو تلك التي تتكاثر فيها الأشواك، على حدٌ ما يقول الرب في الإنجيل: "الزرع هو كلمة الله. ما سقط على حافة الطريق وداسته الأقدام، الخ... حتى :(8) يؤتون ثمراً بالصبر".

(9) ولذلك، يا جميع الاخوة، فَلْنَدْعِ الأموات يَدفِنون موتاهم، على حدٌ قول الرب. (10) ولنحذر كثيرا من خبث الشيطان ومكره، فهو يبتغي ألاٌ يدع الإنسان يوجٌه قوته، وقلبه صوب الرب الإله. (11) إنه يطوف ساعيا بذريعة مكافأة أو عون ما إلى الاستيلاء على قلب الإنسان، وخنق كلام الرب ووصاياه، وانتزاعها من ذاكرته، ويريد السكن في قلب الإنسان، وإعماءه بشؤون العالم، وهمومه، على حدٌ قول الرب: (12) "إنٌ الروح النجس، الخ.... حتى: (13) فتكون حالة ذلك الإنسان الأخيرة، أسوأ من حالته الأولى".

(14) فلنحذر جيداً، جميعنا يا اخوتي من أن نتذرٌع بعمل، أو بمكافأة، أو بمساعدة ما، فنفقد فكرنا وقلبنا، أو نحوٌلهما عن الرب. (15) لكنني، بالمحبة التي هي الله، أرجو جميع الاخوة الخدٌام والآخرين، أن يزيحوا كل عائق، ويضعوا جانبا كل همٌ وقلق ويسعوا على أفضل وجه إلى حبٌ الرب الإله، وخدمته، وعبادته بقلبٍ طاهرٍ، وفكرٍ نقي فليفعلوا ما يطلبه هو فوق كل شيء. (16) ولنجعل دائما مقاما ومسكنا له، هو الرب الإله الكلي القدرة، الآب، والابن، والروح القدس، الذي قال: "اسهروا إذاً وصَلٌوا في كل حين لكي توجدوا أهلا للنجاة من جميع الشرور الآتية. وللمثول أمام ابن الإنسان". "وعندما تقومون للصلاة، قولوا: أبانا". (17) ولنعبدهُ بقلبٍ نقيٍ، إذ ينبغي أن نصلي دائما ولا نملٌ. فالآب ينشد مثل أولئك العابدين. (18) إنٌ الله روح، وعلى من يعبدونه أن يعبدوا بالروح والحق. (19) ولنلجأ إليه لجوءنا إلى راعي نفوسنا وحارسها، وهو القائل: "أنا الراعي الصالح، الخ... حتى: أبذل نفسي في سبيل خرافي". (20) "أنتم جميعكم اخوة، فلا تدعوا أحداً أباً لكم في الأرض،الخ... (21) ولا تدعوا أحداً يدعوكم معلمين، الخ... (22) إن ثبتم فيٌ، وثبت كلامي فيكم، فاسألوا ما شئتم، يكن لكم. (23) حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، الخ... (24) وها أنذا معكم كل الأيام، الخ... (25) والكلام الذي قلته لكم هو روح وحياة. (26) أنا الطريق والحق والحياة".

(27) فلنتمسك إذاً بأقوال وبتعليم وبحياة وبإنجيل ربنا يسوع المسيح، الذي تنازل وصلٌى، من أجلنا للآب، وأظهر لنا اسمه بقوله: "يا أبت، لقد أظهرتُ اسمك للناس، الخ... حتى: (28) يا أبتٍ، إنٌ الذين وهبتهم لي، أريد أن يكونوا معي حيث أكون، لكي يشاهدوا مجدك في ملكوتك". (29) المجد للآب وللابن وللروح القدس كما كان في البدء والآن وعلى الدوام وإلى دهر الداهرين. آمين.

(30) ولْيُظِهر الاخوة للفقراء ، حبٌ بعضهم لبعض على حدٌ قول الرسول: "لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان، الخ...". (31) فليحذر جميع الاخوة أينما كانوا من النظر الشرير، ومن معاشرة النساء. ولا يتحدثن أحد منهم معهنٌ بمفرده. أدناه: (32) ولنحتفظ جيدا بذواتنا، وبأعضائنا كلها طاهرة، فالرب يقول: "من نظر إلى امرأة كي يشتهيها، الخ...". أدناه: (33) عندما يذهب الاخوة في العالم، عليهم ألاٌ يحملوا "للطريق شيئا، لا كيساً للدراهم، ولا خِرْجاً، ولا خبزا، ولا مالا، ولا عصا، ولا حذاء".أدناه: (34) "وليحرصوا ألا يقاوموا الشرير، بل إن ضربهم أحد على خد، فليديروا له الآخر أيضا. (35) وإن سلبهم أحد معطفهم. فلا يمنعوه ثوبهم، وإن سلبهم ما هو لهم، فلا يطالبوا به".

(36) بإمكان الاخوة الذين يذهبون بإذن من خادمهم بين غير المؤمنين، أن يعيشوا روحيا، بطريقتين. (37) إحداهما هي الامتناع عن أي جدال أو نقاش، والخضوع لكل خليقة بشرية، من أجل الله، والاعتراف بأنهم مسيحيون. (38) والطريقة الأخرى هي، عندما يبدو أنٌ ذلك يرضي الرب، إعلانهم كلمة الله، كي يؤمنوا بالله الآب الكلي القدرة، والابن والروح القدس. أدناه: (39) وليذكر جميع الاخوة، أينما كانوا، أنهم وهبوا ذواتهم، وأودعوا ذواتهم وأجسادهم لربنا يسوع المسيح. (40) وحبا به، عليهم أن يحتملوا الاضطهاد والموت من الأعداء المنظورين، وغير المنظورين، الخ... أدناه (41) فيعظ جميع الاخوة بأعمالهم.

(42) لا يتملكنٌ أي خادم أو أي واعظ خدمة أو مهمة الوعظ، بل عليه أن يتخلٌى عن مهمته هذه، متى يُؤْمَر بذلك. (43) ومن ثم، أتوسل، بالمحبة التي هي الله، إلى جميع اخوتي الوعٌاظ، والمصلين، والعاملين، الإكليريكيين والعلمانيين، أن يجهدوا في الاتٌضاع في كل شيء، (44) وألاٌ يتباهوا، وألاٌ يفرحوا في ذواتهم، وألاٌ يفتخروا داخليا بالأقوال والأعمال الصالحة، وبأيٌ خير، على الإطلاق يحققه الله أو يقوله أو يعمله، في أي وقت، فيهم وبهم حسب قول الرب: "لا تفرحوا بأنٌ الأرواح تخضع لكم، الخ...".

(45) ولنعلم علم اليقين أنٌ لا شيء يخصنا، سوى رذائلنا وخطايانا، (46) لكن، علينا بالحريٌ أن نبتهج عندما نقع في مضايق مختلفة، وعندما سنتحمل كلٌ أنواع ضيقات النفس والجسد، وشدائدهما في هذا العالم من أجل الحياة الأبدية. فلنحذر إذا، جميعنا من الكبرياء والمجد الباطل. (47) ولنحفظ ذواتنا جيدا من حكمة هذا العالم، ومن فطنة الجسد. (48) إذ إنٌ روح الجسد يبتغي امتلاك الأقوال، ويبذل في سبيلها جهداً جماً، ولكنه لا يعبأ بالأعمال، (49) ولا يتطلع إلى العبادة والقداسة في الروح، إنما يريد ويرغب في عبادة وقداسة تتجليان ظاهريا للناس. (50) وعن هؤلاء يقول الرب: "الحق أقول لكم: لقد نالوا أجرهم". (51) غير أنٌ روح الرب يريد أن يُمات الجسد، ويُزدرى، ويُحتقر، ويُرذل، ويُعتبر مخزيا. (52) وهو يسعى إلى التواضع، والصبر، وبساطة الروح النقية، وسلامه الحقيقي. (53) وهو فوق كل شيء يرغب في المخافة الإلهية، والحكمة الإلهية، والحب الإلهي، حب الآب والابن والروح القدس.
(54) ولنردٌ إلى الرب الإله العليّْ والأسمى كلٌ الخيرات ولنعترف بأنٌ كل الخيرات هي له.
(55) وليحصل هو على كل إكرام وإجلال، وكل تسبيح وبركة، وكل شكر ومجد:
له كل صلاح وهو الصالح وحده.


(56) وعندما نسمع إنسانا يقول الشر، أو يُجَدِّف على الرب،

فلنصنع الخير نحن ولنقله ولنسبح الله الذي هو مبارك مدى الدهور.

(57) ولنعتبر كل رجال الإكليروس والرهبان كأسيادنا، فيما يتعلق بخلاص النفس، وفي ما لا يبعدنا عن جماعتي الرهبانية. ولنكرم في الرب رتبتهم، وخدمتهم، ومهمتهم. أدناه: (58) وبوسع كل الاخوة، بقدر ما يلهمهم الله، إعلان هذه المناشدة أو هذا التسبيح، أو ما يشبههما بين كل الناس ببركة الله وبإذن خادمهم:

(59) اتقوا وكَرِّموا، سبِّحوا وباركوا اشكروا واعبدوا،
الرب إلهنا الكلي القدرة في الثالوث والوحدة، الآب والابن والروح القدس خالق الأشياء كلها.


(60) توبوا، واثمروا ثمارا تليق بالتوبة لكي تعلموا بأننا سنموت قريبا.

(61) "أعطوا تُعْطوا".

(62) اغفروا يُغْفَر لكم.

(63) وإن لم تغفروا لن يغفر لكم الرب خطاياكم. اعترفوا بكل خطاياكم.

(64) طوبى لمن يموتون في التوبة، فإنهم سيكونون في ملكوت السماوات.

(65) والويل لمن لا يموتون في التوبة، إذ إنهم سيكونون أبناء إبليس الذين يعملون أعماله، وسيذهبون إلى النار الأبدية.

(66) احذروا كل شرٍ وامتنعوا عنه، وثابروا في الخير حتى النهاية.

(67) فليحذر جميع الاخوة، أينما وُجِدوا، في المناسك أو في أماكن أخرى، من تملٌك مكان أو أي شيء، والذٌود عنه ضد أيٍ كان. (68) وإن جاءهم أحد، صديق أو خصم، فليمتنعوا عن النقاش معه، بأي شكل من الأشكال. (69) وحيثما وُجِدَ الاخوة، وفي أي مكان التقوا يجب أن يزوروا ويُكرِّموا بعضهم بعضا، روحيا وبعناية وبلا تذمر. (70) وليحذروا من أن يظهروا خارجيا حزانى أو معبٌسين كالمرائين، بل فليبدوا فرحين في الرب، مبتهجين، بشوشين، وحسني المعشر كما يليق.

(71) إنني لأرجو كل أخ مريض إذ يشكر الخالق عن كل شيءٍ، أن يرغب في أن يكون مثلما يشاء له الله أن يكون، معافى أو مريضا، فبمنخس المصائب والأمراض، وبروح الندم، يؤدب الرب كل الذين أعدهم للحياة الأبدية، على حد قوله: "من أحبهم، الخ...". (72) لذلك أرجو جميع اخوتي المرضى، ألاَّ يغضبوا أو يضطربوا في أمراضهم حيال الله أو حيال الاخوة، وألاّ يرغبوا بإلحاحٍ كبير في الأدوية أو تحرير جسد سينتهي قريبا إلى الموت وهو عدو للنفس.

(73) فليجتهد جميع الاخوة في الاقتداء بتواضع ربنا يسوع المسيح وبفقره، وليذكروا أنٌ عليهم ألاٌ يملكوا من العالم كله سوى ما يقول الرسول: "إن كان لدينا ما نأكل وما نلبس، فحسبنا ذلك، لنرضى". (74) وعليهم أن يبتهجوا عندما يعيشون وسط أشخاص محتقرين، ومزدرين، وسط الفقراء والضعفاء، والمرضى والبُرْص، والمتسولين على الطرقات. (75) وإن اقتضت الضرورة فليطلبوا الإحسان. (76) وعليهم ألاٌ يخجلوا من ذلك، لأن ربنا يسوع المسيح، ابن الله الحي والكليّ القدرة جعل وجهه كالصوان، ولم يخجل. (77) وكان فقيراً وضيفاً، وعاش من الإحسان، هو والعذراء الطوباوية، أمه مريم القديسة والتلاميذ. (78) وإذا ما عَيٌرهم الناس، وأمسكوا عنهم العطاء، فليشكروا الرب. فلقاء هذه الإهانات سينالون إكراما عظيما أمام منبر ربنا يسوع المسيح.

(79) وليعلموا أنٌ العار لا يمس من ينصب عليهم، بل خصوصا أولئك الذين يُلْحِقونه بالآخرين، (80) وأنٌ الإحسان هو ميراث الفقراء والبٌر الواجب لهم، إذ استحقهما لنا ربنا يسوع المسيح. (81) والاخوة الذين يعملون في الحصول على الإحسان سيظفرون بأجر عظيم، وسيكسبون هذه الأجر من يهبون الإحسان، فإن كل ما سيتخلى عنه الناس في العالم سيفنى، ولكنهم لقاء المحبة، ولقاء ما يجودون به من إحسان، سينالون الحياة الأبدية.



http://www.peregabriel.com/gm/albums...si-granger.jpg

( وصية صغرى )







(نيسان/ أيار 1226)

بينما كان فرنسيس في مدينة سينا الإيطالية، في شهر نيسان أو أيار، من سنة 1226، اشتدٌ عليه المرض في إحدى الليالي، وصار ينزف دماً. فخاف عليه الاخوة واعتقدوا أنٌ عبوره إلى الآب صار قريباً، فطلبوا منه بإلحاح أن يترك وصيته الأخيرة. فباركهم هم وجميع الذين سيأتون من بعده. وبما أنه لا يقوى على الكلام بسبب مرضه، فقد اختصر وصيته بثلاث أفكار رئيسية دوٌنها الأخ مبارك: المحبة الأخوية المتبادلة، عيش الفقر المقدس، الخضوع للكنيسة ولكلٌ الإكليريكيين. هذه الوصية التي تدعى أيضا "الوصية الصغرى"، هي من أقصر النصوص وأكثرها تأثيراً وإلحاحاً. فمن خلالها يختصر فرنسيس برنامج الحياة الذي أراده له ولاخوته، ويعطي خُلاصةُ واضحةُ لروحانيٌته.

(1) اكتب أني أبارك جميع اخوتي، الموجودين في جماعتنا الرهبانية، والذين سينضمون إليه حتى آخر الدهر.

(2) وبما أنني بسبب الضعف وألم المرض لا أقوى على الكلام، فإني أبيٌن لاخوتي مشيئتي موجزة بهذه الكلمات الثلاث:

(3) علامة على أنهم يتذكرون بركتي ووصيتي فليحبوا دائما بعضهم بعضا،

(4) وليحبوا دائماً سيدتنا (فضيلة) الفقر المقدس، وليقيٌدوا بها،

(5) وليكونوا دائما مخلصين وخاضعين لأحبار أمٌنا الكنيسة المقدسة، ولكلٌ رجال الإكليروس.



( وصية كبرى )







(أيلول / تشرين الأول 1226)

بعد أن أعطى الوصية الصغرى في سبينا، تحسٌنت صحة فرنسيس، فطلب أن يُنْقَل إلى أسٌيزي. وفي أواخر أيامه على الأرجح وخلال مراحل عديدة واستجابة لأسئلة اخوته، أملى وصيته المعروفة "بالوصية" أو "الوصية الكبرى" شارحاً للمرة الأخيرة رؤيته الإنجيلية. الوصية هي الوثيقة الأكثر أصالة، والأكثر نسبة إلى فرنسيس من كل النواحي. من ناحية حياته: يُعيد فرنسيس قراءة حياته على ضوء العطيٌة، ويُرَدَّدْ بعد كل مرحلة من مراحل حياته "أعطاني الرب". من ناحية إنسانيته: تظهر طبيعته الإنسانية بعفوية، بدءاً بالذكريات العذبة وصولاً إلى صرخته، صرخة النبي المتألم الذي يبدو وكأنه سينهض من الفراش لكي يدافع للمرة الأخيرة عن تلك العطية التي أوحاها إليه الرب. لكنه يحذٌر الاخوة من اعتبار الوصية هذه قانوناً جديداً: إنها فقط توصية أبوية وأخوية، من خلالها يسلٌمهم ما تسلٌم من الرب، أي نهج الحياة الذي كان بالنسبة إليه، وسيكون بالنسبة إلى اخوته مصدر فرح وبركة. وفي ختام الوصية تتغيٌر لهجته، وتصبح مملوءة حنانا ورأفة، وبعد أن يستمطر بركة الثالوث على اخوته، يجرؤ هو أيضا على أن يباركهم.

(1) هكذا أعطاني الرب، أنا فرنسيس، أن أبدأ بالتفكير: إذ لمٌا كنت في الخطايا، كانت تبدو لي رؤية البُرْصِ مرةً واحدةً. (2) وقد قادني الرب نفسه بينهم ورئفت بهم. (3) ولدى ابتعادي عنهم، تحوٌل ما كان يبدو لي مُرَّاً إلى عذوبة الروح والجسد، وبعد ذلك بقيت قليلا ثمٌ هجرت العالم. (4) وأعطاني الرب إيماناً كبيراً بالكنائس، بحيث أني كنت أصلٌي ببساطة، هكذا قائلا: (5) إننا نسجد لك أيها الرب يسوع المسيح في جميع كنائسك الموجود في العالم أجمع، ونباركك لأنك بصليبك المقدس فَدَيْتَ العالم.

(6) بعدئذٍ، أعطاني الرب ولا يزال يعطيني إيماناً كبيراً بالكهنة الذين يحيون وفقاً لنهج الكنيسة الرومانية بسبب رُتبتهم، بحيث إني أريد اللجوء إليهم حتى إن هم اضطهدوني. (7) وحتى لو كان لديٌ مثل حكمة سليمان ولقيت كهنة مساكين في هذا العالم، فإني لا أريد أن أعظ ضدٌ إرادتهم في الرٌعايا حيث يمكثون. (8) وأريد أن أحترمهم هم وجميع (الكهنة) الآخرين، وأن أحبهم وأكرمهم كأسيادٍ لي. (9) ولا أريدُ أن أنظر إلى الخطيئة فيهم، إذ إنني أميٌز فيهم ابن الله وهم أسيادي. (10) وإني أفعل ذلك لأنني في هذا العالم لا أرى شيئاً جسدياً من الابن العليٌ لله سوى جسده ودمه الكليٌي القداسة، اللذين يقبلونهما هم أنفسهم، وهم وحدهم يوزعونهما على الآخرين. (11) أريد أن تُكَرٌم هذه الأسرار الكليٌة القداسة، وتُوَقٌر فوق كل شيء وتُودع في أماكن ثمينة. (12) وحيثما وُجدت أسماؤه وكلماته المكتوبة الكليٌة القداسة، في أماكن غير لائقة، أريد أن ألتقطها وأرجو الآخرين أن تُلتقط، وأن تُوضع في مكان لائق. (13) وعلينا أن نكرٌم ونوقٌر جميع اللاٌهوتيين، والذين يوزٌعون الأقوال الإلهية الكليٌة القداسة، على أنهم يوزٌعون الروح والحياة.

(14) وبعد أن أعطاني الرب اخوةً، لم يدلٌني أحد إلى ما يتوجب عليٌ عمله، لكنٌ العليٌ نفسه أوحى إليٌ بأنٌ عليٌ العيش وفقاً لنهج الإنجيل المقدس. (15) وأنا جعلت (ذلك) يُكْتَب بكلمات وجيزة وبسيطة، وثَبَّتُه لي السيد البابا. (16) وأولئك الذين كانوا يأتون للحصول على الحياة، كانوا يُعطون الفقراء كلٌ ما يملكون، مكتفين بثوب واحد، مرقٌع من الداخل والخارج، مع حبلة وسراويل. (17) وما كنٌا نريد الحصول على أكثر من ذلك. (18) وكنا، نحن الإكليريكيٌين نتلو صلاة الفرض مثل سائر الإكليريكيٌين، وكان (الاخوة) العلمانيون يتلون "الأبانا" وكنا عن طيب خاطر نبقى في الكنائس. (19) كنا غير متعلمين وكنا خاضعين للجميع.

(20) كنتُ أعمل بيديٌ، وما زلت أريد أن أعمل، وأريد بحزم أن يعمل جميع الاخوة الآخرين عمً شريفاً. (21) وعلى الذين لا يُحسنون (عملا) أن يتعلموا، لا طمعا بالحصول على جزاء العمل، بل من أجل (إعطاء) المثل الصالح، وطرد البطالة. (22) وعندما لا ننال عن عملنا جزاء، فلنلجأ إلى مائدة الرب، طالبين الإحسان من باب إلى باب. (23) وقد أوحى إليٌ الرب بهذه التحية التي ينبغي أن نقولها : "ليُعْطِكَ الرب السلام". (24) فليحذر الاخوة من قبول الكنائس والمساكن الوضيعة وكل ما يُبنى من أجلهم إطلاقاً، ما لم تكن ملائمة للفقر المقدس الذي التزمنا به في القانون ولنمكث فيها دائما مثل غرباء وحجٌاج.

(25) إني آمر بحزم وباسم الطاعة جميع الاخوة أينما كانوا، ألاٌ يتجاسروا ويطلبوا أية رسالة من الدوائر الرومانية بأنفسهم أو عن طريق شخص آخر، لا من أجل الكنيسة، ولا من أجل أيٌ مكان آخر، لا بحجٌة الوعظ، ولا بسبب اضطهاد (يلحق) بأجسادهم. (26) ولكن حيثما لا يُقبلون، فليهربوا إلى أرض أخرى كي يكفٌروا ببركة الله. (27) وأُريد بحزم الخضوع للخادم العامٌ لهذه الاخوة، وللخادم المحليٌ الذي يطيب له أن يعيٌنه لي. (28) وأُريدُ أن أكون مقيٌداً بين يديه، بحيث لا أستطيع الذهاب أو العمل خارجاً عن الطاعة أو عن إرادته، لأنه سيدي.

(29) وعلى الرغم من أني بسيطٌ ومريضٌ، فإني أريد أن يكون لي دائماً إكليريكيٌ يتلو صلاة الفرض، كما نصٌ عليه القانون. (30) وليلزم جميع الاخوة الآخرين بالطاعة لخدٌامهم المحليين، وبتلاوة صلاة الفرض وفقاً للقانون. (31) وإن وُجِدَ من لا يتلون صلاة الفرض وفقاً للقانون، ويرغبون في تعديلها بطريقة أخرى، أو ليسوا كاثوليكيين، فليلزم جميع الاخوة أينما كانوا باسم الطاعة وحيثما وجدوا أيٌا من هؤلاء بأن يُقدموه إلى الحارس الأقرب إلى المكان الذي وجدوه فيه. (32) وليلزم الحارس بحزم وباسم الطاعة أن يحرسه أشدٌ حراسة ليلاً ونهاراً، مثل رَجُلٍ في القيود، بحيث لا يُفلت من يديه إلى أن يُسلٌمه شخصياً لخادمه. (33) وليلزم الخادم بحزم وباسم الطاعة أن يرسله مصحوباً باخوة يحرسونه ليلاً ونهاراً مثل رجل في القيود، إلى أن يُقدموه لسيد أوستيا الذي هو سيد كلٌ الاخوة، وحاميها ومصلحها.

(34) ولا يقولنٌ الاخوة "هذا قانون آخر"، إنما هو تذكير وتنبيه ومناشدة وهو وصيتي التي أوصيكم بها، يا اخوتي المباركين أنا فرنسيس أخاكم الصغير، كي نحفظ على نحو كاثوليكيٌ أفضل القانون الذي وعدنا به الرب. (35) وليُلزم الخادم العامٌ وجميع الخدام الآخرين والحراس باسم الطاعة، ألاٌ يضيفوا إلى هذه الكلمات أو يحذفوا منها شيئا. (36) وليكن دائما معهم في النصٌ إلى جانب القانون. (37) وعندما يقرأون القانون في جميع المجامع التي يعقدونها، فليتلوا أيضا هذه الكلمات. (38) آمر بحزم وباسم الطاعة كلٌ اخوتي الإكليريكيين والعلمانيين، ألاٌ يضعوا تعليقات على القانون أو على هذه الكلمات قائلين: "هكذا ينبغي أن تفهم". (39) لكن مثلما أعطاني الرب أن أقول وأكتب ببساطة ونقاء القانون وهذه الكلمات، كذلك افهموها ببساطة ومن غير تحريف واحفظوها واعملوا بموجبها بقداسةٍ حتى النهاية.

(40) وكل من يحفظ ذلك فليمتلئ في السماء من بركة الآب العليٌ، وليمتلئ على الأرض من بركة ابنه الحبيب والروح المُعَزّي والكليٌ القداسة وكل قوات السماوات وكل القديسين. (41) وأنا فرنسيس أخاكم الصغير وخادمكم أثبت لكم بقدر ما أستطيع في الداخل وفي الخارج هذه البركة الكليٌة القداسة.


Mary Naeem 27 - 09 - 2014 04:30 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
شاعر الله (9)
ايلوا لوكلير
إن مثل هذه المشاهد الإلهية تسلّم فرنسيس للاندهاش. ولو حدث ذلك مع إنسان آخر لأنضج هذه الرؤيا وعرضها بأسلوب عقلاني.
أما فرنسيس وهو الشاعر، فقد عبّر بشكل عفوي عن خبرته ومعاناته متغنياً.
عندما كان شاباً شغف بقصائد الشعراء الجوالين وبغنائهم، وها هو الآن يتغنّى ببهاء الحبّ الإلهي. لذا جاءت حياة صلاته أغنية:
... أنت الحبّ والمحبّة، أنت الحكمة وأنت التواضع،
أنت الصبر، أنت الجمال وأنت الرحمة،
أنت الأمان، أنت الطمأنينة وأنت الفرح، أنت رجاؤنا أنت بهجتنا...
" أنت التواضع ": كلمات بسيطة ولكنها شريط من نور، تعبّر بأصالتها عن خبرة فرنسيس الصوفية، عن نهجه الخاص " للشعور بالله"، عن اكتشافه لسرّ الله.
إن هذا التواضع الإلهي، بحسب فقير أسيزي، هو المفهوم السامي للفقر: انه التجرّد الكلّي والجذري عن الذات، تجرّد يبعد كلّ كبرياء وكلّ ادّعاء، كلّ سيطرة وكلّ احتقار للآخرين. انّه صبر، انّه محبّة.
انّه أيضا جمال : " انّك الجمال" جمال أشرق بالتواضع.
شعر فرنسيس في هذه الرؤيا، بعذوبة كبيرة، بفرح عظيم:
" أنت رفق، أنت فرح..."
لقد زال كلّ خوف.
يكفي أن يكون الله هو الله حتى يولد الفرح فينا: فرحه.

Mary Naeem 27 - 09 - 2014 04:48 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
رسائل القديس فرنسيس الأسيزي

إلى جميع المؤمنين

إلى رجال الاكليروس

الأولى إلى الحراس

الثانية إلى الحراس

إلى الأخ ليون

إلى المجمع الرهباني العام

إلى خادم الرهبنة

إلى القديس أنطونيوس البادواني

الى الأخوة في فرنسا

إلى قادة الشعوب

إلى سكان بدلة بولونيا

إلى السيدة جاكلين (جاكومينا)

إلى القديسة كلارا وأخواتها حول الصيام





( إلى جميع المؤمنين )



(1220)

إنها الصيغة الثانية للرسالة إلى المؤمنين، وقد كتبت على الأرجح حوالي سنة 1220، أي بعد عودته من الشرق وفيها يحدد فرنسيس سبب كتابتها: "ولما كُنتُ مدركا أنني عاجز عن زيارتكم شخصيا وبشكل فردي بسبب المرض وضعف جسدي ارتأيت أن أنقل إليكم عبر هذه الكلمات وهذه الرسالة كلمات ربنا يسوع المسيح". وفي هذا برهان على كتابتها في هذا التاريخ والبرهان الآخر هو أنها تحمل إشارة واضحة إلى القرار البابوي الذي أصدره البابا هونوريوس الثالث في 22 تشرين الثاني 1219 (

sane cum olim) لتطبيق قرارات المجمع اللاتراني الرابع، حول سر الإفخارستيا. أهم النقاط التي يتناولها فرنسيس: سر الخلاص، وحقيقة سر التجسد، وضرورة احترام رجال الإكليروس وضرورة ممارسة الأسرار وعيش التوبة، من خلال الصلاة والمحبة والتواضع والصدقة والصوم والرحمة والنقاوة ونكران الذات والخدمة والخضوع للجميع. ويختم الرسالة بقصة الإنسان المريض على فراش الموت شارحا من خلالها أهمية التوبة. من أجمل المقاطع في هذه الرسالة والتي وردت أيضا في الرسالة الأولى إلى المؤمنين وصفه لعلاقة المؤمن بكل من الأقانيم الثلاثة.

(1) باسم الرب، الآب والابن والروح القدس، آمين.

إلى جميع المسيحيين المتدينين من كهنة وعلمانيين، رجال ونساء، وجميع قاطني المسكونة بأكملها، الأخ فرنسيس خادمهم ومرؤوسهم باحترام وإجلال (يرسل) سلاما، حقا، من السماء ومحبة صادقة في الرب. (2) بما أنني خادم الجميع، فإنني ملزم بخدمة الجميع وبأن أوزع على الجميع أقوال ربي العطرة. (3) ولما كنت مدركا أنني عاجز عن زيارتكم شخصيا، وبشكل فردي بسب المرض وضعف جسدي ارتأيت أن أنقل إليكم عبر هذه الكلمات وهذه الرسالة كلمات ربنا يسوع المسيح، الذي هو كلمة الآب وكلمات الروح القدس التي هي روح وحياة. (4) إن الآب العليَّ بشر من السماء بكلمته هذه الجزيل الكرامة، والجزيل القداسة والتمجيد بواسطة ملاكه القديس جبرائيل في أحشاء القديسة المجيدة العذراء مريم، ومن أحشائها أخذ (الكلمة) جسد إنسانيتنا وهشاشتنا الحقيقية. (5) فهو الذي كان غنيا فوق كل شيء أراد اختيار الفقر لنفسه في هذا العالم مع أمه العذراء الكلية الطوبى. (6) وقُبيل آلامه، احتفل بالفصح مع تلاميذه فأخذ الخبز وشكر وبارك وكسر قائلاً: "خذوا فكلوا، هذا هو جسدي". (7) ثم أخذ الكأس وقال: "هذا هو دمي، دم العهد الجديد، الذي سيراق عنكم عن كثيرين لمغفرة الخطايا". (8) ثم صلى للآب، قائلاً: "أيها الآب، فلتبعد عني هذه الكأس إن أمكن". (9) وغَدا عرقه مثل قطرات دم تتساقط على الأرض. (10) بيد أنه وضع مشيئته في مشيئة الآب قائلاً: "يا أبت فلتكن مشيئتك، لا كما أريد أنا، بل كما تريد أنت". (11) وهذه كانت مشيئة الآب، أن يقدم ذاته ابنه المبارك والممجد، الذي أعطانا إياه، والذي وُلِدَ من أجلنا بدمه الخاص ذبيحة وقربانا على مذبح الصليب، لا من أجل ذاته، (12) هو الذي به صنع كل شيء، بل من أجل خطايانا، (13) تاركا لنا مثالا كي نقتفي آثاره. (14) وهو يريد أن نَخلُصَ جميعنا به، وأن نتناوله بقلبنا الطاهر، وجسدنا العفيف. (15) ولكن، قليلون هم الذين يريدون تناوله والخلاص به، مع أن نيره لطيف وحمله خفيف. (16) أولئك الذين يأبون تذوق عذوبة الرب، ويؤثرون الظلمات على النور، رافضين تنفيذ وصايا الله، هؤلاء ملعونون. (17) وعنهم قال النبي: "ملعونون هم الذين يبتعدون عن وصاياك". (18) ولكن، آه! هم، هم السعداء ومباركون أولئك الذين يحبون الله، ويعملون بموجب قول الرب نفسه، في الإنجيل: "أحبب الرب إلهك، بكل قلبك، وكل ذهنك، وقريبك كنفسك". (19) فلنحب الله، إذا ولنعبده بقلب نقي، وبذهن نقي، إذ أنه هو نفسه يطلب ذلك فوق كل شيء ويقول: "العابدون الحقيقيون يعبدون الآب بروح الحق". (20) فعلى جميع من يعبدونه أن يعبدوه بروح الحق. (21) ولنوجه له التسابيح والصلوات نهارا وليلاً، قائلين: "أبانا الذي في السموات"، إذ وجب علينا أن نصلي دائما من غير ملل. (22) علينا، أيضا أن نعترف للكاهن بكل خطايانا ونتناول منه جسد ربنا يسوع المسيح ودمه. (23) فمن لا يأكل جسده، ولا يشرب دمه، لا يستطيع دخول ملكوت الله. (24) ولكن، فليأكل، ويشرب باستحقاق إذ أن من يتناوله بلا استحقاق إنما يأكل ويشرب الحكم على نفسه لأنه لم يتبين جسد الرب أي أنه لم يميزه. (25) وفضلا عن ذلك، فلنثمر ثمارا تليق بالتوبة. (26) ولنحب القريب كنفسنا. (27) وإن لم يشأ أحد أن يحب قريبه كنفسه، فلا يلحقن به، على الأقل ضررا بل فليصنع له خيرا. (28) والذين تسلّموا سلطة إدانة الآخرين، فليمارسوها برحمة، مثلما يرغبون هم أنفسهم في أن يظفروا برحمة الرب، (29) إذ أن الدينونة ستكون بلا رحمة لمن لم يرحموا. (30) فليكن لدينا، إذا، المحبة والتواضع ولنقدم الإحسان، فالإحسان يغسل النفوس من دنس الخطايا. (31) والبشر يخسرون كل ما يتخلون عنه في هذه الدنيا بيد أنهم يأخذون معهم مكافأة المحبة والإحسان الذي قاموا به والذي سيتلقون عنه من الرب المكافأة والجزاء اللائق. (32)علينا إذا أن نصوم وأن نمتنع عن الرذائل والخطايا وعن كل إفراطٍ في الطعام والشراب وأن نكن كاثوليكيين. (33) علينا أيضا أن نزور الكنائس بتواتر وأن نحترم رجال الإكليروس ونكرّمهم إن كانوا خاطئين ولكن بسبب خدمتهم وتوزيعهم جسد المسيح دمه الكليّي القداسة اللذين يقربونهما ذبيحة على المذبح ويتناولونهما ويوزعونهما على الآخرين. (34) ولنعلم جميعنا علم اليقين أن ما من أحد يستطيع أن يَخلَص إلا بدم ربنا يسوع المسيح، وبكلماته المقدسة التي يتلوها رجال الإكليروس ويعلنونها ويوزعونها. (35) وعليهم وحدهم توزيعها من دون الآخرين. (36) ويلزم خصوصا الرهبان الذين زهدوا في هذه الدنيا أن يفعلوا أكثر وافضل من غير أن يهملوا هذه الأمور. (37) علنيا أن نبغض أجسادنا برذائلها وخطاياها إذ إن الرب يقول في الإنجيل: "كل الشرور والرذائل والخطايا تخرج من القلب". (38) علينا أن نحب أعداءنا ونحسن إلى من يبغضوننا. (39) علينا أن نتقيد بوصايا ربنا يسوع المسيح، ومشوراته. (40) علينا أن ننكر ذواتنا، وأن نضع أجسادنا تحت نير الخدمة والطاعة المقدسة مثلما وعد كل منا الرب. (41) ولا يلزم أي كان باسم الطاعة، أن يطيع أحداً، إن كان في الأمر جرم أو خطيئة. (42) ومن أوكلت إليه الطاعة والذي يعد الأكبر فليكن كالأصغر وخادما لسائر الاخوة. (43) وليكن رؤوفا حيال كل من اخوته، ولتكن لديه الرأفة التي يرغب في أن تظهر له لو هو وجد في حال مماثلة. (44) ولا يغضبن على أخ بسبب ذنب اقترفه هذا الأخ بل فلينبهه وليسنده بكل صبر وتواضع ولطف. (45) علينا ألا نكون حكماء ومتعقلين بحسب الجسد بل بالحريّ أن نكون بسيطين متواضعين وأنقياء. (46) ولنزدر أجسادنا ونحتقرها إذ أننا جميعنا بذنبنا أشقياء ومتعفنون ونتنون، ودودٌ كما يقول الرب بواسطة النبي: "أنا دودة، لا إنسان، ازدراء البشر، ورذالة الشعب".

(47) علينا ألا نرغب أبدا في أن نكون فوق الآخرين بل علينا بالحريّ أن نكون خداما وخاضعين لكل خليقة بشرية من أجل الله. (48) وجميع الذين واللواتي يعملون هذه الأعمال ويثابرن فيها حتى النهاية سيستقر روح الرب عليهم سيجعل فيهم مقامه ومسكنه. (49) وسيكونون أبناء الآب السماوي الذي يعملون أعماله. (50) وهم عرائس ربنا يسوع المسيح اخوته وأمهاته. (51) إننا عرائس عندما تتحد النفس المخلصة بواسطة الروح القدس بيسوع المسيح. (52) ونحن اخوته عندما نعمل بمشيئة أبيه الذي في السماء. (53) ونحن له أمهات عندما نحمله في قلبنا وجسدنا بحب وضمير نقي وصادق وعندما نلده بالعمل المقدس الذي ينبغي أن يتلألأ قدوة للآخرين.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...al_07_Oct1.jpg

(54) آه! إنه لمجيد ومقدس وعظيم أن يكون للمرء أب في السموات! (55) آه! إنه لمقدس ومعزّ وجميل ورائع أن يكون له عروس! (56) آه! إنه لمقدس ومبهج ومتواضع وسلمي وعذب ومحبوب ومرغوب فيه فوق كل شيء أن تكون له مثل هذا الأخ والابن الذي بذل نفسه في سبيل خرافه والذي صلى إلى أبيه من أجلنا، قائلا: "يا أبت القدوس احفظ باسمك أولئك الذين أعطيتني إياهم. (57) يا أبت جميع الذين أعطيتني إياهم في العالم كانوا لك، فأعطيتني إياهم. (58) وأنا أعطيتهم الكلام الذي أعطيتنيه وقد تقبلوه وعرفوا حقا أني خرجت من لُدْنِك وعرفوا أنك أنت أرسلتني. إني أدعو لهم لا للعالم، باركهم وقدسهم. (59) ومن أجلهم أقدس نفسي لكي يكونوا مقدسين في الوحدة مثلنا. (60) وأريد يا أبت أن يكونوا هم أيضا معي حيثما أكون لكي يعاينوا مجدي في ملكوتك".


(61) إلى الذي احتمل كثيرا من أجلنا،

والذي أنعم بكثير من الخيرات وسينعم بالمزيد في المستقبل،
فلتقدم كل خليقةٍ
في السموات وعلى الأرض وفي البحر وفي الأعماق،
التسبيح والمجد والإكرام والبركة،
(62) لأنه قدرتنا وقوتنا،
وهو وحده الصالح،
ووحده العليّ،
ووحده الكلي القدرة والعجيب والمجيد،
ووحده القدوس والجدير بالتسبيح والمبارك،
في دهر الدهور اللامتناهية،
آمين.


(63) أما جميع الذين لا يحيون التوبة، ولا يتناولون جسد ربنا يسوع المسيح، ودمه، (64) ويستسلمون للرذائل والخطايا ويسيرن في إثر الشهوة الفاسدة والرغبات الشريرة لا يتقيدون بما وعدوا به الرب، (65) ويخدمون جسديا العالم بالرغبات الجسدية وهموم هذه الدنيا ومشاغلها وهموم هذه الحياة، (66) فهم مخدوعون بإبليس إذ إنهم أبناؤه ويعملون أعماله، وهم عميان لأنهم لا يرون النور الحق، ربنا يسوع المسيح. (67) وليس لديهم حكمة روحية لأن ليس لديهم في ذواتهم ابن الله، حكم الآب الحقيقية وفيهم قيل: "لقد التهمت حكمتهم". (68) إنهم يرون الشر ويقرون به ويعلمونه ويفعلونه ويخسرون نفوسهم عن معرفة.

(69) انظروا أيها العميان المخدوعون بأعدائنا أي الجسد والعالم وإبليس، فإنه لعذب للجسد ارتكاب الخطيئة ومُرَّةٌ خدمة الله، إذ أن جميع الشرور والرذائل والخطايا تخرج وتنبعث من قلوب البشر كما يقول الرب في الإنجيل. (70) ولا شيء لكم، لا في هذا الدهر، ولا في الآتي. (71) وتظنون أنكم ستمتلكون طويلا أباطيل هذا العالم ولكنكم مخدوعون إذ سيأتي اليوم والساعة اللذان لا تفكرون فيهما ولا تعرفونهما وتجهلونهما.

(72) فيعتل الجسد، ويدنو الموت ويأتي الأقرباء والأصدقاء قائلين: "رتب أمورك". (73) ها إن زوجته وأبناءه وأقرباءه وأصدقاءه يتظاهرون بالبكاء. (74) وينظر إليهم ويراهم يبكون ويحركه دافع شرير ويفكر في ذاته قائلاً: "هوذا، نفسي وجسدي وكل أملاكي أضعها بين أيديكم". (75) إنه لملعون حقا هذا الإنسان الذي يخاطر بنفسه وجسده وكل أملاكه ويوكلها إلى مثل تلك الأيدي. (76) فالرب يقول بالنبي: "ملعون الإنسان الذي يتكل على إنسان". (77) ويأتون فورا بالكاهن ويقول الكاهن له: "هل تريد أن تنال الغفران عن جميع خطاياك؟" (78) فيجيب: "أريد" ـ "هل تريد أن تكفر، قدر طاقتك بثروتك عما اقترفته وعن الاحتيال والغش اللذين مارستهما تجاه الناس؟" (79) يجيب: "لا" ويقول الكاهن: "لم لا؟" (80) "لأني أودعت كل شيء بين أيدي أقربائي وأصدقائي". (81) ويشرع يفقد النطق وهكذا يموت ذلك البائس.

(82) ولكن، فليعلم الجميع أنه أينما مات إنسان بأي شكل من الأشكال وهو في حال الخطيئة المميتة من غير تكفير إذا كان قادرا على التكفير ولم يكفر فيخطف إبليس نفسه من جسده بكثير من الضيق والشدة، الأمر الذي لا يستطيع معرفة مداه سوى من يكابده.

(83) وسيسلب كل ما كان يظن أنه له من مواهب، وقدرات ومعرفة. (84) ويترك كل شيء للأقارب والأصدقاء وهؤلاء بعد أن يأخذوا ثروته ويقسّموها، سيقولون: "ملعونة هي نفسه، فقد كان بإمكانه أن يهبنا أكثر مما وهب وان يقتني أكثر مما اقتنى". (85) ويلتهم الدُّودُ الجسد ويفقد هكذا الجسد والنفس في هذا الدهر القصير الأمد، ويذهب إلى جهنم حيث يعذب إلى ما لا نهاية.

(86) باسم الآب والابن والروح القدس آمين. (87) أنا الأخ فرنسيس أصغر خدامكم أرجوكم وأتوسل إليكم في المحبة التي هي الله، ومع الرغبة في تقبيل أرجلكم أن تتقبلوا بتواضع ومحبة هذه الكلمات وكلمات ربنا يسوع المسيح الأخرى، وأن تنفذوها وتحفظوها. (88) وليبارك الآب والابن والروح القدس جميع الذين واللواتي يقبلونها بلطف ويفهمونهما ويرسلون منها إلى الآخرين إن ثابروا على ذلك، حتى النهاية.

آمين.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...mal_0917-L.jpg



( إلى رجال الاكليروس )






(1220)

هذه الرسالة هي الصيغة الثانية للرسالة إلى رجال الإكليروس، وهي من أكثر تعاليم فرنسيس حيوية حول سِرّْ الإفخارستيا، بحسب تعاليم المجمع اللاتراني الرابع (سنة 1215) وقرار البابا هونوريوس الثالث

Sane cum olim)، سنة 1219) حول تجديد تكريم القربان المقدس. نعرف من سير حياته كيف أنه كان يتألم عندما كان يصادف كنائس فقيرة ومهملة، وكيف أنه كان يحمل دائما، في أسفاره مكنسة لتنظيف الكنائس المهملة. وابتداء من سنة 1220، بدأ فرنسيس نشاطا متواصلا لحمل الناس على احترام سر القربان، مستعينا الرسائل، إذ أنه أصبح مريضا غير قادر على التنقل. وهذه الرسالة بالإضافة إلى غيرها هي جزء من هذه الحملة الإفخارستية فيها يتكلم على الاحترام الواجب نحو سِرّْ الإفخارستيا وعلى الاهتمام بكل ما له صلة بهذا السر (كنائس، مذابح، كؤوس، أوان مقدسة، شراشف المذبح، المناصف، الأقمشة التي يُقرب عليها جسد الرب ودمه)، وعلى النقاوة الداخلية للذين يتناولون جسد الرب وعلى الاحترام الفائق في حمله. وكان فرنسيس يعرف جيدا حالات الإهمال إزاء هذا السر العظيم، ويصفها بدقة. وهو يريد أن يصحح هذه الأخطاء بدءاً بذاته: "فلنتبين نحن الإكليريكيين جميعنا الخطيئة الكبرى والجهل لدى بعضهم حيال جسد ربنا يسوع المسيح ودمه الكليّي القداسة، وأسمائه الكلية القداسة وكلماته المكتوبة التي تقدس الجسد".

(1) فلنتبين، نحن الإكليريكيين، جميعنا الخطيئة الكبرى والجهل لدى بعضهم حيال جسد ربنا يسوع المسيح، دمه الكليّي القداسة، وأسمائها الكلية القداسة، وكلماته المكتوبة التي تقدس الجسد.

(2) وإننا نعلم أنه لا يمكن أن يكن الجسد ما لم يقدس من قبل بالكلمة. (3) فنحن، لا شيء لدينا ولا نرى جسديا من العليّ نفسه في هذا العالم سوى الجسد والدم والأسماء والكلمات التي بها صُنعنا، وافتدينا من الموت إلى الحياة.

(4) وعلى جميع من يوزعون هذه الخدمات الكلية القداسة، لاسيَّما أولئك الذين يوزعونها بلا تمييز أن يتفكروا كيف أن الكؤوس والصمدات والشراشف التي يُقرّب عليها جسد ربنا ودمه مهملة. (5) وإن كثيرين يتركونه في أماكن مزرية ويحملونه بطريقة يرثى لها ويتناولونه بلا جدارة ويوزعونه على الآخرين بلا تمييز. (6) وأحيانا تداس بالأرجل أسماء ربنا وكلماته المكتوبة. (7) فالإنسان البشري لا يتبين ما هو لله.

(8) ألا يثير ذلك شفقتنا، في حين أن ربنا الشَّفوق نفسه يُقدم ذاته بين أيدينا، ونحن نلمسه يوميا ونتناوله بفمنا؟ (9) أو نجهل أن علينا أن نحضر بين يديه؟ (10) فلنصلح إذا ذواتنا من كل تلك الأمور من غيرها بسرعة وحزم. (11) ولينتزع جسد ربنا يسوع المسيح، الكُلّي القداسة من أي مكان وُضع وتُرك فيه بشكل غير لائق، وليوضع ويحفظ في مكان ثمين. (12) وكذلك حيثما وجدت أسماء ربنا وكلماته المكتوبة في أماكن قذرة فلتلتقط ولتوضع في مكان لائق.

(13) إننا نعلم أننا ملزمون بحفظ كل ذلك، فوق كل شيء، وفقا لوصايا الرب ولدساتير أُمنا الكنيسة المقدسة. (14) وليعلم من لا يفعل ذلك أنه سيؤدي عنه حسابا يوم الدينونة أمام ربنا يسوع المسيح. (15) وليعلم الذين سينسخون هذه المدونة، لكي تُحفظ على نحو أفضل أنهم مباركون من الرب الإله.


( الأولى إلى الحراس )




(1220)

الُحرّاس هم اخوة في موقع المسؤولية في الرهبنة. وجدت هذه التسمية تطورا خلال حياة فرنسيس وفي كتاباته. ففي القانون المثبت، الفصل الرابع يتكلم على الحُرّاس بمعنيين: الحارس هو الخادم العام أو الخادم الإقليمي. أما في وصيته فصار استعمال هذه الكلمة محصورا في معنى واحد: بما أن الإقليم كان مقسما إلى حراسات (أو مناطق)، فالحارس هو المسؤول الأول عن هذه الحراسة. وهذا الاستعمال لكلمة "حارس" موجود لأول مرة بهذا المعنى الأخير في هذه الرسالة. وبهذا المعنى استعمل البابا هونوريوس الثالث كلمة "حراس"، في براءته البابوية الصادرة في 22 تشرين الثاني 1220 (

Cum secundumconsilium). من ناحية أخرى، اكتشف بول ساباتييه هذه الرسالة الأولى إلى الحراس سنة 1902 في مخطوط (رقم 225) في مدينة "فولتيرا" الإيطالية، وهو المخطوط الوحيد الذي نقلها إلينا. وهي تحمل إلينا، أيضا همّ فرنسيس: أي الاحترام الواجب نحو الإفخارستيا ونحو كلمة الله. وهذا يعكس همّ الكنيسة، في فترة ما بعد المجمع اللاتراني الرابع، وخصوصا بعد قرار البابا هونوريوس الثالث Sane cum olim)، سنة 1219) حول تجديد تكريم القربان المقدس. لذلك، يرجح أنها كتبت بعد عودة فرنسيس من الشرق الأوسط أي حوالي سنة 1220. في هذه الرسالة ثلاث أفكار جديدة:

1. الطلب من الوعاظ مناشدة الشعب التوبة واحترام سر القربان.

2. توصية الجميع بأن يركعوا عند رفع القربان، بعد التكريس، وعند نقله في الشوارع.

3. والدعوة إلى تسبيح الرب في كل ساعة، وعند قرع الجرس.

(1) إلى جميع حُرّاس الاخوة الأصاغر، الذين ستصل إليهم هذه الرسالة، الأخ فرنسيس، خادمكم، وصغيركم في الرب الإله، يهديكم التحية مع العلامات الجديدة للسماء والأرض، العلامات العظيمة، والمميزة لدى الله، بينما يُعدّها الكثيرون من الرهبان ومن سائر البشر كأنها لا شيء على الإطلاق.

(2) إني أرجوكم، أكثر مما لو كان الأمر يتعلق بي، أن تتوسلوا رجال الإكليروس بتواضع عندما ينبغي، وعندما يبدو لكم ذلك ملائما، كي يوقّروا فوق كل شيء جسد ربنا يسوع المسيح، ودمه، الكُلِّيَّي القداسة، وأسماءه المقدسة، وكلماته المكتوبة التي تقدس الجسد.

(2) وليعتبروا الكؤوس، والصمدات وزينة المذبح وكل ما له بالذبيحة من صلة، أشياء ثمينة. (4) وإن كل جسد الرب الكليي القداسة في أي مكان موضوعا على نحو مُزْرٍ جدا فليضعوه وليحفظوه وفاقا لوصية الكنيسة في مكان ثمين، وليحملوه بتكريم عظيم وليوزعوه على الآخرين بتمييز. (5) ولتلتقط أسماء الرب وكلماته المكتوبة حيثما وجدت في أماكن قذرة ولتوضع في مكان لائق.

(6) وفي كل عظةٍ تعظونها، ذكروا الشعب بالتوبة وبأنه ما من إنسان، يستطيع أن يخلص سوى من يتناول جسد الرب ودمه الكليّي القداسة، (7) وعندما يقربه الكاهن على المذبح، ويُحمل إلى مكان ما فليركع جميع الناس وليقدموا للرب الإله الحي والحق، التسبيح والمجد والإكرام. (8) أعلنوا، وعظوا جميع الأمم، كي يرفع الشعب كله في الأرض كلها التسبيح والشكر لله الكُليّي القدرة، في كل ساعة وكلما قُرعت الأجراس.

(9) وليعلم جميع اخوتي الحراس الذين ستصل إليهم هذه المُدّوَنة والذين سينسخونها ويحملونها معهم، ويعملون على نسخها للاخوة المكلفين بمهمة الوعظ، وبحراسة الاخوة والذين سيكرزون حتى النهاية بما تتضمنه هذه المدونة، أن بركة الرب الإله، وبركتي عليهم. (10) ولتكن تلك الأمور لهم بمثابة طاعة حقيقية ومقدسة. آمين.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...10621/1015.jpg

( الثانية إلى الحراس )




(1220)

لقد اكتشف الأخ لوقا وادينغ هذه الرسالة مترجمة إلى اللغة الإسبانية، في أحد أديارِ الاخوة في إسبانيا. وقد حفظت في أرشيف ذلك الدير، منذ أيام يوحنا بارنتي الذي كان خادما إقليميا لإقليم إسبانيا وصار خادما عاما للرهبنة، من سنة 1227 إلى 1232. لقد ترجم وادينغ هذا النص إلى اللاتينية الأمر الذي صعّب الأمور فاستحال اكتشاف أسلوب فرنسيس في هذه الرسالة خصوصا وإن النص الإسباني قد ضاع. لكن، لا شك في نسبتها إلى فرنسيس إذ أن محتواها يعكس "حملته الإفخارستية" التي تميز بها، في هذه الفترة. من ناحية أخرى فهذه الرسالة تشير إلى الرسائل الأخرى التي كتبها في هذه الفترة حول الإفخارستيا خصوصا تلك التي أُرسلت إلى رجال الإكليروس وإلى قادة الشعوب. لذلك، يبدو أن هذه الرسالة كُتبت بعد عودته من الشرق، وبعد الرسائل الأخرى التي كُتبت في هذه الفترة.

(1) إلى جميع حُرّاس الاخوة الأصاغر الذين ستصل إليهم هذه الرسالة، الأخ فرنسيس أصغر خدام الله، يهديكم التحية والسلام المقدس فيالرب. (2) اعلموا أن ثمة أشياء رفيعة وسامية نصب عيني الله، يعتبرها الناس أحيانا حقيرة ووضيعة، (3) بينما هناك أشياء أخرى ثمينة ومميزة بين الناس تعتبر حقيرة جداً ووضيعة أمام الله.

(4) إني أرجوكم، أمام الرب إلهنا، بقدر ما أستطيع، أن تعطوا الأساقفة، ورجال الإكليروس الآخرين، تلك الرسائل التي تتكلم على جسد ربنا ودمه الكليي القداسة، (5) وتحفظوا في ذهنك ما أوصيناكم به بهذا الخصوص. (6) انسخوا مرات كثيرة الرسالة الأخرى التي أُرسلها إليكم، لتعطوها إلى الحكام والقناصل والقادة والتي تحتوي على الدعوة لإعلان التسابيح لله بين الشعوب وفي الساحات، (7) ووزعوها بعناية كبرى إلى من يجب أن تعطوها.


( إلى الأخ ليون )






(1224 ـ 1226)

بقيت هذه الرسالة، التي دوّنها القديس فرنسيس بخط يده على الرِّقِّ مجهولة لفترة طويلة وكأنها سرُ الأخ ليون. ظهر هذا النص الأصلي سنة 1604 بطريقةٍ مجهولةٍ، في أحد أديار سبوليتو ثم بعد فترة من الزمن عاد واختفى حتى سنة 1893. وسنة 1902 أعطى البابا لاون الثالث عشر الرّقّ إلى كاتدرائية سبوليتو حيث مازال حتى الآن. ويبدو أنه في الفترة التي اختفى فيها كان موضوعا في علبةٍ للذخائر. لا عناصر كافية لتحديد تاريخ تدوين هذه الرسالة، لكن معظم العلماء يقترحون السنوات الأخيرة حياة فرنسيس أي بعد حصوله على سمات المسيح، في أيلول 1224. ويعتقد بعض العلماء أن أجزاء صغيرة ناقصة من جانبي هذا الرق، الذي يبلغ طوله 13 سم، وعرضه الحالي 6سم. أما مناسبة هذه الرسالة فهي: كان الأخ ليون في أزمة وعلى الرغم من الحوار الذي دار بينهما بينما كانا سائرين في الطريق، أراد أن يرى فرنسيس للنصح، والتعزية. فلخّص له فرنسيس الحديث الذي دار بينهما، وقال بأن لا لزوم لزيارته ويعتقد أتيليو بارتولي لنجيلي بأن الرسالة في الأصل تنتهي هنا مع توقيع فرنسيس. لكنه يقول بأن فرنسيس عاد ففكر في الأمر ولم يُرِد أن يترك له الحرية في المجيء إليه. فعلى أي حال، تقوم المشورة، التي أعطاها فرنسيس للأخ ليون على اتباع الحرية الإنجيلية، لذلك فالرسالة إلى الأخ تعبِّر عن الصداقة الروحية بينهما، وهي دليل أساسي لكل منشئ، وخصوصا للمنشئ الفرنسيسي.

(1) إلى الأخ ليون، تحية وسلام من أخيك فرنسيس.

(2) أقول لك ذلك يا بُنيّ مثل أمٍّ لأن جميع الأقوال التي تبادلناها في الطريق أرتبها وأنصحك إياها، باختصار في هذه الكلمة فلا لزوم لمجيئك إليّ التماسا لنصيحة لأني أنصحك بهذا:

(3) أي وسيلة وجدتها هي المثلى لإرضاء الرب الإله، ولاقتفاء آثاره، وفقره، فاتّبعها ببركة الرب الإله، وبإذني.

(4) وإن كان من الضرورة لنفسك، أو لتعزية أخرى، وإن أنت شئت أن تأتي إليّ، فتعال.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...lizabeth23.jpg

( إلى المجمع الرهباني العام )






(1225-1226)

بين كل الرسائل التي كتبها فرنسيس، الرسالة إلى كل الرهبنة وهي على الأرجح الأكثر ليتورجيّةً في توجهها، حيث يشجع الاخوة على إظهار احترامهم وإكرامهم للإفخارستيٌا، ولليتورجيا الساعات، ويعرض بالتفصيل نظرته العميقة حول سر الإفخارستيٌا، وعلاقته بالكلمة. يقول أوبرتينو من كازالي في كتابه: "شجرة حياة يسوع المسيح المصلوب" (سنة 1305)، بأنٌ هذه الرسالة كُتِبَت في أواخر حياة فرنسيس. وفي 3 كانون الأول 1224 صدرت براءة بابوية (

Quia popularestumultes) تسمح للاخوة بالاحتفال بالقداس الإلهي في كنائسهم، ومعابدهم. فمن المحتمل أن تكون هذه البراءة قد أسهمت في تشجيع الفقير الصغير على كتابة رسالته هذه إلى كل الرهبنة. ومن ناحية أخرى، فإنٌ الكثير من المواضيع الموجودة في هذه الرسالة تعكس همومه التي ترجمها في وصيته الأخيرة قبل مماته. بينما بعض المخطوطات تسمي هذه الوثيقة "رسالة إلى المجمع العام"، فإنٌ بعضهم يسميها "رسالة إلى كل الرهبنة"، إذ إنٌ فرنسيس في الآية الثانية، يتوجه إلى كل الاخوة. وتنتهي الرسالة بصلاة غزيرة المعاني الأدبية واللاهوتية، حيث ينجلي مفهوم كامل للثالوث، وللمسيرة الروحية المعروضة أمام الإنسان. وهي تعكس التوازن الروحي الرائع الذي توصل إليه فرنسيس في حياته.



(1) باسم الثالوث الأسمى، والوحدة المقدسة، الآب والابن والروح القدس، آمين.

(2) إلى جميع اخوتي الموقٌرين والمحبوبين جداً، إلى الأخ... الخادم العامٌ لرهبنة الاخوة الأصاغر وسيدها، وإلى سائر الخدام العامين الذين سيخلفونه، وإلى جميع خدام هذه الرهبنة عينها، وحراسها، وكهنتها المتواضعين في المسيح، وإلى جميع الاخوة البسطاء، والمطيعين الأوٌلين والأخيرين. (3) الأخ فرنسيس، الرجل الحقير والضعيف، خادمكم الصغير يهديكم تحية في الذي افتدانا وغسلنا بدمه الثمين جداً. (4) لدى سماعكم اسمه، اعبدوه بخشية واحترام، ساجدين على الأرض: فإنٌ اسمه هو الرب يسوع المسيح، وابن العليٌ الذي هو مبارك في الدهور، آمين.

(5) اسمعوا يا أبنائي واخوتي وأسيادي، وأصغوا إلى أقوالي. (6) أميلوا أُذُنَ قلبكم، وأطيعوا صوت ابن الله. (7) احفظوا وصاياه بكلٌ قلبكم، وتمموا مشوراته بذهنٍ كاملٍ. (8) اعترفوا له لأنه صالح، وارفعوه بأعمالكم. (9) فهو من أجل ذلك أرسلكم إلى العالم أجمع، كي تشهدوا لصوته، بالقول والعمل، ولكي تحيطوا الجميع علماً بأن لا أحد سواه كليٌ القدرة. (10) ثابروا في التأديب والطاعة المقدسة، واعملوا بقصدٍ صالحٍ وثابت بما وعدتموه به. (11) إنٌ الرب الإله يقدم لنا ذاته تقديمهُ لها إلى أبنائه.

(12) ولذلك أتوسل إليكم جميعاً اخوتي مقبلاً أرجلكم، وبكل ما يسعني من محبة، أن تظهروا كلٌ ما تستطيعون من توقير، وتكريم لجسد ربنا يسوع المسيح ودمه الكلٌيي القداسة، (13) اللذين بهما تحقق السلام والمصالحة بين الله الكليٌ القدرة وكلٌ ما في السماوات وعلى الأرض. (14) وإنني أرجو أيضا في الرب جمع اخوتي الكهنة الذين هم الآن، والذين سيصبحون، والذين يرغبون في أن يكونوا كهنة العليٌ: كلما شاؤوا الاحتفال بالقداس، فليكونوا أنقياء وليقيموا بنقاوة ووقار الذبيحة الحقيقية، ذبيحة جسد ربنا يسوع المسيح ودمه الكليٌ القداسة، بنيٌة مقدسة وطاهرة، لا لأي غرض أرضي، ولا خشية من أيٌ إنسان أو حبا له، أو التماسا لرضى البشر. (15) بل فلتكن كل إرادتهم بقدر ما تؤازرها النعمة الإلهية، متجهة نحو الله، ولا تحدوها سوى رغبة إرضائه وحده الرب الأسمى، فهو وحده يعمل بها كما يشاء، (16) إذ قال هو نفسه: "اصنعوا هذا لذكري". وإن صنع أحد خلاف ذلك، يغدو خائنا نظير يهوذا، ويكون مذنباً إلى جسد الرب ودمه.

(17) تذكروا اخوتي الكهنة ما ورد في شريعة موسى، وهو يقضي على من يخالفها حتى في الأمور المادية، أن يموت بلا رحمة بأمر الرب. (18) فكم بالحريٌ ينبغي أن تكون أكبر وأشدٌ العقوبات التي يستحقها من داس ابن الله، ومن دنس دم العهد الذي قُدٌسَ به، واستهان بروح النعمة! (19) فالإنسان يحتقر حمل الله، ويدنسه، ويدوسه عندما لا يتبيٌن ولا يميز على حدٌ قول الرسول، خبز المسيح المقدس من سائر الأطعمة والأعمال، أو عندما يأكله وهو غير مستحق، أو حتى لو كان مستحقا عندما يأكله باطلا وبلا استحقاق، إذ إنٌ الرب يقول على لسان النبيٌ: "ملعون من يعمل عمل الرب بتوانٍ". (20) وهو يدين الكهنة الذين لا يريدون أن يُعْنَوا بذلك عناية خاصة، قائلا: "سألعن بركاتكم".

(21) اسمعوا يا اخوتي: إن كانت العذراء الطوباويٌة مُكرمٌة إلى هذا الحدٌ كما يليق بها، لأنها حملته في أحشائها الكلٌية القداسة، وإن كان المعمدان الطوباويٌ قد ارتعد، ولم يجرؤ على مسٌ رأس الله المقدس، وإن كان القبر الذي رقد فيه فترة مُكرمٌا، (22) فكم بالحريٌ أن يكون قديساً وباراً وأهلاً من يمسٌ (المسيح) بيديه، ويتناوله في قلبه، وفي فمه، ويقدمه للآخرين كي يتناولوه، ليس بصفته كائناً ميتاً، بل بصفته حياً وممجداً إلى الأبد، هو الذي تشتهي الملائكة أن تمعن النظر فيه.

(23) تأملوا كرامتكم اخوتي الكهنة، وكونوا قديسين، لأنه هو قدوس. (24) وكما كرٌمكم الرب الإله فوق الجميع بسبب هذه الخدمة، كذلك أنتم أحبوه ووقروه وكرٌموه فوق الجميع. (25) كبير هو بؤسكم، وبائس هو وهنكم عندما يكون لكم حاضراً إلى هذا الحدٌ، وأنتم مهتمون بأيٌ أمر آخر من أمور الدنيا كلٌها.

(26) فليخشَ الإنسان بكٌليته، وليرتعد العالم كلٌه،
ولتبتهج السماء، عندما يكون المسيح، ابن الله الحي،
على الهيكل، في يد الكاهن،


(27) يا للعلوٌ العجيب، والمكانة المذهلة!
يا للتواضع السٌامي!
ويا للسمو المتواضع!
أن يَتَّضِع الرب الكون،
الله، وابن الله،
بحيث يتوارى،
من أجل خلاصنا،
تحت شكلِ الخبزِ البسيط!


(28) انظروا يا اخوتي إلى تواضع الله،
واسكبوا قلوبكم أمامه،
إتضعوا، أنتم أيضا
لكي ترفعوا به.


(29) لا تحتفظوا إذا لذواتكم بشيء منكم،
لكي يتقبلكم كليا،
من يهبكم ذاته كليا.


(30) لذلك أنبٌه وأناشد في الرب: في الأماكن حيثما يقيم الاخوة، فليحتفل بقداسٍ واحد في اليوم، وفقاٍ لنهج الكنيسة المقدسة. (31) وإن كان في ذلك المكان كهنة عديدون، فُحبَّاً بالمحبة ليكتفِ كل كاهن بسماع احتفال الآخر به. (32) لأن الرب يسوع المسيح، يملأ من هم جديرون به من الحاضرين والغائبين. (33) ومع أنه يبدو حاضرا في أماكن عديدة، يظلٌ مع ذلك غير منقسم ولا يعرف أيٌ نقصان، ولكنه واحد في كل مكان يفعل كما يشاء الرب الإله الآب والروح القدس البارقليط إلى دهر الدهور، آمين.

(34) ولأن من كان من الله، سمع كلام الله، علينا بالتالي نحن الذين انتدبوا انتدابا خاصا للمهمات الإلهية، ألاٌ نصغي إلى ما يقول الرب ونفعله وحسب بل أيضا أن نحافظ على الأواني والأشياء اللٌيتورجية الأخرى، التي تحتوي كلماته المقدسة، لكي يتغلغل فينا سموٌ خالقنا وخضوعا له. (35) لذلك أنبٌه جميع اخوتي وأشجعهم في المسيح حيثما وجدوا الكلمات الإلهية المكتوبة، أن يوقٌروها بقدر ما يستطيعون. (36) وبقدر ما يتعلق الأمر بهم، إن لم تكن تلك الكلمات محفوظة حفظاً جيداً، أو إن كانت ملقاة ومبعثرة في مكان ما على نحوٍ غير لائق فليلتقطوها وليحفظوها، مُكرمين الرب في الكلمات التي تَلَّفَظَ بها. (37) فإنٌ أشياء كثيرة تُقَدَّس بكلمات الله، وبفضل كلمات المسيح يتحقق سرٌ المذبح.

(38) كما أنني أعترف بكل خطاياي للرب الإله، الآب والابن والروح القدس، وللطوباوية مريم الدائمة البتولية، ولجميع القديسين في السماء وعلى الأرض، وللأخ إ... ، خادم جماعتنا الرهبانية بصفته سيدي الموقٌر، ولكهنة رهبنتنا، ولسائر الاخوة المباركين جميعهم. (39) في مجالات عديدة أسأت بذنبي الجسيم، لا سيٌما لأنني لم أحفظ القانون الذي وعدت به الرب، ولا الفرض حسبما يقتضي القانون، سواء عن إهمال، أو من جرٌاء مرضي، أو لأنني جاهل وغير متعلم.

(40) لذلك أرجو في كل ذلك ووسع طاقتي، الأخ إ... سيدي الخادم العامٌ، أن يلزم الجميع بحفظ القانون في معزل عن أية مخالفة، (41) وليتلُ الإكليريكيٌون الفرض بتقوى أمام الله مهتمين، لا برخامة الصوت بل بتناغم الفكر، بحيث يتوافق الصوت مع الفكر، ويتوافق الفكر مع الله، (42) لكي يستطيعوا مرضاة الله بنقاوة القلب، لا دغدغة آذان الشعب، بعذوبة أصواتهم. (43) أما أنا فأعد بالحفاظ على ذلك بحزم بقدر ما يمنٌ الله عليٌ بنعمته، وسأنقله للاخوة الذين هم معي لكي يحفظوه في الفرض وفي التٌدابير الأخرى التي نصٌ عليها القانون.

(44) أما أولئك الاخوة غير الراغبين في حفظ ذلك، فلستُ أُعِدُّهم كاثوليكيين، ولا اخوة لي، ولا أريد حتى أن أراهم أو أن أُكَلِّمهم إلى أن يكفٌروا عن ذلك. (45) وإنني أقول القول عينه في من يتيهون متخلٌين عمٌا رتبه القانون، (46) إذ إنٌ الرب يسوع المسيح قد وهب حياته لكي لا يفقد الطاعة تجاه أبيه الكليٌ القداسة. (47) أنا الأخ فرنسيس، إنسان بطٌال، وخليقة الرب الإله غير المستحقٌة، أقول بالرب يسوع المسيح للأخ إ... الخادم العامٌ لكل جماعتنا الرهبانية، ولكل الخدام العامين الذين سيخلفونه، وإلى سائر حرٌاس الاخوة وخدامهم المحليين الموجودين الآن، والذين سيوجدون، أن يحملوا معهم هذا النصٌ، وأن يضعوه موضع التنفيذ، ويجهدوا في الحفاظ عليه. (48) وأرجوهم أن يتقيدوا بعناية بما ورد فيه، ويجعل الآخرين يحفظونه بِهِمَّةٍ حسب مرضاة الله الكليٌ القدرة، الآن ودائما وطالما ظلٌ العالم قائما. (49) بارككم الرب أنتم من سيعملون بذلك، وليكن معكم إلى الأبد. آمين.



صلاة :


(50) أيها الإله الكليٌ القدرة، الأزليٌ، العادل، الرٌحيم،
أعطنا نحن البائسين، أن نعمل من أجلك،
ما نعرف أنك تريده، وأن نريد دائما ما يرضيك،


(51) لكي نستطيع، بعد أن نكون قد تطهٌرنا داخليا،
واستنرنا داخليا، واضطرمنا بنارِ الروحِ القُدُس،
ن نقتفي آثار ابنك الحبيب، ربنا يسوع المسيح،


(52) ولكي نصل إليك، أيها العليٌ، بنعمتك وحدها،
أنت يا من في الثالوث الكامل، وبالوحدة البسيطة،
تحيا، وتملك، وتمجٌد،إلها كليٌ القدرة،
إلى دهر الدهور،
آمين.


( إلى خادم في الرهبنة )






(1221-1223)

تقدٌم المخطوطات عناوين مختلفة لهذه الرسالة: "رسالة من القديس فرنسيس إلى أحد الخدام"، "رسالة من القديس فرنسيس إلى الخادم العام، أي الأخ إيليا"، "رسالة إلى الأخ إيليا"، "رسالة من القديس فرنسيس إلى الخادم العام، حول كيفية خدمة الاخوة الذين يخطئون خطيئة مميتة أو عرضية". لكنٌ معظم العلماء يتبعون "إسٌار"، في اختياره العنوان الموجود في معظم المخطوطات، وأهمها: "رسالة إلى خادم في الرهبنة". بذلك يبقى مجهولا اسم الخادم المُرْسَل إليه، ويبقى الأمر مفتوحا أمام الباحثين. تحتوي هذه الرسالة على فقرتين. تخصٌ الفقرة الأولى تلك المواقف التي يجب أن يتحلٌى بها الخادم في معاطاته مع الاخوة الذين يخطئون. أما الفقرة الثانية، فتحتوي على ملخص للفصول الموجودة في القانون الأول، والتي تتكلم عن الاخوة الذين يخطئون. من المسلٌم به أنٌ هذه الرسالة كُتِبَت بعد سنة 1221، وقبل المجمع العام المنعقد سنة 1223، والذي عدٌل فيه الاخوة القانون، قبل أن يثبته الحبر الروماني. كتب فرنسيس هذه الرسالة إلى خادم في الرهبنة كان يجد صعوبة في التعاطي مع الاخوة الذين يخطئون، وكان يرغب في أن يذهب إلى المحبسة بدلا من أن يبقى في تلك الخدمة الصعبة. تعبٌر هذه الرسالة بوضوح عن رحمة القديس فرنسيس، ومحبته للذين يخطئون، وللمدّّعُوّين إلى خدمتهم.

(1) إلى الأخ الخادم ...، فليباركك الرب.

(2) بخصوص نفسك، أقول لك كما أستطيع، أنٌ عليك أن تعدٌ نعمة ما يحول دون حبك للرب الإله، وكل من يكون حائلا، من الاخوة أو من سواهم، حتى لو انهالوا عليك بالضرب. (3) وعليك أن تريد ذلك، ولا شيء سواه. (4) وليكن ذلك لك، بمثابة طاعة حقيقية للرب الإله ولي، فإني أعلم يقينا، أنٌ هذه هي الطاعة الحقٌة. (5) وأحبٌ من يفعلون بك ذلك. (6) ولا ترغب في أن تنال منهم سوى ما يعطيك الرب.

(7) وأَحْبِبْهُم في ذلك، ولا ترغب في أن يكونوا مسيحيين أفضل. (8) وليكن لك ذلك أكثر من محبسة.(9) وبهذا أريد أن أعرف إن كنت تحب الله وتحبني أنا خادمه وخادمك: إن لم تترك أيٌ أخ في العالم في حال خَطِئَ بقدر ما يستطيع أن يخطأ، وبعد أن يرى عينيك، يمضي من دون رحمتك في حال طلب الرحمة. (10) وإن هو لم يطلب الرحمة، فاسأله أنت هل يريد الرحمة. (11) وإن هو بعد ذلك أخطأ ألف مرة أمام عينيك، أحببه أكثر مني لكي تجذبه نحو الرب وكن دائما بمثل هؤلاء الاخوة رحوما. (12) وأحط الخدام المحليين علما عندما تستطيع بأنك عازم على السلوك على هذا النحو.

(13) من كل الفصول الموجودة في قانوننا والتي تتكلم على الخطايا المميتة سنصوغ بعون الرب وبمشورة الاخوة في مجمع العنصرة فصلا كالتالي: (14) إن خَطِئَ أحد الاخوة بتحريض من العدو خطية مميتة، فليلزم باسم الطاعة باللجوء إلى خادمه المحلي. (15) وعلى جميع الاخوة الذين علموا بأنه خَطِئَ ألاٌ يخجلوه أو ينتقدوه، بل فلتكن لهم تجاهه رحمة كبيرة وليحيطوا خطيئة أخيهم بكتمان شديد، إذ ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى. (16) وكذلك فليلزموا باسم الطاعة بإرساله إلى حارسه بصحبة رفيق. (17) وليتدبر ذلك الحارس أمره برحمة مثلما يودٌ هو أن يتدبروا أمره إن وجد في حالة مماثلة. (18) وإن هو ارتكب خطيئة عرضية أخرى، فليعترف إلى أخيه الكاهن. (19) وإن لم يكن هناك كاهن فليعترف إلى أخيه، ريثما يعثر على كاهن يحلٌه قانونيا، كما قيل. (20) ولا يكوننٌ لهؤلاء سلطان لفرض كفٌارة أخرى سوى هذه: "اذهب ولا تعد بعد الآن إلى الخطيئة".

(21) ولكي يحفظ هذا النص على نحو أفضل، احمله معك حتى عيد العنصرة، حيث ستكون مع اخوتك. (22) وستسعون بعون الرب أن تُكْمِلوا هذه الأمور وكل الأشياء الأخرى الناقصة في القانون.




( إلى القديس أنطونيوس البادواني )






(1223-1224)

يتحدث توما من شيلانو، في سيرة القديس فرنسيس الثانية 163، عن تعليم فرنسيس حول الواعظين واللاهوتيين، ويذكر بأنٌ القديس فرنسيس نفسه كتب رسالة إلى القديس أنطونيوس البدواني، يستهلٌها بالعبارة التالية: "إلى الأخ أنطونيوس، أسقفي". لكنه، لم ينقل إلينا محتوى الرسالة التي وصلت إلينا في مجموعات من القرن الرابع عشر. لكن المؤرخ أرنو م سرٌ ن، في كتابه "الخدام العامٌون الأربعة والعشرون لرهبنة الأصاغر" يقول بأن أنطونيوس لما التحق برهبان القديس فرنسيس، بعد سماعه باستشهاد الاخوة الخمسة في مراكش، طلب منه الرهبان أن يقبل مسؤولية تعليمهم. لكنه لم يقبل بذلك الطلب، مهما كان عاجلا، قبل أن يحصل على الإذن من القديس فرنسيس. لذلك يرجٌح أنه جواب على طلب الإذن الخطيٌ، سمح فرنسيس للأخ أنطونيوس بأن يعٌم اللاٌهوت للاخوة. لكنه وضع شرطا واضحا استوحاه من الفصل الخامس، من القانون الثاني، الذي يتحدث عن العمل: على الاخوة، إن عملوا بأيدهم أو درسوا اللاٌهوت، ألاٌ يطفئوا روح الصلاة والتقوى. كتبت هذه الرسالة، على الأرجح بين 29 تشرين الثاني 1223، تاريخ تثبيت القانون النهائي، وبداية سنة 1224. وهي تكوٌن بداية تحول أساسي، إذ إنها تفتح الطريق للرهبنة أمام الدروس، وأمام فهم أهميتها في تنشئة الاخوة، وأمام الانخراط في الجامعات الكبرى.

(1) إلى الأخ أنطونيوس، أسقفي، سلام من الأخ فرنسيس.

(2) يطيب لي أن تدرٌس الاخوة اللاٌهوت المقدس، شرط ألاٌ تطفئ من خلال هذا الدرس روح الصلاة والتقوى، بحسب ما هو مكتوب في القانون.




( إلى الأخوة في فرنسا )






يذكر المؤرخ توما من إكلستن (القرن الثالث عشر)، في كتابه "مجيء الاخوة الأصاغر إلى إنكلترا"، (الكتاب السادس)، هذه الرسالة لكي يُظْهِر الظروف غير الاعتيادية لكتابتها (كتبها فرنسيس في العراء وتحت المطر لكن من دون أن يتبلّل)، وهي جزء من الأخبار التي سمعها من الأخ مرتينوس الذي قبل ذهابه إلى إنكلترا غالبا ما كان يلتقي القديس فرنسيس. لا نعرف شيئا عن محتوى هذه الرسالة إلاّ أن فرنسيس أراد، من خلال هذه الرسالة أن يدعو الاخوة إلى تسبيح الثالوث الأقدس. يعتبر البعض أن فرنسيس كتب هذه الرسالة خلال مجمع سنة 1221 أو 1222، لكن لا يوجد إثبات مقنع لذلك.

(1) (…) خلال ذلك المجمع نفسه، إذ كان الطوباوي فرنسيس في العراء تحت المطر من دون أن يتبلَّل كتب بيده رسالة إلى الخادم والاخوة في فرنسا،

(2) حتى إذا ما رأوا الرسالة تهلَّلوا بالتسابيح لله الثالوث، قائلين:

(3) "لنبارك الآب والابن والروح القدس".


( إلى قادة الشعوب )






(1220)


تُحدثنا سير حياة فرنسيس عن عادته تشجيع الرؤساء المدنيين على أخذ الحقائق الإنجيلية بعين الاعتبار. فهذه الرسالة إلى قادة الشعوب هي خير مثال لهمه هذا. فقد اكتشفها الأخ لوقا وادينغ في كتابات فرنسيسكو غونزاغا، الخادم العام للرهبنة بين سنة 1579 و1587. يقول الأخ فرنسيسكو إن يوحنا بارنتي، الخادم الإقليمي الأول لإسبانيا، ولاحقا الخادم العام للرهبنة حمل معه إلى إسبانيا نسخة عن هذه الرسالة، وهي النسخة الوحيدة التي وصلت إلينا. ولا شك في نسبتها إلى فرنسيس، إذ أن الأسلوب هو نفسه، ومحتواها شبيه بمحتوى الرسائل التي كتبها في هذه الفترة، والرسالة الثانية إلى الحرّاس تُثبت وجودها. من ناحية أخرى تعكس هذه الرسالة تأثيرات جديدة، سببها مجيئه إلى الشرق واختلاطه بالمسلمين والمسيحيين الشرقيين، لذلك كُتِبَت إثر عودته من الشرق.


(1) إلى جميع الحكام والقناصل والقضاة والقادة على الأرض كلها، وإلى جميع الآخرين الذين ستصل إليهم هذه الرسالة الأخ فرنسيس خادمكم الصغير في الرب الإله والمحتقر يتمنى لكم الصحة والسلام. (2) اعتبروا وتأملوا أن يوم الموت يقترب. (3) أرجوكم، إذا باحترام كما أستطيع ألا تنسوا الرب ألا تحيدوا عن وصاياه بسبب ما تواجهون هموم هذا الدهر ومشاغله، فإن جميع الذين ينسونه ويحيدون عن وصاياه هم ملعونون وسينساهم هو أيضا.

(4) وعندما سيحل يوم الموت، سيسلب منهم ما كانوا يظنون أنه لهم. (5) وبقدر ما كانوا حكماء وأقوياء في هذا الدهر ستكون كبيرة العذابات التي سيقاسونها في جهنم. (6) لذا، أنصحكم بحزم يا أسيادي بأن تضعوا جانبا كل هم وانشغال، وبأن تتناولوا جيدا جسد ربنا يسوع المسيح ودمه الكليي القداسة، لذكره المقدس. (7) ووسط الشعب، الذي أوكل إليكم قَدِّموا إكراما كثيرا للرب بحيث يعلن كل مساء بواسطة مُنادٍ أو بأي إشارة أخرى لكل الشعب، أن عليه أن يقدم للرب الإله، الكلي القدرة التسبيح والشكر. (8) وإن لم تفعلوا ذلك فاعلموا أن عليكم أن تؤدوا حسابا يوم الدينونة للرب إلهكم يسوع المسيح.

(9) وليعلم من يبقون هذه المدونة ويحفظونها أن الرب الإله يباركه.

( إلى سكان مدينة بولونيا )






(قبل ميلاد 1222)

هذه الرسالة هي إحدى الوثائق التي يعتبرها "إسَّار" وبعض الكُتّاب من "الأمالي". لم يصلنا نصُّها وعلى الأرجح لم يصل حتى محتواها الكامل. نجد المعلومات عن هذه الرسالة في "مجيء الاخوة الأصاغر إلى إنكلترا" (الكتاب السادس) للمؤرخ توما من إكلستن (القرن الثالث عشر). وهو ينقلها عن الأخ مرتينوس الذي قبل ذهابه إلى إنكلترا غالبا ما كان يلتقي بالقديس فرنسيس. ينقل إلينا الكثير من المؤرخين خبر وقوع هزة أرضية كبيرة في بولونيا (إيطاليا) يوم الميلاد سنة 1222. ويبدو أن القديس فرنسيس قد تنبأ بهذه الهزّة فكتب رسالة تحتوي أقلّه على هذه النبوءة وطلب من الاخوة قراءتها في مختلف أنحاء بولونيا. ومن المرجح أن السبب الرئيسي لهذه الرسالة ليس الهزة الأرضية بل موضوع آخر إذ أن ذلك لا يندرج ضمن منطق فرنسيس في المراسلة.

قال أيضا (الأخ مرتينوس من بارتونا)، إنَّ ثم أخاً، بينما كان يُصلّي في بريشيا يوم الميلاد وقعت هزة أرضية هدّمت الكنيسة فَوُجِدَ سالِماً تحت ركام الحجارة، تلك كانت الهزة الأرضية التي كان تنبّأ بها القدّيس فرنسيس، في رسالة جعل الاخوة يقرأونها في كل مدارس بولونيا وتلك الرسالة تحوي أخطاءً في اللغة اللاتينية.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...si-granger.jpg

( إلى السيدة جاكلين (جاكومينا) )





(أيلول / تشرين الأول 1226)

كانت السيدة جاكلين إحدى نبيلات روما، وأصبحت إحدى أهم أعضاء الرهبنة الثالثة. وكانت صديقة حميمة للاخوة إلى درجة أنٌ فرنسيس لقٌبها "بالأخ جاكلين". قبل وفاته ببضعة أيام، أراد فرنسيس أن يراها وأن تُحضر له بعض الأغراض مع الحلويات التي كان يحبها، فأملى هذه الرسالة وما إن انتهى من ذلك حتى وصلت مع الأغراض التي طلبها. لا شكٌ في مضمون هذه الرسالة، وفي أصالتها خصوصاً وأنها تصلنا من خلال مصادر عديدة.

ذات يوم، استدعى فرنسيس رفاقه: "تعلمون كيف أنٌ السيدة جاكلين من سيتٌيسولي كانت ولا تزال أمينةً جداً ومخلصةً لي ولجماعتنا الرهبانية.

لهذا السبب، أظنٌ أنكم إذا أطلعتموها على حالتي، فستعتبر ذلك بمثابة معروفٍ كبيرٍ وتعزية. بلٌغوها خصوصا أن تُرْسِل إليكم قماشاً رهبانيا رماديٌ اللون لثوب واحد، وهو قماش شبيه بقماش الرهبان السٌسترشيٌين في بلاد ما وراء البحار. ولْتُرسِل أيضاً من تلك الحلويات التي أعدٌتها لي مرات عديدة عندما كنت في روما". تلك الحلويات المصنوعة من اللوز والسكر أو العسل وغيرها من المكوٌنات، يسمٌيها الرومان "موستاتشولو" (...). فَكُتِبَت الرسالة كما قالَ الأب القديس.

( إلى القديسة كلارا وأخواتها حول الصيام )




نجد ذِكراً لهذه الرسالة، أو بالأحرى لهذه الوثيقة ومضمونها في الرسالة الثالثة للقديسة كلارا إلى أنياس، التي كُتِبَت على الأرجح سنة 1238. في هذه الوثيقة يعطي القديس فرنسيس بعض التعليمات للسيدات الفقيرات حول الصوم. لكن ذلك غير كافٍ لتحديد تاريخ تدوينها مع العلم أن بعضهم اقترح الفترة الممتدة بين بداية الحركة النسائية الفرنسيسية وحوالي سنة 1220/1221.

(1) والآن بالنسبة إلى الأمور التي طَلَبت أن أوضحها لكِ، أي ما هي الأعياد التي كما اعتقد أنك قدَّرت ذلك إلى حدٍّ معين نبَّهنا أبونا القديس فرنسيس الكُلَّي المجد إلى أن نحتفل بها بطريقةٍ مميزةٍ مع تنوعٍ في الأطعمة فكرت في انه عليَّّ الإجابة على محبتك.

(2) إن فطنتك تعلم بالطبع أنه باستثناء الضعيفات والمريضات اللواتي نبَّهنا وأمرنا بأن نستعمل تجاههن كل تمييز ممكن حيال أي نوعٍ من الطعام فيجب ألاَّ تأكل أي منا إن كانت سليمةً وقويةً سوى أطعمةٍ خاصةٍ بالصوم فقط، إن في أيام الأسبوع أو في الأعياد صائمةً كل يومٍ باستثناء الآحاد وميلاد الرب، التي يجب أن نأكل فيها مرتين في النهار.

(3) وأيام الخميس في الزمن العادي بإمكان كل واحدةٍ أن تتصرَّف كما تشاء بحيث أن من لا تشاء أن تصوم ليست مجبرةً على ذلك. (4) على أي حالٍ، علينا نحن السليمات أن نصوم كل يومٍ، باستثناء الآحاد والميلاد.

(5) خلال كل الزمن الفصحي كما تقول رسالةُ الطوباويّ فرنسيس وفي أعياد القديسة مريم والرُسُل القديسين لسنا ملزماتٍ بالوصم، إلاّ إذا صادفت هذه الأعياد يوم الجمعة.

(6) وكما قلتُ أعلاهُ نحن السليمات والقويات نأكلُ طعاماً خاصاً بالصوم.



Mary Naeem 27 - 09 - 2014 04:49 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
ظلّ و ضوء ( 10 )
ايلوا لوكلير
لا يجوز الاعتقاد بأنّ حياة فرنسيس كانت كلّها غناء وانخطاف بالروح.
فالآلام الجسدية والمعنوية لم توفّر عليه.

فقر السماء
أصيب فرنسيس أثناء سفره إلى الشرق الأوسط، برمد في عينيه تركه شبه أعمى. وألمّت به أمراض أخرى لحقت بالداء الأول. كما حدث انشقاق داخل الرهبانية لأسباب تتعلّق بإدارتها العامّة... انّه مريض وفريسة لاضطراب روحي... انسحب مع بعض الإخوة الأوفياء إلى مكان قفر اختلى فيه.
انّه يعاني من شقاء داخلي عميق، شقاء لم يميّز من خلاله ما ينتظره الله منه. لقد أصبحت صلاته صراخ فقير في الظلام.
كم من مرّة رفع إلى الله نداء المزمور 142:
بصوتي إلى الربّ أصرخ،
بصوتي إلى الربّ أتضرّع،
أسكب أمامه تضرّعي
وأكشف أمامه عن ضيقي،
أصبحت غريبا بين إخوتي...
الآلام مع المسيح
أنشأ فرنسيس لنفسه صلاة فرض مؤلفة من مزامير مختلفة، يقرؤها كلّ يوم إضافة إلى الفرض القانوني الكبير وأطلق عليه اسم فرض الآلام. ومع أنّ هذا النص مؤلف بكامله من آيات مقتبسة من مزامير المراثي، فانه يعتبر نصا حقيقيا وأصيلا، به نلج إلى نفس فرنسيس.
انه إذ غرق في الشدّة والضيق، تبنّى صلاة " الفقراء إلى الله". لقد رأى بأن الفقير الحقيقي هو السيّد المسيح في آلامه.
ها هو يتّحد بالربّ يسوع مع الابن المضطهد والمهان:
ارحمني يا الله، ارحمني.
إليك تركن نفسي.
ألتجئ إلى ظلّ جناحيك مهما طالت البلية.
إني اصرخ إلى الله، الهي القدّوس والعلي،
إلى الله الذي صنع لي أمورا كثيرة.

يكشف هذا الفرض رؤية فرنسيس لآلام السيد المسيح وكيف عاش آلامه متّحدا بآلام الربّ. إنّ المزامير إذ تعبّر عن ألم نفسي شديد، فهي شهادة لعتمته الروحية، شهادة لعلاقته بالربّ يسوع.
يبدو فرنسيس في هذا النص أكثر من أي نص آخر من كتاباته، متّجها مباشرة إلى السيد المسيح، متّحدا به، ومعه متّحدا بالآب.
أول ما يلفت الانتباه هو تأكيد فرنسيس على إهمال الأصدقاء وخيانتهم. انه يتوقف عند هذه الظاهرة من الآلام، أكثر من توقفه عند الاهانات والتعذيب الجسدي. لقد مرّ بالخذلان وعاش هذه الخبرة المريرة:
أصدقائي والمقرّبين مني ابتعدوا،
سمحت لهم بالبقاء بعيدا عنّي
وأن يهزؤوا بي.
فتّشت حولي عن انسان قريب مني
في ساعة الهول هذه لم أجد أحدا
فتّشت عمّن يقوّيني. لم أجد أحدا.
سمة أخرى خاصة بفرض الآلام : لم تستخلص منه أية لعنة بل ويقرأ فيه:
" لقد استبدلوا محبّتي وقالوا فيّ سوءا. أما أنا فكنت أصلّي".
أخيرا نتوقف عند نقطة مميزة فيه وهو الدعاء إلى الآب. دعاء يتكرّر وينضح حنانا وثقة:
أيها الآب القدّوس، ملك السماء والأرض
لا تبتعد عنّي... إني أصرخ إليك
أيها الآب العليّ القدّوس
إليك يا من انعم وأجزل...
وذات يوم هدأت العاصفة في قلب فرنسيس. لقد فهم أنّ الربّ ينتظر منه أن يسلمه الرهبانية تسليما كاملا. أن يضعها بين يديه بمنتهى الفقر. قبل فرنسيس أن يتخلّى كلّيا عن عمله وألقى همّه في الربّ. مستقبل الرهبنة لم يعد بيده بل بيد الربّ. عند هذا العمق النهائي أدرك فرنسيس مفهوم عدم التملك حتى في المحبة. وفي فقر المساء، سطع نجم كبير في قلبه. لقد حلّ فيه السلام ومع السلام استعاد فرنسيس غناءه:
لقد أناموني في غبار الموت...
نمت ولكنّي قمت من الموت...
أيها الآب القدّوس، أنت أمسكتني باليد اليمنى، واستقبلتني في مجدك. ما مكافأتي في السماء الاك؟
ومن بغيتي على الأرض سواك؟

Mary Naeem 27 - 09 - 2014 05:00 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
القديس فرنسيس الاسيزي



http://www.terezia.org/thumb.php?s=2...4af900c364.jpg

تعتمد هذه السيرة على مخطوطة منسوبة إلى إخوة مقربين من القديس فرنسيس وهم حسب بعض الرواة الأخ ليون معرّف القديس والأخ روفينو والأخ انجلو وثلاثتهم من رفاق فرنسيس الأوّلين. إنّها مخطوطة قيّمة ذات أهمية تاريخية، تروي بأمانة ما جرى لفرنسيس من أحداث متفرقة وتعكس بصدق روحانيته الإنجيلية

حياته

وُلِدَ فرنسيس عام 1179، في مدينة أسيزي بإيطاليا. ولما شبَّ انقاد لأميال الجسد وشهواته، إلا انّه كان شفوقاً على الفقراء، فنظر الله إليه بعين الشفقة، وأنار عقله وأولاه نعمة التوبة الصادقة. سمع ذات يوم صوتاً يقول له: "يا فرنسيس أُسنُد بيعتي". فلم يفهم معنى هذا الصوت. وأخذ يزيد ويُفرط في الإحسان إلى المساكين، حتى ضجّ أبوه فحرمه الميراث وسرّحه. فاتشح ثياباً رثّة، ومشى حافي القدمين، ممارساً أعمال التوبة الشاقة والرسالة، يعظ الناس بالمثل اكثر منه بالكلام، فتبعه كثيرون. فبنى لهم الديورة ووضع لهم القوانين، متسامياً بالفضائل ولا سيما بفضيلة التواضع العميق. فمنحه الله صنع العجائب. اثبت لهُ البابا انوريوس القانون ببراءة رسميّة. فتعزّى القديس بأن رهبنته قد تعززت ونمت وانتشرت. وكان على صداقة متينة مع القديس عبد الأحد، يتعاونان على خلاص النفوس وخير الكنيسة. وبعد أن أتمّ هذا القديس جهاده، رقد بالربّ سنة 1224، وله من العمر 45 سنة. وقال فيه البابا غريغوريوس العاشر ان جراحات المسيح انطبعت في يديه ورجليه وجنبه.

الرهبنة

1- في بداية الرهبانية، لما بدأ توافد الإخوة إلى فرنسيس، كان يعيش معهم بالقرب من قرية اسمها ريفو تورتو Rivotorto. وحدث مرة، عند منتصف الليل، بينما الإخوة نائمون على أسرّتهم الخشبية، أن أحدهم أخذ يصيح فجأة: إني أموت! إني أموت. استفاقوا جميعاً مذهولين مرتعبين. نهض فرنسيس وقال: ?قوموا أيها الإخوة وأشعلوا النور. وبعد أن أُشعِل القنديل سأل: ?من الذي صرخ: إني أموت؟.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...ancisco-1r.jpg

أجاب الأخ: أنا هو.

قال له فرنسيس:وما بك، يا أخي؟ لماذا أنت تموت؟.

أجاب:?إني أموت جوعاً.

ولما كان فرنسيس إنساناً مملوءاً لطفاً ورقّة، أمر للحال باعداد المائدة، ولئلا يخجل ذلك الأخ من أن يأكل وحده، جلسوا جميعهم يأكلون معه. ولكونهم ارتدوا إلى الرب من مدة قصيرة فقد كانوا هم أيضاً مثل ذلك الأخ يخضعون جسدهم لإماتات تجاوزت الحدود. بعد أن تناولوا الطعام، كلّمهم فرنسيس، قال: ?إخوتي الأحباء، أوصيكم بأن يراعي كلّ منكم ظروفه الجسدية. إذا تمكن أحدكم من الامتناع عن الأكل أكثر من غيره، فإنّي لا أريد من الذي يحتاج إلى طعام أوفر أن يحاول الاقتداء بغيره في هذا الشأن. بل فليأخذ بعين الاعتبار حالته الصحية وليعطِ جسده ما هو بحاجة إليه؛ فكما أنه علينا الامتناع عن أي إفراط في المأكل مما يضرّ بالجسد والنفس، كذلك وبنوع أخصّ علينا تجنب الإفراط في الصوم والإماتات لأنّ الرب يفضّل الرحمة على الذبيحة. وأضاف: إخوتي الأعزاء، إنّي، بإلهام من المحبة، قمت بهذه المبادرة وهي أن نأكل سويّة مع الأخ لئلا يخجل من أن يقتات وحده. تأكدوا أني ما فعلت ذلك إلاّ بدافع المحبة ونظراً لضيقة ذلك الأخ. رغم هذا، اعلموا أني لن أكرر بعد اليوم مثل تلك المبادرة، فإنّها لا تنسجم مع الحياة الرهبانية وكرامتها. إنّما أريد وآمر كل واحد منكم وضمن حدود فقرنا أن يعطي جسده ما هو ضروري له.

قساوة فرنسيس مع نفسه ورقّته مع الإخوة

2- دأب الإخوة الأوائل وكذلك الذين أتوا بعدهم ولفترة طويلة على قهر جسدهم ليس فقط بحرمانه من الأكل والشرب أكثر من اللزوم، بل حرموا أنفسهم من النوم، ولم يتّقوا قساوة البرد والأشغال اليدوية الشاقة. لبسوا تحت ثيابهم مباشرة ما تيسّر لهم من الجلود وأطواق الحديد وأقسى ما وصل إلى أيديهم من مسوح. لكن الأب القديس، إذ اعتبر أنّه في مثل تلك الأوضاع القاسية ستلحق بالإخوة الأمراض لا محالة - وبالفعل فإنّ بعضهم مرضَ بعد فترة وجيزة - فإنّه خلال انعقاد أحد المجامع منعهم بألاّ يلبسوا على أجسادهم إلا الثوب الرهباني وحده. ونحن الذين عشنا معه، يمكننا أن نقدّم عنه هذه الشهادة وهي أنّه من يوم بدء الإخوة يأتون إليه وطيلة حياته كلها، تصرف معهم بفطنة مبيناً لهم أن عليهم فيما يختص بالمأكل وبغيره من الحاجيات، أن يلتزموا حدود الفقر والاتّزان وهما الطابع التقليدي بين الإخوة منذ الأيام الأولى. بعكس ذلك، كلّما كان الأمر متعلقاً بشخصه، فإنّه منذ بداية ارتداده وقبل أن يأتي الإخوة إليه، ومدى حياته كلها دون انقطاع، عامل جسده بقساوة زائدة، رغم أنه كان منذ صباه نحيلاً وضعيف البنية. ولما كان لا يزال في العالم، لم يكن بإمكانه العيش إلا محاطاً بشتّى أنواع الرفاهية. لاحظ مرة كيف أنّ الإخوة بدأوا يتخطَّون حدود الفقر والاتّزان في المأكل وفي غيره من الحاجيات، فقال لبعضهم وهو يقصد من وراء ذلك مخاطبة جميع الإخوة: ألا يعتقد الإخوة بأنّ جسدي بحاجة إلى طعام مميّز؟ رغم ذلك، بما أنّه عليّ أن أكون قدوة ومثالاً للإخوة جميعاً، فإني أريد الاكتفاء بطعام فقير وبثياب خشنة. وأنا فرِحٌ بذلك.

في مدحه للتسوّل

3- لما بدأ الإخوة يأتون إلى فرنسيس، كان مغتبطاً جداً من ارتدادهم ومن مرافقة أولئك الذين أهداهم إليه الرب. كان يحيطهم بمحبة فائقة وبتقدير رفيع حتى إنّه لم يكن يقترح عليهم أن يذهبوا ويستعطوا خشية أن يخجلوا من ذلك، حسب ظنّه، تجنباً لإحراجهم، كان يذهب وحده كل يوم لطلب الصدقة، مما سبَّب له إرهاقاً جسيماً كونه من أساسه نحيل البنية وقد تعوّد وهو في بيته أن يعامل جسده بنعومة، ومن جهة ثانية فإنّه بعد تركه العالم قد زاد على جسده ضعفاً لكثرة ما فرض عليه من تقشّفات وإماتات صارمة. وبما أنّه اعتبر أنّه لم يعد قادراً على حمل مثل تلك المشقة، وأنّ التسوّل هو من أساسات دعوة الإخوة، حتى ولو شعروا بالنفور من الاستعطاء ولم يعتادوا عليه مطلقاً، بل انّه لن يخطر ببالهم أن يبادروه بالقول: نريد نحن الذهاب لطلب الصدقة?، قال لهم فرنسيس:إخوتي الأعزاء وأبنائي، لا تخجلوا من الذهاب لطلب الصدقة، فإنّ الرب صار فقيراً لأجلنا في هذا العالم. ونحن اقتداءً به وبأمه القدّيسة قد اخترنا طريق الفقر الحقيقي. إنّه ميراثنا الذي اكتسبه الرب يسوع المسيح تركه لنا ولكلّ الذين يريدون أن يعيشوا مثله في الفقر المقدس. وأضاف: الحق أقول لكم، إنّ عدداً كبيراً من النبلاء العلماء في هذا العالم سيأتون إلى جماعتنا الأخويّة ويعتبرون شرفاً كبيراً بأن يذهبوا لطلب الصدقة مع بركة الرب. عليكم إذن أن تذهبوا دون حياء بشري وأن يملأ قلبكم فرح يفوق فرح من يستبدل قرشاً واحداً بمائة دينار. فمن يتصدق عليكم، تهدونه حب الله بدل صدقته لمّا تقولون: "حباً بالرب الإله، أعطونا حسنة"، فإنّ السماء والأرض دون قيمة مقابل حب الله. وبما أن عددهم آنذاك كان قليلاً، فلم يكن بإمكانه أن يرسلهم اثنين اثنين، لذلك أرسلهم إلى القرى والمزارع كلاً بمفرده. عند عودتهم، كان كل واحد منهم يعرض على فرنسيس ما جمعه من حسنات وكانوا يقولون لبعضهم: أنا جلبت أكثر منك ففرح فرنسيس عند رؤيتهم بمثل ذلك السرور وتلك الروح الطيبة. ومنذ ذلك الحين، صار كلّ منهم يطلب بطيبة خاطر الإذن للذهاب لطلب الصدقة.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...st_francis.jpg

لا تقلقوا بشأن الغد

4- في تلك الفقرة، لمّا كان فرنسيس يعيش مع الفوج الأوّل من الإخوة كانت روحه صافية بشكل يثير الاعجاب. فإنّه من يوم أوحى إليه الرب أن يعيش هو وإخوته حسب الإنجيل المقدس، قرر واجتهد أن يطبقه حرفياً طيلة أيام حياته. مثالاً على ذلك، لمّا كان الأخ المكلّف بالمطبخ يريد أن يسكب البقول للإخوة، كان يمنعه من نقعها في الماء الساخنة من العشية حتى الغد، كما هو مألوف وذلك امتثالاً لوصية الإنجيل: لا تهتموا بشأن الغد، وهكذا كان ذلك الأخ ينتظر نهاية تلاوة صلاة الليل لينقع خضاره في الطشط. وظلّ إخوة كثيرون يتقيّدون بتلك النفسيّة لمدة طويلة في أماكن تواجدهم وخاصة في المدن. ولم يكونوا يطلبون أو يقبلون من الحسنات إلاّ الكمية اللازمة ليومهم.

رقّة معاملته لأخ مريض

5- أثناء إقامة فرنسيس بالقرب من كنيسة سيدة الملائكة، حدث مرة أن مرضَ أحد الإخوة وهو من ذوي الروحانية العميقة وقد مضت عدة سنوات على دخوله الرهبانية. ولما رآه فرنسيس وقد ثقل عليه المرض، أخذته الشفقة عليه وكان الإخوة في تلك الأيام فرحين دائماً ومحتملين كل شيء يصير سواء كانوا مرضى أو أصحاء، وكان الفقر غناهم. لا يلجأون إلى الأدوية أثناء المرض، بل بالعكس يختارون ما يعاكس جسدهم. فقال فرنسيس في نفسه: لو أنّ هذا الأخ أكل في الصباح الباكر عنقود عنب ناضج، أظن أنّه سيعافى. وفي ذات يوم نهض عند الفجر ودعا ذلك الأخ سيراً واقتداه إلى أحد الكروم المجاورة لتلك الكنيسة واختار كرمة غنيّة بالعناقيد الشهيّة، وجلس مع الأخ تحت الكرمة وأخذ يأكل من عنبها كيلا يخجل المريض من قطفها وحده. وكان الأخ وهو يتذوقها يمجد الرب الإله. وظل طيلة حياته يخبر الإخوة، متأثراً باكياً عن تلك البادرة الرقيقة من أبينا القديس نحوه.

صيانة صلاته الفردية

6- أثناء إقامة فرنسيس في ذلك المكان، كان ينفرد للصلاة في غرفة صغيرة قائمة وراء البيت. وفيما هو هناك ذات يوم، إذ قدم أسقف مدينة أسيزي لزيارته. دخل البيت وقرع الباب ليدخل حيث كان القديس. فُتِحَ له باب الغرفة الصغيرة فدخل للحال وكان فرنسيس يصلّي في زاوية صغيرة ببعض الحصر. ولما كان الأسقف يعرف أنّ الأب القديس يكنّ له الثقة والمودة، فإنّه اتجه إلى هناك دون مراعاة وأزاح زاوية الحصيرة ليراه لكنه ما كاد يطلّ برأسه إلى الداخل، حتى دفع بعنف إلى الخارج بإرادة من الرب لأنّه لم يكن يستحقّ أن يشاهد فرنسيس. تراجع إلى الوراء وخرج بسرعة من الغرفة مرتجفاً مذهولاً. واعترف بخطيئته أمام الإخوة نادماً على ما بدا منه في ذلك اليوم من جسارة.

في تجربة أحد الإخوة

7- كان أحد الإخوة من أعزّ أصدقاء فرنسيس وهو رجل قديم في الرهبانية وصاحب روحانية حيّة. وحدث له، في فترة من حياته، أن عذّبته أياماً طويلة تخيّلات من الشيطان أثقلته وضايقته. حتى إنّه غرق في حالة يأس عميق. كانت تلك التخيلات تلاحقه وزادت وطأتها عليه لأنّه كان يخجل من الاعتراف بها كل مرة فانكبّ يقاصص نفسه بالأصوام والسهر والدموع والجلد.طال عذابه ذاك أياماً عديدة إلى أن وصل فرنسيس بتدبير من الله إلى ذلك المكان. وبينما كان القديس يتمشى في جوار الدير برفقة أحد الإخوة وذلك المسكين المعذّب، ابتعد قليلاً عن الأخ الأوّل واقترب من الأخ المجرب وقال له: يا أخي العزيز، أريد منك وآمرك ألاّ تقلق وتجهد نفسك للاعتراف بتلك التخيلات والتصورات الشيطانية. كن مطمئناً. إنّها لن تلحق بنفسك بأيّ أذى. وكلّما راودتك، أقترح عليك تلاوة الأبانا سبع مرات?.امتلأ الأخ فرحاً عند سماعه مثل تلك الكلمات، أي أنّه غير ملزم بالاعتراف بتلك التجارب، لا سيما أنّه كان يخجل من الالتزام بالاقرار بها يومياً مما كان يزيد عذابه. وقد ذهل من قداسة فرنسيس، إذ انّه بواسطة الروح القدس، علم بتجاربه مع أنّه لم يسلّم سره لأحد ما عدا للكهنة وكثيراً ما غيّر معرّفيه، لأنّه يخجل أن يسرد دائماً للمعرف ذاته ما كان يخالجه من مرض داخلي. وما كاد فرنسيس يوجه إليه تلك الكلمات حتى شعر بأنّه تحرّر باطنياً وخارجياً من تلك المحنة المروعة التي لازمته مدة طويلة. وبعون الله، وبفضل استحقاقات القديس، استعاد الطمأنينة والسلام في النفس والجسد.


في حصوله على كنيسة البورسيونكولا

8- رأى فرنسيس أنّ الله يريد أن يتكاثر عدد تلاميذه، فقال لهم: يا إخوتي وأبنائي الأعزاء، إنّي أرى أنّ الله يريد أن نتكاثر. لذلك أظن أنّه مناسب وحسن لنا كرهبان أن نحصل من الأسقف أو من رهبان دير القديس روفينو أو من رئيس دير القديس مبارك على كنيسة صغيرة فقيرة نتمكن من تلاوة ساعات الفرض الطقسية فيها وأن يكون بالقرب منها مسكن صغير وفقير أيضاً مبني من الطين والخشب يستريح فيه الإخوة ويقومون فيه بأعمالهم الضرورية وبالفعل، فإنّ مكان إقامتنا اليوم لا يناسب لأنه يضيق بالإخوة المقيمين فيه ولأنّ الله ارتضى بأن يتكاثر عددنا. الأهمّ من ذلك أنّه لا توجد بتصرفنا كنيسة نصلّي فيها ساعات الفرض الإلهي كما أنّه إذا حدث أن توفّيَ أحد فلا يليق أن ندفنه هنا أو في إحدى كنائس الإكليرس العلماني.حسن ذلك الاقتراح لباقي الإخوة. عندئذ نهض فرنسيس وذهب لعند أسقف أسيزي وكرّر لديه الكلمات ذاتها التي سبق وكلّم بها الإخوة. أجابه الأسقف: أيها الأخ، ليس عندي أية كنيسة أقدر أن أعطيك إيّاها. فذهب القديس إلى رهبان القديس روفينو وعرض عليهم طلبه وهم أجابوه كما فعل الأسقف.عند ذاك، اتّجه هذه المرة إلى دير القديس مبارك المبني على جبل سوبازيو Subasioوكرّر للأب الرئيس ما سبق وعرضه على الأسقف وعلى الرهبان مضيفاً ما تلقّاه منه ومنهم من جواب. أشفق الرئيس عليه وعقد مع رهبانه مجمعاً للتداول بالموضوع، وبإرادة من الله، تخلى لفرنسيس وإخوته عن كنيسة القديسة مريم المدعوة البورسيونكولا، وهي أفقر كنيسة عندهم وكانت كذلك أتعس كنيسة يمكن وجودها في تخوم أسيزي، لكنها متناسبة مع تمينيات فرنسيس. وقال له الرئيس: ?أيها الأخ، لقد استجبنا طلبك. لكننا نريد، إذا أنمى الرب جمهوركم، أن يكون هذا المكان رأساً لكلّ الأديرة التي تؤسسونها?. فحسن ذلك الشرط لفرنسيس ولباقي إخوته.وكم كانت سعادة فرنسيس ان يوهب للإخوة ذلك المكان خاصة لأنّ الكنيسة تحمل اسم والدة الله ولأنّها فقيرة جداً وسميت البورسيونكولا(أي الحصة الصغرى) وكأنّ ذلك تكهن بأنها ستكون المركز الأم والرئيسي للإخوة الأصاغر الفقراء. كان ذلك الاسم قد أعطي في الماضي للمنطقة التي قامت فيها تلك الكنيسة الصغيرة وعرفت باسم البورسيونكولا. وقد اعتاد فرنسيس أن يقول: لهذا السبب دبّر الرب ألاّ تعطى للإخوة غير هذه الكنيسة وإلا يبني الإخوة الأوّلون آنذاك أية كنيسة جديدة وألاّ يكون لهم غير تلك. لأنّها كانت بمثابة نبوءة تحققت عند تأسيس الإخوة الأصاغر فيها?. ومع كونها فقيرة جداً وشبه مهدومة فإنّ سكان مدينة أسيزي وأهل الجوار أحاطوا دائماً ومن زمن بعيد تلك الكنيسة بإكرام فائق ما زال يتزايد حتى يومنا.ما كاد الإخوة يتمركزون هناك حتى كثّر الله عددهم كل يوم تقريباً. فإنّ خبرهم وصيتهم انتشرا في كل وادي اسبوليتو Spoleto. في الماضي كان اسم الكنيسة القديسة مريم سيدة الملائكة لكن الشعب اعتاد تسميتها القديسة مريم البورسيونكولا. إنّما بعد أن رممها الإخوة أخذ الرجال والنساء في تلك المنطقة يقولون: لنذهب إلى القديسة مريم سيدة الملائكة. صحيح أن الأب الرئيس ورهبانه قدموا الكنيسة لفرنسيس ولإخوته بشكل هبة دون أي مقابل أو بدل سنوي، مع ذلك فإنّ القديس كونه الرجل الحاذق والبنّاء الواعي الذي ينوي بناء بيته على الصخرة الصلبة أي أن يؤسس رهبانيته على الفقر الحقيقي فقد اعتاد أن يرسل كل سنة إلى ذلك الدير قفّة مملوؤة من السمك الصغير المسمى سلطان ابراهيم. وهو يعتبر ذلك علامة تواضع صادق وفقر لئلا يكون الإخوة متملّكين لأي مكان حتى ذلك الذي يسكنونه ما لم يكن ملكاً لغيرهم وهكذا لن يكون لهم أي حق ببيعه أو بتحويله إلى غيرهم البتة. كان الإخوة يحملون كل سنة قفة السمك إلى ذلك الدير، والرهبان يقدمون له ولإخوته جرة مملوؤة زيناً تقديراً لتواضعه.

البورسيونكولا مثال الرهبانية

9- نحن الذين عشنا مع القديس فرنسيس نشهد لما كان يقول عن تلك الكنيسة مشدّداً على كلامه، بسبب النعمة الكبرى التي حصل عليها هناك وحسبما أوحي إليه: إنّ العذراء الطوباوية تفضّل هذه الكنيسة على سائر كنائس العالم المحبوبة لديها. لهذه الأسباب أحاط البورسيونكولا طيلة أيام حياته بالاحترام الفائق والتقوى السامية.ولكي يبقى حبها محفوراً دائماً في قلب الإخوة كتب، عند اقتراب موته، يوصيهم بأن يحيطوها بالعواطف المماثلة. وقبل موته وبحضور الرئيس العام وباقي الإخوة، صرح قائلاً: أريد أخذ التدابير بشأن مقر القديسة مريم البورسيونكولا، تاركاً لإخوتي هذه الوصية وهي أن يحيطوا دائماً هذا المكان بأسمى الاحترام والتقوى. هذا ما فعله إخوتنا في الأيام الأولى. إنّ هذا المكان مقدس، وهم حافظوا على قدسيته بصلاة لا تنقطع ليلاً نهاراً وبصمت متواصل. وإن صدف أن تكلّم الإخوة بعد الفترة المحددة للصمت، فإنّ حديثهم كان يدور بتقوى وسمو حول ما يؤول إلى مجد الله وخلاص النفوس. وإن صدف - وقلما جرى مثل ذلك - أن بدأ أحدهم بالتلفظ بكلام بطّال أو غير مناسب فإنّ الآخرين كانوا يسارعون إلى تنبيهه. كانوا يقمعون أجسادهم ليس فقط بالصوم بل بالسهر الطويل، محتملين البرد والعري وعاملين بأيديهم. وكم من مرة، لئلا يبقوا بطّالين، ذهبوا لمساعدة الناس الفقراء في الحقول، والناس أحياناً يعطونهم خبزاً محبة بالله. بمثل تلك الفضائل كانوا يتقدسون ويقدسون مقر البورسيونكولا. والإخوة الآخرون الذين أتوا فيما بعد تصرفوا مثلهم مدة طويلة وإن لم يبلغوا إلى تقشف مماثل.لكنه فيما بعد، ارتفع أكثر من اللازم عدد الإخوة والأشخاص الذين كانوا يقصدون ذلك المكان خاصة لأنّ كل إخوة الرهبانية كانوا ملتزمين بأن يجتمعوا هناك وكذلك اؤلئك العازمون على دخول الرهبانية.من جهة ثانية، فإنّ الإخوة اليوم صاروا أقل حرارة في الصلاة وفي سائر الأعمال الصالحة وأكثر ميلاً إلى الأحاديث الباطلة والتافهة وأشدّ اغرافاً نحو الثرثرة حول الشوؤن العالمية. لهذه الاسباب لم يعد ذلك المكان يعامل من قبل الإخوة المقيمين فيه ومن قبل باقي الرهبان بالكرامة والتقوى المناسبة والعزيزة على قلبي.

10- لذلك إني أريد أن تكون القديسة مريم البورسيونكولا دائماً تحت إدارة الرئيس العام مباشرة، ليتدبر الأمر بعناية أكبر وبسهر خاصة بأن يعين هناك جمهوراً ديرياً من الرهبان الصالحين القديسين. عليه أن يختار الإكليريكين من بين من هم أكثر فضيلة ومثالاً صالحاً ومن أفضل الذين يتقنون تلاوة الفرض، بشكل يجعل الناس بل الإخوة أيضاً يصغون إلى الفرض بفرح وبتقوى حارة. ليكن معهم معاونون من الإخوة غير الاكليريكين مختارين من بين من هم أكثر قداسة واتزاناً وفضيلة.كذلك أريد ألاّ يدخل أحد من الإخوة أياً كان، إلى ذلك المكان ما عدا الرئيس العام والإخوة الذين بخدمتهم. لا يتكلمنّ الإخوة المقيمون هناك مع أحد إلاّ مع الإخوة المكلفين بمساعدتهم ومع الرئيس العام لمّا يأتي لزيارتهم.وأريد أيضاً من الإخوة غير الاكليريكين ألاّ ينقلو إليهم الأحاديث والأخبار العالمية التي لا يُجنى منها أي خير للنفس. لهذا السبب أيضاً أريد أن لا يدخل أحد ذلك المكان كي يحافظ الإخوة بسهولة أكبر على نقاوتهم وقداستهم وألاّ تلفظ في ذلك المكان كلمات بطّالة ومضرّة بالنفس بل أن يحفظ ذلك المكان كله بالنقاوة والقداسة وتنتشر منه فرحة الأناشيد وتسابيح الرب. وعندما ينتقل أحد الإخوة من هذه الحياة، فليستقدم الرئيس العام أخاً آخر قديساً لينوب عن الأخ المتوفي، وليأخذه أينما وجده. سبب ذلك هو أنه إن انحرف الإخوة والأديار الذين يقيمون فيها عن النقاوة الضرورية والحياة المثالية، فأنا أريد أن تبقى القديسة مريم البورسيونكولا مرآة وخير الرهبنة بكاملها ومثل بشمعدان قدام عرش الله والعذراء الطوباوية. بفضل ذلك، سيرأف الرب بنقائص وخطايا الإخوة ويحفظ دائماً ويحمي رهبانيتنا فهي غرسته الصغيرة.

بلدية أسيزي تبني للإخوة بيتاً

11- الحادث التالي جرى زمن انعقاد أحد المجامع الرهبانية وقد تقرر عقده تلك السنة قرب القديسة مريم البورسيونكولا. لاحظ شعب أسيزي أنّ الإخوة بنعمة الله ازدادوا عدداً وأخذوا يتكاثرون يوماً بعد يوم وهم يعرفون أنّ الإخوة إذا ما اجتمعوا كلهم خاصة بمناسبة المجمع العام لن يجدوا هناك إلاّ بيتاً صغيراً حقيراً ضيقاً، سطحه مغطى بالقش وجدرانه من خشب وطين، وهو تلك الصومعة التي أعدها الإخوة لهم لما أتوا واستقروا في ذلك المكان.في تلك المناسبة، عقد أهل أسيزي جلسة للتشاور بينهم وبنوا هناك بعد أيام قليلة، بسرعة كبرى وبتقوى حماسية، بيتاً كبيراً من حجر وكلس إنّما دون موافقة فرنسيس الغائب آنذاك. وعند عودته من أحد الاقاليم ليشارك في المجمع، وقف مصعوقاً عند رؤيته ذلك البيت، وفكر أنه بحجة مثل ذلك البناء، سيبني الإخوة بيوتاً مشابهة في أماكن تواجدهم الحالية أو في الأمكنة حيث سيقيمون في المستقبل.ولما كانت إرادته أن تظل البورسيونكولا دائماً نموذجاً ومثالاً للرهبانية كلها فإنّه في أحد الأيام وقبل انتهاء المجمع، صعد إلى سطح ذلك البيت وأمر الإخوة بأن يلحقوا به، ثم بدأ معهم بنزع ألواح القرميد وفي نيته هدم ذلك البيت.وكان هناك بعض الفرسان وغيرهم من سكان أسيزي وقد أوفدتهم سلطات المدينة للقيام بحفظ الأمن وحماية ذلك المكان من العلمانيين والغرباء الذين توافدوا من كل صوب ووقفوا خارجاً ليتفرجوا على اجتماع الإخوة ولما علموا أنّ فرنسيس والإخوة الآخرين عازمون على هدم ذلك البناء، تقدموا للحال وقالوا لفرنسيس: أيها الأخ، إنّ هذا البيت ملك لبلدية أسيزي ونحن هنا نمثل سلطات المدينة. لذلك نأمرك بألاّ تهدم بيتنا.أجابهم فرنسيس: حسناً، إذا كان البيت ملككم، فلا أريد هدمه. ونزل للحال عن السطح وتبعه الإخوة الذين صعدوا معه.لهذا السبب، قرر شعب أسيزي وظلوا متمسكين مدة طويلة بقرارهم وهو أن يلزم حاكمها كل سنة بأعمال صيانة ذلك البيت وبالاصلاحات الطارئة.


الرئيس العام يبني بيتاً للإخوة

12- في مناسبة أخرى، أراد الرئيس العام أن يبني في البورسيونكولا بيتاً صغيراً لإخوة ذلك المكان ليتمكنوا من الاستراحة فيه وتلاوة ساعات الفرض. فإنّه في تلك الآونة كان الإخوة كلهم وكل الجدد الراغبين الالتحاق بالرهبانية يتوجهون إلى هناك مما جعل الإخوة المقيمين في ذلك الدير يعانون من انزعاج كبير شبه يومي.وبسبب الأعداد المتوافدة إلى هناك، لم يكن لهم مكان يستريحون فيه ويتلون ساعات الفرض إذ كان عليهم ترك المكان للضيوف. نتج عن ذلك الكثير من الازعاج المتواصل حيث أنّهم بعد يوم عمل مُضنٍ، كان من ضروب المستحيل أن يؤمِّن لهم ما هو ضروري للجسد وللحياة الروحية.كان بناء البيت يقارب الانتهاء لما رجع فرنسيس إلى البورسيونكولا. سمع عند الصباح من غرفته حيث أمضى ليلته ضجة الإخوة المكبين على العمل فأخذه العجب وسأل رفيقه: ما هذه الضجة؟ ماذا يعمل أولئك الإخوة؟? أطلعه رفيقه على تفاصيل الموضوع كله.للحال، استدعى فرنسيس الرئيس العام وقال له: يا أخي، هذا المكان نموذج ومثال الرهبانية كلها. لهذا السبب، أريد من إخوة البورسيونكولا أن يتحملوا حباً بالرب الإله الازعاج والحرمان ولا ينعموا بالطمأنينة والتعزيات كي يحمل الإخوة الذين يأتون إلى هنا من كل صوب المثل الصالح بخصوص الفقر عند عودتهم إلى أماكنهم. وإلاّ، فإنّ الآخرين سيندفعون للبناء في أماكنهم متذرعين بأنّه ?في القديسة مريم البورسيونكولا التي هي ديرنا الأوّل شيدت مثل تلك المساكن. فيمكننا نحن أيضاً أن نبني مثلها إذ أنه ليس لدينا نحن أيضاً المسكن المناسب.

لا وجود لصومعة باسمي

13- كان يقيم في إحدى المحابس أخ صاحب روحانية عميقة ربطته بفرنسيس صداقة حميمة. فكّر ذلك الأخ أنه إذا قدم القديس إلى محبسته لن يجد المكان المناسب للاختلاء للصلاة، فأعدّ في زاوية منعزلة لا تبعد كثيراً عن مكان إقامة الإخوة غرفة صغيرة يقدر القديس أن يصلي فيها على ذوقه إذا ما قدم إلى هناك.وحدث أنه بعد أيام قليلة وصل فرنسيس فاقتاده الأخ ليريه الغرفة فقال له القديس: في نظري، إنها جميلة جداً. فإذا أردت أن أمكث فيها بضعة أيام، غطِّها من الداخل والخارج بحجارة غليظة وبأغصان الشجر. بالواقع، فإنّ الغرفة لم تكن مبنية بالحجارة المنحوتة بل بالخشب. لكن الألواح كانت صقلت بالمنشار والقدوم لذلك بدت لفرنسيس جميلة رائعة.فبادر ذلك الأخ إلى إعدادها حسب رغبة القديس. فبقدر ما كانت غرف الإخوة ومساكنهم حقيرة ومطابقة للتقشف الرهباني، بقدر ذلك كان فرنسيس يتلذذ برؤيتها ويقبل بطيبة خاطر الاستضافة فيها.أقام في تلك الغرفة بضعة أيام يصلي. وحدث أنه خرج منها مرة ووقف بالقرب من مسكن الإخوة. فأقبل أحد إخوة ذلك الدير نحو فرنسيس، فسأله القديس: من أين أتيت أيها الأخ؟ أجاب: أتيت من غرفتك. انتفض فرنسيس: بما أنّك قلت أنّها غرفتي، فمن الآن وصاعداً سيسكنها غيري، لا أنا.ونحن الذين عشنا معه، كثيراً ما سمعناه يردد كلمة الإنجيل هذه: ?للثعالب أوكار ولطيور السماء عش، أمّا ابن الإنسان فليس له موضع يلقي عليه رأسه.وكان يضيف: إن الرب، لما انعزل في البرية ليصلي ويصوم أربعين يوماً وأربعين ليلة، لم يعد له غرفة أو بيتاً، بل استراح على صخور الجبل.وهكذا، اقتداءً بالرب، لم يرضَ أن يكون له في هذا العالم لا بيت ولا غرفة بل حرّم أن تبنى له واحدة. أكثر من ذلك، إذ صدرت منه سهواً مثل هذه التوصية: رتّبوا لي هكذا هذه الغرفة?. لم يعد يقبل فيما بعد الإقامة فيها عملاً بكلمة الإنجيل: لا تهتموا.عند دنو أجله، أراد أن يكتب في وصيته أن تكون كل غرف الإخوة وبيوتهم مبنية بالطين والخشب، من أجل ممارسة أفضل للفقر والتواضع.

تعليمات حول مسكن الإخوة

14- في مناسبة أخرى، كان فرنسيس في مدينة سيانّا لمعالجة عينيه، فأقام في غرفة تحولت بعد موته إلى مزار، إكراماً له.تقدم السيد بونافنتورا الذي أهدى الإخوة الأرض التي بني عليها الدير، وقال للقديس:ما رأيك بهذا المكان؟ أجابه فرنسيس: أتريد أن أقول لك كيف يجب أن تكون أماكن الإخوة؟? قال بونافنتورا: بطيبة خاطر يا أبتِ.أردف القديس قائلاً: عند وصول الإخوة إلى مدينة لا مسكن لهم فيها، فإذا وجدوا محسناً مستعداً لأنّ يدبّر لهم قطعة أرض كافية لبنى عليها دير مع الحديقة وباقي الأمور الضرورية، عليهم قبل كل شيء أن يحددوا المساحة التي تكفيهم دون أن ينسوا أبداً الفقر المقدس الذي وعدنا حفظه والمثل الصالح المفروض فينا إعطاؤه للقريب في كل الأحوال.تكلم الأب القديس هكذا، لأنّ إرادته كانت أن يتجنب الإخوة التذرع بأية حجة لجرح الفقر سواء في البيوت والكنائس والحدائق أو في أي شيء يستعملونه. لم يكن يرضى أن يقتنوا أي مكان مع سند تمليك بل أن يقيموا فيه دائماً بصفة غرباء مسافرين.لهذه الغاية، كان يريد ألاّ يكون عدد الإخوة كبيراً في أي من أماكنهم لأنّه تأكد له أنّه من الصعب ممارسة الفقر مع مثل ذلك العدد. إرادته من ساعة ارتداده حتى يوم وفاته كانت: ضرورة المحافظة التامة على الفقر المقدس.

15- وتابع القديس: بعد ذلك، فليذهبوا إلى أسقف المدينة ويقولوا له: يا صاحب السيادة، إنّ أحد المحسنين ينوي حباً بالله ولأجل خلاص نفسه أن يهبنا أرضاً كافية لنبني فيها مسكناً. إنّنا نلجأ إليك أولاً لأنك الأب والسيد لنفوس كل القطيع المسلم إليك، وأنت أب وسيد لنا ولباقي الإخوة الذين سيقيمون في ذلك المكان. إنّنا نرغب بناء بيت مع بركة الرب الإله وبركتك?.كان فرنسيس يقول هذا لأنّ ما يريد الإخوة تحقيقه من خير لنفوس الشعب سيكون أكبر إذا عاشوا بوحدة القلب مع الأحبار والإكليروس، فإنّهم سيكسبون لله الشعب والإكليروس معاً، وذلك أفضل مما لو هدوا الشعب وحده وكانوا عثرة للأحبار والإكليروس.وكان يقول: إنّ الله دعانا لننعش الإيمان وأرسلنا لنكون عوناً لأحبار وإكليروس أمّنا الكنيسة المقدسة. فبالتالي نحن ملزمون بأن نحبهم ونكرمهم ونوقّرهم دائماً وبقدر ما هو مستطاع. لهذا السبب، أخذنا اسم الإخوة الأصاغر، لأنّ علينا أن نكون أصغر أهل العالم كافة، بالاسم وبالمثل وبالسلوك.في بدء حياتي الجديدة، لمّا تركت العالم وأبي الأرضي، وضع الرب كلمته على شفاه أسقف أسيزي ليكون لي المرشد الحكيم في خدمة المسيح وليشجّعني. لهذا السبب ونظراً للصفات السامية التي أشاهدها في الأحبار، فإني أريد أن أحبهم وأكرمهم وأعتبرهم أسيادي، ليس الأساقفة وحدهم بل أيضاً أصغر الكهنة.

16- وبعد أن يأخذوا بركة الأسقف، فليذهبوا ويحفروا خندقاً كبيراً يطوّق قطعة الأرض الموهوبة، وليزرعوا سياجاً كثيفاً يصوّنه دلالة للفقر المقدس والتواضع. بعد ذلك فليبنوا لهم بيوتاً فقيرة من طين وخشب مع بعض الغرف المنفردة حيث يقدر الإخوة الاجتماع ليصلّوا ويشتغلوا في جوّ من التقوى بعيداً عن الأحاديث البطالة، وليبنوا أيضاً الكنيسة. إنّما لا يجوز لإخوتنا بناء الكنائس الكبيرة بحجة الوعظ للشعب أو بايّة حجة اخرى. فإنّهم يعطون مثالاً أسمى وتواضعاً أرفع إذا ما ذهبوا للوعظ في كنائس الغير، والتزموا بالفقر المقدس وظلوا متواضعين خاضعين. وإذا حدث أن زارهم أحبار أو كهنة رهبان أو علمانيون، فإنّ البيوت الفقيرة والغرف الصغيرة والكنائس حيث يسكن الإخوة ستكون موعظة للضيوف ومثالاً صالحاً يتّخذونه?.وأضاف: ?كثيراً ما يحدث أنّ الإخوة يشيدون الأبنية الضخمة مخالفين فقرنا المقدس ومسبّبين للقريب المثل السيء والانتقاد.بعد ذلك، بحجة أنهم وجدوا مكاناً أنسب أو أقدس، يتركون المكان الأوّل وما بني عليه. فالذين تبرعوا بالصدقات ومثلهم باقي الناس، عندما يرون ويسمعون ذلك يصدمون ويتشككون.فمن المناسب والأفضل أن يكون للإخوة أمكنة وأبنية فقيرة فإنّهم بذلك يحافظون بأمانة على ميزتهم السامية ويعطون المثل الصالح للقريب بدل أن يعلموا الخير وهم يخالفون نذورهم الرهبانية ويعطون المثل السيء للشعب.أمّا إذا حدث أن اضطر الإخوة مغادرة الأماكن الوضيعة والمساكن الفقيرة للانتقال إلى غيرها تناسبهم أكثر، فإنّ المثل السيء والشك سيكونان أصغر بكثير.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...mal_assisi.jpg

إرادة فرنسيس الأخيرة

17- في تلك الأيام وفي تلك الغرفة ذاتها حيث جرى حديثه مع السيد بونافنتورا، تعرض فرنسيس ذات مساء لتقيىء متواصل بسبب إصابته بمرض في المعدة. ولشدة ما سببه له ذلك التقيىء، حصل له نزيف دموي دام طيلة تلك الليلة حتى الصباح.لما رآه رفاقه قد شارف الموت بسبب ضعفه وأوجاع مرضه، ملأهم القلق وقالوا له وهم يبكون: يا أبانا، ماذا نعمل؟ أعطنا بركتك لنا ولباقي إخوتك جميعاً. واترك لإخوتك تذكاراً لإرادتك، حتى إذا شاء الله أن يستدعيك من هذا العالم نقدر أن نتذكرها دائماً. ونردد: إنّ أبانا وهو على فراش الموت ترك تلك الكلمات لإخوته وأبنائه.قال لهم فرنسيس: نادوا لي الأخ مبارك (Benedetto da Piratro). كان ذلك كاهناً، ورجلاً متزناً وقديساً انخرط في الرهبانية منذ الأيام الأولى وكثيراً ما أقام الذبيحة الإلهية لفرنسيس في تلك الغرفة. فإنّ القديس، ورغم إصابته بالمرض، كان يريد أن يسمع دائماً القداس بخشوع، وبطيبة خاطر كلما تسنى له ذلك.لما وصل مبارك قال له فرنسيس: اكتب إني أبارك كل إخوتي الموجودين حالياً في الرهبانية وكل الذين سيدخلونها حتى منتهى العالم.اعتاد فرنسيس عند نهاية كل المجامع، عندما يكون الإخوة مجتمعين أن يعطي البركة لجميع الحاضرين ولكل الباقين الأعضاء في الرهبانية ويبارك أيضاً كل الذين سينتبون إليها في المستقبل.لم تكن المجامع المناسبة الوحيدة التي اعتاد فرنسيس أن يبارك فيها الإخوة، بل في مناسبات عدّة كان يبارك الذين دخلوا الرهبانية ومثلهم من سيأتون إليها لاحقاً.تابع فرنسيس: بما أني لا أقوى على الكلام بسبب الضعف وألم المرض، فاني أبيّن إرادتي لإخوتي بايجاز في هذه التوصيات الثلاث أتركها لهم ذكرى لبركتي ولإرادتي الأخيرة:ليحب الإخوة بعضهم بعضاً دائماً وليحترم كل منهم الآخر.ليحبوا ويحترموا دائماً الفقر المقدس، سيدنا.ليكونوا دائماً خاضعين بإخلاص للأحبار ولكل اكليريكيّي الأم الكنيسة المقدسة.واعتاد أن يوصي الإخوة بالتخوف من المثل العاطل واجتنابه وكان يلعن كل الذين، بسبب مثلهم السيء الفاسد، يحملون الناس على انتقاد الرهبانية والإخوة حتى الصالحين منهم المملوئين جودة، ويجلبون لهم الخجل والأسى.

تنظيفه للكنائس

18- لما كان فرنسيس ساكناً بالقرب من القديسة مريم البورسيونكولا، وعدد إخوته وقتئذ ضئيل، كان يذهب أحياناً إلى القرى والكنائس المجاورة لأسيزي، يبشّر ويحرض الشعب على التوبة. أثناء تلك الجولات، كان يحمل معه مكنسة لتنظيف الكنائس. كان يتعذب جداً عندما يدخل كنيسة ويراها غير نظيفة. لذا، كان بعد وعظه للشعب، يختلي بكل الكهنة الحاضرين كيلا يسمعه أحد، ويكلمهم عن خلاص النفوس ويوصيهم خاصة ببذل العناية القصوى للمحافظة على نظافة الكنائس والمذابح وكل الأغطية المستخدمة لإقامة الذبيحة الإلهيّة.




قصة الأخ يوحنا البسيط
19- ذهب مرة إلى إحدى الكنائس في قرية تابعة لولاية أسيزي وأخذ ينظفها. انتشر للحال في القرية خبر وصوله لأنّ أهلها كانوا يأتون إليه ويسمونه بطيبة خاطر. وعلم أيضاً بوصوله رجل اسمه يوحنا وهو معروف ببساطته. كان يحرث أرضه بالقرب من تلك الكنيسة. أسرع للحال إلى فرنسيس فوجده يكنّس فقال له: ”يا أخي، أعطني المكنسة، أريد مساعدتك.“ وأخذ منه المكنسة وأكمل التنظيف. بعد ذلك جلسا، فقال له يوحنا: ”من زمن طويل وأنا عازم على خدمة الله خاصة من يوم سمعت الناس يحكون عنك وعن إخوتك. لكنني لم أكن اعرف كيف أتّصل بك. والأن بما أن الرب ارتضى أن أراك، فإنّي مستعد لأعمل كل ما يرضيك“. عند رؤيته مثل تلك الحرارة، فرح فرنسيس بالرب، خاصة أنه آنذاك لم يكن له إلاّ العدد القليل من الإخوة ولأن ذلك الرجل بصفاء بساطته أعطاه الثقة بأنّه سيكون راهباً صالحاً. فأجابه: ”يا أخي، إذا أردت مشاركتنا حياتنا والبقاء معنا، فمن الضروري أن تعطي للفقراء، حسب مشورة الإنجيل المقدس، كل ما تملكه شرعياً من خيرات. هذا ما فعله إخوتي لمّا كان ذلك باستطاعتهم“. عند سماعه هذا الكلام، توجه يوحنا نحو الحقل حيث كان ترك زوج البقر، فحلّهما واقتاد أحدهما إلى فرنسيس وقال له: ”أيها الأخ، إني من سنين طويلة أفلح لأبي وباقي أفراد عائلتي. صحيح أنّ حصتي هذه من الميراث زهيدة إنّما أريد ان آخذ هذا الفدان وأعطيه للفقراء بالطريقة التي تراها الأنسب حسب الله“. لما رأى والدا ذلك الرجل أنه يريد أن يتركهم أخذوا يذرفون الدموع ويبكون عالياً. وكذلك إخوته وكلّهم صغار ومثلهم سائر أفراد العائلة. تأثّر فرنسيس جداً خاصة لأنّ العائلة كبيرة ولا إيراد لها. فقال لهم: ”أعدّوا لنا غذاء؛ سنأكل سوية. لا تبكوا لأني سأعيد لكم فرحكم“. نفّذوا طلبه وأعدّوا الطعام وجلسوا كلهم يأكلون بفرح كبير.بعد نهاية الغذاء، كلمهم فرنسيس، قال: ”إن ابنكم هذا يريد أن يخدم الله. لا يجوز أن تحزنوا من هذا بل عليكم أن تفرحوا. إنّه شرف لكم ليس فقط أمام الله بل أيضاً في أعين الناس. سيكون ذلك مفيداً لكم في النفس والجسد. فإنّ واحداً من دمكم سيمجد الله. وإنّ إخوتنا جميعاً، من الآن وصاعداً، سيكونون أبناءكم وإخوتكم. إنّ خليقة من خلائق الله عازمة على خدمة خالقها ومن يكون خادماً لله فهو ملك، وأنتم تفهمون بالتالي إنّي لا أقدر ولا يحق لي أن أعيد إليكم ابنكم. إنّما، كي تحصلوا منه على قسط من التعزية ولأنّكم فقراء فاني قررت بأن يتخلى لكم عن ملكية هذا الثور ولو أنه حسب مشورة الإنجيل المقدس كان عليه أن يوزعه على فقراء آخرين.“ تعزّوا كلهم من كلام فرنسيس وسرّوا خاصة لأنه ترك لهم الثور لأنهم كانوا فقراء حقاً.ولما كان فرنسيس يفرح دائماً بالبساطة الصافية في نفسه وفي الآخرين. فإنّه أحب يوحنا حباً كبيراً. وما كاد يلبسه الثوب الرهباني حتى اتخذه مرافقاً له. وكان يوحنا على قدر كبير من البساطة حتى أنه اعتبر نفسه ملزماً أن يعمل كل ما يعمله فرنسيس. فإذا توقف القديس للصلاة في كنيسة أو في مكان منعزل، كان يوحنا يريد رؤيته والتحدق به ليتقلّد كل حركاته، فإذا ركع أو ضمّ يديه ورفعهما إلى السماء أو تفّ أو سعل، كان هو يعمل مثله. ورغم إعجابه ببساطة القلب تلك، فقد بدء فرنسيس يوبّخه. أمّا يوحنا فكان يجيب: ”قد وعدت أن أعمل كل ما تعمله أنت، ولهذا فأني أحاول أن أعمل كل ما تعمله أنت“. وكان القديس معجباً ومسروراً أمام تلك النقاوة والبساطة. وأحرز يوحنا تقدّماً رائعاً في كل الفضائل، مما أثار إعجاب فرنسيس وباقي الإخوة من قداسته. وبعد زمن قصير توفّي ذلك الأخ وقد بلغ درجة عالية من الكمال المقدس. أمّا فرنسيس وقد ملأه الفرح باطنياً وخارجياً فقد اعتاد أن يردّ على الإخوة حياة الأخ وبدل أن يسميه الأخ يوحنا كان يدعوه ماري يوحنا.

دعوة مزيّفة

20- كان فرنسيس يتجول مرة في إقليم ماركا ويبشر. فحدث يوماً أنّه بعد وعظه للشعب في إحدى القرى، تقدم إليه رجل وقال: ”أيها الأخ، أريد ترك العالم ودخول رهبانية إخوتك“. فأجابه فرنسيس: ”يا أخي، إن أردت دخول عائلتنا، فمن الضروري قبل كل شيء أن توزع للفقراء كل ما تملك، عملاً بمشورة الكمال التي أعطاها الإنجيل المقدس؛ بعد ذلك عليك التخلي كلياً عن إرادتك“.عند هذه الكلمات، ذهب ذلك الرجل مسرعاً، ولكنه استلهم الحب الجسدي لا الروحي، فوزّع ما يملك على أقاربه. ثم عاد إلى فرنسيس وقال له: ”أيها الأخ، ها إني تخليت عن كل ما أملك“. فسأله فرنسيس: ”وكيف فعلت؟“ أجابه: ”أيها الاخ، لقد أعطيت كل ما هو لي إلى بعض أقاربي لأنهم في ضيقة“.وعرف فرنسيس، بإلهام من الروح القدس، أنه رجل جسدي، فصرفه للحال: ”إذهب بطريقك، أيها الأخ الذبابة، لأنك أعطيت ما عندك لأقربائك، وها إنّك الآن تريدأن تعيش من الحسنات بين الإخوة“. فذهب ذلك الرجل بطريقه لأنّه رفض أن يوزع ما عنده لفقراء آخرين.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...a_al_mundo.jpg

تجربة وصفاء

21- في تلك الحقبة من الزمن، بينما كان فرنسيس يقيم في مقر البورسيونكولا، هاجمته، لأجل خيره الروحي، تجربة هائلة، سبّبت له في الداخل والخارج اضطراباً قاسياً حتى إنّه كان بعض مرات يهرب من رفقة الإخوة لأنّ ذلك العذاب يرهقه ولا يتركه يظهر بينهم وهو بصفائه المعتاد.كان يميت جسده ويمتنع عن الطعام والكلام. وكثيراً ما اختلى للصلاة في الغابة المجاورة للكنيسة، حتى يجد بحريّة منفذاً لتلك الأزمة الخانقة وللبكاء في حضرة الرب علّ الله القادر على كل شيء يتحنن عليه ويرسل إليه من السماء الدواء الشافي لمثل تلك الضيقة العنيفة. ظلت تلك التجربة تلاحقه ليلاً نهاراً مدة سنتين.وحدث مرة أنه بينما كان واقفاً يصلي في كنيسة القديسة مريم، أنّه سمع باطنياً هذه الكلمات من الإنجيل: ”لو كان عندكم إيمان مثل حبة الخردل وقلتم لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك، لكان لكم“ (متى 17/20). فسأل فرنسيس: ”وما هو يا ترى ذلك الجبل؟“ أجيب: ”الجبل هو تجربتك“. قال فرنسيس: ”إذن، يا رب، ليكن لي حسب قولك“. وللحال تخلص من التجربة حتى أنّه خيّل إليه أنّها لم تراوده البتة.

تناوله الطعام مع أبرص

22- مرة أخرى، عاد فرنسيس إلى البورسيونكولا، فلقي هناك الأخ ”يعقوب البسيط“ برفقة أبرص شوهته القروح وقد وصل هناك ذلك اليوم. كان القديس قد أوصى الأخ يعقوب مراراً بذلك الأبرص وكذلك كل الذين نخرهم ذلك المرض. وبالفعل فإنّ الإخوة في تلك الأيام كانوا يسكنون في مصحّات البرص. وكان يعقوب يطبب أشدهم إصابة ويلمس قروحهم بطيبة خاطر ويعالجها وينظفها ويضمدها.إلتفت فرنسيس إلى الأخ يعقوب وخاطبه بلهجة التوبيخ: ”لم يكن يجدر بك أن تأتي إلى هنا بإخوتنا المسيحيين، فهذا لا يناسبنا ولا يناسبهم“ - وكان القديس يسمي البرص إخوتنا المسيحيين.كان فرنسيس مسروراً برؤية الأخ يعقوب يساعد ويخدم البرص، إنّما وجّه إليه تلك الملاحظة لأنّ لم يكن يريد أن يخرج من المصحّ من هم أكثر إصابة.فضلاً عن ذلك، فإنّ الأخ يعقوب كان بغاية البساطة وكثيراً ما قدم إلى كنيسة القديسة مريم مع أحد البرص. وكان الناس يتجنبون فحالطة البرص المصابين بالقروح، أكثر من أي شيء آخر.لم يكد فرنسيس ينهي كلامه، حتى ندم فجأة عما قاله وذهب يعترف بزلته عند بطرس دي كاتانيو الرئيس العام آنذاك. أخذه الندم لأنه أحزن الأبرص بتوبيخه الأخ يعقوب؛ لهذا اعترف بزلّته قاصداً التفكير تجاه الله وتجاه ذلك البائس.فقال للأخ بطرس: ”أطلب منك أن توافق دون أن تعارضني على التعويض الذي قررته“. ولقدر ما كان الأخ يحترم ويهاب فرنسيس، فقد كان يطاوعه حتى إنّه لم يكن يجروء إبدال أوامره مع أنّه في تلك المناسبة وفي غيرها من الظروف كان يشعر بالكآبة باطنياً وخارجياً.تابع فرنسيس: ”لتكن هذه توبتي، أن آكل مع أخي المسيحي في صحنه“. وهكذا صار. جلس فرنسيس إلى الطاولة مع الأبرص ومع باقي الإخوة ووضعت قصعة بينهما. وكان الأبرص قرحة واحدة وكانت أصابعه التي يتناول بها الطعام ملتوية دامية بحيث أنّه كلما غمسها في الصحن كان الدم يسيل في داخله.عند رؤية هذا المشهد، ملأت الحسرة الأخ بطرس وباقي الإخوة لكنهم لم يجسروا أن يقولوا كلمة خوفاً من أبيهم القديس. وأنا الذي كتبت هذا، رأيت الحادثة بعيني وأشهد لها.

رؤيا الأخ باتشيفيكو

23- مرة أخرى، كان فرنسيس ماشياً في وادي سبوليتو ومعه الأخ باتشيفيكو، وهو من مواليد ماركا دي أنكونا وقد لقّب وهو في العالم باسم ”ملك الشعراء“ وكان رجلاً شريفاً لبقاً ومعلماً في الغناء. نزلا ضيفين في مصح البرص في تريفي. وقال فرنسيس لرفيقه: ”لنذهب إلى كنيسة مار بطرس دي بوفارا لأنّي أريد أن أقضي ليلتي هناك“. لم تكن الكنيسة تبعد كثيراً عن مصحّ البرص، علماً أنه لسنين قليلة مضت دمّرت الحرب منطقة تريفي ولم يعد يسكنها أحد.وفيما هما في الطريق، قال فرنسيس لباتشيفيكو: ”عد إلى المصحّ، لأني أريد البقاء وحدي هنا هذه الليلة. وارجع إليّ غداً عند الفجر“.بقي القديس وحده في الكنيسة وصلى صلاة الستار وباقي الصلوات ثم أراد الاستراحة والنوم، لكنه لم يقدر، لأنّ الخوف استحوذ عليه وأحاطت به تخيّلات شيطانية. فنهض للحال وخرج من الكنيسة ورسم على نفسه إشارة الصليب قائلاً: ”باسم الله القادر على كل شيء، آمركم أيها الأبالسة أن تصبّوا على جسدي كل ما سمح به لكم سيدي يسوع المسيح من عنف. إنّي مستعد أن أتحمّل أيّة مشقّة. أن أسوأ عدو لي هو جسدي، فانتقموا إذن من خصمي“. تبددت التخيلات للحال. وعاد القديس إلى حيث جلس أولاً. واستراح ونام بسلام.وعند طلوع النهار، عاد إليه باتشيفيكو، فوجد القديس يصلي أمام المذبح، داخل الخورس أمام المصلوب وأخذ هو أيضاً يصلي للرب. وما كاد يبدأ صلاته حتى اختطف بالروح (هل بالجسد أو خارج الجسد الله يعلم) ورأى في السماء عدة عروش يتوسطه عرش أكثر جمالاً محاط بهالة مجد ومشع، تزينه الحجارة الثمينة المتنوعة الأشكال.وفيما هو يتأمل مندهشاً ذلك البهاء أخذ يفكر في نفسه ما عسى أن يكون ذلك العرش ولمن هو معدٌّ. وإذا به يسمع صوتاً يقول: ”إن هذا العرش كان يخصّ لوسيفورس رئيس الشياطين، وسيحتل المكان بدله فرنسيس“.لما عاد إلى نفسه، إذا بفرنسيس مقبل إليه. ارتمى باتشيفيكو عند رجليه وهو باسط يديه على شكل صليب معتبراً إياه، بعد مشاهدته تلك الرؤيا، كما لو صار في السماء، وقال له: ”يا أبتِ، إغفر لي خطاياي واسأل الرب أن يغفر لي ويرحمني“. مدّ فرنسيس يده وأنهضه وقد فهم أنّ رفيقه شاهد رؤيا أثناء صلاته. فإنّه بدا متغيراً لا يكلّم فرنسيس كمن يخاطب إنساناً من لحم وعظم بل كقديس صار يملك في السماء.بعد ذلك، تظاهر الأخ بأنّه يجهل ما جرى لأنّه لا يريد أن يكشف تلك الرؤيا لفرنسيس فسأله: ”فماذا تقول عن نفسك أيها الأخ؟“ أجاب فرنسيس: ”إني متأكد أني أكبر الخطأة الموجودين على الأرض“. وللحال تكلم صوت في قلب باتشيفيكو: ”من هذا تعرف أنّ ما رأيته كان الحقيقة. فكما أنّ لوسيفورس دحرج من عرشه بسبب كبريائه، هكذا استحق فرنسيس بأن يرفع بسبب تواضعه ويجلس مكانه“.

قيثارة الملاك

24- في فترة وجود فرنسيس بالقرب من رياتّي، أقام بضعة أيام في غرفة تخص الكاهن تيبَلدو الملقب بالمسلم وذلك لمعالجة عينيه. فقال مرة لأحد رفاقه الذي كان وهو في العالم تعلّم العزف على القيثارة: ”أيها الأخ، إن أهل العالم لا يتحسسون الشؤون الإلهية. إنهم يستعملون الآلات الموسيقية كالقيثارة والكمنجة ذات الاوتار العشرة وغيرها للباطل وللخطيئة، ضد إرادة الله، بينما كان الناس في الأيام القديمة يستعملونها ليسبحوا الله ويعزّوا نفوسهم. وأنا أتمنى لو أنّك تحصل سراً من شخص شريف على قيثارة وتعزف لي عليها أنشودة تقوية. ثم نستعين بها لتلحين كلمات نشيد ”مدائح الرب“. إن جسدي مبتلى بمرض ثقيل مؤلم. وإني، بواسطة القيثارة، أتوق إلى تخفيف الألم الجسدي وتحويله إلى فرح وتعزية روحية.وبالفعل كان فرنسيس أثناء مرضه ألّف بعض ”المدائح للرب“ وكان من حين إلى آخر يطلب من رفاقه أن ينشدوها لمجد الله ولتعزية نفسه ولرفع قلوب السامعين إلى الله.أجابه الأخ: ”يا أبت، إني أستحي أن أذهب وأطلب القيثارة، لأنّ أهل المدينة يعرفون أنّي وأنا في العالم كنت أعزف القيثارة وإني أخشى أن يتوهموا أن سيطرت عليّ من جديد تجربة العزف“. ختم فرنسيس: ”حسناً أيها الاخ، لنطوِ الموضوع“.في الليلة التالية وفيما القديس ظلّ مستيقظاً إذا به، حول منتصف الليل، يسمع من حول البيت الذي استراح فيه عزف قيثارة: كان أجمل ما سمع من غناء وأعذب ما وصل إلى أذنيه في حياته من ألحان. كان العازف الخفي يبتعد أحياناً إنّما بشكل يسمح بسماع موسيقاه ثم يعود وهو لا ينقطع عن العزف على آلته. دامت تلك الموسيقى أكثر من ساعة وفهم فرنسيس أنّ ذلك إنّما هو من صنيع الله لا من البشر، فملأه فرح عميق وابتهج قلبه وطفح حبّاً وأخذ يمجد الرب الذي تنازل وغمره بمثل تلك التعزية العذبة.ولما استفاق عند الصباح، قال لرفيقه: ”رجوتك يا أخي وأنت لم تستجب لي. لكن الرب الذي يعزّي أحباءه في ضيقاتهم، تنازل وعزّاني هذه الليلة“. وقصّ عليه ما جرى له.ذهل الإخوة معتبرين أنّ ما حدث أعجوبة كبرى واستنتجوا أنّ الله نفسه هو الذي تدخّل وحمل ذلك الفرح إلى فرنسيس. ومما زادهم تأكداً هو أن الحاكم كان قد أمر ألاّ يتجوّل أحد في المدينة ليس فقط عند نصف الليل بل أيضاً ابتداء من دقة الجرس الثالثة. من جهة ثانية فإنّ فرنسيس أكّد أن القيثارة العازفة كانت تروح وتجيء في سكون الليل دون أن يرافقها أي صوت بشري وذلك مدة تزيد على الساعة وقد ملأت نفسه تعزية.

كرمة كاهن رياتي

25- في تلك الفترة أيضاً، كان فرنسيس يقيم في المدينة ذاتها قرب كنيسة القديس فابيانو بضيافة أحد الكهنة العلمانيين الفقراء لمعالجة عينيه. وكان البابا هونوريوس الثالث لجأ إلى رياتي مع الكرادلة. وكان الكثيرون منهم وغيرهم من رجال الإكليروس، بدافع الاحترام والتقوى تجاه فرنسيس، يأتون لزيارته كل يوم تقريباً.وكان لتلك الكنيسة كرم عنب صغير قرب البيت حيث أقام فرنسيس. وإذ لم يكن له إلاّ باب واحد، فكان جميع الزوار يمرون من داخل ذلك الكرم المجاور وقد اجتذبتهم في الصيف العناقيد الناضجة وبرودة ذلك المكان المناسب للاستراحة. نتج عن ذلك الذهاب والإياب أن تعرّض الكرم إلى التلف الكلي، فهذا يقطف العناقيد وذاك حبّاتها وآخر يحملها معه، أو يدوسها على الأرض. وبدأ الكاهن يتذمّر ويحتج قائلاً: ”ضاع موسم السنة، والكرم رغم صغره كان يعطيني من الخمرة ما يكفيني“.سمع فرنسيس ذلك التشكي فاستدعاه وقال له: ”لا تحزن ولا تضطرب، إذ لا يمكننا الآن أن نصنع شيئاً. لكن اتكل على الرب فهو قادر أن يعوض عليك الضرر حباً بي أنا خادمه الصغير. قل لي: كم حمل من العنب قطفت في أحسن المواسم؟“ أجاب الكاهن: ”يا ابتِ، كنت أحصل على ثلاثة عشر حملاً“.فقال فرنسيس: ”تشجع، ولا تحزن بعد، ولا تشتم أحداً ولا تذيع الشكاوي. ضع ثقتك بالرب وبكلامي. فإذا لم تقطف أقل من عشرين حملاً، فأنا أعدك بالتعويض عليك“.وحدث بتدخل من الله أنّه قطف ما لا يقل عن عشرين حملاً كما وعده فرنسيس. بقي ذلك الكاهن مذهولاً هو وكل من أخبرهم بما حدث وقد نسبوا الأعجوبة إلى استحقاقات القديس فرنسيس. صحيح أنّ الكرم خرب، لكنه ولو كان مثقلاً بالعناقيد، فإنّه من شبه المستحيل أن تصل غلته إلى عشرين حملاً من العنب.ونحن الذين عشنا معه، يمكننا أن نشهد بأنّه عندما كان يقول: ”أنّه هكذا“ أو ”هكذا سيكون“، فإنّ ما تنبأ به كان يتحقق دائماً. وقد رأينا اموراً كثيرة تحققت خلال حياته كما بعد موته.

في الغذاء المقدم لطبيب

26- جرى في الفترة ذاتها، أثناء إقامة فرنسيس في محبسة الإخوة في فونته كولومبو قرب رياتي، لمعالجة عينيه. أتى طبيب العينين يوماً ليزوره وتحدث معه كعادته زهاء ساعة. ولما تأهب للانصراف، قال فرنسيس لأحد رفاقه: ”اذهبوا وأعدوا للطبيب غذاءً شهياً“. أجابه رفيقه: ”يا أبتِ، نقرّ لك بخجل، بسبب حالنا من الفقر الآن، لا نجرؤ دعوته وتقديم الطعام له“.التفت فرنسيس إلى رفاقه وقال: ”يا لكم من رجال قليلي الإيمان، لا تدعوني اكرّر لكم الأمر“. تدخل الطبيب وقال: ”أيها الأخ، بحيث أنّ الإخوة بمثل هذه الحالة من الفقر، فإني بطيبة خاطر سأتناول الطعام معهم“. كان ذلك الطبيب غنيّاً جداً ومع أنّ القديس ورفاقه دعوه مراراً ليأكل معهم، فإنّه لم يلبِ أبداً دعوتهم.ذهب الإخوة ليعدّوا الطاولة وهم خجلون، فوضعوا عليها القليل مما عندهم من الخبز والخمر مع بعض بقول طبخوها وجلسوا إلى المائدة. وما كادوا يبدأون تناول الطعام حتى قرع الباب. نهض أحد الإخوة وركض ليفتح. فإذا سيدة تحمل سلة كبيرة مملوؤة من الخبز الابيض والسمك والقريدس وعناقيد عنب قطفت لساعتها. كان ذلك هدية لفرنسيس من سيدة صاحبة قصر يبعد عن المحبسة نحو سبعة أميال.فوجىء الإخوة والطبيب معاً وظلوا مندهشين ونسبوا ما حدث لقداسة فرنسيس. وقال الطبيب لضيوفه: ”يا إخوتي، لا أنا ولا أنتم نقدّر كما يجب قداسة هذا الرجل“.

http://www.peregabriel.com/gm/albums...stigmata~0.jpg

تنبؤه بارتداد رجل متزوج

27- مشى فرنسيس يوماً قاصداً قرية تشيلّه دي كورتونا سالكاً الطريق الممتدة على سفح قلعة ليشانو بالقرب من مقر إخوة بريدجو. وحدث أنّ سيدة من أشراف تلك المدينة خرجت مسرعة لتكلم القديس. رأى أحد الإخوة تلك السيدة تقترب وقد أنهكها المشي، فقال لفرنسيس: ”يا أبتِ، حباً بالله، لننتظر تلك السيدة التي تلحقنا لتكلمك وقد أرهقها التعب“.ولما كان فرنسيس رجلاً مملوءاً محبة وشفقة فقد توقف وانتظرها. ولما رآها تقترب وقد أخذها العياء وفي قلبها مثل تلك الحرارة والتقوى، قال لها: ”ماذا أقدر أن أعمل لك يا سيدتي؟“ أجابت السيدة: ”يا أبتِ، أرجوك أن تعطيني بركتك“. سألها فرنسيس: ”هل أنت متزوجة أو عزباء؟“ قالت: ”يا أبت، منذ مدة طويلة، أعطاني الرب الرغبة بخدمته، ولي أيضاً رغبة كبرى بأن أخلّص نفسي. لكن لي رجل قاسٍ جداً وهو يعادي نفسه ويعاديني في ما يخص خدمة المسيح. لهذا فإني أشعر بألم عميق وبحسرة تحزنني حتى الموت“. تأمل فرنسيس بما عندها من حرارة في النفس، وخاصة عندما رآها صبية نحيلة البنية، فتحنن عليها وباركها وصرفها بهذه الكلمات: ”اذهبي الآن،تجدي زوجك في البيت، فقولي له من قِبَلي اني أصلي من أجله ومن أجلك، حباً بالرب الذي قاسى آلام الصليب لأجلنا حتى يخلص نفسيكما في بيتكما“.انصرفت المرأة وعادت إلى بيتها فوجدت زوجها كما قال لها فرنسيس. فسألها: ”أين كنت؟“ قالت: ”كان لي لقاء مع فرنسيس. باركني وعزاني بالرب وفرحني بكلماته، كما أنه كلفني بأن أحرّضك وأسألك باسمه أن نخلص نفوسنا ونحن ملازمان بيتنا“.عند تلك الكلمات، وبفضل استحقاقات فرنسيس، نزلت نعمة الله فجأة في قلب ذلك الرجل. فأجابها برقة ولطف وقد حوّله الله كلياً: ”يا سيدتي، من الآن وصاعداً، وبالطريقة التي ترينها، لنبدأ بخدمة المسيح وخلاص نفوسنا كما أوصاك فرنسيس“. أجابت المرأة: ”يا سيدي، أظن أنه حسن لنا أن عيش في العفة، فإنّها فضيلة ترضي الله جداً وتجلب جزاءً كبيراً“. وافق الرجل: ”إذا كان ذلك يروق لك، فإنّه يروق لي أيضاً. إنّي أريد أن أضم إرادتي إلى إرادتك في هذا الموضوع وفي كل عمل صالح آخر“.من ذلك اليوم وطيلة سنوات عديدة عاش الإثنان في العفة، يوزعان الصدقات بسخاء على الإخوة وغيرهم من الفقراء. ودهش العلمانيون بل الرهبان أيضاً من قداسة ذينك الزوجين لاسيما أن الرجل بعد أن كان في الماضي علمانياً فقد تحول بسرعة واتّسم بروحانية عميقة. ثبتا في طريقهما وفي سائر الأعمال الصالحة حتى النهاية وتوفيا الواحد بعد الآخر بأيام قليلة. وأجريت لهما جنازة كبرى لأجل العطر المنبعث من حياتهما الطيبة وهما يمجدان ويباركان الرب الذي منحهما من بين المواهب الكثيرة نعمة خدمته بوحدة حميمة في القلب بل إن الموت لم يفصلهما لأنّهما انطفأا الواحد تلو الآخر. وكل الذين عرفوهما يعتبرونهما قديسين حتى أيامنا هذه.

طالب في الرهبانية غير ناضج

28- في الفترة التي لم يكن أحد يُقبل في جمهور الإخوة دون موافقة فرنسيس، تقدّم من بين الراغبين بتلك الحياة ابن أحد وجهاء مدينة لوكّا. كان فرنسيس يومئذ منحرف الصحة يسكن في قصر أسقف أسيزي. وبينما الإخوة يقدمون إليه الطلاّب الجدد، انحنى ذلك الشاب أمام فرنسيس وبدأ يبكي عالياً ويتوسل إليه أن يقبله.حدّق به القديس وقال له: ”إنّك رجل تعيس عائش حسب الجسد. فلماذا تكذب على الروح القدس وعليّ؟ إنك رجل جسداني وبكاؤك هذا غير روحاني“. ما كاد ينتهي من الكلام حتى أطلّ في الساحة أهل ذلك الشاب ممتطين جيادهم وقصدهم أخذه وإرجاعه معهم إلى البيت. أمّا هو، فلما سمع وقع حوافر الخيل ألقى نظرة من النافذة يستطلع عن القادمين. فلما لمح أهله، ركض حالاً إلى الخارج ليلتحق بهم، وعاد برفقتهم إلى العالم، كما تبين لفرنسيس بإلهام من الروح القدس. وذهل من ذلك الإخوة وباقي الحاضرين ومجدوا الله وحمدوه في قدّيسه.

السمكة الشهية

29- بينما كان فرنسيس بحالة المرض الشديد وهو نازل ضيفاً في قصر أسقف أسيزي، أخذ الإخوة يلحون عليه أن يقتات، فأجاب: ”أيها الإخوة، ليست لي أيّة قابلية للاكل. إنّما لو حصلت على فرخ من سمك البوري، ربما أكلته“.ما كاد يعرب عن رغبته، حتى أطلّ شخص يحمل قفة فيها ثلاثة فروخ من البوري وقد أتقن إعدادها ومعها كمية من القريدس المطبوخ كان القديس يأكل منها بطيبة خاطر. كل ذلك هدية من الأخ جيراردو رئيس رياتي.من يصف ذهول الإخوة وقد اعتبروا ما حدث دلالة على قداسة فرنسيس. فمجدوا الله الذي دبر لخادمه ما كانوا يعجزون عن تقديمه في ذلك الشتاء فضلاً عن صعوبة وجود تلك الاصناف في المدينة.

تذمّر الأخ ليوناردو

30- كان فرنسيس مرة في طريقه برفقة أخ معروف بروحانيته وهو منحدر من عائلة كبيرة ومقتدرة في مدينة أسيزي. كان القديس بسبب ضعفه ومرضه يمتطي حماراً. أمّا رفيقه وقد أخذه العياء من السفر فبدأ يتذمر في داخله: ”إنّ أهل هذا الذي معي لم يكونوا يوماً بمستوى أهلي. وها هو اليوم يركب دابة ويتركني أمشي وراءه منهوكاً أقود حماره“.فيما كانت تلك الافكار تتراكض في ذهنه، إذا بفرنسيس ينزل فجأة عن الدابة ويقول له: ”يا أخي، ليس من العدل ولا من اللائق أن أركب أنا دابة وتبقى أنت راجلاً، فإنّك في العالم كنت أشرف مني وأقدر“. ذهل الأخ وأخذه الخجل وبدأ يبكي وارتمى على قدمي القديس معترفاً بما راوده من أفكار ومقراً بخطيئته. وقد أعجب بقداسة فرنسيس الذي اكتشف للحال أفكاره. ويوم طلب الإخوة في أسيزي من البابا غريغوريوس ومن الكرادلة أن يعلنوا قداسة فرنسيس شهد ليوناردو بالحادث أمام البابا والكرادلة.

فرنسيس يخرج من غرفته ليبارك أخاً له

31- كان يقيم في دير رياتي أخ روحاني محب لله. نهض يوماً تخالجه الرغبة برؤية فرنسيس وأخذ بركته، فأتى بتقوى عميقة إلى محبسة غريشيو وقد اتخذها القديس آنذاك مقراً له. كان فرنسيس قد فرغ من تناول طعامه وانعزل في غرفة للصلاة والاستراحة. وبما أنها أيام الصوم الكبير فلم يكن يخرج من الغرفة إلاّ عند وقت الطعام ثم يعود للحال إلى عزلته.حزن القادم الجديد عندما لم يجده ناسباً سوء طالعه لخطاياه خاصة أنه كان مضطراً للرجوع إلى ديره في ذلك النهار عينه. حاول رفاق القديس أن يعزّوه وهو يتأهب للعودة. وما كاد يبتعد رمية حجر حتى خرج فرنسيس من غرفته بإرادة من الله ونادى أحد رفاقه (ذاك الذي اعتاد أن يرافقه في الطريق حتى العين) وقال له: ”نبِّه ذلك الأخ أن يدير وجهه صوبي“. فاستدار الأخ نحو القديس وهو رسم باتجاهه إشارة الصليب وباركه. امتلأ الأخ فرحاً داخلياً وراح يبارك الرب الذي استجاب رغبته. ومما زاده تعزية هو أنّه تأكّد أنّه حصل على تلك البركة بإرادة من الرب دون أن يطلبها ودون تدخل أيّ كان.وتعجب مثله أيضاً رفاق فرنسيس وسائر إخوة المحبسة واعتبروا ما حدث أعجوبة كبرى خاصة لأنه لم يُعلم أيّ منهم القديس بوصول ذلك الاخ، فضلاً عن أنّ لا رفاق فرنسيس ولا أيّ أخ آخر كان يجروء الذهاب إليه ما لم يستدعه هو. ليس فقط في غريشيو، بل حيثما أقام فرنسيس للصلاة، كان يريد البقاء في عزلة تامة ولا يسمح لأي كان المجيء لزيارته ما لم يكن هو استدعاه.

غذاء عيد الميلاد في غريتشو

32- في أحد الأيام، وصل أحد الرؤساء المسؤولين عن الإخوة المقيمين في غريتشو ليحتفل بعيد ميلاد الرب مع فرنسيس. وكان الإخوة لمناسبة العيد واكراماً لضيفهم قد أعدّوا المائدة باتقان وغطوا الطاولات بشراشف بيضاء جميلة اشتروها وأضافوا إليها أقداحاً زجاجية.نزل فرنسيس من قلاّيته للغذاء ولما رأى الطاولة مرفوعة عن الأرض ومزينة بمثل ذلك التفنّن، خرج دون أن يشعر به أحد، وأخذ قبعة وعصا متسوّل وصل إلى هناك في ذلك اليوم، وبعد أن نادى بصوت منخفض أحد رفاقه، خرج معه من باب المحبسة. لم يلاحظ الإخوة شيئاً مما جرى وجلسوا إلى المائدة بشكل طبيعي لأنّ القديس كان أوصاهم أن يبدأوا تناول الطعام دون انتظاره إذا ما هو أبطأ في الوصول عندما يحين وقت الغذاء. في أثناء ذلك أقفل رفيقه الباب وبقي في الداخل بالقرب من المدخل. قرع فرنسيس الباب ففتح له ذلك الأخ للحال. دخل وقبعته على ظهره وعصاه في يده كما اعتاد الغرباء المسافرون أن يفعلوا. عند وصوله قبالة الغرفة حيث كان الإخوة يأكلون، قال حسب الطريقة المألوفة عند المتسولين: ”محبة للرب الإله، أعطوا حسنة لهذا المسافر المريض المسكين“.تعرّف عليه الرئيس وباقي الإخوة للحال. أجابه الرئيس: ”أيها الاخ، نحن أيضاً فقراء، وبما أن عددنا كبير، فإنّنا بحاجة إلى الحسنات التي نأكلها. لكن، حباً بالرب الذي استغثت به، أدخل فنتقاسم معك الصدقات التي أرسلها الله لنا“. تقدّم فرنسيس واقترب من الطاولة. فمدّ إليه الرئيس الصحن الذي كان سكب فيه طعامه مع قطعة من الخبز. أخذهما القديس وجلس إلى الأرض بالقرب من النار مقابل الإخوة الجالسين عالياً أمام الطاولة.عندئذ قال لهم وهو يتنهّد: ”لما رأيت تلك الطاولة معدة بهذا الاتقان والتفنن، فكرت أنّها ليست مائدة إخوة فقراء يذهبون كل يوم طالبين الصدقة من باب إلى باب لأنّ من واجب من هم مثلنا أن يتمثلوا في كل شيء بتواضع وفقر ابن الله أكثر من أي رهبان سواهم. لأنّنا من أجل هذا دعينا وهذا ما التزمنا به أمام الله وأمام الناس. والآن، أنا جالس إلى الطاولة كما يليق بالإخوة“.أما هم، فقد اعتراهم الخجل لأنّهم فهموا أن فرنسيس إنّما قال لهم الحقيقة. وأخذ بعضهم يبكون بصوت عال لما رأوا فرنسيس جالساً إلى الأرض وتأملوا بأيّة قداسة وصواب أعطاهم تلك الأمثولة.

زيارة الكردينال هوغولينو إلى البورسيونكولا

33- كان فرنسيس يقول أنّ على الإخوة أن يجلسوا إلى طاولات متواضعة بسيطة لإعطاء المثل الصالح للعلمانيين. وإذا ما دعي أحد الفقراء، فليجلس مثله مثل الإخوة وليس إلى الأرض بينما هم إلى فوق.أتى البابا غريفوريوس لما كان بعد أسقف اوستيا، إلى دير البورسيونكولا، ودخل إلى مهجع الإخوة هو وعدد كبير من الفرسان والرهبان وغيرهم من الإكليريكين أفراد حاشيته. ولاحظوا أن الإخوة ينامون على الأرض فوق قليل من القش، دون وسائد، يغطون أجسادهم بحرامات مهلهلة رثّة، فأخذ يبكي أمام الجميع ويقول: ”انظروا أين يرتاح الإخوة. يا لتعاستنا نحن الذين ننعم بهذا القدر من الكماليات! ماذا يكون مصيرنا؟“ وقد اتّعظ بمثلهم هو وكل الذين رافقوه. لم يرَ البابا في ذلك المكان أيّة طاولة، إذ أنّ الإخوة كانوا يتناولون طعامهم جلوساً على الأرض.صحيح أنّ مقرّ البورسيونكولا، منذ الأيام الأولى، أي من يوم تأسيسه كان الدير الذي يقصده الإخوة من الرهبانية كلها - بل أنّ كل الذين كانوا يريدون الالتحاق بالإخوة كانوا يلبسون الثوب في القديسة مريم سيدة الملائكة - مع ذلك فإنّ الإخوة في ذلك الدير كانوا دائماً يأكلون إلى الأرض، أكانوا قلّة أو أكثر عدداً. وطيلة حياة فرنسيس تمسكوا بذلك المثل وبإرادته هو، ظلوا يتناولون طعامهم على الأرض.

الفضائل والرذائل في غريتشو

34- أحب فرنسيس محبة غريتشو لأنّ الإخوة هناك أفاضل وفقراء. وشمل بمودة خاصة سكان تلك المنطقة لأجل فقرهم وبساطتهم. وكثيراً ما كان يذهب إلى هناك للإقامة والاستراحة، تجذبه خاصة قلاية منفردة بغاية الفقر كان يحب الانفراد فيها للتأمل. شجع مثله ووعظه وحياة إخوته العديد من سكان البلدة وبالهام من نعمة الله دخل كثيرون رهبانيته. وكذلك اختارت فتيات عديدات حياة البتولية ولبس ثوباً رهبانياً إنّما بقين في بيوتهن ومع عائلاتهن. مع ذلك سلكن حياة جماعية ساهرات على ممارسة الفضائل، يقمعن أجسادهن بالأصوام والصلوات. وكنّ بالنسبة للشعب وللإخوة رغم صباهن وبساطتهن ليس كمن يقيم في العالم وبحوار أهله بل كجماعة تعيش الحياة المشتركة وكراهبات قديسات تكرّسن لخدمة الرب منذ سنوات طويلة. أمّا بخصوص رجال ونساء غريتشو، فقد اعتاد فرنسيس أن يقول للإخوة وكله فرح: ”لا توجد حتى في المدن الكبرى جماعة اهتدت إلى الرب بقدر ما حصل في غريتشو مع أنّها بلدة صغيرة جداً“.عند المساء، عندما يبدأ إخوة المحبسة تلاوة مدائح الرب حسب عادة الإخوة آنذاك في مراكز عديدة، اعتاد سكان البلدة أن يخرجوا كبيرهم وصغيرهم من البيوت ويتجمعوا في ساحة البلدة وهم يرُدّون مناوبة وبصوت عال على ترنيمة الإخوة: ”كن مسبحاً أيها الرب الهي“، بل إنّ الأطفال أنفسهم الذين لم يحسنوا بعد الكلام كانوا، عند رؤية الإخوة، يسبحون الرب بقدر ما يستطيعون. في تلك السنوات، تعرض أهل غريتشو إلى كارثة رهيبة دامت بضع سنوات. فمن جهة انتشرت في المنطقة مجموعات من الذئاب أخذت تفترس البشر أنفسهم، ومن جهة أخرى ضرب البرد المزروعات والكروم.في إحدى مواعظه، طمأن فرنسيس الناس قائلاً: ”أبشركم أنّه، لإكرام الله وتسبيحه، إذا ندم كل منكم على خطاياه وارتد إلى الله بكل قلبه مع العزم الثابت، فإنّي متأكد من الرب يسوع المسيح أنّه للحال وبرحمته ستختفي هجمات الذئاب وزخّات البرد التي تقاسون منها من زمن طويل وإنّه سيجعلكم تنمون وتفتنون في الأمور الروحية والزمنية على السواء. لكني أنذركم أيضاً أنّه، لا سمح الله، إذا رجعتم إلى الخطيئة، فإنّ تلك الكوارث وتلك اللعنة ستنقض عليكم من جديد مع غيرها من ويلات افظع وأقسى“.وحدث بتدبير إلهي وبفضل استحقاقات الأب القديس أنّ تلك الكوارث توقفت للحال. بل إنّه لما كانت زخّات البرد تتلف المزارع المجاورة لم تكن تمس ممتلكات أهل غريتشو الذي اعتبروا ذلك أعجوبة كبيرة.على مدى ست عشر أو عشرين سنة، رأى أهل البلدة خيراتهم الروحية والزمنية تنمو وتزدهر. بعد ذلك ولّد الرخاء الكبرياء، فدبّ بينهم التباغض وأخذوا يتبارزون ويتقاتلون ينحرون مواشي بعضهم بالخفاء، ويعيشون في الليالي سرقة ونهباً ويرتكبون الكثير من المآثم. ورأى الرب أنّ أعمالهم فاسدة وإنّهم لا يمتثلون لما يأمرهم به على لسان فرنسيس خادمه، فاستشاظ غضباً عليهم، ورفع عنهم يده الحنونة، وعاد هجوم الذئاب وتساقط البرد تماماً كما تنبأ القديس بل ضربتهم كوارث أخرى عديدة أشدّ إذية من سابقاتها. فقد اندلع في المنطقة كلها حريق هائل التهم كل ما يملكه أولئك السكان الذين نجوا فقط بحياتهم. أمّا الإخوة وكل الذين سمعوا العظة التي القاها فرنسيس متنبئاً بالرخاء وبالكارثة، تأكّدوا من قداسته إذ ثبت لديهم أنّ ما قاله تحقق حرفياً.

فرنسيس ينذر أهل بيروجيا بالحرب الأهلية

35- في مناسبة أخرى، كان فرنسيس يعظ في ساحة بيروجيا حيث اجتمع عدد كبير من الناس. وإذا بفرسان من المدينة يطلّون بسلاحهم إلى الساحة على صهوة جيادهم بنية بلبلة الوعظ. ورغم احتجاج الرجال والنساء المستمعين إلى العظة استمروا بتصرفهم الوقح.عندئذ، التفت فرنسيس نحو هؤلاء الغوغائيين وقال لهم بنبرة جريئة: ”اسمعوا وحاولوا أن تفهموا ما ينذركم به الرب، بفمي أنا خادمه. ولا تذهبوا تقولوا: ”إن هذا، واحد من سكان أسيزي“، قال ذلك لأنّ عداوة شرسة ناشبة بين أهل أسيزي وبيروجيا. وتابع: ”إنّ الله جعلكم كباراً وأقوياء أكثر من جيرانكم جميعاً. لهذا السبب عليكم أن تعترفوا بفضل خالقكم وأن تبقوا متواضعين ليس فقط أمام الله الكلي القدرة بل أيضاً في تصرفاتكم مع جيرانكم. للأسف إنّ قلبكم انتفخ تحدياً ودخل فيكم روح الكبرياء والتسلط فأخذتم تدمرون أراضي جيرانكم وتقتلون العديد منهم. والآن ها إنّي أقول لكم، إنّكم، إن لم تتوبوا للحال إلى الله وتعوّضوا عن الأضرار التي سببتموها، فإنّ الرب الذي لا يترك أي ظلم دون عقاب سيجعلكم تثورون ضد بعضكم بعضاً. ستنفجر الخصومات والحرب الأهلية ويصيبكم من الأذى أكثر بكثير مما يستطيع جيرانكم الالحاق بكم“.وبالفعل، فإنّ فرنسيس في مواعظه لم يكن يسكت عن رذائل الشعب التي تهين الله والقريب بشكل علني. فإنّ الرب أعطاه موهبة نعمة فريدة وهي أنّ كل من رآه أو سمعه، كبيراً كان أم صغيراً أحاطه بالرهبة والاحترام نظراً للمواهب السامية التي وهبها له الله. لذلك كان الناس يتأثرون به حتى لو حدث أن أنّبهم ووبخهم وكم من الذين ارتدوا إلى الرب لأنّ القديس اهتمّ بخلاصهم وصلى لأجلهم بحرارة.بعد أيام قليلة، سمح الله بنشوب صراع بين الأعيان والشعب. طرد الشعب الفرسان من المدينة والفرسان بمساعدة الكنيسة دمروا الكثير من الحقول والكروم وبساتين الفاكهة العائدة للشعب وسببوا لهم أضراراً بالغة. والشعب من جهته خرّب المزارع والكروم وبساتين الفاكهة العائدة للأعيان. وحلّ بأهل بيروجيا عقاب فادح أخطر بكثير من الذي أصابهم عن يد جيرانهم. وهكذا تمت حرفياً نبوءة فرنسيس.

مفعول صلاته

36- أثناء مرور فرنسيس في أحد الأقاليم، أتى إلى ملاقاته رئيس دير كان يحترمه ويكنّ له محبة عميقة. ترجّل الرئيس وتجاذب الحديث مع فرنسيس ساعة حول موضوع خلاص نفسه.وقبل أن يفترقا طلب منه الرئيس بحرارة أن يصلي لأجله. أجابه فرنسيس: ”سأفعل ذلك بطيبة خاطر“. وما إن ابتعد الرئيس قليلاً حتى قال فرنسيس لرفيقه: ”يا أخي، لنتوقف هنيهة، لأنّي أريد أن أصلي على نية الرئيس كما وعدته“. وتخشّع يصلي. وقد اعتاد فرنسيس كلّما طلب منه أحد أن يصلي للرب لأجل خلاص نفسه، أن يقوم بتلك الصلاة بأسرع وقت ممكن خوفاً من نسيانها.أثناء ذلك كان الرئيس يتابع سيره. وما ابتعد كثيراً عن فرنسيس حتى تفقد الرب قلبه فانسكبت على وجهه حرارة عذبة وشعر لحظة وكأنه اختطف بالروح. ولما عاد إلى نفسه، تأكد له أنّ فرنسيس صلى لأجله. فأخذ يمجد الله وهو ممتلىء فرحاً في الجسد وفي الروح.من ذلك اليوم أحاط القديس بإكرام عميق لأنّه اختبر في ذاته سمو قداسة فرنسيس. واعتبر ما حدث أعجوبة كبرى وظل يسرد ذلك الحادث للإخوة ولغيرهم.

في مرض القديس. وفي حبه للمسيح المتألم

37- تألم فرنسيس مدة طويلة حتى يوم وفاته من أمراض في الكبد والطحال والمعدة. فوق ذلك، لما عبر البحر ليذهب ويبشر الإنجيل لسلطان بابل ومصر، أصيب بمرض خطير في عينه نتيجة ما قاساه من مشقة أثناء السفر وخاصة لشدّة الحرّ الذي تعرّض له في ذهابه وإيابه. لكنه لم يقبل أخذ أي علاج لتلك الأمراض رغم التوسلات الملحة من قبل إخوته وغيرهم ممن أحاطوه بعاطفتهم وشفقتهم. وما كان تصرفه ذلك إلاّ نظراً للحب العميق الذي خصّ به المسيح من يوم ارتداده.كان يشعر كل يوم بعذوبة وحسرة عند تأمّله تواضع ابن الله وقد عزم على اتّباع مثله. يتقبل المرارة التي كان يشعر بها في جسمه، ويعتبرها حلاوة. وبقدر ما كان يتألم يومياً من جرّاء العذابات والحسرات التي تحمّلها المسيح لأجلنا بقدر ذلك كان يعاني في النفس والجسد، ولم يعد يفكر بأوجاعه هو.وحدث مرة، وذلك بعد مرور سنوات قصيرة على ارتداده، أنّه كان سائراً على طريق لا يبعد كثيراً عن كنيسة البورسيونكولا وهو يبكي وينتحب بصوت عالٍ، فالتقى برجل روحاني تعرّفنا عليه سابقاً وكان أظهر لفرنسيس الكثير من المودّة والشفقة من قبل أن يلتحق به أيّ من الإخوة وهو الذي سرد لنا هذا الحادث. قال إنّه لما سمعه يبكي تأثر جداً وسأل: ”ما بك يا أخي؟“ ظاناً أنّه يتألم من مرض ما. أجاب فرنسيس: ”يلزمني أن أطوف هكذا في العالم كله دون حياء بشري باكياً ومنتحباً على ما قاساه سيدي من آلام“. بدأ ذلك الرجل يبكي بدوره ويتنهد مثله بصوت عالٍ.

Mary Naeem 27 - 09 - 2014 05:02 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
السيّد المسيح يكفيك في كلّ شيء (11)
ايلوا لوكلير



لا شيء يعطي أبعاد تأمل فرنسيس مثل هذا النهر الدفاق من المدائح الذي أنهى به قانون عام 1221. تعتبر هذه الصلاة، نظرا لشموليتها وروحها، من أجمل ما كتبه فقير أسيزي. إنها تنطلق إلى الآب بالابن وفي الروح القدس مديحاً يشمل القصد الإلهي وقدر العالم. فيهما يشترك كلّ من هو في السماء وعلى الأرض. سلك في أسلوبها نهج الصلوات الليتورجية الكبرى:
أيها القدير والقدّوس، أيها العليّ والسيّد،
الآب القدّوس والصالح،
ملك السماء والأرض،

إننا نشكرك من أجل ذاتك،
لأنك بمشيئتك المقدّسة وبابنك الوحيد،
مع الروح القدس،
خلقت كلّ الأشياء الروحية والجسدية،

صنعتنا على صورتك ومثالك،
ووضعتنا في الفردوس.
ونحن بخطيئتنا سقطنا.
إننا نشكرك لأنك
كما خلقتنا بواسطة ابنك،
بالحبّ الحقيقي المقدّس الذي به أحببتنا
جعلته يولد، إلهاً حقاً وإنساناً حقاً
من المجيدة مريم العذراء القدّيسة،
وبصليبه ودمه وموته
أردت أن تفتدينا من عبوديتنا.
نشكرك أيضاً، لأنّ ابنك نفسه سيعود
في مجد عظمته،
ليرسل إلى النار الأبدية أولئك الذين رفضوا
أن يتوبوا ويتعرّفوا عليك،
ليقول لكلّ الذين عرفوك،
عبدوك وخدموك بقلب متجدّد :
" تعالوا أيها المباركون رثوا الملك
المعدّ لكم منذ إنشاء العالم
.

وبما أننا كلّنا مساكين وخطأة،
ولا نستحق أن نلفظ اسمك،

فإننا نصلّي ونطلب منك ضارعين
بوساطة ربّنا يسوع المسيح، ابنك الحبيب
الذي عنه رضيت مع الروح القدس المعزّي
حتى يشكرك هو من أجل كلّ شيء
بحسب ما يرضيك ويرضيه،
هو الكافي لك في كلّ شيء
وبه صنعت لنا كلّ الخير. هللويا ..."
هذا هو الجزء الأول من صلاة الشكر الكبيرة. ومديح الله غايتها:" بسببك أنت" الإله الموحي عن ذاته في صنائعه. في الخلق أولاً، وحصرا في خلق الإنسان على صورته.
إنّ الإشارة الحذرة إلى الخطيئة والسقوط، تمهّد لتقديم صلاة الشكر. فالقصد الإلهي لا يتوقف عند السقوط: إنّه محمول بحبّ أقوى من الخطيئة. لذا لا يرفع فرنسيس صلاة شكر من أجل التجسّد. فالحبّ الذي خلقنا هو نفسه، الذي خلّصنا بالابن في تجسّده.
وأخيرا يستبق فرنسيس انتهاء الأزمنة، ويرفع لله صلاة شكر من أجل عودة السيد المسيح المجيدة التي سيختم بها مصير العالم والإنسانية وذلك بإدخال الذين قبلوه وتبعوه، في الفرحة الكبرى فرحة الملكوت.

إنّ فرنسيس، إذ وصل هذا الحدّ من التأمل في كلّ ما فعله الله من أجلنا، وما فعله لما خلق العالم، وبدا وكأنّه أصيب بدوار. إنه عالم بكلّ ما يفصله عن الله، ويعترف بأنّه لا يستحقّ أن يذكر اسمه. لذلك يوجّه لله الآب هذا الدعاء: " ليقدّم لك المسيح، ابنك الحبيب والذي عنه رضيت، مع روحك القدّوس المعزّي، ليقدّم كلّ الحمد من أجل ..."
إنّ هذا التضرّع وهو في صميم شكره يظهر لنا فرنسيس في كامل علاقته مع الله، يكشف لنا المعنى الحقيقي لفقره. به نرى أنّ فقير أسيزي هو خير مقتد بالسيد المسيح، نرى التلميذ الذي حرص على اقتفاء أثر المعلّم عن كثب.
ما ذكر ليس إلا نظرة ألقيت وبقيت بعيدة عن خبرة فرنسيس الإنجيلية. أمام عظمة محبّة الله، وقد أوحى بها السيد المسيح، يكتشف فرنسيس مقدار فقره: يرفض منافسة مثل هذا الحبّ ويعترف بانهزامه: إنّه خاطئ بائس فحسب. بالتالي لن يخلص أبداً إلا بالنعمة.
سرّه الفقر ولم يحطّمه، هو الفقير إلى الله. السيد المسيح وحده يكفي الآب في كلّ شيء. الاكتفاء بالابن هو كلّ ثروتنا، كلّ خلاصنا. إننا لا نستحقّ أن نذكر اسم الله وأن نحبّه بإجلال، لكننا نستطيع أن نقدّم له الحبّ الوحيد اللائق به وبحسب عطائه: الحبّ الذي شهد به الابن الوحيد لله الآب وباسمنا جميعاً.
هذا هو سرّ سلام الفقير الصغير وفرحه. سلام وفرح يعبّر عنهما فرنسيس هنا بكلمة :
" هللويا! نعم! هللويا!"
مع الجموع الغفيرة من المخلّصين، مع قدّيسي الماضي وقدّيسي الحاضر
ومن سيقدّسون أولا مع الطوباوية مريم العذراء الأم المجيدة.


Mary Naeem 27 - 09 - 2014 05:08 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
القديس فرنسيس.. حياة كالصلاة

المحامي عبد الحميد الصمادي

مقدّمة

"يا رب اجعلني أداة لسلامك!!..

لنبشر بالحب حيث الحقد،

ولنبنِ السلام حيث الخصومة,

ولنوقظ الإيمان حيث الشك،

ولنبعث العزم حيث الكابة والحزن,

ولنبذل الصفح حيث الإهانة,

ولنعلن الحقيقة حيث الضلال,

ولنحيي الرجاء حيث اليأس,

ولنشع النور حيث الظلمة" ......

كانت هذه صلاة فرنسيس في مناجاته .
في عصر العولمة والإنترنت أصبح العالم ليس كقرية صغيرة فحسب بل بيتاً واسعاً. إنّ السلام والعدل والمحبة والتسامح والتضامن والصفح والكرامة الإنسانية قواسم مشتركة للقيم التي تدعو إليها الرسالات السماوية ومعظم الفلسفات الأرضية.
وفي عصر طغى فيه حب الذات وإشادة المعابد للمادة, والتنكر للروح نرى أهمية الدعوة للاقتداء بحياة الأنبياء والقديسين والصالحين, ومن أهم نقاط الاقتداء الدعوة إلى الحياة الروحية .. التي تسمو على الطقسيات سمو اللباب على القشور, وإن كانت القشور تعين على حفظ اللباب, وتحوطه بحرز لابدَّ منه. وإلى هذا الجوهر أشار السيد المسيح بقوله: "إنّ ملكوت الله في داخلكم"..
فالحياة الداخلية هي اتصال مباشر بالله, ولا ريب أنًّ للمطالعات الروحية وقعا في النفس, يملك عليها مشاعرها ويبعث فيها الغبطة, لأن روحاً علوياً يشيع فيها, فتقرأ وراء السطور أكثر مما تقرأ في السطور.
يقول غوستاف تيبون: "الخطيئة الجوهرية , بل ربما الخطيئة الوحيدة هي محاولة إرواء العطش الأبدي بالنهل من كؤوس الزمن" (1).
إنه ثمة أسلوبين لتلقي الأشياء: الأول إعطاءها طابعاً أرضيًا يجعلها تقصينا عن الله.
والأسلوب الآخر نتلقى به الأشياء على أنها هبة من الله, مما يسبغ عليها طابع السماء, ويجعلها تقذف بنا بين يدي الله, وهذا هو أسلوب الروح وعمله، وعليه فإنّ كل الخيرات نابعة من الله وينبغي أن تعود إليه, وعلى البشر تأمين هذه العودة بشكر الله وبالمشاركة فيما بينهم.
ومن أهم الخيرات التي يتحتم إعادتها إلى الله هي الإرادة , تلك الثمرة التي أدّت الرغبة في التمتع بها في معزل عن الله إلى طرد الجنس البشري من الفردوس.
أبوانا الأولان كانا يعرفان الله طالما لم يستأثرا بإرادتهما , ولكن الاستئثار بالإرادة يوصد دون الإنسان كل ُسبل المعرفة, فالمعرفة هي نور النفس واستقامة الإرادة, وصفاء القلب, ولا شأن لها بغزارة العلم.
إنّ الفرق بين القداسة والضحالة, بين السمو والتفاهة: قضية إرادة, واستجابة لنداء. ووراء كل حياة فاشلة, وكل غاية لم يتم بلوغها, خطوة لم يجرؤ المرء على اجتيازها, ومخاطرة تقاعس عن خوضها.
إنّ العلم المزهو بذاته يقود إلى الكبرياء التي تحجب صفاء الرؤية, وإلى الأنانية التي تستعبد صاحبها, وإنّ من يتحرر من ربقة إرادته الخاصة, ويستسلم لمشيئة الله تتبسط إرادته وتتحرر, ومن ثم تتسع وتتعمق بحجم الكون, ولا يعود شيء يفصله عن العمل الخلاّق ,إذ يصبح طيعاً بين يدي الله الذي يصنع منه ما يشاء , ويقوده إلى حيث يشاء, فيسير بهدي السماء.
من هنا فالقديسون هم أمل العالم, لأنهم يشقّون دروب المصالحة في غابة التاريخ, ويُبقون جذوة الروح في ليل الإنسانية المدلهم وفي شتائها القارس.
وضمن هذا الإطار تأتي أهمية دراسة حياة القديسين والصالحين ومنهم القديس فرنسيس الأسيزي الذي قيل عنه بأنه أكمل صورة للمسيح...
يُعزى إلى لينين قوله وهو يحتضر: "قد أكون ضللت طريقي, فالعالم في حاجة إلى حفنة من أمثال فرنسيس, أكثر من حاجته إلى ثورة" (2)
وإنني أشاطر الأديب الكبير الأستاذ أديب مصلح قوله: "لقد تعلمت من تجربتي مع غاندي وفرنسيس أنّ معاشرة أولياء الله الحميمين حافلة بالمخاطر ولقد طالما طاردني إنذار فرنسيس: "علينا نحن خُدام الله أن نشعر بالخزي , فالقديسون هم قد فعلوا, أمّا نحن فنكتفي بسرد ما فعلوه كي نستمد لأنفسنا من جراء ذلك التكريم والتمجيد"(3)
بعد هذه المقدمة ندخل إلى عالم القديس فرنسيس الأسيزي...


http://www.peregabriel.com/gm/albums...si-granger.jpg

أسيزي
هي مدينة إيطالية زراعية صغيرة, تربض على سفح جبل "سوبازو" في منطقة "أومبريا" وعلى مقربة من مدينة "بيروجيا" الجامعية في وسط إيطاليا.
وتاريخ هذه المنطقة يضرب بعيداً في أغوار الماضي السحيق, ويحفل بالتعاقب الحضاري إلى أن عرفتْ الإله الواحد, بفضل بُشرى الإنجيل التي آلى فرنسيس على نفسه العودة إلى منبعها وأصالة سموها، وذلك بعد اثني عشر قرناً من انتشارها.
ولا بدَّ من الإشارة أنّ القديس روفان القادم من الشرق, كانت له اليد الطولى في نشر المسيحية في أسيزي, والتي عرفانا بفضله اتخذته لها شفيعاً وأطلقت اسمه على كاتدرائيتها.
وخلال متابعتي لبرنامج تلفزيوني عن الفن الإيطالي ورد أن أسيزي ثاني مركز ديني في إيطاليا.(4)
المهم أنّ أسيزي هي موطن فرنسيس فحسب.




أسرة بيروناردوني:
قبل أن يقترن اسمه بأسيزي, كان فرنسيس يحمل كنية بيرناردوني فهو الابن الأكبر لبيتر بيرناردوني تاجر الأقمشة وهو أحد أثرى تجار أسيزي وزوجته الفرنسية السيدة "بيكا" . المرجح أنه ولد في ربيع عام 1182م. (5)
ولا نستغرب أن غدت سيرة فرنسيس أعجب من أسطورة وأن تزدهر الأساطير حول ولادته.
فقد رُويَ أن أجل مولده قد حل, ومضت أيام عديدة ولم تشعر"بيكا" بآلام المخاض, فاستبد بها القلق وحينئذ طرق باب المنزل عابر سبيل, وأوعز إلى الخادم بإبلاغ السيدة بأن عليها المثول إلى الإسطبل الملحق بالمنزل وانتظار مولودها فيه.
و يُقال أنه ما كادت السيدة "بيكا " أن تضطجع على القش حتى داهمتها الآلام ولم يطل بها الأمر حتى أهلّ وليدها على غرار طفل المغارة "السيد المسيح" (6)..
وبعد بضعة أيام من ولادته, طرق متسول وألح في رؤية الوليد وما إن تناول هذا الغريب الطفل بين ذراعيه, حتى تنبأ قائلا: بأنّ ذلك اليوم الذي ولد فيه الطفل قد شهد ولادة صبيين في أسيزي, سيصبح أحدهما من أفضل الناس, فيما سيصبح الآخر من أسوئهم, وقد أجمع المعلقون على أن فرنسيس هو الأفضل ومضوا يجتهدون في استبانة الأسوأ؟...
ولكن ألا يمكن أن يكون كلاهما واحدا ؟ الأسوأ: فرنسيس الشاب الضال، والأفضل: فرنسيس الذي استسلم لفعل النعمة وانتهج أوعر الطرق سبيلا ًإلى الكمال.
أولا يتعايش في حنايا كلّ ٍ منا الأفضل والأسوأ معا؟
والحرب ناشبة أبدا بين قوى الشر المتحكمة بوهننا, ونوازع القداسة التي تؤرقنا.
اختارت الأم لوليدها اسم "جيوفاني" أي يوحنا تيمنا بالمعمدان , وكان الأب مسافراً، فلما عاد بدل اسم الطفل فجعله فرانسيسكو أي فرنسيس, ويبدو أن ذلك كان تحية ومودة منه لـ "بيكا ". (7)
وتعلم الطفل من والديه اللغتين الفرنسية والإيطالية, وأخذ اللغة اللاتينية عن قس الأبرشية, ولم يكن له بعدئذٍ نصيب من التعليم المنظم {وقد ظل فرنسيس حتى آخر أيامه يصف نفسه بالجاهل مع أنه في معايير زمانه كان مثقفا ً}.
وقد استمد سجاياه المحمودة من أمه المعروفة بالوداعة والقوة والإيمان وبوقف حياتها على خدمة أسرتها, فنشأ الطفل طافحاً بالحياة لطيفاً رقيقاً ساذج القلب.
وقد مرنه والده على أعمال التجارة، وسرعان ما انتظم في عمل أبيه فمهر في البيع والربح, إلا أنه أغضب والده بما أظهره من قدرة على صرف المال تفوق قدرته على كسبه, فقد كان أغنى شباب البلدة وأسخاهم يدا، يجتمع حوله أصدقاؤه يطعمون معه ويشربون, ويغنون أغاني الشعراء الغزليين... وكان شاباً وسيماً صبوح الوجه, جميل الصوت.
ويقول مترجمه الأولون: بأنه لم تكن له قط صلة بالنساء ...
قارب فرنسيس العشرين من العمر, وهو عامر بالأحلام والآمال, وكان يتحمس لكل ما يتعب ويرهق, ويجد السرور بذلك, وأخذ يضطرم شوقا إلى أن يحيا ويحارب في سبيل الوطن... وإذا بالحرب تنشب بين أسيزي و بروجيا فكان ذلك مناسبة جديرة بميول فرنسيس، دفعته إلى أن يكون في عداد الفرسان المتسلحين، وهو يطفح جرأة واعتزازاً وشباباً.
تأججت المعركة فوقع فرنسيس أسيراً بعد أن كان في طليعة القوم ومع ذلك ظل قرير العين، بشوشاً في أسره، وبالرغم من ضيقه، كان يشدد عزيمة رفاقه (8).
وقضى في الأسر سنة كاملة شغلها كلها بالتأمل العميق (9).
ولمّا عاد من السجن ابتلي بالمرض، فكان ذلك أول آثار النعمة، التي جعلت قلبه يتجرد مما ألفه من أفراح الدنيا (10).
ثم تطوع في جيش البابا إنوسنت الثالث عام /1204م/ وبينما هو طريح الفراش ينتفض جسده من الحمى التي أصابته، إذ خّيل إليه أن صوتاً يناديه: "لم تهجر الإله إلى الخادم، والأمير إلى تابعه ؟؟".. فنادى فرنسيس ذلك الصوت: "رباه ماذا تريدني أن أفعل!!..".
فما كان منه إلا ّ أن ترك الجيش وعاد إلى أسيزي، وقل اهتمامه بتجارة أبيه وازداد اهتمامه بأمور الدين (11).
وتغلب فرنسيس على الشغف بشؤون الدنيا وراح يرحب ترحيباً سخياً كاملاً بدعوة الله، فانتعشت حياته بروح جديدة، وجعل يعكف على الصلاة والتأمل، ويتردد إلى العزلة، وكان أول امتحان يتعرض له هو رؤيته لأبرص أثناء تجواله على جواده في حقول أسيزي، وأقبل هذا الأبرص نحوه وكان شنيع المنظر يثير الاشمئزاز، فسولت له نفسه أن يهرب من مواجهته!!.
إلا أنه تمهل، ونزل عن جواده، ولم يأنف من معانقة هذا الأبرص وتقبيله فشعر أنه أمسى شخصاً جديداً، وبأن نوراً جديداً سطع في باطنه، وعاطفة جديدة شرعت تطفح من قلبه... وبعد ذلك توجه إلى خدمة البرص، وصار يتردد إلى المستشفيات، ويزور السجناء، ويدافع عن المضطهدين، ويعزي الحزانى...
وقد ترك فرنسيس في وصيته ما يلي: "عندما كنت أتخبط في الخطايا، كان يشق علي أن أشاهد البرص، لكن الرب اقتادني إليهم، فانقلب الأمر عذباً على قلبي وجسمي حتى هجرت العالم".. "إنّ نعمة الله تجعل المستحيل ممكناً" (12).
لقد حررته قبلته للأبرص من أغلال خانقة كانت تكبله، وكان ذلك أعظم انتصار حققه فرنسيس، إذ انتصر على ذاته وبات حقاً سيد نفسه (13).
ولكل امرئ ٍ في حياته، أبرص من نمط ٍ خاص، لا بدّ أن يتجرأ فيقبله، كي يظفر بالتحرر..




بعد ذلك انقطع فرنسيس إلى الخلوة في كنيسة داميانس القديمة {وهي كنيسة متصدعة البناء} وهناك خُيل إليه أنه سمع صوت يسوع، يقول له: "قم يا فرنسيس رمم بيتي المتداعي" (14).. وفي مراجع أخرى: "قم يا فرنسيس أصلح كنيستي" (15)..
لم يظن فرنسيس أنّ هناك معنى آخر لقول يسوع فراح يرمم بيديه الكنائس والمعابد المتداعية المتصدعة، إلا أنّ العناية الإلهية ما لبثت أن أقامت من فرنسيس صياداً للنفوس...
حيث أدرك في تواضعه بأنّ الدعوة لم تكن إلى بناء كنائس من حجارة فحسب بل إلى بناء كنيسة النفوس أيضاً.
وأمام أسقف المدنية وبمشهدٍ مؤثر أعاد إلى والده ما لديه من مال وكذلك الملابس التي كان يلبسها {نتيجة شكوى من والده عليه إلى الأسقف} (16).
شعور رائع بالتحرر والانطلاق، والفرح الدافق، كان يستولي على نفس فرنسيس بعد أن تجرد من كل شئ .
قلة من البشر هم الذين تسنى لهم مثل هذا الشعور، وقد حدثنا عن مثله غاندي الذي صرح بأنه: مذ تجرد من كل امتلاك، اغتنت تجربته بعناصر أربعة: الحياة والقوة والحرية والفرح.


في مطلع عام 1208 م كان فرنسيس في حوالي السادسة والعشرين من عمره وقد أصبح إنسانا آخر! وبينما هو في كنيسة مريم سيدة الملائكة سمع في قراءة القداس الإنجيلية آية أثرت فيه تأثيرا بالغاً: "اذهبوا وأعلنوا البشارة وقولوا: قد اقترب ملكوت السماء".. فأوحت هذه الوصية الإلهية لفرنسيس بتجاوز العزلة التي جاء إليها يبحث عن الله وسط طمأنينة الحقول وتغاريد العصافير. فقد تبين له السبيل الواجب عليه سلوكه, سبيل الحياة الإنجيلية, بعثته على أن يطوف الأرض هاتفا بكلمة المعلم ... وإذا به يزهد أكثر، فأخذ يخاطب الجماهير.. وهكذا أصبح واعظاً. وعلى آثار يسوع كان فرنسيس يمر بالقرى والمدن يعمل الخير ويعظ بحب الله و التقوى والتواضع, وكانت الجموع تخرج لملاقاته يحمل بعضهم أغصان الزيتون يهتفون: هو ذا القديس، ها هو القديس!

يقول القديس فرنسيس في النصائح :
"نعرف أنّ عبد الله يُنعَم بروح الله , إن صنع الرب على يده خيراً ما, فلا يفخر, بل يستخف بذاته, ويعتبر نفسه دون الآخرين"(17)..
لم تكن طباع أهل ذلك الزمان أفضل من طباعنا, ولكن كانوا يمتازون بشيء من الفطرية, فكان فرنسيس يجتذب الناس بإنشاده بحمد الله وتسبيحه, ثم يخطب فيهم, فيتأثرون بكلامه وبعضهم يلتحقون به.
قام فرنسيس وتناول الأمر بطريقة مسيحية فأنشأ أسرة رهبانية هي "أسرة أخوة" يتساوى فيها الجميع .. وكانوا يقومون في النهار بكل عمل يطلب منهم, ويخصّون بنشاطهم الفلاحين في الحقول, والمرضى في المستشفيات, وينتقلون من بيت إلى بيت يلقون في القلوب المحبة والإيمان والسلام, ويعلمون الناس حب الحياة. وفي الليل الصامت كانوا يقبلون على الصلاة والتأمل.. وهكذا أقام فرنسيس "رهبانية الأصاغر"، التي قامت على الفقر والتواضع والمحبة والصلاة والعمل.


في ليلة من صيف عام 1210 رأى البابا إنوشنسيوس الثالث حلماً مرعباً, تمثل له فيه أن كنيسة القديس يوحنا اللاتراني (الكنيسة الأم) قد أخذت تتداعى وتنذر بالانهيار فاستولى عليه الحزن والخوف مما جعله يصيح "أنقذوا الكنيسة"!.. وإذ يتراءى له على حين غرة شخص فقير, قصير القامة, خشن الثوب, مؤتزرًا بحبل, يرافقه اثنا عشر رجلاً يرتدون الزي نفسه. فتساءل البابا: "ماذا عسى هذا الشخص أن يفعل؟".. وإذا بهذا الشخص الفقير يعانق الكنيسة ويسندها ويتوصل بجرأة إلى توطيدها وتثبيتها.. فتوجه البابا إلى الله يدعو: "رب.. ليت هذا يتحقق!"(18).. وعندما جاء فرنسيس و إخوته إلى روما ليطلعوا البابا على مشروع رهبانيتهم تبين أن ّوصف فرنسيس ينطبق على وصف الشخص الذي تراءى للبابا في الحلم
وكان البابا أشنسيوس الثالث من أكثر باباوات القرون الوسطى حزماً ونفوذاً ورهبةً, ومن أكثرهم أيضاً رغبة في إصلاح الكنيسة. فعندما طلب فرنسيس الاعتراف بـ "الأخوية الرهبانية" التي أنشأها لم يتردد بالاعتراف بها شفاها, ولكي يُسبغ الحبر الأعظم على هذه الأخوية طابعاً مميزاً أمر بقص شعر رؤوسهم قصة مستديرة على شكل إكليل، علامة على تكريسهم , و دعاهم إلى انتخاب فرنسيس رئيساً عليهم , كما حثَّ فرنسيس على أن يكون لهم الراعي والدليل.
رجع فرنسيس وإخوته تصحبهم بركة نائب المسيح, إلى وطنهم (إمبريا) وقد أصبحت (جليل) إيطاليا {تشبها بجليل فلسطين}, وكذلك أصبحت كنيسة سيدة الملائكة بمثابة (مهد) لهم [تشبها بكنيسة المهد في بيت لحم]، وجعلوا يسيرون في المدن اثنين اثنين, يحف بهم جو عجيب من أخوة حدت بالكثيرين على الانضمام إليهم .




بعض رفاق فرنسيس:
أول رفيق معروف لفرنسيس هو برناردو دي كوانتافالي وهو أحد وجهاء أسيزي وأثريائها, وقد حصل على شهادة دكتوراه في الحقوق من جامعة بولونيا الإيطالية. وكان قد اشتهر بسداد رأيه وحرصه على تمحيص الأمور, واستقراء أسبابها وعواقبها. حيث غدا مرجعا للكثيرين في النهج الذي يتوجب عليه سلوكه.
الرفيق الثاني يدعى بييترو دي كاتانيا, صديق لبرناردو, وهو أيضاً حقوقي ووجيه وكان المستشار القانوني العلماني لأبرشية أسيزي.


لم يكن يلزمهما سوى التخلي عن كل شيء وارتداء ثوب الرعاة الخشن مثل فرنسيس كي يصبحا الأخ بيرناردو والأخ بييترو, بعد أن مات فيهما الوجيه والثري و العالم.
أما الثالث فهو سلفستر, كاهن بخيل, سبق وأن باع فرنسيس حجارة لترميم كنيسة داميانس, ولكن عندما رأى فرنسيس يوزع قطع ذهبية متبرع بها على المعوزين والفقراء في ساحة جاورجيوس في أسيزي ( في نيسان عام 1208 ) يومها دنا هذا الكاهن من فرنسيس وادعى أنه تلقى ثمنا بخسا لتلك الحجارة... إلا أنه بعد محاورة بينه وبين فرنسيس أصبح سلفستر هو الكاهن الأول في جماعة فرنسيس بعد أن ترددت في حنايا صدره كلمات المسيح: "لا يستطيع الإنسان أن يعبد ربين.. الله والمال".
ألبس فرنسيس جماعته زيا من النسيج الخشن ذي اللون المُغبَر لون العصفور الدوري الذي كان أثيراً على قلب فرنسيس. وحتى الآن لا يزال الفرنسيسكان يلبسون ما يشبه هذا الزي.
في عام 1211 بلغ العدد نحو أربعين أتوا من شتى المنابت والطبقات وكل منهم احتفظ بأسلوبه الخاص في ممارسة حياته الفرنسيسكانية, وفي الإسهام في شؤون الأخوية, فموريكو كان حطاباً، وإيجيديو كان صانع سلاسل, و انجيلو كان صياد سمك يستبدل حصيلة صيده بالخبز والزيت لإطعام إخوته, في حين كان الطويل يساعد الفلاحين في الحصاد ويعود كل يوم بشيء من الحب يطحنه أحدهم و يخبزه آخر. أما ساباتينو فكان يعمل كرّاماً, و فرنسيس أيضا كان يساعد الفلاحين في القطاف أو أي عمل يدوي آخر ... وهكذا بقية الجماعة.
ومن أعجب من جاؤوا إلى فرنسيس فتاة من أسيزي تدعى كلارا, كانت غنية وجميلة ومن أسرة شريفة, وكان في وسعها أن تحظى بمنزلة عالية في الحياة, ولكن ما إن سمعت ذات يوم عظات فرنسيس في الله حتى استقر رأيها على أن تتبع فارس المسيح البطل. ففي 1211 بادرت إلى سلوك سبيل الفقر والتواضع والعمل, ووقفت حياتها على خدمة الله. وهكذا كانت "كلارا" النواة لنشوء "الرهبانية الثانية" التي لقبها فرنسيس برهبانية "السيدات الفقيرات" ومهدها كنيسة القديس داميانس (19)..
أجل كن فقيرات, ولكنهن سيدات, فالسيادة الحق سيادة الروح...




ذات ليلة من عام 1216 وفي معبد سيدة الملائكة, حيث كان فرنسيس يضطرم حباً في الله تراءى له يسوع ومريم يحف بهما العديد من الملائكة, فأوعز إليه يسوع بأن يسأله ما يشاء لخير النفوس فأجابه فرنسيس: "أسألك أنا الخاطئ المسكين غفراناً كاملاً لكل تائب اعترف وتناول وزار هذه الكنيسة"، فقال يسوع: "طلبتك عظيمة جدا وإني لمجيبك إليها, فاذهب إلى نائبي على الأرض و اسأله باسمي هذا الغفران".. وفي فجر الغد، اصطحب فرنسيس أحد الرهبان وذهب إلى البابا في بروجيا حيث كان يومئذ "هونوريوس الثالث" فوقفا بين يديه طالباً منه فرنسيس الغفران لكل تائب، و أخذ البابا العجب من طلب فرنسيس فسأله: إلى كم سنة تريد هذا الغفران؟.. فأجابه فرنسيس: "أيها الأب الأقدس: أنا لا أطلب السنين, وإنما أطلب النفوس".. ثم ردد فرنسيس قول يسوع، فأجابه البابا بأنه لم يسبق له أن منح مثل هذا الغفران.. أجاب فرنسيس: "أيها الأب الأقدس لست أنا الذي أطلب هذا الغفران, إنما يسوع المسيح أوفدني إليك" , فتأثر البابا تأثراً بالغاً .. ثم قال ثلاثا: "باسم الله أمنحك هذا الغفران للأبد, فيمكن اكتسابه مرة في السنة, من العصر إلى غروب اليوم التالي, .." وقد مدَّ الأحبار الأعظمون هذا الإنعام إلى جميع أيام السنة. (20)



توجه أبناء الرهبانية الجديدة لفتح العالم من غير غنىً أو سلاح.

يقول أنطوان دي سانت اكسو بيري: "يبغض الناس بعضهم بعضا لأنهم يعانون من البرد" (21)، وكان فرنسيس، وهو الرقة المتجسدة, يعرف سر بعث الدفء في الآخرين ومن ثم حملهم على المصالحة, فالقلب الذي يسودّ فيه السلام يصالح من يلامسه، أي عدوى، وقد ذكرت في موضوع الثقافة بأن الثقافة طهر والطهر يعدي .(22).. القداسة تثير إعجاب الكثيرين, بيد أنّ عدواها لا تصيب سوى القلة. وقداسة فرنسيس سرعان ما عمت واعترفت بها الجماهير في أسيزي و جوارها, أما الرغبة في احتذائها, فكانت بادئ الأمر نادرة بطيئة ومبعثرة. والجدير بالذكر أنّ إيطاليا التي كانت حقلاً لتبشير فرنسيس الإنجيلي كانت في الوقت ذاته ساحة تتصارع عليها شتى البدع والمذاهب, فلم يقاومها فرنسيس بالعنف أو الشتيمة أو الجدل العقيم والحُرم الكنسي على نحو ما فعل رجال الأكليروس آنذاك, بل أشاع روحا جديدا, جعل كل البدع تتلاشى, و تتوارى تلقائيا كما تتوارى الخفافيش لدى شروق أشعة الشمس الساطعة. فالمحبة, ومثال الحياة خير عظة. وثورة القدوة أبلغ أثرا وأبقى بما لا يقاس من الثورات العنيفة.(23)
كان فرنسيس يرفض كل مال وكل امتلاك, ويتوخّى فقراً مطلقاً, وعليه هو وأخوته أن يعملوا لقاء بُلغة العيش, ولا يقبلوا من أجر سوى طعام يومهم, وأن يرفضوا المال رفضاً مطلقاً, إلا ما كان منه لازماً لابتياع الدواء لأخٍ مريض. فالمال كالدود في الثمر يفسد العلاقات بين البشر. ويبرر فرنسيس عدم الامتلاك بقوله: "لو كان لدينا ممتلكات لكان لزاماً علينا أن نمتلك أيضا أسلحة للدفاع عنها، ويسوع ينهى عن الحرب ويأمر بالسلام بين البشر, فكل امتلاك يولد لا محالة خصومة مع القريب, من شأنها النيل من محبة الله و محبة الناس. ومن ثم لكي نحتفظ بهذا الحب نقياً وسليماً فنحن عازمون عزماً مطلقاً على ألا نملك شيئا في هذا العالم".
أذكر قولاً لبوذا: "إنّ همّ الإنسان فيما يملك, فمن كان بلا ملك كان بلا هم (25)".

يمتاز الفرنسيسكانيون عن سائر الرهبان ورجال الكنيسة بالمساواة فيما بينهم وانعدام الألقاب, والطبقات والسلطات وبتسميتهم "أخوة" وبتسمية جمعيتهم "أخوية". والحقيقة أنّ هذا النهج يعتبر فتحاً في الكنيسة والمجتمع.


أما ميزتهم الرئيسية فتعبر عنها التسمية التي أطلقها عليهم فرنسيس "الإخوة الأصاغر" وذلك على حد قوله: "لكي لا يتطلعوا يوماً إلى أن يصبحوا كبارا ًويرتقوا فوق الآخرين, فهم مدعوون إلى أن يبقوا في الأسفل وأن يقتدوا بتواضع المسيح ". وحظر عليهم قبول أية وظيفة يمارس فيها الأخوة إدارة أو سلطة على أي كان, بل على كل منهم أن يكون الأصغر.
.. كتب فرنسيس في نظام الأخوية عام 1221: "على الأخوة أن يكونوا سعداء عندما يجدون أنفسهم في صحبة صغار القوم الوضيعين والمحتقرين والفقراء وذوي العاهات والبرص والمتسولين ".(26).. أي ما يطلق عليهم في الهند "المنبوذين" و"الأندبور" (أندبور جمع، مفردها أندبوري أي فقير هندي). وأذكر هنا قولاً لـ "طاغور": "إنّ قلبي لن يجد سبيله نحو من ترافقهم, بل نحو من لا رفيق لهم من الفقير والحقير والضائع والمسكين" .(27)
لم يكن فرنسيس لاهوتياً ولا رجل قانون, ومن ثم لم يكن بوسعه الدفاع عن قضية الإنجيل والفقر المطلق, إلا بصفته صوفيا ينفّذ بفرح جميع وصايا المسيح .(28).. وبالفعل كان فرنسيس الأنموذج والمثل لمجموعة "الأخوة الصغار". وقد ورد في الموسوعة العالمية (29): "أنه من المحتمل ألا يكون أي فرد في التاريخ قد قام بنفسه كما فعل فرنسيس في تقليده حياة المسيح و ما أمر به حرفيا, حيث تحول من حياة الدير التنسكية الآمنة إلى تتبع حياة المسيح, وكان ذلك مفتاحا لأسلوب حياته كمحب للطبيعة وفاعل اجتماعي ومحب للفقر وواعظ جوال .
وبالتأكيد فالفقر ومحبته تبدوان جزءاً من روحه وفخره, واعتبر أنّ الطبيعة مرآة لله وأنها خطوات إليه, ودعا جميع المخلوقات أخوته, ففي كتاب: تسبيحات الخلائق أشار إلى أختنا الشمس, وإلى أخينا القمر, وإلى أخوينا الريح والمطر, وحتى إلى أخينا الموت.. (30)"..


استطاع فرنسيس بفضل التنكر عن الشهوات إقامة علاقات سلام مع الجسد المروض الذي استغنى عن كل مطلب خاص, فبات بإمكانه أن يدعوه "أخانا الجسد". وبالتالي استبعد واستنكر أساليب تعذيب الذات التي يلجأ إليها بعض النساك (31). وكان يؤكد على جماعته بأنه على كلٍٍٍٍٍٍٍّ منهم أن يعطي جسده حاجته لكي يجد فيه خادماً قادراً على تلبيته. ومع أنه يتوجب عليهم الحذر من الإفراط في الطعام الذي لا يقل ضرراً بالجسد عن ضرره بالنفس, إلا أنه يتحتم عدم الإفراط في التقشف.
في أحد الأيام كان على سفر مع الأخ ليون الذي خارت قواه فجأة, وكان إلى جانب الطريق كرم عنب, فانسل إليه فرنسيس واقتطف منه بعض عناقيد أعادت للأخ ليون نشاطه ولكن ما لبث أن انقض صاحب الكرم على السارق وهو فرنسيس فأوسعه بعصاه ضرباً وكانت مناسبة كي يشكر فرنسيس للرب امتحانه له, ولشدة فرحه ظل طوال الطريق يمازح الأخ ليون منشداً ومكرراً : "الأخ ليون أكل ما لذ وطاب.. وفرنسيس هو الذي أدى الحساب... الأخ ليون تمتع.. وفرنسيس هو الذي توجع.


http://www.peregabriel.com/gm/albums...2shpvep_ph.jpg

لقاء مع أمير المؤمنين:
استغل فرنسيس هدنة عقدت بين فريديريك الثاني والملك الكامل (السلطان الأيوبي في مصر), فعزم على المثول إلى ديار المسلمين لمحاورتهم عوضاً عن مقاتلتهم, رغم معارضة القادة العسكريين والأساقفة. فاصطحب أحد الإخوة ومضى, ولم يكن يعتبر أحداً عدواً بل كان يرى في كل إنسان صديقاً محتملا ً؟ وما لبث أن اعترضه ورفيقه، جنود الملك، فهتف بأعلى صوته "سلطان ! سلطان!"، فأوثقهما الجنود ومضوا بهما إلى المعسكر, حيث أوضح فرنسيس رغبته في محاورة السلطان.. وكان الملك الكامل من سعة الفكر والتسامح, والاهتمام بالنقاش حيث رحب بالراهبين, وسرعان ما أخذت السلطان بالراهب مشاعر المحبة والإعجاب وانعقدت بينهما وشائج صداقة حميمة, ودعا السلطان فرنسيس إلى البقاء بجواره.. فاعتذر فرنسيس, فأغدق الملك الهدايا على فرنسيس الذي رفضها كلها رغم حث السلطان له على أخذها وإنفاقها على الفقراء, ويقال إنه اقتصر من كل تلك الهدايا على بوق بات يستعين به على دعوة الناس إلى سماع عظاته.


ويُقال إن الملك الكامل قد دعا فرنسيس للصلاة معه في أحد المساجد فلم يتردد القديس في الاستجابة لتلك الدعوة, وقال: "إنني سأدعو, .. ربي, فالله في كل مكان"!..
ولا ريب أن ذلك اللقاء قد قوم لدى كل من الرجلين فكرة مسبقة خاطئة عن معتقد الآخر, فاتضح لفرنسيس أنه يمكن أيضا عبادة الله الواحد خارج المسيحية, كما تبين للملك الكامل أنّ المسيحيين الحقيقيين هم دعاة حب وسلام. وبالإجمال كانت تلك حقاً خطوة "مسكونية" قبل الأوان. وقد شقّ فراق الرجلين على كليهما, وأنفذ الملك مشيعين واكبوا فرنسيس ورفيقه حتى مخيم المسيحيين.
اضطر فرنسيس للعودة إلى إيطاليا مسرعا إثر خلاف نشب بين أتباعه، حيث تنازل في عام 1221 عن رئاسة الرهبنة تواضعاً وتيسيراً للأمور, ثم واصل وعظه, ومضى في حياة التقشف.(33) باذراً أينما حل كنوز كلامه وفضيلته.




مجمع الحُصر:

مما ينطق بصلاح الرهبانية الفرنسيسكانية المجمع المسمى بمجمع الحصر (بسبب الحصر التي أعدها فرنسيس لسكن الرهبان) حيث بلغ عدد الذين استطاعوا الحضور نحو خمسة آلاف أخ قدموا من إيطاليا ومن أقطار عديدة .
قام فرنسيس في المجمع وخطب في الإخوة قائلا ً: "قصيرة هي لذة الدنيا!! أبدي العقاب الذي يليها!! الألم وقتي, أما مجد الحياة الأخرى فلا حد له "(34)




في سنة 1221 أخذ غصنا جديدا ينمو على الجذع الأصيل، إلى جانب الأخوة الأصاغر وراهبات كلارا (الرهبانية الثانية)، وهذا الغصن هو الرهبانية الثالثة: وهذه الرهبانية أنشأها فرنسيس للعلمانيين من كلا الجنسين, ووضع لها قانونا يرمي إلى تقديس حياة أولئك, من غير أن يتركوا العالم . وفي سنة 1223 أقر البابا (هونوريوس الثالث ) رسميا الرهبانية الفرنسيسكانية .



مغارة عيد الميلاد

لما اقترب ميلاد سنة 1223 راودت فرنسيس فكرة بأن يعيد ذكرى ولادة يسوع الطفل كما ولد في بيت لحم , حيث عثر على مغارة واسعة فأقام فيها مذودا ونثر على الأرض تبنا وأحضر ثورا وحمارا, وأعد كل ما يلزم للاحتفال، وتوارد المسيحيون من الضياع القريبة, وبأيدي بعضهم المشاعل, وألفوا شبه إكليل ضمن المغارة. وعند منتصف الليل أقيم القداس الإلهي, وخدم فيه فرنسيس كشمّاس إنجيلي, وألقى على الحاضرين خطبة في سر الميلاد.
ومنذ ذلك الحين جرت العادة أن تقام مغاور الميلاد, لتدخل السرور على قلوب الملايين من الصغار, وتحرر من الجمود قلوب ملايين الكبار (35)..


http://www.peregabriel.com/gm/albums...si-granger.jpg

مصالحة

يروى عن فرنسيس أنه صالح أهالي ( جوبيو ) مع الذئب الذي كان يروعهم حيث عاش الذئب سنتين بعد ذلك، يُقدم الأهالي له الطعام دون أن يؤذيهم (36)
ولا عجبَ أن يأنس فرنسيس بالحيوانات , ولا سيما بالطيور ويشغف بها , ويحبها ويخاطبها، وهو القديس الشاعر يرى ما بين الإنسان والحيوان والنبات والبحر والطبيعة كلها من قرابة وثقى متأتية من الأصل الواحد , فيحس في كل جوارحه وأعماق نفسه بما يربط الخلائق بعضها ببعض ويربطها جميعها بالله. وفي كتاب "الزهيرات" أمثلة كثيرة ومنها عظته للعصافير..


بلغ فرنسيس في تجواله بقعة من الأرض كثيرة الطير حتى لتغدو جنة غناء . فكانت العصافير تتطاير وتتلاحق وتسعى إلى قوتها وهي تزقزق .فوقف يتأملها , وقد أخذ منظرها بمجامع قلبه فقال لرفيقه: دعني أعظ اخوتي العصافير!.. وغادر الطريق إلى حيث العصافير. وما أن بدأ بالكلام حتى حطت حوله ساكنة, كمن يصغي ويفهم , وهو يروح ويجيء, وهي لا تنفر: "عليكم، لله أيتها العصافير , أن تعرفوا جميله وتسبحوا بحمده في كل آنٍ ومكان، لقد أعطاكم أن تطيروا حيث شئتم, وكساكم من الكسوة ثوبين أو ثلاثة, ووفر لكم من الطعام ما لا تتعبون فيه, وعلمكم أن تغنوا وبارككم بكثرة النسل".. وتابع وعظه لهم إلى أن قال: "حذارِ، إخوتي العصافير , من نكران جميل الله وجحد آيات فضله والتقصير في حمده ".. وقامت للطيور على هذا الكلام ضجة ففغرت المناقير وخفقت الأجنحة, واهتزت الرؤوس, وسرت موجة الطرب حتى إلى فرنسيس, فبارك الطيور وأطلقها فانطلقت..(37)..


لما ساءت صحة فرنسيس وشعر بدنو أجله , استدعى إخوته و الأخت كلارا و أخواتها، وفي نشوة سماوية راح يتغنى بلحن استوحاه من فرحه وغبطته وهو نشيد الخلائق أو نشيد الأخت الشمس: "أيها الرب الكلي السمو والقدرة والمحبة.. لك التسبيح والمجد والتكريم.. وكل تبريك.. بوركت يا إلهي عن أختنا و أمنا الأرض.. التي تغذينا وتسندنا وتنتج شتى الثمار.. والأزاهير والأعشاب ... مجدوا الرب وامدحوه .. اشكروه واخدموه... جميعكم بكل تواضع "(38)..

إن أهم فقرة أضافها فرنسيس إلى نشيد الخلائق عندما دنا أجله فعلا ً، حيث طلب من الإخوة أن يغنوا له أنشودة المحبة بخاتمتها التالية: "نحمدك اللهم حمداً لأجل أخينا الموت, موت الجسم, الذي لا ينجو منه من الأحياء حي، الويل لمن يموت موت الخطيئة والهلاك, والطوبى لمن يتمم إرادتك المقدسة، إذ لا يستطيع الموت الآخر إليه سبيلاً " (40)..
قال أحد الفرنسيسكانيين : "إنّ نشيد الخلائق هو عهد القديس فرنسيس, هو إشادته بالحياة على عتبة الموت, ومعانقته البشر في ساعة الفراق والرحيل, والغناء وسط التلوي من الألم"


النهاية

اقتربت ساعة دعوة الرب لفرنسيس ... فاستقبل الموت منشداً ... وقبل ذلك استغفر الجميع وباركهم ... وبارك مدينته العزيزة , وغاص في الصلاة : "أهلا بأخي الموت ... إنّ الرب يدعوني "(41).. كان ذلك مساء الثالث من شهر تشرين الأول 1226 حيث الآفاق الصافية , كأنها على أهبة لقبول أنفاس فرنسيس الأخيرة ! أجل هكذا برحت نفس فرنسيس هذه الدنيا.
إنّ فقير أسيزي قد أنشد أصفى أفراح الأرض ورفع شأن ما بها من آلام وتضحية وموت.. إنه بكى طغيان البشر وظلمهم, وعلّمنا أن يحب بعضنا بعضاً, زهد في نفسه زهد الأبطال.




رُسم قديساً في 16 حزيران 1228 أي بعد وفاته بأقل من سنتين .

وصفه أحد الباباوات بأنه : "نسخة أمينة عن المسيح" (43)



وأخيرًا:

إن فرنسيس، الذي كانت حياته بأكملها صلاة متصلة وحوارا مع الله لا ينقطع، والذي انتدب لإصلاح الكنيسة المتصدعة, كان علمانياً, وظل علمانياً حتى قبيل وفاته حين سيم شماسا إنجيليا فحسب, كي يستطيع أن يتلو في الكنائس الإنجيل الذي كان به ولها . وإن في علمانيته مغزى عميق الدلالة, بعيد المرمى, إذ أثبت أن العيش في حضور الله ليس وقفا على النساك و المكرسين, بل هو شأن كل من رام أن يتجاوز ذاته, ويتجاوز الحياة الدنيوية الزائلة إلى حيث اللانهاية والخلود, كما أثبت أنّ الكنيسة الحقة هي جماعة المؤمنين كل المؤمنين الذين يعيشون الإنجيل بصدق.
وأختم بالتحية التي كان فرنسيس وجماعته يحيون بها بعضهم البعض وكل من يلتقون بهم في الطريق وهي التحية الشرقية القديمة "سلام الله عليكم"..


الساعة الآن 11:25 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025