![]() |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
https://upload.chjoy.com/uploads/169806906047231.jpg سقوط أورشليم في السبي يصف أحداث السبي، كيف حوصرت أورشليم وأُلقي القبض على صدقيا وهو هارب، ثم قام ملك بابل بقتل أبناء صدقيا أمام عينيه، كما قتل كل أشراف يهوذا، ثم فقأ عينيْ صدقيا وقيده بسلاسل وقاده إلى بابل. 1. سقوط المدينة: كان نبوخذنصر حاضرًا في بدء الحصار، أما في نهايته حيث سقطت أورشليم فكان في ربلة (3، 6). بقي الملك خارج أورشليم بينما ترك رئيس جيشه يدخل في المعركة ضد يهوذا، وذلك لكي يمنع أية قوة خارجية لنجدة يهوذا تقترب إلى أورشليم، وكان كبار الأسرى يُرسلون إليه للمحاكمة الفورية. " 1 فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِصِدْقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا فِي الشَّهْرِ الْعَاشِرِ، أَتَى نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ وَكُلُّ جَيْشِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَحَاصَرُوهَا. 2 وَفِي السَّنَةِ الْحَادِيَةِ عَشَرَةَ لِصِدْقِيَّا، فِي الشَّهْرِ الرَّابعِ، فِي تَاسِعِ الشَّهْرِ فُتِحَتِ الْمَدِينَةُ. 3 وَدَخَلَ كُلُّ رُؤَسَاءِ مَلِكِ بَابِلَ وَجَلَسُوا فِي الْبَابِ الأَوْسَطِ: نَرْجَلَ شَرَاصَرُ، وَسَمْجَرْ نَبُو، وَسَرْسَخِيمُ رَئِيسُ الْخِصْيَانِ، وَنَرْجَلَ شَرَاصَرُ رَئِيسُ الْمَجُوسِ، وَكُلُّ بَقِيَّةِ رُؤَسَاءِ مَلِكِ بَابِلَ. [1-3]. لقد بدأ الحصار في يناير من عام 588 ق.م.، وباستثناء هدنة قصيرة في الصيف استمر حتى يوليو سنة 587 ق.م، أي استمر الحصار حوالي سنة ونصف، بعدها انهارت كل مقاومة. فعندما انهزمت مصر أمام بابل وقرر المصريون ألا يهبوا لنجدة أورشليم ركز البابليون على اختراق أسوار أورشليم والإطاحة بالمدينة، ولم يكن أمام المدافعين اليهود الذين انهارت قواهم خيار سوى الاستسلام. جلس رؤساء ملك بابل في الباب الوسط أي الرئيسي أو الثاني (صف 1: 10) في السور، الذي يفصل جزئي المدينة عن بعضهما البعض. إذ بُنيت مدينة أورشليم على خمسة تلالٍ، أهمها تل في الجنوب يُدعى صهيون أو مدينة داود (2 صم 5: 7)، والثاني في الشمال يدعوه يوسيفوس اكرا أو المدينة السفلي، بينهما وادي منخفض جدًا. الباب الوسط هو باب يربط بين هذيين الجزئين من المدينة، اللذين يدعيان أحيانًا المدينة العليا والمدينة السفلي. كان هذا الباب في الوسط، في قلب المدينة. توقف الرؤساء هناك ولم يتسللوا إلى الداخل حتى لا يعرضوا حياة أحدٍ منهم للقتل من الشعب. جلس حاملوا أسماء الآلهة الوثنية في الموضع الذي اعتاد أن يجلس فيه حلقيا الذي يحمل اسم الله، وتحققت نبوة إرميا "فيأتون ويضعون كل واحدٍ كرسيه في مدخل أبواب أورشليم" (إر 1: 15). كلمة "جلس" تعبير عن الاحتلال العسكري أو إقامة معسكر عند الباب علامة استلام المنطقة. غالبًا مرت الفترة الأخيرة السابقة لانهيار المدينة دون احتكاك بين إرميا النبي ورؤساء يهوذا. فكان النبي في سجنه يئن داخليًا مترقبًا انهيار بلده بمرارة، وقد انكشفت أمام عينيه كل الأحداث هذه التي أعلنها في شيء من التفصيل للملك صدقيا. وكان صدقيا والرؤساء مع القيادات الدينية والعسكرية في ضعفٍ شديدٍ، فقد انهار الجند بسبب المجاعة، وأُغلقت أبواب الرجاء أمام عيونهم. أخيرًا إذ اقتحم الجيش البابلي المدينة أدرك الكل أن حماية الله قد رُفعت عنهم كما حدث لشمشون الذي حلّ به الضعف حينما قُص شعر نذره. أقام قادة العدو مجلسًا عسكريًا عند الباب الرئيسي لأورشليم. يذكر هنا أربعة أسماء رؤساء ملك بابل، كان معهم أيضًا آخرون لا نعرف عددهم، ويلاحظ أن الأسماء المذكورة في [3] تختلف إلى حد ما عن تلك التي وردت في [13]. وهذا أمر طبيعي حين تُترجم الأسماء من لغةٍ إلى أخرى، خاصة إن كان أصل كل لغة مختلف عن الأخرى، كترجمة الأسماء البابلية إلى العبرية. ويرى البعض أن سبب الاختلاف هو ذكر الأسماء أحيانًا والألقاب أو الوظائف أحيانًا أخرى، وإن كان البعض يرى أن قائمة الأسماء الواردة في [13] تحتوي رؤساء جدد، فالتغيير ليس في الاسم بل في الشخص نفسه. أ. نرجلشراصر، في اللغة الأكادية Nergal-sar-usur معناها "نرجل يحمي الملك"، دُعي في [13]Rabmag، ربما كان هو الملك نيري جلسر (559-556 ق.م.)، الذي خلف نبوخذنصر على بابل بعد أن قتل أولًا أويل مرودخ بن نبوخذنصر في ثورة. وقد ورد اسم نيري جلسر في القرن السادس ق.م. في النصوص البابلية الشرعية وغيرها. ب. سمجرنبو: اسم أكادي ربما معناه "تحنن يانبو"، ربما كان سمجرنبو لقبًا وليس اسم شخص، وفي الماسورية فإن سمجر منقولة عن اللقب البابلي المُنتسب لموظف من نابو Nabu. ج. سرسخيم رئيس الخصيان Rab-saris. اسم أكادي معناه "رئيس العبيد" ، أو "رئيس الخصيان". كان صاحب مقام كبير وكانت له مهام عديدة دبلوماسية أو عسكرية. د. نرجل شراصر رئيس المجوس أو رئيس الأطباء (رب ماج Rab-mag). Mag كلمة فارسية تعني عظيم أو قوي وكلمة "رب ماج" قد تعني "الأمير العظيم". 2. أسر صدقيا: 4 فَلَمَّا رَآهُمْ صِدْقِيَّا مَلِكُ يَهُوذَا وَكُلُّ رِجَالِ الْحَرْبِ، هَرَبُوا وَخَرَجُوا لَيْلًا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي طَرِيقِ جَنَّةِ الْمَلِكِ، مِنَ الْبَابِ بَيْنَ السُّورَيْنِ، وَخَرَجَ هُوَ فِي طَرِيقِ الْعَرَبَةِ. 5 فَسَعَى جَيْشُ الْكَلْدَانِيِّينَ وَرَاءَهُمْ، فَأَدْرَكُوا صِدْقِيَّا فِي عَرَبَاتِ أَرِيحَا، فَأَخَذُوهُ وَأَصْعَدُوهُ إِلَى نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ إِلَى رَبْلَةَ فِي أَرْضِ حَمَاةَ، فَكَلَّمَهُ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ. 6 فَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ بَنِي صِدْقِيَّا فِي رَبْلَةَ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ كُلَّ أَشْرَافِ يَهُوذَا. 7 وَأَعْمَى عَيْنَيْ صِدْقِيَّا، وَقَيَّدَهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ لِيَأْتِيَ بِهِ إِلَى بَابِلَ. 8 أَمَّا بَيْتُ الْمَلِكِ وَبُيُوتُ الشَّعْبِ فَأَحْرَقَهَا الْكَلْدَانِيُّونَ بِالنَّارِ، وَنَقَضُوا أَسْوَارَ أُورُشَلِيمَ. [4-8]. احتمى صدقيا الملك ورجال الحرب في الليل ليهربوا من وجه العدو، لكن لم يستطع أن ينجيهم. كان الأفضل لهم أن يحتموا في النور، بالطاعة لكلمة الله، فما كان قد حلّ بهم هذا العار بل والموت. جاء في الترجمة السبعينية "نقض رئيس الطباخين Rab-tabbachim أسوار أورشليم" [8]. يقول الأب غريغوريوس (الكبير) [إن رئيس الطباخين هو البطن التي تهدم النفس المرتفعة والمشتاقة للسلام الفائق. يحطم رئيس الطباخين أسوار أورشليم... إذ تتحطم فضائل النفس بالشهوات]. لقد تحققت النبوة (إر 32: 4؛ 34: 3) أن صدقيا يرى ملك بابل ويتكلم معه فمًا لفمٍ، وأن يُقتل أبناؤه وتُفقأ عيناه (إر 38: 17-23). وأُحرقت القصور بعد شهر من استلام المدينة أما سبب تأخير حرق المنازل فهو الانتظار حتى يُقدم رؤساء يهوذا إلى الملك في ربلة وينظر في قضيتهم. كانت حديقة الملك تقع بالقرب من بركة سلوام (نح 3: 15)، بينما الباب الذي بين السورين ربما كان باب العين الذي ورد في (نح 2: 14، 12: 37) في جنوب صهيون والعربة كانت وادي الأردن العميق شمال البحر الميت، وهو مخرج يبدو أنه كان أفضل طريق للهروب إلى ما وراء الأردن إلى الصحراء العربية وربما قصد أن ينطلقوا من هناك إلى فرعون مصر. مع ذلك أُسر صدقيا وأتباعه وأحضروا إلى نبوخذنصر في معسكره في ربلة بالقرب من أرض حماة في شمال فلسطين ليُحاكموا كمجرمين ثوار ضد الحكم. كان الحكم بالموت [6] هو المصير العادل للقادة الذين يقودون مقاومة غير ناجحة في وجه الحصار طبقًا لتقاليد الحرب في الشرق القديم، وكان قلع العينين شكلًا آخر من أشكال العقوبة القديمة (قض 16: 21)، خاصة بالنسبة للثوار العنفاء. 9 وَبَقِيَّةُ الشَّعْبِ الَّذِينَ بَقُوا فِي الْمَدِينَةِ، وَالْهَارِبُونَ الَّذِينَ سَقَطُوا لَهُ، وَبَقِيَّةُ الشَّعْبِ الَّذِينَ بَقُوا، سَبَاهُمْ نَبُوزَرَادَانُ رَئِيسُ الشُّرَطِ إِلَى بَابِلَ. 10 وَلكِنَّ بَعْضَ الشَّعْبِ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ، تَرَكَهُمْ نَبُوزَرَادَانُ رَئِيسُ الشُّرَطِ فِي أَرْضِ يَهُوذَا، وَأَعْطَاهُمْ كُرُومًا وَحُقُولًا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ. [9-10]. سيق الشعب إلى بلدٍ غريب يسيرون مئات الأميال في مذلةٍ، وقد سبق أن أهلكهم الجوع الوبأ بسبب الحصار. لقد فقدوا مدينتهم وهيكلهم وممتلكاتهم... والآن يُساقون كالحيوانات تحت قيادة سادة قساة، وها هم لا يعرفون ما هو مصيرهم هناك. أما الفقراء جدًا وهم قلة، لا حول لهم ولا قوة، لا يفيدون شيئًا في أرض السبي، تُركوا في يهوذا وسُلمت لهم الكروم والحقول التي جفت وخربت مع طول مدة الحصار لعلهم يصلحونها. لعل البابليون أدركوا أن هؤلاء الفقراء لم يكن لهم دور في القرار الخاص بعدم الاستسلام أثناء الحصار، لذا تركوهم في أرضهم. ومن جانب آخر فإنه من الحكمة أن يرضوا الفقراء حتى متى عاد الكلدانيون إلى بابل ورحلت الجيوش عن أورشليم لا تحدث ثورة ضد بابل. ليس فقط تُرد ممتلكات هؤلاء الفقراء الذين نهبهم أغنياء بني جنسهم واستغلوهم، وإنما ينالون ما كان للأغنياء. * يقودني نبوخذنصر الحقيقي مربوطًا بالسلاسل إلى بابل، أي إلى بابل الفكر المرتبك. هناك يضع عليَّ نير العبودية، هناك يضع خزامة من حديد في أنفي، ويأمرني أن أرنم بتسبحة من تسابيح صهيون (2 مل 19: 28، مز 136: 3). القديس جيروم 4. العناية بإرميا: 11 وَأَوْصَى نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ عَلَى إِرْمِيَا نَبُوزَرَادَانَ رَئِيسَ الشُّرَطِ قَائِلًا: 12 «خُذْهُ وَضَعْ عَيْنَيْكَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا رَدِيئًا، بَلْ كَمَا يُكَلِّمُكَ هكَذَا افْعَلْ مَعَهُ». 13 فَأَرْسَلَ نَبُوزَرَادَانُ رَئِيسُ الشُّرَطِ وَنَبُوشَزْبَانُ رَئِيسُ الْخِصْيَانِ وَنَرْجَلُ شَرَاصَرُ رَئِيسُ الْمَجُوسِ وَكُلُّ رُؤَسَاءِ مَلِكِ بَابِلَ، 14 أَرْسَلُوا فَأَخَذُوا إِرْمِيَا مِنْ دَارِ السِّجْنِ وَأَسْلَمُوهُ لِجَدَلْيَا بْنِ أَخِيقَامَ بْنِ شَافَانَ لِيَخْرُجَ بِهِ إِلَى الْبَيْتِ. فَسَكَنَ بَيْنَ الشَّعْبِ. [11-14]. "رئيس الشُّرَط" لقب قديم وهو حرفيًا: رئيس السُّقَاة. أطلق سراح نبي الله الآن وعومل باحترامٍ كبيرٍ، وقد كان القبض عليه عفويًا بسبب الجهل بشخصه، وقد عامله أهل ما بين النهرين البسطاء كرجل الله بنفس الاحترام الذي كانوا يقدمونه لأنبيائهم وعرَّافيهم في بابل. يظهر من هذا الفصل أن ملك بابل فور فتح أورشليم اهتم بإرميا فأخرجه من السجن مكرمًا ليبقي مع الباقين في البلاد دون أن يُسبي. لكننا نرى في (إر 40: 61) أن الأمر كان عكس هذا، إذ قُيِّد إرميا بسلاسل وأرسل مع المسبيين حتى وصل إلى رامة قبل أن يُطلق سراحه. ولسنا ندري هل سمع ملك بابل عنه من قبل بواسطة اليهود الذين أسروا مع يهوياكين إلى بابل، أم أخبره عنه بعض اليهود المأسورين أخيرًا قائلين إن إرميا حث صدقيا الملك أن يخضع لبابل ويدفع الجزية مسلمًا نفسه لهم عوض الثورة ضدها، وأنه بسبب ذلك عاني الكثير وأُلقي في السجن. يرى البعض أن القصتين في (39، 40) متكاملتان، فإنه بالفعل أطلق سراح إرميا من السجن فور سقوط المدينة، لكنه اقتيد مع الرؤساء إلى رامة، وهناك أطلق سراحه وسُمح له أن يختار موضع سكنه كيفما يُريد. يعلق القديس جيروم على توصية نبوخذنصَّر لنبوزرادان على إرميا قائلًا: [تمتع إرميا بميزة عظمى لأنه عُين لبركة البتولية. حينما سُبي الكل، حتى أُستولى على أوان الهيكل... هو وحده تحرر من العدو، ولم يعرف مذلة السبي، وكان المنتصرون سندًا له. لم يوصِ نبوخذراصَّر نبوزرادان على قدس الأقداس بل على إرميا. لأنه هو هيكل الرب الحق، هو قدس الأقداس، التي تكرس للرب بالبتولية الطاهرة ]. يرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن إرميا وحده هو الذي انعتق من العدو ولم يؤخذ إلى الأسر بإراداته. نبوخذنصر لم يهتم بالقدس والهيكل إنما اهتم بإرميا وحده، لأنه في عيني الله هو هيكل الرب الذي يحمل الرب في داخله. يذكر لنا هذا الأصحاح أنه خلص من هذا الدمار ثلاثة: أ. إرميا النبي الذي أوصى الملك بحسن معاملته. ب. عبد الملك الغريب الجنس الذي وعده النبي بإنقاذه. ج. القلة القليلة من الفقراء جدًا الذين أُعطيت لهم الحقول. هؤلاء جميعًا يشيروا إلى الكنيسة التي تتمتع بالمراحم الإلهية: فإرميا يشير إلى القلة من اليهود الذين قبلوا نبوات العهد القديم وتعرفوا على السيد المسيح وآمنوا به؛ وعبد ملك يشير إلى الأمم الذين قدموا إلى السيد المسيح وتمتعوا بخلاصه؛ أما القلة القليلة الفقيرة فتحمل سمة الكنيسة: "القطيع الصغير" الذي يُسر الآب أن يعطيهم الملكوت" (لو 12: 32). 5. رسالة إلى عبد ملك: بعث إرميا النبي وهو في السجن برسالة إلى عبد ملك الكوشي تحوي خمس نبوات: أ. الشر الذي يحل بالمدينة. ب. تحقيق كلمة الله في أيامه. ج. لا يُسلم عبد ملك ليد من يخافهم. د. خلاص عبد ملك من يد الأعداء. ه. لن يسقط بالسيف. " 15 وَصَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا إِذْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي دَارِ السِّجْنِ قَائِلَةً: 16 «اذْهَبْ وَكَلِّمْ عَبْدَ مَلِكَ الْكُوشِيِّ قَائِلًا: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا جَالِبٌ كَلاَمِي عَلَى هذِهِ الْمَدِينَةِ لِلشَّرِّ لاَ لِلْخَيْرِ، فَيَحْدُثُ أَمَامَكَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ. 17 وَلكِنَّنِي أُنْقِذُكَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ الرَّبُّ، فَلاَ تُسْلَمُ لِيَدِ النَّاسِ الَّذِينَ أَنْتَ خَائِفٌ مِنْهُمْ. 18 بَلْ إِنَّمَا أُنَجِّيكَ نَجَاةً، فَلاَ تَسْقُطُ بِالسَّيْفِ، بَلْ تَكُونُ لَكَ نَفْسُكَ غَنِيمَةً، لأَنَّكَ قَدْ تَوَكَّلْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ الرَّبُّ»." [15-18]. إذ كان إرميا النبي أمينا ومخلصًا لكلمة الله لذلك وعده الله: "إني أجعل العدو يتضرع إليك في وقت الشر وفي وقت الضيق" (إر 15: 11). وها هو يحقق وعده معه. لقد لقي إرميا معاملة طيبة من قبل رئيس جيوش بابل وملكها وكذلك عبد ملك الذي أنقذ حياة إرميا من الجب. ذكر الكتاب المقدس كثيرين أُنقذوا بسبب تقواهم. فلا بُد من أن نتساءل: هل هذا قانون ثابت في مجازاة الله للناس، لأننا كثيرًا ما رأينا الصالحين الأتقياء قد هلكوا مع الأشرار الأردياء، لا سيما في أبان الحروب وكوارث الطبيعة. إننا نؤمن أن الله يجازي كل الناس بحسب أعمالهم، لكننا لا نحصر مجازاة الله في هذه الحياة، بل نعتقد بأنها تكون أضعافًا في الآخرة. من وحي إرميا 39 في ملء الزمان * لكل أمر له ملء زمانه، لقد حُذرت يهوذا مرة ومرات بأنبياء كثيرين، وظنوا أنها مجرد تهديدات، لكن في ملء الزمان تحققت كل النبوات المرّة، وفي ملء الزمان خلص إرميا وأُنقذ عبد ملك الكوشي! * في ملء الزمان فقد صدقيا مملكته بعد إنذارات كثيرة، وقُتل أولاده، وصار أعمى ومقيدًا بالسلاسل! انهارت مدينته حتى الهيكل، وأيضًا احترقت القصور! * نعم يا لعار الخطية! تنزع عني سلطاني في الرب وتحطم إرادتي الحرة، تفقدني أولادي: ثمار الروح المفرحة، تنزع عني بصيرتي، فلا أدرك أسرار الله، تجعلني مقيدًا، عبدًا أسيرًا! أُنتزع كما من حضن إلهي، من مدينتي المقدسة، وتحترق كل مواهبي وقدراتي! يا لها من مرارة! * وفي ملء الزمان أُطلق إرميا من السجن مكرمًا حتى من الأعداء، وأُنقذ عبد الملك الغريب الجنس، وتمتع الفقراء بالحقول! إذ ننتظر مواعيدك الإلهية نختبر الحرية الداخلية، نرتفع فوق كل ضيقة وتجربة، نملك مع الرب كما في حقله الإلهي! * متى يأتي ملء الزمان، فيجدنا كإرميا النبي ننتظر الرب؟! ونثق في ذراعه الأبدي الحامل لحياتنا؟! ونترجى مواعيده الإلهية الصادقة؟! |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
https://upload.chjoy.com/uploads/169806906047231.jpg خبرات إرميا ونبواته بعد خراب أورشليم خبرات ونبوات إرميا النبي بعد خراب أورشليم، أو خبرات أيامه الأخيرة على الأرض. أولًا: الأيام الأخيرة لإرميا في يهوذا كما بدأ إرميا النبي حياته في يهوذا وسط إصلاحات الملك يوشيا التي لم تمس قلوب القيادات الدينية ولا الشعب، بل انشغلوا بالشكليات وحدها، هكذا تنتهي حياته في أرض الموعد في أيام جدليا الذي أقامه ملك بابل واليًا على يهوذا، وكان هناك بارقة أملٍ للإصلاح، غير أنه لم يستمر كثيرًا إذ قتله بنو جنسه. ثانيًا: إقامة جدليا واليًا على يهوذا "جدليا" اسم عبري معناه "يهوه عظيم". أقام نبوخذناصر جدليا بن أخيقام بن شافان حاكمًا على مدن يهوذا ووكيلًا عن ملك بابل، وكما نعلم أن أخيقام كان أحد الخمسة الذين أرسلهم الملك يوشيا إلى خلدة النبية ليسأل عن سفر الشريعة (2 مل 22: 12، 14)، وقد استخدم نفوذه لحماية إرميا (إر 26: 24)؛ أقام في المصفاة. ثالثًا: اغتيال جدليا أفسد الحسد كل شيء، إذ قام شخص من الدم الملكي يدعى إسماعيل بن نثنيا، - بلا شك كان يفكر في اعتلاء الحكم - وبتشجيع من بعليس ملك عمون، جاء مع عشرة من رجاله إلى جدليا في ضيافته وقتلوه وهو على المائدة يقدم لهم طعامًا بحبٍ. قتلوه هو وكل اليهود الذين معه والجنود الكلدانيين الذين تُركوا في الأرض بواسطة ملك بابل، كما قتلوا سبعين حاجًا يهوديًا كانوا مارين بالمصفاة في طريقهم إلى أورشليم لتقديم عطايا غير دموية للهيكل المتهدم، ربما بمناسبة عيدٍ ما. هؤلاء الذين كانوا في حزنٍ شديدٍ بسبب خراب الهيكل وتوقف الذبائح الدموية مع دمار المدينة وسبي الشعب. سبَى إسماعيل ورجاله بنات الملك مع بعض اليهود، وانطلقوا بهم إلى بني عمون. انطلق يوحانان والرؤساء الذين معه وراء إسماعيل حيث استطاعوا أن يطلقوا سراح المسبيين الذين كانوا مع اسماعيل وهرب إسماعيل وثمانية ممن معه إلى عمون (2 مل 25: 25؛ إر 40: 7؛ 41: 18). لا جدال في أن يوحانان أحد رؤساء يهوذا كان رجلًا شجاعًا ووطنيًا ومخلصًا. في إخلاصه حذر جدليا من إسماعيل سرًا وفكَّر أن يقتله، لكن جدليا حسبه كاذبًا. إنما كانت تعوزه روح التقوى، وقد كان رجل أفعال، لكنه لم يكن رجلًا ينتظر الله ليرشده إلى الطريق الواجب سلوكه، فبدون تردد ولا سؤال من الرب قاد الموالين له والجماعة التي أنقذها من يد إسماعيل ورجاله إلى جيروت كمهام بالقرب من بيت لحم على الطريق إلى مصر. لقد صمم هو ومن معه أن يذهبوا إلى مصر خوفًا من وجه الكلدانيين، لأنهم كانوا خائفين بسبب ما فعله إسماعيل (إر 42: 1، 43: 7). رابعًا: استشارة إرميا شكليًا قبل أن يهربوا إلى مصر ذهب يوحنان والذين معه إلى إرميا النبي الذي أخذوه معهم من المصفاة حيث كان يعيش وسط الشعب يطلبون منه الإرشاد من الرب، الكبير والصغير طلبوا منه أن يصلي إلى الرب ويشفع فيهم ليريهم الطريق الذي يسيرون فيه وقد وعدوا بالطاعة الكاملة لإرادة الرب، مهما تكن الظروف. حسب الظاهر كان حسنًا أن يتوجهوا إلى الرب في مثل هذه الظروف يلتمسون منه الإرشاد، فيقولون: "ليت تضرعنا يقع أمامك فتصلي لأجلنا إلى الرب إلهك لأجل هذه البقية، لأننا قد بقينا قليلين من كثيرين كما ترانا عيناك، فيخبرنا الرب إلهك عن الطريق الذي نسير فيه والأمر الذي نفعله" (إر 42: 1-3). كانوا يطلبون مشورة الله وشفاعة إرميا النبي بينما كانت رغبتهم في الذهاب إلى مصر لها جذورها العميقة في عقولهم كما في قلوبهم. كل ما كانوا يشتاقون إليه هو أخذ أمر ظاهري للذهاب إلى مصر، تحت مظهر أنهم يتممون إرادة الله، بينما كانوا قد وضعوا في قلوبهم أن يتمموا مشيئتهم الذاتية. قال لهم إرميا "قد سمعت. هأنذا أصلي إلى الرب إلهكم كقولكم ويكون أن كل الكلام الذي يجيبكم الرب أخبركم به، لا أمنع عنكم شيئًا" (إر 42: 3). يقول إرميا "الرب إلهكم... والكلام الذي يجيبكم الرب أخبركم به"أي أنه سيكون وسيطًا لدى الله من قبلهم يتحدث باسمهم، فإن الله يريد أن ينتسب إليهم ويقدم لهم المشورة الصالحة. يبدو حسب الظاهر أنهم يطيعون الرب طاعة كاملة (إر 42: 5-6)، وقد سمح الرب بأن تمر عشرة أيام قبل أن يجيب على النبي. خامسًا: رسالة إلهية مملوءة رجاءً وتحذيرًا بعد عشرة أيام جاءت الإجابة من قبل الرب واضحة وصريحة، فأعلنها النبي علانية: أ. جاءت الإجابة تحمل وعدًا إلهيًا يكشف عن شوق الله إلى بنائهم كبيت مقدس له، وغرسهم ككرمة من غرس يديْ الله. ب. مع الوعد والرجاء قدمت الإجابة الإلهية تحذيرًا من رفض الإرادة الإلهية من أجل تتميم الإرادة الذاتية. أرادوا الهروب من أرض يهوذا خشية السيف والجوع، ليحتموا في مصر؛ فإذ بالسيف والجوع والوباء يلحق بهم هناك، بجانب سقوطهم تحت اللعنة والعار بسبب عصيانهم لله وانسكاب الغضب الإلهي عليهم. إذن سلامهم وحمايتهم ليست بالهروب إلى أرض معينة، بل بالتخلي عن الإرادة الذاتية والطاعة للإرادة الإلهية. سادسًا: رفض المشورة الإلهية رفضَ هؤلاء الذين تكلم إليهم إرميا بكلام الرب الواضح والصريح النصيحة والتوجيه، ولم يسمعوا لتحذيرات الرب، والسبب كما قال إرميا: "لأنكم قد خدعتم أنفسكم" (إر 42: 20). كانوا مصممين على تنفيذ إرادتهم الذاتية عندما طلبوا من إرميا أن يصلي إلى الرب طلبًا للإرشاد، وبهذا سقطوا في الكبرياء الذي يحرم من الاعتراف بالخطأ وتقديم التوبة (إر 43: 1-3). اتهموا إرميا أن نبوته كاذبة، لا ينطق بكلمة الرب بل يتكلم بالكذب. قالوا نحن سألناك أن تقول لنا كلمة الرب لكنك أخبرتنا بأقوال باروخ لكي يدفعنا في يد الكلدانيين فيقتلوننا ويقومون بسبينا. سابعًا: ذهابهم إلى مصر رفضوا صوت الرب على لسان إرميا قبل حدوث السبي ورفضوا كلامه أثناء السبي، وها هم يرفضونه بعد السبي ويذهبون إلى مصر ويأخذون معهم إرميا وباروخ بن نيريا بالقوة (إر 43: 5-7). ثامنًا: إرميا في مصر ختم إرميا حياته لا في أرض الموعد، بل محمولًا من شعبه إلى مصر، حيث الآلهة الوثنية والوصية المكسورة! أراد الرب أن يُعلِّم الشعب درسًا بطريقة رمزية فأمر إرميا أن يأخذ بيده حجارة كبيرة ويطمرها في الملاط (الطين) في الملبن (مكان صنع اللبن، أي قوالب الطوب الني) الذي عند باب بيت فرعون أمام قصره أو خلفه في تحفنحيس أمام رجال يهوذا. وقد جذب إرميا انتباه الشعب بهذه الوسيلة لكي يعلن لهم القضاء باسم رب الجنود إله إسرائيل فقيل: "هأنذا أرسل وآخذ نبوخذناصر ملك بابل عبدي وأضع كرسيه فوق هذه الحجارة التي طمرتها..." (إر 43: 8-13). إن كانوا قد هربوا من يهوذا إلى مصر من وجه ملك بابل، كي لا ينتقم منهم، غير واثقين في مواعيد الله، فإن ملك بابل يلحق بهم وبفرعون الذي احتموا فيه، يضع كرسيه على الحجارة الكبيرة التي منها يقيم فرعون قصره، حتى وإن اختفت هذه الحجارة وسط الملاط. أنذر إرميا النبي اليهود في مصر بسبب حياتهم الفاسدة (إر 44: 1-14). فإن هذه البقية التي نزلت إلى مصر مارست العبادة الوثنية في مصر، لهذا يذكِّرهم الرب بما حدث لهم وهم في مملكة يهوذا. لم يجد هذا التحذير الخطير أذنًا صاغية، فقد جاء الرد من الرجال بكل عنفٍ: "إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمتنا بها باسم الرب" (إر 44: 16). وأكثر من ذلك نسبوا الخير والشبع عندما كانوا في أرض يهوذا إلى تبخيرهم لملكة السموات، وحين كفوا عن التبخير لملكة السموات حلّ عليهم الفناء والجوع انظر (إر 44: 17-19). جاء جواب الرب لهم قاطعًا ليعلن أن ممارساتهم الوثنية هي التي استنزلت عليهم غضب الله (إر 44: 20-23). أما النساء فكان لهن من الرب كلمة خاصة، لأنهن كن يتزعمن تلك الممارسات الوثنية المهينة لاسم الرب (إر 44: 27-28). أعطاهم الرب علامة عن الهلاك القادم حتى إذا حدث يعرفون أن ساعة دينونتهم لن تتوانى بعد. العلامة هي أن فرعون حفرع ملك مصر سيُدفع إلى يد أعدائه وإلى يد طالبي نفسه كما دُفع صدقيا ملك يهوذا إلى يد نبوخذنصر ملك بابل عدوه وطالب نفسه [29-30]، بذلك تنكسر القصبة المرضوضة التي اتكأوا عليها. تاسعًا: اهتمام شخصي بباروخ وسط هذه الأحداث الخطيرة أساء الشعب إلى باروخ، متهمًا إياه أنه مثير لإرميا كي يدفع بالشعب إلى البقاء في يهوذا فيهلكهم ملك بابل. لا نعرف ماذا كان رد فعل باروخ الذي حُمل مع إرميا إلى مصر، إنما يبدو أنه مرْ بمرحلة قاسية خلال الضعف البشري، فدخل في حالة إحباطٍ شديدة. ربما بدأ يفكر في نفسه كيف صار موضع اتهام كخائنٍ وطني. على أي الأحوال، الله لم ينساه وسط هذه الأحداث، فجاء الأصحاح 45 حديثًا موجهًا إليه. الله لا ينسى أحدًا من خائفيه أينما وجد ومهما كانت الظروف! الأصحاح الأربعون إرميا مع جدليا في أورشليميوضح هذا الأصحاح ثلاثة أمورٍ: أولًا: كانت معاملة العدو لإرميا رقيقة، تناقض تمامًا ما لاقاه من بني جنسه. ثانيًا: غاية إقامة جدليا حاكمًا: أ. يمتص طاقة النشاط الفدائي المعادي لبابل ويكسب ودهم، كما يعطيهم الطمأنينة. ب. تقديم المساعدة للفلاحين حتى لا يثوروا على بابل، بل يقدموا جزية من المحاصيل. ثالثًا: تدبير إسماعيل بن نثنيا من السلالة الملوكية مؤامرة لقتل جدليا. 1. قرار إرميا: 1 اَلْكَلِمَةُ الَّتِي صَارَتْ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ، بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ نَبُوزَرَادَانُ رَئِيسُ الشُّرَطِ مِنَ الرَّامَةِ، إِذْ أَخَذَهُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالسَّلاَسِلِ فِي وَسْطِ كُلِّ سَبْيِ أُورُشَلِيمَ وَيَهُوذَا الَّذِينَ سُبُوا إِلَى بَابِلَ. 2 فَأَخَذَ رَئِيسُ الشُّرَطِ إِرْمِيَا وَقَالَ لَهُ: «إِنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ قَدْ تَكَلَّمَ بِهذَا الشَّرِّ عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ. 3 فَجَلَبَ الرَّبُّ وَفَعَلَ كَمَا تَكَلَّمَ، لأَنَّكُمْ قَدْ أَخْطَأْتُمْ إِلَى الرَّبِّ وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِهِ، فَحَدَثَ لَكُمْ هذَا الأَمْرُ. 4 فَالآنَ هأَنَذَا أَحُلُّكَ الْيَوْمَ مِنَ الْقُيُودِ الَّتِي عَلَى يَدِكَ. فَإِنْ حَسُنَ فِي عَيْنَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ مَعِي إِلَى بَابِلَ فَتَعَالَ، فَأَجْعَلُ عَيْنَيَّ عَلَيْكَ. وَإِنْ قَبُحَ فِي عَيْنَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ مَعِي إِلَى بَابِلَ فَامْتَنِعْ. اُنْظُرْ. كُلُّ الأَرْضِ هِيَ أَمَامَكَ، فَحَيْثُمَا حَسُنَ وَكَانَ مُسْتَقِيمًا فِي عَيْنَيْكَ أَنْ تَنْطَلِقَ فَانْطَلِقْ إِلَى هُنَاكَ». 5 وَإِذْ كَانَ لَمْ يَرْجعْ بَعْدُ، قَالَ: «ارْجعْ إِلَى جَدَلْيَا بْنِ أَخِيقَامَ بْنِ شَافَانَ الَّذِي أَقَامَهُ مَلِكُ بَابِلَ عَلَى مُدُنِ يَهُوذَا، وَأَقِمْ عِنْدَهُ فِي وَسْطِ الشَّعْبِ، وَانْطَلِقْ إِلَى حَيْثُ كَانَ مُسْتَقِيمًا فِي عَيْنَيْكَ أَنْ تَنْطَلِقَ». وَأَعْطَاهُ رَئِيسُ الشُّرَطِ زَادًا وَهَدِيَّةً وَأَطْلَقَهُ. 6 فَجَاءَ إِرْمِيَا إِلَى جَدَلْيَا بْنِ أَخِيقَامَ إِلَى الْمِصْفَاةِ وَأَقَامَ عِنْدَهُ فِي وَسْطِ الشَّعْبِ الْبَاقِينَ فِي الأَرْضِ. "الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب بعدما أرسله نبوزرادان رئيس الشرط من الرامة، إذ أخذه وهو مقيد بالسلاسل في وسط كل سبي أورشليم ويهوذا الذين سبوا إلى بابل. فأخذ رئيس الشرط إرميا وقال له: إن الرب إلهك قد تكلم بهذا الشر على هذا الموضع. فجلب الرب وفعل كما تكلم لأنكم قد أخطأتم إلى الرب ولم تسمعوا لصوته فحدث لكم هذا الأمر" [1-3]. يلاحظ أن الأصحاح اُفتتح بالعبارة: "الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب"... مع ذلك لا نجد رسالة معينة يقدمها الرب. لعل إرميا حسب أن كلمات رئيس الشرط له ليست من عنده بل هي كلمة الرب التي يوجهها الله لشعبه، فإن ما نطق به هذا القائد الكلداني الغريب الجنس لم يكن إلا ملخصًا لما نادى به الأنبياء للشعب ولم يسمعوا لهم. لقد قدم الرجل الوثني تفسيرًا لاهوتيًا وروحيًا لهزيمتهم، الأمر الذي لم يكن ممكنًا للشعب اليهودي أن يفهمه أو يتقبله. إذ قال رئيس الشرط الوثني لإرميا أن ما حلّ بالشعب هو ثمر خطاياهم وعدم سماعهم للصوت الإلهي. هذه الشهادة لا يمكن أن تكون قد حدثت عن فراغ، بل لا بُد وأن البابليين أدركوا أن نصرتهم على يهوذا واستيلائهم على العاصمة لم يتحقق بطريقة طبيعية، إنما خلال تدخلٍ إلهيٍ، ليس من جانب آلهتهم الوثنية بل من جانب الله الحيّ. بلا شك أدهشت كلمات رئيس الشرط إرميا النبي وثبّتت بالأكثر إيمانه، كما انتشرت بين اليهود فصارت لتوبيخهم؛ كأنها رسالة إلهية موجهة إلى المسبيين ينطق بها رجل وثني عدو. يظهر الله كيف أنه يكافئ متقيه السامعين لكلمته الشاهدين له بالحق في حياتهم، إذ يجعل حتى الأعداء يسالمونهم. بالرغم من اتفاق رئيس الشرط في الفكر اللاهوتي مع إرميا إلا أن إرميا لم يجبه بكلمة، ولم يعلق على كلماته، حتى لا يتهمه الحاضرون أنه عميل بابلي. أُقتيد إرميا مع المسبيين مقيدًا بالسلاسل حتى وقف أمام رئيس الشرط، وهناك عُزل عن المسبيين لكي تُعطَى له كرامة وهدايا مع حرية الحركة، بينما صار الآخرون في مذلة وحرمان. كان من الصعب عزل إرميا من بين صفوف المسبيين، لكن حان الوقت للكشف عن كرامته ومجده. هكذا يصعب في العالم أن نميز بين المؤمنين العاملين الحقيقيين وغيرهم، لكن اليوم سيظهر مجد كل أحدٍ أو عاره! "الرامة" [1] معناها "المرتفع"، أُطلق هذا الاسم على مواضع كثيرة، لكن هنا غالبًا ما يُقصد بها قرية تبعد حوالي 6 أميال شمال أورشليم، وتبعد حوالي ميلين أو ثلاثة من المصفاة. بناها بعشا ملك إسرائيل وحصنها لكي لا يدع أحدًا من شعبه يخرج أو يدخل، غير أن ملك يهوذا دبّر له مكيدة وانتزعها منه (1 مل 15: 17-22). إليها جُمع اليهود حيث رُحِّلوا إلى السبي البابلي، وإليها عادوا بعد رجوعهم من السبي (عز 2: 26؛ نح 11: 23). مكانها اليوم "الحرم". شهدت هذه القرية أحداثًا تاريخية هامة منها أن كلاَّ من سنحاريب ملك أشور، ونبوخذنصر ملك بابل وتيطس الروماني ألقى منها أول نظرة على أورشليم! "فالآن هأنذا أحلّك اليوم من القيود التي على يدك. فإن حسن في عينيك أن تأتي معي إلى بابل فتعال، فأجعل عيني عليك. وإن قبح في عينيك أن تأتي معي إلى بابل فامتنع. انظر. كل الأرض هي أمامك، فحيثما حسن وكان مستقيمًا في عينيك أن تنطلق فانطلق إلى هناك. وإذ كان لم يرجع بعد قال: ارجع إلى جدليا بن أخيقام بن شافان الذي أقامه ملك بابل على مدن يهوذا، وأقم عنده في وسط الشعب، وانطلق إلى حيث كان مستقيمًا في عينيك أن تنطلق. وأعطاه رئيس الشرط زادًا وهدية وأطلقه. فجاء إرميا إلى جدليا بن أخيقام إلى المصفاة، وأقام عنده في وسط الشعب الباقين في الأرض" [4-6]. كان هناك أمر من الملك إلى رئيس الشرط أن يكرم إرميا النبي، لكن الجند المسئولين عن القاء القبض على اليهود وترحيلهم إلى الرامة تحت كثرة الأعباء اتوا بإرميا وسط الأسرى، مقيدًا بالسلاسل خطأ. وإذ تعرف عليه نبوزاردان رئيس الشرط اطلقه في الحال وأعطاه حرية الحركة. يرى البعض أن رئيس الشرط جاء بعد شهر من احتلال أورشليم ليكمل تدميرها، في ذلك الوقت اطلق إرميا حرًا. سمع نبوزردان رئيس الشرط عن إرميا وكيف كان يشير على الملك صدقيا أن يخضع لبابل فظنه من رجاله. بعد أن حلّه من القيود أعطاه حق الخيار أن يذهب إلى بابل أو يبقى في يهوذا، فاختار أن يرجع إلى جدليا الذي ينتمي إلى عائلة شافان المتعاطفة مع النبي، ويقيم عنده وسط الشعب. رفض أن يُكرم في بابل ليعيش مع الشعب المسكين في يهوذا يشاركهم أتعابهم وآلامهم، يسكن مع أولئك الذين حسبهم البابليون ليسوا أهلًا لنقلهم حتى كأسرى إلى بابل. هكذا تشبّه بموسى النبي الذي قيل عنه: "بالإيمان موسى لما كبر أبَى أن يُدعى ابن ابنة فرعون، مفضلًا بالأحرى أن يُذل مع شعب الله عن أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عب 11: 24-25). هكذا اشترك أنبياء العهد القديم في عار المسيح الباذل حياته بفرح عن شعبه. كان من الحكمة ألا يذهب إرميا مع المسبيين في بابل، لأنه كان بلا شك سيلقي كرامة من الملك، فيثبت في ذهن اليهود أنه عميل بابلي وخائن لوطنه. لم يكن ممكنًا لجدليا أن يقيم في أورشليم حيث كانت قد خربت تمامًا لا تصلح للسكن (مرا 2: 13؛ 4: 1)، لذا اختار المصفاة التي يحتمل أن يكون في موقعها الآن تل النصبة، تبعد حوالي 8 أميال شمال غرب أورشليم وقريب جدًا من الرامة وتقع في جنوبها الغربي؛ كانت مركزًا هامًا من الجانب السياسي والديني عبر القرون. وهي تتبع سبط بنيامين، فيها كان صموئيل يقضي بين الشعب، وأُختير شاول ملكًا (1 صم 7: 15 الخ؛ 10: 17). لا توجد أية علامات أن المصفاة قد مرت في هذه الفترة بمرحلة تدمير بذات القوة التي حدثت مع أورشليم ومدن يهوذا. واضح من [4] أن إرميا لم يكن متوقعًا ما قيل له، أي أن تُعطَى له الحرية في اختيار موضع الإقامة، لهذا إذ سمع كلمات رئيس الشرط صمت قليلًا، لعله كان يفكر ليأخذ قراره، أو يرفع قلبه لله يطلب المشورة، أو لعله كان يطلب مهلة لأخذ قرارٍ خطيرٍ في حياته كهذا. لهذا قال له رئيس الشرط: "ارجع إلى جدليا" [4]؛ هناك يأخذ قراره كما يشاء! مهما كانت الأمور واضحة ليتنا لا نتسرع في أخذ قراراتنا خاصة المصيرية أو التي تمس حياة إخوتنا، بل نتمهل ونطلب مشورة الله. 2. جدليا الحاكم: 7 فَلَمَّا سَمِعَ كُلُّ رُؤَسَاءِ الْجُيُوشِ الَّذِينَ فِي الْحَقْلِ هُمْ وَرِجَالُهُمْ أَنَّ مَلِكَ بَابِلَ قَدْ أَقَامَ جَدَلْيَا بْنَ أَخِيقَامَ عَلَى الأَرْضِ، وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ وَعَلَى فُقَرَاءِ الأَرْضِ الَّذِينَ لَمْ يُسْبَوْا إِلَى بَابِلَ، 8 أَتَى إِلَى جَدَلْيَا إِلَى الْمِصْفَاةِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ نَثَنْيَا، وَيُوحَانَانُ وَيُونَاثَانُ ابْنَا قَارِيحَ، وَسَرَايَا بْنُ تَنْحُومَثَ، وَبَنُو عِيفَايَ النَّطُوفَاتِيُّ، وَيَزَنْيَا ابْنُ الْمَعْكِيِّ، هُمْ وَرِجَالُهُمْ. 9 فَحَلَفَ لَهُمْ جَدَلْيَا بْنُ أَخِيقَامَ بْنِ شَافَانَ وَلِرِجَالِهِمْ قَائِلًا: «لاَ تَخَافُوا مِنْ أَنْ تَخْدِمُوا الْكَلْدَانِيِّينَ. اُسْكُنُوا فِي الأَرْضِ، وَاخْدِمُوا مَلِكَ بَابِلَ فَيُحْسَنَ إِلَيْكُمْ. 10 أَمَّا أَنَا فَهأَنَذَا سَاكِنٌ فِي الْمِصْفَاةِ لأَقِفَ أَمَامَ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ إِلَيْنَا. أَمَّا أَنْتُمْ فَاجْمَعُوا خَمْرًا وَتِينًا وَزَيْتًا وَضَعُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ، وَاسْكُنُوا فِي مُدُنِكُمُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا». 11 وَكَذلِكَ كُلُّ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي مُوآبَ، وَبَيْنَ بَنِي عَمُّونَ، وَفِي أَدُومَ، وَالَّذِينَ فِي كُلِّ الأَرَاضِي، سَمِعُوا أَنَّ مَلِكَ بَابِلَ قَدْ جَعَلَ بَقِيَّةً لِيَهُوذَا، وَقَدْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ جَدَلْيَا بْنَ أَخِيقَامَ بْنِ شَافَانَ، 12 فَرَجَعَ كُلُّ الْيَهُودِ مِنْ كُلِّ الْمَوَاضِعِ الَّتِي طُوِّحُوا إِلَيْهَا وَأَتَوْا إِلَى أَرْضِ يَهُوذَا، إِلَى جَدَلْيَا، إِلَى الْمِصْفَاةِ، وَجَمَعُوا خَمْرًا وَتِينًا كَثِيرًا جِدًّا. "فلما سمع كل رؤساء الجيوش الذين في الحقل هم ورجالهم أن ملك بابل قد أقام جدليا بن أخيقام على الأرض، وأنه وكّله على الرجال والنساء والأطفال وعلى فقراء الأرض الذين لم يسبوا إلى بابل، أتى إلى جدليا إلى المصفاة إسمعيل بن نثنيا ويوحانان ويوناثان ابنا قاريح وسرايا بن تنحومث وبنو عيفاي النطوفاتي ويزنيا ابن المعكى هم ورجالهم. فحلف لهم جدليا بن أخيقام بن شافان ولرجالهم قائلًا: لا تخافوا من أن تخدموا الكلدانيين. اسكنوا في الأرض واخدموا ملك بابل فيُحسن إليكم. أما أنا فهأنذا ساكن في المصفاة لأقف أمام الكلدانيين الذين يأتون إلينا" [7-10]. إن كانت يهوذا قد صارت مستعمرة بابلية، لكن كان لها الحق أن تحتفظ بسماتها الخاصة تحت قيادة والٍ من شعبها يخضع سياسيًا لملك بابل ويدفع له الجزية. المدن التي أشير إليها في [10] هي تلك التي خربت بواسطة الكلدانيين، لكن مع بدء ولاية جدليا عادت إليها الحياة، خاصة بعودة الهاربين من وجه بابل. كان هناك بارقة أمل لانتعاش يهوذا لو بقى جدليا في الحكم. فقد عاد الذين التجاؤا إلى دول أخرى مثل موآب وعمون وآدوم ليمارسوا حياتهم في ظل الاستعمار البابلي. إذ جمع الراجعون خمرًا وتينًا كثيرًا شعر البعض أن ذلك علامة بركة الرب، إذ لا زال ينتظر أن يعمل لإصلاح شعبه. هؤلاء الذين شبههم إرميا النبي بالتين الجيد جدًا [24]. "أما أنتم فاجمعوا خمرًا وتينًا وزيتًا وضعوا في أوعيتكم واسكنوا في مدنكم التي أخذتموها، وكذلك كل اليهود الذين في موآب وبين بني عمون وفي أدوم والذين في كل الأراضي سمعوا أن ملك بابل قد جعل بقية ليهوذا وقد أقام عليهم جدليا بن أخيقام بن شافان. فرجع كل اليهود من كل المواضع التي طُوحوا إليها وأتوا إلى أرض يهوذا إلى جدليا إلى المصفاة وجمعوا خمرًا وتينًا كثيرًا جدًا" [7-12]. إذ عُرف جدليا كرجل سلامٍ، كانت رسالته أن يعيد إلى يهوذا حياتهم العادية، وأن يخضعوا للكلدانيين بغير تخوفٍ منهم، وأن يستقبل اليهود العائدين من موآب وبني عمون وآدوم، وكانوا غالبًا من الجنود. كان جدليا يرفض الثورة ضد بابل، متأثرًا بإرميا وغيره من الأنبياء، لذلك عينه ملك بابل وكيلًا له، وواليًا على يهوذا. 3. الكشف عن مؤامرة ملك بني عمون: 13 ثُمَّ إِنَّ يُوحَانَانَ بْنَ قَارِيحَ وَكُلَّ رُؤَسَاءِ الْجُيُوشِ الَّذِينَ فِي الْحَقْلِ أَتَوْا إِلَى جَدَلْيَا إِلَى الْمِصْفَاةِ، 14 وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ عِلْمًا أَنَّ بَعْلِيسَ مَلِكَ بَنِي عَمُّونَ قَدْ أَرْسَلَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ نَثَنْيَا لِيَقْتُلَكَ؟!» فَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ جَدَلْيَا بْنُ أَخِيقَامَ. 15 فَكَلَّمَ يُوحَانَانُ بْنُ قَارِيحَ جَدَلْيَا سِرًّا فِي الْمِصْفَاةِ قَائِلًا: « دَعْنِي أَنْطَلِقْ وَأَضْرِبْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ نَثَنْيَا وَلاَ يَعْلَمُ إِنْسَانٌ. لِمَاذَا يَقْتُلُكَ فَيَتَبَدَّدَ كُلُّ يَهُوذَا الْمُجْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَتَهْلِكَ بَقِيَّةُ يَهُوذَا؟». 16 فَقَالَ جَدَلْيَا بْنُ أَخِيقَامَ لِيُوحَانَانَ بْنِ قَارِيحَ: «لاَ تَفْعَلْ هذَا الأَمْرَ، لأَنَّكَ إِنَّمَا تَتَكَلَّمُ بِالْكَذِبِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ». [13-16]. يقصد ب "رؤساء الجيوش في الحقول" [13] ضباط الجنود المسرحين (2 مل 25: 5) الذين خافوا أولًا من معاملة بابل لهم، ولكنهم تأكدوا فيما بعد (في آية 9 حلف لهم جدليا قائلًا "لا تخافوا") أنهم سينالون العفو إذا خضعوا واستسلموا وعادوا يستغلون الأرض ويخضعون لجدليا وحكومته في المصفاة. ورجع أيضًا اليهود الذين غادروا البلاد قبل هجوم بابل وكانوا قد التجأوا إلى شرق الأردن. إذ بدأ السلام يدب في يهوذا، وتجمعت طاقات ممتازة حول جدليا، وبدأت الحقول تأتي بثمار... بعث بعليس ملك بني عمون إسماعيل بن نثنيا ليقتل جدليا وقد حذر رؤساء الجيوش جدليا منه مؤكدين له وجود مؤامرة مدبرة لقتله لتحطيم بقية يهوذا، أما هو فلم يصدق. ما كان يشغل قلب يوحنان ليس الخوف على قتل جدليا، وإنما انهيار النبتة الجديدة لإقامة دولة يهوذا التي خربت تمامًا بواسطة البابليين، وقد صار هناك بارقة أمل لتجميع الجهود ولو تحت الاستعمار البابلي. فكان في رأيه أن قتل إسماعيل أفضل من ضياع الأمة كلها. لقد أخطأ جدليا إذ لم يسمع لهم، وكان يليق به أن يرفع قلبه بالصلاة يطلب مشورة الله، وأن يلجأ إلى إرميا النبي الذي كان ملاصقًا له. هنا تظهر خطورة اتكال الإنسان على أفكاره وحده. كان بعليس ملك عمون في شرق الأردن ينتظر اغتنام فرصة رجوع جيوش بابل إلى وطنهم ليملك على ما بقي من البلاد في غرب الأردن، ويقتل جدليا وكيل ملك بابل. ما هي دوافع بعليس ملك عمون في اغتيال جدليا؟ دوافعه غير واضحة: أ. واضح أنه يريد أن يسبب قلاقل للبابليين كما يظهر من (حز 21: 18-32). حيث خطط نبوخذنصر للغزو في الغرب في سنة 587 ق.م.، مهاجمًا بني عمون ويهوذا كمقاومين له. ب. يحتمل أن صدقيا كان يحاول الهروب إلى بني عمون ناظرًا إلى ملكها كحليفٍ له. لذلك تطلع بعليس إلى جدليا كخائنٍ وعميلٍ بابلي، وأن إسماعيل الذي من نسل ملوكي أولى بالحكم لأنه في نظره مخلص ليهوذا. ج. يحتمل أن يكون هناك عداوة شخصية بين بعليس وجدليا. د. لعل بعليس أراد أن يحطم البقية من يهوذا التي بها بارقة أمل لقيام دولة لليهود مرة أخرى . حذر يوحنان جدليا وأخبره عن المؤامرة، لكن جدليا لم يصدق الذين أنذروه ولم يسمح بقتل المشتبه فيه، مبعوث ملك عمون. لم يصدق جدليا ما قيل له من يوحنان وزملائه، لأنه كان يعرف إسماعيل شخصيًا حينما كان يعمل في القصر وكان إسماعيل أميرًا ملوكيًا. أو ربما لم يكن ممكنًا لجدليا أن يعتقد بأن أحدًا، خاصة من النسل الملوكي، ألا يكون مخلصًا في إعادة قيام يهوذا ولو في ظل الاستعمار البابلي. واضح أن إسماعيل سقط في خطية الحسد التي تدفع الإنسان إلى سلسلة لا تنقطع من الخطايا، إذ تحول حياته إلى جحيم كراهية بلا سبب وبلا هدف. هنا يرتكب اسماعيل الخطايا التالية: أ. اغتيال جدليا دون مراعاة لواجب الضيافة، إذ قدم له جدليا مائدة وأكلا معًا؛ عوض الشكر قدم الغدر والخيانة، ولم يراعِ حتى ظروف البلده. ب. سحبته الخطية إلى خطية أخرى وهي قتل كل اليهود الذين كانوا مع جدليا. ج. قتل رجال الحرب الذين لم يتوقعوا هذه الخيانة ولم يكونوا مستعدين لمقاومته هكذا بدد كل الطاقات التي كان يمكن أن تكون لبنيان بلده. د. قتل سبعين رجلًا من الثمانين القادمين ببكاء ومرارة من شكيم وشيلو والسامرة للذهاب إلى أورشليم وتقديم بعض العطايا... قتلهم بلا ذنب! جاء هؤلاء الرجال من شكيم وشيلو والسامرة لزيارة بيت الرب عابرين بالمصفاة. يبدو أن بعض أنواع العبادات لم تنقطع عن هذا المعبد العظيم الذي كان يفتخر به اليهود بين الأمم عبر الأجيال. جاءوا في حزنٍ شديدٍ على الهيكل وما حلّ به. ه. سبَى بقية الشعب الذين في المصفاة وبنات الملك ليعبر بهم إلى بعليس ملك بني عمون الوثني. ماذا كان هدفه من هذا كله؟! و. بسبب تصرفاته الحمقاء اضطر يوحنان بن قاريح وكل رؤساء الشعب أن يقتفوا أثره للدخول معه في معركة، واضطروا إلى الهروب إلى مصر خوفًا من ملك بابل. هكذا حطم هذا الحاسد نفسه والرجال الذين معه وأيضًا بلده! من وحي إرميا 40 بحبك حررتني من قيودي! وبحبك أشتهي أن أُقيد مع إخوتي! * انطلق إرميا مقيدًا بالسلاسل مع المسبيين، لكن رئيس الشرط حلَّه من القيود، كرّمه أمام الجميع وقدم له هدايا. أعطاه كامل الحرية ليقطن أينما شاء! * تحرر إرميا من السلاسل الحديدية، لكنه اشتهي قيود الحب، ورفض أن يذهب إلى بابل ليُكرم من ملكها! * بحبك حررتني من قيودي، وأنا بحبي أشتهي أن أقيد مع المقيدين! قيود الخطية تملأني عارًا ومذلة! أما قيود الحب فتهبني شركة معك أيها المصلوب! لأتحرر بك يا واهب الحرية، لأُقيد بقيود الحب أيها الحب الحقيقي! * هب لي مع إرميا إن يفك نبوزرادان قيودي، ومع صليبك أشتهي أن أحمل القيود بارادتي، نعم ما أعذب قيود الحب! أطلب مشورتك فلا ينطفئ نوري! * انطلق إرميا إلى المصفاة يسند جدليا الوالي. ورجع كل الهاربين إلى الدول المحيطة، واطمأنوا واستراحوا لكي يعملوا مع جدليا وإرميا. بنات الملك استراحت نفوسهن! الفقراء حصدوا ثمارًا كثيرة! بركات الرب حلت على الكل! * لم يطق بعليس ملك عمون الخير لغيره، فأثار الأمير إسماعيل ليجعل منه مجرمًا غادرًا. أرسل الله يوحنان يحذر جدليا، بغير حكمة لم يستشر جدليا الله، ولا طلب صلوات النبي عنه. بهذا أنطفأ نوره وحرم الكثيرين من النصرة! * بغدرٍ قتل جدليا والمحيطين به، فأطفأ شعلة النور في بدء انطلاقها. وسبَى بنات الملك ليذهب بهن إلى عمون! قتل ونهب وانطلق ليعيش وسط الأوثان! هكذا لم يطق الظلام النور! * هب لي يا رب ألا اتكل على ذاتي، بل أطلب دومًا مشورتك، ولا أحتقر مشورة إخوتي. بهذا لا ينطفئ نورك في داخلي. |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
https://upload.chjoy.com/uploads/169806906047231.jpg حديث معزي مع باروخ يأتي هذا الأصحاح بعد الأصحاح الرابع والأربعين حيث يقدم إرميا كلماته الأخيرة ضد الذين نزلوا إلى مصر، وقبل الأصحاح السادس والأربعين حيث يعلن نبواته ضد الأمم، إذ يريد الرب أن يعلن لهؤلاء الذين رفضوا نصيحة إرميا بالبقاء في يهوذا وأرغموه على النزول معهم إلى مصر، أن القضاء الذي نطق به إرميا لا بُد أن يتم وذلك مثل الكلام الذي سبق فأملاه على باروخ وقُرئ على الملك يهوياقيم، لكن الملك يهوياقيم رفضه فتم كل الكلام بحذافيره ولم يسقط منه حرف واحد. ولا بُد أن يقع القضاء على مصر التي هربوا إليها وذلك بيد نبوخذنصر كما تكلم إرميا، وأنهم لا ينجون من هذا القضاء وهم في مصر. جاء بعد الأصحاح الرابع والأربعين المشتمل على التهديدات القاسية ضد اليهود في مصر، الذين كان من بينهم باروخ الذي حُمل إلى مصر قسرًا. وكأن هذه الرسالة تقدم استثناءً لباروخ مما قيل عن الذين في مصر. جاءت هذه الرسالة موجهة إلى باروخ الذي أصيب بحالة إحباط لأسباب كثيرة منها: أ. رد فعل الملك يهوياقيم الذي مزّق السفر وأحرقه بالنار، وطلب القاء القبض على إرميا وباروخ ليقتلهما (إر 36). ربما حسب باروخ هذا الأمر إهانة شخصية له، كما صار مستقبله مظلمًا، لا يعرف ماذا يفعل. ب. إذ كان باروخ يكتب النبوات ضد شعب يهوذا، ربما شعر بفشل خدمته، فكان ينتظر توبة الملك والرؤساء والشعب فيندم الله على الشر أو التأديب الذي أعلن عنه، وذلك حسب وعده الإلهي. على أي الأحوال، كان باروخ في حاجة إلى مساندة إلهية لكي يخلص من حالة اليأس التي تسربت إلى نفسه. مع قصر هذه الرسالة فإنها حديث إلهي مملوء بالرجاء الحي، موجه إلى كل مؤمن يعمل في كرم الرب لكي يمتلئ رجاءًا، مهما بدت الظروف قاسية. أنها رسالة إلهية تعلن عن عنايته التي لن تخيب، وحبه الشديد للعاملين لحسابه، ونظراته المملوءة حنانًا وترفقًا. فانه يهتم بنفسياتهم كما بكل احتياجاتهم. 1. تاريخ الحديث: من الناحية التاريخية يأتي هذا الأصحاح بعد (إر 36: 8)، فالعبارة التالية تشير إلى الكلام الذي أملاه إرميا إلى باروخ وقُرئ على الملك يهوياقيم ومستشاريه ثم أُلقي في النار بكل احتقار. "اَلْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا إِرْمِيَا النَّبِيُّ إِلَى بَارُوخَ بْنِ نِيرِيَّا عِنْدَ كَتَابَتِهِ هذَا الْكَلاَمَ فِي سِفْرٍ عَنْ فَمِ إِرْمِيَا، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِيَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا قَائِلًا:" [1]. 2. حالة إحباط: "2 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لَكَ يَا بَارُوخُ: 3 قَدْ قُلْتَ: وَيْلٌ لِي لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ زَادَ حُزْنًا عَلَى أَلَمِي. قَدْ غُشِيَ عَلَيَّ في تَنَهُّدِي، وَلَمْ أَجِدْ رَاحَةً." [2-3]. يبدو أن باروخ شعر بأن رفض الملك لكلمة الله إهانة موجهة إليه شخصيًا، أو موجهة إليه مع إرميا، لا إلى الرب الذي أمر بكتابة هذا الكلام على الدرج، وهذا أوجد عنده شعور بالخيبة والفشل، لذلك تنهد باروخ ولم يجد راحة. لقد كان مضغوطًا بالخوف ولم يقدر أن ينام، وتثقَّل بالحزن والألم فدخل في حالة إحباط. سبق أن رأينا إرميا النبي يتعرض لنفس المشاعر إلى حين. هذا هو الضعف البشري الذي يلاحق حتى الأنبياء أحيانًا، لكن الله لا يتركهم بلا عون! 3. رسالة رجاء: إذ استخدم الله باروخ أداة لإعلان مشورته الإلهية إلى الآخرين لا يمكن أن يهمله الرب عندما يدخل في حالة احباط، لذلك يوجه الرب إليه الرسالة الخاصة التالية: "4 «هكَذَا تَقُولُ لَهُ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَهْدِمُ مَا بَنَيْتُهُ، وَأَقْتَلِعُ مَا غَرَسْتُهُ، وَكُلَّ هذِهِ الأَرْضِ. 5 وَأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُورًا عَظِيمَةً؟ لاَ تَطْلُبُ! لأَنِّي هأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى كُلِّ ذِي جَسَدٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُعْطِيكَ نَفْسَكَ غَنِيمَةً فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَسِيرُ إِلَيْهَا»." [5]. إن كان الحكم قد صدر على كل الدول في ذلك الحين، لكن جاء الأمر الإلهي مشددًا على شعبه، فقد بناه بنفسه وغرسه ككرمٍ خاص به، لكن بسبب العصيان قام الله نفسه بهدمه واقتلاعه. يقدم الرب إلى باروخ كلمة تصلح شعارًا لكل واحدٍ منا، هذه الكلمة هي "وأنت، فهل تطلب لنفسك أمورًا عظيمة؟ لا تطلب". فكم يميل القلب إلى طلب الأمور العظيمة. كان باروخ رجلًا متعلمًا، أُعدَّ ليكون كاتبًا، وكان أخوه سرايا رئيس المحلة عند صدقيا الملك (إر 51: 59)، لذلك ربما ترجى باروخ أن ينال منصبًا في القصر الملكي لخدمة شعبه، لكنه يرى كل شيء ينهار أمامه. لننظر إلى مسيحنا الذي لم يكن له موضع في المنزل عند ولادته. ومع أن الماشية والقطعان فوق الجبال ملك له استعار الجحش والأتان ليركب عليهما. كما استعار من إنسانٍ علية لعشاء الفصح؛ بينما أقرضه آخر قبره الجديد. قيل عنه: "وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ" (لو 8: 3). كانت للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، أما هو فلم يكن له موضع يسند فيه رأسه (مت 8: 10). قيل عن الآخرين "فمضى كل واحدٍ إلى بيته، أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون" (يو 7: 53، 8: 1)، لأنه لم يكن له بيت هنا. وينطبق عليه تمامًا القول: "لماذا تكون كغريبٍ في الأرض وكمسافرٍ يميل ليبيت؟!" (إر 14: 8). لم يكن له موضع بين العظماء أثناء وجوده بالجسد على الأرض، بل كان دائمًا غريبًا. كان مرفوضًا حتى من خاصته (يو 1: 11). ليتنا نحن أيضًا لا نطلب أمورًا عظيمة في هذا العالم؛ الأمور العظيمة المختصة بنا آتية عما قريب وهي الأمور الباقية والثابتة، لأن الأمور التي تُرى هي وقتية أما التي لا ترى فهي أبدية (2 كو 4: 18). * إن امتدحك الله وأكرمك، فهل سيكون هناك من هو مبارك أكثر منك؟! لأن الفرق بين المجد الذي من الله والمجد الذي من الناس أعظم بكثير من الفرق بين المجد والعار هنا... * مع أنه في استطاعتك أن تحيط نفسك بشهودٍ من السماء، إلا أنك تستعيض عنهم بمتفرجين أرضيين. القديس يوحنا الذهبي الفم نجد توبيخًا لباروخ لشعوره بالاكتئاب فيما يخص مستقبله. حقًا سيجيء القضاء، لكن هذا القضاء لا يمكن أن يمسه بأي سوء؛ فليأتِ السيف ولتأتِ المجاعة وليأتِ الوباء ويهلك الكثيرون أما باروخ فيحفظه الرب. وإن هاج الناس عليه لا يمكن أن يصيبه أذى أو سوء، لأن الرب سند له.من وحي إرميا 45 ما أعذب تعزياتك لي وسط أتعاب الخدمة * أحشائي تئن من أجل كل نفسٍ! أعماقي تصرخ بسبب ضعفات كل إنسانٍ! تسلل اليأس إليَّ، صرت كمن هو في حالة إحباط، من يستطيع أن ينقذني سواك؟! * ما أعذب تعزياتك لي وسط أتعاب الخدمة! حين يصير العالم كله مظلمًا في عينيْ، إشراقات حبك تملأني رجاءً، نعمتك تؤكد لي أنك إله المستحيلات! * في ضعفي كثيرًا ما ظننت في خدمتك خسارة، معك أفتقر لكي يغتني الكثيرون! معك أحمل التعييرات لكي يُكرم الكل! معك أموت لكي تحيا كل نفسٍ أبديًا! * خدمتك صليب مجيد، به تصير السموات مفتوحة، وتتهلل نفسي مع كل نفس متهللة، وأحسب إكليل الكل إكليلي! |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
https://upload.chjoy.com/uploads/169806906047231.jpg نبوات عن الأمم في دراستنا لأسفار حزقيال (25-32) وإشعياء [إش 31: 23] وعاموس (1-2)، وصفنيا [2: 4-15] تحدثنا عن النبوات ضد الأمم التي غالبًا ما كانت لتأديبهم. واضح أن هذه النبوات لم ينفرد بها نبي معين، لكنها تكاد تكون مشتركة بين الأنبياء، وتمثل جزءًا حيًا من الكلمة الإلهية التي تود أن تكشف لكل البشرية عن الله نفسه ومعاملاته معهم. يمكننا في إيجاز هنا أن نوضح أسباب اهتمام النبوة بالأمم: 1. الله هو إله البشرية كلها، حتى وإن انحرفت. فمهما بدى تأديبهم قاسيًا فإن غايته هو رجوعهم إلى الله ليتمتعوا بشخصه ومواعيده الإلهية. لهذا كثيرًا ما تُختم النبوات ضدهم بفتح باب الرجاء أمامهم ليختبروا الحب الإلهي. إن كان العهد القديم قد احتوى على نبوات ضد الأمم، لكنه لم يقف عند ذلك بل فتح الطريق أمامهم لإدراك سر العهد الجديد الذي قدم كلمة الله لحساب الأمم. هؤلاء الذي كانوا غرباء صاروا قريبين، أهل بيت الله، وكما يقول الرسول بولس: "أنتم الذين كنتم قبلًا بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح" (أف 2: 13). إن كانت حاجة إلى برهان على أن إله إسرائيل كان يُنظر إليه أنه إله الأرض كلها فهنا نجد البرهان. هذا ما سنراه واضحًا في الأصحاحات التالية. 2. ترمز الأمم الساقطون في عبادة الأصنام برجاساتها إلى الخطية نفسها، خاصة وأن بعضهم كانوا يقدمون أطفالهم ذبائح بشرية للأوثان بإجازتهم في النار. دمارهم يشير إلى التخلص من الخطايا ذاتها ومن مصادرها لكي يحيا الإنسان في بر السيد المسيح. يقول العلامة أوريجينوس: [في رأيي أن بعض أسماء الشعوب أو الملوك التي نقرأ عنها في الكتاب المقدس تخص بلا شك الملائكة الأشرار أو السلاطين المضادة، مثل فرعون ملك مصر ونبوخذنصر ملك بابل وأشور]. يرى القديس جيروم في تفسيره للمزامير أن الأمم المقاومة لله ولشعبه والتي خضعت للتأديب هي إحدى عشر أمة إشارة إلى النقص، إذ لم تبلغ اثنتي عشرة، رقم الكمال الذي يشير إلى ملكوت الله على الأرض. 3. الله ضابط الكل وصانع التاريخ له السيطرة التامة على الأفراد كما على الأمم. لقد شعر الأنبياء في كل مراحل نشاطهم أنهم يشاركون في الأحداث التي يكون لها أكثر من مجرد معني محلي أو قومي، لهذا اهتموا اهتمامًا جادًا بسلوك الشعوب الأجنبية التي لا يمكن عزلها عن خطة الخلاص التي أعدها الله. وقد عبر ذلك الاهتمام عن نفسه أحيانًا بإدانة الشعوب المجاورة. يوجد ثلاثة أسفار نبوية ركزت بالكامل على قوة أجنبية: سفر عوبديا على أدوم، ويونان وناحوم على نينوى. ارتعاب مصر الوثنية يبدأ إرميا النبي بمصر في نبواته ضد الأمم الغريبة للأسباب التالية: أ. كانت المنطقة كلها تعيش إلى فترةٍ طويلة من الزمن تحت النفوذ السياسي المصري. ب. كانت المشكلة السياسية التي يُعاني منها إرميا النبي هي ميل الملك ورجاله مع القيادات الدينية خاصة الأنبياء الكذبة وأيضًا الشعب إلى الاتجاء إلى فرعون والتحالف معه ضد بابل حتى لا تسقط يهوذا تحت السبي البابلي كما سقطت إسرائيل تحت السبي الأشوري. أُتهم إرميا وكاتبه بالخيانة الوطنية لرفضهم الالتجاء إلى فرعون والاحتماء تحت ظل جيشه. ج. لم ينسَ العبرانيون عبر الأجيال الظلم الذي سقطوا تحته بواسطة فرعون خاصة في أيام موسى النبي، وبقيت قصة الخروج حيَّة في حياتهم تعبَّر عن عمل الله الخلاصي وإنقاذهم من عبودية إبليس وتحريرهم من الظلم. د. من الجانب التأويلي يُنظر إلى مصر وبابل في العهد القديم كأعظم قوتين في العالم في ذلك الحين يمثلان الخطية. تمثل مصر حياة الرخاوة والترف ومحبة العالم، وذلك بسبب كثرة خيراتها. وتمثل بابل العصيان والكبرياء ضد الله وشعبه. لهذا بدأت الأمم هنا بمصر لتمثل حياة الرخاوة المفسدة للنفس وانتهت ببابل التي تمثل تمرد النفس وعجرفتها. بدأ بمصر وختم بابل لأنه غالبًا ما يركز الإنسان فكره على البداية والنهاية فيعطيهما الأولوية والاهتمام في الدراسة والفحص. ه. بدأ بمصر لأنها وإن خضعت للتأديب القاسي لكنها تعود وتقبل عمل الله الخلاصي، فتسمع الوعد الإلهي: "مبارك شعبي مصر" (إش 19: 25)، فصارت تمثل كنيسة الأمم التي جاء إليها الرب راكبًا على سحابة سريعة (إش 1: 19)، أما بابل فتمثل مملكة ضد المسيح فنسمع في سفر الرؤيا الصرخة: "سقطت، سقطت بابل العظيمة، فصارت مسكنًا للشياطين ومحرسًا لكل روحٍ نجس..." (رؤ 18: 2). و. في سنة 609 ق.م. إذ حشد فرعون نخو جيشه تقدم به لاحتلال أرض الفرات، وقتل يوشيا الملك الصالح في معركة مجدو لأنه حاول تقديم معونة عسكرية لملك أشور، وصار حزن شديد وسط الشعب، فكانوا يتساءلون: لماذا سمح الله بقتل الملك الصالح؟ لقد حان الوقت للانتقام للدم البريء من فرعون مصر. ولعله لذات الأسباب السابقة احتلت النبوات ضد مصر مركز الصدارة في سفر حزقيال (أصحاحات 29-32). 1. دعوة إلى معركة: 1 كَلِمَةُ الرَّبِّ الَّتِي صَارَتْ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ عَنِ الأُمَمِ، 2 عَنْ مِصْرَ، عَنْ جَيْشِ فِرْعَوْنَ نَخُو مَلِكِ مِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى نَهْرِ الْفُرَاتِ فِي كَرْكَمِيشَ، الَّذِي ضَرَبَهُ نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِيَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا: 3 «أَعِدُّوا الْمِجَنَّ وَالتُّرْسَ وَتَقَدَّمُوا لِلْحَرْبِ. 4 أَسْرِجُوا الْخَيْلَ، وَاصْعَدُوا أَيُّهَا الْفُرْسَانُ، وَانْتَصِبُوا بِالْخُوَذِ. اصْقِلُوا الرِّمَاحَ. الْبَسُوا الدُّرُوعَ. "كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الأمم. عن مصر عن جيش فرعون نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش الذي ضربه نبوخذرانصر ملك بابل في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا" [1-2]. بقي الجيش المصري مرابضًا في كركميش (في الطريق بين بابل ومصر) لمدة أربع سنوات (609-605 ق.م) خلالها كان فرعون مسيطرًا على سوريا ومصر، يقيم لهم ملوكًا يحركهم كما يشاء كدميات، أما القوة الرئيسية الأخرى أي البابلية فكانت منشغلة بأمورٍ أخرى، وأخيرًا هجم الجيش البابلي على المصريين في كركميش لاقتلاعهم تمامًا. غلب فرعون نخو البابليين واستولى على كركميش في عام 605 ق.م، وقام بتحصينها، ثم عاد إلى بلده. لكن في تلك السنة أرسل نبوبلاصر ابنه نبوخذنصر بجيشٍ ضد فرعون حيث انتصر بالقرب من نهر الفرات ورد مدينة كركميش، وطارد المصريين حتى ديارهم، واخضع كل الولايات الثائرة. جاءت النبوة هنا تخص انهيار جيش نخو في معركة كركميش على نهر الفرات، الأمر الذي لم يكن متوقعًا بسبب قوة الجيش المصري. فقد أوضح هنا كيف تهيأ الجيش للعمل بنفسيةٍ عاليةٍ جدًا وثقة ويقين أن النصرة تتم حتمًا. معركة كركميش (2 أي 35: 20، إش 10: 9). كلمة "كركميش" تعني "قلعة كموش" إله موآب الرئيسي (2 مل 23: 13). تمت في السنة الرابعة من مُلك يهوياقيم وفي السنة الأولى لنبوخذنصر كملك بابل (إر 25: 1). وهي احدى المعارك الحاسمة في التاريخ القديم، قضت على سلطان مصر الذي دام زمانًا طويلًا على المنطقة السورية الفلسطينية. تصف النبوة ما كان عليه جيش مصر وذلك في شكل دعوى إلى المعركة موجهة من قادة الجيش المصري إلى رجالهم الأبطال: " أعدوا المجن والترس، وتقدموا للحرب. أسرجوا الخيل، واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخوذ. اصقلوا الرماح. ألبسوا الدروع" [3-4]. طلب القادة أن يعد الكل المجن والترس، أي يحملوا العدة الحربية بكل أحجامها وأنواعها، وأن يستعد الفرسان وقادة المركبات. فقد عُرفت مصر كأفضل مصدر للأنواع الجيدة للخيول (1 مل 10: 28). 2. ارتعاب مصر: "5 لِمَاذَا أَرَاهُمْ مُرْتَعِبِينَ وَمُدْبِرِينَ إِلَى الْوَرَاءِ، وَقَدْ تَحَطَّمَتْ أَبْطَالُهُمْ وَفَرُّوا هَارِبِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا؟ الْخَوْفُ حَوَالَيْهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 6 الْخَفِيفُ لاَ يَنُوصُ وَالْبَطَلُ لاَ يَنْجُو. فِي الشِّمَالِ بِجَانِبِ نَهْرِ الْفُرَاتِ عَثَرُوا وَسَقَطُوا." [5-6]. رأى إرميا بروح النبوة كيف انهار جيش فرعون عند هزيمتهم على يديْ نبوخذنصر، فقد كانت الضربة غير متوقعة وذلك بالنسبة للاستعدادات الضخمة التي كانت لجيش فرعون ولكبريائهم وتشامخهم كأعظم قوة عالمية في ذلك الحين. هكذا عندما يتشامخ القلب جدًا، ويمتلئ كأس العجرفة تحل الهزيمة ويسقط الإنسان، فإنه "قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح؛ تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (أم 16: 18-19). دخل الجيش إلى حالة رعب، ليس لهم الله أن يتقدموا إلى الأمام حيث نهر الفرات، وإنما في رعب يهربون إلى الوراء وقد تحطم الأبطال. عوض اليقين بالنصرة حل بهم الخوف من كل جانب. ارتبك الكل، فالخفيف أي السريع الحركة تعثر ولم يعد قادرًا على الهروب (لا ينوص)، والقوي لا ينجو. إن كانوا يتشامخون بنهر النيل كمصدر حياتهم ورخائهم، صار نهر الفرات قبرًا لأبطالهم حيث تعثروا وسقطوا قتلى. هذا هو عمل الخطية! إنها تبعث الخوف الداخلي في النفس فتحطمها. لا تستطيع أن تلتفت إلى الأمام ولا إلى ما هو حولها بل تنحدر دومًا إلى الخلف، وتفقد سرعتها في الحركة وقوتها، وأخيرًا تسقط كجثةٍ هامدةٍ بلا حياة. 3. كبرياء مصر: "7 مَنْ هذَا الصَّاعِدُ كَالنِّيلِ، كَأَنْهَارٍ تَتَلاَطَمُ أَمْوَاهُهَا؟ 8 تَصْعَدُ مِصْرُ كَالنِّيلِ، وَكَأَنْهَارٍ تَتَلاَطَمُ الْمِيَاهُ. فَيَقُولُ: أَصْعَدُ وَأُغَطِّي الأَرْضَ. أُهْلِكُ الْمَدِينَةَ وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا." [7-8]. خطية فرعون هي الكبرياء، إذ كان بجيشه القوي يظن أنه قادر أن يفعل كل شيء. في تشامخه ظن أنه كنهر النيل الذي في فترة فيضانه تمتلئ قنواته كأنهار تجري حوله لتغطي الأراضي بمياهها وطميها. لا يستطيع أحد أن يقف أمام هذا الفيضان أو يقاومه. في كبرياء يقول فرعون: "نهر لي وأنا عملته لنفسي" (حز 29: 3). يُقال إنه قصد به فرعون حفرع الذي افتخر بأمرين: أنه صانع بيديه ما هو فيه من قوة وأمان، وأن هذا النهر إنما لأجله هو قد وُجد. لقد أقام "الأنا" إلهًا، هي الصانعة للنهر، سر خصوبة مصر وعظمتها، ولأجل نفسها صنعت ذلك. يروى المؤرخ هيروديت عن هذا الملك أنه ملك في رخاء عظيم لمدة خمسة وعشرين عامًا، وقد ارتفع قلبه بسبب نجاحه قائلًا إن الله نفسه لا يقدر أن ينزعه من مملكته. في سفر حزقيال (ص 29) يُشبه فرعون مصر بالتمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره، يظن أنه خالق النهر لحساب نفسه، يجلس في النهر كما في عرشه ليدافع عن الأمم المحيطة به المتحالفة معه. 4. يوم للسيد الرب: "9 اصْعَدِي أَيَّتُهَا الْخَيْلُ، وَهِيجِي أَيَّتُهَا الْمَرْكَبَاتُ، وَلْتَخْرُجِ الأَبْطَالُ: كُوشُ وَفُوطُ الْقَابِضَانِ الْمِجَنَّ، وَاللُّودِيُّونَ الْقَابِضُونَ وَالْمَادُّونَ الْقَوْسَ. 10 فَهذَا الْيَوْمُ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ يَوْمُ نَقْمَةٍ لِلانْتِقَامِ مِنْ مُبْغِضِيهِ، فَيَأْكُلُ السَّيْفُ وَيَشْبَعُ وَيَرْتَوِي مِنْ دَمِهِمْ. لأَنَّ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ ذَبِيحَةً فِي أَرْضِ الشِّمَالِ عِنْدَ نَهْرِ الْفُرَاتِ." [9-10]. إذ يتطلع إرميا النبي إلى المعركة ويرى انهيار فرعون وجيشه مع القوات المرتزقة الذين استأجرهم، يدعو ذلك اليوم "يوم للسيد رب الجنود". إنه ليس كيوم معركة هرمجدون "يوم الله القادر على كل شيء" (رؤ 16: 14)، إنما يشبهه. هو يوم نقمة حيث يسقط فرعون وجيشه مع القوات المرتزقة أو المتحالفة معه القادمة من كوش (أثيوبيا أو النوبة) وفوط (ليبيا) واللوديون (أفريقيون غالبًا كانوا يقطنون ليبيا). 5. سقوط مصر: "11 اصْعَدِي إِلَى جِلْعَادَ وَخُذِي بَلَسَانًا يَا عَذْرَاءَ، بِنْتَ مِصْرَ. بَاطِلًا تُكَثِّرِينَ الْعَقَاقِيرَ. لاَ رِفَادَةَ لَكِ. 12 قَدْ سَمِعَتِ الأُمَمُ بِخِزْيِكِ، وَقَدْ مَلأَ الأَرْضَ عَوِيلُكِ، لأَنَّ بَطَلًا يَصْدِمُ بَطَلًا فَيَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا مَعًا»." [11-12]. إذ سقط جيش فرعون لم يعد يرى النبي في الجيش أبطالًا، بل رآه كله أشبه بفتاة، أو ببنتٍ ضعيفة مجروحة، جراحاتها خطيرة لا يُرجى شفائها. لقد عُرفت مصر القديمة بنبوغها وتقدمها في الطب، خاصة الطب النباتي. حاليًا تقوم دراسات مكثفة حول هذا الطب. لكن يرى النبي أن عقاقير مصر وخبراتها الطبية عجزت عن تقديم الشفاء لجيشها الجريح. صاروا في خزي وامتلأت الأرض من صراخاهم حيث يتعثر بطل في بطلٍ ويسقط الكل معًا. أين العلاج؟ في جلعاد حيث تجد البلسان! عليها أن تصعد إلى هناك فتنال الشفاء! إنها في حاجة إلى روح الله القدوس الذي وحده يمسك بيد البنت الأممية ليصعد بها من وحل هذا العالم وفساده إلى كنيسة المسيح، جلعاد الحقيقية، هناك تجد السيد المسيح، البلسان الروحي واهب الشفاء. إنها دعوة إلى الأمم التي يُرمز لها بمصر لتترك عقاقيرها الكثيرة وتلجأ إلى كنيسة المسيح، هناك تتحد مع المخلص الذي يضمد جراحات النفس ويشفيها. 6. قضاء من بابل: 13 اَلْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ فِي مَجِيءِ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ لِيَضْرِبَ أَرْضَ مِصْرَ: 14 «أَخْبِرُوا فِي مِصْرَ، وَأَسْمِعُوا فِي مَجْدَلَ، وَأَسْمِعُوا فِي نُوفَ وَفِي تَحْفَنْحِيسَ. قُولُوا انْتَصِبْ وَتَهَيَّأْ، لأَنَّ السَّيْفَ يَأْكُلُ حَوَالَيْكَ. 15 لِمَاذَا انْطَرَحَ مُقْتَدِرُوكَ؟! لاَ يَقِفُونَ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ طَرَحَهُمْ! 16 كَثَّرَ الْعَاثِرِينَ حَتَّى يَسْقُطَ الْوَاحِدُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَقُولُوا: قُومُوا فَنَرْجِعَ إِلَى شَعْبِنَا، وَإِلَى أَرْضِ مِيلاَدِنَا مِنْ وَجْهِ السَّيْفِ الصَّارِمِ. 17 قَدْ نَادُوا هُنَاكَ: فِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ هَالِكٌ. قَدْ فَاتَ الْمِيعَادُ. [13-17]. يرى البعض أن الحديث هنا عن المعركة التي تمت بعد معركة كركميش بحوالي 15 أو 16 عامًا حيث جاء ملك مصر بجيشه العظيم لمحاربة نبوخذنصر أثناء حصاره أورشليم. اضطر نبوخذنصر إلى فك الحصار مؤقتًا حتى يحقق نصرته على جيش فرعون ويعود ثانية إلى محاصرة المدينة واقتحامها (إر 37: 1-10). بعد عودته إلى بابل تحققت هذه النبوة إذ عاد ليقيم حربًا مع مصر ليهزمها تمامًا، فصارت بابل القوة العظمى الوحيدة في العالم في ذلك الحين (دا 2: 37-42؛ 7: 4). كثيرا ما افتخر فرعون حفرع (Apries)Hophra بقوته في حماية حلفائه، لكن ظهر عجزه تمامًا في اللحظات الحاسمة. يُعتبر هذا وصمة عارٍ تلحق باسمه الذي يحمل تورية عن الجدية، فإن الفعل العبري hebir يعني "ليعبر" مشابهًا الاسم المصري لفرعون (whiher)Apries. يكشف [16] عن انهيار الجنود المرتزقة أو المتحالفة مع فرعون فقد أخذوا درسًا قاسيًا من المعركة، وقرروا العودة إلى بلادهم، إذ قالوا: "قوموا فنرجع إلى شعبنا وإلى أرض ميلادنا من وجه السيف الصارم" [16]. تُرجمت كلمة "هالك" [17] هنا ب "ضجيج"، ويمكن تفسيرها هكذا: * تعثر الجبابرة إذ سقط الواحد على الآخر، وصار الصراخ الموجه إلى الملك هو: "ضجيج!" [17]. * لعله يُقصد بهذا أن وعود الملك بحماية الأمم الأخرى خلال سنوات ملكه السابقة لم تكن إلا ضجيجًا لا معنى له. فقد عجز فرعون عن تقديم أي عون حقيقي ليهوذا أو حتى لبلده، إذ قيل "فإن مصر تُعين باطلًا وعبثًا" (إش 30: 7). * أيضًا ربما صار هذا هو مفهوم المرتزقة، إذ أدركوا أن حسابات فرعون العسكرية خاطئة ولم تكن إلا ضجيجًا. * ربما قُصد به أن الملك لم يتعلم درسًا من معركة كركميش السابقة فحطم بلده بعدم حكمته. 7. سبي وخراب: 18 حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ الْمَلِكُ رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ، كَتَابُورٍ بَيْنَ الْجِبَالِ، وَكَكَرْمَل عِنْدَ الْبَحْرِ يَأْتِي. 19 اِصْنَعِي لِنَفْسِكِ أُهْبَةَ جَلاَءٍ أَيَّتُهَا الْبِنْتُ السَّاكِنَةُ مِصْرَ، لأَنَّ نُوفَ تَصِيرُ خَرِبَةً وَتُحْرَقُ فَلاَ سَاكِنَ. 20 مِصْرُ عِجْلَةٌ حَسَنَةٌ جِدًّا. الْهَلاَكُ مِنَ الشِّمَالِ جَاءَ جَاءَ. 21 أَيْضًا مُسْتَأْجَرُوهَا فِي وَسْطِهَا كَعُجُولِ صِيرَةٍ. لأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضًا يَرْتَدُّونَ، يَهْرُبُونَ مَعًا. لَمْ يَقِفُوا لأَنَّ يَوْمَ هَلاَكِهِمْ أَتَى عَلَيْهِمْ، وَقْتَ عِقَابِهِمْ. 22 صَوْتُهَا يَمْشِي كَحَيَّةٍ، لأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ بِجَيْشٍ، وَقَدْ جَاءُوا إِلَيْهَا بِالْفُؤُوسِ كَمُحْتَطِبِي حَطَبٍ. 23 يَقْطَعُونَ وَعْرَهَا، يَقُولُ الرَّبُّ، وَإِنْ يَكُنْ لاَ يُحْصَى، لأَنَّهُمْ قَدْ كَثُرُوا أَكْثَرَ مِنَ الْجَرَادِ، وَلاَ عَدَدَ لَهُمْ. 24 قَدْ أُخْزِيَتْ بِنْتُ مِصْرَ وَدُفِعَتْ لِيَدِ شَعْبِ الشِّمَالِ. 25 قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا أُعَاقِبُ أَمُونَ نُو وَفِرْعَوْنَ وَمِصْرَ وَآلِهَتَهَا وَمُلُوكَهَا، فِرْعَوْنَ وَالْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ. 26 وَأَدْفَعُهُمْ لِيَدِ طَالِبِي نُفُوسِهِمْ، وَلِيَدِ نَبُوخَذْراصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ، وَلِيَدِ عَبِيدِهِ. أخيرًا يصور لنا الخراب الذي حَّل بمصر التي ظنت أنها قادرة على إنقاذ يهوذا من أيدي البابليين: أ. ارتفاع اسم بابل أو ملكها نبوخذنصر: "حيّ أنا يقول الملك رب الجنود اسمه كتابور بين الجبال وككرمل عند البحر يأتي" [18]. لقد ظن فرعون أنه سيحطم بابل، وينزل بملكها إلى الهاوية، فإذا بهزيمة مصر تجعل من بابل الإمبراطورية العظمى الوحيدة في العالم، فيصير اسمها مشهورًا جدًا كشهرة جبل تابور وسط جبال كنعان، وكشهرة الكرمل عند البحر. أكد الله الملك رب الجنود بقسمٍ أن هذا يتحقق فعلًا وليس تهديدًا. يبدو أن إرميا النبي رأى في نبوخذنصر الذي غزا مصر بقوة جبلًا عاليًا يرتفع فوق السهل. إنه مثل جبل تابور الذي يرتفع حوالي 1800 قدمًا كجبلٍ منفردٍ في سهل يزرعيل في شمال إسرائيل، أو مثل جبل الكرمل عند البحر الذي تبلغ قمته حوالي 1700 قدمًا وينحدر سفحه الغربي بحدة نحو البحر المتوسط. ب. صارت مصر بنتًا عاجزة عن التصرف: "اصنعي لنفسك أهبة جلاء أيتها البنت الساكنة مصر، لأن نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن" [19]. جاءت الضربة قاضية في هذه المرة، حيث حُطمت مصر كلها، خاصة المدن الكبرى. يصور مصر بفتاة مسبية لا تقدر على الدفاع عن نفسها أو الهروب من الذين أسروها، هذا عن جيشها العظيم وملكها فرعون المتشامخ، أما عن الأرض فصارت نوف وهي من المدن الكبرى كما رأينا خرابًا، أحرقتها النيران، لا يقطنها إنسان. ج. صارت مصر كعجلة مسمنة لا تصلح إلا للذبح: "مصر عجلة حسنة جدًا. الهلاك من الشمال جاء جاء" [20]. لماذا يشبه مصر بالعجلة الحسنة جدًا؟ لقد ظن فرعون بجيشه -الذي من بين معبوداته الرئيسية عجل أبيس https://st-takla.org/Gallery/var/res...glyphs--E1.png https://st-takla.org/Gallery/var/res...glyphs--Q3.png https://st-takla.org/Gallery/var/res...lyphs--Aa5.png https://st-takla.org/Gallery/var/res...lyphs--V28.png- أنه قادر أن يخلص شعب يهوذا الذي في نظره يعجز الله رب الجنود عن إنقاذه. لم يدرك فرعون أنه قد حول بهذا الفكر مصر إلى عِجلة تحمل الصورة الحسنة جدًا، وذلك بسبب شهرتها في العالم كله، وقوة جيشها، وإمكانياتها من جهة الخيول والمركبات وكل العدة الحربية. لكنها عجلة سمينة عاجزة عن أي عمل، لا تصلح إلا لذبحها، يأتي الذين من الشمال (بابل) ليذبحوها. لقد حوَّل العجل أبيس عابديه إلى عجلة حسنة جدًا تؤكل وتستهلك فلا يكون لها حياة! د. حوَّلت حلفاءها والجنود المرتزقة إلى عجول سمينة: أيضًا مستأجروها في وسطها كعجول صيرة، لأنهم هم أيضًا يرتدون يهربون معًا. لم يقفوا لأن يوم هلاكهم أتى عليهم وقت عقابهم" [21]. لم تصر مصر الوثنية وحدها عجلة كمعبودها عجل أبيس، وإنما حولت مستأجريها أي القوات المرتزقة الأجيرة والتي حلت في وسطها وشاركتها عبادة العجل إلى عجول صيرة أي سمينة. جاءوا للدفاع عنها مع جيشها فصارت ذبائح سمينة للقتل. ه. صارت حركتها كحفيف الحية: "صوتها يمشي كحية لأنهم يسيرون بجيش وقد جاءوا إليها بالفؤوس كمحتطبي حطب" [22]. استخدم إرميا النبي تشبيه الحية الخارجة من الغابة لتُضرب بالفؤوس، لأنه كان للحية مكانة عالية بين الآلهة عند المصريين. إنها عاجزة ليس فقط عن حماية العابدين لها، بل وحتى عن حماية نفسها. إذ تحرك الجيش المشاة مع الفرسان والمركبات وكانت الأصوات رهيبة ومرعبة... نظر إليه النبي فرآه أشبه بحية خارجة من وسط الغابة تزحف بصوت ضعيف للغاية يصعب سماعه، تسقط تحت ضربات لا فأس محتطبٍ واحدٍ بل عدة فؤوس لقاطعي الأخشاب! إنها سخرية بهذا الجيش العظيم الذي بكل إمكانياته لا يزيد عن صوت تحرك حيَّة عاجزة أمام فؤوس كثيرة. و. صارت كشجرة تسقط تحت ضربات فؤوس كثيرة: "يقطعون وعرها يقول الرب وإن يكن لا يحصى لأنهم قد كثروا أكثر من الجراد ولا عدد لهم" [23]. إنها تعجز أن تقاوم أو حتى تشتكي المعتدين عليها. تنهار عليها الفؤوس غير المحصية لتسقط وتتحطم إلى قطع خشبية صغيرة لا تصلح إلا للنيران. إن كانت الشجرة تستطيع أن تصرخ أمام ضاربيها بالفؤوس، يمكن لفرعون أن يرفع صوته مشتكيًا نبوخذنصر. ز. صارت كفتاة بيعت لشعب معادٍ لها. "قد أخزيت بنت مصر ودفعت ليد شعب الشمال" [24]. "قال رب الجنود إله إسرائيل: هأنذا أعاقب أمون نو وفرعون ومصر وآلهتها وملوكها فرعون والمتوكلين عليه. وأدفعهم ليد طالبي نفوسهم وليد نبوخذرانصر ملك بابل وليد عبيده" [25-26]. 8. تعمير مصر: "ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ تُسْكَنُ كَالأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ، يَقُولُ الرَّبُّ." [26]. لا يختم على مصر بالخراب بل بالتعمير، فالله وإن كان يؤدب لكنه يشتاق إلى تقديس كل بشر. لقد كشف بتأديباته عن جراحات النفس لا لتبقى في آلامها بل لتطلب يد الطبيب السماوي، فيضمد جراحاتها، ويقدم لها نفسه بلسمًا من جلعاد فتنعم بكمال الصحة. عندئذ يتحقق فيها الوعد الإلهي: "في ذلك اليوم يكون مذبح في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها، فيكون علامة وشهادة للرب في أرض مصر" (إش 19: 19-20). وقد تحقق ذلك منذ يوم البنطقستي حيث سمع المصريون الرسل يتكلمون بلغتهم (أع 2: 10)، وجاء القديس مرقس الرسول والإنجيلي يكرز بكلمة الإنجيل. 9. إصلاح إسرائيل الجديد: "27 «وَأَنْتَ فَلاَ تَخَفْ يَا عَبْدِي يَعْقُوبُ، وَلاَ تَرْتَعِبْ يَا إِسْرَائِيلُ، لأَنِّي هأَنَذَا أُخَلِّصُكَ مِنْ بَعِيدٍ، وَنَسْلَكَ مِنْ أَرْضِ سَبْيِهِمْ، فَيَرْجعُ يَعْقُوبُ وَيَطْمَئِنُّ وَيَسْتَرِيحُ وَلاَ مُخِيفٌ. 28 أَمَّا أَنْتَ يَا عَبْدِي يَعْقُوبُ فَلاَ تَخَفْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، لأَنِّي أُفْنِي كُلَّ الأُمَمِ الَّذِينَ بَدَّدْتُكَ إِلَيْهِمْ. أَمَّا أَنْتَ فَلاَ أُفْنِيكَ، بَلْ أُؤَدِّبُكَ بِالْحَقِّ وَلاَ أُبَرِّئُكَ تَبْرِئَةً»." [27-28]. التقينا بهذا النص قبلًا في (إر 30: 10-11) يتبعه وعد مسياني [داود ملكهم (إر 30: 9)]. هنا نلاحظ أن الوعد قد جاء مباشرة بعد تقديم وعد إلهي لمصر بتعميرها بعد الخراب، وكأن ما تناله مصر من وعود مرتبط بخلاص إسرائيل الجديد، وتمتع الأمم بالإيمان الحي. للنص هنا تفسيران: أولًا التفسير التاريخي: إذ تحقق ذلك بالعودة من السبي البابلي، واستراح إسرائيل إلى حد ما، إذ تحرروا من السبي. هنا يؤكد أن سر الراحة ليس مجرد تغيير المكان، أي خروج من أرض السبي إلى أرض الموعد، وإنما تغيير الوضع الداخلي، وهو عوض الارتباط بالعبادات الغريبة يعلن الله عن نفسه للمؤمنين ويؤكد معيته معهم: "أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف لأني معك". ثانيًا: التفسير التأويلي، إسرائيل هنا هي كنيسة العهد الجديد، الشعب القادم من كل الأمم، يعقوب المجاهد الروحي الذي انعتق من سبي الخطية ودخل إلى التمتع بأورشليم العليا، ونال عربون السمويات. من وحي إرميا 46 حوِّل أممي الداخلية إلى مقادس لك! * في داخلي أمم كثيرة احتلت قلبي، أفسدته بالكبرياء مع الفساد وكل نجاسة. لتحطم تلك الأمم في أعماقي، ولتقمها من جديد أممًا مقدسة! فتتحول كل طاقاتي لمجد اسمك القدوس! * أقام فرعون عرشه في داخلي، فتحول كياني كله إلى العجرفة والتشامخ، صرُت كتمساح كبير في وسط النيل، يظن أنه ملك النهر وصانعه! هذه هي الأنا التي حطمت كل صلاح فيّ! لتحطمها بصليبك، عوض فرعون أملك أنت في أعماقي، أقم عرشك فيَّ، فأشاركك اتضاعك، وأعيش معك أبديًا! * ضرب قادة فرعون العسكريون بالبوق، فاجتمع المشاة مع الفرسان بلا عدد، وجاءت القوات المرتزقة والمتحالفة بقوة، أعدت كل أدوات الحرب وجميع المركبات. ظن العالم كله أنه ليس من يقف أمام هذا الجبروت. لكن إذ حلّ بهم الغضب الإلهي انهار الجيش أمام نبوخذنصر. صار الجيش العابد العجل عجلًا مسمنًا يستحق الذبح، هرب كحية لا يُسمع لها صوت تتحطم بفؤوس المحتطبين. صاروا كفتاة مسبية دُفعت إلى شعبٍ غريبٍ في مذلة. صاروا كشجرة تُضرب بالفؤوس ولا تستطيع أن تنطق ببنت شفةٍ. * نعم، هذا ما فعلته بي الخطية! حولتني إلى حياة حيوانية، كعجلٍ مسمنٍ لا يصلح إلا للذبح، جعلت من نفسي التي على صورتك حيَّة دنسة هاربة في ضعف. صارت في ضعف كفتاة مسبية تذلها الخطية وتلهو بها الشياطين! افقدتني حياتي فصرت كقطعة خشب تضرب بالفؤوس! * من لي غيرك يرد لي كرامتي؟! تجدد طبيعتي الحيوانية الفاسدة فأنعم بشركة السمائيين! عوض صورة الحية التي انطبعت في داخلي، احمل صورتك أيها القدوس. عوض بنوتي لإبليس، الحية القديمة، أتمتع بالبنوة للآب محب البشر! لا يعود يصير صوتي كحفيف حية، بل صوت هتافٍ ملائكي، صوت نصرة دائمة لا تنقطع! تتحول أعماقي من فتاة مسبية يذلها الكثيرون، إلى عروس عذراء للعريس السماوي الممجد! لا تعد قطعة خشب تحطمها الفؤوس، بل شركة مع الصليب واهب الحياة! * لتقتل في داخلي مصر الوثنية، لتهرب إليها أيها القدوس، لتأتِ محمولًا على سحابة خفيفة بيضاء، ولتقم مذبحك في داخلي! |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
https://upload.chjoy.com/uploads/169806906047231.jpg نبوات ضد موآب بدأت النبوات ضد الأمم بمصر الوثنية التي تشير إلى محبة العالم، ثم ضد الفلسطينيين الوثنيين الذي يشيرون إلى روح العنف والعداوة، ثم صور وصيدا اللتين تشيران إلى المتحالفين مع الشر. هنا يتحدث عن موآب الذي وإن اتسم بالكبرياء كغيره من الشعوب المقاومة لله لكن سمته الرئيسية هي الفساد، فبجانب أن أبيهم موآب هو ثمرة علاقة أمه بأبيها لوط وهو في حالة سُكْر، أشار بلعام على ملك موآب أن ينزل بعض النساء الموآبيات الجميلات إلى شعب إسرائيل فيغرين الرجال على ارتكاب النجاسة (مع عبادة الأصنام)، عندئذ يتخلى الله عنهم فيضعفون وينهارون (عد 25: 1-3). موآب جاء الموآبيون من نسل لوط (إر 19: 37)، لذا فهم ينتمون إلى إسرائيل بصلة قرابة. امتدت ذرية موآب في شرقي بحر لوط بين وادي أرنون ووادي زريد Zered وطردوا الإيميين من هناك (تث 2: 11)، وعبدوا الإله كموش. وكانت بلادهم تنقسم إلى بلاد موآب وعربات موآب، وهذه كانت في وادي الأردن مقابل أريحا. سمح لهم الرأوبينيون بالسكنى في مدنهم، وأخذوا عنهم عبادة الإله كموش، كما وُجدت علاقات طيبة أحيانًا بين موآب وإسرائيل، فقد تغربت نُعمى هناك ورجعت معها راعوث الموآبية. وعندما قاوم شاول الملك داود النبي أودع الأخير والديه لدى ملك موآب (1 صم 22: 3-4)، ولكنه إذ صار ملكًا ضربهم بشدة وجعلهم عبيدًا له (2 صم 8: 2). وأوصى الله العبرانيين ألا يأخذوا أرضهم (تث 2: 11). ومع هذا فقد حمل الموآبيون روح العداوة تجاه إسرائيل ويهوذا، فكثيرا ما تحالفوا مع الشعوب المجاورة ضدهم. وفي أيام القضاة أخضع الموآبيون العبرانيين، ووضعوا عليهم جزية إلى أن قتل أهود عجلون ملك موآب (قض 3: 12-30). بعد موت سليمان صارت موآب جزءًا من المملكة الشمالية، وفي مُلك يهوشفاط هجموا على اليهودية لكنهم انهزموا أمامهم (2 مل 3)، بعد ذلك صارت موآب تارة خاضعة وأخرى مستقلة. في أواخر القرن الثامن ق.م. هزمهم الأشوريون، لكن إذ تدهور حال الإمبراطورية الأشورية استعاد موآب استقلاله. وفي أيام الملك يهوياقيم تحالف موآب مع الكدانيين ضد يهوذا (2 مل 24: 2). وبعد سنة 582 ق.م. انهار موآب أمام نبوخذنصر؛ بعد ذلك خضع موآب لفارس والعرب. يُنظر في العهد القديم إلى النبوات ضد موآب أنها قضاء إلهي (إش 15، 16؛ 25: 10؛ حز 25: 8-11؛ عا 2: 1-3؛ صف 2: 8-11؛ إر 9: 26؛ 25: 21؛ 27: 3). يرى القديس جيرومأن كلمة "موآب" التي تعني "من الأب" تشير إلى الشيطان والخارجين عن الله أبيهم، والذين لا يفكرون فيه. يشير موآب إلى "روح عدم التمييز"، فقد ظن أنه لا فرق بين الله الحيّ والآلهة الوثنية، وحسب بهلاك يهوذا وتدمير أورشليم أن لا خلاص للشعب مرة أخرى: "يقولون هوذا بين يهوذا مثل كل الأمم" (إش 25: 8). يقول القديس مارافرام السرياني: [إنه بغير طين لا يبُنى البرج "وبغير معرفة لا تقوم فضيلة"]. يوضح هذا الأصحاح الآتي: أولًا: الأحداث التي تلحق بموآب ليست أحداثًا عابرة بلا معنى، لكنها تتم بسماح إلهي، فالله ضابط التاريخ كله. ثانيًا: إذ يعلن الله عن قضائه ضد موآب أو غيره من الأمم يقدم حيثيات الحكم؛ فهو ليس بالإله الأمر الناهي، بل الإله الذي يتحاجج مع البشر. ثالثًا: ذكر عددًا ضخمًا من مدن موآب، هذا يكشف عن معرفة اليهود في ذلك الحين لمملكة موآب وأسماء مدنها ومواقعها، كما لو كانت جزءًا لا يتجزأ من بلدهم. رابعًا: إن كان الله يعلن عن قضائه ضد الموآبيين إنما يختم كلماته بإصلاحهم، فهو يطلب خلاص كل الأمم. لهذا نرى النبيان إشعياء وإرميا بل والله نفسه يعلنون حزنهم على ما يحدث لموآب أثناء تأديبه. فيقول إشعياء: "يصرخ قلبي من أجل موآب" (إش 15: 5)؛ "أبكي بكاء يعزير على كرمة سبمة، أرويكما بدموعي يا حشبون والعالة... ابطلت الهتاف، لذلك ترن أحشائي كعودٍ من أجل موآب وبطني من أجل قير حارس" (إش 16: 9-11). كما يقول إرميا النبي: "من أجل ذلك أولول على موآب، وعلى موآب كله أصرخ... ابكي عليكِ بكاء يعزير ياجفنه سبمة" [31-32]. خامسًا: يرى يوسيفوس أن نبوة إرميا النبي عن خراب موآب قد تحققت في السنة 23 من حكم نبوخذنصر (582 ق.م). سادسًا: تَبَنَّى إرميا النبي بعض العبارات الواردة في سفر إشعياء وذلك بارشاد الروح القدس لتأكيد ماسبق فتنبأ به إشعياء عنهم، غير أن إشعياء تنبأ عن تدمير موآب على يديْ الملك شلمانصر الأشوري، أما إرميا فأشار إلى تدميره على يديْ نبوخذنصر البابلي. 1. الله الحي ضد كموش: 1 عَنْ مُوآبَ: «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: وَيْلٌ لِنَبُو لأَنَّهَا قَدْ خَرِبَتْ. خَزِيَتْ وَأُخِذَتْ قَرْيَتَايِمُ. خَزِيَتْ مِسْجَابُ وَارْتَعَبَتْ. 2 لَيْسَ مَوْجُودًا بَعْدُ فَخْرُ مُوآبَ. فِي حَشْبُونَ فَكَّرُوا عَلَيْهَا شَرًّا. هَلُمَّ فَنَقْرِضُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةً. وَأَنْتِ أَيْضًا يَا مَدْمِينُ تُصَمِّينَ وَيَذْهَبُ وَرَاءَكِ السَّيْفُ. 3 صَوْتُ صِيَاحٍ مِنْ حُورُونَايِمَ، هَلاَكٌ وَسَحْقٌ عَظِيمٌ. 4 قَدْ حُطِّمَتْ مُوآبُ، وَأَسْمَعَ صِغَارُهَا صُرَاخًا. 5 لأَنَّهُ فِي عَقَبَةِ لُوحِيتَ يَصْعَدُ بُكَاءٌ عَلَى بُكَاءٍ، لأَنَّهُ فِي مُنْحَدَرِ حُورُونَايِمَ سَمِعَ الأَعْدَاءُ صُرَاخَ انْكِسَارٍ. [1-5]. أولًا: واضح أن الهجوم هنا ضد الإله كموش الذي يُسبى مع كهنته ورؤسائه [7]، فقد دُعي الموآبيون أمة كموش (عد 21: 29) وشعب كموش [46]، كما دُعي كموش "رجس الموآبيين". ادخل سليمان الملك عبادته إلى أورشليم (1 مل 11: 7)، وأبطلها يوشيا الملك (2 مل 23: 13) حاسبًا إياها رجاسة. وكان الملوك الموآبيون ينسبون نصراتهم إلى كموش كما يظهر في الحجر الموآبي أن الملك ميشع يفعل ذلك (2 مل 3: 4). كانت هناك صلة وثيقة بين كموش إله الموآبيين وملكوم إله العمونيين، وفي العبادة لكليهما كان الأطفال يُقدمون ذبائح باجازتهم في النار (2 مل 3: 27). ثانيًا: يعلن الله عن نفسه أنه "رب الجنود إله إسرائيل" [1] يقوم بتأديب موآب. هو رب الجنود أو القوات السمائية الذي لا يُغلب، وهو إله إسرائيل أي المحب لشعبه والمدافع عن مؤمنيه المقدسين له. إنه يستخدم ملك بابل "المهلك" لتأديب كل مدينة موآبية [8]. وفيما يلي بعض المدن الموآبية الهامة التي يحل بها الخراب والخزي وتأخذها الرعدة وتصير في عارٍ. أ. نبو: لا يقصد جبل نبو بل مدينة نبو التي تخرب. ب. قريتايم: تصير في عارٍ وتُسبى. ج. مسجاب: يحل بها الخزي وتأخذها الرعدة، وتصير كأنها غير موجودة بعد أن كانت فخر موآب. د. حشبون العاصمة يحل بها الشر فتنقرض، هذه التي كانت كرسي المشورة (حسب معناها) صارت مركزًا لمشيرين آخرين يدمرونها(651). ه. مدمين: مع تغيير بسيط في حروف الاسم تعني في العبرية "صمتًا"، تقف صامتة من هول الحدث، إذ يطاردها السيف، كما يستحق اسمها (إش 15: 1). و. حورونايم: يُسمع فيها صوت صراخِ بسبب الدمار والهلاك العظيم. يلاحظ أن كثير من أسماء البلدان المذكورة في هذا الأصحاح وُجدت منقوشه على الحجر الموآبي الذي نقشه ميشه Mesha ملك موآب، اكتشف عام 1868م. أخيرًا يعبر النبي عن المرارة التي لحقت بالصغار، فصار صراخهم يتزايد ويُسمع في كل مكان، فالعدو لا يترفق حتى بالأطفال. نبو [1]: كلمة بابلية تعني "مذيع". وهو اسم إله بابلي يسيطر على الأدب والعلم، ابن بعل مردوخ ورسوله، الذي يفسر إرادته للقابلين الموت. أما المدينة التي تحمل هذا الاسم فتقع على جبل نبو أو بجواره. أحد جبال سلسلة جبال عباريم في موآب، مقابل اريحا (عد 33: 47، تث 32: 49)، شرقي الأردن في نهاية جنوب البحر الميت، وهو الجبل الذي صعد عليه موسى النبي لينظر من بعيد أرض الموعد فتهللت نفسه مشتاقًا أن يعبر إلى أرض الأحياء، وينعم بكنعان السماوية، وقد مات هناك (تث 34). تدعى قمته رأس الفسجة. وربما كان جبل النبا. تبعد المدينة خمسة أميال جنوب شرقي حسبان، حاليًا هي خربة المخيط. بناها سبط رأوبين أي أعادوا بناءها، وبحسب ما جاء في الحجر الموآبي أن ملك موآب استولى عليها. قريتايم [1]: اسم عبري معناه "قريتان"، بناها بنو رأوبين مع حشبون (عد 32: 37) أو جددوها، ولكنها تحولت بعد ذلك إلى مملكة موآب. تسمى حاليًا "القريات"، تبعد حوالي عشر أميال جنوب بعل معون، وستة أميال شمال غربي ديبون بالأردن. مسجاب: اسم موآبي معناه "مرتفع"، لأنها كانت قائمة على موضع عالٍ، يترجمها البعض hammisgab ومعناها حرفيًا "برج عالٍ" أو "حصن". ربما كان لقبًا لمدينة قير. مدمين [2]: اسم موآبي معناه "مزبلة"، يرجح أنها قرية في موآب، ربما كانت خربة دمنة في وادي بني حمد، تبعد حوالي ميلين شمال غربي ربة Rabbah. حشبون [3]: اسم موآبي معناه "حسبان" أو "تدبير" أو "مشورة". وهي مدينة سيحون ملك الأموريين، أخذها الموآبيون من سبط لاوي (يش 21: 29، أي 6: 81). تُعرف حاليًا باسم "حسبان"، وهي مدينة خربة قائمة على تل منعزل بين أرنون ويبوق، تقع نحو سبعة أميال ونصف شمال مادبا. وكانت هي ومدينة العالة [34] موضع نزاع بين إسرائيل وموآب. حورونايم [4]: اسم موآبي معناه "كهفان" أو "وهدتان" (نح 2: 10؛ إش 15: 5). وهي مدينة موآبية عند سفح أحدود. عقبة لوحيت [5]: "لوحيت" كلمة موآبية معناها "مصنوع من ألواح"، وهي مدينة موآبية مبنية على تل أو عقبة. يرى القديس جيروم أنها لوئيثا Luhith الواقعة بين اريوبوليس (أي ربات موآبRabbath- Moab) وصوغر Zoar وهي خرابة فاس أو خربة مدينة الرأس بين غور الصافية والخنزيرة. تقع لوئيثا على مرتفعٍ بينما توجد حورونايم في موضع سهل لهذا يصعد الموآبيون من حورونايم وهم يبكون لعلهم يجدون مكانًا آمنا، فيجدون سكان لوئيثا نازلين باكين يطلبون الأمان. وكأنه أمام بابل لا يجد سكان المرتفعات ولا سكان الوديان والسهول أمانًا إذ يلحقهم السيف في كل موضع. ويصدر الصراخ المرّ مع الصاعدين كما مع النازلين! 2. دعوة للهروب: 6 اهْرُبُوا نَجُّوا أَنْفُسَكُمْ، وَكُونُوا كَعَرْعَرٍ فِي الْبَرِّيَّةِ. 7 «فَمِنْ أَجْلِ اتِّكَالِكِ عَلَى أَعْمَالِكِ وَعَلَى خَزَائِنِكِ سَتُؤْخَذِينَ أَنْتِ أَيْضًا، وَيَخْرُجُ كَمُوشُ إِلَى السَّبْيِ، كَهَنَتُهُ ورُؤَسَاؤُهُ مَعًا. 8 وَيَأْتِي الْمُهْلِكُ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ، فَلاَ تُفْلِتُ مَدِينَةٌ، فَيَبِيدُ الْوَطَاءُ، وَيَهْلِكُ السَّهْلُ كَمَا قَالَ الرَّبُّ. 9 أَعْطُوا مُوآبَ جَنَاحًا لأَنَّهَا تَخْرُجُ طَائِرَةً وَتَصِيرُ مُدُنُهَا خَرِبَةً بِلاَ سَاكِنٍ فِيهَا. 10 مَلْعُونٌ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الرَّبِّ بِرِخَاءٍ، وَمَلْعُونٌ مَنْ يَمْنَعُ سَيْفَهُ عَنِ الدَّمِ. [6-10]. نجد هنا دعوة إلى الهروب لنجاة النفس: 1. الهروب من أسوار المدن إلى عرى (عرعر) البرية. لعلها دعوة إلى عدم الثقة في الحصون البشرية التي يصنعها الإنسان لنفسه في غير اتكال على الله. فإن كانت البراري بلا حصون لكن موآب يظن أنها أكثر أمانًا من أسوار المدن التي تقتحمها بابل. على أي الأحوال إذ يهرب موآب إلى البرية حيث يحسب العدو أنه لا حاجة لاقتفاء أثره هناك لأن البرية نفسها تحطمه وتهلكه. 2. عدم الاتكال على الأعمال الذاتية والخزائن؛ فأنها تقيم إلهًا (كموش) لا يقدر أن يخلص نفسه ولا كهنته ولا رؤساءه. إذ يحمل الموآبيون تماثيل كموش معهم إلى المعركة تؤخذ منهم إلى أرض السبي علامة نصرة آلهة بابل على آلهه موآب. 3. لا يتحقق الهروب بتغيير المكان بل بتغيير الأعماق، فالتدمير يبلغ كل مدينة، يبيد المناطق العالية ويهلك الأماكن السهلة؛ لا المرتفعات ولا الوديان تقدر أن تخلص بل يد الرب العاملة في قديسيه. 4. الحاجة إلى جناحي الروح لكي تطير النفس من وجه الشر [9]، فلا تقطن بعد في الأماكن الخربة. ولعله هنا يحمل معني التوبيخ في شيء من السخرية، فإنه إذ يحل الخراب فجأة لا يعرف موآب إلى أين يذهب، فالأرض كلها قد تدمرت. إنه في حاجة إلى جناح يطير به بسرعة لكي يرتفع عن كل الأرض... ولكن إلى أين؟ 5. الجدية في العمل، إذ ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة [10]... هنا دعوة إلى بابل للعمل بكل جدية لتحقيق ما سمح به الرب من تأديب لموآب، وفي نفس الوقت هي دعوة إلهية لكل نفس في ممارستها للعمل الإلهي بإخلاص وجدية، في غير رخاوة. * أشار إرميا إلى أن الإهمال أمر خطير. "ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة" [10]. من كان في قائمة خدَّام الرب يلزمه أن يكون مجتهدًا ومتيقظًا. عندما يمسح الخطية من حياته بغيرته يتهيأ للاقتراب نحو الله، الذي يدعوه الكتاب نارًا آكلة (تث 4: 24؛ 9: 3؛ عب 12: 29). يلزمنا أن نتذكر أن الله الذي يجعل ملائكته أرواحًا هو نفسه روح، يجعلهم خدامًا له لهيب نار (مز 104: 4). البابا أثناسيوس الرسولي * يلزم على كل أحدٍ أن ينتبه إلى عمله الخصوصي ويهتم به برغبة، ويتممه بدون ملامة، بغيرة ونشاطٍ وعنايةٍ وسهرٍ، لئلا يستحق اللعنة، إذ قيل ملعون من يعمل عمل الرب باسترخاء [10]...خير لنا أن نباشر عملًا واحدًا بضبط وإحكام من أن نقوم بأعمالٍ كثيرة بدون إتقانٍ. لأن التشتت بين أشغالٍ كثيرة والتنقّل بين الأمور بحيث لا يُقضى منها شيء دليل على خفة متأصّلة في الطبع أو مدعاةً لتولِّد تلك الخفة. القديس باسيليوس الكبير يعلق الأب غريغوريوس الكبير على عبارة "ملعون من يمنع سيفه عن الدم" [10] قائلًا [الذين يمنعون السيف عن الدم إنما يمنعون كلمة الكرازة عن قتل الحياة الجسدانية (الشهوانية)، وقد قيل عن هذا السيف: "سيفي يفترس الجسد" (تث 32: 42)].* الإنسان الذي يصد "سيف الروح الذي هو كلمة الله" (عب 6: 7) من سفك الدم، بالتأكيد يسقط تحت اللعنة التي أعلنها إرميا قائلًا: "ملعون من يمنع سيفه (الكتاب المقدس) عن الدم" [10]. إذًا لنفعنا يُسفك الدم الفاسد الذي لمادة خطايانا (بكلمة الله). هذا هو السلاح الذي يقطع وينقي كل أمر شهواني وأرضي ينمو في نفوسنا. إنه يجعل الناس يموتون عن الخطية، ويعيشون لله، ويزدهرون بالفضائل الروحية. الأب بينوفيوس 3. خراب موآب:11 «مُسْتَرِيحٌ مُوآبُ مُنْذُ صِبَاهُ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى دُرْدِيِّهِ، وَلَمْ يُفْرَغْ مِنْ إِنَاءٍ إِلَى إِنَاءٍ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السَّبْيِ. لِذلِكَ بَقِيَ طَعْمُهُ فِيهِ، وَرَائِحَتُهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ. 12 لِذلِكَ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُرْسِلُ إِلَيْهِ مُصْغِينَ فَيُصْغُونَهُ، وَيُفَرِّغُونَ آنِيَتَهُ، وَيَكْسِرُونَ أَوْعِيَتَهُمْ. 13 فَيَخْجَلُ مُوآبُ مِنْ كَمُوشَ، كَمَا خَجِلَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ مِنْ بَيْتِ إِيلَ مُتَّكَلِهِمْ. 14 «كَيْفَ تَقُولُونَ نَحْنُ جَبَابِرَةٌ وَرِجَالُ قُوَّةٍ لِلْحَرْبِ؟ 15 أُهْلِكَتْ مُوآبُ وَصَعِدَتْ مُدُنُهَا، وَخِيَارُ مُنْتَخَبِيهَا نَزَلُوا لِلْقَتْلِ، يَقُولُ الْمَلِكُ رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ. 16 قَرِيبٌ مَجِيءُ هَلاَكِ مُوآبَ، وَبَلِيَّتُهَا مُسْرِعَةٌ جِدًّا. 17 اُنْدُبُوهَا يَا جَمِيعَ الَّذِينَ حَوَالَيْهَا، وَكُلَّ الْعَارِفِينَ اسْمَهَا قُولُوا: كَيْفَ انْكَسَرَ قَضِيبُ الْعِزِّ، عَصَا الْجَلاَلِ؟ 18 اِنْزِلِي مِنَ الْمَجْدِ، اجْلِسِي فِي الظَّمَاءِ أَيَّتُهَا السَّاكِنَةُ بِنْتَ دِيبُونَ، لأَنَّ مُهْلِكَ مُوآبَ قَدْ صَعِدَ إِلَيْكِ وَأَهْلَكَ حُصُونَكِ. 19 قِفِي عَلَى الطَّرِيقِ وَتَطَلَّعِي يَا سَاكِنَةَ عَرُوعِيرَ. اسْأَلِي الْهَارِبَ وَالنَّاجِيَةَ. قُولِي: مَاذَا حَدَثَ؟ 20 قَدْ خَزِيَ مُوآبُ لأَنَّهُ قَدْ نُقِضَ. وَلْوِلُوا وَاصْرُخُوا. أَخْبِرُوا فِي أَرْنُونَ أَنَّ مُوآبَ قَدْ أُهْلِكَ. 21 وَقَدْ جَاءَ الْقَضَاءُ عَلَى أَرْضِ السَّهْلِ، عَلَى حُولُونَ وَعَلَى يَهْصَةَ وَعَلَى مَيْفَعَةَ، 22 وَعَلَى دِيبُونَ وَعَلَى نَبُو وَعَلَى بَيْتِ دَبْلَتَايِمَ، 23 وَعَلَى قَرْيَتَايِمَ وَعَلَى بَيْتِ جَامُولَ وَعَلَى بَيْتِ مَعُونَ، 24 وَعَلَى قَرْيُوتَ وَعَلَى بُصْرَةَ وَعَلَى كُلِّ مُدُنِ أَرْضِ مُوآبَ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ. 25 عُضِبَ قَرْنُ مُوآبَ، وَتَحَطَّمَتْ ذِرَاعُهُ، يَقُولُ الرَّبُّ. "مستريح موآب منذ صباه وهو مستقر على دُرديه، ولم يُفرغ من إناءٍ إلى إناءٍ ولم يذهب إلى السبي. لذلك بقي طعمه فيه ورائحته لم تتغيرْ. لذلك ها أيام تأتي يقول الرب: وأرسل إليه مصغين فيصغونه ويفرغون آنيته ويكسرون أوعيته، فيخجل موآب من كموش كما خجل بيت إسرائيل من بيت إيل متكلهم" [11-13]. إذ جاء النداء أن يُعطى موآب جناحًا ليطير لعله يجد موضعًا غير الأرض يستريح فيه، وهذا أمر صعب أو يكاد يكون مستحيلًا، الآن يكشف عن عدم خبرة موآب في الحرب. حقًا إن موآب أمة قديمة ومستقرة قبل ظهور إسرائيل، عاشت في مجد وآمان منذ صباها. لقد عاش موآب أغلب زمانه مستريحًا منذ صباه، مثل الخمر المستقرة رواسبها في إناء لا يتحرك. لقد دخل في معارك مع إسرائيل، ومنذ حوالي 40 عامًا حمل شلمناصر بعضًا من الموآبيين إلى السبي، لكنه إذا قورن ذلك بالأمم المحيطة يُحسب موآب مستريحًا، لم يفرغ من إناء إلى إناء، أي يحمل بين الآن والآخر إلى السبي. سيخجل موآب من كموش إلهه المحمول مسبيًا إلى بابل، كما خجل بنو إسرائيل من عجلي الذهب اللذين أقامها الملك يربعام في بيت إيل طالبًا من الإسرائيليين أن يتعبدوا لهما. "كيف تقولون نحن جبابرة ورجال قوة للحرب؟! أهلكت موآب وصعدت مدنها وخيار منتخبيها نزلوا للقتل يقول الملك رب الجنود اسمه. قريب مجيء هلاك موآب وبليتها مسرعة جدَّا. اندبوها يا جميع الذين حواليها وكل العارفين اسمها، قولوا: كيف انكسر قضيب العز عصا الجلال؟! انزلي من المجد، اجلسي في الظماء، أيتها الساكنة بنت ديبون، لأن مهلك موآب قد صعد إليكِ وأهلك حصونكِ" [14-18]. يعبر عن كارثة موآب التي حلت بإلهه كما بمدنه وأبطاله وسلطانه: أ. بينما ظن الموآبيون الذين عاشوا أغلب زمانهم جبابرة أنهم رجال قوة للحرب، إذا بمدنهم تخرب. ب. دخل منتخبوه في معركة ضد الملك رب الجنود، فسقطوا قتلى. ج. انهار اسمه وعزه وسلطانه، فانكسر قضيب عزه وعصا جلاله. إذ لجاؤا إلى ديبون المدينة المرتفعة الحصينة، التي تحتضن مرتفع كموش، صعد إليهم الهلاك وحطم حصونهم. ديبون [18]: اسم موآبي معناه "مرتفعات" أو "هزال" أو "انحلال"، وهي مدينة تبعد حوالي ثلاثة أميال شمال نهر أرنون، شمال غربي عروعير تُسمى بالعربية زيبان. "قفي على الطريق وتطلعي يا ساكنة عروعير. اسألي الهارب والناجية قولي ماذا حدث؟!" [19]. من هول الكارثة هربوا من المدن التي في المرتفعات كما كانوا يسألون بعضهم البعض: ماذا حدث؟! ولا إجابة! عروعير [19]: اسم موآبي وعبري معناه "عارية". مدينة على الشاطئ الشمالي لنهر أرنون، وإلى الجنوب من مملكة سيحون، وكانت من نصيب رأوبين صارت فيما بعد تابعة لموآب. تُسمى الآن عراعير، على بعد إثني عشر ميلًا شرقي البحر الميت، جنوبي ذيبان بقليل. "قد خزى موآب لأنه قد نُقض. ولولوا واصرخوا أخبروا في أرنون أن موآب قد أُهلك" [20]. أرنون [20]: كلمة عبرية معناها "زئير"، وهو اسم لنهر يدعى اليوم "وادي الموجب" في الأردن، ويتكون من وادي "وله" الذي يأتي من الشمال الشرقي، وادي "عنقيلة" الآتي من الشرق "وسيل الصعدة" الآتي من الجنوب. هذه هي أودية أرنون (إر 21: 14)، ويجري نهر أرنون في غور عميق حتى يصل إلى البحر الميت في نقطة تقع إلى مسافة قصيرة من منتصف الشاطئ الشرقي. "وقد جاء القضاء على أرض السهل، على حولون وعلى يهصة وعلى ميفعة وعلى ديبون وعلى نبو وعلى بيت دبلتايم وعلى قريتايم وعلى بيت جامول وعلى بيت معون وعلى قريوت وعلى بصرة وعلى كل مدن أرض موآب البعيدة والقريبة" [21-24]. حولون [21]: اسم عبري ربما كان معناه "رميلة"، وهي مدينة من جبال يهوذا (يش 15: 51)؛ أُعطيت بضواحيها أو مسارحها للكهنة (يش 21: 15)، دُعيت أيضًا حيلين (1 أي 6: 58)، لا يعرف مكانها اليوم. يهصة [21] أو ياهص [34] (يش 13: 18، 21: 36): اسم موآبي معناه "موضع مُداس". وهي مدينة موآبية قرب البادية في نصيب رأوبين. في هذا الموضع انتصر العبرانيون على سيحون، فاستولوا على الأرض ما بين أرنون ويبوق. لكن يبدو أن الموآبيين أخذوها في الأيام المتأخرة. يُقال إنها قرية أم المواليد أو خربة اسكندر، تبعد حوالي اثني عشر ميلًا شرقي البحر الميت، وعلى بعد ميل جنوبي زرقاء معين. ميفعة [21]: اسم عبري معناه "بهاء"، من مدن اللاويين في رأوبين (يش 13: 18؛ 21: 37)، أخذها موآب، وربما كانت تل الجاوة، تبعد حوالي ستة أميال جنوبي عمان. بيت دبلتايم [22]: اسم عبري معناه "بيت أقراص التين"، تُسمى أيضًا علمون دبلتايم (عد 33: 46). بيت جامول [23]: اسم عبري معناه "بيت الجمل"، ربما كانت هي خربة جميل، تبعد حوالي ستة أميال شرقي ديبان. وهي بلدة لا سور لها، ولا يسكنها إنسان، بل وحوش البرية كما تنبأ إرميا النبي. بلعون أو بيت معون [23] أو بعل معون (يش 13: 17). اسم موآبي معناه "بعل المسكن"، بناها الرأوبينيون (عد 32: 38)، حاليًا تُدعى معين، تبعد حوالي تسعة أميال جنوب غربي حسبان، وتوجد فيها الآن خرب كثيرة ورد ذكرها في الحجر الموآبي. قريوت [24]: اسم عبري معناه "القرى" أو "المدن". توجد مدينتان تحملان نفس الاسم، الأولى في جنوب يهوذا (يش 15: 25)، والثانية مديِنة حصينة في موآب، ذُكرت في الحجر الموآبي، ويظن أنها نفس عار التي كانت عاصمة موآب، وهي خربة الربة التي تبعد حوالي 14 ميلًا جنوبي نهر أرنون. بصرة [24]: اسم عبري معناه "قلعة" أو حظيرة"، توجد مدينتان بذات الاسم، الأولى في أدوم (إش 34: 6) والثانية في بلاد موآب، ويظن أنها باصر. "عُضب قرن وتحطمت ذراعه يقول الرب: أسكروه لأنه قد تعاظم على الرب فيتمرغ موآب في قيائه وهو أيضا يكون ضحكة. أفما كان إسرائيل ضحكة لك؟! هل وجد بين اللصوص حتى أنك كلما كنت تتكلم به كنت تنغض الرأس؟!" [25]. يشير قطع القرن وكسر الذراع إلى انتهاء القوتين السياسية والعسكرية لموآب، لم يعد لموآب قرن عز أمام الأمم ولا ذراع عسكري للدفاع عن نفسه. كان موآب يستهزئ بإسرائيل عند سبيه، حاسبًا هذا ضعفًا أو عجزًا في الله إلههم (حز 25: 8)، وكان يسخر بإسرائيل محركًا رأسه كمن يسخر بلصٍ أُلقي القبض عليه. 4. حيثيات الحكم: 26 «أَسْكِرُوهُ لأَنَّهُ قَدْ تَعَاظَمَ عَلَى الرَّبِّ، فَيَتَمَرَّغَ مُوآبُ فِي قُيَائِهِ، وَهُوَ أَيْضًا يَكُونُ ضُحْكَةً. 27 أَفَمَا كَانَ إِسْرَائِيلُ ضُحْكَةً لَكَ؟ هَلْ وُجِدَ بَيْنَ اللُّصُوصِ حَتَّى أَنَّكَ كُلَّمَا كُنْتَ تَتَكَلَّمُ بِهِ كُنْتَ تَنْغَضُ الرَّأْسَ؟ 28 خَلُّوا الْمُدُنَ، وَاسْكُنُوا فِي الصَّخْرِ يَا سُكَّانَ مُوآبَ، وَكُونُوا كَحَمَامَةٍ تُعَشِّشُ فِي جَوَانِبِ فَمِ الْحُفْرَةِ. 29 قَدْ سَمِعْنَا بِكِبْرِيَاءِ مُوآبَ. هُوَ مُتَكَبِّرٌ جِدًّا. بِعَظَمَتِهِ وَبِكِبْرِيَائِهِ وَجَلاَلِهِ وَارْتِفَاعِ قَلْبِهِ. 30 أَنَا عَرَفْتُ سَخَطَهُ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّهُ بَاطِلٌ. أَكَاذِيبُهُ فَعَلَتْ بَاطِلًا. [26-30]. توجه الدعوة إلى موآب لإخلاء المدن والسكن في الكهوف السرية التي في الصخور، فيكون كحمامة بلا قوة تضع عشها في فم صخرة. يصير موآب كحمامة لا تضع عشها في الحدائق على الأشجار، بل منفردة في صخرة بعيدة. يتحول موآب من طيرٍ مغردٍ إلى طيرٍ حزينٍ في عزلة لا يعرف إلا الصراخ. 5. مرثاة على موآب: 31 مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أُوَلْوِلُ عَلَى مُوآبَ، وَعَلَى مُوآبَ كُلِّهِ أَصْرُخُ. يُؤَنُّ عَلَى رِجَالِ قِيرَ حَارِسَ. 32 أَبْكِي عَلَيْكِ بُكَاءَ يَعْزِيرَ، يَا جَفْنَةَ سَبْمَةَ. قَدْ عَبَرَتْ قُضْبَانُكِ الْبَحْرَ، وَصَلَتْ إِلَى بَحْرِ يَعْزِيرَ. وَقَعَ الْمُهْلِكُ عَلَى جَنَاكِ، وَعَلَى قِطَافِكِ. 33 وَنُزِعَ الْفَرَحُ وَالطَّرَبُ مِنَ الْبُسْتَانِ، وَمِنْ أَرْضِ مُوآبَ. وَقَدْ أُبْطِلَتِ الْخَمْرُ مِنَ الْمَعَاصِرِ. لاَ يُدَاسُ بِهُتَافٍ. جَلَبَةٌ لاَ هُتَافٌ. 34 قَدْ أَطْلَقُوا صَوْتَهُمْ مِنْ صُرَاخِ حَشْبُونَ إِلَى أَلْعَالَةَ إِلَى يَاهَصَ، مِنْ صُوغَرَ إِلَى حُورُونَايِمَ، كَعِجْلَةٍ ثُلاَثِيَّةٍ، لأَنَّ مِيَاهَ نِمْرِيمَ أَيْضًا تَصِيرُ خَرِبَةً. 35 وَأُبَطِّلُ مِنْ مُوآبَ، يَقُولُ الرَّبُّ، مَنْ يُصْعِدُ فِي مُرْتَفَعَةٍ، وَمَنْ يُبَخِّرُ لآلِهَتِهِ. 36 مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يُصَوِّتُ قَلْبِي لِمُوآبَ كَنَايٍ، وَيُصَوِّتُ قَلْبِي لِرِجَالِ قِيرَ حَارِسَ كَنَايٍ، لأَنَّ الثَّرْوَةَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا قَدْ بَادَتْ. 37 لأَنَّ كُلَّ رَأْسٍ أَقْرَعُ، وَكُلَّ لِحْيَةٍ مَجْزُوزَةٌ، وَعَلَى كُلِّ الأَيَادِي خُمُوشٌ، وَعَلَى الأَحْقَاءِ مُسُوحٌ. 38 عَلَى كُلِّ سُطُوحِ مُوآبَ وَفِي شَوَارِعِهَا كُلِّهَا نَوْحٌ، لأَنِّي قَدْ حَطَمْتُ مُوآبَ كَإِنَاءٍ لاَ مَسَرَّةَ بِهِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 39 يُوَلْوِلُونَ قَائِلِينَ: كَيْفَ نُقِضَتْ؟ كَيْفَ حَوَّلَتْ مُوآبُ قَفَاهَا بِخِزْيٍ؟ فَقَدْ صَارَتْ مُوآبُ ضُحْكَةً وَرُعْبًا لِكُلِّ مَنْ حَوَالَيْهَا. أ. يبدأ إرميا النبي بإعلان حبه للأمم مثل سيده الذي لا يُسر بموت الأشرار بل يرجعوا فيحيوا. فهو وإن كان يتنبأ على موآب بالخراب لكنه يولول عليه، ويصرخ من الخارج، كما يئن قلبه من الداخل، يبكي فتجري دموعه كمياه ينابيع غزيرة لا تتوقف. "من أجل ذلك أولول على موآب، وعلى موآب كله أصرخ. يُؤَّن على رجال قير حارس. أبكي عليك بكاء يعزير يا جفنة سبمة. قد عبرت قضبانك البحر وصلت إلى بحر يعزير" [31-32]. مثل إشعياء النبي لم يحتمل إرميا النبي أن يرى ما يحل بهذه المدن العظيمة، وكيف تحول شعبها إلى صراخٍ مستمرٍ، حتى صارت موآب ترتعد في داخلها: "نفسها ترتعد فيها" (إش 15: 4)، لذلك يقول "يصرخ قلبي من أجل موآب" (إش 15: 5). لا يقف شامتًا في الأعداء، إنما يشاركهم مرارتهم، مشتاقًا إلى رجوعهم عن عداوتهم وتمتعهم بالخلاص. هذه هي سمة رجال الله: الحب الداخلي الصادق والرغبة العميقة لخلاص حتى المقاومين لهم! * لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شره، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوكم لا بسبب طبيعته البشرية وإنما بسبب خطيته! القديس أغسطينوس * لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء... فإن صلينا من أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشارين، أما إن أحببنا أعداءنا وصلينا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبته للبشر. القديس يوحنا ذهبي الفم قير حارس [31]: اسم سامي معناه "سور" أو "مدينة ذات أسوار" تبعد حوالي أحد عشر ميلًا شرقي الجزء الجنوبي من البحر الميت. موضعها اليوم مدينة كرك في الأردن.يعزير: اسم عبري معناه "يعين"، وهي مدينة من جلعاد، أُعطيت لجاد ثم لعشيرة مراري من سبط لاوي (عد 21: 32؛ 32: 1). كانت في أيام داود الملك للحبرونيين (1 أي 26: 31)، وفي الأزمنة المتأخرة صارت لموآب. يرى يوسيفوس أنها تبعد حوالي عشرة أميال غربي رية عمون و15 ميلًا شرقي حسبان. ويظن البعض أنها خربة جزر جنوبي السلط قرب عين هزير على وادي شعيب. شبام: ومؤنثها "سبمة"، ويعني "بارد أو باردة"، صارت من نصيب رأوبين (يش 33: 19)، واستولى عليها بنو موآب. عرفت بكرومها (أش 16: 8-9، إر 48: 32). يرى القديس جيروم أنها تبعد حوالي نصف ميل من حشبون. حاليًا تُسمى الكبش بين حسبان ونبو، وتبعد ثلاثة أميال شمال شرق صياغة على وادي سلامة. ب. فقد موآب حقوله وبالتالي محاصيله، فتحولت جناتة إلى براري. "وقع المهلك على جناك وعلى قطافك. ونزع الفرح والطرب من البستان ومن أرض موآب" [32-33]. ج. اُنتزع الفرح من بساتينه، فحيث لا حصاد ولا ثمر لا يوجد فرح ولا طرب. "وقد أبطلت الخمر من المعاصر. لا يُداس بهتاف. جلبة لا هتاف" [33]. إن كان الخمر يشير إلى الفرح، فإنه لا يوجد عنب للحصاد، وبالتالي لا يخرج خمر من المعاصر، وإن وُجد العنب فلا توجد معاصر إذ هدمها العدو، وإن وُجدت المعاصر لا يوجد الرجال الذين يدوسون العنب لعصره... هكذا عوض هتاف الفرح والأغاني التي كان يتغنى بها الدائسون المعاصر، امتلأت البقاع بالجلبة والنوح. د. يشبه موآب بعجلة عمرها ثلاث سنوات اُخذ منها العجل رفيقها فتجري من موضعٍ إلى آخر بغير خطة، في حالة هيسترية. "قد أطلقوا صوتهم من صراخ حشبون إلى ألعالة إلى ياهص، من صوغر إلى حورونايم كعجلةٍ ثلاثيةٍ لأن مياه نمريم أيضًا تصير خربة" [34]. ألعالة [34]: اسم عبري معناه "الله صعد" أو "الله عال". أعاد بناءها سبط رأوبين، وقد سقطت في يد بني موآب (إش 15: 4، 16: 9، إر 48: 34). تبعد حوالي ميلين شمال حشبون، تُسمى حاليًا "العال"، تقع على تلٍ. صوغر: اسم سامي معناه "صِغَر"، وهي إحدى مدن الدائرة (تك 13: 10) واصغرها (تك 19: 20، 22). كان اسمها الأول بالع، لم تخرب هذه المدينة عند دمار سدوم واخواتها مدن الدائرة، لأن لوطًا صلى والتجأ إليها (تك 19: 20-30). ذكرها مع موآب يجعلنا نظن أنها كانت في الضفة الموآبية الشرقية من البحر الميت. لعلها كانت قريبة من خرائب القرية. ويُرجح أنها اليوم تحت مياه البحر. نمريم [43]: اسم سامي معناه "مياه صافية". وهي ينابيع في وادي نميرة في الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الميت. ه. يستخدم موآب كل ما يعَّبر عن الحزن الشديد: قرع الرأس، جز اللحية، وتجريح الأيادي، ولبس المسوح على الأحقاء، ونوح علني على السطوح وفي الشوارع. "وأبطل من موآب يقول الرب من يصعد في مرتفعةٍ ومن يبخر لآلهته. من أجل ذلك يصوت قلبي لموآب كنايٍ، ويصوت قلبي لرجال قير حارس كنايٍ، لأن الثروة التي اكتسبوها قد بادت. لأن كل رأس أقرع، وكل لحية مجزوزة، وعلى كل الأيادي خموش، وعلى الأحقاء مسوح. على كل سطوح موآب وفي شوارعها كلها نوح" [35-38]. قرع الرأس يشير إلى المذلة، إذ اعتاد الغالبون أن يحلقوا شعر الذكور والإناث المسبيين علامة العبودية والقبح؛ وجز اللحية إشارة إلى مهانة الكهنوت وفقدان سلطانه الروحي وكرامته، والاتزار بالمسح علامة اليأس الشديد، أما البكاء حتى تصير الدموع كالسيل فمعناه فقدان الفرح الداخلي. هذه هي صورة النفس التي تعتزل إلهها ليسبيها العدو الشرير؛ تفقد حريتها وجمالها وسلطانه وكرامتها وفرحها، لتصير أشبه بأمة قبيحة ذليلة منكسرة، ولا تجد راحة لا في الأزقة ولا على السطوح (حيث يضع الوثنيون آلهتهم) ولا في الساحات؛ أينما وجدت لا تشعر بالراحة. و. يفقد موآب الثروة التي اكتسبها [36]، فإذ وقف شامتًا في يهوذا عند سبيه واستغل الأحداث، فدخل بأغنامه إلى أرض يهوذا وسلب ما استطاع سلبه، فقد ليس فقط ما سلبه ولكن كل ثروته. هكذا إذ يسلب الإنسان شيئًا يفقد حتى ما ناله بجهاده شرعيًا. ز. فقد قيمته في عينيْ الله فصار كأناء لا مسرة به. "لأني قد حطمت موآب كإناء لا مسرة به يقول الرب. يولولون قائلين: كيف نُقضت؟! كيف حولت موآب قفاها بخزيٍ فقد صارت موآب ضحكة ورعبًا لكل من حواليها" [38-39]. 6. الغزو البابلي: 40 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَا هُوَ يَطِيرُ كَنَسْرٍ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ عَلَى مُوآبَ. 41 قَدْ أُخِذَتْ قَرْيُوتُ، وَأُمْسِكَتِ الْحَصِينَاتُ، وَسَيَكُونُ قَلْبُ جَبَابِرَةِ مُوآبَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ كَقَلْبِ امْرَأَةٍ مَاخِضٍ. 42 وَيَهْلِكُ مُوآبُ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَعْبًا، لأَنَّهُ قَدْ تَعَاظَمَ عَلَى الرَّبِّ. 43 خَوْفٌ وَحُفْرَةٌ وَفَخٌّ عَلَيْكَ يَا سَاكِنَ مُوآبَ، يَقُولُ الرَّبُّ. [40-43]. كثيرًا ما يشبَّه ملك بابل بالنسر يهجم على الفريسة بسرعة وبقوة فلا تجد فرصة للهروب أو المقاومة أو الدفاع عن نفسها. إذ ظن موآب في نفسه يحمل قوة لمقاومة الله "يهلك عن أن يكون شعبًا" [42]، يفقد كيانه أمام الأمم، ولا يكون له ملك ولا حكومة مدنية تدير أموره. وكما سبق فقال موسى النبي: "لأن نارًا من حشبون، لهيبًا من قرية سيحون؛ أكلت عار موآب، أهل مرتفعات ارنون. ويل لك يا موآب، هلكتِ يا أمة كموش" (عد 21: 28-29). 7. هروب موآب: 44 الَّذِي يَهْرُبُ مِنْ وَجْهِ الْخَوْفِ يَسْقُطُ فِي الْحُفْرَةِ، وَالَّذِي يَصْعَدُ مِنَ الْحُفْرَةِ يَعْلَقُ فِي الْفَخِّ، لأَنِّي أَجْلِبُ عَلَيْهَا، أيْ عَلَى مُوآبَ، سَنَةَ عِقَابِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 45 فِي ظِلِّ حَشْبُونَ وَقَفَ الْهَارِبُونَ بِلاَ قُوَّةٍ، لأَنَّهُ قَدْ خَرَجَتْ نَارٌ مِنْ حَشْبُونَ، وَلَهِيبٌ مِنْ وَسْطِ سِيحُونَ، فَأَكَلَتْ زَاوِيَةَ مُوآبَ، وَهَامَةَ بَنِي الْوَغَى. 46 وَيْلٌ لَكَ يَا مُوآبُ! بَادَ شَعْبُ كَمُوشَ، لأَنَّ بَنِيكَ قَدْ أُخِذُوا إِلَى السَّبْيِ وَبَنَاتِكَ إِلَى الْجَلاَءِ. [44-46]. لا مجال للهروب، فمن يهرب من الخوف يجد نفسه ساقطًا في حفرة، وإن صعد من الحفرة يجد فخًا قد اقتنصه. من هرب من قريته ليجد أمانًا في حشبون الحصينة وجد نارًا تخرج منها لتلتهمه. إذ يهربون إلى العاصمة حشبون يحتمون في أسوارها يشعرون بالضعف الشديد، وتخرج نار من هناك تأكلهم. 8. إصلاح موآب: "وَلكِنَّنِي أَرُدُّ سَبْيَ مُوآبَ فِي آخِرِ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ»" [47]. إلى هنا قضاء موآب. بلا شك عند عودة اليهود في أيام كورش عاد بعض من الموآبيين والعمونيين والفلسطينيين لكن لم ينل أحد منهم استقلاله، ولا صار لهم ملوك. لذا يرى كثير من الدارسين أن هذه النبوة قد تحققت بقبول هذه الشعوب الإيمان بالسيد المسيح فنزع عنهم سبيهم الداخلي، وتمتعوا بمجد حرية أولاد الله. من وحي إرميا 48 إلى أين أهرب من وجهك يا رب؟! * لاقت موآب كل حب منك ومن شعبك، فردت الحب بالعداوة، قدمت من رجاساتها ما يفسد المؤمنين، جذبتهم إلى النجاسة وافقدتهم العمل الإلهي! * استحقت أن تتحطم كل مدنها، فلا تجد راحة إلى المرتفعات ولا في السهول، بل خراب ودمار مع مرارة ودموع! لا يسمع في أعماقي إلا صوت صراخ مرعب! * لتحطم يا رب كل مدينة أقمتها بنفسي في أعماقي، لتهدم كل مرتفع في داخلي، ولتقم أورشليمك المتهللة فيّ! نعم! لتحطم أعمالنا البشرية الذاتية ولتعلن عملك الإلهي العجيب! هب لي أن أهرب إليك وليس من وجهك. عوض خزائن العالم اعطني جناحي الروح، أطير إليك وأسكن معك في سمواتك! أحمل روحك القدوس فأصعد على الدوام، أحيا بروح القوة لا الفشل، لا أعرف الرخاوة أو الغش بل الخلاص مع الجدية! هب لي أن أمسك بكلمتك كسيفٍ ذي حدين، أضرب كل خطية وأبددها! لتمت خطاياي وتحيا كلمتك في داخلي. * دللتنى منذ صباى فعشت مستريحًا، وأنا لغباوتي لم أنتفع بطول أناتك عليّ. سقطت تحت التأديب، وبحبك لا تُسر بهلاكي، ردني من السبي يا محرر نفسي! ردني إليك فأحيا حرًا! |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
نبوات ضد الأمم بدأت النبوات ضد الأمم الغريبة بمصر الوثنية (إر 46)إشارة إلى أن مدخل الخطية هو الرخاوة والتعلق بالعالم. ثم فلسطين الوثنية (إر 47) بكونها رمزًا للعداوة والعنف في ذلك الحين، فإن انشغال القلب والفكر بالماديات يولد أنانية تبعث عداوة ضد الغير بلا سبب. ثم صور وصيدا [إر 47: 4] بكونهما رمزًا للتحالف مع الشر، فالعنف يدفع بالنفس إلى الارتباط بالعنفاء دون مبررٍ. بعد ذلك موآب (إر 48) بكونها رمزًا للفساد. يتحدث النبي في الأصحاحين التاليين (إر 50، 51) عن بابل بكونها رمزًا لمملكة ضد المسيح، حيث يبلغ الشر أقصاه في الأيام الأخيرة بعد الارتداد، وقبل مجيء السيد المسيح الأخير. 1. بنو عمون البنت المرتدة: 1 عَنْ بَنِي عَمُّونَ: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَلَيْسَ لإِسْرَائِيلَ بَنُونَ، أَوْ لاَ وَارِثٌ لَهُ؟ لِمَاذَا يَرِثُ مَلِكُهُمْ جَادَ، وَشَعْبُهُ يَسْكُنُ فِي مُدُنِهِ؟ 2 لِذلِكَ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُسْمِعُ فِي رَبَّةِ بَنِي عَمُّونَ جَلَبَةَ حَرْبٍ، وَتَصِيرُ تَلاًّ خَرِبًا، وَتُحْرَقُ بَنَاتُهَا بِالنَّارِ، فَيَرِثُ إِسْرَائِيلُ الَّذِينَ وَرِثُوهُ، يَقُولُ الرَّبُّ. 3 وَلْوِلِي يَا حَشْبُونُ لأَنَّ عَايَ قَدْ خَرِبَتْ. اُصْرُخْنَ يَا بَنَاتِ رَبَّةَ. تَنَطَّقْنَ بِمُسُوحٍ. انْدُبْنَ وَطَوِّفْنَ بَيْنَ الْجُدْرَانِ، لأَنَّ مَلِكَهُمْ يَذْهَبُ إِلَى السَّبْيِ هُوَ وَكَهَنَتُهُ وَرُؤَسَاؤُهُ مَعًا. 4 مَا بَالُكِ تَفْتَخِرِينَ بِالأَوْطِيَةِ؟ قَدْ فَاضَ وَطَاؤُكِ دَمًا أَيَّتُهَا الْبِنْتُ الْمُرْتَدَّةُ وَالْمُتَوَكِّلَةُ عَلَى خَزَائِنِهَا، قَائِلَةً: مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ؟ 5 هأَنَذَا أَجْلِبُ عَلَيْكِ خَوْفًا، يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ، مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ حَوَالَيْكِ، وَتُطْرَدُونَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا أَمَامَهُ، وَلَيْسَ مَنْ يَجْمَعُ التَّائِهِينَ. 6 ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ أَرُدُّ سَبْيَ بَنِي عَمُّونَ، يَقُولُ الرَّبُّ». تقدم بنو جاد وبنو رأوبين إلى موسى والعازار الكاهن ورؤساء الجماعة وطلبوا منهم السماح لهم بأن يكون نصيبهم في شرقي الأردن، لأن الأرض هناك هي مكان مواشي (عد 32). اختاروا لأنفسهم المشاكل التي لا حصر لها. دخل رأوبين في صراع مع الموآبين، ودخل جاد في صراع مع عمون. غالبًا ما كانت العلاقة بين إسرائيل وعمون لا تحمل روح الصداقة. في أيام الخروج سمح عمون بمرور الشعب في أراضيهم كما فعل موآب وآدوم؛ وليس مثل مملكتي الأموريين سيحون وعوج اللتين لم تسمحا بذلك (تث 2: 37). بعد ذلك قامت بينهما حرب في أيام القضاة (قض 11: 1-11)، كما قاوم ناحاش العموني إسرائيل في أيام شاول (1 صم 11: 1-11). طلب داود الملك السلام لكنهم أهانوا عبيده، وقام سليمان بالسيطرة عليهم (1 مل 4: 13-19). علق عاموس النبي على نشاطهم العنيف في منطقة جلعاد في القرن الثامن ق.م. (عا 1: 13-15). وعندما تمرد يهوذا على بابل سنة 600 - 597 ق.م. استطاع نبوخذنصر أن يرسل قوات من الآراميين والموآبيين والعمونيين ليخضعوا يهوذا (2 مل 24: 2). لعب بعليس ملك عمون دورًا خطيرًا في اغتيال جدليا والي يهوذا (إر 40: 14؛ 41: 15). وفي سنة 582 أرسل نبوخذنصر قوة ضد عمون وأيضًا ضد موآب ويهوذا (إر 52: 30)، كما سقطت عمون وموآب ضحية لهجمات العرب عليهم الذين خربوا بلادهما وذلك في منتصف القرن السادس ق.م، ولم تعد عمون بعد ذلك أمة مستقلة. في القرن الأول ق.م. حارب يهوذا المكابي بني عمون (1 مك 5: 6). جاءت النبوة ليست ضد الملك بل ضد "ملكوم" إله عمون الذي ارتبطت العبادة له بتقديم الأطفال ذبائح بشرية حتى قبل أيام موسى النبي. قُدمت النبوة التي بين أيدينا قبل سقوط يهوذا وعمون، ربما حوالي عام 601 - 600 ق.م. (2 مل 24: 2). وقد تحققت جزئيًا على يدّ نبوخذنصر عام 582 ق.م، وتمت بالكامل في منتصف القرن السادس في وقت غارات العرب. ينتسب بنو عمون إلى عمون ابن ابنة لوط الصغرى، أنجبته من أبيها بعد أن سكر (تك 19: 38). كما يقول القديس جيروم: [بالحقيقة لم يكن لوط يعرف ماذا كان يفعل، ولا كانت خطيته بإرادته، ومع هذا فخطأه عظيم إذ جعله أبًا لموآب وعمون عدوَّىَ إسرائيل]. يبدأ نبواته ضد بني عمون بعتابه إياهم إذ حاولوا عبر العصور الاستيلاء على أرض جاد واحتلال مدنه فيقول: "عن بني عمون. هكذا قال الرب: أليس لإسرائيل بنون أو لا وارث له؟! لماذا يرث ملكهم (ملكوم) جاد وشعبه يسكن في مدنه؟!" [1]. يترجم البعض الكلمة العبرية "ملكوم" وليس "ملكهم"، وهو الإله القومي لبني عمون. إنه يوبخهم إذ ظنوا أن إلههم ملكوم (1 مل 19: 38) يرث ما للرب. وإن كان الإسرائيليون أنفسم قد عبدوه أو تأثروا بعبادته (إر 32: 35؛ لا 18: 21؛ 20: 2-5؛ 1 مل 11: 5، 7: 33؛ 2 مل 23: 10، 13؛ عا 5: 26). يرجع ذلك إلى أيام القضاة حيث أرسل يفتاح إلى ملك بني عمون يقول: "ما لي ولك إنك أتيت إليَّ للمحاربة في أرضي؟!" (قض 11: 12). وبعد سليمان الملك كان بنو عمون يطردون بني جاد من أراضيهم ومدنهم تدريجيًا حتى حلَّ السبي الأشوري على يديْ تجلث بلاسر الثالث سنة 733 ق.م. (2 مل 15: 29)، واُقتيد بنو جاد إلى السبي وورث عمون بعض أراضيهم ومدنهم. هنا يقدم إرميا النبي عشرة نبوات تكشف عن عمل الخطية في حياة الإنسان: أ. سماع إنذار الحرب في ربة العمونيين كجلبة، فإنها تحولالمدن الداخلية إلى معركة لا يُسمع فيها صوت بوق كلمة الله المفرح بل صوت الحرب، فتتحول أعماق النفس من مدينة الله المتهللة إلى موقع حرب كله صراخ وضجيج. "لذلك ها أيام تأتي يقول الرب وأسمع في ربة بني عمون جلبة حرب" [2]. ربة بني عمون: عاصمة عمون، تقع على نهر يبوق، وتبعد حوالي 14 ميلًا شمال شرقي حشبون، حاليًا عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية. كشفت الحفريات عن آثار لربة عمون، كما وُجدت نقوش هامة عن عمون القديمة. ب. تحول ربة إلى تلٍ خرب، فإن الخطية تحطم كل بنيان داخلي لتجعل منه كومة خراب لا يقدر كائن بشري أو سماوي أن يقطن فيها. "وتصير تلًا خربًا" [2]. ج. حرق بناتها: "وتحرق بناتها بالنار" [2]. د. تفقد ماورثته: "فيرث إسرائيل الذين ورثوه يقول الرب" [2]. ه. ولولة وصراخ: "ولولي يا حشبون لأن عاي قد خربت. اصرخن يا بنات ربة. تنطّقن بمسوح. اندبن وطوفن بين الجدران" [3]. كانت حشبون عادة تحت سيطرة موآب (إر 48: 2) وإن كانت أحيانًا تنتمي إلى عمون (قض 11: 26)، فهي على الحدود بين الأمتين. عاي: لا تُعرف مدينة عمونية بهذا الاسم، لذا يرى البعض أنه لا يُقصد بها مدينة معينة، خاصة وأن كلمة عاي معناها "كومة" أو "دمار" وكأنه يعني أن حشبون قد صارت كومة خربة؛ وإن كان البعض يفترض وجود عاي أخرى تابعة لعمون غير قرية عاي التي في إسرائيل. و. سبي الملك والكهنة والرؤساء: "لأن ملكهم يذهب إلى السبي هو وكهنته ورؤساؤه معا" [3]. ز. امتلاء أوديتها بالدماء. "ما بالك تفتخرين بالأوطية. قد فاض وطاؤك دمًا أيتها البنت المرتدة والمتوكلة على خزائنها قائلة: من يأتي إليّ؟!" [4]. ح. يحل بها الخوف من كل جانب: "هأنذا أجلب عليكِ خوفًا يقول السيد رب الجنود من جميع الذين حواليكِ" [5]. ط. طرد الجميع: "وتطردون كل واحدٍ إلى ما أمامه وليس من يجمع التائهين" [5]. ي. إصلاح وعودة روحية: الوعد هنا يشبه الوعد الإلهي لمصر (إر 46: 26) وموآب (إر 48: 47). في أيام فارس نرى طوبيا حاكمًا محليًا لعمون (نح 2: 10، 19؛ 4: 7). "ثم بعد ذلك أرد سبي بني عمون يقول الرب" [6]. هذه النبوات العشرة التي تحققت في بني عمون الابنة المرتدة المتكلة على خزائنها والتي تظن أنها فوق كل قانون، لا تستطيع يد أن تمتد إليها [4]، تتحقق مع النفس التي ترتد عن مسيحها لتتكل على ذاتها وإمكانياتها البشرية، فتظن أنه ليس من يقدر أن يؤدبها. لكن الله في حبه يكشف لها عن ثمر خطاياها، فتجني مرارة الخطية لتقبل مسيحها فيردها إليه، ويرجع إليها ويحملها معه إلى حضن أبيه. * يتحول قلبها كما فكرها إلى "ربة عمون" التي لا يسمع فيها هتافات الملائكة بل جلبة حرب، وضجيج لا ينقطع. * تصير تلًا خربًا لا فردوسًا وجنة يقتطف منها مسيحها ثمر روحه القدوس المشبع. * تحرق بناتها أي تفقد إمكانيات الجسد وقدراته ومواهبه، فتتحطم الحواس المقدسة، وتهلك مشاعر الحب الصادقة، وتتحول المواهب من العمل الإيجابي البناء إلى عملٍ محطمٍ. * تفقد ما سبق أن ورثته، إذ يؤخذ ما عندها حتى من الغرائز الطبيعية الصالحة، فتصير أعنف من الحيوانات المفترسة، وأجهل من النملة المجاهدة... * تتحول أعماقها من عرسٍ دائم إلى ولولة وصراخ. عوض ارتداء ثوب العرس المبهج تلتحف بالمسوح لتندب وهي تطوف بين الجدران كحبيسة منفردة... ليس من يعزيها ولا من يسندها. * يسبي ملكهاأي إرادتها الحرة التي تدير كل كيانها، ويسبي كهنتها أي قلبها الذي يقدم ذبائح يومية عاقلة مقبولة لدى الله، كما يسبي رؤساؤها أي الفكر والحواس والأحاسيس، فتفقد قدرتها على العمل الجاد. * تمتلئ أوديتها بالدماء، إذ تحمل روح الكراهية والشماتة، تطلب الشر للغير وتشتهي الضرر دون نفع لها. * يحل بها الخوف من كل الذين حواليها، عوض أن تسكب سلامًا كما فعلت القديسة مريم عند زيارتها لنسيبتها أليصابات، تخاف وترتجف. * تصير كما في حالة تيه، تُطرد كل إمكانيتها وتتشتت، فلا تستقر أعماقها ولا تستريح. * أخيرًا إذ تعمل نعمة الله فيها تدرك كل ما حلّ بها، فلا تُلقى باللوم على الظروف، بل ترجع تائبة إلى الله مخلصها، فيرد سبيها واهبًا إياها الحرية ويجدد أعماقها! 2. آدوم المتشامخ: 7 عَنْ أَدُومَ: «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: أَلاَ حِكْمَةَ بَعْدُ فِي تِيْمَانَ؟ هَلْ بَادَتِ الْمَشُورَةُ مِنَ الْفُهَمَاءِ؟ هَلْ فَرَغَتْ حِكْمَتُهُمْ؟ 8 اُهْرُبُوا. الْتَفِتُوا. تَعَمَّقُوا فِي السَّكَنِ يَا سُكَّانَ دَدَانَ، لأَنِّي قَدْ جَلَبْتُ عَلَيْهِ بَلِيَّةَ عِيسُو حِينَ عَاقَبْتُهُ. 9 لَوْ أَتَاكَ الْقَاطِفُونَ، أَفَمَا كَانُوا يَتْرُكُونَ عُلاَلَةً؟ أَوِ اللُّصُوصُ لَيْلًا، أَفَمَا كَانُوا يُهْلِكُونَ مَا يَكْفِيهِمْ؟ 10 وَلكِنَّنِي جَرَّدْتُ عِيسُوَ، وَكَشَفْتُ مُسْتَتَرَاتِهِ فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْتَبِئَ. هَلَكَ نَسْلُهُ وَإِخْوَتُهُ وَجِيرَانُهُ، فَلاَ يُوجَدُ. 11 اُتْرُكْ أَيْتَامَكَ أَنَا أُحْيِيهِمْ، وَأَرَامِلُكَ عَلَيَّ لِيَتَوَكَّلْنَ. 12 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَا إِنَّ الَّذِينَ لاَ حَقَّ لَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا الْكَأْسَ قَدْ شَرِبُوا، فَهَلْ أَنْتَ تَتَبَرَّأُ تَبَرُّؤًا؟ لاَ تَتَبَرَّأُ! بَلْ إِنَّمَا تَشْرَبُ شُرْبًا. 13 لأَنِّي بِذَاتِي حَلَفْتُ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّ بُصْرَةَ تَكُونُ دَهَشًا وَعَارًا وَخَرَابًا وَلَعْنَةً، وَكُلُّ مُدُنِهَا تَكُونُ خِرَبًا أَبَدِيَّةً. 14 قَدْ سَمِعْتُ خَبَرًا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ، وَأُرْسِلَ رَسُولٌ إِلَى الأُمَمِ قَائِلًا: تَجَمَّعُوا وَتَعَالَوْا عَلَيْهَا، وَقُومُوا لِلْحَرْبِ. 15 لأَنِّي هَا قَدْ جَعَلْتُكَ صَغِيرًا بَيْنَ الشُّعُوبِ، وَمُحْتَقَرًا بَيْنَ النَّاسِ. 16 قَدْ غَرَّكَ تَخْوِيفُكَ، كِبْرِيَاءُ قَلْبِكَ، يَا سَاكِنُ فِي مَحَاجِئِ الصَّخْرِ، الْمَاسِكَ مُرْتَفَعِ الأَكَمَةِ. وَإِنْ رَفَعْتَ كَنَسْرٍ عُشَّكَ، فَمِنْ هُنَاكَ أُحْدِرُكَ، يَقُولُ الرَّبُّ. 17 وَتَصِيرُ أَدُومُ عَجَبًا. كُلُّ مَارّ بِهَا يَتَعَجَّبُ وَيَصْفِرُ بِسَبَبِ كُلِّ ضَرَبَاتِهَا! 18 كَانْقِلاَبِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَمُجَاوَرَاتِهِمَا، يَقُولُ الرَّبُّ، لاَ يَسْكُنُ هُنَاكَ إِنْسَانٌ وَلاَ يَتَغَرَّبُ فِيهَا ابْنُ آدَمَ. 19 هُوَذَا يَصْعَدُ كَأَسَدٍ مِنْ كِبْرِيَاءِ الأُرْدُنِّ إِلَى مَرْعًى دَائِمٍ. لأَنِّي أَغْمِزُ وَأَجْعَلُهُ يَرْكُضُ عَنْهُ. فَمَنْ هُوَ مُنْتَخَبٌ، فَأُقِيمَهُ عَلَيْهِ؟ لأَنَّهُ مَنْ مِثْلِي؟ وَمَنْ يُحَاكِمُنِي؟ وَمَنْ هُوَ الرَّاعِي الَّذِي يَقِفُ أَمَامِي؟ 20 لِذلِكَ اسْمَعُوا مَشُورَةَ الرَّبِّ الَّتِي قَضَى بِهَا عَلَى أَدُومَ، وَأَفْكَارَهُ الَّتِي افْتَكَرَ بِهَا عَلَى سُكَّانِ تِيمَانَ: إِنَّ صِغَارَ الْغَنَمِ تَسْحَبُهُمْ. إِنَّهُ يَخْرِبُ مَسْكَنَهُمْ عَلَيْهِمْ. 21 مِنْ صَوْتِ سُقُوطِهِمْ رَجَفَتِ الأَرْضُ. صَرْخَةٌ سُمِعَ صَوْتُهَا فِي بَحْرِ سُوفَ. 22 هُوَذَا كَنَسْرٍ يَرْتَفِعُ وَيَطِيرُ وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ عَلَى بُصْرَةَ، وَيَكُونُ قَلْبُ جَبَابِرَةِ أَدُومَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ كَقَلْبِ امْرَأَةٍ مَاخِضٍ». كثير من العبارات الواردة هنا جاءت في سفر عوبديا، بذات الكلمات وإن كان الترتيب مختلفًا، لذا أرجو الرجوع إلى تفسيرنا لسفر عوبديا. آدوم تعني "دموي" أو "أحمر" أو "سافك دمٍ" فهو يمثل الشيطان الذي لا يطيق مملكة الله، إذ هو محب للقتال بطبعه. بنو آدوم هم نسل عيسو (تك 36: 19)؛ غالبًا ما كانوا يحملون عداوة لليهود ترجع إلى أيام يعقوب وعيسو (آدوم) حيث اغتصب الأول البكورية منه. لهذا كثيرًا ما تحالف بنو آدوم مع أممٍ أخرى ضد إسرائيل. لم يسمح آدوم لموسى النبي أن يعبر هو وشعبه في تخومه أثناء رحلتهم في البرية (عد 20: 21). وإن كان الله امر شعبه ألا يسيئوا التعامل مع الآدوميين (تث 23: 7-8) بكونهم إخوتهم. حارب شاول الملك الآدوميين (1 صم 14: 47)؛ وسيطر داود الملك عليهم (2 صم 8: 13-14)، لكن دخل سليمان في متاعب مع هدد الآدومي الذي هرب إلى مصر (1 مل 11: 14-22). وفي أيام يهوشفاط ملك يهوذا لم يكن هناك ملك في آدوم بل أقام يهوذا وكيلًا هناك. تحالف يهورام بن آخاب مع ملك يهوذا وملك آدوم وحاربوا موآب (2 مل 3: 5-9). وفي أيام يورام بن يهوشفاط عصى آدوم يهوذا وأقاموا لأنفسهم ملكًا (2 مل 8: 20-22). وقد قتل أمصيا عشرة آلاف من الآدوميين طوح بهم من فوق قمة الصخرة، فقتلهم في وادي الملح وأخذ سالع عاصمة بلادهم (2 مل 14: 7؛ 2 أي 25: 11-12). وفي أثناء حكم آحاز غزا الآدوميون سبط يهوذا وأخذوا منه أسرى. وقد بقيت آدوم مدة من الزمن خاضعة لحكم اشور وكان هذا أثناء حكم تغلث فلاسر الثالث وسرجون وسنحاريب واسرحدون وأشور بانيبال، لكنها اشتركت في ثوارت عامي 711، 701 ضد أشور. وفي أيام السبي كانوا يساعدون الأعداء ضد يهوذا، وإن فلت أحد أمسكوه وباعوه للعدو، وأخيرًا جاءوا بأغنامهم لترعى في مدن يهوذا وحقولها بعد أن صارت خرابًا، لذلك استحقوا حلول غضب الله عليهم. في القرن الخامس ق.م. طرد الأنباط الآدوميين من جبل سعير، وفي القرن الثاني ق.م. أخذ يهوذا المكابي واليهود حبرون وغيرها من المدن التي كان قد استولى عليها الآدوميون، وقد أرغم يوحنا هركالوس الآدوميين على الاختتان وادخلهم ضمن جماعة اليهود، وقد كان هيرودس ونسله آدوميين. بهذا كله ظهروا غير حكماء، لهذا يعاقبهم الله، قائلًا: "عن آدوم. هكذا قال رب الجنود: ألا حكمة بعد في تيمان؟! هل بادت المشورة من الفهماء هل فرغت حكمتهم؟! اهربوا التفتوا تعمقوا في السكن يا سكان ددان" [7-8]. تيمان: اسم عبري معناه "اليميني أو الجنوبي"، حفيد عيسو (تك 36: 11)، أعطى اسمه للقبيلة القاطنة في شمال شرقي آدوم، كما للموضع نفسه الذي يقطنون فيه. تسمى أرض أبناء الشرق، وتدعى تيمن (حز 25: 13). ربما مكانها الآن "طويلان" شرقي البتراء. اُستخدم اسم تيمان للتعبير عن أرض آدوم كلها أيضًا (حب 3: 3)، عُرف سكانها بالحكمة وحنكتهم في ضرب الأمثال [7، 20]؛ (عو 9). سكان ددان: من نسل إبراهيم خلال قطورة (تك 25: 1-3). شعب تُجاري هام، له مكانة مرموقة في تجارة العالم القديم (حز 27: 15، 20؛ 38: 13). كانت ددان محطًا للقوافل كما كانت مركزًا للتجارة الآتية من اليمن والهند إلى البحر الأبيض المتوسط. عاش هذا الشعب في شمال غرب العربية (إر 25: 23)، وجنوب شرقي آدوم، وربما كانت جزءًا من آدوم. اسمها الحديث العُلا في وادي القرى في شمال الحجاز. يقدم إرميا النبي النبوات التالية عن آدوم: أ. حلول كارثة على آدوم: "لأني قد جلبت عليه بلية عيسو حين عاقبته، "لو أتاك القاطفون أفما كانوا يتركون علالة؟! أو اللصوص ليلًا أفما كانوا يهلكون ما يكفيهم؟!" [8-9]. إذ يتحدث عن البلية التي تحل بعيسو يقدم الله مثلين: يترك القاطفون علالة في الأشجار ولا ينتزعون كل الثمر، ومهما سرق اللصوص يتركون شيئًا إذ يسرقوا ما يشعرون أنهم في حاجة إليه. قصد بهذين المثلين أحد أمرين، إما أنه يتهم آدوم بأنه عنيف في هجومه على الغير فيسلب كل شيء، ولا يكون كالقاطفين للثمار أو حتى كاللصوص الذين لا ينهبون إلا ما يحتاجون إليه. أو يود أن يؤكد أن البلية التي تحل بهم تجردهم تمامًا [10]، فلاتسقط عليهم كما يسقط القاطفون على الأشجار، ولا حتى كاللصوص على المنازل أو المخازن؛ بل سيأتي الكلدانيون ويهاجمون آدوم ويعرونه من كل شيء، يسْبون الشعب ويضعون أيديهم على كل الممتلكات، فيكونوا أعنف من اللصوص. ب. تجريد عيسو وتعريته: فقد ظن أنه قادر على سفك الدماء دون معاقبته، إذ يُهلك ويختبئ وسط الجبال العالية وفي الصخور. لكن الله يفضحه (يجرده)، فيصير عاريًا أمام الكل، ويكشف عن الأماكن التي يختبئ فيها. "لكنني جردت عيسو وكشفت مستتراته، فلا يستطيع أن يختبئ" [10]. ج. هلاك نسله واخوته وجيرانه: "هلك نسله واخوته وجيرانه فلا يوجد" [10]. د. اهتمام الله بأيتامه وأرامله: إن كان الله يؤدب بحزم شديد لكنه يفتح أبواب الرجاء، مؤكدًا أنه يهتم بالأيتام والأرامل الذين فقدوا الآباء والأزواج في المعركة أو بسبب السبي. "اترك أيتامك أنا أحييهم وأراملك عليّ ليتوكلن" [11]. ه. يشرب من كأس التأديب: "لأنه هكذا قال الرب: ها إن الذين لا حق لهم أن يشربوا الكاس قد شربوا، فهل أنت تتبرأ تبرؤًا؟! لاتتبرأ بل إنما تشرب شربًا" [12]. و. حلول العار والخراب واللعنة ببُصرة، المدينة الرئيسية لآدوم وعاصمتها، وهي غير بصرة موآب، ربما في موقعها حاليًا بُصيرة تبعد حوالي 25 ميلًا إلى الجنوب الشرقي من البحر الميت. "لأني بذاتي حلفت يقول الرب إن بُصرة تكون دهشًا وعارًا وخرابًا ولعنة، وكل مدنها تكون خربًا أبدية" [13]. ز. إثارة الشعوب للحرب ضده فيصير بينهم صغيرًا ومحتقرًا: "قد سمعت خبرًا من قبل الرب وأرسل رسول إلى الأمم قائلًا: تجمعوا وتعالوا عليها وقوموا للحرب. لأني ها قد جعلتك صغيرًا بين الشعوب ومحتقرًا بين الناس" [14-15]. ح. كسر كبريائه: "قد غرك تخويفك كبرياء قلبك يا ساكن في محاجئ الصخر، الماسك مرتفع الأكمة. وإن رفعت كنسرٍ عشك فمن هناك أحدرك يقول الرب" [16]. عرفت آدوم بكثرة الأماكن الخفية في الجبال ووسط الصخور. ربما يقصد بالصخر هنا أم البيارة، موضع مشهور من خلاله تُرى بتراء أو بيترا (صخرة) وهي خلفها. ط. تصير مهجورة: "وتصير آدوم عجبًا، كل مار بها يتعجب ويصفر بسبب كل ضرباتها. كانقلاب سدوم وعمورة ومجاوراتهما يقول الرب لا يسكن هناك إنسان ولا يتغرب فيها ابن آدم" [17-18]. ي. تصير مثلًا أمام الأمم حيث يهاجمها نبوخذنصر كأسد مفترس خارج من عرينه بسبب فيضان نهر الأردن وبلوغ المياه إلى عرينه. "هوذا يصعد كأسد من كبرياء الأردن إلى مرعى دائم. لأني أغمز وأجعله يركض عنه. فمن هو منتخب فأقيمه عليه؟! لأنه من مثلي، ومن يحاكمني، ومن هو الراعي الذي يقف أمامي؟!" [19]. ك. يُسبى كغنم صغير عاجز عن المقاومة: "لذلك اسمعوا مشورة الرب التي قضى بها على آدوم، وأفكاره التي افتكر بها على سكان تيمان. إن صغار الغنم تسحبهم. إنه يخرب مسكنهم عليهم" [20]. ل. تهتز الأرض من صراخهم الذي يدوي حتى بحر سوف: "من صوت سقوطهم رجفت الأرض. صرخة سُمع صوتها في بحر سوف" [21]. بحر سوف: أو يم سوف yam sup أو بحر الغابReed sea حيث يوجد الغاب Reed نباتات البردي على الحدود بين مصر في شمالها الشرقي والبرك المالحة، حاليًا منطقة قنال السويس، الموضع الذي فيه تم الخروج من مصر. م. ينهار فتتحول قلوب جبابرة الحرب إلى قلب امرأة ماخض عاجزة حتى عن الحركة. بينما يُشَّبه نبوخذنصر بالأسد والنسر، يشبه آدوم بامرأة ماخض في ضعف شديد، وخوفٍ، لا تجد من يعينها. "هوذا كنسرٍ يرتفع ويطير ويبسط جناحيه على بصره، ويكون قلب جبابرة آدوم في ذلك اليوم كقلب امرأةٍ ماخضٍ" [22]. النسر من أقوى الطيور الجارحة، يدعى مجازيًا ملك الطيور، بسبب قوته وضخامة حجمه مع حدة بصره وقدرته على الطيران (تث 28: 49، أي 9: 26، 39: 30، أم 23: 5، 30: 17-19، إش 40: 31، حز 17: 3، حب 8: 1). عُرفت النسور برعايتها الفائقة لصغارها، إذ تحوم حولها حتى تقدر النسور الصغيرة على الطيران (خر 19: 4، تث 32: 11، مز 103: 5). ولهذا حينما أراد الله أن يعلن عن محبته لشعبه ورعايته لهم قال: "كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على منكبيه، هكذا الرب وحده وليس معه إله أجنبي" (تث 32: 11). شُبه المؤمن بالنسر الذي يتجدد شبابه ولا يشيخ (مز 103: 5)، ربما لأن النسر يعمر كثيرًا، أو من أجل القصة المشهورة عن طائر العنقاء الذي يتجه نحو هيكل الشمس في مصر ويموت بعد أن يكون قد أعد لنفسه موضعًا يُدفن فيه ثم يقوم من جديد إلخ. وحينما أراد الله أن يؤدب شعبه أكد لهم أنه يرسل لهم "أمة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها، أمة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد" (تث 28: 49-50)، وقد شُبه الكلدانيين هكذا: "يطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل" (حب 8: 1)، وأيضًا قيل عن آدوم المتعجرف: "إن رفعت كنسرٍ عشك فمن هناك أحدرك يقول الرب" [16]، وأيضًا: "إن كنت ترتفع كالنسر وإن كان عشك موضوعًا بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الرب" (عو 4). هكذا يرمز النسر لرعاية الله الذي يحمل شعبه كما على جناحي النسر، وفي نفس الوقت يرمز للعنف والسرعة في الخطف، فحسبت الأمم المُؤدِبة لشعب الله كالنسر. يحمل أحد الكاروبيم وجهًا شبه النسر (حز 10: 14، رؤ 4: 7)، وفي الفن المسيحي يرمز النسر للإنجيلي يوحنا ويشير للاهوت المحلق في الأعالي كما للقيامة. وفي نفس الوقت أيضًا يشير للقوة الغاشمة، فقد استخدم الفرس النسر شعارًا لدولتهم القديمة، لذلك وصفهم إشعياء النبي بالكاسر من المشرق (إش 46: 11)، كما صار رمزًا للجيش الروماني، وحاليًا يستخدمه الجيش الأمريكي رمزًا له، كما تستخدمه كثير من البلدان. يرى القديس جيروم أن النسر، ملك الطيور، هو الشيطان الذي يقيم له عشًا في الأماكن العالية كمن يملك ويستقر في أمان، لأنه رئيس هذا العالم، أما الإنسان المسيحي فليس له استقرار في هذا العالم، خاصة الراهب. [ليس للراهب قلاية، لكنه أينما وجد قلاية ففيها يقيم!]. 3. سوريا الهاربة المرتعدة: 23 عَنْ دِمَشْقَ: «خَزِيَتْ حَمَاةُ وَأَرْفَادُ. قَدْ ذَابُوا لأَنَّهُمْ قَدْ سَمِعُوا خَبَرًا رَدِيئًا. فِي الْبَحْرِ اضْطِرَابٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْهُدُوءَ. 24 ارْتَخَتْ دِمَشْقُ وَالْتَفَتَتْ لِلْهَرَبِ. أَمْسَكَتْهَا الرِّعْدَةُ، وَأَخَذَهَا الضِّيقُ وَالأَوْجَاعُ كَمَاخِضٍ. 25 كَيْفَ لَمْ تُتْرَكِ الْمَدِينَةُ الشَّهِيرَةُ، قَرْيَةُ فَرَحِي؟ 26 لِذلِكَ تَسْقُطُ شُبَّانُهَا فِي شَوَارِعِهَا، وَتَهْلِكُ كُلُّ رِجَالِ الْحَرْبِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. 27 وَأُشْعِلُ نَارًا فِي سُورِ دِمَشْقَ فَتَأْكُلُ قُصُورَ بَنْهَدَدَ».يقدم لنا النبي دمشق عاصمة سوريا كهاربة مرتعدة، ومعها حماة وارفاد وهما مدينتان أو دويلتان آراميتان في وسط وشمال سوريا، كثيرًا ما يرد ذكرها في النصوص الأشورية في القرن الثامن وما قبل ذلك. فقد تحالف آرام مع افرايم ضد يهوذا، واتكأ الاثنان على فرعون مصر ضد أشور، لهذا سمح الله لملك أشور تغلث فلاسر أن يهجم على آرام وافرايم ويغلبهما سريعًا. يتنبأ عن سوريا بالآتي: أ. سقوط مدنها الكبرى في الخزي: "عن دمشق. خزيت حماة وارفاد" [23]. حماة وأرفاد: اسم ارامي معناه "حمى، حصن، قلعة". تقع حماة على نهر العاصي Orontes شمال حرمون (يش 13: 5) تبعد حوالي 110 ميلًا شمال دمشق، على إحدى الطرق التجارية الرئيسية بين آسيا الصغرى والجنوب. أما ارفاد فهي في شمال سوريا تعرف باسم تل أرفاد، تبعد حوالي 20 ميلًا جنوب غربي حلب، و13 ميلًا شمالي حماة. سقطت الأخيرة في أيدي الأشوريين في القرن التاسع ق.م. ثم ثارت ضدهم، لكنهم عادوا واستولوا عليها عدة مرات، وقد سقطت في أيديهم منذ سنة 738 ق.م. (إش 10: 9؛ 36: 19؛ 37: 13) بينما تنهزمت دمشق في عام 732 ق.م. (2 مل 16: 9). ثارت حماة ضد سرجون الثاني عام 720 ق.م، لكنها أُخضعت بصعوبة ليست بالغة. يسجل لنا سفر الملوك الثاني (2 مل 24: 2) الفرق الآرامية (السورية) مع غيرها تهاجم يهوذا ما بين عامي 600 و597 ق.م. لكننا لا نعرف كثيرًا عن أحداث سوريا في القرن السابع ق.م. ب. تُصاب مدنها بحالة إحباط وصغر نفس: "قد ذابوا لأنهم قد سمعوا خبرًا رديئًا" [23]. ج. فقدان الهدوء: "في البحر اضطراب لا يستطيع الهدوء" [23]. د. رخاوة ورعب: "ارتخت دمشق والتفتت للهرب. وأمسكتها الرعدة، وأخذها الضيق والأوجاع كماخض" [24]. ه. فقدان شبابها وأبطالها: "كيف لم تترك المدينة الشهيرة قرية فرحي.؟! لذلك تسقط شبانها في شوارعها، وتهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم، يقول رب الجنود" [25-26]. ز. احتراق أسوارها وقصورها: "وأشعل نارًا في سور دمشق فتأكل قصور بنهدد" [27]. بنهدد: حمل كثير من ملوك السريان هذا اللقب (1 مل 15: 18، 20: 1؛ 2 مل 6: 24؛ 8: 7؛ 13: 3). 4. قيدار فاقدة الخيام: 28 عَنْ قِيدَارَ وَعَنْ مَمَالِكِ حَاصُورَ الَّتِي ضَرَبَهَا نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قُومُوا اصْعَدُوا إِلَى قِيدَارَ. اخْرِبُوا بَنِي الْمَشْرِقِ. 29 يَأْخُذُونَ خِيَامَهُمْ وَغَنَمَهُمْ، وَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ شُقَقَهُمْ وَكُلَّ آنِيَتِهِمْ وَجِمَالَهُمْ، وَيُنَادُونَ إِلَيْهِمِ: الْخَوْفَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. كانت قيدار وأيضًا مملكة حاصور غنيتان جدًا، شعباهما تجار مواشي ورعاة غنم، يعيشون في خيام، ليس لهم مدن مسورة بأسوار. قيدار: اسم سامي معناه "قدير أو اسود"، وهو ابن إسماعيل الثاني (تك 25: 23)، أب لأشهر قبائل العرب. تعيش رحّالة في الصحراء السورية العربية، كما تُستخدم للإشارة إلى البدو بوجه عام، خاصة القاطنين في فلسطين؛ وكانت لهم تجارة مع فينيقيا (حز 27: 21)، وكانوا بارعين في الحرب ولا سيما في الرمي بالقوس. "عن قيدار وعن ممالك حاصورالتي ضربها نبوخذراصر ملك بابل. هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار أخربوا بني المشرق. يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم، وينادون إليهم الخوف من كل جانب" [28-29]. عُرف أهل قيدار كرعاة يعيشون في الخيام، غير أن بعضهم كانوا يسكنون المدن (إش 42: 11). هاجمهم الكلدانيون واستولوا على خيامهم وأغنامهم وشققهم (الستائر) وأوانيهم، وجردوهم من كل شيءٍ، ثم تركوهم هاربين في البراري، إذ شعر الكلدانيون أنهم لا ينتفعون شيئًا من سبيهم إلى بابل، بل يمثلون ثقلًا عليهم. 5. حاصور مسكن بنت آوي: 30 «اُهْرُبُوا. انْهَزِمُوا جِدًّا. تَعَمَّقُوا فِي السَّكَنِ يَا سُكَّانَ حَاصُورَ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنَّ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ قَدْ أَشَارَ عَلَيْكُمْ مَشُورَةً، وَفَكَّرَ عَلَيْكُمْ فِكْرًا. 31 قُومُوا اصْعَدُوا إِلَى أُمَّةٍ مُطْمَئِنَّةٍ سَاكِنَةٍ آمِنَةٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، لاَ مَصَارِيعَ وَلاَ عَوَارِضَ لَهَا. تَسْكُنُ وَحْدَهَا. 32 وَتَكُونُ جِمَالُهُمْ نَهْبًا، وَكَثْرَةُ مَاشِيَتِهِمْ غَنِيمَةً، وَأُذْرِي لِكُلِّ رِيحٍ مَقْصُوصِي الشَّعْرِ مُسْتَدِيرًا، وَآتِي بِهَلاَكِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 33 وَتَكُونُ حَاصُورُ مَسْكَنَ بَنَاتِ آوَى، وَخَرِبَةً إِلَى الأَبَدِ. لاَ يَسْكُنُ هُنَاكَ إِنْسَانٌ، وَلاَ يَتَغَرَّبُ فِيهَا ابْنُ آدَمَ». حاصور: قريبة من الفرات والخليج الفارسي. يعتقد البعض أن حاصور كانت تقع على مياه ميروم، المعرفة الآن ببحيرة الحولة (يش 11: 1-5). ولعلها هي تل القدح وربما حضيرة أو ضربة صرة على بعد أربعة أميال غرب جسر بنات يعقوب، وقد اكتشفت بقايا المدينة من عصور الكنعانيين. لا يُقصد هنا مدينة حاصور في شمال فلسطين، وإنما مساحة يشغلها عرب شبه رحالة، كما تشير إلى القري (hesarem) الصغيرة، التي استقر فيها بعض القبائل العربية (إش 42: 11). اسم "حاصور" بالعبرانية معناه "حظيرة" أو "مُحاط بسورٍ"، وفي رأي العلامة أوريجينوس معناه "قصر"، ويعلق على ذلك بقوله: [الأرض كلها هي قصر هذا الملك "إبليس" الذي نال السلطان على الأرض كلها وكأنه في أمان حتى يأتي من هو أقوى منه فيكبله بالأغلال وينزع عنه ممتلكاته. إذن ملك القصر هو رئيس هذا العالم]. في أيام يشوع كان ملكها يدعى يابين (يش 11: 1)، وهو اسم كنعاني يعني "الله يراقب"، وإن كان العلامة أوريجينوس يرى أن معناه "أفكار" أو "مهارة"، وكأن يابين يرمز للشيطان الذي يملك على العالم كما في قصره مستخدمًا أفكاره ومهارته للسيطرة على البشرية. كانت بمثابة حصن. "اهربوا انهزموا جدًا تعمقوا في السكن يا سكان حاصور يقول الرب، لأن نبوخذراصر ملك بابل قد أشار عليكم مشورة وفكر عليكم فكرًا. قوموا اصعدوا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة يقول الرب، لا مصاريع ولا عوارض لها، تسكن وحدها. وتكون جمالهم نهبًا، وكثرة ماشيتهم غنيمة، وأذري لكل ريح مقصوصي الشعر مستديرًا، وآتى بهلاكهم من كل جهاته يقول الرب. وتكون حاصور مسكن بنات آوي وخربة إلى الأبد. لا يسكن هناك إنسان ولا يتغرب فيها ابن آدم" [30-33]. ما حلّ بقيدار يحلّ بحاصور. الذين يهربون لا يجدون أمة آمنة يلجأون إليها، لكنهم يجدون حتى الرياح تهاجمهم من كل جانب. تقف الطبيعة ضدهم، لأنهم يقاومون خالق الطبيعة. تصير أرضهم خرابًا لا يسكنها إنسان بل الذئاب وبنات أوي. 6. عيلام صاحب القوس المنكسر: 34 كَلِمَةُ الرَّبِّ الَّتِي صَارَتْ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ عَلَى عِيلاَمَ، فِي ابْتِدَاءِ مُلْكِ صِدْقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا قَائِلَةً: 35 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هأَنَذَا أُحَطِّمُ قَوْسَ عِيلاَمَ أَوَّلَ قُوَّتِهِمْ. 36 وَأَجْلِبُ عَلَى عِيلاَمَ أَرْبَعَ رِيَاحٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَطْرَافِ السَّمَاءِ، وَأُذْرِيهِمْ لِكُلِّ هذِهِ الرِّيَاحِ وَلاَ تَكُونُ أُمَّةٌ إِلاَّ وَيَأْتِي إِلَيْهَا مَنْفِيُّو عِيلاَمَ. 37 وَأَجْعَلُ الْعِيلاَمِيِّينَ يَرْتَعِبُونَ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ وَأَمَامَ طَالِبِي نُفُوسِهِمْ، وَأَجْلِبُ عَلَيْهِمْ شَرًّا، حُمُوَّ غَضَبِي، يَقُولُ الرَّبُّ. وَأُرْسِلُ وَرَاءَهُمُ السَّيْفَ حَتَّى أُفْنِيَهُمْ. 38 وَأَضَعُ كُرْسِيِّي فِي عِيلاَمَ، وَأُبِيدُ مِنْ هُنَاكَ الْمَلِكَ وَالرُّؤَسَاءَ، يَقُولُ الرَّبُّ. 39 «وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنِّي أَرُدُّ سَبْيَ عِيلاَمَ، يَقُولُ الرَّبُّ». عيلام: اسم عبري من أصل اكادى معناه "مرتفعات". تقع شرقي نهر التيجر، شرق بابل في سهل خزيستان، وهي من أقدم المراكز الثقافية. حاربت مع حكام أشوريين كثيرين، هزمها تمامًا أشوربانيبال حوالي سنة 640 ق.م. بعد موته استردت استقلالها. خضعت لنبوخذنصر مثل بقية الأمم، وفي سنة 540 ق.م. ساعدت قواتها على تحطيم الإمبراطورية البابلية. قدمت هذه النبوة قبل خراب أورشليم بحوالي 11عامًا. عُرف رجال عيلام بمهارتهم في ضرب الرماح، وكان ذلك مصدر حمايتهم الوحيد. لذلك بدأت النبوة ضدهم بتحطيم قوسهم أول قوتهم. تنبأ عنهم هكذا: أ. تحطيم قوسهم: "كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي على عيلام في ابتداء ملك صدقيا ملك يهوذا قائلة: هكذا قال رب الجنود: هأنذا أحطم قوس عيلام أول قوتهم" [34-35]. ب. هجوم الكلدانيين عليهم من كل جانب كما تهب الرياح من أربعة جهات المسكونة، فيصيروا كالقش الطائر في الهواء ليس له موضع استقرار. "وأجلب على عيلام أربع رياح من أربعة أطراف السماء وأذريهم لكل هذه الرياح ولا تكون أمة إلا ويأتي إليها منفيو عيلام" [36]. ج. سقوطهم في حالة رعب: "وأجعل العيلاميين يرتعبون أمام أعدائهم وأمام طالبي نفوسهم، وأجلب عليهم شرًا حمو غضبي يقول الرب" [37]. د. قتلهم بالسيف: "وأرسل وراءهم السيف حتى أفنيهم. وأضع كرسي في عيلام، وأبيد من هناك الملك والرؤساء يقول الرب" [38]. ه. ردهم من السبي وتمتعهم بالحرية الداخلية في المسيح يسوع. كان بعض العيلاميون حاضرين يوم العنصرة في أورشليم حينما حلّ الروح القدس على الكنيسة الأولى (أع 2). "ويكون في آخر الأيام أني أرد سبي عيلام يقول الرب" [39]. من وحي إرميا 49 لا تتركني إلى النهاية! * إذ أتطلع إلى الأمم القديمة المتشامخة، عمون وآدوم وسوريا، وقيدار وحاصور وعيلام، تنفضح خطاياي أمامي. * حقًا لتمتد يدك ولتؤدب، لكن حسب حبك وحنانك، وليس كغضبك يا إلهي! * لتهدم كل شر في، ولتبدد بنار حبك كل فسادٍ في داخلي، ولتجردني وتعريني أمام نفسي. فاعترف لك بخطاياي. لتنزع عني كبريائي وتشامخي، ولتهبني اتضاعك أيها العلي. لتسبي كل خطاياي وتطردها، انتزعها من أعماقي. ولتملك أنت في داخلي! * خطاياي حولت فردوسك فيَّ إلى قفر، وفرحك وعرسك إلى صراخ وولولة، وملكوتك المجيد إلى عارٍ وخزي، وسلامك إلى خوف ورعدة! من يخلصني منها سواك؟! * نعم! لتدخل وتملك، فتهرب كل نجاسات قلبي! لتتمجد فيَّ فيزول عاري! لتعلن سمواتك في داخلي، فيُنتزع عني كل خرابٍ ودمارٍ! تعال واحتل مملكتك فيَّ يا قدوس! |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
https://upload.chjoy.com/uploads/170136237199391.jpg سقطت، سقطت أساسات بابل!! يختم إرميا النبي نبواته ضد الأمم ببابل (إر 50، 51). لا نعجب إن جاءت المساحة هنا تكاد تعادل مساحة ما ورد عن الأمم معًا، ذلك بسبب خطورة بابل البالغة على كل غرب آسيا في نهاية القرن السابع ق.م. وبدء القرن السادس. حتى في النبوات الخاصة بالأمم الأخرى وُجدت إشارات إلى بابل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (إر 46: 2، 13، 25؛ 49: 28-33). كانت بابل تمثل العدو الرئيسي لشعب الله، والأمة المتشامخة على جميع ممالك الأرض. ويلاحظ في هذه النبوات الآتي: أ. جاءت النبوات هنا متشابكة معًا بين القضاء على بابل وتحرير شعب الله، تتنقل من الواحدة إلى الأخرى حيث لا فصل بينهما. ب. يرى البعض أنها مجموعة نبوات نطق بها النبي في أوقات مختلفة جُمعت معًا، ويرى آخرون أنها ضمت تعليقات على نبوات إرميا في عصر لاحقٍ له. علىأي الأحوال، كُتبت هذه النبوات قبل انهيار بابل، فإنها لا تحمل أي دليل على أن الكاتب عاصر غزو كورش لبابل ولا تدمير المدينة، بل على العكس يظهر أن بابل كانت لا تزال صاحبة السلطان على أعدائها، كما لا توجد أية إشارة إلى الفارسيين. واضح أيضًا أن هذه النبوات قيلت قبل موت نبوخذنصر عام 562 ق.م، وأنه كان لا يزال على قيد الحياة (إر 50: 17؛ 5: 34). ج. كتب إرميا النبي بإفاضة عن القضاء ضد بابل، وبأسلوب قاسي حتى ظن البعض أنه لا يمكن أن يكون كاتبها إرميا. هؤلاء أساءوا فهم شخصية إرميا، فإنه وإن كان قد طالب يهوذا بالخضوع لبابل لم يعنِ ذلك تعاطفه مع بابل، بل مطالبة يهوذا بالخضوع للتأديب الإلهي (إر 27: 6). لقد سبق أن أشار إرميا إلى انهيار بابل في مناسبات كثيرة (إر 27: 7؛ 29: 10). كرجل الله سبق فأعلن ليهوذا عن مشورة الله، وكرجل الله يؤكد تأديب بابل بسبب كبريائها على الله الذي استخدمها أداة في يديه. أعلن عن سقوط بابل بواسطة كورش الفارسي عام 539 ق.م. بدون معركة، كما قام كورش بإِصدار قوانين متلاحقة لعودة الشعوب المسبية إلى بلادهم فسمح لليهود بالعودة من السبي وإعادة بناء أورشليم. بابل أ. نشأتها: جاء في (تك 10: 9) أن نمرود هو منشئ مدينة بابل، وهو رجل جبار عاصي قاد كثيرين إلى عصيان الله؛ على أن البابليين ينسبونها إلى "مرودخ" إلههم الأكبر. ولا يعرف بالضبط تاريخ تأسيسها ولكنه من المؤكد أنه يرجع إلى الأزمنة البدائية. صار إلهها "مرودخ" رأس مجموعة الآلهة البابلية، بسبب نفوذ بابل كعاصمة، إذ كانت محج عبادته، وبسبب مركز برج بابل العظيم الذي كانوا يتناقلون عنه أمورًا عديدة. بلغت بابل ذروة مجدها في القرن الثامن عشر قبل الميلاد في عصر حامورابي المشترع العظيم من الأسرة البابلية الأولى، وكذلك في القرن السادس قبل الميلاد في عصر نبوخذنصر في الأسرة الكلدانية. ب. عنادها: اتسمت بابل بالعناد منذ نشأتها إذ دعيت بابل "لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض" (تك 11: 9) حينما أرادوا أن يقيموا لأنفسهم برجًا يحتمون فيه من الله متى أراد الانتقام منهم. اشتهر شعب هذه المملكة بشدة البأس والإقدام. وفي أيام نبوخذنصر هاجموا جميع البلدان الواقعة ما بين دجلة والنيل. وكان صدى صليل سيوفهم يملأ أعداءهم رعبًا. أما أصوات مركباتهم فكانت كرعدٍ قاصفٍ (إر 4: 29، خر 26: 10). وامتاز جنودهم بالمهارة في رمي السهام وطعن الرماح وضرب السيوف، حيثما حاربوا تكللوا بالنصرة، وحيثما ساروا ارتعبت منهم الأمم. ملأ الرعب قلوب جميع الأمم المجاورة، ولا سيما الشعب اليهودي. كانوا عنفاء يمثلون بالقتلى ويسيئون معاملة المسبيين والأسرى ما لم يسبقهم إليه أحد سوى الاشوريين. من هنا صارت كلمة "بابل" تشير إلى معاندة الله ومحبة العالم والقسوة على البشر. ج. فسادها: ظهرت "بابل" في سفر الرؤيا كامرأة زانية وكمدينة عظيمة. والمرأة في الكتاب المقدس تشير إلى نظامٍ معينٍ أو مجموعةٍ معينةٍ. فالسيد المسيح له المجد له عروس حقيقية هي الكنيسة (أف 5: 23-32). إنها امرأة مقدسة بلا دنس ولاغضن. ولضد المسيح أيضًا عروس هي "بابل"، هي جماعته التي تعمل ضد الإيمان وتعاند الله وتحث على النجاسات. والمدينة تشير إلى السكنى، فأورشليم المقدسة تشير إلى سكنى الله بين البشر، لذلك دعيت مقدسة. ويمكن أن نقول إن كل نفس أيضًا هي أورشليم مقدسةٌ لأن الله يسكن في داخلها. وبابل العظيمة تشير إلى سكنى "ضد المسيح" بين البشر، لذلك دُعيت "عظيمة" إذ هو عنيف. ويمكن أن يسمح لهذا الضد أن يستخدم أية مدينة سواء كانت هذه بابل فعلًا أو غيرها. ولكن يمكننا أن نقول أيضًا أن كل نفس معاندة للرب هي بابل لأنها مسكن إبليس. د. المعنى التأويلي لكلمة بابل: 1. يرى القديس أغسطينوسوطيخون الأفريقي، أنها تشير إلى جماعة الأشرار، أي ترمز إلى محبي العالم ومجده وغناه ولذاته، المتعلقين به. 2. ويرى أغلب الآباء الأولين أنها تشير إلى مملكة الدجال وعمله الشيطاني، إذ يُعاد بناء بابل وتكون مركزًا إداريًا للتخطيط الشيطاني المعاند، غير أنه ليس من الضروري أن تكون بابل في نفس الموقع القديم، ولا حاجة لأن تدعى "بابل" حرفيًا. وإن كان البعض يرى أنها تدعى حرفيًا هكذا، وتقوم في نفس مكان بابل القديمة. 3. يرى البعض أن بابل هذه صورة استعارية للشكل الذي يقوم عليه نظام الدجال الديني والسياسي بما يحمله من كل آلات للشر يمكن أن يستخدمها إبليس في مقاومة الرب. فهي مجرد تعبير للكشف عن حالة العداوة القائمة ضد الله بصورة أو بأخرى. يذكر التاريخ أن بابل تميزت من البداية بالسحر والتنجيم والأسرار الوثنية، وهي تمثل النفس التي تسقط في "تشويشٍ" أو "بلبلةٍ"، وفي آخر الأيام تمثل مملكة ضد المسيح، ويرى البعض أنها تمثل الكنيسة الشكلية المتعجرفة الرافضة للسيد المسيح المتضع. 1. الغزو الفارسي: 1 الْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ عَنْ بَابِلَ وَعَنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ عَلَى يَدِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ: 2 «أَخْبِرُوا فِي الشُّعُوبِ، وَأَسْمِعُوا وَارْفَعُوا رَايَةً. أَسْمِعُوا لاَ تُخْفُوا. قُولُوا: أُخِذَتْ بَابِلُ. خَزِيَ بِيلُ. انْسَحَقَ مَرُودَخُ. خَزِيَتْ أَوْثَانُهَا. انْسَحَقَتْ أَصْنَامُهَا. 3 لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَتْ عَلَيْهَا أُمَّةٌ مِنَ الشِّمَالِ هِيَ تَجْعَلُ أَرْضَهَا خَرِبَةً فَلاَ يَكُونُ فِيهَا سَاكِنٌ. مِنْ إِنْسَانٍ إِلَى حَيَوَانٍ هَرَبُوا وَذَهَبُوا. تُفتتح النبوات ضد بابل بالكلمات: "الكلمة التي تكلم بها الرب عن بابل وعن أرض الكلدانيين على يد إرميا النبي" [1]. تُعتبر عنوانًا للأصحاحين 50، 51، توضح أنها نبوة عن بابل، عن الكلدانيين الذين جاءوا عن قبيلة استقرت في جنوب أور. منذ القرن العاشر ق.م. عُرفت أرضهم باسم كلديا Kaldu في نقوش نبولاسر والد نبوخذنصر الذي كان مواطنًا كلدانيًا جلس على عرش بابل سنة 626 ق.م. وانشأ فترة بابلية جديدة استمرت حتى سنة 539 ق.م.، وتعتبر فترة مُلك نبوخذنصر هي أشهر وأطول فترة في هذه المملكة. تصور لنا النبوة هنا إرميا النبي في حضرة الله يقف لا ليسمع إلى كلمته فحسب وإنما يتسلمها بيده، وكأن الكلمة هنا ليست صوتًا يُسمع فحسب وإنما أمرًا تستلمه النفس بيدها الداخلية كهبة إلهية، فإن إدانة الشر الذي يصحبه حرية مجد أولاد الله هو عطية تتسلمها النفس وتعتز بها. يرى العلامة أوريجينوس أن تعبير "على يد إرميا" [1] هو استخدام أسماء الأعضاء الجسدية للأعضاء الخاصة بالنفس، وذلك كالقول: "الحكيم عيناه في رأسه" (جا 2: 14). "من له أذنان للسمع فليسمع" (مر 4: 9). "لا تعثر رجلك" (أم 3: 23). "يا رب لقد حُبل بنا في الرحم بمخافتك" (إش 26: 18). "حلقهم قبر مفتوح" (مز 5: 9). "أخبروا في الشعوب، وأسمعوا وارفعوا راية. أسمعوا لا تُخفُوا. قولوا أُخذت بابل. خزى بيل. انسحق مرودخ. خزيت أوثانها، انسحقت أصنامها. لأنه قد طلعت عليها أمة من الشمال هي تجعل أرضها خربة فلا يكون فيها ساكن. من إنسان إلى حيوان هربوا وذهبوا" [2-3]. "بيل": اسم أكادي يقابل الاسم العبري "بعل" ويعني " السيد"؛ كان مستخدمًا في ذلك الوقت للإله مرودخ (إر 50: 2؛ 51: 44)؛ وهو إله الشمس وإله الربيع، خالق العالم حسب الأساطير البابلية، له شكل رجل عظيم على رأسه تاج وله سبعة قرون ثور، يُقدم له طعام وشراب بكميات كبيرة كل مساءٍ، وكانوا يعتقدون أنه يأكلها ويشربها حتى كشف دانيال النبي للملك عن وجود باب سري في الهيكل، خلاله يدخل الكهنة بعائلاتهم ليلًا ليأكلوا الطعام ويشربون خفية، كما ورد في قصة بيل في تتمة دانيال. "مرودخ" لقب حمله أشخاص كثيرون، وهو اسم ملك الآلهة مذكور مع بيل [2]، ويرمز إليه بالسيار المريخ، كثيرًا ما يكون اسمه جزءًا من اسم ملك من ملوك بابل. ماذا قدمت كلمة الرب لإرميا؟ قدمت خلاصًا للمؤمنين وحرية لأولاد الله وذلك بعد تأديبهم ورجوعهم إليه، يصحب هذا تحطيم للشر ونهاية له. إذ سقطت بابل في العجرفة، وظنت أن آلهتها قد وهبتها النصرة، لذلك وضع الله آلهة بابل في خزيٍ وعارٍ. يسمح الله لمادي وفارس أن تحطما الإمبراطورية البابلية وتحولا بابل فيما بعد إلى خراب لا تصلح حتى لسكنى الحيوانات. كثيرًا ما يستخدم إرميا النبي تعبير "أمة من الشمال" إشارة إلى حلول ضيقٍ ما أيا كان مصدره، (إر 1: 14؛ 4: 6؛ 6: 1؛ 13: 30؛ 15: 12؛ 46: 20؛ 47: 2؛ 50: 41؛ 51: 48). هنا وإن كانت مادي فارس شرق بابل أكثر منها شمالًا فقد كان الهجوم الرئيسي على بابل من الشمال. 2. تجميع إسرائيل: 4 «فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَفِي ذلِكَ الزَّمَانِ، يَقُولُ الرَّبُّ، يَأْتِي بَنُو إِسْرَائِيلَ هُمْ وَبَنُو يَهُوذَا مَعًا. يَسِيرُونَ سَيْرًا، وَيَبْكُونَ وَيَطْلُبُونَ الرَّبَّ إِلهَهُمْ. 5 يَسْأَلُونَ عَنْ طَرِيقِ صِهْيَوْنَ، وَوُجُوهُهُمْ إِلَى هُنَاكَ، قَائِلِينَ: هَلُمَّ فَنَلْصَقُ بِالرَّبِّ بِعَهْدٍ أَبَدِيٍّ لاَ يُنْسَى. 6 كَانَ شَعْبِي خِرَافًا ضَالَّةً، قَدْ أَضَلَّتْهُمْ رُعَاتُهُمْ. عَلَى الْجِبَالِ أَتَاهُوهُمْ. سَارُوا مِنْ جَبَل إِلَى أَكَمَةٍ. نَسُوا مَرْبَضَهُمْ. 7 كُلُّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَكَلُوهُمْ، وَقَالَ مُبْغِضُوهُمْ: لاَ نُذْنِبُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَى الرَّبِّ، مَسْكِنِ الْبِرِّ وَرَجَاءِ آبَائِهِمِ الرَّبِّ. [4-7]. تحقق ذلك بالعودة من السبي البابلي. غير أنه جاء في سفر التعزية (إر 30-33) أن إصلاح إسرائيل الذي يرد له وحدته معًا مع توبته وتجديد العهد الذي لا ينكسر يشير إلى الإصلاح المسياني لإقامة شعب الله، إسرائيل الجديد، كنيسة العهد الجديد. كما يتحقق ذلك كل يوم بالنسبة لكل نفس تعود إلى إلهها وتتمتع بالعهد الجديد. لئلا يظنوا أن الأحداث تتم بلا هدف إلهي أوضح هنا أن الشعب قد سبق فضلوا، ملقيًا باللوم على الرعاة الذين ضللوا الشعب وهم الملوك والكهنة والأنبياء الكذبة. يشير النص هنا إلى القيادات الدينية التي حثت الشعب على الارتداد وعبادة البعل على المرتفعات (إر 2: 20؛ 3: 2) حتى نسوا مرعاهم، الموضع الذي فيه يرعى الله قطيعه العاقل. والعجيب أن الله في محبته للبشرية يذكرهم بمحبتهم الأولى قبل سقوطهم حاسبًا الذين افترسوهم وهم مقدسين للرب في صبوتهم أنهم أجرموا، أما الذين افترسوهم وهم في حالة ارتداد فيستطيعون القول: "إننا لسنا مجرمين". 3. الغزو: 8 اُهْرُبُوا مِنْ وَسْطِ بَابِلَ وَاخْرُجُوا مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَكُونُوا مِثْلَ كَرَارِيِزَ أَمَامَ الْغَنَمِ. 9 «لأَنِّي هأَنَذَا أُوقِظُ وَأُصْعِدُ عَلَى بَابِلَ جُمْهُورَ شُعُوبٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ، فَيَصْطَفُّونَ عَلَيْهَا. مِنْ هُنَاكَ تُؤْخَذُ. نِبَالُهُمْ كَبَطَل مُهْلِكٍ لاَ يَرْجعُ فَارِغًا. 10 وَتَكُونُ أَرْضُ الْكَلْدَانِيِّينَ غَنِيمَةً. كُلُّ مُغْتَنِمِيهَا يَشْبَعُونَ، يَقُولُ الرَّبُّ. 11 لأَنَّكُمْ قَدْ فَرِحْتُمْ وَشَمِتُّمْ يَا نَاهِبِي مِيرَاثِي، وَقَفَزْتُمْ كَعِجْلَةٍ فِي الْكَلإِ، وَصَهَلْتُمْ كَخَيْل، 12 تَخْزَى أُمُّكُمْ جِدًّا. تَخْجَلُ الَّتِي وَلَدَتْكُمْ. هَا آخِرَةُ الشُّعُوبِ بَرِّيَّةٌ وَأَرْضٌ نَاشِفَةٌ وَقَفْرٌ. 13 بِسَبَبِ سَخَطِ الرَّبِّ لاَ تُسْكَنُ، بَلْ تَصِيرُ خَرِبَةً بِالتَّمَامِ. كُلُّ مَارّ بِبَابِلَ يَتَعَجَّبُ وَيَصْفِرُ بِسَبَبِ كُلِّ ضَرَبَاتِهَا. 14 اِصْطَفُّوا عَلَى بَابِلَ حَوَالَيْهَا يَا جَمِيعَ الَّذِينَ يَنْزِعُونَ فِي الْقَوْسِ. ارْمُوا عَلَيْهَا. لاَ تُوَفِّرُوا السِّهَامَ لأَنَّهَا قَدْ أَخْطَأَتْ إِلَى الرَّبِّ. 15 اهْتِفُوا عَلَيْهَا حَوَالَيْهَا. قَدْ أَعْطَتْ يَدَهَا. سَقَطَتْ أُسُسُهَا. نُقِضَتْ أَسْوَارُهَا. لأَنَّهَا نَقْمَةُ الرَّبِّ هِيَ، فَانْقِمُوا مِنْهَا. كَمَا فَعَلَتِ افْعَلُوا بِهَا. 16 اقْطَعُوا الزَّارِعَ مِنْ بَابِلَ، وَمَاسِكَ الْمِنْجَلِ فِي وَقْتِ الْحَصَادِ. مِنْ وَجْهِ السَّيْفِ الْقَاسِي يَرْجِعُونَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى شَعْبِهِ، وَيَهْرُبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى أَرْضِهِ. "اهربوا من وسط بابل، واخرجوا من أرض الكلدانيين، وكونوا مثل كراريز أمام الغنم" [8]. هنا وعد إلهي مع التزام من جانب الإنسان. فهو يفتح لنا باب للهروب من وسط بابل لكي ننطلق نحو أورشليم العليا ونعطي القفا للخطية والفساد، ويهبنا القوة والطاقة للخروج، ومستعد أن يمسك بأيدينا بل ويحملنا بروحه القدوس للهروب إلى الأحضان الإلهية، لكنه لا يلزمنا بذلك، بل يأمرنا: "اهربوا... اخرجوا... كونوا". هذا الخروج هي عطية مجانية ننعم بها بواسطة النعمة الإلهية التي تعمل مع من يتجاوب معها وليس للرافضين لها أو المقاومين. هذا وهو يطالبنا في خروجنا أن نحث الغير على التمتع معنا بذات الحرية التي لأولاد الله فيقول: "كونوا مثل كراريز أمام الغنم". كما تقود الجداء القطيع، هكذا يقود اليهود الأمم في عودتهم من السبي. كما كانت أول الأمم التي سقطت تحت التأديب القاسي، فإنها إذ تتوب تقود غيرها إلى التوبة للتمتع بالحرية. نهاية بابل قربت، والسبي ينتهي! صورة رعوية رائعة! عند فتح الباب تخرج الجداء فورًا إذ لا تطيق القيود، فينطلق اليهود نحو بيتهم في مقدمة الشعوب المسبية التي تنعم بالحرية. "لأني هأنذا أوقظ وأُصعد على بابل جمهور شعوب عظيمة من أرض الشمال فيصطفون عليها. من هناك تؤخذ. نبالهم كبطلٍ مهلكٍ لا يرجع فارغًا. وتكون أرض الكلدانيين غنيمة. كل مغتنميها يشبعون يقول الرب. لأنكم قد فرحتم وشمتم يا ناهبي ميراثي، وقفزتم كعجلة في الكلاءِ (العشب)، وصهلتم كخيل. تخزى أمكم جدًا، تخجل التي ولدتكم، ها آخرة الشعوب برية وأرض ناشفة وقفر. بسبب سخط الرب لا تُسكن بل تصير خربة بالتمام. كل مارٍ ببابل يتعجب ويصفر بسبب كل ضرباتها. اصطفوا على بابل حواليها يا جميع الذين ينزعون في القوس. ارموا عليها. لا توفروا السهام لأنها قد أخطأت إلى الرب. اهتفوا عليها حواليها. قد أعطت يدها. سقطت أسسها، نُقضت أسوارها. لأنها نقمة الرب هي فانقموا منها. كما فعلت افعلوا بها. اقطعوا الزارع من بابل، وماسك المنجل في وقت الحصاد. من وجه السيف القاسي يرجعون كل واحدٍ إلى شعبه، ويهربون كل واحدٍ إلى ارضه" [9-16]. يشبه الله مملكة فارس بجمهور نائم يحتاج إلى الله يوقظه معطيًا أمرًا بالصعود على بابل والاستيلاء على أرض الكلدانيين. كما كانت الأمم غنيمة لبابل هكذا تصير هي غنيمة لفارس. حقًا لم يخرب كورش مدينة بابل حين غزاها، لكن فيما بعد أثناء الحكم الفارسي إذ ثارت المدينة سباها داريوس هستاسبيس Darius Hystaspis سنة 514 ق.م. حيث أعدم حوالي 4000 شخصًا، وبدأ بتدميرها تدريجيًا حتى اختفت تمامًا. قامت بابل في منطقة خصبة جدًا، مع انتهاء سلطانها جفت قنواتها وصارت اليوم منطقة صحراوية [16]. ظهرت آثارها بواسطة رجال الحفريات في القرن التاسع عشر. لم يكن الأمر بالغزو الفارسي على بابل حكمًا مُجْحفًا، لكن الله يقدم حيثيات لهذا الحكم أهمها: أ. فرح البابليون وشمتوا عندما نهبوا ميراث الرب [11]، هكذا يحسب الله من يسيء إلى مؤمنيه ويشمت فيهم حتى في لحظات تأديب الله لهم إهانة إلى ميراث الرب نفسه. الذي يشمت فيمن يسقط تحت التأديب يفقد تعقله واتزانه، حتى طهارته وعفته، فيكون كالعجلة التي تقفز في وسط العشب بغير تعقلٍ لأنها تطلب العجل رفيقها، وكالخيل الذي يصهل [11]. إنهما صورتان عن الحياة الريفية توضحان بهجة بابل بانهيار شعب الله. ب. أخطأت بابل إلى الرب [14]، إذ ظنت أنه عاجز عن الوقوف أمام إلههم الباطل مرودخ. ج. "كما فعلت افعلوا بها" [15]، بالكيل الذي كالت به يُكال لها! أما القضاء فهو مشابه لما قيل عن الأمم الأخرى ولكن بصورة أشد، لأنها كانت أعنف منهم. أ. ظنت بابل أنها أمًا للأمم، ولم تدرك أن الأم تفرح بأولادها، وتقدمهم عنها، وتطلب نجاحهم، وتفتخر بهم، فإن فشلوا خربت جدًا. الآن يصيب أمها الخزي والخجل. ب. يجعلها آخر الشعوب بعد أن كانت بابل الإمبراطورية الأولى والمتقدمة للشعوب، بل وتحسب نفسها الإمبراطورية الوحيدة، كأنه لا يوجد غيرها في العالم. ج. يحل بها الخراب فلا تصلح للسكن. د. يسخر بها العابرون عليها. ه. تصير هدف السهام بلا رحمة. و. تسقط أساساتها وتنهار أسوارها. ز. تصير قفر لا يجد الزراع له عملًا، فيها ولا الحاصد يجمع شيئًا. ح. بلا سلام، يود الكل أن يهرب منها. وكما سبق فقلنا إن هذا كله يحل بالنفس الساقطة الرافضة الله واهب المجد الداخلي الأبدي. هذا ويلاحظ أن العقوبة هنا جاءت متشابهة تمامًا لما فعلته بابل بالأمم الأخرى. لقد دفعت الأمم الأخرى إلى الخزي والعار، ونزلت بهم ليصيروا كلا شيء، قتلت الكثيرين من سكانها، وهدمت أسوارًا وقصورًا، وقتلت الكرامين وأفسدت الحقول إلخ. هذا كله يحل بها الآن، ليتحقق القول الإلهي: "كما فعلت افعلوا بها" [15]. 4. عودة إسرائيل: 17 «إِسْرَائِيلُ غَنَمٌ مُتَبَدِّدَةٌ. قَدْ طَرَدَتْهُ السِّبَاعُ. أَوَّلًا أَكَلَهُ مَلِكُ أَشُّورَ، ثُمَّ هذَا الأَخِيرُ، نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ هَرَسَ عِظَامَهُ. 18 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا أُعَاقِبُ مَلِكَ بَابِلَ وَأَرْضَهُ كَمَا عَاقَبْتُ مَلِكَ أَشُّورَ. 19 وَأَرُدُّ إِسْرَائِيلَ إِلَى مَسْكَنِهِ، فَيَرْعَى كَرْمَلَ وَبَاشَانَ، وَفِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ وَجِلْعَادَ تَشْبَعُ نَفْسُهُ. 20 فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَفِي ذلِكَ الزَّمَانِ، يَقُولُ الرَّبُّ، يُطْلَبُ إِثْمُ إِسْرَائِيلَ فَلاَ يَكُونُ، وَخَطِيَّةُ يَهُوذَا فَلاَ تُوجَدُ، لأَنِّي أَغْفِرُ لِمَنْ أُبْقِيهِ. [17-20]. يتحدث هنا عن جميع الأسباط، إذ اشترك إسرائيل ويهوذا معًا في السبي فتبددوا كغنم تطارده السباع، ويشترك الكل معًا في التمتع بعمل الله وردهم من السبي. صورة رائعة لعمل الله مع النفس الراجعة إليه بعد تأديبها: أ. يتطلع إليها كغنم متبددة تتعقبها السباع. عوض أن يعاتبها على خطاياها الماضية مبررًا لماذا سمح لها بالتأديب القاسي، ينظر إليها بعين الرحمة فيشفق عليها وهي متبددة والسباع تريد أن تلتهمها. عجيب هو الله في حنانه، فإنه حتى عند تأديبنا يئن مع أناتنا، ولا يطلب هلاكنا بل خلاصنا. ب. لقد سمح لأشور أن يسبي إسرائيل، وبعد ذلك لبابل أن تسبي يهوذا، ومع هذا يرثيهما لأنه كان يود أن يؤدبهما لا أن يأكل أشور شعبه ويهرس بابل عظامهم. ج. يفرح الله إذ يفتح لشعبه الأبواب المغلقة وينطلق بهم إلى أرض الموعد، خاصة الكرمل وباشان وجبل أفرايم وجلعاد، حيث الأرض التي تفيض عسلًا ولبنًا. د. إذ احتج العدو بأن شعب الله أخطأ، يعلن الله أنه يطلب إثمهم وخطاياهم فلا يجدها، لأن البقية المقدسة قد اختفت في الدم الطاهر، وحملوا بر المسيح! الكرمل تعني "أرض الحديقة". تضم تلال أفرايم الكثير من الأراضي الزراعية. لجلعاد معني واسع يشمل كل منطقة شرق الأردن (تث 34: 1، يش 22: 9، 2 صم 2: 9، 1 مل 5: 17، 24-27). أما جلعاد بمفهوم أكثر تحديدًا، فهو منطقة جبلية شرق الأردن تشمل حاليًا البلقاء الحديثة، غرب عمون عند حدود حشبون تقريبًا من جهة الجنوب وحدود يرموك من جهة الجنوب. يبلغ ارتفاعها حوالي 2000 قدم فوق مستوى البحر، تشمل في بعض المناطق غابات وأيضًا حقول ووديان ومجاري مياه. تصلح للرعي حتى شبه العريس عروسه بقطيع معز رابض على جبل جلعاد (نش 4: 1، 6: 5). تشتهر بنوع من الأشجار يخرج منه مادة صمغية تسمى بلسان جلعاد ذات خواص طبيّة (إر 8: 22، 46: 11)، قيل أن عصيره كان يستخدم كعلاج للالتهابات، وإن قيمته كانت مرتفعة جدًا حتى أنه في زمن الإسكندر كانت قيمته تقدر بضعفي وزنه من الفضة، وجاء في سفر التكوين (تك 37: 25) أنه يمثل تجارة هامة. حينما يتحدث الأنبياء عن إصلاح حال إسرائيل الجديد في العصر المسيّاني يذكرون جلعاد كشبعٍ لنفسه (إر 50: 19، مي 7: 14، زك 10: 10). 5. قضاء على بابل: 21 «اِصْعَدْ عَلَى أَرْضِ مِرَاثَايِمَ. عَلَيْهَا وَعَلَى سُكَّانِ فَقُودَ. اخْرِبْ وَحَرِّمْ وَرَاءَهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَافْعَلْ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ. 22 صَوْتُ حَرْبٍ فِي الأَرْضِ، وَانْحِطَامٌ عَظِيمٌ. 23 كَيْفَ قُطِعَتْ وَتَحَطَّمَتْ مِطْرَقَةُ كُلِّ الأَرْضِ؟ كَيْفَ صَارَتْ بَابِلُ خَرِبَةً بَيْنَ الشُّعُوبِ؟ 24 قَدْ نَصَبْتُ لَكِ شَرَكًا، فَعَلِقْتِ يَا بَابِلُ، وَأَنْتِ لَمْ تَعْرِفِي! قَدْ وُجِدْتِ وَأُمْسِكْتِ لأَنَّكِ قَدْ خَاصَمْتِ الرَّبَّ. 25 فَتَحَ الرَّبُّ خِزَانَتَهُ، وَأَخْرَجَ آلاَتِ رِجْزِهِ، لأَنَّ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ عَمَلًا فِي أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ. 26 هَلُمَّ إِلَيْهَا مِنَ الأَقْصَى. افْتَحُوا أَهْرَاءَهَا. كَوِّمُوهَا عِرَامًا، وَحَرِّمُوهَا وَلاَ تَكُنْ لَهَا بَقِيَّةٌ. 27 أَهْلِكُوا كُلَّ عُجُولِهَا. لِتَنْزِلْ لِلذَّبْحِ. وَيْلٌ لَهُمْ لأَنَّهُ قَدْ أَتَى يَوْمُهُمْ، زَمَانُ عِقَابِهِمْ. 28 صَوْتُ هَارِبِينَ وَنَاجِينَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ، لِيُخْبِرُوا فِي صِهْيَوْنَ بِنَقْمَةِ الرَّبِّ إِلهِنَا، نَقْمَةِ هَيْكَلِهِ. 29 اُدْعُوا إِلَى بَابِلَ أَصْحَابَ الْقِسِيِّ. لِيَنْزِلْ عَلَيْهَا كُلُّ مَنْ يَنْزِعُ فِي الْقَوْسِ حَوَالَيْهَا. لاَ يَكُنْ نَاجٍ. كَافِئُوهَا نَظِيرَ عَمَلِهَا. افْعَلُوا بِهَا حَسَبَ كُلِّ مَا فَعَلَتْ، لأَنَّهَا بَغَتْ عَلَى الرَّبِّ، عَلَى قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ. 30 لِذلِكَ يَسْقُطُ شُبَّانُهَا فِي الشَّوَارِعِ، وَكُلُّ رِجَالِ حَرْبِهَا يَهْلِكُونَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 31 هأَنَذَا عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْبَاغِيَةُ، يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ، لأَنَّهُ قَد أَتَى يَوْمُكِ حِينَ عِقَابِي إِيَّاكِ. 32 فَيَعْثُرُ الْبَاغِي وَيَسقُطُ ولاَ يَكُونُ لَهُ مَنْ يُقِيمُهُ، وَأُشْعِلُ نَارًا في مُدُنِهِ فَتَأْكُلُ كُلَّ مَا حَوَالَيْهَا. يقدم النبي قضاء ضد بابل: الشعب وقياداته وجيشه، والأرض والحقول والمدن، والمبدأ هو "كافئوها نظير عملها افعلوا بها حسب كل ما فعلت" [29]. والعجيب أنه قد تم الإعلان عن خراب بابل المجيدة في صهيون [28]. "اصعد على أرض مراثايم، عليها وعلى سكان فقود. أخرب وحرم وراءهم يقول الرب، وافعل حسب كل ما أمرتك به. صوت حرب في الأرض وانحطام عظيم. كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟! كيف صارت بابل خربة بين الشعوب؟! قد نصبت لك شركًا فعَلِقْتِ يا بابل وأنت لم تعرفي. قد وُجدت وأُمسكت لأنك قد خاصمتٍ الرب. فتح الرب خزانته وأخرج آلات رجزه لأن للسيد رب الجنود عملًا في أرض الكلدانيين. هلموا إليها من الأقصى. افتحوا أهراءها. كوِّموها عرامًا وحرموها ولا تكن لها بقية. أهلكوا كل عجولها. لتنزل للذبح. ويل لهم لأنه قد أتى يومهم زمان عقابهم. صوت هاربين وناجين من أرض بابل ليخبروا في صهيون بنقمة الرب إلهنا نقمة هيكله. ادعوا إلى بابل أصحاب القسي. لينزل عليها كل من ينزع في القوس حواليها. لا يكن ناج. كافئوها نظير عملها. افعلوا بها حسب كل ما فعلت. لأنها بغت على الرب، على قدوس إسرائيل. لذلك يسقط شبانها في الشوارع، وكل رجال حربها يهلكون في ذلك اليوم يقول الرب. هأنذا عليكِ أيتها الباغية يقول السيد رب الجنود، لأنه قد أتى يومك حين عقابي إياك. فيعثر الباغي ويسقط، ولا يكون له من يقيمه، وأشعل نارا في مدنه فتأكل كل ما حواليها" [21-32]. يرى البعض أن إرميا ذكر ثلاثة أسماء رمزية لبابل: أ. مراثايم [21]: لأن الإمبراطورية البابلية تأسست على التمرد المزدوج. مراثايم معناها "تمرد مزدوج"، مع تغيير بسيط في الحروف Mat Marratim، وهو موضع عند رأس الخليج الفارسي في نقطة تلاقى نهري التيجر والفرات. ب. فقود: لأن الله يفقد هذه الإمبراطورية بالقضاء أو العقوبة [21]؛ (حز 23: 23). فقود تعني "عقوبة"، وهي تشير إلى عشيرة في شرق بابلPuqudu (حز 23: 23). كأن الله يدعو أرض التمرّد المزدوج (مراثايم) وشعب العقوبة لممارسة الضغط على بابل. ج. شيشك (إر 25: 26؛ 51: 41)، وقد سبق لنا الحديث عنه. كانت بابل أشبه بصياد وضع الفخاخ ليصطاد الأمم، واحدة تلو الأخرى، تسقط الأمة في الفخ فتسخر بها وتقتلها، والآن سقطت بابل نفسها في ذات الفخ لتصير أضحوكة الأمم وتنال جزاءها. يُرمز هنا [23] لنبوخذنصر بالمطرقة التي هشمت كل ممالك الأرض في ذلك الحين، لكن جاء الوقت لتحطيم المطرقة ذاتها وسحقها. ويرى القديس جيروم أن الشيطان هو المطرقة التي تُحطم كل الأرض، إذ يقول: [الشيطان هو رئيس تلك الظلمة (أف 6: 12)، يدعوه الكتاب المقدس العدو (مت 13: 39)، والقاضي الظالم (لو 18: 6)، والتنين (رؤ 12: 3)، وإبليس، والمطرقة [23]، وبليعال، والأسد الزائر (1 بط 5: 8)، ولويثان (أي 3: 8)، ورؤوس التنانين (مز 73: 13)، وأسماء أخرى كثيرة]. * يريد الله أن تُفهم هذه المطرقة التي للأرض كلها إنها الشيطان. بهذه المطرقة التي في يد الرب، يُعطي صدى لمدائح الله. يُضرب كل من الإنسان البار والخاطئ بهذه المطرقة. الأول كتجربة والثاني كعقاب؛ أو على الأقل لكي يزداد البار في الفضائل ويصلح الخاطئ من رذائله. يُضرب بهذه المطرقة التي في يد الرب ليس فقط المتواضعين بل والمتكبرون؛ لكن يُضرب المتواضعون كالذهب والمتكبرون ينكسرون كالزجاج. ذات الضربة تجعل الصالح في مجدٍ وتحول الشرير إلى رماد، فيتحقق فيهم المكتوب: "كالقش الذي تذرّيه الريح" (مز 1: 4). الأب قيصريوس أسقف آرل قام القديس جيروم بترجمة عظتين للعلامة أوريجينوس على [23، 29]، تحدث فيهما بشيء من التفصيل عن الشيطان كمطرقة كل الأرض جاء فيهما: المطرقة وبيت الرب ["كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟ كيف صارت بابل خربة؟" يلزمنا أن نبحث هنا عن معنى "مطرقة كل الأرض"، وكيف تحطمت؟ ولماذا يقول النبي أنها قطعت قبل أن تتحطم؟ نقوم بتجميع كل ما ذُكر عن المطرقة ونحاول فهم ماذا يقصد بها. مثال من الأمثلة التي سنقدمها: قديمًا، تم بناء بيت للرب، والذي بناه هو سليمان؛ وقد ذُكر في سفر الملوك، على سبيل المديح والإشادة ببيت الرب "ولم يُسمع في البيت عند بنائه منحت ولا معول (مطرقة) ولا أداة من حديد" (1 مل 6: 7). كما لم يُسمع صوت مطرقة في بيت الرب، كذلك أيضًا في الكنيسة بما أنها بيت الله فإنه لا يُسمع فيها صوت مطرقة. ما هي هذه المطرقة التي تعمل على منع الحجارة من أن تُستخدم في بناء الهيكل، إذ في سلطانها أن تحطم تلك الحجارة بحيث لا تجعلها تصلح لبناء الأساسات؟ أليس الشيطان هو مطرقة كل الأرض؟]. الماس أقوى من المطرقة [أما أنا فأؤكد أنه يوجد من لا يبالي كثيرًا بمطرقة كل الأرض. وبما أن الكتاب المقدس قد استخدم المطرقة كمثال، ابحث عن مادة أخرى أشد صلابة من المطرقة، لا تتأثر ولا يصيبها أي ضرر إذا ضربت المطرقة فوقها. في بحثي وجدتها في الآية: "هوذا إنسان قائم فوق جبال الماس، وفي يده ماسة" (عا 7: 7). بحسب قانون الطبيعة فإن الماس أصلب من أن تضربه أية مطرقة، إذ لا يُصاب بضررٍ منها. إذا كان الشيطان كالمطرقة، ووُجدت أسفله ماسة يمسكها الله في يديه ويحميها ويضعها تحت نظره، فإن تلك الماسة لا يمكن أن يصيبها أي ضرر. إذًا الإنسان البار هو مثل جبل الماس أو مثل الماسة الموجودة في يدي الله. إنها لا تقلق ولا تبالي بالمطرقة، بل على العكس كلما اشتدت عليه الضربات ظهرت فضائله أكثر. يُقال عن الذين يتاجرون في الحجارة الكريمة إنهم يختبرون الماس قبل شرائه، ذلك لأنهم يجهلون ما إذا كانت هذه الحجارة الموجودة أمامهم هي ماس أم مادة أخرى، ويظلوا يجهلون حقيقته إلى أن تُوضع تحت المطرقة ويُضرب بها؛ فإذا ظلت الحجارة بدون ضرر يتأكدون حينئذ أن الحجارة الموجودة أمامهم هي ماسات أصيلة]. البار ومطرقة التجارب [هكذا الحال بالنسبة للإنسان البار في مواجهة التجارب؛ فإن الذين لا يعرفون كيف يختبرون الحجارة يجهلون حقيقة هذا البار. أما الله فهو وحده يعلم حقيقة الماس الذي يجهله معظم الناس. أنا نفسي لا أعلم حتى الآن هل سأُقطع وأتحطم إذا ضربتني المطرقة، وبالتالي تظهر حقيقتي إنني لست ماسة، أم سأثبت ضد التجارب والاضطهادات والمخاطر وبالتالي أظهر مثل الماسة الأصيلة؟!]. فوائد المطرقة [راجع بنفسك الكتاب المقدس، وابحث هل وضع الله شيئًا مفيدًا في المطرقة. أذكر لك مثالًا عن فائدة المطرقة: بدون المطرقة لما وُجدت أبواق مشدودة (عد 10: 1) يُضرب بها في مناسبات الأعياد الموجودة في الشريعة، وأيضًا تُستخدم في الحروب حيث تلهب حماس الشعب حينما يسمعونها. إذًا لا بُد من وجود المطرقة لعمل الأبواق المشدودة]. المطرقة والبوق الرسولي بولس [ساعدت المطرقة كثيرا في صنع هذا البوق المشدود، بولس الرسول. فلقد ساعدت على تقدمه ونموه من خلال التجارب المختلفة التي تعرض لها، فاجتاز الاختبار بنجاح، وأثبت أنه يمكن وضعه تحت المطرقة دون أن يُصاب بضررٍ، بل على العكس أن وضعه تحت المطرقة صنع منه بوقًا يُعطي صوتًا واضحًا حتى أن كل من يسمعه يتهيأ للقتال (1 كو 14: 8)]. لنميز بين المطرقة والضارب بها [بما أن قوة العدو هي مطرقة، فأنني أستعين بكلمة أخرى من الكتاب المقدس مشتقة عن كلمة مطرقة. أتوقف عند كلمات: أن "قايين" ولد بنين، وأحدهم كان توبال "الضارب (طارق) كل آلة من نحاس وحديد" (تك 4: 22). فكما أن إبليس أصل كل التجارب يسمى "المطرقة"، كذلك يُسمى خادمه الذي ينفذ أوامره "الضارب" أو (الطارق). في كل مرة تسقط فيها في تجربة اعلم أن المطرقة هو إبليس، وأن الطارق هو الإنسان الذي يرسله إبليس ليوقع بك. وأيضًا عندما تمت خيانة السيد المسيح، كان إبليس هو المطرقة وكان يهوذا الإسخريوطي هو الطارق. كذلك وُجد العديد من الطارقين في وقت آلام يسوع المسيح، كانوا يصرخون: "خذه! خذه! اصلبه! اصلبه!" جميع الذين يرحبون بالشيطان في تصرفاتهم وسلوكهم يجعلون من أنفسهم خدامًا له ويصيرون "طارقين"]. اترك المطرقة ولا تضرب بها! [إن كنت طارقًا بالأمس وممسكًا بمطرقة في يدك، الآن وقد عرفت أن الطارقين هم أبناء قايين الذي قتل أخيه؛ فإلقِ بالمطرقة من يدك، وتعال إلى النسل الصالح لتنتمي إليه، النسل الروحي الذي يبدأ من شيث ثم أنوش والباقين الذين يمدحهم الرب في سفر التكوين]. مطرقة كل الأرض وليس مطرقة السماء! [نهاية المطرقة القطع والتحطيم. يجب أن نعلم أن الشيطان الذي يرمز إليه النبي بالمطرقة، ليس هو مطرقة لجزء من الأرض، بل مطرقة كل الأرض. يجب أن تؤخذ كلمات "كل الأرض" بمعناها الحرفي، لأن شره ورذاءله انتشرت في كل الأرض، وأن هذه المطرقة تصنع الشر في كل مكان. حينما نقول أن الشيطان هو مطرقة كل الأرض، هذا يعني ضمنًا أنه لا توجد مطرقة في السماء. إننا في الواقع لا نستخدم المطرقة مع مادة خفيفة ورقيقة، بل مع مادة غليظة وثقيلة. فإذا كنت تلبس صورة الترابي (1 كو 15: 49)، تضربك المطرقة لأنها أرضية ترابية]. مطارق لأجزاء من الأرض [كما أن الشيطان هو مطرقة كل الأرض، يمكننا أن نتخيل أيضًا أن هناك مطرقة أخرى أصغر نوعًا ما، هي مطرقة جزء من الأرض؛ وهي تتمثل في قوات العدو، أي الشياطين الصغيرة التي ليس لها نفس سلطان إبليس وقدرة رئيس الشياطين الذي يمكنه أن يحارب جميع الناس في وقتٍ واحدٍ. إذا توجد في داخلي مطرقة، ليست لكل الأرض وإنما تختص بأرضي أنا فقط. لكن بما أن مطرقة كل الأرض قُطعت وتحطمت، فما بالكم بالمطارق الأخرى الصغيرة؟] مسيحنا محطم المطرقة! [نبحث عن الذي قطع وحطم مطرقة كل الأرض: ليس موسى هو الذي قطع وحطم مطرقة كل الأرض، ولا إبراهيم أب الآباء، ولا يشوع بن نون، لا أي واحدٍ من الأنبياء. اذا من هو ذاك الذي استطاع أن يقطع ويحطم تلك المطرقة الشديدة القوة، مطرقة كل الأرض؟ أنه يسوع المسيح. لذلك فإن إرميا النبي في إعجابه الشديد بعمل السيد المسيح يقول بروح النبوة: "كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟" لقد قُطع (انكسر) الشيطان أولًا، ثم بعد ذلك تحطَّم (سُحق). لنرجع إلى الإنجيل ونرى الفقرة التي قال فيها الشيطان للسيد المسيح: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9)، في رأيي أن السيد المسيح في تلك اللحظة لم يحطم الشيطان وإنما فقط قطعه، ولكن بعدما ما فارقه الشيطان إلى حين (لو 4: 13)، ثم لما رجع إليه بعد هذا الحين، سحقه يسوع المسيح وحطمه (على الصليب)]. التقطيع والتحطيم الدائم للمطرقة [تُقطع مطرقة كل الأرض من جديد بواسطة كل واحدٍ منا حينما نصير أعضاء حقيقيين في الكنيسة، وحينما ننمو باستمرارٍ في الإيمان، ثم تتحطم وتسحق بعد ذلك حينما نصل إلى حياة الكمال. في هذا الشأن استمع إلى قول بولس الرسول الذي يوجهه إلى الأبرار: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعا" (رو 16: 20)]. لنسحق المطرقة حتى لا تسحقنا [هذا الشيطان ثائر باستمرار ضدنا، وهو يحاول بكل وسيلة أن يقطعنا وأن يحطمنا ويسحقنا. سحق بالفعل كثيرين الذين لم يكونوا يقظين ولا حريصين على أنفسهم، الذين لم يمارسوا عمليًا الحفاظ على القلب (أم 4: 23) ]. لنخف الله فلا نخاف من المطرقة! [أما نحن الذين لنا ثقة في الرب، ولنا إيمان بيسوع المسيح ابن الله، فإننا لا نخاف الشيطان. نخاف الله، فلن نخاف الشيطان، ولن يمكن لإبليس أن يصنع بنا أي شر، بل ويمكننا أن نقول بكل فخرٍ عن عمل الله معنا: "كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟"]. سحق المطرقة يليه خراب بابل [بعد أن قُطعت المطرقة وتحطمت، صارت بابل خربة. لقد اتبع إرميا النبي ترتيبًا يدعو للإعجاب حينما قال: "كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟ كيف صارت بابل خربة؟" لقد أعلن الأمر الذي تحقق أولًا في البداية، ثم أعلن بعد ذلك ما حدث بعده. إذا متى صارت "بابل" مدينة القلق والاضطراب "خربة"؟]. متى تصير بابل خربة؟ [صارت خربة حينما خربت جميع الاضطرابات الموجودة في داخل نفسي وانتهت. حينما لا أضطرب عند موت ابن أو زوجة لي. حينما لا يعود أحد يستطيع أن يثيرني ولا أن يدفعني إلى الحزن أو الغضب أو الشهوة. حينما أصير متزنًا غير قلقٍ رغم جميع الأحداث. عندئذ يقال عني: صارت بابل أي الاضطرابات خربة. "قد نصبت لكِ شركًا فعلقتِ يا بابل وأنتِ لم تعرفي" [24] يا ليت بابل الموجودة في كل واحدٍ فينا تسقط وتُعلق في الفخ المنصوب لها! ]. يكمل العلامة أوريجينوس عظته معلقًا على العبارات التالية في نفس الأصحاح هكذا: ["قد وجُدتِ وأُمسكتِ لأنك قد خاصمتِ الرب (قاومتي الرب)" ليست بابل هي الوحيدة التي قاومت الرب، بل جميع الأمم والشعوب الذين تركوا الخالق وعبدوا الأوثان قاوموا أيضًا الرب. أليست هذه العبادة هي أسلوب رمزي يُقصد به أن كل نفس تخاصم أورشليم "رؤية السلام" تكون مثل بابل؟ لأن الأبرار كانوا في أورشليم، والخطاة كانوا في بابل، لذلك حينما أخطأ سكان أورشليم تم سبيهم إلى بابل مع الخطاة. "فتح الرب خزانته وأخرج آلات زجره... لكي أفهم معنى "فتح الرب خزانته وأخرج آلات رجزه (غضبه)" أبحث عن معنى آلات غضب الله في أجزاء أخرى من الكتاب المقدس. لقد وجدت بالفعل فقرة مناسبة جدًا تتلائم مع هذا الموضوع في كلمات بولس الرسول الذي يقول: "فماذا إن كان الله وهو يريد أن يُظهر غضبه ويُبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك، ولكي يُبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد، التي أيضًا دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضًا" (رو 9: 22-24). يقسم بولس الرسول جميع البشر إلى مجموعتين، قائلًا إن بعضهم يمثل آنية رحمة والبعض الآخر يمثل آنية غضب؛ لقد أطلق مثلًا على فرعون وعلى المصريين أنهم آنية غضب، بينما أطلق على نفسه هو وجميع الذين آمنوا سواء من اليهود أو من الأمم آنية رحمة. إذًا توجد في خزائن الرب آنية (آلات) غضب، فما هي إذًا تلك الخزائن التي يوجد فيها آنية غضب الله؟ هل لا يوجد في خزائنه سوى آنية غضب؟ خزائن الرب من وجهة نظري تتمثل في الكنائس، كثيرا ما يختبئ فيها أناسًا يمثلون آنية غضب، يأتي وقت حين يفتح الرب خزائنه التي هي الكنائس. الكنائس الآن مغلقة، وآنية الغضب موجودة وسط آنية الرحمة، والقمح موجود مع التبن (مت 3: 12)، والسمك الجيد مع السمك الرديء في نفس الشبكة (مت 13: 47). عندما يفتح الرب كنيسته في يوم الدينونة ويُخرج آلات غضبه؛ فإن كل واحدٍ من الذين يمثلون آنية الرحمة يقول عن آنية الغضب التي أخرجت خارجًا: "منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا" (1 يو 2: 19)]. يكمل العلامة أوريجينوس حديثه عن الآنية التي للرحمة وتلك التي للغضب قائلًا بإن هذا يحدث في بيت الرب أي بين المؤمنين، منهم من هم مقدسون وآخرون فاسدون يُدانون؛ لكن توجد أواني أخرى خارج الكنيسة ليست هكذا ولا كذلك، فهي تُحرم من الملكوت لكن لا تُلقى في نار جهنم... هذا الفكر في رأيه موضوع نقاش غير مستقر عليه، وواضح من كلماته أنه لا يمثل رأيًا عامًا إذ يقول: [هذا الموضوع يدعونا للدخول في مناقشة مجالٍ آخر يتشابه مع هذا الموضوع فإنه توجد في خزائن الرب آنية للغضب؛ وفي خارج خزائنه يوجد خطاة ليسوا آنية للغضب، بل هم آنية أقل درجة من آنية الغضب: هم العبيد الذين لا يعملون إرادة سيدهم لأنهم لا يعلمون ما هي إرادته (لو 12: 47). الذي يدخل إلى الكنيسة يكون إما آنية غضب وإما آنية رحمة؛ أما الذي في خارج الكنيسة فهو ليس آنية غضب ولا آنية رحمة، بل يمكن اعتباره آنية مخصصة لأي شيء آخر. أستطيع أن أؤكد كلامي هذا، وأن أثبت صحته من الكتاب المقدس نفسه، حيث يقول بولس الرسول "ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط بل من خشب وخزف أيضًا، وتلك للكرامة وهذه للهوان، فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدسًا نافعًا للسيد مستعدًا لكل عملٍ صالحٍ" (2 تي 2: 20). لا تظن أن هذا البيت الكبير هو كنيستنا الحالية، ولا تعتقد أنك ستجد فيها آنية للكرامة وأخرى للهوان؛ بل أن هذا البيت الكبير هو المدينة الجديدة التي أعدها الله لنا في الدهر الآتي، فيها تصير آنية الرحمة، آنية من ذهب وفضة للكرامة؛ بينما الآنية الأخرى التي هي الأشخاص الموجودين خارج الكنيسة والذين ليس في استطاعتهم أن يصيروا آنية للرحمة ولا آنية للغضب؛ فإنهم بموجب وضعهم الخاص وحالتهم الفريدة، يمكنهم أن يشغلوا وظيفة آنية الخزف التي للهوان، والتي رغم كونها آنية للهوان إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنها في داخل البيت. بالنسبة لنا نحن الذين في بيت الله أي في الكنيسة، ماذا ننتظر حتى نطهر أنفسنا؟ هل نتظر حتى يأتي الرب ويفتح خزائنه فيخرجنا خارجًا؟! ألا يجب علينا أن نبدأ من الآن حتى نصنع من أنفسنا آنية للرحمة، فلا نكتفي فقط بأن نبعد عن أن نصير آنية للغضب، بل بالأكثر أن يصير هؤلاء الذين كانوا قبلًا آنية غضب آنية للرحمة؟! يقول بولس الرسول شيئًا مشابهًا للكورنثوسيين: "يسمع مطلقا أن بينكم زنى، وزنى هكذا لا يُسمى بين الأمم حتى أن تكون للإنسان امرأة أبيه. أفأنتم منتفخون وبالأحرى لم تنوحوا حتى يُرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل؟!" (1 كو 5: 1-2) كأنه يقول لهم: لتُفتح خزائن الرب، ولتخرج منها آنية الغضب! لأن "الرب فتح خزانته وأخرج آلات غضبه". قرأت عبارة نُسبت للسيد المسيح "الذي يوجد بالقرب مني فهو قريب من النار، والذي يوجد بعيدًا عني فهو بعيد عن الملكوت"! أي أن الإنسان الذي سمع تعاليمي ثم خالفها صار إناء غضبٍ معد للهلاك (رو 9: 22)، مثل هذا الإنسان عندما يكون بالقرب مني يصير قريبًا من النار. إذا ابتعد أحد عني لكي لا يوجد بجانب النار، فليعلم مثل هذا الإنسان أنه بذلك يُبعد نفسه عن الملكوت، مثل ما يحدث مع المصارعين تمامًا: فإن المصارع الذي لا يكتب اسمه ضمن أسماء المشتركين في الصراع (المصارعة) لن يخاف من الضربات، في الوقت نفسه لن ينتظر أن يُتوج بأكاليل النصرة. أما إذا اشترك في المصارعة فإنه سُيضرب ويقع كما في حالة خسارة، بينما يُتوج في نصرة. نفس الشيء يحدث مع الذين كُتبت أسماؤهم في الكنيسة، الذين قبلوا كلام الرب، فهم بهذا يسجلون أسماءهم للاشتراك في المصارعة الدينية، طالما انضموا إلى المشتركين، فإذا لم يصارعوا بكل اجتهاد يتلقون ضربات كثيرة، لن يتلقاها الآخرون الذين لم يشتركوا من الأصل في هذا الصراع، إما إذا صارعوا بشجاعة وتجنبوا الضربات، فإنهم يأخذون إكليل مجدٍ لا يفنى (1 كو 9: 25) ]. لنخرج من أرض الكلدانيين ["لأن للسيد رب الجنود عملًا في أرض الكلدانيين" [25]. أي مكان أو موقع أرضي يمكن أن يُسمى بأسماء عديدة ومختلفة بحسب وجهات النظر السائدة فيه. وكما أن مخلصنا يسوع له أسماء كثيرة من وجهات نظر متعددة، ذلك لأنه واحد في جوهره لكنه متعدد القدرات والصفات، كذلك أيضًا الأمور الأرضية، فرغم كونها نفس الشيء في جوهرها، إلا أنها متعددة جدًا من وجهات نظر الناس في كل مكان على الأرض. أوضح ذلك بالأكثر بتفسير المثال الذي ذكرته عن المخلص ثم أرجع بعد ذلك إلى الموضوع الأساسي الذي يحتاج إلى التفسير. فبالرغم من أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح هو جوهر واحد، إلا أنه من وجهة نظر معينة يُدعى طبيبًا حيث قيل "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" (مت 9: 12). ومن وجهة نظر أخرى يُدعى راعيًا (يو 19: 14). ومن وجهة نظر ثالثة يُدعى ملكًا (يو 18: 37). ومن وجهة نظر رابعةُ يدعى الكرمة الحقيقية (يو 15: 1). ومن وجهة نظر خامسة يُدعى الحكمة (1 كو 1: 30). من وجهة نظر سادسة يُدعى الحق (يو 14: 6). ومن وجهة نظر سابعة يُدعى برًا (1 كو 1: 30). إذًا، كما أن مخلصنا رغم أنه واحد في جوهره إلا أنه يحمل أسماء مختلفة تبعًا لوجهات نظر متعددة، كذلك أيضًا بالنسبة للأمور الأرضية، فإنها مكونة من نفس المادة إلا أنها تأخذ أسماء مختلفة تبعا للأماكن الموجودة فيها. كثيرًا ما ذكرنا أن بابل هي الأمور الأرضية المضطربة دائمًا، ومصر هي الأمور الأرضية التي تصيبنا بالحزن والضيق، أما أرض الكلدانيين فتمثل الذين يعبدون النجوم والكواكب، ينسبون معظم الأحداث التي تجرى على الأرض إلى النجوم، حتى أنهم يقولون إن ما يوجد عندنا من خطايا أو من فضائل هو نتيجة لحركة النجوم. كل إنسانٍ يشترك في تلك المعتقدات يكون في أرض الكلدانيين. إذا اتبع أحدكم خرافات المنجمين يكون هو أيضًا في أرض الكلدانيين. بل أن بعض الناس يظنون أننا أصبحنا مسيحيين بسبب تحركات معينة تحدث في مدارات الكواكب والنجوم. لذلك فإنه عندما يهدد الرب الذين في أرض الكلدانيين، وفقا للتفسير الروحي، يهدد الذين يذهبون وراء علم التنجيم القائلين إن كل ما يحدث على الأرض يرجع إلى تحركات النجوم. من أجل ذلك حينما دعا الله إبراهيم للتوجه نحو أمورٍ أفضل، قال له: أنا الرب الذي أخرجك من أرض الكلدانيين" (تك 15: 7). الله وحده هو القادر على إخراجنا من أرض الكلدانيين، لأنه هو خالق كل شيء ومدبر كل شيء وضابط الكل]. ["هلُم إليها من الأقصى، افتحوا أهرءها (مخازنها)، كوموها عرامًا وحرّموها ولا تكن لها بقية" [26]. مخازن الكلدانيين هي عقائدهم الخاصة بمعرفة الغيب والتنجيم. من يرفض حسابات علم الغيب والتنجيم، ويتبع بدلًا منها عقيدة الحق التي تؤكد أن لا شيء مما يقوله هؤلاء المنجمون حقيقي، ومن يعلم أن ما أبعد أحكام الله عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء (رو 11: 33)، ومن يقول أن الكواكب ليست هي سبب الأحداث التي تجري على الأرض؛ مثل هذا الإنسان ينفذ أمر الرب بإهلاك أرض الكلدانيين. "صوت هاربين وناجين من أرض بابل ليخبروا في صهيون بنقمة الرب إلهنا" [28]. يتنبأ إرميا هنا عن الذين تركوا تقاليد أجدادهم، ورفضوا العادات الوثنية التي كانت موجودة عندهم قديمًا، تركوا عدم الإيمان، ثم آمنوا في النهاية بكلمة الرب. أعتقد أن هذا هو المقصود بكلمات: "صوت هاربين وناجين من أرض بابل". يا ليتها تكون كلماتنا نحن أيضًا، فنكون هاربين من الرذائل والخطايا، إذ أن صوت الهاربين هو نفسه صوت الناجين. لا يكفي أن نهرب من أرض بابل بل يجب كذلك أن ننجو منها حتى نُخبر في صهيون بنقمة الرب إلهنا. عندما نهرب من بابل نأتي إلى صهيون "المدينة الحصينة"، أي كنيسة الرب حيث نخبر فيها بنقمة الرب إلهنا أي نقمة شعبه (دفاعه عن مؤمنيه). "ادعوا إلى بابل أصحاب القسي. لينزل عليها كل من ينزع في القوس حواليها لا يكن ناج".أي اهدموا واهلكوا كل ما يخص بابل "كافئوها نظير عملها، افعلوا بها حسب كل ما فعلت، لأنها بغت على الرب على قدوس إسرائيل". أو: "لأنها قاومت الرب قدوس إسرائيل" [29]. طالما توجد في داخلك أفكار شريرة تقاوم القداسة والإيمان الحقيقي، لا تزال بابل في داخلك؛ أما إذا أهلكت هذه الأفكار وقضيت على الخطايا الموجودة في أرضك (نفسك)؛ فإنك تكون قد قتلت بابل، وبالتالي تستطيع أن تذهب إلى مدينة الله أورشليم (عب 12: 22) وتلتقي بالمسيح يسوع الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى أبد الآبدين آمين]. 6. ضيق مشترك: 33 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي يَهُوذَا مَعًا مَظْلُومُونَ، وَكُلُّ الَّذِينَ سَبَوْهُمْ أَمْسَكُوهُمْ. أَبَوْا أَنْ يُطْلِقُوهُمْ. 34 وَلِيُّهُمْ قَوِيٌّ. رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ. يُقِيمُ دَعْوَاهُمْ لِكَيْ يُرِيحَ الأَرْضَ وَيُزْعِجَ سُكَّانَ بَابِلَ. [33-34]. سمح الله لهم بالسبي لكي يتمتعوا بالوحدة التي حُرموا منها في أرض الموعد. ففي عبودية مصر وأيضًا في بابل كان الكل معًا في مذلة. وكما أبَى فرعون أن يطلقهم هكذا أبَى البابليون أن يطلقوهم [33]، لكن في كلا الحالتين اكتشفوا أن "وليهم قوي، رب الجنود اسمه" [24] هو الذي يحررهم. بالنسبة لهم هو "الولي" أي يمت إليهم بصلة قربي ملاصقة جدًا، وقائد "رب الجنود"، ومحامي يقيم دعواهم [34]. إنه ينتقم لهم من الأشرار القتلة، ويحميهم، ويضُمن لهم حريتهم، ويحرر أرضهم (لا 25: 25، 47-55؛ عد 35: 21). إن كان الله قد أخرجهم من مصر بيدٍ قوية وبذراعٍ رفيعة فلا يزال القادر أن يحررهم من بابل بقوة. 7. قضاء عاجل: 35 سَيْفٌ عَلَى الْكَلْدَانِيِّينَ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَعَلَى سُكَّانِ بَابِلَ، وَعَلَى رُؤَسَائِهَا، وَعَلَى حُكَمَائِهَا. 36 سَيْفٌ عَلَى الْمُخَادِعِينَ، فَيَصِيرُونَ حُمُقًا. سَيْفٌ عَلَى أَبْطَالِهَا فَيَرْتَعِبُونَ. 37 سَيْفٌ عَلَى خَيْلِهَا وَعَلَى مَرْكَبَاتِهَا وَعَلَى كُلِّ اللَّفِيفِ الَّذِي فِي وَسْطِهَا، فَيَصِيرُونَ نِسَاءً. سَيْفٌ عَلَى خَزَائِنِهَا فَتُنْهَبُ. 38 حَرٌّ عَلَى مِيَاهِهَا فَتَنْشَفُ، لأَنَّهَا أَرْضُ مَنْحُوتَاتٍ هِيَ، وَبِالأَصْنَامِ تُجَنُّ. [35-38]. أمر السيف أن يضرب ليعلن عجز آلهة بابل وأصنامها عن الحركة والدفاع عن العابدين لها: - سيف على الكلدانيين (الشعب). - سيف على الرؤساء (الأباطره ورجال الدولة). - سيف على الحكماء (المشيرون). - سيف على المخادعين (الأنبياء الكذبة والمنجمون). - سيف على أبطالها (الجيش). - سيف على خيلها... (الإمكانيات الحربية). - سيف على اللفيف الذي في وسطها (حلفاؤها). - سيف على خزائنها (التي امتلأت بما نهبوه). - حر على مياهها (تتحول الحقول إلى براري). يرى البعض هنا إشارة إلى تحويل مياه نهر الفرات من القنوات الطبيعية تحت أبواب المدينة الضخمة إلى بركة ضخمة خارج المدينة حيث عبر مادي وفارس إلى بابل من خلال قنوات النهر. 8. قضاء مستقبلي: 39 لِذلِكَ تَسْكُنُ وُحُوشُ الْقَفْرِ مَعَ بَنَاتِ آوَى، وَتَسْكُنُ فِيهَا رِعَالُ النَّعَامِ، وَلاَ تُسْكَنُ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ تُعْمَرُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. 40 كَقَلْبِ اللهِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَمُجَاوَرَاتِهَا، يَقُولُ الرَّبُّ، لاَ يَسْكُنُ هُنَاكَ إِنْسَانٌ، وَلاَ يَتَغَرَّبُ فِيهَا ابْنُ آدَمَ. [39-40]. هذه الكلمات حقيقية بالنسبة لخرائب بابل، فلا يزال يتجنبونها ظانّين إياها أماكن تختبئ فيها الحيوانات المفترسة ومملوءة بالأرواح الشريرة (إش 13: 19-22). لم يحدث أن تعرضت بابل لما تعرضت له مدينتا سدوم وعمورة، لذا يرى البعض أنه يشير هنا إلى ما سيحدث في الأيام الأخيرة حيث يُقال عن سقوط بابل: "وحدثت زلزلة عظيمة لم يحدث قبلها منذ صار الناس على الأرض، زلزلة بمقدارها عظيمة هكذا... وبابل العظيمة ذُكرت أمام الله ليعطيها كأس خمر سخط غضبه" (رؤ 16: 18-19). كما قيل عن ملاكٍ إنه "صرخ بشدة بصوتٍ عظيم قائلًا: سقطت سقطت بابل العظيمة وصارت مسكنًا لشياطين ومحرسًا لكل روحٍ نجس..." (رؤ 18: 2). 9. غزو عاجل: 41 هُوَذَا شَعْبٌ مُقْبِلٌ مِنَ الشِّمَالِ، وَأُمَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَيُوقَظُ مُلُوكٌ كَثِيرُونَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ. 42 يُمْسِكُونَ الْقَوْسَ وَالرُّمْحَ. هُمْ قُسَاةٌ لاَ يَرْحَمُونَ. صَوْتُهُمْ يَعِجُّ كَبَحْرٍ، وَعَلَى خَيْل يَرْكَبُونَ، مُصْطَفِّينَ كَرَجُل وَاحِدٍ لِمُحَارَبَتِكِ يَا بِنْتَ بَابِلَ. 43 سَمِعَ مَلِكُ بَابِلَ خَبَرَهُمْ فَارْتَخَتْ يَدَاهُ. أَخَذَتْهُ الضِّيقَةُ وَالْوَجَعُ كَمَاخِضٍ. 44 هَا هُوَ يَصْعَدُ كَأَسَدٍ مِنْ كِبْرِيَاءِ الأُرْدُنِّ إِلَى مَرْعًى دَائِمٍ. لأَنِّي أَغْمِزُ وَأَجْعَلُهُمْ يَرْكُضُونَ عَنْهُ. فَمَنْ هُوَ مُنْتَخَبٌ فَأُقِيمَهُ عَلَيْهِ؟ لأَنَّهُ مَنْ مِثْلِي؟ وَمَنْ يُحَاكِمُنِي؟ وَمَنْ هُوَ الرَّاعِي الَّذِي يَقِفُ أَمَامِي؟ 45 لِذلِكَ اسْمَعُوا مَشُورَةَ الرَّبِّ الَّتِي قَضَى بِهَا عَلَى بَابِلَ، وَأَفْكَارَهُ الَّتِي افْتَكَرَ بِهَا عَلَى أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ: إِنَّ صِغَارَ الْغَنَمِ تَسْحَبُهُمْ. إِنَّهُ يَخْرِبُ مَسْكَنَهُمْ عَلَيْهِمْ. 46 مِنَ الْقَوْلِ: أُخِذَتْ بَابِلُ. رَجَفَتِ الأَرْضُ وَسُمِعَ صُرَاخٌ فِي الشُّعُوبِ." [41-46]. تكرر ما جاء (إر 41-43) في (إر 6: 22-24) مع اختلافات طفيفة، بينما (إر 44-46) تكرر ما ورد ضد أدوم (إر 49: 19-21). من الجانب التاريخي، الذين كانوا في السبي كانوا فاقدي الرجاء في الخلاص من جبروت الإمبراطورية البابلية، فكانت كلمات إرميا هذه أشبه بعظات نظرية غير عملية، لكن الذين آمنوا بكلمة الرب امتلأوا رجاءً ووثقوا في يد الله العاملة لخلاصهم، فكانت نبوات وكلمات إشعياء وإرميا وحزقيال مصدر عزاء لهم في غربتهم. من وحي إرميا 50 لتزعزع أساسات بابل! * ظنت بابل أنها أم العالم كله، لا بالحب بل بالقمع والتحطيم. وظنت الأمم جميعًا أنه لا خلاص من بابل المستبدة! لكن الله ضابط الكل أعلن عن دمارها، ليُفعل بها ما فعلته بالأمم. كمطرقة سحقت كل الأرض، هوذا تُقطع المطرقة وتُسحق! * لتزعزع يا مخلصي أساسات بابلي المتشامخة! لتهدم في داخلي امرأة إبليس المتعجرفة الزانية! لتحطم يا مخلصي المطرقة الحقيقية، عدو الخير الذي حطم كل الأرض، أقام نفسه أرخونا للعالم لينحدر به إلى الهاوية! * مجيئك يا مخلصي قطَّع المطرقة، صليبك سحقها تمامًا! أي سلطان لعدو الخير عليّ؟! أية قوة للخطية في داخلي؟! نعم! وهبتني النصرة، أعطيتني أن أضرب بصليبك على المطرقة فأسحقها! * روحك القدوس حوَّلي ترابي إلى ماس حقيقي! ليضرب العدو بكل طاقاته، فإنه لن يقدر أن يحطم الماس ولا أن يسحقه! بل يكشف بالأكثر عن تقديرها وصلابتها! أختفي فيك وأرتمي بين يديك، فلا تقدر المطرقة أن تحطمني! اقتنيني ماسًا لا يُقدر بثمن. * لتضرب مطرقة كل الأرض عليّ! إنها لن تقدر أن تلحق بي، فإنني لست بعد أرضًا بل سماء! أجلسني روحك القدوس في السمويات، حوّل أرضي الداخلية إلى سماء، وبابلي إلى أورشليم العليا! مجدًا لك يا محطم مطرقة كل الأرض! |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
اهربوا من بابل! أعلن الله في الأصحاح السابق على لسان إرميا النبي عن تقطيع بابل -مطرقة الأرض- وتحطيمها (إر 50: 23)، فكما سحقت الأمم سُحقت هي أيضًا، لأنها مدينة ضد المسيح، تُقدم للعالم إبليس الذي هو بالحقيقة مطرقة كل الأرض، وقد سحقه رب المجد بالصليب (كو 2: 15) ولم يعد له سلطان على أولاد الله. في هذا الأصحاح يعلن الله عن التزامنا بالهروب سريعًا من بابل، لأننا في حاجة إلى بلسانٍ يشفي جراحات نفوسنا الخطيرة. هذا البلسان هو رب المجد يسوع المصلوب الذي لن يوجد في بابل بل في جلعاد الجديدة التي هي الكنيسة. 1. ريح مهلكة: 1 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أُوقِظُ عَلَى بَابِلَ وَعَلَى السَّاكِنِينَ فِي وَسْطِ الْقَائِمِينَ عَلَيَّ رِيحًا مُهْلِكَةً. 2 وَأُرْسِلُ إِلَى بَابِلَ مُذَرِّينَ فَيُذَرُّونَهَا وَيُفَرِّغُونَ أَرْضَهَا، لأَنَّهُمْ يَكُونُونَ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فِي يَوْمِ الشَّرِّ. 3 عَلَى النَّازِعِ فِي قَوْسِهِ، فَلْيَنْزِعِ النَّازِعُ، وَعَلَى الْمُفْتَخِرِ بِدِرْعِهِ، فَلاَ تُشْفِقُوا عَلَى مُنْتَخَبِيهَا، بَلْ حَرِّمُوا كُلَّ جُنْدِهَا. 4 فَتَسْقُطَ الْقَتْلَى فِي أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَالْمَطْعُونُونَ فِي شَوَارِعِهَا. [1-4]. في الأصحاحات السابقة يشير النبي إلى بابل إما باسمها الذي يعني "بلبلة"، أو باسم "الكلدانيين" الذي يشير إلى انغماسهم في العقائد الخاطئة حيث يرفضون العناية الإلهية، حاسبين أن كل حياتهم حتى سلوكهم تديره حركة النجوم، بهذا يظنون أن الإنسان مسلوب الإرادة. هنا يدعو الله البابليين: "الساكنين في القائمين عليّ" [1]، أي المقاومين لله علانية، لهذا استحقت بابل المخاطر التالية: أ. هبوب ريح مهلكة عليها، عوض التمتع بروح الله القدوس الذي يهب كريحٍ ليجدد على الدوام؛ تهلك الريح حتى العطايا الطبيعية الموهوبة للإنسان. ب. قيام مذرين لتفريغ أرضها، يكشفون أنها لا تحمل حبة حنطة واحدة وسط القش، لهذا تفرغ أرضها تمامًا. ج. ضربات القوس المتواترة؛ عوض التمتع بسيف الكلمة الإلهية الذي يبتر كل شرٍ، أو برمح الحب الإلهي الذي يجرح النفس بجراحات الحب الإلهي، يُقتل شبابها المنتخب وكل جيشها بالرماح، ويُلقون في الشوارع [3]. د. تحريم جندها: تصير كل طاقات الإنسان التي للجسد كما للنفس جنودًا محرمين لا يمارسون الحياة المقدسة، ولا ينعمون بتكريسهم للرب. يترجم البعض "الساكنين في القائمين عليّ" هكذا: "الساكنين في Leb- Kamai، أي في Atbash ، قاصدًا بذلك "كلديا". يتحدث هنا عن مادي وفارس بكونهما ريحًا مهلكة تحطم بابل، وقد قدم إرميا النبي سبع تشبيهات لمادي وفارس: أ. الأسد الصاعد من كبرياء الأردن إلى مرعى دائم (إر 50: 44)، بينما يشبه بابل بصغار الغنم المسحوبة بلا قوة (إر 50: 45)، يفترسها الأسد. ب. ريح مهلكة [1]، لا تستطيع بابل أن تقاومها. ج. مذرون يذرون أرض بابل ويفرغونها [2]، حيث تنفضح بابل فتظهر أنها قش يطير في الهواء بلا حنطة. بينما يكشفون عن حقيقة المؤمنين في الكنيسة، إذ يفصلون القش عن الحنطة. هذا هو عمل التجارب والضيقات، فالمؤمنون الحقيقيون يتمجدون خلال التجربة بالتصاقهم بالله مخلصهم بينما يتعثر الآخرون ويجدفون على الله. د. "فأس حرب" يسحق بابل [20]، إذ كان الجند يستخدمون أحيانًا الفؤوس في المعارك الحربية. ه. أدوات حرب [20]. و. غوغاء أو جراد يرفعون على بابل جلبة أي يحدثون أصواتًا قوية أشبه بصوت أغاني الغلبة والنصرة [14، 27]. ز. ناهبون [35]. 2. الله لن ينسى شعبه: "لأَنَّ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا لَيْسَا بِمَقْطُوعَيْنِ عَنْ إِلهِهِمَا، عَنْ رَبِّ الْجُنُودِ، وَإِنْ تَكُنْ أَرْضُهُمَا مَلآنَةً إِثْمًا عَلَى قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ." [5]. يرى إرميا النبي إسرائيل ويهوذا أرملتين مقطوعتين عن إلههما، العريس السماوي، لكن الله لا يتركهما بعد تأديبهما. حقًا لقد ملأَتا الأرض إثمًا ضد الله القدوس، لكن إذ رجعتا بالتوبة إليه تجدانه راجعًا إليهما لينزع عنهما حالة الترمل. 3. اهربوا من وسط بابل: "اهْرُبُوا مِنْ وَسْطِ بَابِلَ، وَانْجُوا كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ. لاَ تَهْلِكُوا بِذَنْبِهَا، لأَنَّ هذَا زَمَانُ انْتِقَامِ الرَّبِّ، هُوَ يُؤَدِّي لَهَا جَزَاءَهَا." [6]. يقدم لنا العلامة أوريجينوستفسيرًا لهذه العبارة: أين تقطن نفوسنا؟ [كما أن جسدنا يسكن في مكان معين من الأرض، كذلك نفسنا تسكن بحسب حالتها في المكان أو البلد الذي يحمل نفس اسمها (صفاتها)، أو بطريقة أكثر وضوحًا: جسدنا موجود إما في مصر أو بابل أو فلسطين أو سوريا أو في أي بلدٍ أخرى تحمل الاسم الذي يتناسب مع كل نفس]. السكنى في بابل [تقطن النفس بابل عندما تكون قلقة ومضطربة، حينما يرحل منها السلام، فتكون مضطرة للمصارعة مع الخطية ومواجهة حرب الشهوات والوقوف بمفردها في وسط ضجيج الأسلحة التي تحاصرها من كل جهة؛ إلى مثل تلك النفس يوجه النبي كلماته قائلًا: "اهربوا من وسط بابل وانجوا كل واحدٍ بنفسه". طالما الإنسان موجود في بابل لن يستطيع أن يخلص؛ حتى ولو تذكر أورشليم، فإنه سوف يئن ويتنهد قائلًا: "كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ (مز 137: 4). مادمنا في بابل لن نستطيع أن نسبح الرب، لأن الآلات التي تُستخدم في توصيل النغمات للرب معلقة بدون استخدام، لذلك يقول النبي "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا (قيثاراتنا)"]. التوقف عن التسبيح في بابل يرى العلامة أوريجينوس أن الله يطالبنا بالخروج من بابل والانطلاق إلى أورشليم، لأنه في بابل تُعلق قيثارتنا على الصفصاف فلا يمكننا التسبيح لله بتسبحة جديدة للرب في أرض غريبة، إذ نفقد سلامنا السماوي ونُحرم من الفرح الداخلي. لهذا يليق بنا أن نهرب إلى أورشليم لنسترد قيثارات قلوبنا ونترنم لله لا بألسنتنا فحسب، بل بكل كياننا حيث تتحول مشاعرنا وأحاسيسنا وطاقاتنا إلى أوتار روحية تُخرج سيمفونية حب، تتجاوب مع حب الله الفائق. يقول: [طوال وجودنا في بابل، تظل قيثاراتنا معلقة على الصفصاف؛ لكن إذا جئنا إلى أورشليم حيث "رؤية السلام" ترجع القيثارات التي كانت قبلًا معلقة بلا استخدام مرة أخرى إلى أيدينا، ونظل نعزف عليها بلا توقف مسبحين الله. كما قلنا في البداية، تكون النفس موجودة دائمًا في المكان الذي يحمل اسمها؛ كما أن نفس الخاطئ توجد في بابل، فإن نفس البار توجد في اليهودية (الروحية). مع ذلك فإنها (نفس البار) توجد أيضًا في أماكن مختلفة داخل اليهودية نفسها، بحسب حياتها ودرجة إيمانها: قد تكون موجودة في "دان" التي تشغل أطراف اليهودية، أو في مواقع أفضل من دان، أو في وسط اليهودية، أو في الأراضي المجاورة لأورشليم، أما النفس الأكثر سعادة فتكون في وسط مدينة أورشليم. من جهة أخرى، الإنسان الذي ارتكب أفظع أنواع الجرائم يكون في بابل، بينما الذي ارتكب خطايا أقل يكون في مصر (تأويليًا). كما أن الموجودين في اليهودية لا يسكنون كلهم في مكانٍ واحدٍ، فيسكن أحدهم في أورشليم، وآخر في دان، وآخر في نفتالي، وآخر في أرض جاد؛ كذلك أيضًا الذين في مصر لا يسكنون كلهم في أماكنٍ سيئة بنفس الدرجة: منهم من يسكن في تانيس، ومنهم من يسكنٍ في نوف أو في سين أو في فيبستة (حز 30: 13-18). فإذا كان القارئ إنسانًا روحيًا يحكم في كل شيء دون أن يُحكم فيه من أحد (1 كو 15: 2)، يستطيع أن يجد تفسيرًا تأويليًا لأسماء المواقع الموجودة في مصر والتي ذكرها حزقيال النبي في نبوته، فلا يكتفي فقط بمعرفة تفسير أسماء الأمم مثل بابل ومصر واليهودية، وإنما يهتم أيضًا بمعرفة ما هو المقصود من خلال تلك الأسماء الصغيرة. "من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور، وفهيم حتى يعرفها؟!" (هو 14: 9)]. الهروب السريع من بابل [هناك تساؤل آخر: لماذا تُعطَى كلمة الرب للذين في بابل هذا الأمر: "اهربوا من وسط بابل"؟ لا تتركوها بالتدريج، بل اهربوا منها بسرعة، لأن الهروب يعني الجري أثناء الخروج. "اهربوا من وسط بابل". هذه الكلمات موجهة إلى كل النفوس "المضطربة" بأمور هذا العالم وشهواته الرديئة المختلفة. فماذا إذا يعني أمر الرب؟ لم يقل: "اخرجوا من وسط بابل" لأن الخروج يمكن أن يحدث بالتدريج، بل قال: "اهربوا من وسط بابل"، في الواقع قوله: "من وسط" بابل، دفعني للبحث عن المقصود بتلك الكلمة. فقد يحدث أن يكون إنسان موجودًا في أطراف بابل، وبالتالي يكون بطريقة أو بأخرى خارجها. أما الوجود في وسط بابل فهو شيء آخر، لأن المسافة من الوسط إلىأي طرف من أطراف بابل تكون متساوية: أي أن الوجود في مركز بابل هو مثل وسط قلب أي حيوان. ففي الواقع القلب هو الجزء المتوسط في جسم أي حيوان، كما أن وسط الأرض يُسمى في إنجيل متى "قلب الأرض" (مت 12: 40)؛ إذًا يلزم على الخطاة أن يهربوا من وسط بابل أي من قلبها. اهربوا إذًا من وسط بابل لكي إذا ما تركتم وسطها تصبحون بعد ذلك في أطراف أرضها. حتى لا يكون هذا الكلام غامضًا أوضحه أكثر: الإنسان الغارق في الشرور والخطايا هو في وسط بابل؛ أما الذي يبتدئ تدريجيًا في ترك الخطية متجهًا نحو الخير ولم يحصل بعد على الفضائل، إنما يبدأ في الحصول على الاشتياق للفضائل، فبالرغم من هروبه من وسط بابل إلا أنه لم يتركها كلية]. نجاة من جديد يقول القديس جيروم في رسالته إلى إستوخيوم إن والدتها قد نفذت هذه الوصية الإلهية فخرجت من أرضها لتستريح مع مخلصها. يقول العلامة أوريجينوس: [ثم أضاف قائلًا: "وانجوا (من جديد) كل واحدٍ بنفسه". يجب أولًا أن نهرب من وسط بابل، ثم بعد ذلك ننجو من جديد كل واحدٍ بنفسه. لم يتحدث هنا عن النجاة فقط، بل عن النجاة من جديد، هذه الإضافة تحوى سرًا؛ تعني أننا قد ذقنا الخلاص قبل ذلك، لكن إذ حُرمنا منه بسبب خطايانا، أدى هذا إلى مجيئنا إلى بابل. لهذا يجب أن ينجو كل واحدٍ منا بنفسه من جديد، لكي نبدأ في استعادة ما قد فقدناه، وبحسب كلمات بطرس الرسول: "نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس. الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم" (1 بط 1: 9-10)]. الفرق بين الطرد والرفض [يوجد أمر ثالث: "لا تُطردوا بإثمها" إذا كان أحد يعيش في إثم بابل ولا يقدم توبة يصير "هلاكه" أمرًا طبيعيًا. لاحظ كيف أن العهد القديم رغم أنه مُترجم من العبرية إلى اليونانية، إلا أنه قد نجح جدًا في التعبير عن الكلمات وتوضيح الفروق بينها إلى حدٍ كبيرٍ. قال على سبيل المثال: "اخترت أن أصير مرفوضًا (مطروحًا أو مُلقى) في بيت إلهي إلخ." (مز 10: 84)، فهو لم يقل: "اخترت أن أصير مطرودًا". نفس الشيء بالنسبة للآية التي نفسرها، فهي لم تقل: "لا تصيروا مرفوضين بإثمها" بل: "لا تصيروا مطرودين بإثمها". الطرد شيء والرفض شيء آخرٍ. الإنسان المُحتقر من الناس والمُهمل منهم، ليس مطرودًا وإنما مرفوض. أيضًا الإنسان الذي يوجد باستمرار خارج دائرة الخلاص مطرود لأنه لا ينعم بالتطويب الإلهي. لكي تفهم الفرق بين الكلمتين، يمكنك تجميع كل النصوص الموجودة في الكتاب المقدس والتي تحتوي على هاتين الكلمتين، والمقارنة بينهما]. التأديب الإلهي علامة الحب والاهتمام ["لأن هذا زمان انتقام الرب". يوضح الكتاب المقدس أن العقوبات تُوقع على الإنسان الذي يحتملها ويصبر على احتمالها. فعندما لا يُعاقب الإنسان على الأرض يظل هكذا بدون عقاب حيث يتم عقابه في يوم الدينونة. ويقول الرب على لسان هوشع النبي: "لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين ولا كناتكم لأنهن يفسقن" (هو 4: 14). لا يعاقب الله الخطاة بسبب غضبه عليهم كما يظن البعض، أو بمعنى آخر عندما يوقع الله عقابًا على إنسانٍ خاطئ، لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن غضب الله على الإنسان يظهر في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المُعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أن القصد هو إصلاحه وتقويمه. يقول داود: "يا رب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بسخطك" (مز 6: 1). إن أردت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: "أدبني يا رب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني" (إر 24: 10). كثيرون أُصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، حينما يخطئ أبناء السيد المسيح يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب: "إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز 89: 30-33). من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يُعاقب حتى الآن يكون ذلك علامة عدم استحقاقه للعقاب بعد]. "هو يؤدي لها جزاءها" [لن يوقع الله عقابه وجزاءه على بابل من خلال خدامه، بل هو بنفسه يؤدي لها جزاءها. أريد أن أضيف شيئًا على ذلك، وهو أن الله لا يُعاقب الخاطئ بنفسه، لكنه أحيانًا يرسل وسطاء، سواء لتنفيذ العقاب، أو لمنح الشفاء من خلال الألم كما نرى في المزامير: "أرسل عليه حمو غضبه سخطًا ورجزًا وضيقًا (عن طريق) جيش ملائكة أشرار" (مز 78: 49). بالنسبة لهؤلاء لم يؤدِ لهم الله جزاءهم بنفسه، لكنه استعان بملائكة أشرار ليقوموا بتنفيذ مهمة العقاب. قد يستعين الرب بملائكة أطهار لمعاقبة بعض الناس. لكن يحدث في بعض الأحيان أن الرب يرفض الاستعانة بهؤلاء الوسطاء، ويوقع العقوبات بنفسه، كما هو الحال هنا بالنسبة لبابل. عندما تكون الجروح طفيفة وقابلة للشفاء السريع، يكتفي الطبيب بإرسال تلميذه أو مساعده يعالج المريض. يحدث أحيانًا أن يكون المريض محتاجًا إلى بتر أحد أعضائه وإلى استخدام المشرط، مع ذلك لا يذهب إليه الطبيب بنفسه، بل يختار واحدًا من مساعديه قادرًا على القيام بهذا العمل، فيرسله ليعالج المريض. لكن حينما تكون الجروح غير قابلة للشفاء، ويكون المرض قد انتشر في جميع أجزاء الجسم، بحيث يصل المريض إلى درجة كبيرة من الخطورة، هنا لا يتطلب الأمر يديّ التلميذ أو المساعد، إنما يحتاج إلى أيدي المعلم نفسه، فيقوم الطبيب بالتصدي لهذا الجرح المميت بنفسه. بالمثل حينما تكون الخطايا صغيرة، لا يوقع الله على الخطاة عقابهم بنفسه، لكنه يستخدم الوسطاء، أما إذا كانت الخطية خطيرة جدًا كما هو الحال هنا بالنسبة لمدينة بابل، يسرع الرب بتوقيع الجزاء عليها بنفسه]. 4. بابل كأس ذهب: "7 بَابِلُ كَأْسُ ذَهَبٍ بِيَدِ الرَّبِّ تُسْكِرُ كُلَّ الأَرْضِ. مِنْ خَمْرِهَا شَرِبَتِ الشُّعُوبُ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ جُنَّتِ الشُّعُوبُ. 8 سَقَطَتْ بَابِلُ بَغْتَةً وَتَحَطَّمَتْ. وَلْوِلُوا عَلَيْهَا." [7-8]. يقول القديس جيروم: باختصار يلزمك أن تعرف أن الذهب غالبًا ما يكون تشبيهًا للبلاغة العالمية، كمثال لسان الهرطقة برّاق بالذهب. * اقام يربعام عجلي ذهب ووضع أحدهما في بيت إيل وجعل الآخر في دان (1 مل 12: 29) [قد يتساءل البعض: لماذا صنعوا عجلي ذهب؟ كنزنا محفوظ في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7). الكنسيون بحق هم بسطاء، أما الهراطقة فهم أرسطاطليون وأفلاطونيون. باختصار لتعرف أن الذهب هو التشبيه المعتاد للبلاغة الزمنية، حيث يكون لسان الهراطقة كتمثال ذهبي متلألئ، اسمع كلمات النبي: "بابل هي كأس ذهبي في يد الرب" [7]. لاحظ كيف يصف بابل المرتبكة. إذن هذا العالم هو كأس ذهبي، وكل الأمم يشربون منه. القديس جيروم * بابل تعني "ارتباكًا"، والكأس الذهبي حقًا هو تعاليم الفلاسفة وبلاغة الخطباء. من بالحق لم ينحرف بواسطة الفلاسفة؟ من لم يُخدع بواسطة خطباء هذا العالم؟ كأسهم ذهبي، وسمو بلاغتهم من الخارج، أما الداخل فمملوء سمًا الذي لا يقدرون أن يخفوه إلا خلال بريق الذهب. تذوقون عذوبة بلاغتهم لكي تتأكدوا ولا تشكوا أنه سم قاتل. القديس جيروم يقول العلامة أوريجينوس: بين كأس الذهب والإناء الخزفي ["بابل كأس ذهب بيد الرب تُسكر كل الأرض، من خمرها شربت الشعوب، من أجل ذلك جنَّت الشعوب (اختل عقلها)، سقطت بابل بغتة وتحطمت". نبوخذنصر، الذي كان يريد أن يغوي الناس ويجذبهم من خلال كأس بابل المُضِل والمخادع، لم يضع المشروب الذي أعده في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7)، ولا حتى في أوانٍ أخرى أفضل في النوع كالحديد أو النحاس أو حتى ما هو أفضل مثل الأواني الفضية؛ لكنه اختار إناءً من ذهب ليُعد فيه مشروبه، حتى يجتذب بريق الذهب عيون الناس، فيركزون كل اهتمامهم وأنظارهم على جمال الإناء الخارجي دون أن يلتفتوا إلى ما في داخله. بهذا يمسكون بالكأس ويشربونها وهم غير عالمين. ماذا يعني كأس نبوخذنصر؟ ماذا يُقصد بكأس الذهب المذكورة هنا؟ إن نظرت إلى الجمال الخارجي الذي يغلف الكلمات القاتلة التي للعقائد الفاسدة، وإلى بلاغة لسانهم وفصاحة كلماتهم وفن ترتيب الكلمات وتنسيقها، عندئذ تدرك أن كل واحدٍ من هؤلاء الشعراء والفلاسفة قد أعد كأس ذهبٍ، يوجد في هذه الكأس سموم الزنا، وسموم الكلمات القبيحة، وسموم العقائد التي تقتل نفس الإنسان. أما مسيحنا ففعل العكس: فإنه إذ يعرف أن كأس الشيطان مصنوعة من الذهب، لم يشأ أن يجعل الإنسان الذي يدخل في الإيمان يظن أن كأس السيد المسيح مشابهة للكأس التي تركها (أي كأس الشيطان التي تركها الإنسان حينما آمن بالرب)، ولم يشأ أن يصنع كأسه من الذهب حتى لا يقع المؤمنون في حيرة حينما يرون أن كأس الرب وكأس الشيطان مصنوعتان من نفس المادة، فمن أجل ذلك حرص السيد المسيح على أن يكون لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7). "بابل كأس ذهب بيد الرب". بابل ليست كأس ذهب إلى الأبد، بل يأتي يوم تسقط من يديْ الرب حيث يقوم هو بنفسه بتوقيع العقاب عليها. "تُسكر كل الأرض"، كأس الذهب هذا، أي بابل، تُسكر كل الأرض. كيف تسكر كل الأرض؟ ستفهم ذلك حينما تدرك أن كل الناس أصبحوا سكارى: لقد سكرنا من الغضب، ومن الحزن، ومن الحب الفاني، ومن الشهوات الشريرة، ومن كل ما هو باطل. فكم من مشروبات أعدتها لنا بابل؟ وكم من كأس ذهبٍ أسرتنا بها؟ "بابل كأس ذهبٍ بيد الرب تُسكر كل الأرض". إن أردت أن تعرف كيف أصبحت كل الأرض سكرى بفعل كأس بابل أنظر إلى الخطاة الذين يملأون الأرض كلها. قد تقول لي إن الأبرار لم يسكروا من كأس الخطاة، فكيف يقول الكتاب أن كل الأرض تسكر من كأس بابل؟ لا تظن أن الكتاب لا يقول الصدق حينما يقول ذلك، لأن الأبرار في الواقع ليسوا أرضًا (ترابًا)، وبالتالي فإن كل الأرض فقط، أي الخطاة وحدهم، هم الذين يسكرون. أما الأبرار، فبالرغم من وجودهم على الأرض إلا أن مكانهم في السماء. بالتالي لا يليق أن يُقال للإنسان البار: أنت تراب (أرض) وإلى التراب تعود"، بل سيقول له الرب - طالما أن ذلك الإنسان يلبس صورة السماوي (1 كو 15: 49): "أنت سماء وإلى السماء تعود". لذلك فإن كأس بابل لن يُسكر إلا الذين ما زالوا "أرضًا". "من خمرها شربت الشعوب، من أجل ذلك جنت الشعوب". الذين يشربون الخمر العادي، عندما يشربون منه أكثر من حاجتهم ويكثرون من شربه بدون عقل نرى فيهم صورة إنسانٍ سكرانٍ مختل الجسد ذو أرجل متراخية ورأس مثقلة، ولسان ثمل، ينطق بكلمات غير مفهومة، تخرج من خلال شفتين مضمومتين. بذلك يمكننا أن ندرك كيف أن الذين شربوا من خمر بابل جنوا واختل عقلهم، صارت خطواتهم غير ثابتة، وبسبب عقولهم الواهية وأفكارهم المترددة يعيشون دائمًا في قلقٍ واضطرابٍ ويملأ الشك حياتهم باستمرار. يقول الكتاب عن مثل هؤلاء الناس: "لذلك أخذتهم الرعدة" (مز 48: 6). دعونا نتوقف قليلًا عند بعض الكلمات الغامضة: لماذا قيل عن قايين الخاطئ إنه حينما خرج من لدن الرب، سكن في أرض نود شرقي عدن (تك 4: 16)؟ إن كلمة "نود" تترجم في اليونانية "اختلال أو رعدة". الإنسان الذي يترك الله، والذي لا توجد عنده القدرة على التفكير في الرب يكون موجودًا في أرض نود، أي يعيش في القلق واضطراب قلبه الرديء وفي اختلال الفكر والعقل. "سقطت بابل بغتة وتحطمت" متى سقطت بابل بغتة؟" أعتقد أن المقصود بتلك الكلمات هو أن نهاية العالم تجيء بغتة، ستكون مثل أيام الطوفان حين كان الناس يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع" (مت 24: 37-38)، وكما حدث في أيام لوط (لو 17: 28). نفس الشيء يحدث في نهاية العالم، لن تجيء بالتدريج وإنما بغتة. وفي رأيي أن هذا أيضًا يتشابه مع ما جاء في سفر يشوع عن مدينة أريحا التي سقطت "بغتة" بمجرد حدوث صوت الأبواق، يحدث نفس الشيء أيضًا مع مدينة بابل في نهاية العالم تسقط بغتة وتتحطم. هذا إذا اعتبرنا أن العبارة السابقة تتحدث عن وقت انتهاء العالم؛ أما إذا تأملنا ماذا حدث في وقت السيد المسيح، ونظرنا إلى عمله العجيب، كيف أنه أفسد جميع التعاليم الوثنية المتعلقة بالأصنام وعبادتها، لكي يحمي المؤمنين من ثقل الخطية، عندئذ ستدرك أن في ذلك الوقت سقطت بابل بغتة وتحطمت. ليفحص كل واحدٍ منا نفسه ليرى هل سقطت بابل من داخل قلبه أم لا. إذا كانت مدينة الاضطراب (بابل) لم تسقط بعد من قلبه، هذا دليل على أن السيد المسيح لم يأتِ بعد إلى هذا القلب، لأنه بمجرد دخوله إلى القلب تنهار بابل وتتحطم في الحال. فمن أجل ذلك حينما تصلون، اجتهدوا أن تطلبوا مجيء السيد المسيح في قلوبكم حتى يحطم بابل ويسقط كل شرها وخبثها ومكرها، ويقيم على أنقاضها أورشليم مدينة الله المقدسة، يقيمها في داخل قلوبنا]. 5. جراحات لا تُشفَى: 8 خُذُوا بَلَسَانًا لِجُرْحِهَا لَعَلَّهَا تُشْفَى! 9 دَاوَيْنَا بَابِلَ فَلَمْ تُشْفَ. دَعُوهَا، وَلْنَذْهَبْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى أَرْضِهِ، لأَنَّ قَضَاءَهَا وَصَلَ إِلَى السَّمَاءِ، وَارْتَفَعَ إِلَى السَّحَابِ. 10 قَدْ أَخْرَجَ الرَّبُّ بِرَّنَا. هَلُمَّ فَنَقُصُّ فِي صِهْيَوْنَ عَمَلَ الرَّبِّ إِلهِنَا. 11 سُنُّوا السِّهَامَ. أَعِدُّوا الأَتْرَاسَ. قَدْ أَيْقَظَ الرَّبُّ رُوحَ مُلُوكِ مَادِي، لأَنَّ قَصْدَهُ عَلَى بَابِلَ أَنْ يُهْلِكَهَا. لأَنَّهُ نَقْمَةُ الرَّبِّ، نَقْمَةُ هَيْكَلِهِ. 12 عَلَى أَسْوَارِ بَابِلَ ارْفَعُوا الرَّايَةَ. شَدِّدُوا الْحِرَاسَةَ. أَقِيمُوا الْحُرَّاسَ. أَعِدُّوا الْكَمِينَ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ قَصَدَ وَأَيْضًا فَعَلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ عَلَى سُكَّانِ بَابِلَ. 13 أَيَّتُهَا السَّاكِنَةُ عَلَى مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ، الْوَافِرَةُ الْخَزَائِنِ، قَدْ أَتَتْ آخِرَتُكِ، كَيْلُ اغْتِصَابِكِ. 14 قَدْ حَلَفَ رَبُّ الْجُنُودِ بِنَفْسِهِ: إِنِّي لأَمْلأَنَّكِ أُنَاسًا كَالْغَوْغَاءِ، فَيَرْفَعُونَ عَلَيْكِ جَلَبَةً. 15 «صَانِعُ الأَرْضِ بِقُوَّتِهِ، وَمُؤَسِّسُ الْمَسْكُونَةِ بِحِكْمَتِهِ، وبِفَهْمِهِ مَدَّ السَّمَاوَاتِ. 16 إِذَا أَعْطَى قَوْلًا تَكُونُ كَثْرَةُ مِيَاهٍ فِي السَّمَاوَاتِ، وَيُصْعِدُ السَّحَابَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ. صَنَعَ بُرُوقًا لِلْمَطَرِ، وَأَخْرَجَ الرِّيحَ مِنْ خَزَائِنِهِ. 17 بَلُدَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِمَعْرِفَتِهِ. خَزِيَ كُلُّ صَائِغٍ مِنَ التِّمْثَالِ لأَنَّ مَسْبُوكَهُ كَذِبٌ وَلاَ رُوحٌ فِيهِ. 18 هِيَ بَاطِلَةٌ، صَنْعَةُ الأَضَالِيلِ. فِي وَقْتِ عِقَابِهَا تَبِيدُ. "خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تُشفى. داوينا بابل فلم تُشفَ. دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه، لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب" [8-9]. هذا الحديث في رأى الأب سيرينوس موجه من الله إلى الأطباء والجراحين ليحزنوا بسبب عدم قبولها الدواء، بينما تكملته [9] هو تعليق هؤلاء الأطباء من ملائكة منوطين بهم ورسل وروحيين ادركوا أن بابل رفضت العلاج. * حاول إرميا أن يشفي بابل إن استطاع...! لم يُشفَ المجمع لأن البلسان قد عبر إلى الكنيسة! جاء التجار من جلعاد، أي من موضعهم أو سكناهم في الناموس، واحضروا بضائعهم إلى الكنيسة لكي يشفي البلسان خطايا الأمم. عن هؤلاء قيل: "شددوا الأيادي المسترخية والركب التي بلا قوة" (إش 35: 3) LXX. البلسان هو الإيمان غير الفاسد. مثل هذا الإيمان عرضه بطرس إذ قال للأعرج: "باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشىِ" (أع 3: 6) . القديس أمبروسيوس * لقد اعتنى ببابل، لكنها لم تنل صحة، لأنه حين يكون الذهن مرتبكًا بالشر يسمع كلمات التوبيخ ويشعر بتأديبات الانتهار، لكنه يستخف بالرجوع إلى طرق الخلاص المستقيمة. الأب غريغوريوس (الكبير) يقول العلامة أوريجينوس: ["ولولوا عليها، خذوا بلسانًا (بلسمًا - مرهمًا) لجرحها لعلها تُشفَى". بما أن كل نفس يمكنها أن تحصل على الخلاص، لا توجد نفس واحدة غير قابلة للشفاء بالنسبة للرب، لذلك ينصح الله الذين يستطيعون أن يعبروا إلى أورشليم أن يحصلوا على بلسم العهد الجديد، أن يحاولوا بقدر استطاعتهم أن يستخدموا هذا العلاج مع بابل لكي تُشفى وتستعيد صحتها. ليتنا نحاول نحن أيضًا أن نفعل ذلك، فنطلب من الله أن يعطينا البلسم الروحي؛ لكي نتعلم كيف نعصب جراحات بابل، مقتدين بالسامري الصالح؛ وبالتالي تُشفى هذه المدينة البائسة، فلا تعود بعد إلى حالتها الأولى. أين هم الهراطقة الآن؟ أين الذين يؤمنون بتعدد أنواع النفوس، ويؤكدون وجود نوعٍ من النفوس لا رجاء فيه، والأمل في خلاصه مفقود؟ لو كانت هناك نوعية من النفوس لا بد أن تهلك، أفما كانت بابل هي أول تلك النفوس التي يجب أن تهلك؟ ومع ذلك، فإنه حتى بالنسبة لبابل، لم يحتقرها الله، بل يأمر الأطباء أن يضعوا بلسمًا لجرحها لعلها تشفى! إذًا هؤلاء الذين صدر الأمر إليهم بمعالجة بابل، حينما علموا بإمكانية شفائها واستعادة صحتها، قاموا بالفعل بتنفيذ الأمر، ووضعوا بلسمًا على جرحها، لكن إذ وجدوا أنهم لم يحصلوا على النتيجة التي كانوا ينتظرونها، لأن بابل ظلت في شرورها ولم ترد أن تُشفى، قالوا بعد أنهم أدوا مهمتهم وتمموا مسئوليتهم: "داوينا بابل فلم تُشفَ، دعوها". أفلا يحدث معك هذا أنت أيضًا أيها الإنسان؟ يحدث أحيانًا أن يرسل لك الله الملائكة ويأمرهم بوضع المراهم عليك لعلاجك من مرض النفس "لعلك تُشفى"، فتكون النتيجة أن هؤلاء الملائكة يجيبون الرب قائلين: "داوينا بابل، التي هي نفسك المضطربة بشهوات هذا العالم، فلم تُشفَ". سبب عدم الشفاء لا يرجع إلى قلة معرفتهم وخبرتهم الطبية ولا إلى رداءة نوع البلسم، بل يرجع السبب أولًا وأخيرًا إليك أنت، لأنك لم تشأ أن تُشفى، فلم تتبع تعليماتهم وعلاجهم. "دعوها"؛ إن الملائكة هنا كانوا يمثلون أطباء مهمتهم تنفيذ أوامر الله الطبيب الأعظم؛ لقد أرادوا معالجة ضعفاتنا وتحرير نفوسنا من الرذائل، أما نحن فإننا نُبعدهم عنا بعيدًا برفضنا اتباع نصائحهم. لذلك فإن هؤلاء الملائكة، إذ يرون أن تعبهم يذهب هباءً، يقولون: "دعوها. ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه". أو أنهم يقولون بطريقة أخرى: لقد سلمنا الله الدواء لمعالجة النفس البشرية، فجئنا لنجدتها وقدمنا لها الدواء، أما هي فإنها عنيدة جدًا وعاصية لا تريد أن تستمع إلى ما نقوله، وقد أصبح مجهودنا بلا ثمر، وبالتالي "دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه". احذر أيها الإنسان لئلا يتركك الطبيب، سواء كان هذا الطبيب ملاكًا من قبل الرب أو إنسانًا مكلفًا من قبل الله بإعطائك الدواء الذي يقودك إلى الخلاص. لأنه لو تركك الطبيب وقال: "دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه، لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب"، فإن تركه إياك إنما يعني إدانتك كإنسانٍ غير قابل للشفاء لأنك رفضت أن تعالج. عندما يتركك الطبيب، ماذا يحدث لك إلا الشيء الطبيعي الذي يحدث لأي مريض فقد الأطباء الأمل في شفائه؟ المريض الذي أحب مرضه يسقط حتمًا في حالة أكثر سوءًا. يظل الأطباء الصالحون المخلصون بجانب المريض طالما يستطيعون معالجته بحسب مهنتهم، وطالما يمكنهم أن يستخدموا الدواء مع هذا المريض. لكن إذا تفاقم المرض وازداد سوءًا إلى درجة فقدان الأمل في الشفاء، أو إذا خالف المريض تعليمات الأطباء نتيجة لتعبه من الآلام وضجره منها، إذ يفقد الطبيب الأمل في مثل هذا الإنسان يدعه (يتركه) وينسحب لئلا يموت المريض بين يديه، وبالتالي تُلقى المسئولية عليه. نفس الشيء يحدث معنا نحن أيضًا، فلكي تتجنب الملائكة الأطهار أن نموت بين أيديها يتركوننا عندما يفقدون الأمل في شفاء نفوسنا ويقولون: "من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تلين بالزيت" (إش 1: 6). "لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب". الإنسان الذي تكون خطيته صغيرة، لا يرتفع قضاؤه إلى السماء، بينما الذي ينمو في الشر ينمو أيضًا قضاؤه ويزداد حجمه، وكلما تزيد شروره يزيد أيضًا عقابه. إذا كان قد أخطأ إلى الدرجة التي وصلت فيها خطاياه إلى السماء وارتفعت إلى السحاب حينما يقاوم الله بعناده ترتقي خطاياه أكثر فأكثر، لذلك فإن الرب يهين الخطية التي أوصلت قضاء الإنسان إلى السماء، كما أنه في الوقت نفسه يكافئ الإنسان البار مكافأة تليق بالحياة التي عاشها في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى أبد الآبدين آمين]. يرى القديس جيرومأن الأنبياء والرسل هم السحاب، إذ قيل "حقك للسحاب" (مز 36: 6)، هكذا ينبع الحق من السحاب أي من الأنبياء والرسل. إذ يلتقي هذا السحاب ويحتك معًا يعطي بهاءً وبريقًا لتعليمٍ واحدٍ يضيء على العالم كله. [أتريد ان تعرف كيف يُدعى المؤمنون سحابًا في الكتاب المقدس؟ يقول إشعياء: "أوصي الغيم أن لا يمطر عليهم مطرًا" (راجع إش 5: 6). كان موسى سحابة، لذلك قال: "يهطل كالمطر تعليمي" (تث 32: 2). رسائل الرسل هي مطر روحي يهطل علينا. كحقيقة واقعة "لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة" (عب 6: 7)، مرة أخرى يقول "أنا غرست وأبولس سقى" (1 كو 3: 6) ]. الآن إذ أعلن أن خطايا بابل قد بلغت إلى السماء وتعرف عليها رجال الله خاصة الأنبياء، مؤكدين أن جرحها لا يبرأ لأنها ترفض البلسان (السيد المسيح) الذي في جلعاد (كنيسة العهد الجديد)، يؤكد الحقائق التالية: أ. أن الرب هو برنا: "قد أخرج الرب برنا" [10]. شتان بين خطايا بابل وخطايا المؤمنين، الأولى إصرار على العصيان وعناد ومقاومة لعمل الله؛ أما الثانية فضعفات لذا يلجأ المؤمنون إلى الله الذي يبرر، إذ يستر علينا بنعمته، فلا تُحسب علينا خطية مادمنا نتجاوب مع عمل نعمته، ونُحسب أبرارًا، لأن "الرب برنا". إنه يؤدبنا وأيضًا يبررنا! ب. إعلان عمل الله في كنيسته: "هلم فنقص في صهيون عمل الرب إلهنا" [10]. يحلو لله أن يقص على أولاده أعماله المجيدة، فيكشف لهم إرادته الإلهية، من جهتهم كما من جهة الأشرار المُصرين على عنادهم. ج. قضاء بابل: خلاص الكنيسة يحوي ضمنًا تحطيم الشر وسقوط مملكة إبليس المظلمة، لذلك يقول: "سنوا السهام. أعدوا الأتراس. قد أيقظ الرب روح ملوك مادي لأن قصده على بابل أن يهلكها. لأنه نقمة الرب نقمة هيكله. على أسوار بابل ارفعوا الراية. شددوا الحراسة. أقيموا الحراس. أعدوا الكمين، لأن الرب قد قصد وأيضًا فعل ما تكلم به على سكان بابل" [11-12]. هنا نجد دعوة موجهة من الله إلى ملوك مادي، أي رؤسائها، رجال كورش، للتحرك والهجوم ضد بابل. عاش أهل مادي في شمال غرب إيران، في المنطقة التي تدعى حاليًا كردستان الايرانية، كانت تنقسم إلى ست مقاطعات، وفي أيام اليونان والرومان انقسمت إلى مقاطعتين، وهما أتروباتينة في الشمال ومادي الكبيرة في الجنوب مع الشرق. الماديون هم نسل بن يافث (تك 10: 2)، اشتهروا بخيولهم، وكانوا يتصلون بالفرس في الجنسية واللغة والثقافة والتاريخ (دا 5: 28؛ 6: 8، 12، 15). عاصمة مادي هي Ecbatana، من أعظم ملوكها Astyages (585-550 ق.م). مع وجود معلومات عن تاريخ مادي إلا أنه يعتبر تاريخًا غامضًا قبل كورش الذي أَخضع المنطقة عام 550 ق.م. هنا يلاحظ أن تأديب الرب لهم هو تأديب بسبب هيكله الذي خربوه. وقد طلب حراسة مشددة على أبواب بابل حتى لا يهرب منهم أحد. "أيتها الساكنة على مياه كثيرة الوافرة الخزائن، قد أتت آخرتك، كيل أغتصابك. قد حلف رب الجنود بنفسه إني لأملأنك أناسًا كالغوغاء فيرفعون عليكِ جلبة" [13-14]. دعاها الساكنة على مياه كثيرة، وقد سبق لنا التعليق على ذلك، فإنها تشير إلى الآتي: أ. تجلس ملكة على أمم كثيرة حيث أن المياه تشير إلى الشعوب. ب. كثرة المياه تعني الموارد الطبيعية الضخمة في تحويلها إلى جنات وحقول تفيض عليها بالخيرات. ج. تشير إلى مركزها الجغرافي بكونها على نهر الفرات بقنواته الكثيرة وبرك المياه التي تقوم بدور الحصانة العسكرية للمدينة. اتسمت بالحصانة مع الغنى حيث جمعت كل ما في مخازن الأمم المحيطة بها حين استولت عليها، لكن نهايتها قد قربت، إذ يغزوها جيش مادي وفارس كسحابة جراد بأصواته القوية... أصوات الغلبة والنصرة. ليس من يقدر أن يقف أمام حملاته! يرى البعض أن الجلبة هنا تعني صوت نصرة الغالبين، وهو نفس التعبير الذي يُقال عن الذين يدوسون العنب لعصره. وكأن جيش مادي وفارس دخل ليدوس بابل تحت أقدامهم كعنب يُعصر ويصير خمرًا مسكرًا. إنه خمر غضب الله الذي يلزم لبابل أن تشربه! يقدم بعد ذلك تسبحة حمد لله [15-19]، إذ يقول: "صانع الأرض بقوته، ومؤسس المسكونة بحكمته، وبفهمه مدّ السموات. إذا أعطى قولًا تكون كثرة مياه في السموات، ويصعد السحاب من أقاصي الأرض. صنع بروقًا للمطر وأخرج الريح من خزائنه. بَلُدَ كل إنسان بمعرفته. خزى كل صائغ من التمثال، لأن مسبوكه كذب ولا روح فيه. هي باطلة صنعة الأضاليل. في وقت عقابها تبيد" [15-18]. حملت هذه التسبحة نفس الروح والعبارات الواردة في (إر 10: 12-16). أراد النبي أن يوضح لبابل سر شقائها وإصابتها بالجراحات القاتلة وهو حرمانها من الله الحقيقي، الطبيب الحقيقي، فقدم هذه التسبحة التي تعلن عن الله أنه القدير، الحكيم، يهب الأمطار والبرق، ويجلب الرياح من مخازنها. هو قادر أن يسخّر الطبيعة بكل إمكانياتها لحساب مؤمنيه، بقوته الإلهية وحكمته وأبوته. إنه يبسط الفكر السماوي في داخل النفس ويجلب عليها أمطار نعمته الغزيرة، ويبرق بنور المعرفة على الفكر، ويهبها روحه القدوس فتُشفى وتغتني! إذ تفخر بابل أنها جالسة على مياهٍ كثيرة، يؤكد النبي أن مصادر المياه في يديْ الخالق، الذي بكلمته تفيض المياه، ويأتي بالسحاب من أقاصي الأرض، وبكلمته أيضًا يمنعها لتأديب بابل. 6. نصيب يعقوب: "لَيْسَ كَهذِهِ نَصِيبُ يَعْقُوبَ، لأَنَّهُ مُصَوِّرُ الْجَمِيعِ، وَقَضِيبُ مِيرَاثِهِ، رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ." [19]. شتان ما بين عقوبة الأشرار المصممين على عنادهم وتأديب النفوس الساقطة في الخطايا عن ضعفٍ أو جهلٍ. يخشى الأشرار قدرة الله إذ يرونه جبارًا يسيطر عليهم، أما المؤمنون فيفرحون بجبروته إذ يرتبط ذلك بأبوته وحبه. حقًا يؤدب، لكن في تأديبه يعلن عن حبه واهتمامه بهم، لأنهم ميراثه، منسوبون إليه. 7. عصا الرب للتأديب: 20 أَنْتَ لِي فَأْسٌ وَأَدَوَاتُ حَرْبٍ، فَأَسْحَقُ بِكَ الأُمَمَ، وَأُهْلِكُ بِكَ الْمَمَالِكَ، 21 وَأُكَسِّرُ بِكَ الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ، وَأَسْحَقُ بِكَ الْمَرْكَبَةَ وَرَاكِبَهَا، 22 وَأَسْحَقُ بِكَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، وَأَسْحَقُ بِكَ الشَّيْخَ وَالْفَتَى، وَأَسْحَقُ بِكَ الْغُلاَمَ وَالْعَذْرَاءَ، 23 وَأَسْحَقُ بِكَ الرَّاعِيَ وَقَطِيعَهُ، وَأَسْحَقُ بِكَ الْفَلاَّحَ وَفَدَّانَهُ، وَأَسْحَقُ بِكَ الْوُلاَةَ وَالْحُكَّامَ. 24 وَأُكَافِئُ بَابِلَ وَكُلَّ سُكَّانِ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ عَلَى كُلِّ شَرِّهِمِ الَّذِي فَعَلُوهُ فِي صِهْيَوْنَ، أَمَامَ عُيُونِكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 25 هأَنَذَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الْجَبَلُ الْمُهْلِكُ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْمُهْلِكُ كُلَّ الأَرْضِ، فَأَمُدُّ يَدِي عَلَيْكَ وَأُدَحْرِجُكَ عَنِ الصُّخُورِ، وَأَجْعَلُكَ جَبَلًا مُحْرَقًا، إن كان الله يقطع مطرقة كل الأرض ويحطمها، فإنه يوضح هنا عمله أنه يستخدم مطرقة لتحطيم الشر. ما هي هذه المطرقة؟ كانت في البداية أشور التي استخدمها الله كعصا تأديب لإسرائيل (إر 10: 5-19)، وفيما بعد استخدم عبده نبوخذنصر البابلي لتأديب يهوذا وبقية الأمم (إر 27: 4-11)، وأخيرًا استخدم كورش ليطرق به بابل داعيًا إياه راعيه ومسيحه (إش 44: 28؛ 45: 1). يبدأ هنا ببابل كمطرقة في يد الرب (20-23)، يليه دينونة بابل (25-24). "أنت لي فأس وأدوات حرب، فأسحق بك الأمم وأهلك بك الممالك. وأكسر بك الفرس وراكبه وأسحق بك المركبة وراكبها. وأسحق بك الرجل والمرأة، وأسحق بك الشيخ والفتى، وأسحق بك الغلام والعذراء. وأسحق بك الراعي وقطيعه، وأسحق بك الفلاح وفدانه، وأسحق بك الولاة والحكام" [20-23]. كانت فؤوس المعارك متنوعة؛ كانت الفأس المصرية بيدٍ طويلة ولها رأس واحدة نحاسية أو حديدية، بينما الفؤوس الفارسية أياديها قصيرة ولها رأس ضخمة. توجد فؤوس حرب لها رأسان. بفؤوس الحرب والأدوات الأخرى التي للرب، أي بجيش بابل سحق الأمم والممالك، كما الجيوش وأدواتها، وكل طبقات الشعب لتأديبهم... وكان يليق ببابل أن تتعظ ولا تسقط في العجرفة حتى على الله نفسه. إذ انتهى الحديث عن بابل كمطرقة تسحق الأمم، تتقبل بابل ثمرة شرها وغطرستها. كانت تتشامخ كجبلٍ عالٍ، الآن يهددها لتصير "جبلًا محرقًا" لا يصلح لشيء. "وأكافئ بابل وكل سكان أرض الكلدانيين على كل شرهم الذي فعلوه في صهيون أمام عيونكم يقول الرب. هأنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب، المهلك كل الأرض، فأمد يدي عليك، وأدحرجك عن الصخور، وأجعلك جبلًا محرقًا" [20-25]. يدعو الله بابل جبلًا مع أنها قائمة على سهل، وذلك كرمز كقوتها وعظمتها. 8. حرمان من حجر الزاوية: "فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْكَ حَجَرًا لِزَاوِيَةٍ، وَلاَ حَجَرًا لأُسُسٍ، بَلْ تَكُونُ خَرَابًا إِلَى الأَبَدِ، يَقُولُ الرَّبُّ." [26]. عوض كونها جبلًا متشامخًا صارت جبلًا محرقًا لا تجد فيه حجرًا يصلح لزاوية ولا كأساسٍ لأي مبنى. هذا هو ثمر الكبرياء، يفقد الإنسان كل صلاحية. لقد دُعِيَ السيد المسيح "حجر الزاوية"، وصار إيمان التلاميذ به هو حجارة الأساسات التي يقوم عليها مبنى كنيسة العهد الجديد، لكن بابل لم تتمتع بالسيد المسيح ولا بإيمان الرسل، لذلك انهارت تمامًا. تتحقق هذه النبوات بالكامل حين يسكب الملاك السابع جامه (رؤ 14: 8؛ 16: 17-21؛ 18: 1-24). 9. جاء وقت الحصاد: 27 «اِرْفَعُوا الرَّايَةَ فِي الأَرْضِ. اضْرِبُوا بِالْبُوقِ فِي الشُّعُوبِ. قَدِّسُوا عَلَيْهَا الأُمَمَ. نَادُوا عَلَيْهَا مَمَالِكَ أَرَارَاطَ وَمِنِّي وَأَشْكَنَازَ. أَقِيمُوا عَلَيْهَا قَائِدًا. أَصْعِدُوا الْخَيْلَ كَغَوْغَاءَ مُقْشَعِرَّةٍ. 28 قَدِّسُوا عَلَيْهَا الشُّعُوبَ، مُلُوكَ مَادِي، وُلاَتَهَا وَكُلَّ حُكَّامِهَا وَكُلَّ أَرْضِ سُلْطَانِهَا، 29 فَتَرْتَجِفَ الأَرْضُ وَتَتَوَجَّعَ، لأَنَّ أَفْكَارَ الرَّبِّ تَقُومُ عَلَى بَابِلَ، لِيَجْعَلَ أَرْضَ بَابِلَ خَرَابًا بِلاَ سَاكِنٍ. 30 كَفَّ جَبَابِرَةُ بَابِلَ عَنِ الْحَرْبِ، وَجَلَسُوا فِي الْحُصُونِ. نَضَبَتْ شَجَاعَتُهُمْ. صَارُوا نِسَاءً. حَرَقُوا مَسَاكِنَهَا. تَحَطَّمَتْ عَوَارِضُهَا. 31 يَرْكُضُ عَدَّاءٌ لِلِقَاءِ عَدَّاءٍ، وَمُخْبِرٌ لِلِقَاءِ مُخْبِرٍ، لِيُخْبِرَ مَلِكَ بَابِلَ بِأَنَّ مَدِينَتَهُ قَدْ أُخِذَتْ عَنْ أقْصَى، 32 وَأَنَّ الْمَعَابِرَ قَدْ أُمْسِكَتْ، وَالْقَصَبَ أَحْرَقُوهُ بِالنَّارِ، وَرِجَالُ الْحَرْبِ اضْطَرَبَتْ. 33 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: إِنَّ بِنْتَ بَابِلَ كَبَيْدَرٍ وَقْتَ دَوْسِهِ. بَعْدَ قَلِيل يَأْتِي عَلَيْهَا وَقْتُ الْحَصَادِ». في هذه المرة لا توُجه الدعوة إلى رؤساء مادي وحدهم بل إلى كل الأمم والشعوب لتتحالف معًا وتقدس حربًا ضد بابل. هذا النداء مُوجه للأمم بعد خضوعها لمادي لتعمل مع مادي ضد بابل، وتحسب أن حربها مع بابل هو عمل مقدس، لأنه بسماحٍ إلهي. النداء موجه بالأكثر إلى ممالك في منطقة أرمينيا (ممالك أراراط ومِنّيِ واشكناز). "ارفعوا الراية في الأرض. اضربوا بالبوق في الشعوب. قدسوا عليها الأمم، نادوا عليها ممالك أرارط ومِنّيِ وأشكناز. أقيموا عليها قائدًا، أصعدوا الخيل كغوغاء (جراد) مقشعرة" [27]. أراراط: منطقة في ارمينيا شمال بحيرة فان Van. مِنّيِ Minni شعب قريب من مملكة أراراط، شرق بحيرة فان. اشكناز: يُقال إنهم من نسل جومر (تك 10: 3)، يرى البعض أنهم السكيثيون. واضح أن هذه الممالك صارت خاضعة لملوك مادي، غلبها الماديون في القرن السادس ق.م. هنا الدعوة موجهة إليهم للعمل مع مادي [28] في مقاومة بابل، إذ يقول: "قدسوا عليها الشعوب ملوك مادي وُلاتها وكل حكامها وكل أرض سلطانها" [28]. لقد ارتجفت الأرض واهتزت أمام ما حلَّ ببابل العظيمة: "فترتجف الأرض وتتوجع، لأن أفكار الرب تقوم على بابل ليجعل أرض بابل خرابًا بلا ساكن. كف جبابرة بابل عن الحرب وجلسوا في الحصون. نضبت شجاعتهم. صاروا نساء. حرقوا مساكنها. تحطمت عوارضها. يركض عداء للقاء عداء، ومخبر للقاء مخبر، ليخبر ملك بابل بأن مدينته قد أخذت عن أقصى. وأن المعابر قد أمسكت والقصب أحرقوه بالنار ورجال الحرب اضطربت. لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل إن بنت بابل كبيدر وقت دوسه. بعد قليلٍ يأتي عليها وقت الحصاد" [29-33]. نلاحظ هنا أن تكرار نفس العبارات التي قيلت عن يهوذا بعد دماره بواسطة نبوخذنصر (إر 4: 7؛ 44: 22)، وأيضًا عن مصر (إر 46: 19) وموآب (إر 48: 9)؛ وكأن ما فعلته بابل بغيرها يسقط عليها. كثيرًا ما يكرر هذا الأصحاح انهيار جيش بابل، إذ كفّ الجبابرة عن الحرب بسبب المفاجأة التي لم تكن متوقعة، فاختفوا في الحصون، وفقدوا شجاعتهم، وصاروا كنساءٍ في ضعف، غير قادرين على الدخول في معركة. يظهر مقدار ما حلّ بجبابرة بابل من ضعف إذ أُصيبوا كما بفالجٍ فشُلَّت حركتهم بسبب الخوف. يذكر هيرودت Herodotus أن البابليين رجعوا إلى المدينة وبقوا في الحصون كما سبق فتنبأ إرميا [30] . كانت العادة قديمًا أن يركض واحد وراء آخر قادمين من أرض المعركة ليخبروا الملك بالأحداث (2 صم 18: 19؛ 19: 1). هنا يركض كثيرون من كل جانب ليخبروا الملك بسقوط المدينة في يد العدو. جاءت الاخباريات الأولى تعلن عن انهيار الحصون الخارجية. بجانب الحصنين العظيمين اللذين كانا يحيطا بقلب بابل وُجد حصن داخلي سمكه 21 قدمًا وآخر خارجي سمكه أكثر من 21 قدم. كانت هناك حصون في شمال المدينة وجنوبها، كما قام نهر الفرات مع قنوات والبرك بتحصين المدينة طبيعيًا. يقصد بالمعايير أُمسكت، أنهم قد سيطروا على النهر ذاته؛ وإذ هرب كثيرون وسط القصب حرق العدو القصب حتى لا يختفي أحد فيه. ماذا يعني أن بنت بابل صارت كبيدر وقت دوسه؟ إذ يأتي وقت الحصاد تجمع عيدان القمح، وتُلقى على الأرض، وتدوسها الحيوانات، وتقطع العيدان بالنورج ثم تذرى. هكذا صارت بابل كبنت ملقاة على الأرض تدوسها الحيوانات ويمزقها النورج ويذرونها كما في البيدر! 10. شكوى إسرائيل: 34 «أَكَلَنِي أَفْنَانِي نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ. جَعَلَنِي إِنَاءً فَارِغًا. ابْتَلَعَنِي كَتِنِّينٍ، وَمَلأَ جَوْفَهُ مِنْ نِعَمِي. طَوَّحَنِي. 35 ظُلْمِي وَلَحْمِي عَلَى بَابِلَ» تَقُولُ سَاكِنَةُ صِهْيَوْنَ. «وَدَمِي عَلَى سُكَّانِ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ» تَقُولُ أُورُشَلِيمُ. [34-35]. لماذا حلّ كل هذا ببابل؟ لأن إسرائيل يشتكي عليها، فقد افترسته وأكلته وشربته حتى صار كإناء فارغ. أكل نبوخذنصر وشرب ولم يترك شيئًا في إناء إسرائيل! لم يصنع هذا عن احتياجٍ إلى أكلٍ أو شربٍ، إنما كان نبوخذنصر كتنينٍ يبتلع فريسته ليملا جوفه بها ويتنعم بها ثم يتقيأها (طوَّحني). بهجته في ابتلاع الآخرين ليتقيأهم بعد ذلك. 11. الله ينتقم لشعبه: 36 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «هأَنَذَا أُخَاصِمُ خُصُومَتَكِ، وَأَنْتَقِمُ نَقْمَتَكِ، وَأُنَشِّفُ بَحْرَهَا، وَأُجَفِّفُ يَنْبُوعَهَا. 37 وَتَكُونُ بَابِلُ كُوَمًا، وَمَأْوَى بَنَاتِ آوَى، وَدَهَشًا وَصَفِيرًا بِلاَ سَاكِنٍ. 38 يُزَمْجِرُونَ مَعًا كَأَشْبَال. يَزْأَرُونَ كَجِرَاءِ أُسُودٍ. 39 عِنْدَ حَرَارَتِهِمْ أُعِدُّ لَهُمْ شَرَابًا وَأُسْكِرُهُمْ، لِكَيْ يَفْرَحُوا وَيَنَامُوا نَوْمًا أَبَدِيًّا، وَلاَ يَسْتَيْقِظُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. 40 أُنَزِّلُهُمْ كَخِرَافٍ لِلذَّبْحِ وَكَكِبَاشٍ مَعَ أَعْتِدَةٍ. 41 « كَيْفَ أُخِذَتْ شِيشَكُ، وَأُمْسِكَتْ فَخْرُ كُلِّ الأَرْضِ؟ كَيْفَ صَارَتْ بَابِلُ دَهَشًا فِي الشُّعُوبِ؟ 42 طَلَعَ الْبَحْرُ عَلَى بَابِلَ، فَتَغَطَّتْ بِكَثْرَةِ أَمْوَاجِهِ. 43 صَارَتْ مُدُنُهَا خَرَابًا، أَرْضًا نَاشِفَةً وَقَفْرًا، أَرْضًا لاَ يَسْكُنُ فِيهَا إِنْسَانٌ وَلاَ يَعْبُرُ فِيهَا ابْنُ آدَمَ. 44 وَأُعَاقِبُ بِيلَ فِي بَابِلَ، وَأُخْرِجُ مِنْ فَمِهِ مَا ابْتَلَعَهُ، فَلاَ تَجْرِي إِلَيْهِ الشُّعُوبُ بَعْدُ، وَيَسْقُطُ سُورُ بَابِلَ أَيْضًا. يأخذ الله على عاتقه دفاعه عن أولاده في الوقت المناسب. يدافع شرعيًا، فيقيم خصومة ومحاكمة لكي يعطي للخصم فرصة الدفاع عن نفسه. "لذلك هكذا قال الرب: هأنذا أخاصم خصومتك وأنتقم نقمتك، وأنشف بحرها وأجفف ينبوعها. وتكون بابل كومًا ومأوى بنات آوى ودهشًا وصفيرًا بلا ساكن" [36-37]. سبق أن شبَّه البابليين بالأسود التي تزمجر، الآن إذ تشعر بالجوع تزمجر وتضطرب، فيعد لها الله وليمة، لا من أكلٍ بل من شربٍ، لكي تشرب منها وتسكر. يقدم لها كأس غضبه (إر 25: 15الخ)، يشربون فينامون ولا يقومون. لقد صاروا كخرافٍ مذبوحة وليس كأسودٍ قوية. "يزمجرون معًا كأشبال. يزئرون كجراء أسود. عند حرارتهم أعد لهم شرابًا وأسكرهم لكي يفرحوا ويناموا نومًا أبديًا ولا يستيقظوا يقول الرب. أنزلهم كخرافٍ للذبح وككباش مع أعتدة" [38-40]. استولى كورش على بابل بينما كانت المدينة كلها منشغلة بعيدٍ دنس. تحولت أغاني العيد إلى زمجرة أشبال صغيرة وزئير جراء أسود لكن بلا عون. كانوا يسكرون في لهوٍ بالعيد ولم يدروا أنهم يسكرون بخمر غضب الله. كانوا يقدمون الخراف والكباش ذبائح للإله بيل ولم يدركوا أنهم هم صاروا خرافًا للذبح وكباشًا تُستهلك. "كيف أُخذت شيشك؟! وأُمسكت فخر كل الأرض؟! كيف صارت بابل دهشًا في الشعوب؟! طلع البحر على بابل فتغطت بكثرة أمواجه. صارت مدنها خرابًا أرضًا ناشفة وقفرًا، أرضًا لا يسكن فيها إنسان ولا يعبر فيها ابن آدم. وأعاقب بيل في بابل، وأخرج من فمه ما ابتلعه، فلا تجري إليه الشعوب بعد ويسقط سور بابل أيضًا" [40-44]. سبق أن رأينا أن كلمة "شيشك" شفرة خاصة ببابل(715)، وأنها غالبًا مأخوذة عن فعلٍ معناه "يغطس". كأن بابل تغطس في وسط المياه ولا تقوم. لقد سبق فغطس يونان في البحر بينما جلست بابل على المياه الكثيرة كملكة. لكن شتان ما بين الاثنين، إذ تحولت مياه البحر بالنسبة ليونان إلى نهرٍ حلوٍ يحوط به (يونان 2: 5)، حوّلت قفر قلبه إلى جنة، فقدم تسبحة القيامة (يونان 2)، وعاين هيكل قدس الرب وتمتع بالخلاص (يونان 2: 7، 9). أما بابل الجالسة كملكة على نهر الفرات العذب فغطاها البحر المالح بأمواجه، وغرَّق حقولها ومدنها، ولم يعد يسكنها إنسان أو حيوان. أما إلهها بيل الذي ظنوه يأكل ما يذبحونه له وما يقدمونه له من أطعمةٍ فإنه يتقيأ ما ابتلعه، فيكون سخرية أمام الشعوب! وأخيرًا أسوار بابل التي كان العالم يتطلع إليها كإحدى الأعاجيب العظمى، فإنها تسقط. وكأن بابل تفقد نهرها وأرضها ومدنها وسكانها وحيواناتها وإلهها وأسوارها وحمايتها وسلامها! 12. اخرجوا من وسطها: 45 اُخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهَا يَا شَعْبِي، وَلْيُنَجِّ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ مِنْ حُمُوِّ غَضَبِ الرَّبِّ. 46 وَلاَ يَضْعُفْ قَلْبُكُمْ فَتَخَافُوا مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي سُمِعَ فِي الأَرْضِ، فَإِنَّهُ يَأْتِي خَبَرٌ فِي هذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعْدَهُ فِي السَّنَةِ الأُخْرَى، خَبَرٌ وَظُلْمٌ فِي الأَرْضِ، مُتَسَلِّطٌ عَلَى مُتَسَلِّطٍ. [45-46]. تكررت الدعوة بالخروج من وسط بابل، وكأنها إنذارات خطر تدوّى بلا توقف حتى يهرب المؤمنون منها. ليخرجوا بلا خوف وليترقبوا أخبار متوالية تعلن عن خراب بابل ودمارها تمامًا. 13. الحكم: 47 لِذلِكَ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي وَأُعَاقِبُ مَنْحُوتَاتِ بَابِلَ، فَتَخْزَى كُلُّ أَرْضِهَا وَتَسْقُطُ كُلُّ قَتْلاَهَا فِي وَسْطِهَا. 48 فَتَهْتِفُ عَلَى بَابِلَ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ مَا فِيهَا، لأَنَّ النَّاهِبِينَ يَأْتُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشِّمَالِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 49 كَمَا أَسْقَطَتْ بَابِلُ قَتْلَى إِسْرَائِيلَ، تَسْقُطُ أَيْضًا قَتْلَى بَابِلَ فِي كُلِّ الأَرْضِ. [47- 49]. يُسمع هتاف النصرة والفرح في السموات وعلى الأرض، ليس شماتة في زملائهم البابليين، وإنما تهليلًا بعمل الله بخلاص أولاده، وتحقيق العدل الإلهي في الزمن المناسب. هذه هي خبرة المؤمن إذ تتحطم بابله الداخلية يهتف جسده (أرضه) مع نفسه (سمواته)، ويشترك كل كيانه في التهليل للرب. 14. أمر بالعودة: 50 أَيُّهَا النَّاجُونَ مِنَ السَّيْفِ اذْهَبُوا. لاَ تَقِفُوا. اذْكُرُوا الرَّبَّ مِنْ بَعِيدٍ، وَلْتَخْطُرْ أُورُشَلِيمُ بِبَالِكُمْ. 51 قَدْ خَزِينَا لأَنَّنَا قَدْ سَمِعْنَا عَارًا. غَطَّى الْخَجَلُ وُجُوهَنَا لأَنَّ الْغُرَبَاءَ قَدْ دَخَلُوا مَقَادِسَ بَيْتِ الرَّبِّ. [50-51]. للمرة الخامسة في هذه النبوات ضد بابل يطالب الله شعبه بالخروج من بابل، ويحثهم على العودة إلى أرضهم (إر 50: 8، 51: 6، 9، 45، 50). إنه يطالبهم بالانشغال بأورشليم وتطهير هيكلها من الغرباء الذين دنسوها. إنها دعوة لكل نفس أن تُمتص أفكارها في أورشليمها الداخلية، مقدس الرب، ولا تسمح لفكرٍ غريب يدخل فيها ليدنسها. 15. نهاية السبي البابلي: 52 لِذلِكَ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُعَاقِبُ مَنْحُوتَاتِهَا، وَيَتَنَهَّدُ الْجَرْحَى فِي كُلِّ أَرْضِهَا. 53 فَلَوْ صَعِدَتْ بَابِلُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَلَوْ حَصَّنَتْ عَلْيَاءَ عِزِّهَا، فَمِنْ عِنْدِي يَأْتِي عَلَيْهَا النَّاهِبُونَ، يَقُولُ الرَّبُّ. 54 «صَوْتُ صُرَاخٍ مِنْ بَابِلَ وَانْحِطَامٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ، 55 لأَنَّ الرَّبَّ مُخْرِبٌ بَابِلَ وَقَدْ أَبَادَ مِنْهَا الصَّوْتَ الْعَظِيمَ، وَقَدْ عَجَّتْ أَمْوَاجُهُمْ كَمِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَأُطْلِقَ ضَجِيجُ صَوْتِهِمْ. 56 لأَنَّهُ جَاءَ عَلَيْهَا، عَلَى بَابِلَ، الْمُخْرِبُ، وَأُخِذَ جَبَابِرَتُهَا، وَتَحَطَّمَتْ قِسِيُّهُمْ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهُ مُجَازَاةٍ يُكَافِئُ مُكَافَأَةً. 57 وَأُسْكِرُ رُؤَسَاءَهَا وَحُكَمَاءَهَا وَوُلاَتَهَا وَحُكَّامَهَا وَأَبْطَالَهَا فَيَنَامُونَ نَوْمًا أَبَدِيًّا، وَلاَ يَسْتَيْقِظُونَ، يَقُولُ الْمَلِكُ رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ. 58 هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنَّ أَسْوَارَ بَابِلَ الْعَرِيضَةَ تُدَمَّرُ تَدْمِيرًا، وَأَبْوَابُهَا الشَّامِخَةَ تُحْرَقُ بِالنَّارِ، [52-58]. سقوط بابل هو تحقيق للعدالة الإلهية، ما تعاني منه هو ثمر طبيعي لجرائمها. إذ اجتمع الرؤساء والحكماء، أي المنجمون، والولاة والحكام والأبطال للتشاور معًا تحول مجلسهم إلى جلسة مستهزئين، لأنهم سكروا من خمر اليأس وترنحوا، وفقدوا قدرتهم على التفكير والتصرف. 16. قراءة النبوات في بابل: 59 اَلأَمْرُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ إِرْمِيَا النَّبِيُّ سَرَايَا بْنَ نِيرِيَّا بْنِ مَحْسِيَّا، عِنْدَ ذَهَابِهِ مَعَ صِدْقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا إِلَى بَابِلَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِمُلْكِهِ، وَكَانَ سَرَايَا رَئِيسَ الْمَحَلَّةِ، 60 فَكَتَبَ إِرْمِيَا كُلَّ الشَّرِّ الآتِي عَلَى بَابِلَ فِي سِفْرٍ وَاحِدٍ، كُلَّ هذَا الْكَلاَمِ الْمَكْتُوبِ عَلَى بَابِلَ، 61 وَقَالَ إِرْمِيَا لِسَرَايَا: «إِذَا دَخَلْتَ إِلَى بَابِلَ وَنَظَرْتَ وَقَرَأْتَ كُلَّ هذَا الْكَلاَمِ، 62 فَقُلْ: أَنْتَ يَا رَبُّ قَدْ تَكَلَّمْتَ عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ لِتَقْرِضَهُ حَتَّى لاَ يَكُونَ فِيهِ سَاكِنٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْبَهَائِمِ، بَلْ يَكُونُ خِرَبًا أَبَدِيَّةً. [59-62]. سرايا هذا هو أخ باروخ كاتب إرميا النبي، ذهب مع صدقيا الملك إلى بابل لكي يجدد عهده بالولاء، لكن بعد العودة مباشرة كسر الملك عهده وثار ضد ملك بابل. كتب إرميا كل النبوات ضد بابل في سفر وأرسلها مع سرايا ليذهب بها إلى بابل ويقرأها على الذين سبق سبيهم، ويختم القراءة بصلاة [62] فيه يطلب سرايا أن يحقق الله وعوده هذه بتحطيم بابل. واضح أن تصرفات إرميا النبي تبدو غير منطقية بشريًا، فقد أعلن نبواته ضد بابل قبل سبي يهوذا، أي في الوقت الذي فيه كان يوبخ الملك وكل رجاله مع كل القيادات بسبب عدم خضوعهم لبابل، عصا التأديب الإلهي؛ وفي نفس الوقت يعلن عن انهيار بابل، ويسلم ذلك لأحد مساعدي الملك ليذهب بهذه النبوات إلى بابل نفسها ويتحدث بين المسبيين علانية عن ذلك! بمعنى آخر بينما يطالب بالخضوع لبابل يعلن عن نهاية إمبراطوريتها! حقًا هكذا يسلك أولاد الله بروح الإخلاص للكلمة الإلهية حتى إن بدت غير مقبولة في أعين الكثيرين. لماذا كتب إرميا السفر بنفسه؟ ربما كان باروخ متغيبًا في ذلك الحين، أو لأنه لم يرد أن يعرضه للخطر البابلي، فقد قبل أن يتعرض هو لا كاتبه للمتاعب! هنا نجد فيه أبوة عجيبة! غالبًا لم يتقبل كل المسبيين هذه النبوات بترحاب: أولًا: لأن بعضهم نجح في تجارته هناك واستقر ماديًا. ثانيًا: لأنهم خشوا انتشار هذه الأخبار في بابل وبلوغها إلى الملك فيسيء معاملتهم. لقد قُرأت بالعبرية التي لا يفهمها الكلدانيون، لكن يمكن أن تبلغ إليهم بطريق أو آخر. 17. سقوط بابل وعدم قيامها: 63 وَيَكُونُ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ قِرَاءَةِ هذَا السِّفْرِ أَنَّكَ تَرْبُطُ بِهِ حَجَرًا وَتَطْرَحُهُ إِلَى وَسْطِ الْفُرَاتِ 64 وَتَقُولُ: هكَذَا تَغْرَقُ بَابِلُ وَلاَ تَقُومُ، مِنَ الشَّرِّ الَّذِي أَنَا جَالِبُهُ عَلَيْهَا وَيَعْيَوْنَ». إِلَى هُنَا كَلاَمُ إِرْمِيَا. [63-64]. تختم نبوات إرميا بإلقاء السفر في البحر مربوطًا بحجر إشارة إلى دمار بابل التام وعدم قيامها مرة أخرى. هكذا عند مجيء الرب ينحدر عدو الخير وملائكته إلى جهنم ولا تقوم له قائمة، ويعيش أولاد الله يشاركون الرب أمجاده الأبدية دون أية مقاومة من عدو! يتحقق ذلك بالنسبة لبابل الأخيرة، أي مملكة ضد المسيح، إذ نسمع: "ورفع ملاك واحد قوي حجرًا كرحى عظيمة ورماه في البحر، قائلًا: هكذا بدفع ستُرمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد فيما بعد" (رؤ 18: 21). من وحي إرميا 51 لتلقِ ببابلي في نهر النسيان! * على أنهار بابل جلست حزينًا مرّ النفس، علقت قيثارات حبي على الصفصاف، وانهارت سخريات العدو عليّ! * لأسمع صوتك العذب يأمر أعماقى: اهربوا من وسط بابل فتنجوا. نعم روحك القدوس يحملني من وسط الخطية، ويقدم لي قيثارات الروح لأعزف عليها. أنضم إلى صفوف السمائيين، وأشارك تسابيح الحمد وهتافات التهليل! * أُصيب أعماقي بجراحات لا يُرجى شفاءها! أنت طبيب نفسي وبلسانها الفريد، احملنى إلى جلعاد الجديدة، كنيستك الحية، أنت طبيبي ودوائي، أنت قوتي وتسبحتي، أنت الكل لي! * هب لي أن ألقي بكأس بابل الذهبي، بريقه خدعني سنوات هذه عددها، سكب لي فيه عدو الخير سمًا خفيًا، أسكرني وقتلني وطرحني في الهاوية! قدم لي خطية تسحبني إلى أخرى، سحب أعماقي من دنسٍ إلى دنسٍ، بلبل أفكاري بفلسفات براقة! * عوض كأس بابل الذهبي هب لي إناءك الخزفي! عوض الخمر الممزوج سمًا، هب لي ذاتك بلسانًا من جلعاد الجديدة! أنت طبيب نفسي واهب القيامة للموتى! أنت البلسان السماوي شافي النفوس! أنت منقذ حياتي من الموت والفساد! هب لي كأسك الخزفي، فلا يخدعني بريق الذهب، بل أنعم بالكنز المخفي، أغتنى بك، وأسكر بحبك يا شهوة قلبي! * أعترف لك بخطاياي فتستر عليّ، تطلب آثامي فلا تجدها، لأنها مُحيت بدمك الطاهر! نعم! روحك الناري يحول ترابي إلى سماء! فلا تستطيع بابل أن تخدعني، ولا تقدم لي كأس الذهب الذي يُسكر كل الأرض! أقمني سماءً تسكنني أنت أيها القدوس المتواضع! فلا تقترب كأس كل الأرض إلى شفتي! بل أشارك كأس آلامك المملوءة حبًا! كأسك كأس البذل، يُعطي النفس اتساعًا ومجدًا! * حدرتَ بابل كحجر رحى كما إلى مياه نهر الفرات فلم تعد تُوجد، صارت جبلًا محرقًا، لا يصلح منه حجرٌ لزاويةٍ ولا لأساسٍ. أما أنت فصرت لي حجر الزاوية وحجر الأساس، تحملني بحبك فتجعل مني حجرًا حيًا متكئًا عليك! * استمع يا رب إلى شكواي، حطم بابل الداخلية، اقتلها، فقد قَتَلتْ أعماقي وحَطَمت حياتي! ولتقم أورشليمك فيَّ أيها الحياة! تمم وعودك الإلهية فيَّ أيها الأمين! |
رد: تفسير سفر آرميا النبي
ملحق تاريخي
العبارة الأخيرة من الأصحاح السابق "إلى هنا كلام إرميا" (إر 51: 64) توضح أن نبوات إرميا قد تمت وأن ما ورد فيما بعد هو ملحق لها. لم يرد ذكر كاتب هذا الأصحاح، ربما كتبه عزرا، وقد كتب إرميا ما جاء في هذا الأصحاح في الأصحاحاين (39، 40)؛ وهو يكاد يكون مطابقًا لوحيّ العهد (2 مل 24: 18-25، 30)، وما لم يرد هنا جاء في (إر 40: 7، 43: 7). بسبب التشابه بين ما ورد في هذا الأصحاح وما جاء في (2 مل 24) ظن البعض أن هذا الأصحاح مقتبس من ملوك الثاني، لكن توجد دلائل لها وزنها تناقض هذا: أ. ورد اسم ملك بابل هنا "نبوخذراصر"، الاسم الذي كثيرًا ما استخدمه إرميا النبي، بينما استخدم سفر الملوك اسم "نبوخذنصر". ب. جاء في هذا الأصحاح ملاحظات لم ترد في (2 مل 24، 25)، وهي: * جاء في [10] أن نبوخذنصر أمر بقتل كل رؤساء يهوذا في ربلة بينما حُمل صدقيا إلى بابل وسُجن إلى يوم وفاته. * جاء في [19-23] تفاصيل عن أدوات الهيكل المسلوبة لم ترد في (2 مل) ولا في وصف مبنى الهيكل في (1 مل 7). * ذُكر في [28-30] الترحيلات الثلاث إلى السبي وأعدادها بدقة الأمر الذي لم يرد هكذا في كل الأسفار التاريخية في العهد القديم. جاء هذا الملحق للسفر لتأكيد أن ما تنبأ عنه إرميا قد تحقق فعلًا. كثيرًا ما تحدث إرميا عن خراب أورشليم والهيكل وسبي يهوذا، الأمور التي قاومها بشدة الأنبياء الكذبة، وسخر منها الكل فيما عدا قلة قليلة جدًا، وحسبها الكثيرون أحاديث بشرية تحطم نفسية الشعب والجيش، الآن يعلن الكاتب أن ما كانوا يظنونه خيالًا صار واقعًا. لقد تحققت، وبدأ السبي القاسي، لكن مع نسمات الرجاء الحيّ في عمل الله وسط شعبه بأن يردهم إلى بلادهم بعد تأديبهم. أما بالنسبة لأحاديثه عن العودة من السبي، فقد قدم الكاتب ما تم من الملك يهوياكين [31-34] كأول علامة رجاء من أجل المستقبل. 1 . تمرد يهوذا: 1 كَانَ صِدْقِيَّا ابْنَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ إِحْدَى عَشَرَةَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ، وَاسْمُ أُمِّهِ حَمِيطَلُ بِنْتُ إِرْمِيَا مِنْ لِبْنَةَ. 2 وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَسَبَ كُلِّ مَا عَمِلَ يَهُويَاقِيمُ. 3 لأَنَّهُ لأَجْلِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَى أُورُشَلِيمَ وَيَهُوذَا حَتَى طَرَحَهُمْ مِنْ أَمَامِ وَجْهِهِ، كَانَ أَنَّ صِدْقِيَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَلِكِ بَابِلَ. [1-3]. صدقيا هو الاسم الملكي أُعطي لمتانيا عند تجليسه (2 مل 24: 17)، الذي أقامه نبوخذنصر حاكمًا على يهوذا. صنع صدقيا الشر في عينيْ الرب، وإن كان ليس هو أشر ملوك يهوذا. أما أسباب دفعه بشعبه إلى الهلاك فهي: أ. خطاياه أفقدته العون الإلهي. ب. تمرده على ملك بابل، حانثًا بقسمه أن يبقى مواليًا له (2 أي 36: 13؛ حز 17: 15، 16، 18) أفقدت الملك ثقته في القيادات اليهودية، إن لم يكن كلها فعلي الأقل أغلبها، خاصة الأسرة الملكية. ج. غباؤه وعدم حكمته في التصرف. د. ضعف شخصيته: سبق أن التقينا مع صدقيا الملك في الأصحاحات 34، 37، 38 كشخصية غير مستقرة، لا يصلح كقائدٍ وطني ولا كوكيل لنبوخذنصر، وضع نفسه في المطرقة بين نبوخذنصر وشعبه، ولم يكسب أحدًا منهم. يذهب إلى بابل ليجدد ولاءه للملك ثم يعود ليتمرد عليه حانثًا بوعده (2 مل 24: 9). تارة يطالب بتحرير العبيد العبرانيين لكي يرفع الله غضبه عنه، وإذ يُرفع الحصار عن أورشليم يستعبدهم من جديد (إر 34: 18، 16، 21). يحكم على إرميا بالسجن منقادًا لرجال قصره، ثم يذهب إليه ليطلب مشورته أكثر من مرة، مقدمًا له كل وقارٍ! 2. سقوط أورشليم: 4 وَفِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِمُلْكِهِ، فِي الشَّهْرِ الْعَاشِرِ، فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ، جَاءَ نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ هُوَ وَكُلُّ جَيْشِهِ عَلَى أُورُشَلِيمَ وَنَزَلُوا عَلَيْهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا أَبْرَاجًا حَوَالَيْهَا. 5 فَدَخَلَتِ الْمَدِينَةُ فِي الْحِصَارِ إِلَى السَّنَةِ الْحَادِيَةِ عَشَرَةَ لِلْمَلِكِ صِدْقِيَّا. 6 فِي الشَّهْرِ الرَّابعِ، فِي تَاسِعِ الشَّهْرِ اشْتَدَّ الْجُوعُ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ خُبْزٌ لِشَعْبِ الأَرْضِ. 7 فَثُغِرَتِ الْمَدِينَةُ وَهَرَبَ كُلُّ رِجَالِ الْقِتَالِ، وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ لَيْلًا فِي طَرِيقِ الْبَابِ بَيْنَ السُّورَيْنِ اللَّذَيْنِ عِنْدَ جَنَّةِ الْمَلِكِ، وَالْكَلْدَانِيُّونَ عِنْدَ الْمَدِينَةِ حَوَالَيْهَا، فَذَهَبُوا فِي طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ. [4-7]. تم حصار أورشليم وسقوطها من يناير 588 ق.م. إلى يوليو 587 ق.م، أي استمر الحصار 18 شهرًا. 3. محاكمة صدقيا: 8 فَتَبِعَتْ جُيُوشُ الْكَلْدَانِيِّينَ الْمَلِكَ، فَأَدْرَكُوا صِدْقِيَّا فِي بَرِّيَّةِ أَرِيحَا، وَتَفَرَّقَ كُلُّ جَيْشِهِ عَنْهُ. 9 فَأَخَذُوا الْمَلِكَ وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَلِكِ بَابِلَ إِلَى رَبْلَةَ فِي أَرْضِ حَمَاةَ، فَكَلَّمَهُ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ. 10 فَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ بَنِي صِدْقِيَّا أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَقَتَلَ أَيْضًا كُلَّ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا فِي رَبْلَةَ، 11 وَأَعْمَى عَيْنَيْ صِدْقِيَّا، وَقَيَّدَهُ بِسِلْسِلَتَيْنِ مِنْ نُحَاسٍ، وَجَاءَ بِهِ مَلِكُ بَابِلَ إِلَى بَابِلَ، وَجَعَلَهُ فِي السِّجْنِ إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ. [8-11]. جاء ما ورد هنا مطابقًا كلمة بكلمة مع (2 مل 24: 18-20)، ويطابق ما جاء في إرميا (إر 39: 1-7). لم يشر النص هنا إلى هروب الملك، وإن كان بقية الأصحاح يلمح إلى هروبه. ربما كان هروبه من بابٍ كان يُعرف باسم "بين الحائطين"، وكان يظن أنه قادر أن يخترق الحصار الكلداني حول المنطقة، لكن استطاع الجيش الكلداني أن يدركه في برية أريحا (راجع إر 39: 5-7؛ 2 مل 25: 5-7). قُدم صدقيا الملك للمحاكمة أمام نبوخذنصر الذي كان ينتظر في ربلة بأرض حماة، وهي مدينة سريانية جنوب قادش على نهر العاصي Orontes. وكان لموقعها أهمية إستراتيجية، إذ تقع في ملتقى الطرق بين مصر وما بين النهرين. كان المصريون مرابطين فيها عندما أُتى بيهوذا أسيرًا (2 مل). وكما سبق أن قلنا أنه اختار نبوخذنصر هذا الموقع ليمنع أية معونة أجنبية تتقدم لمساندة يهوذا أثناء اقتحام جيشه أورشليم. قُتل أبناء الملك وكل رؤساء يهوذا المقبوض عليهم، أما الذين هربوا فرجعوا فيما بعد والتفوا حول جدليا الوالي (إر 41: 1). أُلقي صدقيا في "السجن"، وكما يرى Hitzig أن النص العبري يعني "بيت العقوبة" أو "بيت الاصلاح"، حيث أُلزم صدقيا أن يدور بالطاحونة كبقية المجرمين، وكما أُلزم شمشون بذلك (قض 16: 21). يرى Ewald ذلك متطلعًا إلى ما جاء في المراثي: "اخذوا الشبان للطحن" (مرا 5: 13) إشارة إلى الملك المسجون ومن معه(720). 4. خراب أورشليم : 12 وَفِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ، فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ، وَهِيَ السَّنَةُ التَّاسِعَةُ عَشَرَةَ لِلْمَلِكِ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ، جَاءَ نَبُوزَرَادَانُ رَئِيسُ الشُّرَطِ، الَّذِي كَانَ يَقِفُ أَمَامَ مَلِكِ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، 13 وَأَحْرَقَ بَيْتَ الرَّبِّ، وَبَيْتَ الْمَلِكِ، وَكُلَّ بُيُوتِ أُورُشَلِيمَ، وَكُلَّ بُيُوتِ الْعُظَمَاءِ، أَحْرَقَهَا بِالنَّارِ. 14 وَكُلَّ أَسْوَارِ أُورُشَلِيمَ مُسْتَدِيرًا هَدَمَهَا كُلُّ جَيْشِ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّذِي مَعَ رَئِيسِ الشُّرَطِ. [12-14]. بعد انهيار المدينة بشهر جاء نبوزرادان رئيس الشرط ليحرق المباني الهامة مثل الهيكل وقصر الملك، غالبًا الذي بناه سليمان الحكيم بعد بناء الهيكل، وقصور العظماء ثم المدينة ككل لتدميرها تمامًا، وأخيرًا دمَّر الجيش أسوار المدينة لكي لا يبقى رجاء لأحد في عودة الحياة هناك، وبالتالي لن يحدث تمرد ضد بابل. 5. السبي النهائي ليهوذا: "وَسَبَى نَبُوزَرَادَانُ، رَئِيسُ الشُّرَطِ، بَعْضًا مِنْ فُقَرَاءِ الشَّعْبِ، وَبَقِيَّةَ الشَّعْبِ الَّذِينَ بَقُوا فِي الْمَدِينَةِ، وَالْهَارِبِينَ الَّذِينَ سَقَطُوا إِلَى مَلِكِ بَابِلَ، وَبَقِيَّةَ الْجُمْهُورِ." [14]. أحرق الهيكل ودمر مبناه الشامخ الذي يعتز به اليهود حتى يومنا هذا، وقد بقى قائمًا 424 عامًا و3 شهور 8 أيام. لاعتزازهم به كان اليهود يمارسون صومين أثناء السبي، أحدهما تذكارا لحرق الهيكل والثاني لاغتيال جدليا الوالي. 6. ترك بقية:"وَلكِنَّ نَبُوزَرَادَانَ، رَئِيسَ الشُّرَطِ، أَبْقَى مِنْ مَسَاكِينِ الأَرْضِ كَرَّامِينَ وَفَلاَّحِينَ." [16]. ترك نبوزرادان من رآهم ليسوا بذي قيمة، لأن ذهابهم إلى بابل لن يفيد شيئًا، إذ سبق فسُبي كثيرون يعملون ككراميين وفلاحيين، ولم تعد هناك حاجة إلى آخرين في بابل، وبقاؤهم في يهوذا لن يؤثر، إذ هم عاجزون عن القيام بأية ثورة أو تمرد، لأنهم فقراء جدًا وضعفاء، شبههم إرميا النبي بالتين الرديء جدًا [24]. 7. الاستيلاء على غنى الهيكل: 17 وَكَسَّرَ الْكَلْدَانِيُّونَ أَعْمِدَةَ النُّحَاسِ الَّتِي لِبَيْتِ الرَّبِّ، وَالْقَوَاعِدَ وَبَحْرَ النُّحَاسِ الَّذِي فِي بَيْتِ الرَّبِّ، وَحَمَلُوا كُلَّ نُحَاسِهَا إِلَى بَابِلَ. 18 وَأَخَذُوا الْقُدُورَ وَالرُّفُوشَ وَالْمَقَاصَّ وَالْمَنَاضِحَ وَالصُّحُونَ وَكُلَّ آنِيَةِ النُّحَاسِ الَّتِي كَانُوا يَخْدِمُونَ بِهَا. 19 وَأَخَذَ رَئِيسُ الشُّرَطِ الطُّسُوسَ وَالْمَجَامِرَ وَالْمَنَاضِحَ وَالْقُدُورَ وَالْمَنَايِرَ وَالصُّحُونَ وَالأَقْدَاحَ، مَا كَانَ مِنْ ذَهَبٍ فَالذَّهَبَ، وَمَا كَانَ مِنْ فِضَّةٍ فَالْفِضَّةَ. 20 وَالْعَمُودَيْنِ وَالْبَحْرَ الْوَاحِدَ، وَالاثْنَيْ عَشَرَ ثَوْرًا مِنْ نُحَاسٍ الَّتِي تَحْتَ الْقَوَاعِدِ، الَّتِي عَمِلَهَا الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِبَيْتِ الرَّبِّ. لَمْ يَكُنْ وَزْنٌ لِنُحَاسِ كُلِّ هذِهِ الأَدَوَاتِ. 21 أَمَّا الْعَمُودَانِ فَكَانَ طُولُ الْعَمُودِ الْوَاحِدِ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا، وَخَيْطٌ اثْنَتَا عَشَرَةَ ذِرَاعًا يُحِيطُ بِهِ، وَغِلَظُهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، وَهُوَ أَجْوَفُ. 22 وَعَلَيْهِ تَاجٌ مِنْ نُحَاسٍ، ارْتِفَاعُ التَّاجِ الْوَاحِدِ خَمْسُ أَذْرُعٍ. وَعَلَى التَّاجِ حَوَالَيْهِ شَبَكَةٌ وَرُمَّانَاتُ، الْكُلِّ مِنْ نُحَاسٍ. وَمِثْلُ ذلِكَ لِلْعَمُودِ الثَّانِي، وَالرُّمَّانَاتِ. 23 وَكَانَتِ الرُّمَّانَاتُ سِتًّا وَتِسْعِينَ لِلْجَانِبِ. كُلُّ الرُّمَّانَاتِ مِئَةٌ عَلَى الشَّبَكَةِ حَوَالَيْهَا. [17-23]. استولى الكلدانيون على كل أثاثات الهيكل النحاسية والفضية والذهبية. هذه هي المرة الثانية التي يفعلون فيها ذلك. الأولى سنه 597 ق.م. حيث حملوا بعض الأدوات، خاصة الذهبية والفضية (إر 27: 16؛ 2 مل 24: 13)، والثانية أغلبها من النحاس حيث حُملت أغلب الأدوات الذهبية والفضية قبلًا، وقد قام الشعب بتصنيع أدوات جديدة للهيكل خلال هذه السنوات العشرة. 8. قتل الكهنة والرؤساء: 24 وَأَخَذَ رَئِيسُ الشُّرَطِ سَرَايَا الْكَاهِنَ الأَوَّلَ، وَصَفَنْيَا الْكَاهِنَ الثَّانِي وَحَارِسِي الْبَابِ الثَّلاَثَةَ. 25 وَأَخَذَ مِنَ الْمَدِينَةِ خَصِيًّا وَاحِدًا كَانَ وَكِيلًا عَلَى رِجَالِ الْحَرْبِ، وَسَبْعَةَ رِجَال مِنَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ وَجْهَ الْمَلِكِ، الَّذِينَ وُجِدُوا فِي الْمَدِينَةِ، وَكَاتِبَ رَئِيسِ الْجُنْدِ الَّذِي كَانَ يَجْمَعُ شَعْبَ الأَرْضِ لِلتَّجَنُّدِ، وَسِتِّينَ رَجُلًا مِنْ شَعْبِ الأَرْضِ، الَّذِينَ وُجِدُوا فِي وَسْطِ الْمَدِينَةِ. 26 أَخَذَهُمْ نَبُوزَرَادَانُ رَئِيسُ الشُّرَطِ، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى مَلِكِ بَابِلَ، إِلَى رَبْلَةَ، 27 فَضَرَبَهُمْ مَلِكُ بَابِلَ وَقَتَلَهُمْ فِي رَبْلَةَ فِي أَرْضِ حَمَاةَ. فَسُبِيَ يَهُوذَا مِنْ أَرْضِهِ. [24-27]. اختار نبوزارادن شخصيات لها وزنها ليأخذهم إلى الملك في ربلة فيحكم عليهم كيفما يرى. وهم: * سرايا حفيد حلقيا رئيس الكهنة في أيام يوشيا (1 أي 6: 13-15)، ابنه يوصادق والد يشوع رئيس الكهنة عند إعادة بناء الهيكل بعد السبي (عز 5: 2، حج 1: 1). * صفنيا ربما الذي أشير إليه في (إر 29: 24-32؛ 37: 3). * حارسوا الباب الثلاثة، وهم كهنة ذوو رتب عالية ربما كانوا حارسي الهيكل. * الخصي الوكيل على رجال الحرب، وهو رجل مدني يهتم بشئون رجال الحرب ربما كوزير الدفاع. * السبعة رجال الذين ينظرون وجه الملك، وهم مشيروه الذين يرافقونه باستمرار ويثق في مشورتهم. بقوله ضربهم ثم قتلهم يعني قام بتعذيبهم قبل قتلهم. 9. الترحيلات الثلاث: 28 هذَا هُوَ الشَّعْبُ الَّذِي سَبَاهُ نَبُوخَذْرَاصَّرُ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ: مِنَ الْيَهُودِ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ وَثَلاَثَةٌ وَعِشْرُونَ. 29 وَفِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ عَشَرَةَ لِنَبُوخَذْرَاصَّرَ سُبِيَ مِنْ أُورُشَلِيمَ ثَمَانُ مِئَةٍ وَاثْنَانِ وَثَلاَثُونَ نَفْسًا. 30 فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ لِنَبُوخَذْرَاصَّرَ، سَبَى نَبُوزَرَادَانُ رَئِيسُ الشُّرَطِ مِنَ الْيَهُودِ سَبْعَ مِئَةٍ وَخَمْسًا وَأَرْبَعِينَ نَفْسًا. جُمْلَةُ النُّفُوسِ أَرْبَعَةُ آلاَفٍ وَسِتُّ مِئَةٍ. [28-30]. جاءت الحسابات هنا على النظام البابلي حيث لا تُحتسب السنة الأولى من تولى الملك عرشه ما دامت لم تبدأ باليوم الأول من السنة، أي تكون كسرًا من السنة. المرحلة الأولى للسبي سنة 7/598 ق.م. في السنة السابعة لنبوخذنصر (حسب الحسابات البابلية يبدأ الحساب في بدء السنة الجديدة الكاملة أي سنة 604 ق.م.) عدد المسبيين 3023 شخصًا، بينما في (2 مل 24: 14-16) العدد 18.000، ربما لأنه يذكر هنا الذكور الناضجين أو المتمردين، وفي سفر الملوك التعداد الكامل. المرحلة الثانية سنة 6/587 ق.م. في السنة الثامنة عشرة من ملك نبوخذنصر حسب النظام البابلي، والسنة التاسعة عشرة في (2 مل 25: 8) حسب النظام العبري؛ أيضًا عدد المسبيين 823 صغير جدًا، يمثل غالبًا الذكور الناضجين أو المتمردين، ولأن كثيرين قُتلوا. المرحلة الثالثة والأخيرة التي فيها أُقيم جدليا واليًا، عدد المسبيين 745 شخصًا. يرى البعض أن عدد المسبيين في هذه المراحل الثلاث والبالغ 4600 رقم صغير جدًا. 10 . الأيام الأخيرة ليهوياكين: 31 وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّلاَثِينَ لِسَبْيِ يَهُويَاكِينَ، فِي الشَّهْرِ الثَّانِي عَشَرَ، فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ، رَفَعَ أَوِيلُ مَرُودَخُ مَلِكُ بَابِلَ، فِي سَنَةِ تَمَلُّكِهِ، رَأْسَ يَهُويَاكِينَ مَلِكِ يَهُوذَا، وَأَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ. 32 وَكَلَّمَهُ بِخَيْرٍ، وَجَعَلَ كُرْسِيَّهُ فَوْقَ كَرَاسِيِّ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي بَابِلَ. 33 وَغَيَّرَ ثِيَابَ سِجْنِهِ، وَكَانَ يَأْكُلُ دَائِمًا الْخُبْزَ أَمَامَهُ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ. 34 وَوَظِيفَتُهُ وَظِيفَةٌ دَائِمَةٌ تُعْطَى لَهُ مِنْ عِنْدِ مَلِكِ بَابِلَ، أَمْرَ كُلِّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ، إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ، كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ. [31-34]. السنة السابعة والثلاثون لسبي يهوياكين هي عام 561 ق.م؛ في ذلك الحين مات نبوخذنصر وتولى الحكم ابنه اويل مردوخ Evil -Marduk. اسمه بالأكادية هو "اميل Amel مردوخ"، ويعني "رجل مردوخ"، لكن مع تلاعب خفيف في الحروف يصير بالعبرية ewil - Marduk، وتعني كلمة ewil شخصًا غبيًا. حكم لمدة قصيرة 561 -560 ق.م.، حيث اغتاله زوج أخته نرجل شراصر وخلفه على العرش (560-556 ق.م). إذ مات الملك الشيخ نبوخذنصر وقد حمل ذكريات سيئة عن ملوك يهوذا حيث تعهد الملك صدقيا بقسم أن يخضع له سرعان ما تمرد عليه، لذلك كانت نظرته لملوك اليهود أنهم غير أهل للثقة. إذ مات الملك وجاء ابنه قدم معاملة أفضل للأسرة الملكية اليهودية، فقام باخراج يهوياكين من السجن وتكريمه بمناسبة توليه الحكم حيث يقدم الملك أعمالًا خيِّرة، فصنع هذا المعروف بعد أن قدم يهوياكين ولاءه للملك الجديد. عاش يهوياكين في السجن 37 عامًا، منذ عام 597 ق.م. وكان في البداية يتطلع إليه رجال يهوذا إنه الملك الشرعي ليهوذا. كما يتطلعون إلى صدقيا كنائب لملك بابل وحاكم غير شرعي ليهوذا. ولكن إذ سُبي يهوذا نهائيًا وحُرقت المدينة بهيكلها وقصورها، ولم يعد هناك إلا فئة معدمة، لم يعد هناك خوف من تكريم يهوياكين في بابل، فقد استقر اليهود المسبيون في بابل كمن هم في وطنهم، وصارت لهم أعمالهم الحرة، لهذا أُخرج الملك يهوياكين من السجن وكُرم وحُسب ذلك معروفًا قُدم لكل اليهود المسبيين المستقرين هناك. يرى بعض الدارسين أن يهوياكين عومل في السجن معاملة حسنة. ماذا يعني بـ"الملوك الذين معه"؟ ربما قصد الملوك الذين أخرجهم الملك من السجن مع يهوياكين وأقامهم ولاة، أو قصد بذلك الولاة المساعدين لملك بابل. خُتم السفر بهذا الحدث لتأكيد عمل الله العجيب حتى في السبي، وإن التحرر من السبي ليس مستحيلًا على الله. لقد خرج يهوياكين من السجن وقد قارب الثمانين من عمره. عاش زمانًا في الضيق، لكن يدّ الله تعمل في الوقت المناسب لتكريمه. |
الساعة الآن 06:59 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025