منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   العهد القديم (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   تفسير سفر آرميا النبي (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=976383)

Mary Naeem 25 - 09 - 2023 10:53 AM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
نير بابل



رأينا في الأصحاح السابق إرميا النبي المجروح في بيت أحبائه، فقد ثار ضده شعبه مع غالبية القيادات لتحكم عليه: موتًا تموت! الآن نرى في هذا الأصحاح الصورة تتكامل بكون إرميا ظلًا للسيد المسيح المتألم. بينما كان الكهنة واللاويون يرتدون الثياب الفخمة، والقيادات تتبختر في مجدها الزمني إذا بإرميا بأمر إلهي يحمل نيرًا أو أنيارًا وأربطة... يحمل ما تئن منه الثيران!
كرمز للسيد المسيح كان يحمل النير (الصليب)، فيُقال عنه: "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع مختبر الحزن..." (إش 53: 2-3).
كثيرون بلا شك كانوا يسخرون من منظره، فقد جاءوا إلى بيت الرب بثيابٍ فاخرةٍ أما ثوبه فهو: نير الحب الباذل!
إرميا كنبي للشعوب (إر 1) حذر الأمم الغريبة مع يهوذا مطالبًا إياهم بالخضوع لنير بابل حتى يحيوا... فلا تتعرض بلادهم للحرق بالنار وشعبهم للقتل بالسيف، مع انتشار الجوع والوباء.



1. تحذير لرسل الملوك الغرباء:

هذا الأصحاح هو المصدر الوحيد بين أيدينا عن وجود تحالف بين دويلات الغرب [3]، أما محتوياته التاريخية فقد ألقى عليها شيء من الضوء خلال التاريخ البابلي الذي نشره ويزمان.
1 فِي ابْتِدَاءِ مُلْكِ يَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، صَارَ هذَا الْكَلاَمُ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ قَائِلًا:
2 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِي:
اصْنَعْ لِنَفْسِكَ رُبُطًا وَأَنْيَارًا، وَاجْعَلْهَا عَلَى عُنْقِكَ،
3 وَأَرْسِلْهَا إِلَى مَلِكِ أَدُومَ، وَإِلَى مَلِكِ مُوآبَ، وَإِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ، وَإِلَى مَلِكِ صُورَ، وَإِلَى مَلِكِ صَيْدُونَ، بِيَدِ الرُّسُلِ الْقَادِمِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى صِدْقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا.
4 وَأَوْصِهِمْ إِلَى سَادَتِهِمْ قَائِلًا:
هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ:
هكَذَا تَقُولُونَ لِسَادَتِكُمْ:
5 إِنِّي أَنَا صَنَعْتُ الأَرْضَ وَالإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ الَّذِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، بِقُوَّتِي الْعَظِيمَةِ وَبِذِرَاعِي الْمَمْدُودَةِ، وَأَعْطَيْتُهَا لِمَنْ حَسُنَ فِي عَيْنَيَّ.
6 وَالآنَ قَدْ دَفَعْتُ كُلَّ هذِهِ الأَرَاضِي لِيَدِ نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ عَبْدِي، وَأَعْطَيْتُهُ أَيْضًا حَيَوَانَ الْحَقْلِ لِيَخْدِمَهُ.
7 فَتَخْدِمُهُ كُلُّ الشُّعُوبِ، وَابْنَهُ وَابْنَ ابْنِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتُ أَرْضِهِ أَيْضًا، فَتَسْتَخْدِمُهُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ وَمُلُوكٌ عِظَامٌ.
8 وَيَكُونُ أَنَّ الأُمَّةَ أَوِ الْمَمْلَكَةَ الَّتِي لاَ تَخْدِمُ نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ، وَالَّتِي لاَ تَجْعَلُ عُنُقَهَا تَحْتَ نِيرِ مَلِكِ بَابِلَ، إِنِّي أُعَاقِبُ تِلْكَ الأُمَّةَ بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْوَبَإِ، يَقُولُ الرَّبُّ، حَتَّى أُفْنِيَهَا بِيَدِهِ.
9 فَلاَ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ لأَنْبِيَائِكُمْ وَعَرَّافِيكُمْ وَحَالِمِيكُمْ وَعَائِفِيكُمْ وَسَحَرَتِكُمُ الَّذِينَ يُكَلِّمُونَكُمْ قَائِلِينَ: لاَ تَخْدِمُوا مَلِكَ بَابِلَ.
10 لأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ بِالْكَذِبِ، لِكَيْ يُبْعِدُوكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، وَلأَطْرُدَكُمْ فَتَهْلِكُوا.
11 وَالأُمَّةُ الَّتِي تُدْخِلُ عُنُقَهَا تَحْتَ نِيرِ مَلِكِ بَابِلَ وَتَخْدِمُهُ، أَجْعَلُهَا تَسْتَقِرُّ فِي أَرْضِهَا، يَقُولُ الرَّبُّ، وَتَعْمَلُهَا وَتَسْكُنُ بِهَا». [1-11].

تفترض أحداث هذا الأصحاح سبيعام 597 ق.م. بعد تجليس الملك صدقيا. جاء في النسخ العربية والسريانية وغيرها "ملك صدقيا" عوض "يهوياقيم" أما الترجمة السبعينية فلا توجد بها الآية الأولى.
يرى Lightfoot أن إرميا قد بدأ في صنع الأنيار والأربطة في عهد يهوياقيم، وبعد ذلك ارسلها إلى الملوك المجاورين في عهد صدقيا الملك.
في السنة الرابعة لملك نبوخذنصر شعر بعض الملوك بأن الجانب الغربيمن المملكة البابلية على وشك القيام بثورة وتمرد حيث ظهرت قلاقل في المملكة. ففي عام 5-596 ق.م. هُوجمنبوخذنصر بعدولا يعرف اسمه، ربما عيلام، وفي عام 4-595 ق.م. حدثت ثورة على حدود مملكته. في عام 3-594 ق.م. قاد حملة عسكرية داخل سوريا... فكانت أيام مملوءةبالقلاقل بالنسبة لنبوخذنصر. هذادفعبعض الدول في غرب مملكته أن تفكر في الخلاص من نيره. ويرى البعض أنه بعد ما فتحت جيوش ملك بابل أورشليم للمرة الأولى بأربع سنوات قام في مصر ملك جديد اختمرت في قلبه فكرة الثورة على بابل.
أرسل الملوك المجاورون إلىصدقيا الملك يطلبونمشورته وعونه ويقيمون تحالفًا معًا. أكّد الأنبياء الكذبة أن بابل على وشك الانهيار وأن يهوياكين يعود إلىأورشليم ومعه كنوز يهوذا التي سُلبت، وأن الظروف مساعدة للثورة... لكن وُجد رجل واحد يقف أمام الكل لينادي ببطلان نبوات هؤلاء الأنبياء، وهو إرميا النبي!
في نفس السنة، السنة الرابعة من ملكه، ذهب صدقيا الملك إلى بابل (إر 59: 51) إما باستدعاء الملك له أو ليظهر ولاءه على ضوء انتشار خبر تمرد الملوك في غرب المملكة.
أتىإرميا بنير (أو أكثر) خشبي وبه الأربطة الجلدية، هذا الذي يوضع على عنق الثور ويثبَّت بالأربطة الجلدية حتى لا يلقي به الثور عن عنقه. وضعه على عنقه ليحدثهم بلغة التمثيل، إنه ينبغي أن يخضعوا لسلطان بابل.
يرىالبعض أن إرمياجاء بعدة أنيار، وضع كل نير على عنقه ثم سلمه لرسول كل ملكٍ من الملوك كي يقدمه لملكه الذي أرسله، بينما يرى آخرون أنه جاء بنيرٍ واحدٍ مملوء أربطة، وما كان على الرسل إلا أن يبلغوا ملوكهم بما رأوه وسمعوه. بهذا يُحسب كأن النير قد وُضع على كل ملكٍ منهم، إذ جاء في الترجمة السبعينية "أرسله" [3] بصيغة المفرد، وليس "أرسلها" مما يوحي بأن إرميا جاء بنيرٍ واحدٍ فقط، وما على الرسل إلا إبلاغ الملوك بالخبر، دون أن يقدم نيرًا لكل رسول.
ربما يتساءل البعض: هل كان بالحقيقة يضع إرميا نيرًا على عنقه؟ الإجابة بالإيجاب، إذ نرى في الأصحاح (إر 28: 10، 12) نبيًا كاذبًا يكسر النير الخشبي الموضوع على عنق إرميا.
على كلٍ لم يتم التحالف المزمع إما لأن الملوك لم يستطيعوا أن يتفقوا معًا على الخطة، أو لأنهم رأوا أن الخطر عظيم.
بدأ حديث إرميا بإعلان سلطان يهوه إله إسرائيل على الأرض كلها وشعوبها وكل الخليقة، ليس بكونه الخالق فقط، وإنما هو إله التاريخ وصانعه، وأنه هوالذي أقام نبوخذنصر عبده لغرض إلهي. هناك خطة من جهة نبوخذنصر وابنه وحفيده، وليس شيء يحدث اعتباطًا. يرى Adam Clarke أن ذلك قد تحقق حرفيًا حيث خلفه ابنه أويل مردوخ وفيما بعد حفيده بيلشاصر (دا 5: 11). بينما يرى البعض أنه لا يقصد هنا بالابن والحفيد حسب الجسد لكنه يقصد الذين يخلفونه بالتتابع لمدة طويلة، فيُحسب الملك الثالث بعده كحفيد له تولى عرش جده. نحن نعلم أن نبوخذنصر خلفه ابنه أويل مردوخ، بعد ذلك جاء نرجل شراصرNergalsharzer الذي يعرفه اليونانيون باسم Neriglissar (إر 39: 13) ليس ابنه بل زوج أخته بعد قتله أويل مردوخ، ثم تبعه ابنه Laborosoarchod وهو طفل، قُتل بعد 9 شهور بواسطة بعض المتآمرين، وبعد ذلك Naboned الذي اشترك معه بيلشاصر (حفيد نبوخذنصر) كشريكٍ في الملك.
عدم الخضوع لبابل هو رفض للمشورة الإلهية ضريبتها السقوط تحت السيف مع الجوع والوبأ.
تحدث إرميا بيقين ليس معتمدًاعلى تكهنات سياسية، وإنما باقتناع قوي أن الله رب الجنود هو قائد كل شئون العالم، له خطته نحو البشر. حقًا كان نبوخذ نصر شريرًا، ومع ذلك أعطاه الله نصيبًا وافرًا من خيرات هذا العالم، ولكن إلى حين. هذا ما نلمسه كل يوم حين نجد أشرارًا ناجحين، فنصرخ مع المرتل، قائلين: "لماذا تنجح طريق الأشرار؟!"... يستخدم الله أحيانا نجاحهم لتأديب أولاده مع نزع كل عذر للأشرار عن شرهم.
* إنها خطايانا التي تجعل البرابرة أقوياء، إنها رذائلنا التي تقهر جنود روما...
يا لبؤس الإسرائيليين الذين عندما قورنوا بنبوخذنصر دُعي هو عبد الله .
يا لبؤسنا نحن أيضًا الذين إذ نُغضب الله يستخدم غضب البرابرة ليصب غضبه علينا.
ومع هذا عندما تاب حزقيا هلك 185000 جنديًا أشوريًا بواسطة ملاكٍ واحدٍ (2 مل 19: 35).
وعندما رنم يهوشفاط للرب تسابيح وهب الله ذاك الذي تعبد له النصرة (2 أي 20: 5-25).
أيضًا عندما حارب موسى ضد عماليق، غلب لا بالسيف بل بالصلاة. لهذا إن أردنا أن نرتفع يلزمنا أولًا أن ننبطح!
القديس جيروم
واضح من [9] لا بُد أنه كان في الأمم المجاورة أنبياء كذبة يعتمدون على التنجيم والسحر والعرافة كما كان في إسرائيل. وقد ذكر السحرة الوثنيين والعرافين مع الأنبياء الكذبة إذ اشترك الكل في أمرٍ واحدٍ، وهو الرغبة في إرضاء سادتهم وتهدئة نفوس من هم حولهم على حساب الحق الإلهي. هكذا يختلط الوثنيون مع الذين يحملون اسم الله كذبًا ويتنبأون باسمه باطلًا. لهذا يليق بنا لكي نتعرف على إرادة الله (أف 5: 17) ونميز علامات الأزمنة (مت 16: 3) أن نتقدس ونحمل روح الطاعة والتمييز، ولا تكون لنا شركة مع الشر.
إرميا مثل إشعياء الذيوضع حدًا لمملكة أشور (إش 5: 10-12) التي تنتهي عندما تحقق غرض الله منها، هكذا يتحدث إرميا عن بابل.
يستخدم عدو الخير اسم الله كحجة ليبث أكاذيبه (مت 4: 6، 7: 22، 33).
2. نصيحة لصدقيا الملك:

"12 وَكَلَّمْتُ صِدْقِيَّا مَلِكَ يَهُوذَا بِكُلِّ هذَا الْكَلاَمِ، قَائِلًا:
«أَدْخِلُوا أَعْنَاقَكُمْ تَحْتَ نِيرِ مَلِكِ بَابِلَ وَاخْدِمُوهُ وَشَعْبَهُ وَاحْيَوْا.
13 لِمَاذَا تَمُوتُونَ أَنْتَ وَشَعْبُكَ بِالسَّيْفِ بِالْجُوعِ وَالْوَبَإِ، كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَنِ الأُمَّةِ الَّتِي لاَ تَخْدِمُ مَلِكَ بَابِلَ؟
14 فَلاَ تَسْمَعُوا لِكَلاَمِ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُكَلِّمُونَكُمْ قَائِلِينَ: لاَ تَخْدِمُوا مَلِكَ بَابِلَ، لأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ بِالْكَذِبِ.
15 لأَنِّي لَمْ أُرْسِلْهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، بَلْ هُمْ يَتَنَبَّأُونَ بِاسْمِي بِالْكَذِبِ، لِكَيْ أَطْرُدَكُمْ فَتَهْلِكُوا أَنْتُمْ وَالأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ»." [12-15].

يكرر إرميا ما قاله لرسل الملوك لصدقيا الملك، حتى يبدو كمن هو عميل لبابل وخائن لبلده.
كان من الصعب على أي يهودي خاصة الملك أن يسمع تلك الكلمات: "ادخلوا أعناقكم تحت نير ملك بابل"، فقد عرفوا أن الله إلههم هو المحرر من نير العبودية، إذ سبق فوعد: "أن الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر من كونكم لهم عبيدًا وقطع قيود نيركم وسيركم قيامًا" (لا 26: 13)، فكيف يطلب منهم أن ينحنوا ليُدخلوا أعناقهم تحت نير ملك وثني؟! إنها علامة غضب الله! كانت إحدى اللعنات التي يسقط تحتها الشعب في عصيانه للوصية هي: "تُستعبد لأعدائك الذين يُرسلهم الرب عليك... فيجعل نير حديد على عنقك حتى يهلكك، يجلب الرب عليك أمة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها..." (تث 28: 48 إلخ).
لم يسمع صدقيا له، فكان مصيره السبي (587 ق.م.) بعد قتل أولاده أمام عينيه، وفُقأت عيناه (2 مل 25: 1-7).
لماذا أمرهم الله بالخضوع لنير بابل؟

أ. يبدو مما نعرفه من التاريخ أن إرميا نجح هذه المرة بأن يردّ صدقيا عن الاشتراك في مثل هذه الثورة. ومن ثمَّ نقدر أن نفهم موقف إرميا وهو يحث الملك والدول المجاورة على البقاء في خضوعها، لا لأنه كان يحب بابل ويُعجب بها ويؤثر سيطرتها على الحرية والاستقلال، بل لأنه أدرك بالإعلان الإلهي أن هذه هي إرادة الله وحكمته ولا يقدر الإنسان أن يقف أمامها.
لعل الله أمرهم بذلك لكي يكتشفوا خلال المذلة لنير بابل النير الداخلي الذي سقطوا تحته، وهو نير الخطية. فباذلال الجسد وظروف الحياة القاسية وحرمانهم من بلدهم ومدينتهم المقدسة وهيكل الرب... يدركون ماذا يفعل نير سبي الخطية. فيقولون مع إرميا النبي: "جعلني ضربة اليوم كله، مغمومة؛ شَدَّ نير ذنوبي بيده، صعدت على عنقي. نزع قوتي، دفعني السيد إلى الابد لا أستطيع القيام منها" (مرا 1: 14).
نسمع عن هذا النير في فريضة البقرة الحمراء (عد 19)، إذ يشترط في البقرة المقدمة كذبيحة خطية أن تكون "صحيحة، لا عيب فيها، ولم يعلُ عليها نير" (عد 19: 2). وذلك بكونها رمزًا للسيد المسيح الذي وحده بلا خطية، ليس فيه عيب، ولم يسقط تحت نير الخطية. لقد وبخ اليهود، قائلًا: "من منكم يبكتني على خطية؟" (يو 8: 46). يقول الرسول بولس: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، لنصير نحن البركات الله فيه" (2 كو 5: 21).
وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [نعم، المسيح نفسه يقول: "من أجلكم أقدس أنا ذاتي" (يو 17: 19)، ويقول أيضًا "رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 11)، مظهرًا أن الذي ذُبح هو بلا خطية" ].
أيضًا حينما ارتبك الفلسطينيون بسبب الضربات التي حلت عليهم وضعوا التابوت على عجلة واحدة جديدة يجرها بقرتان مرضعتان لم يعلهما نير (1 صم 6: 7)... فانطلقت المركبة: نحو حقل يهوشع، أي حقل يسوع، كنيسة المخلص... وفرح الحصادون لما رأوا تابوت العهد!

إذن ليحملوا نير بابل فيدركوا قسوة نير الخطية، خلال الصليب، معطيًا للنير عذوبة، لأنه نير صليب الحب الباذل. إذ يقول: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم؛ احملوا نيري عليكم، وتعلموا مني... لأن نيري هيّن (حلو) وحملي خفيف" (مت 11: 28-30). أنه يدعونا لنلقي نيرنا تحت قدميه، لا لنعيش بغير نير، وإنما نستبدل نيرنا بنيره العذب. عوض نير الخطية القاسي نحمل شركة نير المسيح، أي شركة آلامه النابعة عن الحب الباذل!
يحدثنا عن نير الحب العذب هذا وفاعليته في حياتنا، قائلًا: "كنت أجذبهم بحبال البشر برُبُط المحبة، وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم، ومددت إليه مُطعمًا إياه" (هو 11: 4).
إذ يرى المؤمن مسيحه يحمل النير عنه يشتهي أن يكون له مجد الشركة معه في حمل هذا النير. يشتهي أن يحمله منذ صباه، محققًا قول إرميا النبي: "جيد أن ينتظر الإنسان ويتوقع بسكوت خلاص الرب؛ جيد للرجل أن يحمل النير في صباه" (مرا 3: 27).
ب. إذ كانت خطاياهم تتسم بالظلم مع الرجاسات لذلك أراد لهم أن يحملوا نير بابل حتى يدركوا قسوة نيرهم الذين يلقونه على أعناق إخوتهم، فلا يفعلوا كما فعل رحبعام حين قال له يربعام وكل جماعة إسرائيل: "إن أباكم قسّى نيرنا، وأما أنت فخفف الآن من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا فنخدمك" (1 مل 12: 4)، أجابهم: "أبي ثقل نيركم وأنا ازيد على نيركم؛ أبي أدبكم بالسياط، وأنا أؤدبكم بالعقارب" (1 مل 12: 14).
المؤمن الذي يدرك مرارة النير لا يطلب أن تنحني رقاب الآخرين لنير غير نير صليب المسيح الممتع. لهذا ففي مجمع الرسل المنعقد بشأن القادمين للإيمان من الأمم قال الرسول بطرس: "فالآن لماذا تجربون الله بوضع نيرٍ على عُنُق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله، لكن بنعمة الرب يسوع المسيح نؤمن أن نخلص كما أولئك أيضًا" (أع 15: 10-11). هكذا طلب الرسول ألا يخضع القادمون للإيمان لنير الطقوس الحرفية للشريعة الموسوية، وكما يوصينا الرسول بولس بخصوص الخضوع الحرفي لختان الجسد: "فاثبتوا إذًا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبودية" (غلا 5: 1).
3. حديث مع الكهنة والشعب:

16 وَكَلَّمْتُ الْكَهَنَةَ وَكُلَّ هذَا الشَّعْبِ قَائِلًا:
«هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
لاَ تَسْمَعُوا لِكَلاَمِ أَنْبِيَائِكُمُ الَّذِينَ يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ قَائِلِينَ: هَا آنِيَةُ بَيْتِ الرَّبِّ سَتُرَدُّ سَرِيعًا مِنْ بَابِلَ.
لأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ بِالْكَذِبِ.
17 لاَ تَسْمَعُوا لَهُمْ.
اُخْدِمُوا مَلِكَ بَابِلَ وَاحْيَوْا.
لِمَاذَا تَصِيرُ هذِهِ الْمَدِينَةُ خَرِبَةً؟
18 فَإِنْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ مَعَهُمْ، فَلْيَتَوَسَّلُوا إِلَى رَبِّ الْجُنُودِ لِكَيْ لاَ تَذْهَبَ إِلَى بَابِلَ الآنِيَةُ الْبَاقِيَةُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا وَفِي أُورُشَلِيمَ.
19 «لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ عَنِ الأَعْمِدَةِ وَعَنِ الْبَحْرِ وَعَنِ الْقَوَاعِدِ وَعَنْ سَائِرِ الآنِيَةِ الْبَاقِيَةِ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ، 20 الَّتِي لَمْ يَأْخُذْهَا نَبُوخَذْنَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ عِنْدَ سَبْيِهِ يَكُنْيَا بْنَ يَهُويَاقِيمَ مَلِكَ يَهُوذَا مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ وَكُلَّ أَشْرَافِ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ.
21 إِنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الآنِيَةِ الْبَاقِيَةِ فِي بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا وَفِي أُورُشَلِيمَ:
22 يُؤْتَى بِهَا إِلَى بَابِلَ، وَتَكُونُ هُنَاكَ إِلَى يَوْمِ افْتِقَادِي إِيَّاهَا، يَقُولُ الرَّبُّ، فَأُصْعِدُهَا وَأَرُدُّهَا إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ». [16-22].

يُقصد بالأعمدة العمودين النحاسيين اللذين وضعهما سليمان في رواق الهيكل في المدخل، طول العمود الواحد ثمانية عشر ذراعًا (1 مل 7: 15-22). أما البحر فكان من النحاس دائري الشكل قطره عشر أذرع، يحوى ماءً يُستخدم في غسلات مختلفة أثناء العبادة، وكان قائمًا على اثنى عشر ثورًا، ربما هذه الثيران هي التي تُدعى هنا بالقواعد (1 مل 7: 22-25).

إنكان الله يؤكد السبي البابلي والاستيلاء على بقية آنيةالرب وآنية بيت الملكلكنه يفتح باب الرجاءأمامهم، قائلًا: "إلى يوم افتقادي إياها" [22]. وقد تحقق ذلك في أيام كورش حيث حث الله قلبه أن يحقق هذه النبوة (عز 1: 7؛ 7: 19).
في حديثه الممتع عن رعايته لشعبه بنفسه يقول: "ويعلمون أني أنا الرب عند تكسيري رُبط نيرهم، وإذ أنقذهم من يد الذين استعبدوهم، فلا يكونون بعد غنيمة للأمم، ولا يأكلهم وحش الأرض، بل يسكنون آمنين ولا مخيف" (حز 34: 27-28). كما يقول: "والآن أكسر نيره عنكِ وأقطع رُبُطك" (نا 1: 13).
لم يكن إرميا النبي متشائمًا كما يظن البعض، فإنه في أحلك لحظات الظلمة لم يفقد ثقته في وعود الله بالخلاص. هكذا يليق بالمؤمن أن تستنير نفسه بالمواعيد الإلهية، فتتهلل أعماقه، متأكدًا أن خطة الله الخلاصية ستتم حتمًا، بغض النظر عن الظروف القائمة أو ما سيحل في المستقبل القريب... لننتظر الرب، فإنه حتما سيخلص في الوقت المعين!
هكذا عاشت الكنيسة الأولى وسط الاضطهاد المرّ مملوءة رجاءً في عمل الله معها عبر الأجيال وثقتها في نعمة الله الغنية التي تتحدى الزمن!

من وحي إرميا 27

خطيتي تدفعني تحت نير بابل!

حبك يجذبني نحو نير الصليب!


* دفعت بشعبك تحت نير بابل القاسي،
لعلهم يدركون بالحق نير الخطية الداخلي.
يدركون مرارة عبوديتها،
ويشعرون بقساوة عنفها،
فيصرخون إليك أيها المخلص محرر النفوس!
* نير تأديبك الإلهي يكشف عن نير الخطية المرّ.
لكنك وأنت القدوس بالحب حملته عني!
أراك على الصليب حاملًا نيري!
يا لك من مخلص عجيب!
* حملت نيري،
هب لي شرف حمل نيرك.
نيري نير الخطية القاتل،
نيرك نير الحب الباذل واهب الحياة!
نيري عار وخزي،
ونيرك مجد وبهاء!
* لأحمل نيرك فيحملني هو!
لأقبل آلام صليبك،
فيرفعني صليبك إليك،
ويدخل بي إلى حضن أبيك!
* حقًا نيرك هين وعذب!
به التقي بك أيها المصلوب!
به أتمتع ببهجة قيامتك،
به أتعرف على أسرارك،
به أنعم بالأحضان الأبوية،
وشركة الأمجاد الإلهية.

Mary Naeem 29 - 09 - 2023 11:46 AM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/169528896264461.jpg






رسالة إلى المسبيين





لم يقف عمل إرميا النبي عند حدود يهوذا، إذ كان يمثل الصوت الإلهي الموجه إلى الملك ورجاله وكل القيادات الدينية والمدنية وأيضًا إلى الشعب المسبي، أغنيائه وفقرائه. لم يذهب إليهم بشخصه ويعمل بينهم في أرض عبوديتهم فقد أقام الله حزقيال النبي لهذه الخدمة (حز 1: 1) أما إرميا فكان يبعث إليهم رسائله.
حُمل إلى السبي 3023 شخصًا عام 597 ق.م.، من بينهم يهوياكين وأسرته وبعض الكهنة والأنبياء الكذبة. لم يتأدب هؤلاء الكذبة ولا تغيرت قلوبهم، وإنما في عجرفة كملوا الطريق في أرض السبي. نادوا بسرعة انهيار بابل وعودة المسبيين إلى وطنهم مقدمين الآمال الزائفة. وشعر إرميا النبي أن من واجبه تحذير المسبيين من هذا الخداع. هكذا اتفق الأنبياء الكذبة معًا على مقاومة كلمة الله، سواء الذين بقوا في يهوذا أو الذين ذهبوا مع السبي، يعملون معًا بفكرٍ شريرٍ واحدٍ.
يحويهذا الأصحاح مجموعة من الرسائل المتبادلة بين أورشليموبابل. على الأقل توجد أربع رسائل: واحدة من إرميا إلى المسبيين (1-15؛ 21-23) والأخرىمن شمعيا إلىصفنيا (25-28)، وثالثة من إرميا إلى شمعيا (24)، ورابعة رسالة إلى المسبيين (31-32). تمت هذه الرسائل في الأيام التالية لسقوط يهوذا عام 597 ق.م. ويبدو من الرسائل أن مملكة بابل كانت تُعاني من بعض قلاقلٍ داخلية.
حملت رسائل إرميا كلمة توبيخ للأنبياء الكذبة والسالكين وراءهم، كما قدمت كلمة تشجيع لتعزية من لهم إيمان بمواعيد الله.
يرى البعض أن ما ورد هنا هو من ذاكرة باروخ




1. رسالة إلى المسبيين:

1 هذَا كَلاَمُ الرِّسَالَةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إِرْمِيَا النَّبِيُّ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَقِيَّةِ شُيُوخِ السَّبْيِ، وَإِلَى الْكَهَنَةِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَإِلَى كُلِّ الشَّعْبِ الَّذِينَ سَبَاهُمْ نَبُوخَذْنَاصَّرُ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ، 2 بَعْدَ خُرُوجِ يَكُنْيَا الْمَلِكِ وَالْمَلِكَةِ وَالْخِصْيَانِ وَرُؤَسَاءِ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ وَالنَّجَّارِينَ وَالْحَدَّادِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ، 3 بِيَدِ أَلْعَاسَةَ بْنِ شَافَانَ، وَجَمَرْيَا بْنِ حِلْقِيَّا، اللَّذَيْنِ أَرْسَلَهُمَا صِدْقِيَّا مَلِكُ يَهُوذَا إِلَى نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ إِلَى بَابِلَ قَائِلًا: 4 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لِكُلِّ السَّبْيِ الَّذِي سَبَيْتُهُ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ: 5 اِبْنُوا بُيُوتًا وَاسْكُنُوا، وَاغْرِسُوا جَنَّاتٍ وَكُلُوا ثَمَرَهَا. 6 خُذُوا نِسَاءً وَلِدُوا بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَخُذُوا لِبَنِيكُمْ نِسَاءً وَأَعْطُوا بَنَاتِكُمْ لِرِجَال فَيَلِدْنَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَاكْثُرُوا هُنَاكَ وَلاَ تَقِلُّوا. 7 وَاطْلُبُوا سَلاَمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي سَبَيْتُكُمْ إِلَيْهَا، وَصَلُّوا لأَجْلِهَا إِلَى الرَّبِّ، لأَنَّهُ بِسَلاَمِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ. 8 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: لاَ تَغُشَّكُمْ أَنْبِيَاؤُكُمُ الَّذِينَ فِي وَسَطِكُمْ وَعَرَّافُوكُمْ، وَلاَ تَسْمَعُوا لأَحْلاَمِكُمُ الَّتِي تَتَحَلَّمُونَهَا. 9 لأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ بِاسْمِي بِالْكَذِبِ. أَنَا لَمْ أُرْسِلْهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 10 «لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: إِنِّي عِنْدَ تَمَامِ سَبْعِينَ سَنَةً لِبَابِلَ، أَتَعَهَّدُكُمْ وَأُقِيمُ لَكُمْ كَلاَمِي الصَّالِحَ، بِرَدِّكُمْ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ. 11 لأَنِّي عَرَفْتُ الأَفْكَارَ الَّتِي أَنَا مُفْتَكِرٌ بِهَا عَنْكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَفْكَارَ سَلاَمٍ لاَ شَرّ، لأُعْطِيَكُمْ آخِرَةً وَرَجَاءً. 12 فَتَدْعُونَنِي وَتَذْهَبُونَ وَتُصَلُّونَ إِلَيَّ فَأَسْمَعُ لَكُمْ. 13 وَتَطْلُبُونَنِي فَتَجِدُونَنِي إِذْ تَطْلُبُونَنِي بِكُلِّ قَلْبِكُمْ. 14 فَأُوجَدُ لَكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَرُدُّ سَبْيَكُمْ وَأَجْمَعُكُمْ مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَمِنْ كُلِّ الْمَوَاضِعِ الَّتِي طَرَدْتُكُمْ إِلَيْهَا، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَرُدُّكُمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَبَيْتُكُمْ مِنْهُ. 15 «لأَنَّكُمْ قُلْتُمْ: قَدْ أَقَامَ لَنَا الرَّبُّ نَبِيِّينَ فِي بَابِلَ، 16 فَهكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِلْمَلِكِ الْجَالِسِ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ، وَلِكُلِّ الشَّعْبِ الْجَالِسِ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ، إِخْوَتِكُمُ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَكُمْ فِي السَّبْيِ: 17 هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هأَنَذَا أُرْسِلُ عَلَيْهِمِ السَّيْفَ وَالْجُوعَ وَالْوَبَأَ، وَأَجْعَلُهُمْ كَتِينٍ رَدِيءٍ لاَ يُؤْكَلُ مِنَ الرَّدَاءَةِ. 18 وَأُلْحِقُهُمْ بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْوَبَإِ، وَأَجْعَلُهُمْ قَلَقًا لِكُلِّ مَمَالِكِ الأَرْضِ، حِلْفًا وَدَهَشًا وَصَفِيرًا وَعَارًا فِي جَمِيعِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدْتُهُمْ إِلَيْهِمْ، 19 مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا لِكَلاَمِي، يَقُولُ الرَّبُّ، إِذْ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِمْ عَبِيدِي الأَنْبِيَاءَ مُبَكِّرًا وَمُرْسِلًا وَلَمْ تَسْمَعُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. 20 «وَأَنْتُمْ فَاسْمَعُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ يَا جَمِيعَ السَّبْيِ الَّذِينَ أَرْسَلْتُهُمْ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ. 21 هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَخْآبَ بْنِ قُولاَيَا، وَعَنْ صِدْقِيَّا بْنِ مَعْسِيَّا، اللَّذَيْنِ يَتَنَبَّآنِ لَكُمْ بِاسْمِي بِالْكَذِبِ: هأَنَذَا أَدْفَعُهُمَا لِيَدِ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ فَيَقْتُلُهُمَا أَمَامَ عُيُونِكُمْ. 22 وَتُؤْخَذُ مِنْهُمَا لَعْنَةٌ لِكُلِّ سَبْيِ يَهُوذَا الَّذِينَ فِي بَابِلَ، فَيُقَالُ: يَجْعَلُكَ الرَّبُّ مِثْلَ صِدْقِيَّا وَمِثْلَ أَخْآبَ اللَّذَيْنِ قَلاَهُمَا مَلِكُ بَابِلَ بِالنَّارِ. 23 مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا عَمِلاَ قَبِيحًا فِي إِسْرَائِيلَ، وَزَنَيَا بِنِسَاءِ أَصْحَابِهِمَا، وَتَكَلَّمَا بِاسْمِي كَلاَمًا كَاذِبًا لَمْ أُوصِهِمَا بِهِ، وَأَنَا الْعَارِفُ وَالشَّاهِدُ، يَقُولُ الرَّبُّ.

"هذا كلام الرسالة التي أرسلها إرميا النبي من أورشليم إلى بقية شيوخ السبي وإلى الكهنة والأنبياء وإلى كل الشعب الذين سباهم نبوخذنصر من أورشليم إلىبابل،
بعد خروج يكنيا الملك والملكة والخصيان ورؤساء يهوذا وأورشليم والنجارين والحدادين من أورشليم.
بيد ألعاسة بن شافان وجمريا بن حلقيا اللذين أرسلهما صدقيا ملك يهوذا إلى نبوخذنصر ملك بابل إلى بابل قائلًا..." [1-3].
واضح أن البابليين لم يمنعوا أية اتصالات بين المسبيين والذين بقوا في يهوذا وإسرائيل، ويرى بعض الدارسين أن البابليون لم يمارسوا أية وحشية ضد المسبيين.
هذه الرسالة موجهة إلى "بقية الشيوخ" مما يشير أن بعض الشيوخ قد ماتوا في السبي أو قتلواأو سجنوا ربما بسبب بعض الاضطرابات المُشار إليها في [21-22]. وإن كان البعض يستبعدون حدوث قتل للشيوخ. معنى كلمة "الشيوخ yeter" هنا غير أكيد، ربما يُقصد بها البارزين أو الرؤساء .
وُجهت الرسالة أيضًا إلىالخصيان، وهم فئةتشير إلى جماعة العاملين فيالقصر خاصة في قسم النساء، يُستخدم هذا اللقب على كل رجال القصر الرسميين (إر 52: 25؛ 1 صم 8: 15؛ تك 39: 1) وأصحاب المراكز الكبيرة حتى إن كانوا متزوجين، ففوطيفار الخصي كان متزوجًا.
أُرسلت الرسالة مع ألعاسة بن شافان ربما أخ أخيقام بن شافان الذي هب لنجدة إرميا النبي في وقت الشدة (إر 26: 2) وجمريا بن حلقيا (إر 36: 10، 25 إلخ) وهو غير جمريا بن شافان الكاتب، الكل من عائلات كهنوتية لعبت دورًا هامًا في الإصلاح أيام يوشيا الملك. وكانا صديقين لإرميا ومتعاطفين معه في دعوته ورسالته (إر 26: 24؛ 36: 10، 25 إلخ)، كان عملهما بالنسبةلنبوخذنصر فيه شيء من اللطف معه بجانب جمعهم الجزية السنوية له، اُرسلا إلىبابل لتأكيد ولاء صدقيا لنبوخذنصر بعد أن ظهرت حركة تمرد بين الأمم التي في الغرب (ص 27). كان هذان الرسولان مبعوثين من صدقيا المتمرد للتفاوض مع الحاكم البابلي، إلا أنهما حملا رسالة من ملكٍ أعظم جدًا من هذا وذاك، من رب الجنود، هذا الذي يتنازل للاتصال بشعبه المسبي على هذا النحو.
حملت الرسالة كلمات تشجيع لتثبيت إيمان المسبيين، وفي نفس الوقت حملت توبيخًا للأنبياء الكذبة الذين دأبوا على تقديم آمالٍ زائفةٍ. فمن جهة التشجيع كتب إرميا النبي:
"هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لكل السبي الذي سبيته من أورشليم إلى بابل.
ابنوا بيوتًا واسكنوا واغرسوا جنات وكلوا ثمرها.
خذوا نساء ولدوا بنين وبنات، وخذوا لبنيكم نساء، وأعطوا بناتكم لرجال فيلدن بنين وبنات واكثروا هناك ولا تقلوا.
واطلبوا سلام المدينة التي سبيتكم إليها،
وصلوا لأجلها إلى الرب، لأنه بسلامها يكون لكم سلام" [4-7].
أ. جاءت الرسالة تناشدهم بقبول الضيقة بكونها من يد الرب، وعوض محاولة استعجال النجاة قبل الأوان المحدد يُلزمهم بالخضوع لبابل وأن يمارسوا حياتهم اليومية بطريقة طبيعية في استقرارٍ ما استطاعوا [5-6] وأن ينتظروا في خضوعٍ لله لكي ينقذهم في الوقت المناسب، لأن السبي مستمر ولن ينتهي في عامين كما ادّعى الأنيباء الكذبة. وأن عبادتهم لله الحيتستمر في البلد الغريب في غيبة الهيكل والذبائح (إر 7: 1- 15؛ 21، 22). بمعنى آخر كان غاية الرسالة ألا ينشغلوا بالعودة بل بالتوبة والعبادة حتى يأتي وقت الرجوع في الزمن المحدد.
يبدو أنه قد حلّ بالمسبيين في البداية حالة كآبة لشعورهم بأنهم خطاة أكثر من كل الذين بقوا في أورشليم، لذلك كتب إليهم النبي ليهبهم نوعًا من التعزية خلال تحقيق مواعيد الله والخضوع للخطة الإلهية.
لا بُد أن كثيرين من الشبان المسبيين كانوا غير متزوّجين، فحثّهم إرميا على الزواج، لكنه لا يعني بهذا الزواج بالبابليات.
إن كان إرميا النبي قد طلب منهم أن يبنوا بيوتًا ويغرسوا جنات ويتزوجون كعلامة على استقرارهم زمنًا طويلًا، لكنه لم يطلب منهم أن يمارسوا حياة الفرح والتهليل، لأن فترة سبيهم إنما هي فترة توبة للرجوع إلى الحضن الأبوي.
ب. يؤكد إرميا النبي أن هذه الرسالة مقدمة من "رب الجنود إله إسرائيل" [4]. فلم يكن إرميا إلا مجرد كاتب أو ناسخ لها. كان مريحًا لهم أن يسمعوا أن إلههم هو "رب الجنود" لم يدفعهم إلى السبي ليتركهم، لكنه قادر على خلاصهم ومساندتهم، وهو الإله الذي دخل مع شعبه في ميثاقٍ. فإن كان لم يُسر بهم بسبب خطاياهم لكنه ينتظر توبتهم ليردهم إليه.
ج. إن كان يؤكد: "كل السبي الذي سبيته" [4]، "المدينة التي سبيتكم إليها" [7]، فإنه هو الذي سمح بالسبي ويسمح بالعودة في الوقت المعين! بمعنى آخر ما حدث لهم ليس لضررهم ولا حدث اعتباطًا، بل لخيرهم وبخطة إلهية.
د. سمع صدقيا بارسال هذه الرسالة إلى المسبيين دون أن يقاومها، ربما إذ مات حننيا (إر 28: 17) شعر الملك بخطورة مقاومة النبي، أو لكي بطريق غير مباشر يؤكد للشعب عدم عودة يكنيا من السبي.
ه. إذ جاءوا إلىبابل بسماحٍ إلهي يليق بهم أن يصلّوا لأجل خير مملكة بابل وثباتها [7]، فقد صاروا كجزءٍ منها.
يطلب منهم أن يصلوا حتى عن سلامة الدولة التي سبتهم. إنه أمر مدهش بالنسبة لشعب اُمتصت كل أفكارهم وطاقاتهم في أرض الموعد، لكنها وصية عملية لشعب يبقى 70 عامًا في أرض السبي. يمكننا القول أن ما ورد هنا هو تذوق سابق للفكر الإنجيلي الخاصة بمحبة الأعداء والخضوع للرئاسات أيا كانت كما جاء في رسالة القديس بطرس الأولى: "اخضعوا لكل ترتيبٍ بشريٍ من أجل الرب: إن كان للملك، فكمن هو فوق الكل؛ أو للولاة، فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير؛ لأن هكذا هي مشيئة الله: أن تفعلوا الخير، فتُسكتوا جهالة الناس الأغبياء، كأحرارٍ، وليس كالذين الحرية عندهم سُترة للشر، بل كعبيد لله" (1 بط 2: 13، 16). وفي رسالة القديس بولس لتلميذه تيطس: "ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين" (تي 3: 1)، وفي رسالته إلى تلميذه تيموثاوس: "فأطلب أول كل شيء أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار" (1 تي 2: 1-2).
يرى القديس أغسطينوس في هذه العبارة التزام الكنيسة والمسيحي بالصلاة من أجل المسئولين، حتى في السبي، يُصلي المؤمنون لأجل سلامة الدولة حتى يقضوا حياة هادئة مطمئنة كقول الرسول بولس (1 تي 2: 2) .
يقول العلامة ترتليان: [بخصوص الكرامات الواجبة للملوك والأباطرة، لدينا نص كافٍ أنه يليق بنا أن نكون في تمام الطاعة وذلك كوصية الرسول (تي 3: 1)... ولكن حدود الطاعة في هذا أن نحفظ أنفسنا منعزلين عن عبادة الأوثان. ولنا في هذا مثال الثلاثة فتية، الذين مع طاعتهم للملك نبوخذنصر ازدروا بتقديم التكريم لتمثاله، فلم يقبلوا العبادة له... هكذا أيضًا كان دانيال خاضعًا لداريوس في كل الأمور، ثابتًا في واجبه ما دام بعيدًا عن أساس إيمانه (دا 6)].
يبدو أن بعض المسبيين التجأوا إلى بعض العرافين لتحقيق الأحلام، لكن الله حذرهم من ذلك.
"لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:
لا تغشكم أنبيأوكم الذين في وسطكم وعرافوكم،
ولا تسمعوا لأحلامكم التي تتحلمونها.
لأنهم إنما يتنبأون لكم باسميبالكذب.
أنا لم أرسلهم يقول الرب" [8-9].
يليق بنا أن نحمل روح التمييز فنمتحن ادعاءات الكاذبين بواسطة كلمة الله وخلال ثمارهم، فنرفض الذين يستبدلون الإعلان الإلهي بأحلامهم الصادرة عن رغبات قلوبهم العاصية.
أكدتالرسالة العودة بعد سبعين عامًا.
"لأنه هكذا قال الرب:
إني عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردكم إلى هذا الموضع.
لأني عرفت الأفكار التي أنا مفتكربها عنكم يقول الرب،
أفكار سلامٍ لا شر، لأعطيكم آخرة ورجاء" [11-14].
وضع الله خطة معينة لشعبه وفي أزمنة محددة لديه؛ هي لسلامهم لا لضررهم، تبعث فيهم رجاءً في المستقبل [11]. وكما يقول المرتل: "ما أكرم أفكارك يا الله عندي! ما أكثر جملتها! إن أحصها، فهي أكثر من الرمل، استيقظت وأنا بعد معك" (مز 139: 17-18). لكن يلزمنا أن ندرك أن خطة الله غير خطتنا، وأفكاره ومقاييسه غير أفكارنا ومقاييسنا.
وكما يقول: "أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي... لأنه كما علت السموات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم، وأفكاري عن أفكاركم" (إش 55: 8-9). حقًا قد تدخل بنا خطته إلى الطريق الضيق لنحمل الصليب ونقبل الألم، لكنه حتمًا يدخل بنا إلى مجد قيامته كملجأٍ آمنٍ منشودٍ. إنهم لا يجدون أرضهم التي اُنتزعوا منها فحسب، وإنما يجدون الله نفسه ملكًا لهم، يقتنوه فيرد سبيهمويجمعهم من كل الأمم ومن كل موضع طُردوا إليه.
إن كان تمام السبعين عامًا حيث ينتهي السبي يشير إلى ملء الأزمنة حيث جاء مسيحنا يعلن: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكون أحرارًا"، فبمجيئه نطلب الآب فنجده فينا، حيث تمت مصالحتنا واتحادنا معه في ابنه الوحيد خلال الصليب. لقد غيّر مسيحنا قلبنا، وها هو يجدده بروحه القدوس، فنطلب الله بكل قلوبنا بكونه شهوة نفوسنا. بهذا يتحقق الوعد الإلهي:
"فتدعونني وتذهبون وتصلون إليّ فأسمع لكم.
وتطلبونني فتجدونني، إذ تطلبونني بكل قلبكم.
فأوجد لكم يقول الرب،
وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التي طردتكم إليها يقول الرب وأردكم إلى الموضع الذي سبيتكم منه" [12-13].
يطلبون الرب بكل قلبهم، أي بكل حبهم وإرادتهم وطاقاتهم، لذا يجدونه حاضرًا فيوسطهم [13]؛ (عا 5: 4-6 ؛ هو 2: 16-20). ينزععنهم روح التمرد والعصيان فيوجد بينهم! كأن الله يقدم لهم تجديدًا للعهد بشرط الطاعة له.
ربما ظن بعض اليهود أن الله لا يسمع لهم لأنهم مستبعدون من مدينة الله، أورشليم، ومن هيكله. هنا يؤكد إرميا النبي أن الله يطلب القلب لا المكان. كانوا في الأرض المقدسة والمدينة المنسوبة له وهيكله الفريد في ذلك الحين ومع ذلك بسبب فساد قلوبهم لم يسمع لهم، والآن في أرض غريبة وثنية إذ يصرخون من كل القلب بالتوبة ينصت إليهم ليردهم.
نطلب الله بالقلب (الفم الداخلي)... فحين يتكلم القلب يتكلم الإنسان كله، نطلب الله بتقديس كل الأعضاء والحواس التي تتعلم كيف تتحدث مع القدوس. لذلك يقول رب المجد: "ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات".
يؤكد الله لشعبه أنه هو غاية طلبهم، قائلًا:
"تطلبونني فتجدونني، إذ تطلبونني بكل قلبكم.
فأوجد لكم يقول الرب".
يقارن القديس يوحنا الذهبي الفمبين الرسول بولس وأبينا إبراهيم حاسبًا الأول أعظم من جهة الترك... ترك حتى الاشتياق إلى السماء من أجل حبه للسيد المسيح.
[تقول إن كل البشر يعظمون إبراهيم لأنه ترك بيته وبيت أبيه وأقرباءه حين سمع الوصية: "أبرام، أُترك مدينتك (أرضك) وبيت أبيك" (تك 12: 1). لقد أمره الله بهذا، وكان هذا يعني كل شيء بالنسبة له. حقًا فإننا نحن أيضًا نعجب منه. لكن هل هذا يجعله مثل بولس؟ لم يترك بولس بيته وبيت أبيه وذويه فحسب بل ترك العالم ذاته لأجل يسوع، بل بالأكثر أقول ترك السماء ذاتها. لم تشغل سماء السموات قلبه، إذ كان هدفه الوحيد هو حب يسوع. لنسمع كلماته الواضحة في هذا الصدد: "لا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق تستطيع أن تفصلنا عن محبة المسيح" (رو 8: 38-39)].
"لأنكم قلتم قد أقام لنا الرب نبيين في بابل.
فهكذا قال الرب للملكالجالس على كرسي داود ولكل الشعب الجالس في هذه المدينة إخوتكم الذين لم يخرجوا معكم في السبي.
هكذا قال رب الجنود:
هأنذا أرسل عليهم السيف والجوع والوبأ وأجعلهم كتينٍ رديءٍ لا يؤكل من الرداءة.
وألحقهم بالسيف والجوع والوبأ،
وأجعلهم قلقًا لكل ممالك الأرض حلفًا ودهشًا وصفيرًا وعارًا في جميع الأمم الذين طردتهم إليهم" [15-18].
إذ تحدث عن الباقين في يهوذا أشار إلى الملك بقوله: "الملك الجالس على كرسي داود" [16]، ليؤكد لهم أن بقاء الملك على كرسي داود لا يعني رضاء الرب عنه. فقد قيل عن نسل داود: "إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي... افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنه ولا أكذب من جهة أمانتي؛ لا انقض عهدي ولا أغير ما خرج من شفتي" (مز 89: 30-34).
بمعنى آخر، يقول لهم إني أرسل السيف والوباء والجوع على الملك والشعب الباقي معه، ثم أطردهم إلى كل الأمم. سيكون حالهم أشر مما أنتم عليه!
ربما يتساءل البعض: لماذا أطال الله مدة السبي لتبلغ السبعين بينما نادى الأنبياء الكذبة بأنها لن تتعدى السنتين؟ هذا لا يعني أن الأنبياء الكذبة أكثر حنانًا بالشعب من الله، لكن ما يهم الأنبياء الكذبة هو تهدئة النفوس ولو على حساب خلاصها وأبديتها، أما ما يهم الله فهو خلاص شعبه وأبديته. لم تكن مدة العامين كافيه ليفحص الشعب نفسه ويدرك فساده ليتوب. هذا وقد أنجبت هذه الفترة الطويلة رجالًا لله شهودًا أمناء أمام الأباطرة والشعب الغريب الجنس، مثل دانيال النبي والثلاثة فتية القديسين ومردخاي وإستير ونحميا وعزرا والأعداد الراجعة إلى أورشليم في غيرة ونقاوة قلب.
"من أجل أنهم لم يسمعوا لكلامي يقول الرب إذا أرسلت إليهم عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلًا ولم تسمعوا يقول الرب" [18-19].
لم يتوقف الله عن إرسال عبيده الأنبياء لتحذيرهم، إنه يكرر الرسالة طالبًا توبتهم. ويكرر القديس يوحنا الذهبي الفمحديثه عن "عدم القسم" مرارًا وتكرارًا معتمدًا على هذه العبارة [19] حيث يكرر الله نصحه لشعبه مرارًا وتكرارًا عبر الأجيال.
* أريد أن أحدثكم مرة أخرى عن موضوع "القسم"، لكنني أشعر بالخجل. حقيقة بالنسبة لي لا أملّ عن أن أتحدث نهارًا وليلًا لأكرر نفس الأمر إليكم. لكنني أخشى إذ أصنع هذا لأيامٍ كثيرةٍ أبدو أنني أدينكم على إهمالكم الشديد...
لست فقط أخجل بل أيضًا أخاف عليكم، فإن التعليم المستمر للذين يأخذون الأمر بجدية نافع ومكرم، أما بالنسبة للمتهاونين فضار وخطير للغاية. كلما سمع الشخص أكثر اقترب بالأكثر إلى عقابٍ أشد إذا لم يمارس ما قيل له. لهذا يوبخ الله اليهود قائلًا: "إذ أرسلت إليهم عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلًا ولم تسمعوا" [19].
نحن نصنع هذا معكم لاهتمامنا العظيم بكم. لكننا نخشى أن يصير هذا النصح وهذه المشورة ضدكم في اليوم الرهيب .
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وأنتم فاسمعوا كلمة الرب يا جميع السبي الذين أرسلتهم من أورشليم إلىبابل.
هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل عن آخاب بن قُولايا وعن صدقيا بنمعسيا اللذين يتنبآن لكم باسمي بالكذب.
هأنذا أدفعهما ليد نبوخذنصر ملك بابل فيقتلهما أمام عيونكم.
وتؤخذ منهما لعنة لكل سبي يهوذا الذين في بابل فيُقال يجعلك الرب مثل صدقيا ومثل أخآب اللذين قلاهما ملك بابل بالنار.
من أجلٍ أنهما عمِلا قبيحًا في إسرائيل وزنيا بنساء أصحابهما وتكلما باسمي كلامَّا كاذبًا لم أوصهما به وأنا العارف والشاهد يقول الرب" [20-23].
إن كان الله يرد المسببين بعد توبتهم ورجعوهم إليه بكل قلوبهم فهو أيضًا يؤدبالذين بقوا في يهوذا، الذين لم يسمعوا لصوته خلال أنبيائه. إنهم التين الرديء جدًا الذي لا يُؤكل بسبب ردائته (إر 24).
عاد ليتحدث عن الأنبياء الكذبة الذين سُبوا، محددًا بالاسم أخاب بن قُولايا وصدقيا بن معسيا، هذان اللذان تكلما بالكذب فسُبيا في عام 597 ق.م؛ وعوض التوبة ارتكبا الزنا مع نساء أصحابهما، فارتبط فساد كلامهما بفساد سيرتهما، فاستحقا أن يقليهما نبوخذ نصر بالنار ليصيرا عبرة ومثلًا للعنة!
اُستخدمت عقوبة "القلي" أو "الإلقاء في النار" أحيانا خلال تقديس الوثنيين للنار، كأنهم يقدمون ذبائح بشرية فيها.
ان الشخصين المذكورين هنا لم نسمع عنهما في غير هذا المكان. ولعلَّ إرميا لم يعرفهما شخصيًا، بل سمع عنهما في رسالة من الرسائل التي وردت إلى أورشليم من المسبيين.
يرى القديس جيروم أن هذين النبيين الكاذبين يشيران إلى الذين هم خارج الكنيسة، الذين يحرقهم عدو الخير كما بالنار، فيقليهما، لكنه لا يكف عن محاربة الذين في الداخل لكي يفسد كنيسة المسيح، إذ يقول: [لا يتطلع الشيطان إلى غير المؤمنين فإن هؤلاء في الخارج يحرقهم الملك الأشوري في الأتون [22]، وإنما إلى كنيسة المسيح إذ يسرع ليفسدها (إش 8: 1)، وكما جاء في حبقوق أن "طعامه من المختار" (حب 1: 16) (السبعينية)].
2. رسالة إلى شمعيا:

24 «وَكَلِّمْ شِمْعِيَا النِّحْلاَمِيِّ قَائِلًا:

تحدث إرميا إلى ثلاث مجموعات:
الذين أخذوا إلى السبي (10-14)؛
والذين لحقوا بهم بعد ذلك (15-29)؛
ثم الأنبياء الكذبة في بابل (20-23)،
وأخيرًا رسالة خاصة إلى نبي كاذب يُدعى شمعيا.
كان لرسالة إرميا النبي إلى المسبيين أثرها عليهم، كما سببت حالة ثورة وغضب شديد خاصة بين الأنبياء الكذبة هناك، فهاجموها بعنف.
بعث إرميا رسالة إلىنبي كاذب سبي عام 597 ق.م. يدعى شمعياالنحلامي الذي أرسل رسائل إلى الشعب وإلى صفنيا بن معسيا الكاهن وكل الكهنة يثيرهم ضد إرميا النبي، ويحتج لدى السلطات في أورشليم على رسالة إرميا بالقبض عليه ومحاكمته. لا نعرف شيئًا عنه، ربما كان موطنه نحلام وهي غير معروفة أم لا. ربما دُعي النحلامي لأنه كان من الحالمين إذ كان يَدَّعِي أن الله يتحدث إليه خلال الأحلام؛ أو لأنه لقب خاص باسرته.
لم يرسل شمعيا إلى إرميا النبي ليبرر موقفه أو يعلن توبته إنما كتب ليثير الكل ضده... كتب كصاحب سلطان بروح العجرفة والكبرياء.
3. رسالة من شمعيا إلى صفنيا:

24 «وَكَلِّمْ شِمْعِيَا النِّحْلاَمِيِّ قَائِلًا:
25 هكَذَا تَكَلَّمَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ قَائِلًا:
مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ أَرْسَلْتَ رَسَائِلَ بِاسْمِكَ إِلَى كُلِّ الشَّعْبِ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ، وَإِلَى صَفَنْيَا بْنِ مَعْسِيَّا الْكَاهِنِ، وَإِلَى كُلِّ الْكَهَنَةِ قَائِلًا:
26 قَدْ جَعَلَكَ الرَّبُّ كَاهِنًا عِوَضًا عَنْ يَهُويَادَاعَ الْكَاهِنِ، لِتَكُونُوا وُكَلاَءَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ لِكُلِّ رَجُل مَجْنُونٍ وَمُتَنَبِّئٍ، فَتَدْفَعُهُ إِلَى الْمِقْطَرَةِ وَالْقُيُودِ.
27 وَالآنَ لِمَاذَا لَمْ تَزْجُرْ إِرْمِيَا الْعَنَاثُوثِيَّ الْمُتَنَبِّئَ لَكُمْ.
28 لأَنَّهُ لِذلِكَ أَرْسَلَ إِلَيْنَا إِلَى بَابِلَ قَائِلًا: إِنَّهَا مُسْتَطِيلَةٌ.
ابْنُوا بُيُوتًا وَاسْكُنُوا، وَاغْرِسُوا جَنَّاتٍ وَكُلُوا ثَمَرَهَا».
29 فَقَرَأَ صَفَنْيَا الْكَاهِنُ هذِهِ الرِّسَالَةَ فِي أُذُنَيْ إِرْمِيَا النَّبِيِّ. [24-29].

كان صفينا في ذلك الوقت رئيسًا لحرس الهيكل. لا نعرف شيئًا عن "صفنيا" ولا عن يهوياداع (آية 26) وغيرهما على وجه التحقيق، لكنهم كانوا بلا شك معروفين تمامًا للقراء والسامعين في ذلك الزمن.
لم يرسل شمعيا باسم الله بل باسمه الشخصي متهمًا إرميا أنه قد بعث روح الاستكانة والخنوع وسط المسبيين، إذ طالبهم أن يبنوا بيوتًا ويغرسوا جنات كمن هم مستقرين في بابل.
ليس عجيبًا أن يتهم النبي الكاذب رجل الله الحقيقي بأنه قد عيَّن نفسه بنفسه.
كتب شمعيا إلى صفنيا ليثيره حاسبًا أن الله أقامه عوض يهوياداع لا لشيء إلا ليضطهد أنبياء الله الحقيقيين مثل إرميا الذي حسبه رجلًا مجنونًا. هكذا كان الأشرار يحسبون الأنبياء الحقيقيين مختلّي العقل (2 مل 9: 11، أع 26: 24؛ 2: 13، 15، 17، 18). كان إرميا رمزًا للسيد المسيح الذي اُتهم هكذا من أقربائه أنه مختل العقل (يو 10: 20).
لم تصلنا بقية رسالة إرميا لشمعيا، ولكن ما وصل إلينا هو ملخص رسالة شمعيا لصفنيا، وقام الأخير بقراءتها علانية أمام إرميا، ربما لتحذيره من شمعيا.
4. رسالة إلى المسبيين:

30 ثُمَّ صَارَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا قَائِلًا:
31 «أَرْسِلْ إِلَى كُلِّ السَّبْيِ قَائِلًا:
هكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِشِمْعِيَا النِّحْلاَمِيِّ:
مِنْ أَجْلِ أَنَّ شِمْعِيَا قَدْ تَنَبَّأَ لَكُمْ وَأَنَا لَمْ أُرْسِلْهُ، وَجَعَلَكُمْ تَتَّكِلُونَ عَلَى الْكَذِبِ.
32 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
هأَنَذَا أُعَاقِبُ شِمْعِيَا النِّحْلاَمِيَّ وَنَسْلَهُ.
لاَ يَكُونُ لَهُ إِنْسَانٌ يَجْلِسُ فِي وَسْطِ هذَا الشَّعْبِ،
وَلاَ يَرَى الْخَيْرَ الَّذِي سَأَصْنَعُهُ لِشَعْبِي، يَقُولُ الرَّبُّ،
لأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِعِصْيَانٍ عَلَى الرَّبِّ». [28-32].

كتب إرميا إلىالمسبيين بخصوص النبي الكاذب شمعيا بعبارات تقارب ما كتبه عن حنانيا (إر 28: 15-16)، فقد حُرم من الخير النهائي، أي عودة البقية الأمينة إلى يهوذا والتي كان يمكن أن تشمله هو وبيته. لم يصدر هذا الحكم من إرميا كرغبة في الانتقام الشخصي، إنما هو حكم إلهي صادر من أجل الشعب كله، وما على النبي إلا إعلانه.
قد نستغرب من صرامة إرميا في ردّه على مكتوب شمعيا [31]، لكن ذلك كان بناء على أمرٍ إلهي، لكن لا يجوز لنا أن نرد هكذا على مقاومينا، ولا أن نرجو لهم شرًا أو موتًا سريعًا (مت 5: 44).
من وحي إرميا 29

إسندني في أرض السبي!


* أدبت شعبك بالسبي البابلي،
وفي حبك لم تتجاهلهم!
بعثت إليهم رسالة خلال نبيك إرميا تطمئنهم،
* لأسمع صوتك في أرض السبي وأتقبل رسائلك!
علمني أن أشعر بالاستقرار مهما طالت أيام غربتي،
لأستريح فيك، فأنت وحدك راحتي.
أعيش كما في وادي الدموع،
لكنك تمد يدك لتمسح كل دمعة من عيني!
* هب لي القلب المتسع فأصلي،
أصرخ في أعماقي حتى أتمم أيام السبي بسلام،
أصلي لأجل الذين حولي...
حقًا ليتسع قلبي بالحب حتى نحو مضايقيّ!
* هب لي ألا يكون السبي علة للتذمر،
ولا مجالًا للانحراف،
بل فرصة للتوبة والرجوع إلى أحضانك.
اشتهي أن أتحرر لا من أرض السبي بل من عبودية العدو!
أنطلق لا إلى أرض يهوذا،
بل إلى أحضان الآب.
اشتهي الهيكل غير المصنوع بيدٍ بشرية،
أتمتع بالشركة مع طغمات السمائيين!
* أخيرًا أكرر صراخي إليك:
اسندني في أرض السبي!
هب لي حياة الشكر الدائم!
هيئني بروحك القدوس للحياة المجيدة!







Mary Naeem 06 - 10 - 2023 02:12 PM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/169062724887711.jpg


سفر تعزية

"العودة وقيام مملكة يهوذا"





تقطع هذه الأصحاحات التسلسل التاريخي لسير الأحداث التي يذكرها باروخ الكاتب، وهي تمثل مجموعة من أقوال النبي مأخوذة من مراحل مختلفة من خدمته. تسمى هذه الأصحاحات الأربع "سفر تعزية"، يمكن أن تُدعى "تسبحة نصرة الخلاص والحرية"، تعبر عن الرجاء المستقبلي أكثر منها الحكم والتأديب كما جاء في الأصحاحات السابقة.
مع تحذيرات إرميا المستمرة ودموعه التي لا تجف وتأكيده للسبي لم يفارقالرجاء كلماته قط، فبالنسبة له لم تكن العقوباتغاية أو نهاية لأحاديثهبل وسيلة للكشف عن الدخول فيعلاقةٍ جديدةٍ مع الله وعهدٍ جديدٍ. يبقى الله أمينًا في مواعيده وغني في نعمته، يود أن يفيض بها على المؤمنين في الوقت المناسب، خاصة بعد عبور زمن التأديب.
جاءت مقدمة هذه الأصحاحات (إر 30: 1-3) تحمل نغمة العزاء المملوء فرحًا، أماقمتها ففي (إر 31: 31-34).
إن كانت العقوبات قد وُجهت ضد يهوذا لكنه يوجه العزاء إلى إسرائيل ويهوذا معًا (إر 30: 4)، يقدمه في شيءٍ من التفصيل لكي ينشغل به المؤمن في لحظات التأديب فلا يسقط في حالة قنوط بل يمتلئ رجاءً في الرب.
يعلن الله لنبيه كما لكل نفسٍ مقدسةٍ عن مقاصده من جهة شعبه، حتى تطمئن وتستريح في الرب، مدركة أنه دائمًا يعمل لبنيان كنيسته ومجدها الأبدي.
عودة مجيدة

يرى البعض أن هذا الأصحاح والذي يليه جاءا في وقت مبكر عن الأصحاحين (32، 33)، اللذين ينتسبا إلى السنة العاشرة من مُلك صدقيا. كتُبا ليُحفظا لاستخدامها في وقت متأخر .




1. مقدمة لسفر التعزية:

1 اَلْكَلاَمُ الَّذِي صَارَ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ قَائِلًا:
2 «هكَذَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ قَائِلًا:
اكْتُبْ كُلَّ الْكَلاَمِ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَيْكَ فِي سِفْرٍ،
3 لأَنَّهُ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَرُدُّ سَبْيَ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا، يَقُولُ الرَّبُّ
، وَأُرْجِعُهُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُ آبَاءَهُمْ إِيَّاهَا فَيَمْتَلِكُونَهَا». [1-3].

مقدمة كتبها جامع هذه النبوات، تحوى الموضوع الرئيسي للرجاء في التجديد والاصلاح الواردين في الأصحاحات (30-33).
صدر الأمر الإلهي لإرميا أن يسجل ما يسمعه من الله في كتاب، لكي تقرأه الأجيال القادمة، فمن جانب إذ يتحقق التحرر من السبي بعد السبعين عامًا تدرك الأجيال أمانة الله في وعوده التي ظنها البعض مستحيلة. ومن جانب آخر فإن هذا السبي يمس حياة البشرية عبر العصور... الكل محتاج أن ينصت إلى وعود الله بالتحرر من سبي الخطية، والانطلاق من بابل الزانية إلى أورشليم الداخلية، أي يتحول القلب من الفساد إلى بر المسيح.
يستخدم تعبير: "ها أيام تأتي" [2] في النبوات عنالأحداث المقبلة سواء في المستقبل القريب أو الأحداث الأخروية .
جاء النص العبريلقوله "أرد سبيشعبي" [3]. لتقديم بركات أو نعم للشعب، وليست بالضرورة عتق من السبي وذلك كما في (أيو 42: 10، حز 16: 53).
الوعد موجه للمملكتين الشمالية (إسرائيل) والجنوبية )يهوذا)، إذ ذابا معًا في السبي وعادا كشعبٍ واحدٍ، وصار الكل تينًا جيدًا جدًا (ص 24). لعله من خطة الله في السبي أنه إذ انقسم الشعب إلى مملكتين، لم يكن هناك طريق للوحدة إلا من خلال نير السبي.
لم يقف الوعد عند عودة الشعب في وحدة إلى أرض آبائهم، وإنما صاروا "يمتلكونها" [3]. ماذا يعني بقوله: "يمتلكونها"؟ حقًا إنها أرض الموعد، هبة الله لهم، لكنه يؤكد لهم أنهم يمتلكونها لا تمتلكهم. فقد عاش اليهود خلال الفكر الحرفي تمتلكهم الأرض، تشغلهم أرض الموعد ككل ومدينة الله أورشليم وهيكله... لا ليتمتعوا بسكنى الله القدوس في وسطهم فيتقدسون، وإنما لممارسة العبادة بحرفية قاتلة، حتى إن اختلطت عبادتهم بالعبادة الوثنية أو الرجاسات. لذلك يؤكد الله لهم: "تمتلكونها" أي تكون هذه العطايا الإلهية بمقدساتها لخدمتكم، أي لتقديس أعماقكم. يريدنا أن نكون ملوكًا مقدسين نحمل سلطانًا روحيًّا.
2. كارثة يعقوب وخلاصه:

4 فَهذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عَنْ إِسْرَائِيلَ وَعَنْ يَهُوذَا: 5 «لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: صَوْتَ ارْتِعَادٍ سَمِعْنَا. خَوْفٌ وَلاَ سَلاَمٌ. 6 اِسْأَلُوا وَانْظُرُوا إِنْ كَانَ ذَكَرٌ يَضَعُ! لِمَاذَا أَرَى كُلَّ رَجُل يَدَاهُ عَلَى حَقْوَيْهِ كَمَاخِضٍ، وَتَحَوَّلَ كُلُّ وَجْهٍ إِلَى صُفْرَةٍ؟ 7 آهِ! لأَنَّ ذلِكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ وَلَيْسَ مِثْلُهُ. وَهُوَ وَقْتُ ضِيق عَلَى يَعْقُوبَ، وَلكِنَّهُ سَيُخَلَّصُ مِنْهُ. 8 وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، أَنِّي أَكْسِرُ نِيرَهُ عَنْ عُنُقِكَ، وَأَقْطَعُ رُبُطَكَ، وَلاَ يَسْتَعْبِدُهُ بَعْدُ الْغُرَبَاءُ، 9 بَلْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ إِلهَهُمْ وَدَاوُدَ مَلِكَهُمُ الَّذِي أُقِيمُهُ لَهُمْ. 10 «أَمَّا أَنْتَ يَا عَبْدِي يَعْقُوبَ فَلاَ تَخَفْ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلاَ تَرْتَعِبْ يَا إِسْرَائِيلُ، لأَنِّي هأَنَذَا أُخَلِّصُكَ مِنْ بَعِيدٍ، وَنَسْلَكَ مِنْ أَرْضِ سَبْيِهِ، فَيَرْجعُ يَعْقُوبُ وَيَطْمَئِنُّ وَيَسْتَرِيحُ وَلاَ مُزْعِجَ. 11 لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأُخَلِّصَكَ. وَإِنْ أَفْنَيْتُ جَمِيعَ الأُمَمِ الَّذِينَ بَدَّدْتُكَ إِلَيْهِمْ، فَأَنْتَ لاَ أُفْنِيكَ، بَلْ أُؤَدِّبُكَ بِالْحَقِّ، وَلاَ أُبَرِّئُكَ تَبْرِئَةً.

"فهذا هو الكلام الذي تكلم به الرب عن إسرائيل وعن يهوذا.
لأنه هكذا قال الرب:
صوت ارتعاد سمعنا. خوف ولا سلام.
اسألوا وانظروا إن كان ذكر يضع.
لماذا أرى كل رجل يداه على حقويه كماخضٍ وتحول كل وجه إلى صفرة.
آه! لأن ذلك اليوم عظيم وليس مثله.
وهو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه" [4-7].
يوجه حديثه إلى إسرائيل ويهوذا، فيبدأ بإسرائيل لأنه سُبي أولًا، وبالتالي تكون فترة سبيه أطول مما ليهوذا.
بينما ينادي الأنبياء الكذبة أنه سلام وآمان، إذا بالنبي يعلن أنه "صوت ارتعاد... خوف ولا سلام" [5]. يرى البعض أن "صوت الارتعاد" [5] يشير إلى ما حدث من كورش على بابل، فقد حدث ارتباك شديد، ولم يدرك الشعب الأسير ماذا سيكون مصيره. هل هذه الحرب لصالحه أم ضده؟! هل يفقد ما قد جمعه في بابل أم يعطيه فرصة للعودة إلى أرض الموعد؟‍‍‍‍‍‍‌‌! دخل يعقوب في ضيق حين هاجمت جيوش مادي وفارس بكل طاقاتها البابليين ولم يدرك يعقوب أنه يوم خلاصٍ له بواسطة كورش الفارسي.
من هول الكارثة مع العجز عن التصرف وضع كل رجلٍ يديه على حقويه كامرأة في حالة مخاض، وقد صارت وجوههم شاحبة. ترمز حالة المخاض في إرميا إلى شدة الكارثة (إر 4: 31؛ 6: 24؛ 22: 23). هكذا يصور آلام السبي بآلام الولادة، فهي وإن كانت مرّة وقاسية، لكنها مقدمة لخلاص الله (عا 5: 18-20؛ صف 1: 14-18).
جاء الحديث عن الضيق مقتضب جدًا، لأنه حدث لفترة قصيرة تلاه خلاص وعودة للشعب. وكأنه آلام مخاض سريع يليه فرح بالطفل المولود.
يقول: "اسألوا وانظروا" [6]، فإن خلاص الله لم يُسمع مثله من قبل، وكما أننا لا نجد ذكرًا يئن من آلام مخاضٍ ليلد، هكذا تكون الضيقة فريدة والخلاص غير متوقع! حينما تقف كل حكمة بشرية وتوقع إنساني يعمل الله إله المستحيلات عجائب!

يُقدم لنا الخلاص في هذا الأصحاح هكذا:

أ. تمتع بالحرية من نير الخطية [8].
ب. تمتع بداود الملك [9].
ج. السلام والراحة [10].
د. المعية مع الله [11].
ه. تحويل التأديب إلى خلاص [11].
و. شفاء الجراحات عديمة البرء [12-17].
ز. إقامة مدينة متهللة نامية [18-23].
أ. تمتع بالحرية من نير الخطية [8]:

"ويكون في ذلك اليوم يقول رب الجنود أني أكسر نيره عن عنقك وأقطع ربطك ولا يستعبده بعد الغرباء" [8].
يقدم هذا الوعد الإلهي "رب الجنود" نفسه واهب الحرية، فهو يكسر النير عن عنقنا، ويقطع ربطنا، ولا يعود يستعبدنا غرباء! لقد أكد السيد المسيح: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 36). حمل نير الصليب ليكسر نير خطايانا، وربط جسده على الصليب بالمسامير، لكي يحل رباطاتنا، ودفع حياته ودمه ثمنًا كي لا نعود نُستعبد بعد للغرباء.
ماذا يعني بقوله: "لا يستعبده بعد الغرباء؟" حين نحني رقبتنا لمسيحنا الذي صار أخًا بكرًا ونستعبد أنفسنا بالحب لله أبينا، نستعذب هذه العبودية الإرادية التي تحملنا إلى شركة المجد الإلهي، تنزع عنا عارنا وضعفنا وفسادنا لنحيا مع الله في أحضانه. أما من يرغب في التحرر من العبودية لله النابعة عن علاقات الحب، فإنه يستعبد نفسه لغرباء كثيرين. لهذا يقول القديس أرسانيوس: كن عبدًا لسيدٍ واحدٍ (الله) فلا تُستعبد لكثيرين! شتان ما بين عبودية الحب الإرادية لله والعبودية للخطايا ولإبليس وجنوده، هذه التي تدفع بالإنسان إلى الحرمان والهوان والمذلة!
ب. تمتع بداود الملك [9]:

"بل يخدمون الرب إلههم وداود ملكهم الذي أقيمه لهم" [9].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم"اعتاد الأنبياء أن يدعو كل واحدٍ من الملوك الصالحين داود" .كما يقولإن كثير من الأنبياء (حز 34: 23-24؛ 27: 24-25، هو 3: 5) يتحدثون عن داود كقادمٍ وقائمٍ مرة أخرى، لا يعنون بهذا داود الذي مات بل أولئك الذين يبارون فضيلته... عظيم هو مجد الإنسان الذي مع الله ومع الناس!
هنا يعد بأن يملك داود على شعبه، بينما نعلم أنه لم يقم ملك قط من نسل داود بعد العودة من السبي. حقًا لقد تم الرجوع على يد زربابل من نسل داود لكنه لم يُقم ملكًا. لقد خضع اليهود لكورش الفارسي وإسكندر المقدوني ثم للدولة الرومانية... فأين داود الملك؟ إنه المسيا الملك (إش 9: 7، لو 1: 32). يتم الخلاص بمجيء ابن داود المسيا المخلص، يملك على النفس ويقيم فيها مملكته بالخلاص.
إذ ترفض النفس أن يملك الله فيها يعطيها الله سؤل قلبها فتُستعبد لملوك غرباء كثيرين، وينحني عنقها للنير أو الأنيار، وإذ ترجع للرب تجد الله نفسه ملكها، والمخلص ابن داود يرعاها الذي قيل عنه: "يعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو 1: 32-33). هذا الذي يقيم خيمته الساقطة في داخل النفس، فيحولها من الخراب إلى مملكة داود المجيدة المفرحة. هكذا يتحقق في داخلها الوعد الإلهي: "ها أيام تأتي يقول الرب، وأقيم لداود غصن برٍ، فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلًا في الأرض" (إر 23: 5). تخضع كل طاقات النفس والجسد للملك الحيّ داود، وتصير هذه الطاقات "بني إسرائيل الطالبين الرب إلههم، الخاضعين بالحب لداود ملكهم". وكما يقول هوشع النبي: "بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده في آخر الأيام" (هو 3: 5).
ج. تمتع بالسلام والرحمة:

"أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف يقول الرب،
ولا ترتعب يا إسرائيل،
لأني هأنذا أخلصك من بعيد ونسلك من أرض سبيه فيرجع يعقوب ويطمئن ويستريح ولا مزعجٍ" [10].
إذ تخضع النفس لداود الملك، يحملها بكل طاقاتها من بابل ويدخل بها إلى مملكته، بل ويقيم منها مملكة سلامٍ فائقٍ، لا يقدر عدو أن يقتحم أسوارها أو ينهب آنيتها المقدسة!
ترجع النفس إلى حضن الآب بيتها الحقيقي بعد زمان تعزيتها، ويرجع الرب إلى أعماقها، ويقيم مملكته التي تفيض سلامًا بغير توقف.
يلاحظ هنا [10] أنه يؤكد أن الخلاص الممنوح لهم يُقدم لهم خلال نسلهم، لكي لا يظنوا أن العودة تتم في أيامهم بل في الأجيال القادمة، بل بعد إتمام السبعين عامًا.
مع عجز الإنسان التام عن الخلاص يتدخل الله ليخلص يعقوب من ضيقه، كاسرًا نير السبي عن عنقه، هذا يتبعه الطاعة والخدمة لله وقبول الملك الجديد "المسيا" بكونه داود الملك [9] (هو 3: 5؛ حز 34: 23-24؛ 37: 24-25).
آلام السيد المسيح مع كونها قاسية وعنيفة لكنها نافعة وضرورية لخلاص البشرية.
هنالأول مرة يشار إلىيعقوب بكونه "عبدي" ويُعرف بكونه "إسرائيل". يوجد تشابه هنا بما ورد في (إش 41: 8-10؛ 43: 1-6؛ 44: 2-5 إلخ).
لعله كان أمام إرميا النبي كلمات إشعياء النبي: "ويكون في ذلك اليوم أن حمله يزول عن كتفك ونيره عن عنقك ويتلف النير بسبب السمانة" (إش 10: 27).
يلاحظ هنا أن النبوة لم تشر قط إلى السبي البابلي وانهياره وإنما إلى انهيار كل الأمم [11] التي يستخدمها الله لتأديب شعبه. إنها ليست نبوة خاصة بزمنٍ معين لكنها كلمة الله التي تمس حياة الكنيسة عبر كل العصور، التي يؤدبها الله لكي تقبل عمله الخلاصي في حياتها حتى إن ظهرت كمن قد تبددت بين كل الأمم.
د. تحويل التأديب إلى خلاص:

"لأني أنا معك يقول الرب لأخلصك.
وإن أفنيت جميع الأمم الذين بددتك إليهم فأنت لا أفنيك بل أؤدبك بالحق ولا أبرئك تبرئة" [11].
يجيب الأب ثيؤدور عن السؤال: لماذا يسمح الله بالضيقات مؤكدًا أنها إما لاختبار المؤمنين أو لإصلاحهم أو كعقوبة عن الخطايا... مقدمًا لنا الحديث الإلهي هنا كعينة للسماح بالضيقات لأجل التأديب: [عندما يؤدب أبراره من أجل خطاياهم البسيطة (اللاإرادية) والهفوات، لكي ما يسمو بهم إلى حالٍ أعظم من النقاء، مطهرًا إياهم من الأفكار الدنسة... وذلك كالقول "كثيرة هي بلايا الصديقين" (مز 34: 19)، "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابنٍ يقبله...
فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟! ولكن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول (أولاد غير شرعيين) لا بنون" (عب 12: 5-8). وفي سفر الرؤيا: "إلى كل من أحبه أوبخه وأودبه"... ويُصلي داود من أجل عطية التطهير هذه قائلًا: "جربني يا رب وامتحني، صفِ كليتي وقلبي" (مز 26: 2)، وإذ يعلم النبي قيمة هذه التجارب يقول: "أدبني يا رب ولكن بالحق لا بغضبك" (إر 10: 24)، وأيضًا: "احمدك يا رب لأنه إذ غضبت عليَّ ارتد غضبك فتعزيني" (إش 12: 1)].
حينما يتحدث الله عن أولاده يقول: "لا أفنيك بل أؤدبك"، أما بالنسبة للأمم فيقول "أفنيهم". كأن الله في تأديبه لنا يطلب خلاصنا ونمونا، لكنه يحطم الأمم (أي الخطايا) أو مملكة إبليس التي حتمًا تنهار أمام مملكة الله!
3. شفاء جراحات صهيون غير القابلة للبرء:

12 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
كَسْرُكِ عَدِيمُ الْجَبْرِ وَجُرْحُكِ عُضَالٌ.
13 لَيْسَ مَنْ يَقْضِي حَاجَتَكِ لِلْعَصْرِ. لَيْسَ لَكِ عَقَاقِيرُ رِفَادَةٍ.
14 قَدْ نَسِيَكِ كُلُّ مُحِبِّيكِ.
إِيَّاكِ لَمْ يَطْلُبُوا. لأَنِّي ضَرَبْتُكِ ضِرْبَةَ عَدُوٍّ، تَأْدِيبَ قَاسٍ،
لأَنَّ إِثْمَكِ قَدْ كَثُرَ، وَخَطَايَاكِ تَعَاظَمَتْ.
15 مَا بَالُكِ تَصْرُخِينَ بِسَبَبِ كَسْرِكِ؟!
جُرْحُكِ عَدِيمُ الْبَرْءِ، لأَنَّ إِثْمَكِ قَدْ كَثُرَ، وَخَطَايَاكِ تَعَاظَمَتْ، قَدْ صَنَعْتُ هذِهِ بِكِ.
16 لِذلِكَ يُؤْكَلُ كُلُّ آكِلِيكِ، وَيَذْهَبُ كُلُّ أَعْدَائِكِ قَاطِبَةً إِلَى السَّبْيِ، وَيَكُونُ كُلُّ سَالِبِيكِ سَلْبًا، وَأَدْفَعُ كُلَّ نَاهِبِيكِ لِلنَّهْبِ.
17 لأَنِّي أَرْفُدُكِ وَأَشْفِيكِ مِنْ جُرُوحِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ.
لأَنَّهُمْ قَدْ دَعَوْكِ مَنْفِيَّةَ صِهْيَوْنَ الَّتِي لاَ سَائِلَ عَنْهَا. [12-17].

كانت هناك أسباب كثيرة تدعو إلى اليأس، فقد حلّ السبي، وصارت جراحات الشعب غير قابلة للبرء، لقد ضُربوا ضربةً مميتة، وليس من طبيبٍ ماهر يقدر أن يعالج ولا من بلسان يشفي المرض... بقى طبيب واحد هو الله مخلص شعبه الصانع العجائب، إله المستحيلات الذي يقدم نفسه بلسانًا لهم فيشفيهم. والعجيب أنه لا ينتظر من يدعوه أو من يأتي إليه ليعرض جراحاته، بل في حبه الباذل يتقدم من تلقاء نفسه [7] كطبيبٍ للنفس ومحررٍ لها. إنه يفتش عن المجروحين والمسبيين والمطرودين والمرذولين... حين تقف كل الأذرع البشرية عاجزة تظهر يد المسيا المخلصة والشافية.
لكي يؤكدالحاجة إلى تدخل إلهي للإصلاح أوضح خطورة الموقف. إنها في حالة لا يُرجى إصلاحها، ولا يوجد من يهتم بها. جُرحت بسبب خطاياها، ووسط هذه الجراحات فقدت حتى محبيها الذين اشتركت معهم في الخطايا... فازدادت الآلام آلامًا. وكما قيل في هوشع النبي: "ورأي أفرايم مرضه ويهوذا جُرحه، فمضى أفرايم إلى آشور وأرسل إلى ملك عدُوّ ولكنه لا يستطيع أن يشفيكم ولا أن يزيل منكم الجرح" (هو 5: 13).
مصر التي شجعت يهوذا على التمرد أكثر من مرة لم تعد تسندها. ففي عام 588 ق.م. انسحب الجيش المصري أمام البابليين وسقطت أورشليم بعد قليل (إر 37: 1 إلخ). إنه ليس من ينقذ غير الرب نفسه.
فجأة يتحول إرميا من الحديثعن العقوبة والتأديب إلى إعلان الخلاص [15-16]. الله يستخدم نبوخذنصر عبده ليتمم مقاصده بتأديب شعبه بعدئذ يأتي الوقت ليسلم بابل للدينونة. بهذا تصير الجراحات التي بلا شفاء قابلة للشفاء [17]، فإن الغير مستطاع عند الناس مستطاع لدى الله (مر 10: 27).
لقد سمح الله بقيام بابل لتحطيم آشور، وقيام مادي وفارس لتحطيم بابل، وقيام اليونانيين (إسكندر المقدوني) لتحطيم فارس ومصر (فرعون) إلخ... هكذا تنهار كل قوى العالم وتحطم بعضها البعض، أما النفس التي تلتصق بالله مخلص فتنال قوة فوق قوة، ومجدًا فوق مجدٍ!
الشفاء الروحي أحد المكونات الأساسية لعمل الله الخلاصي في المسيح (يوئيل 2: 25).
إذ تُشفي النفس من جراحاتها المستعصية وذلك بجراحات المصلوب لا تعود بعد تُدعى "منفية صهيون التي لا سائل عنها" [17]، بل "المطلوبة، المدينة غير المهجورة" (إش 62: 12). تصير المحبوبة لدى الله والساكنة في أحضانه. كلمة "منفية" هنا تشير إلى زوجة مطرودة من رجلها أو مهجورة منه... الآن تعود كعروسٍ محبوبةٍ يلتصق بها رجلها، ويتحد معها.
يتحدث الآباء عن السيد المسيح كطبيبٍ سماوي قادر وحده أن يشفي الجراحات المستعصية:
* حقًا يود الطبيب السماوي أن يكافئ التائبين المملوئين ندامة بل بالأحرى الأسخياء في العطاء، لا بتقديم المغفرة لهم فحسب بل والإكليل.
الأب قيصريوس أسقف آرل
4. إصلاح يعقوب:

18 « هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
هأَنَذَا أَرُدُّ سَبْيَ خِيَامِ يَعْقُوبَ، وَأَرْحَمُ مَسَاكِنَهُ، وَتُبْنَى الْمَدِينَةُ عَلَى تَلِّهَا، وَالْقَصْرُ يُسْكَنُ عَلَى عَادَتِهِ.
19 وَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْحَمْدُ وَصَوْتُ اللاَّعِبِينَ،
وَأُكَثِّرُهُمْ وَلاَ يَقِلُّونَ،
وَأُعَظِّمُهُمْ وَلاَ يَصْغُرُونَ.
20 وَيَكُونُ بَنُوهُمْ كَمَا فِي الْقَدِيمِ، وَجَمَاعَتُهُمْ تَثْبُتُ أَمَامِي، وَأُعَاقِبُ كُلَّ مُضَايِقِيهِمْ.
21 وَيَكُونُ حَاكِمُهُمْ مِنْهُمْ، وَيَخْرُجُ وَالِيهِمْ مِنْ وَسْطِهِمْ، وَأُقَرِّبُهُ فَيَدْنُو إِلَيَّ، لأَنَّهُ مَنْ هُوَ هذَا الَّذِي أَرْهَنَ قَلْبَهُ لِيَدْنُوَ إِلَيَّ، يَقُولُ الرَّبُّ؟
22 وَتَكُونُونَ لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ إِلهًا». [18-22].

يقدم لهم وعود إلهية ثابتة:
- يتمتع الشعب بالقلب الجديد الذي يطيع العهد.
- ينزع الله عنهم أغلال السبي والعبودية.
- يعاقب الله الذين سبوهم.
- يردهمإلى أرضهم في سلام مع بركات وعطايا.
- يرد سبي خيام يعقوب.
- إعادة بناء المدينة والقصر الملكي [18]. عوض الخيام تُقام مبانٍ للاستقرار، ويُعاد بناء الهيكل والقصر الملكي... هذا ما حدث بعد عودة الشعب من بابل.
- تتحول حياتهم إلى الفرح والتسبيح [19]. وكما قيل بزكريا النبي: "سيجلس بعد الشيوخ والشيخات في أسواق أورشليم كل إنسانٍ منهم عصاه بيده من كثرة الأيام. وتمتلئ أسواق المدينة من الصبيان والبنات لاعبين في أسواقها" (زك 8: 4-5).
- يباركهم فينمون ويكثرون[19].
- يعظمهم فلا يصغرون [19].
- يثّبت بنوهم أمام الرب [20].
- يجعل منهم حكامًا وولاة [21]، ويقوم الله نفسه برعايتهم إذ يهتم بسلامة قطيعه (إش 40: 11)...
- يقتربون من الله ويصيرون له شعبًا وهو إلهًا لهم [22].
5. إدراك مقاصد الله:

23 هُوَذَا زَوْبَعَةُ الرَّبِّ تَخْرُجُ بِغَضَبٍ، نَوْءٌ جَارِفٌ.
عَلَى رَأْسِ الأَشْرَارِ يَثُورُ.
24 لاَ يَرْتَدُّ حُمُوُّ غَضَبِ الرَّبِّ حَتَّى يَفْعَلَ، وَحَتَّى يُقِيمَ مَقَاصِدَ قَلْبِهِ.
فِي آخِرِ الأَيَّامِ تَفْهَمُونَهَا. [23-24].

ماذا يعني بزوبعة الغضب الإلهي التي تحل برأس الأشرار إلا الانهيار والدمار الذي يحل بملك بابل؟! إذ يحل الغضب على الرأس ينهار الجسد كله!
لنسلم رؤوسنا في يد الله الذي يقدسها، فتحل عليها البركة لا اللعنة، عندئذ يتقدس الجسد كله. أقصد بالرأس هنا "الفكر"، حيث تُمتص أفكارنا في الرب، وتنسحب إلى سمواته وتحمل حياتنا السمة السماوية.
جاءت نفس العبارات في (إر 19: 23-20) مع اختلافات بسيطة. فيها يوضح أن الحق غير مدرك بواسطة الأنبياء الكذبةبل بواسطة ذاك الذي يقف في مجلس الله.
مقاصد الله ثابتة لكنها لا تفهم الآن بل حينما تتحقق في ذلك اليوم الذي ليس هو ببعيدٍ.
من وحي إرميا 30

ردني من السبي

وارجعني إلى أرض البر!


* من يقدر أن يكسر نير الخطية عن عنقي،
ويحل رباطاتها، وينتزع عبوديتها،
إلا أنت يا محرر النفس؟!
الخطية غريبة عن طبيعتي التي خلقتني عليها،
بارادتك سلمت نفسي أسيرًا لها!
حررني وإرجعني إلى أرض البر أيها الرب برنا!
* استعبدت لنفسي وقبلت الأسر بإرادتي،
هب لي أن أخدمك يا إلهي وأعبدك!
لتقم مملكتك فيَّ يا ابن داود.
أقم خيمة داود الساقطة،
وأسس قصرك الملوكي في داخلي!
* متى تحررني فتستريح نفسي؟!
متى تطلقني من بابل لأعود إلى أحضان أبيك؟!
فيه استقر واطمأن... بلا رعب ولا إزعاج!
* اعترف لك... لقد تأدبت بحق،
لقد طال زمان أسري!
صارت جرحات نفسي بلا برء!
تعال أيها الطبيب السماوي!
هب لي جسدك ودمك المبذولين داوء الحياة!
* مع اعترافي بضعفي عاجز عن القدوم إليك،
قدميّ ثقيلتان للغاية،
مربوطتان كما بسلاسل في مقطرة.
لتأتِ فتشفي جراحاتي فإنك تبادر بالحب!
عوض الأسر في الغربة استقر في أحضانك!
أصير لك ابنًا واستريح معك وفيك!
عوض الخيمة الساقطة تقيم فيَّ مدينتك المقدسة!
صوت عريس وعروس،
صوت طرب ولاعبين!
عوض المذلة تجعلني ملكًا ذا سلطان!
* ردني من السبي،
ورد للمسبيين أفعالهم!
حطمتني الخطية فليحطمها صليبك!
قتلني إبليس فليقتله موتك المحيي!
أسرني العدو في أرض غريبة،
فليُلقى في نار جهنم الأبدية!
نعم أعد لي العدو فخاخًا ليأسرني إلى الأبد فسقط فيها.
اقمتني فأنعم بمجد ملكوت حريتك أبديًا!

Mary Naeem 06 - 10 - 2023 02:13 PM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/169062724887711.jpg


العهد الجديد



يظن بعض الدارسين أن أغلب ما ورد في هذا الأصحاح كتبه إرميا النبيلمملكة إسرائيل وذلك قبل السبي الأول ليهوذا سنة 597 ق.م. وأن الإشارة إلى يهوذا [3-4]،وصهيون [17] وكل عشائر إسرائيل [1] جاءت كإضافة فيما بعد لكي ينطبق الحديث على كل شعب الله.
يعتبر هذا الأصحاح تكملة للأصحاح السابق حيث يتحدث بالتفصيل عن وعود الله لشعبه الذي يخرجه من الأسر ويأتي به إلى الحرية، أو ينطلق به من أرض الغربة القاسية إلى الله نفسه "الرب برنا"!







1. وعود لكل عشائر شعبه:

1 «فِي ذلِكَ الزَّمَانِ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَكُونُ إِلهًا لِكُلِّ عَشَائِرِ إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. 2 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ وَجَدَ نِعْمَةً فِي الْبَرِّيَّةِ، الشَّعْبُ الْبَاقِي عَنِ السَّيْفِ، إِسْرَائِيلُ حِينَ سِرْتُ لأُرِيحَهُ». 3 تَرَاءَى لِي الرَّبُّ مِنْ بَعِيدٍ: «وَمَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ. 4 سَأَبْنِيكِ بَعْدُ، فَتُبْنَيْنَ يَا عَذْرَاءَ إِسْرَائِيلَ. تَتَزَيَّنِينَ بَعْدُ بِدُفُوفِكِ، وَتَخْرُجِينَ فِي رَقْصِ اللاَّعِبِينَ. 5 تَغْرِسِينَ بَعْدُ كُرُومًا فِي جِبَالِ السَّامِرَةِ. يَغْرِسُ الْغَارِسُونَ وَيَبْتَكِرُونَ. 6 لأَنَّهُ يَكُونُ يَوْمٌ يُنَادِي فِيهِ النَّوَاطِيرُ فِي جِبَالِ أَفْرَايِمَ: قُومُوا فَنَصْعَدَ إِلَى صِهْيَوْنَ، إِلَى الرَّبِّ إِلهِنَا.

"في ذلك الزمان يقول الرب أكون إلهًا لكل عشائر إسرائيل وهم يكونون لي شعبًا" [1].
بقوله "في ذلك الزمان" يشير إلى (إر 30: 24) "في آخر الأيام"، أي في المستقبل المسياني. يبدأ بذلك كنعمة إلهية وأساس للكمال والإصلاح خلال المحبة الإلهية وأمانتة في وعوده لشعبه. هذه الوعود الإلهية هي:
أ. يقيمهم شعبه:

يكمل إرميا النبيحديثه السابق عن مقاصد الله التي يعلنها موضحًا أنه: يكون هو إلهًا لكل العشائر، وهم يكونون له شعبًا، ينسب نفسه إليهم، وينسبهم إليه.
إذ رأى القديس يوحنا الحبيب أورشليم الجديدة أو السماء الجديدة دُهش، فسمع صوتًا من السماء يعرِّفه عليها قائلًا: "هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهو يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم" (رؤ 21: 3). هذه هي كنيسة السماء المنتصرة، حيث يسمع كل عضو فيها الصوت الإلهي المفرح: "من يغلب يرث كل شيء، وأكون له إلهًا، وهو يكون لي ابنًا" (رؤ 21: 7). كأن الميراث لكل شيء يعني انتسابنا له وهو لنا، إذ يصير لنا الله نفسه واهب كل الخيرات.
ب. يهبهم نعمته وراحته مقدما لهم خروجًا جديدًا:

"هكذا قال الرب:
قد وجد نعمة في البرية الشعب الباقي عن السيف إسرائيل حين سرت لأريحه" [2].
الوعد المقدم هو أن يجد الشعب "نعمة" [2]، هذه التي سبق فنالها آباؤهم حين أخرجهم الرب في البرية وحررهم من عبوديةفرعون. وقد جاء التعبير "وجد نعمة" masu hen خمس مرات في قصة الخروج (خر 33: 12-17).
أخرجهم الرب إلى البرية لكي يهبهم راحة [2].
يتطلع الشعب إلى قصة الخروج من أرض العبوديةإلى البرية تحت قيادة موسى للتمتع بأرض الموعد كعملٍ إلهي مستمرٍ عبر الأجيال، فكانوا يترقبون خروجًا جديدًا مستمرًا (هو 2: 14-15؛ إش 40: 3-4؛ 42: 14-16؛ 43: 18-21؛ 44: 27؛ 48: 21 إلخ). وقد جاء عمل المسيا المخلص كخروجٍ حقيقيٍ فيه يقدم المخلص نفسه فصحًا للبشرية كي تتحرر من عبودية إبليس وتنطلق تحت قيادة روحه القدوس في برية هذا العالم حتى تجد راحة في حضن الآب.
ج. قصة حب أبوي أبدي!

"تراءى لي الرب من بعيد.
ومحبة أبدية أحببتك،
من أجل ذلك أدمت لك الرحمة" [3].
تطلع النبي إلى عمل الله الخلاصي فرأى الرب يعمل "من بعيد" [3]؛ أي منذ القدم... قصة الحب الإلهي قصة قديمة متجددة على الدوام. ربما قال "من بعيد" لأن الإنسان ظن أنه منسى في أرض السبي بعيدًا جدًا عن أرض الموعد!
تبقى مراحمالله مستمرة عبر الزمن لأن محبته أو خلاصه أبدي!
د. يجعلهم بناءً إلهيًا:

"سأبنيكِ بعد فتُبنين يا عذراء إسرائيل" [4].
إن كان الشعب قد صار كامرأة زانية استحق التأديب بالسبي البابلي، إلا أن الله في أمانته يقيمه عذراء مقدسة [4]، يبنيها بنفسه كهيكلٍ مقدسٍ له. إنه ليس فقط يردها إلى أرض الموعد أو المدينة المقدسة أو الهيكل بل تصير هي أرضه ومدينته وهيكله، لن تمتد ذراع بشري لبنائها بل يقوم الرب نفسه بانشائها.
يتحدث القديس بولس عن الكنيسة كبيتٍ روحي، والمؤمنين كحجارة حيَّة (1 بط 1: 5).
ورأى القديس هرماس الكنيسة المنتصرة في شكل بناء ضخم، حيث بُنيت الحجارة بجوار بعضها فصارت برجًا كحجرٍ واحدٍ، وأن حجارة كثيرة رُفضت أن تكون في البناء لأنها اعتمدت على ذاتها.
ه. يجعلها عروسًا متهللّة:

تتزينين بعد بدفوفكِ وتخرجين في رقص اللاعبين" [4].
زينتها الفرحالمستمر، تخرج دومًا لتجد النفوس المحيطة ترقص وتتهلل بالرب العامل فيها وفيهم! بعد أن علقت قيثاراتها علىالصفصاف فيبابل كي لا ترنم تسبحة جديدة في أرضغريبة (مز 137: 4) ها هي تمسك بالدفوف بين أصابعها لتسبح الرب بأعمال الحب، وتتزين بالفرح الروحي، وتعيش في تهليلٍ لا ينقطع.
ز. غرس الكروم:

"تغرسين بعد كرومًا في جبال السامرة.
يغرس الغارسون ويبتكرون" [5].
الأرض التي سبق فخربها العدوعندما هاجمها وسباها، محولًا الحقول إلى مراعي غنم ومسكنًا للوحوش، الآن تعود لتُغرس كرومًا. لقد عبدوا البعل إله الخصوبة فحل بهم القحط، وصارت أراضيهم خرابًا، الآن يردهم الرب ويهب أرضهم خصوبة.
ح. شركة عبادة مفرحة:

"لأَنَّهُ يَكُونُ يَوْمٌ يُنَادِي فِيهِ النَّوَاطِيرُ فِي جِبَالِ أَفْرَايِمَ:
قُومُوا فَنَصْعَدَ إِلَى صِهْيَوْنَ، إِلَى الرَّبِّ إِلهِنَا" [6].
لم يعدالمراقبون يضربون بالبوق ليعلنوا عن مجيء العدو الذي يسبي، وإنما ليعلنوا عن قدوم الشعب من كل موضع ليصعدوا إلى صهيون يتمتعون بالرب إلهنا [6].
2. عودة إسرائيل إلى أرضه:

7 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: رَنِّمُوا لِيَعْقُوبَ فَرَحًا، وَاهْتِفُوا بِرَأْسِ الشُّعُوبِ. سَمِّعُوا، سَبِّحُوا، وَقُولُوا: خَلِّصْ يَا رَبُّ شَعْبَكَ بَقِيَّةَ إِسْرَائِيلَ. 8 هأَنَذَا آتِي بِهِمْ مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ، وَأَجْمَعُهُمْ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ. بَيْنَهُمُ الأَعْمَى وَالأَعْرَجُ، الْحُبْلَى وَالْمَاخِضُ مَعًا. جَمْعٌ عَظِيمٌ يَرْجعُ إِلَى هُنَا. 9 بِالْبُكَاءِ يَأْتُونَ، وَبِالتَّضَرُّعَاتِ أَقُودُهُمْ. أُسَيِّرُهُمْ إِلَى أَنْهَارِ مَاءٍ فِي طَرِيق مُسْتَقِيمَةٍ لاَ يَعْثُرُونَ فِيهَا. لأَنِّي صِرْتُ لإِسْرَائِيلَ أَبًا، وَأَفْرَايِمُ هُوَ بِكْرِي. 10 «اِسْمَعُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ أَيُّهَا الأُمَمُ، وَأَخْبِرُوا فِي الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ، وَقُولُوا: مُبَدِّدُ إِسْرَائِيلَ يَجْمَعُهُ وَيَحْرُسُهُ كَرَاعٍ قَطِيعَهُ. 11 لأَنَّ الرَّبَّ فَدَى يَعْقُوبَ وَفَكَّهُ مِنْ يَدِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. 12 فَيَأْتُونَ وَيُرَنِّمُونَ فِي مُرْتَفَعِ صِهْيَوْنَ، وَيَجْرُونَ إِلَى جُودِ الرَّبِّ عَلَى الْحِنْطَةِ وَعَلَى الْخَمْرِ وَعَلَى الزَّيْتِ وَعَلَى أَبْنَاءِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ. وَتَكُونُ نَفْسُهُمْ كَجَنَّةٍ رَيَّا، وَلاَ يَعُودُونَ يَذُوبُونَ بَعْدُ. 13 حِينَئِذٍ تَفْرَحُ الْعَذْرَاءُ بِالرَّقْصِ، وَالشُّبَّانُ وَالشُّيُوخُ مَعًا. وَأُحَوِّلُ نَوْحَهُمْ إِلَى طَرَبٍ، وَأُعَزِّيهِمْ وَأُفَرِّحُهُمْ مِنْ حُزْنِهِمْ. 14 وَأُرْوِي نَفْسَ الْكَهَنَةِ مِنَ الدَّسَمِ، وَيَشْبَعُ شَعْبِي مِنْ جُودِي، يَقُولُ الرَّبُّ.

إن كان إرميا قد تنبأ عنخراب الهيكل خلال السبي فهو ليس ضد الهيكل ولا مقاوم للعبادة الجماعية... إنه يترقب عبادة روحيةمتهللة تضم الشعب القادم من أقاصي المسكونة بروح الفرح والوحدة.
"لأنه هكذا قال الرب.
رنموا ليعقوب فرحًا، واهتفوا برأس الشعوب.
سمعوا سبحوا وقولوا: خلص يا رب شعبك بقية إسرائيل" [7].
يقدم لنا عودة من السبي مملوءة بروح النصرة، عبّر عنها يعقوب بهتافات الفرح والتسبيح [7]، حاسبًا نفسه "رأس الشعوب" أو أولها، وهو تعبيريحمل روح الفخر (عا 6: 1).
"هأنذا آتي بهم من أرض الشمال وأجمعهم من أطراف الأرض.
بينهم الأعمى والأعرج، الحبلى والماخض معًا.
جمع عظيم يرجع إلى هنا" [8].
هذا الخروج العظيم من السبي يصحبه بناء من وسط الأنقاض والتدمير الكامل فتخرج مدينة فائقة البهاء، ويتحقق الخلاص الإلهي. إنه يأتي إلى هذه المدينة حتى بالعميان من طريق لم يعرفوها (إش 42: 16).
هذا الخلاص أو الخروج العظيم لا يعتمد على ذراعٍ بشري.
يأتي الله بالأعمى فيكون له عينًا، يريه الطريق ويدخل به إلى المجد!
يأتي بالأعرج كمن يحمله على الأذرع الإلهية ليمارس العمل الفائق بقوةٍ.
يأتي بالحبلى والماخض العاجزتين عن الحركة لأمتارٍ قليلة ليسرع بهما لا إلى أميال بل إلى الخروج من محبة العالم إلى السماء عينها!
هذا الخروج العظيم من السبي يصحبه فرح عظيم وسط دموع التوبة مع تفجر أنهار الروح من الصخور (إش 40: 3-5؛ 43: 1-7؛ 48: 20؛ 49: 9-13). عوض النوح يحل الفرح، ويهبهم الله راحة وسعادة عوض الحزن.
"بالبكاء يأتون وبالتضرعات أقودهم.
سيرهم إلى أنهار ماء في طريق مستقيمة لا يعثرون فيها.
لأني صرت لإسرائيل أبًا وإفرايم هو بكري" [9].
جاء الحديث هنا [8-9] مشابهًا في الأسلوب والفكر أحاديث إشعياء النبيعن الخروج الجديد(إش 35؛ 40: 3-5، 11؛ 41: 18-20؛ 42: 16؛ 43: 1-7؛ 34: 3-4؛ 48: 20-21؛ 49: 9-13).
ارتبط العصر المسياني في ذهن الأنبياء بالمياه المقدسة (حز 36: 26؛ إش 30: 23؛ زك 13: 1-2؛ مز 46: 4 إلخ...) التي تحول القفر أرضًا خصبة، تروي المؤمنين كأشجار فردوس الله، تنزع النجاسات وتطهر الأرض من عبادة الأصنام، وتقدم حياة وتقديسًا... ما هو المطر المبكر والمتأخر إلا الروح القدس الذي يروي النفس الظمآنة، فتنبت البرية، وتحمل الأشجار ثمارها، وتعطي التينة والكرمة قوتهما؟! إنه الروح القدس الذي عمل في القديم كمطر مبكر، لكنه بالأكثر استقر فينا بعد صعود الرب ليحول بريتنا الداخلية إلى فردوسٍ مفرحٍ!
لقد ادرك الشعب أمرين: الله هو مخلص شعبه، فإن لله بقية أمينة (عا 5: 15؛ إش 37: 30-31، إر 8: 3، حز 5: 10؛ 11: 23)، يهتم بها فتتمتع بالعهد الجديد (إش 4: 2؛ 28: 5؛ مي 5: 6-7).
يدعو الله نفسه "أب إسرائيل" ليؤكد أن ما سمح به من تأديب خلال السبي إنما هو تأديب أبوي، وأن اللهيتطلع إلى شعبه بكره "الابن البكر." لقد دَعَى أفرايم (إسرائيل) البكر ليس لكي يقدمه على يهوذا، وإنما ليؤكد اعتزازه بهكابنبكر... كلاهما "إسرائيل ويهوذا" ابن واحد بكر.
لقد سبق فسمح الله بقتل الأبكار بسبب شر فرعون ليقيم من شعبه "الابن البكر لله" (خر 4: 22، إر 31: 9). أقام الله شعبه كابن بكر له، وإذ جاء البكر الحقيقي إلى العالم واتحدت الكنيسة به صارت بحق كنيسة أبكار، كقول الكتاب المقدس.
يدعوا الله الأمم والجزائرالبعيدة [10] أن تشهد الحدث العجيب (إش 42: 10؛ 49: 1).
"اسمعوا كلمة الرب أيها الأمم وأخبروا في الجزائر البعيدة وقولوا: مبدد إسرائيل يجمعه ويحرسه كراع قطيعه.
لأن الرب فدى يعقوب وفكه من يد الذي هو أقوى منه.
فيأتون ويرنمون في مرتفع صهيون ويجرون إلى جود الرب على الحنطة وعلى الخمر وعلى الزيت وعلى أبناء الغنم والبقر.
وتكون نفسهم كجنة ريا ولا يعودون يذوبون بعد" [10-12].
يُستخدم في [11] تعبيران عن الفداء: pada (ransom), goal (redeem) الأول يشير إلىالتحرر بعد دفع الفدية، وهو في الأصل تعبير يُستخدم في القوانين التجارية (استخدم في تث 9: 26؛ 13: 5؛ 21: 8؛ 7: 13؛ 13: 14؛ مي 6: 4؛ زك 10: 8؛ مز 25: 22، 78: 42؛ نح 1: 10) أما الثاني فيُستخدم بخصوص الالتزام العائلي. فكان الولي يلتزم أن يفتدي ممتلكاتقريبه، كما يلتزم بالانتقام لموته. كان القريب المخلص goal يحمل معنى رمزيًا في العهد القديم. التزم إرميا أن يفدي الحقل الذي كان يملكه ابن عمه حنمئيل (ص 32).
استخدم التعبيران في خلاص الشعب من عبودية فرعون (خر 6: 5؛ 15: 13؛ تث 7: 8؛ 9: 26).
استخدم تعبير مخلص goal بخصوص خلاصالله لشعبه من السبي البابلي، فهو يتدخل كوَلِيٍّ أو قريبٍ لهم يرد لهم الحرية.
يأتون إلى صهيون "بوجوه مشرقة" nahar، وتصير نفوسهم كجنة ريا، أي مروية حسنًا [12].
"حينئذ تفرح العذراء بالرقص والشبان والشيوخ معًا وأحوِّل نوحهم إلى طرب وأعزيهم وأُفرحهم من حزنهم.
وأروي نفس الكهنة من الدسم ويشبع شعبي من جودي يقول الرب" [13-14].
* يؤكد لنا ربنا أن أحزاننا يحولها إلى فرح بثمار التوبة .
القديس غريغوريوس الناطق باللاهوتيات
يروى نفوس الكهنة من الدسم، دسم الذبائح التي يقدمها الشعب لله حيث كان نصيبهم هو الفخذ اليمين (لا 7: 32-36). وكأن العبادة تعود بقوة ويصير للكهنة أنصبة كثيرة.كما يشير الدسمإلى حالة الرخاء التي سيعيش فيها الشعب (مز 36: 8؛ 63: 5؛ إش 55: 2).
3. نهاية حزن راحيل:

15 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ، بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلاَدِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ. 16 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: امْنَعِي صَوْتَكِ عَنِ الْبُكَاءِ، وَعَيْنَيْكِ عَنِ الدُّمُوعِ، لأَنَّهُ يُوجَدُ جَزَاءٌ لِعَمَلِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجِعُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ. 17 وَيُوجَدُ رَجَاءٌ لآخِرَتِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجعُ الأَبْنَاءُ إِلَى تُخُمِهِمْ. 18 «سَمْعًا سَمِعْتُ أَفْرَايِمَ يَنْتَحِبُ: أَدَّبْتَنِي فَتَأَدَّبْتُ كَعِجْل غَيْرِ مَرُوضٍ. تَوِّبْنِي فَأَتُوبَ، لأَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ إِلهِي. 19 لأَنِّي بَعْدَ رُجُوعِي نَدِمْتُ، وَبَعْدَ تَعَلُّمِي صَفَقْتُ عَلَى فَخْذِي. خَزِيتُ وَخَجِلْتُ لأَنِّي قَدْ حَمَلْتُ عَارَ صِبَايَ. 20 هَلْ أَفْرَايِمُ ابْنٌ عَزِيزٌ لَدَيَّ، أَوْ وَلَدٌ مُسِرٌّ؟ لأَنِّي كُلَّمَا تَكَلَّمْتُ بِهِ أَذْكُرُهُ بَعْدُ ذِكْرًا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَنَّتْ أَحْشَائِي إِلَيْهِ. رَحْمَةً أَرْحَمُهُ، يَقُولُ الرَّبُّ. 21 «اِنْصِبِي لِنَفْسِكِ صُوًى. اجْعَلِي لِنَفْسِكِ أَنْصَابًا. اجْعَلِي قَلْبَكِ نَحْوَ السِّكَّةِ، الطَّرِيقِ الَّتِي ذَهَبْتِ فِيهَا. ارْجِعِي يَا عَذْرَاءَ إِسْرَائِيلَ. ارْجِعِي إِلَى مُدُنِكِ هذِهِ. 22 حَتَّى مَتَى تَطُوفِينَ أَيَّتُهَا الْبِنْتُ الْمُرْتَدَّةُ؟ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ خَلَقَ شَيْئًا حَدِيثًا فِي الأَرْضِ. أُنْثَى تُحِيطُ بِرَجُل.

"هكذا قال الرب:
صوت سمع في الرامة نوح بكاء مرّ.
راحيل تبكي على أولادها وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودِين.
هكذا قال الرب:
امنعي صوتكِ عن البكاء، وعينيكِ عن الدموع،
لأنه يوجد جزاء لعملكِ يقول الرب.
فيرجعون من أرض العدو.
ويوجد رجاء لآخرتكِ يقول الرب.
يرجع الأبناء إلى تخمهم" [15-17].
"رامة" تعني حرفيًا "مرتفع" وتقع في نصيب سبط بنيامين (يش 18: 25؛ قض 4: 5) على الحدود ما بين مملكتيّ الشمال والجنوب. حاليًا تدعى أرام وهي مدينة تبعد إلى الشمال من أورشليم بخمسة أميال. قريبًا منها يوجد قبر راحيل (1 صم 10: 2-3) كما يوجد تقليد بأن القبر كان بالقرب من بيت لحم (تك 35: 19؛ 48: 7؛ 1 صم 10: 2-3). ويتضح من سفر إرميا أنها كانت المكان الذي نُقل إليه المسبيين وُجمعوا فيه قبل أن يُؤخذوا إلى السبي إلى بابل إذ نقرأ "الكلمة التي صارت إلى إرميا من قِبل الرب بعدما أرسله نبوزردان رئيس الشرط من الرامة إذ أخذه وهو مقيد بالسلاسل في وسط كل سبي أورشليم ويهوذا الذين سبوا إلى بابل" (إر 40: 1-2).
تختار النبوة راحيل بالذات لأنها في البداية توسلت وطلبت أولادًا إذ نقرأ "فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها وقالت: ليعقوب هب لي بنين وإلاّ فأنا أموت" (تك 30: 1).
ماتت راحيل في نهاية أيامها في حزنٍ إذ كُتب: "وحدث حين تعسرت ولادتها أن القابلة قالت لها: لا تخافي لأن هذا أيضًا ابن لك، وكان عند خروج نفسها لأنها ماتت أنها دعت اسمه بن أوني، وأما أبوه فدعاه بنيامين، فماتت راحيل وُدفنت في طريق أفراتة التي هي بيت لحم" (تك 35: 17-19). ها هي راحيل التي طلبت أولادًا في البداية وماتت في الحزن، تظهر في النهاية مصورة وكأنها قد قامت من الأموات وهي تبكي وصوتها يُسمع في الرامة لأنها ترى أولادها يحملون إلى بابل.
تصور إرميا أن روح راحيل زوجة يعقوب ووالدة يوسف وبنيامين تبكي على أولادها (أسباط إفرايم ومنسى وبنيامين) الذين احتلوا بقعة ضخمة من المملكة، إذ ترىترحيلهم من أرض الموعد إلى السبي.
يقتبس الروح القدس هذه الأقوال ويطبقها على حادثة قتل أطفال بيت لحم.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفمإذ قد تحقق ما سبق أن قيل بإرميا النبي يمتلئ السامع لهذا القول بالفزع إذ يرى مذبحة عنيفة مملوءة ظلمًا، لكنه يعود فيستريح إذ يدرك أن ما يحدث ليس عن عجز قوة الله عن منعها، ولا عن عدم معرفة الله لها، وإنما سبق فأخبر عنه علانية بواسطة نبيِّه. لهذا يليق بنا ألاّ نضطرب ولا نيأس متطلعين إلى عناية الله التي لا يُنطق بها، التي يمكن للإنسان أن يراها في أعمال الله كما فيما يسمح به من الآلام.
قدم الله لراحيل تعزية، مؤكدا عودة أبنائها، وتقديم جزاء لها عن عملها [17] لحساب أطفالها الذين يردهم من السبي.
"سمعًا سمعت إفرايم ينتحب.
أدبتني فتأدبت كعجلٍ غير مروضٍ.
توبني فأتوب، لأنك أنت الرب إلهي.
لأني بعد رجوعي ندمت وبعد تعلمي صفقت على فخذي.
زنيت وخجلت لأني قد حملت عار صباي.
هل إفرايم ابن عزيز لدى أو ولد مسر،
لأني كلما تكلمت به أذكره بعد ذكرًا.
من أجل ذلك حنت أحشائي إليه.
رحمة أرحمه يقول الرب" [18-20].
جاءت هذه العبارات اعترافًا وتوبة من جانب إفرايم الذي يعلن عن حاجته إلى عمل الله نفسه واهب التوبة.
يقول الأب بينوفيوس:
[بينما يكون الإنسان في انكسار قلب وانسحاق روح، مع استمرار الجهاد والبكاء إذا بالنعمة الإلهية تلاشى تذكر الخطايا السابقة وتنزع وخزات الضمير عنها. وهنا يكون واضحًا أنه قد نال غاية الرضى ومكافأة العفو، وانتزعت منه وصمات الخطايا التي ارتكبها. وعندئذ يمكننا أن نصل إلى نسيانالخطية وذلك بإزالة آثارالخطايا والرغبات العتيدة مع نقاوة القلب وكماله. هذه الحالة لا يصل إليها الكسالى والمتهاونون... إنما يصل إليها من استمروا في التنهد والتأوه بحزن لأجل إبادة كل آثار الخطايا بصلاح قلوبهم مع جهادهم، يعلن كل منهم للرب: "اعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي" (مز 32: 5)، ويقول: "صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا" (مز 42: 3)... فيوهب له في النهاية أن يسمع هذه الكلمات: "قد محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك" (إش 44: 22)، وأيضًا "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا اذكرها" (إش 43: 25). وهكذا إذ يتحرر من رباطات خطاياه التي ربط الكل بها يشكر الرب مسبحًا: "حللت قيودي فلك اذبح ذبيحة حمدٍ" (مز 116: 16-17)(541)].
يقول القديس أمبروسيوس:
[لننقي ذواتنا بالدموع، فيسمع الرب إلهنا حينما ننوح كما سمع لإفرايم حين بكي "سمعت إفرايم يبكي" [18] وقد عبر عن ذلك مكررًا ذات الكلمات التي لإفرايم "أنت أدبتني فتأدبت كعجلٍ غير مروضٍ" [18]. لأن العجل يلهي ذاته، ويترك معلفه، هكذا إفرايم لم يكن مروضًا كعجل بعيدًا عن المعلف، إذ نسى المعلف الذي أقامه الرب له وتبع يربعام وعبد العجول، الأمر الذي تنبأ عنه بالفعل هارون (خر 31) بان الشعب سيسقط. وإذ تاب إفرايم قال: "توبني فأتوب لأنك أنت هو الرب إلهي. بالتأكيد في نهاية أسري ندمت"، وإذ تعلمت بكيت على أيام الاضطراب وأخضعت نفسي لك إذ تقبلت انتهارك" راجع [19] ] .
جاء [20] إجابة لصرخة التوبة تؤكد شوق الله نحو توبته، إذ أحشاء الله تحن عليه. يدعوه "الابن العزيز لديه"، "الولد المسر" يذكره الرب على الدوام.
"انصبي لنفسك صوى اجعلي لنفسك أنصابًا.
اجعلي قلبك نحو السكة الطريق التي ذهبت فيها.
ارجعي يا عذراء إسرائيل ارجعي إلى مدنك هذه.
حتى متى تطوفين أيتها البنت المرتدة؟!
لأن الرب قد خلق شيئًا حديثًا في الأرض.
أنثى تحيط برجل" [21-22].
بعد أن تحدث عن إفرايم كابن محبوب جدًا، عاد ليتحدث عن إسرائيل كعذراءيدعوها لتقيم لها بيتًا، وأن تضع علامات في الطريق حتى لا تضل عنه. وكأنها تعود من ذات الطريق الذي فيه تركت وطنها!
ستجد في عودتها ترحيبًا في بيتها ومدنها... ستكون في أمان كإنسانٍ في حضن أمه [22].
أما عن الأنثى التي تحيط برجلٍ فتوجد عدة تفاسير:
أ. يرى البعض أن الأنثى المُشار إليها هنا هي عذراء إسرائيل المذكورة في [21] كما أن كلمة أنثى المستعملة في هذا النص وهي (تكلببه) لا تعني فتاة غير متزوجة (ألماه) التي استخدمها إشعياء النبي في نبوته عند حديثه عن ولادة المسيح من العذراء إذ قال "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا..." (إش 7: 14). ولذلك فليس هناك أي تشابه بين النبوتين. فالأنثى أو المرأة في الكتاب تشير إلى الضعف الإنساني وحالة الضعف والخوف المشبه بها الأمة ترِد كثيرًا في النبوات، فإشعياء يشبه الأمة المصرية في ضعفها وخوفها فيقول: "في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود التي يهزها عليها" (إش 19: 16).
ب. كلمة "نساء" كرمز للضعف ترد أيضًا في نبوة إشعياء ونبوة إرميا (انظر إش 3: 12، إر 51: 3) ويشير الرجل إلى قوة الإنسان، والتعبير المذكور هنا ليس الإنسان العادي لكن الإنسان القوي، لأن الكلمة المستعملة في الأصل هي كلمة "geber" وتعني الرجل القوي أو الرجل الجبار. جاءت الكلمة هنا لتشير إلى رجلٍ شابٍ قوي العزيمة شجاع، والكلمة المنسوبةلها gibbor تعني محارب، وكأن المرأة تحتضن محاربًاشابًا... وهي ليست الكلمة التي تستعمل عادة للرجل (أنوش) ومعناها الرجل في ضعفه. فالرجل المذكور هنا ليس أنوش الضعيف الهش لكن الإنسان القوي. فضعف المرأة هنا يقهر ويغلب قوة الرجل، ضعف المرأة هنا يهزم كل قوة الرجل وهكذا سيجعل الله هذه المرأة التي كانت بمثابة بنت مرتدة منتصرة وغالبة على كل قوة الإنسان. أو كأنها وهي عذراء قد صارت -باحتضانها المحارب- شجاعة ومحاربة لها دورها في المعركة الروحية.
ج. إن كانت المرأة تشير إلى إسرائيل والرجل إلى يهوه، كأن المرأةالتي صارت مطلقة بسبب زناها، بعيدة عنه، عادت إلى إلهها تحتضنه وتلتصق به (هو 1-3؛ إر2: 20-21). هذا هو أمر جديد.
د. الأمر الجديد هنا أن امرأة تحمي رجلًا، وهذا يبين عمل المحبة من الطرف الأضعف جسميًا نحو الأقوى.
ه. يرى القديس جيرومأن الشيء الجديد الذي يثير الانتباه هو الأنثى التي تحيط برجل، أي العذراء الذيتحتضن كلمةالله المتجسد... هذا هو الرجوع عن السبي! هذا هو التمتع ببركة الرب، فتصير النفس مسكنًا للبر وجبلًا مقدسًا!
[بخصوصها نحن نقرأ عن معجزة عظيمة في نفس النبوة [22]: أن امرأة احتوت رجلًا، وأن أب كل الأشياء يكون في أحشاء عذراء].
يطلب الله من الشعب الذي صار كبنت مرتدَّة أن يتطلع إلى العذراء المقدسة التي تحتضن في أحشائها كلمة الله المتجسد. إذ يقول: "حتى متى تطوفين أيتها البنت المرتدَّة؟! لأن الرب قد خلق شيئًا حديثًا في الأرض. أنثى تحيط برجل" [22].
و. أن كانت الخطية تجعل النفس كبنت عاصية تطوف في الشوارع ليس لها أين تستقر أو تستريح، فإن الحياة البتولية الصادقة تجعل من النفس موضعًا يستريح فيه الكلمة المتجسد نفسه! خطايانا تحطم سلامنا واستقرارنا، وبرنا في الرب يعطينا راحة، بل ويستريح الرب فينا!
4. إصلاح إسرائيل ويهوذا:

23 هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: سَيَقُولُونَ بَعْدُ هذِهِ الْكَلِمَةَ فِي أَرْضِ يَهُوذَا وَفِي مُدُنِهَا، عِنْدَمَا أَرُدُّ سَبْيَهُمْ: يُبَارِكُكَ الرَّبُّ يَا مَسْكِنَ الْبِرِّ، يَا أَيُّهَا الْجَبَلُ الْمُقَدَّسُ. 24 فَيَسْكُنُ فِيهِ يَهُوذَا وَكُلُّ مُدُنِهِ مَعًا، الْفَلاَّحُونَ وَالَّذِينَ يُسَرِّحُونَ الْقُطْعَانَ. 25 لأَنِّي أَرْوَيْتُ النَّفْسَ الْمُعْيِيَةَ، وَمَلأْتُ كُلَّ نَفْسٍ ذَائِبَةٍ. 26 عَلَى ذلِكَ اسْتَيْقَظْتُ وَنَظَرْتُ وَلَذَّ لِي نَوْمِي. 27 «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَزْرَعُ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ وَبَيْتَ يَهُوذَا بِزَرْعِ إِنْسَانٍ وَزَرْعِ حَيَوَانٍ. 28 وَيَكُونُ كَمَا سَهِرْتُ عَلَيْهِمْ لِلاقْتِلاَعِ وَالْهَدْمِ وَالْقَرْضِ وَالإِهْلاَكِ وَالأَذَى، كَذلِكَ أَسْهَرُ عَلَيْهِمْ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 29 فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لاَ يَقُولُونَ بَعْدُ: الآبَاءُ أَكَلُوا حِصْرِمًا، وَأَسْنَانُ الأَبْنَاءِ ضَرِسَتْ. 30 بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ. كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ الْحِصْرِمَ تَضْرَسُ أَسْنَانُهُ.

يَعِدْ الله شعبه بالرجوع من السبي، ليمتلك أرض الموعد، وينزع عن راحيل حزنها على بنيها المسبيين، ويحولها من بنت مرتدَّة عنيدة إلى أنثى مملوءة قوة وحبًا تحيط برجلٍ جبارٍ، تحمل روح القوة والنصرة عوض الانهيار والفشل. الآن يقدم لنا صورة حيَّة عن إصلاح إسرائيل ويهوذا حيث يرجع الكل من بابل شعبًا مقدسًا للرب، فيقول:
"هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.
سيقولون بعد هذه الكلمة في أرض يهوذا وفي مدنها عندما أرد سبيهم.
يباركك الرب يا مسكن البر يا أيها الجبل المقدس" [23].
هنا يدعوا يهوذا "مسكن البر أو البار" (راجع زك 8: 3)ويعني به مسكن الله البار sedeq، وأيضًا "الجبل المقدس أو جبل القدوس". فيسكن الله وسط شعبه الذييصير مسكنًا له وجبلًا خاصًا به [23]. كأن سرّ فرح الشعب ليس تحرره من بابل بل بالأحرى تمتعه ببركة سكنى الله البار والقدوس وسطه، فيجعل منه هيكلًا مقدسًا وجبلًا حيًا. يدعو شعبه "مسكن البار" و"جبل الله القدوس"، باللقب الأول يعلن بركة الشعب إذ يسكن فيه البار، محولًا شعبه إلى جماعةٍ مقدسة لا تعرف إلا العبادة الحية، وباللقب الثاني الرسوخ كالجبل لا تهزه رياح العالم المقاومة!
بمعنى آخر إننا لا نفرح لأننا تحررنا من إبليس بل بالأحرى لأننا اقتنينا الله القدوس. قيل عن الرسل: "رجع السبعون بفرحٍ قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك" (لو 10: 7)، "قال لهم: رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء؛ ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالأحرى أن أسماءكم كُتبت في السموات".
يقيم الله من شعبه كما من كل عضوٍ فيها جبلًا مقدسًا كجبل طابور، عليه يتجلى حيث يجتمع برجال العهد القديم (موسى وإيليا) مع رجال العهد الجديد (بطرس ويعقوب ويوحنا)، يعلن بهاء مجده الذي يسكب نورًا على الجميع ويحول حياتهم إلى فرحٍ لا ينقطع.
"فيسكن فيه يهوذا وكل مدنه معًا الفلاحون والذين يسرحون القطعان.
لأني أرويت النفس المعيية، وملأت كل نفس ذائبة" [24-25].
يعود الشعب إلىأرض الموعد ليمارسوا حياتهم اليوميةمن فلاحةالأرض ورعاية الغنم [24]، لتجد النفس التي صارت في حالة عياء راحةً، والذائبة بسبب ما حل بها من فقدان شبعًا وارتواءً [25].
الله يشبع التائبين ويرويهم، هذا منظر يملأ قلب إرميا النبي بالفرح والسعادة وسط الكارثة والظلام.
من هم هؤلاء الفلاحون الذين يزرعون أرض يهوذا؟ ومن هو هؤلاء الرعاة الذين يهتمون بقطعانها؟
مسيحنا هو فلاح قلبنا القادر بروحه القدوس أن يحول بريتنا الداخلية إلى فردوسٍ مثمرٍ، ويقود خرافه الناطقة إلى سمواته، مقدمًا دمه الثمين ثمنًا لمجدنا. الآن في حبه لكنيسته أقام تلاميذه ورسله وخدامه فلاحين ورعاة، يقدمون به كلمته بذارًا تأتي بثمرٍ كثيرٍ، ويهبهم شركة المجد أن يرعوا شعبه بروحه القدوس.
كل مؤمنٍ حقيقيٍ تتحول طاقاته الداخلية وإرادته مع أفكاره إلى فلاحين ورعاة يعملون بلا توقف حتى يُعلن فردوس الله في الداخل، وتتحول الأعماق إلى مرعى سماوي مقدس.
"عَلَى ذلِكَ اسْتَيْقَظْتُ وَنَظَرْتُ وَلَذَّ لِي نَوْمِي" [26].
يكون الرب كمن كان نائمًا واستيقظ، إذ رد شعبه إلى راحته، ولذ له نومه لأنه لا تتكرر بعد هذه المأساة [26]. ويرى القديس أمبروسيوس في تعبير "لذّ لي نومي" [26] إشارة إلى الموت الإرادي الذي قبله السيد المسيح بسرور لأجل خلاصنا.
* ذاك الذي حمل ضعفاتنا حمل أيضًا مشاعرنا، حيث كان حزينًا حتى الموت (مت 26: 38) ولكن ليس بسبب الموت. لأن الموت الذي قبله باختياره الحر لا يمكن أن يحزنه، إذ فيه فرح كل البشرية العتيد وانتعاش الجميع. قيل عنه في الكتاب المقدس في عبارة أخرى: "اسْتَيْقَظْتُ وَنَظَرْتُ وَلَذَّ لِي نَوْمِي" [16]. صالح هو النوم الذي فيه لا يجوع الجائعون، ولا يعطش العطشى، مهيئًا لهم مذاقًا حلوًا للأسرار .
القديس أمبروسيوس
ها أيام تأتي يقول الرب وأزرع بيت إسرائيل وبيت يهوذا بزرعِ إنسانٍ وزرعِ حيوانٍ" [27].
يقوم الرب نفسه بزرعهم، بزرعإنسانٍ وزرع حيوانٍ، إذ يقدس النفس (الإنسان) والجسد (الحيوان) معًا، وينمي الإنسان بكليته ليمارس الحياة الجديدة بعد العتق من سبي الخطية.
"ويكون كما سهرت عليهم للاقتلاع والهدم والقرض والإهلاك والأذى، كذلك أسهر عليهم للبناء والغرس يقول الرب" [28].
يسهر الله على بنائهم وغرسهم، هو الذي سمح بالتأديب الآن يقوم بنفسه ببنائهموغرسهم، ساهرًا عليهم ليجدد حياتهم... بل يقيمهم شعبًا جديدًا بعهدٍ جديدٍ! لقد سهر الله بحبه حين سمح بالتأديب لكي يهدم فيهم الشر ويقتلع جذور الخطية ويحل بهم ما حسبوه أذى، وبذات الحب يسهر عليهم ليغرس بره ويبني فيهم قداسته ويهبهم كل بركة روحية مفرحة.
ماذا يعني الله بقوله: "أسهر عليهم"؟ ليس عند الله ليل قط، ولا يحتاج إلى نومٍ، فالسهر هنا إنما يعني بلغة بشرية اهتمام الله بنا خاصة في اللحظات التي نظن فيها أن الليل قد حلَّ بظلمته حولنا، أي حينما نفقد رجاءنا في الخلاص. إنه يشرق بنوره وسط ظلمتنا مؤكدًا أنه يسهر علينا حين ينام كل من حولنا، ويعلنون عجزهم التام على مساندتنا.

"في تلك الأيام لا يقولون بعد: الآباء أكلوا حصرمًا وأسنان الأبناء ضرست.
بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه" [29-30].
يقتبس المثل الوارد في (حز 18: 2)، فقد كان الشعور السائد بأن ما يحل بهم إنما هو ثمرة خطايا قديمة ارتكبتها أجيال سابقة، بهذا أحسوا أن الله عاملهم بقسوة لظروف لم يكن لهم فيها يد، ولم يرتكبوا ذنبًا. وأن في ذلك ظلم وليس عدالة (حز 18: 25). يرفض إرميا النبي هذه الفكرة مبينًا أن الله إنما يعاقب الإنسان على خطاياه، لا على خطايا الغير.
غالبًا ما اعتمد حزقيال على إرميا، وكلاهما أشارا إلى المثل ليؤكدا المسئولية الشخصية عن مايرتكبه الإنسان دون النظر إلى سلوك آبائه وأجداده. لقد أُستخدم هذا المثل في (تث 24: 16) لا لنفيالمسئولية الشخصية وإنما لاعتبارات أخرى منها أن الإنسان الذي لا يرتدع عن شره خلال التهديد بالعقوبة قد يرتدع عندما يدرك ما لشره من أثر على حياة أولاده، هذا بجانب الالتزام الجماعي. فكما توجد خطايا عامة يشترك فيها الشعب كله هكذا تلزم التوبة العامة.
5. العهد الجديد:

31 «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. 32 لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 33 بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. 34 وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ، قَائِلِينَ: اعْرِفُوا الرَّبَّ، لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ.

"حمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل" (خر 32: 19). وكأن موسى قد أعلن عن كسر العهد، وعجز الإنسان عن الحفاظ عليه. هذا ما دفع الأنبياء في العهد القديم إلى التطلع إلى عهدٍ جديدٍ بسماتٍ جديدةٍ قادرٍ على تغيير قلب الإنسان والدخول إلى الحياة الداخلية لكي لا يكسر الإنسان العهد."ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا.
"ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب.
بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام.
يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا.
ولا يعلمون بعد كل واحدٍ صاحبه وكل واحدٍ أخاه قائلين: اعرفوا الرب،
لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب.
لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد" [31-34].
يقول حزقيال النبي: "وأقطع معهم عهد سلامٍ فيكون معهم عهدًا مؤبدًا وأقرهم وأكثرهم وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد، ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا" (حز 37: 36-37).
* قال الله بوضوح (خلال أنبيائه) أن شرائع موسى (الطقسية) تنتهي وتقوم شريعة جديدة يقدمها المسيح: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب" (إر 31: 31-32). لقد وعد بعهد جديد، وكما قال الحكيم بولس: "فإذ قال جديدًا عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال" (عب 8: 13). فإذ شاخ القديم كان بالضرورة أن يحتل الجديد موضعه، وقد تحقق هذا لا بواسطة أحد الأنبياء القديسين بل بالأحرى بواسطة رب الأنبياء .
القديس كيرلس الكبير
العهد الجديد ليس منقوشًا على حجارة خارجية كالعهد القديم (خر 31: 18؛ 34: 28-29؛ تث 4: 13؛ 5: 22)أو في درج (خر 24: 7)، إنما هو منقوش في القلب الذي احتلته الخطية. يسجله الروح القدس في أعماقنا، إذ يمس حياتنا الداخلية حيث ملكوت الله فينا... "يقول الرب: أجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم، وأنا أكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا" (عب 8: 10).
عندما حلّ يوم الخمسين واجتمع التلاميذ في علية صهيون كان اليهود من حولهم يعيدون بتجديد العهد مع الله، متذكرين ما حدث مع آبائهم حين سلم الله عهده وشريعته لموسى النبي، وما صاحب ذلك من رعودٍ وبروقٍ وأصوات بوقٍ ودخانٍ حتى ارتعب الكل (خر 20: 18)... في هذا اليوم حلّ الروح القدس على التلاميذ وُسمع أيضًا صوت هبوب عاصف وارتعب الكل وحدث تجديد للعهد خلال الروح القادر أن يجدد القلوب والأذهان، ويكتب الشريعة والعهد في قلوب المؤمنين (إر 31: 31-34)... صار للكنيسة الروح الإلهي الناري الذي يغير الطبيعة الداخلية ويهب روح البنوة فتتقبل عهدًا جديدًا.
يرى البعض أن الله أقام مع الإنسان عهودًا، كملت بالعهد الذي أقامه السيد المسيح بدمه على الصليب.
1. العهد مع آدم، خلاله ينعم الإنسان بجنة عدن وكل خيراتها، لكن آدم نقض العهد وُطرد من الجنة. وقد جاء في سفر هوشع: "لكنهم كآدم تعدّوا العهد، هناك غدروا بي" (هو 6: 7).
2. العهد مع نوح الخاص بالأرض الجديدة بعد الطوفان، حيث بارك الله نوحًا وبنيه (تك 9: 1)، وقال لهم: "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض" (تك 9: 1؛ 1: 28). هنا نلاحظ أن الله هو الذي بادر بإقامة العهد (تك 9: 11-12)، وأن العهد قام على أساس الدم، أي تقديم المحرقات.
3. العهد مع إبراهيم: وعده الله أن يهب نسله أرض كنعان، وبه تتبارك كل الأمم. ارتبط العهد بالختان "يُختن منكم كل ذكر، فتختتنون في لحم غُرلتكم، فيكون علامة عهدٍ بيني وبينكم" (تك 17: 11).
4. العهد الموسوي: ارتبط هذا العهد بالذبائح والعمل الكهنوتي وشرائع التطهير والوصايا الإلهية. خلال هذا العهد تحل البركات على أبناء الطاعة واللعنات على أبناء المعصية (تث 28).
هنا [31] أول إشارة إلى "العهد الجديد" في العهد القديم وتُعتبرصلب سفر إرميا كله، تمثل أعمق نظرةفي العهد القديم كله. رأى أصحاب الشيع في قمران أنهم رجال العهد الجديد، بالنسبة لهم العهد الجديد هو التمسك بالشريعة الموسوية في حرفية أشد. أما المسيحيون فقد رأوا في الكنيسة تحقيقًا لهذه النبوة، حيث قدم السيد المسيح عهدًا جديدًا ببذل دمه كفارة عن خطايا العالم كله (لو 22: 20؛ 1 كو 11: 15؛ عب 8: 8، 9: 28).
إذ انكسر العهد القديم الذي أقيم بين الله وإسرائيل أقام الله عهدًا جديدًا بينه وبين جميع الأمم، خلال خروج جديد، فيه عُتق لا من عبودية فرعون ولا من سبي بابل بل من أسر إبليس.
ينقش الروح القدس هذا العهد في داخلنا ويكون الله نفسه هو معلمنا، إذ يقول الرسول: "ولا يعلمون كل واحدٍ قريبه وكل واحدٍ أخاه قائلًا اعرف الرب، لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم" (عب 8: 11). كان العهد القديمبين يدي الأنبياء والكهنة والمعلمين أما العهد الجديد فصار في أيدي كل البشر!
* هنا نفهم إعلان توقف الختان الأول الذي أُعطى ومجيء موكب الشريعة الجديدة (ليس كما سبق فأُعطيت للآباء) وذلك كما سبق فأعلن جبل الرب وبيت الله في رأس الجبال، ونقول: "يرتفع فوق التلال وتجري إليه كل الأمم وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب" (إش 2: 2-3).
* هكذا يظهر أن العهد القديم مؤقت فقط، مشيرًا إلى تغييره، وأيضًا إذ يعد أن ما يتبعه عهدًا أبديًا، إذ يقول بإشعياء: "اسمعوا فتحيا أنفسكم وأقطع لكم عهدًا أبديًا مراحم داود الصادقة" (إش 55: 3)، ليظهر أن هذا العهد يتحقق في المسيح.
العلامة ترتليان
* لنقبل شرائع الحياة، لننصت لعتاب الله، لنتعرف عليه، فينعم علينا!
القديس إكليمنضس الإسكندري
* صنع معنا عهدًا جديدًا، لأن ما ينتمي لليونانيين واليهود قديم. أما نحن الذين نعبده بطريق جديدة، في شكل ثالث فمسيحيون.
من الواضح كما أظن، لقد أظهر أن الله الواحد الوحيد عُرف بواسطة اليونانيين بطريق أممي، وبواسطة اليهود بطريق يهودي، وبطريق جديد روحي بواسطتنا!
القديس إكليمنضس السكندري
إذ يتحدث القديس غريغوريوس النيصي عن ميليتس يوم نياحته يصفه بتابوت العهد المقدس والحاوي أسرارًا إلهية فيقول: "فيه يوجد لوحا العهد، مكتوبًاعلى ألواح القلب لا بحبر بل بروح الله الحيّ. فأنه لا يوجد على هذا القلب النقي فكر مظلم أو من الحبر مطبوعًا عليه!" .
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لان المعلم الآن يملأ الموضع، إذ مكتوب يكون الكل متعلمين من الله (يو 4: 45، إش 45: 13) ].
6. رباط لا ينحل:

35 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ الْجَاعِلُ الشَّمْسَ لِلإِضَاءَةِ نَهَارًا، وَفَرَائِضَ الْقَمَرِ وَالنُّجُومِ لِلإِضَاءَةِ لَيْلًا، الزَّاجِرُ الْبَحْرَ حِينَ تَعِجُّ أَمْوَاجُهُ، رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ:
36 إِنْ كَانَتْ هذِهِ الْفَرَائِضُ تَزُولُ مِنْ أَمَامِي، يَقُولُ الرَّبُّ،
فَإِنَّ نَسْلَ إِسْرَائِيلَ أَيْضًا يَكُفُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أُمَّةً أَمَامِي كُلَّ الأَيَّامِ.
37 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: إِنْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ تُقَاسُ مِنْ فَوْقُ وَتُفْحَصُ أَسَاسَاتُ الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ، فَإِنِّي أَنَا أَيْضًا أَرْفُضُ كُلَّ نَسْلِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَجْلِ كُلِّ مَا عَمِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. [35-37].

كما أقام الله ناموسًا طبيعيًا للشمس والقمر والكواكب الأخرى للإضاءة نهارًا وليلًا، ووضع للبحر حدًا، هكذا يقيم الله في عهده الجديد مع شعبه ناموسًا روحيًا أبديًا. يقيمهم شعبًا دائمًا له، يشرقون بنوره نهارًا وليلًا، لا تستطيع أمواج بحر العالم أن تكتسحهم! الله الذي خلق العالم المنظور لأجل الإنسان فأبدعه كيف لا يهتم بإقامة ناموس جديد مبدع لبنيان الإنسان نفسه ومجده؟!
7. أورشليم الجديدة:

38 «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَتُبْنَى الْمَدِينَةُ لِلرَّبِّ مِنْ بُرْجِ حَنَنْئِيلَ إِلَى بَابِ الزَّاوِيَةِ،
39 وَيَخْرُجُ بَعْدُ خَيْطُ الْقِيَاسِ مُقَابِلَهُ عَلَى أَكَمَةِ جَارِبَ، وَيَسْتَدِيرُ إِلَى جَوْعَةَ،
40 وَيَكُونُ كُلُّ وَادِي الْجُثَثِ وَالرَّمَادِ، وَكُلُّ الْحُقُولِ إِلَى وَادِي قَدْرُونَ إِلَى زَاوِيَةِ بَابِ الْخَيْلِ شَرْقًا، قُدْسًا لِلرَّبِّ.
لاَ تُقْلَعُ وَلاَ تُهْدَمُ إِلَى الأَبَدِ». [38-40].

إن كان الله قد سمح بسبي شعبه، وخراب مدينته المقدسة بسبب الشر، فأنه خلال العهد الجديد يقيم أورشليم الجديدة، تُبنى له، وقد وضع لها حدودها.
من برج حنيئيل إلى باب الزاوية: هذا البرج في شمال شرقي المدينة (زك 14: 10، نح 3: 1؛ 12: 39)بينما يبدوا أن باب الزاوية في شمال غربي المدينة (زك 14: 10، 2 مل 14: 13، 2 أي 26: 9)، وقد بَنَى الملك عزيا في القرن السابق أبراجًا فيها كما في مواضع أخرى (2 أي 26: 9).
الوادي المذكور في [40] هو وادي ابن هنوم (إر 7: 31)، بينما يمثل "الرماد" بقايا الدهن من الذبائح البشرية. "والحقول" غير مؤكدة المعنى، ينسبها البعض إلى حقل موت Mot، أي حقل إله الموت الكنعاني. كان نهر قدرون يجري شرق أورشليم، وكان يقع باب الخليل في الركن الجنوبي من الهيكل (نح 3: 28).
من وحي إرميا 31

محبة أبدية أحببتك


* لكل حبٍ بداية ونهاية،
أما حبك فأزلي أبدي،
أحببتني قبل أن أوجد،
وتبقى تحبني بعد عبوري هذا العالم.
* اقمتني لك ابنًا،
ونسبت نفسك لي يا إلهي!
تهبني مع كل لحظة خروجًا جديدًا،
اخرج بقيادة روحك القدوس،
من عبودية فرعون وأسر بابل وسخرة إبليس،
لتردني إلى أحضانك الأبوية!
بيديك يا إلهي تقيم خيمتي الساقطة،
وتجعل مني بناءً إلهيًا شاهقًا،
تقطنه أنت مع صفوف ملائكتك!
عوض العبودية المرّة،
تقيمني عروسًا متهللة لا يتوقف عُرسها!
تضمني إلى كنيستك السماوية المتعبدة بالروح والحق!
* من وسط التدمير الشامل والأنقاض،
تقيم مني بناءً عجيبًا فائق البهاء!
عوض النوح الدائم يحل بي فرحك السماوي!
لا أعود أبكي مع راحيل على أطفالها،
إذ أراهم موكب الغالبين الحالين أينما وُجدت!
تحول صرخات التوبة وعويلها إلى تهليلات لا تنقطع!
* يا للعجب أرى أنثى تحيط برجلٍ،
عذراء بتول تحمل كلمة الله في أحشائها!
نفسي المسكينة تقتنيك داخلها!
يا له من سرٍ فائقٍ!
هوذا الآنية الخزفية الضعيفة تحوي كنز الكنوز!
* حبك الأبدي يحررني من السبي!
يدخل بي إلى أرض البر!
يغير بريتي إلى فردوس مثمر!
تغرس أشجار الروح في!
تبنيني بنفسك وتغرسني!
* حبك الأبدي قدم لي عهدًا جديدًا.
آدم أبي دخل معك في عهدٍ، لكنه نقضه!
نوح البار قبل العهد خلال العالم الجديد،
لكن سرعان ما شاخ العالم وفسد!
إبراهيم أب الآباء نال عهدًا، لكن خلال ختان الجسد.
رجال العهد القديم قبلوا عهد سيناء خلال ذبائح حيوانية.
أما أنا فنلت عهدك الجديد،
تمتعت بجسدك ودمك المبذولين حبًا!
رفعني عهدك إلى الصليب فمزق الصك القديم،
تحررت من الديون والآثام ونلت برك العجيب!
دخل بي عهدك إلى سمواتك وأمجادك!
* عهدك الجديد حوَّلني إلى أورشليم جديدة!
أقام مني هيكلًا للروح القدس،
وجعل مني عضوًا في جسد المسيح المقدس،
ووهبني البنوة للآب السماوي!
يا لحبك الأبدي الفائق!





Mary Naeem 11 - 10 - 2023 11:04 AM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/169062724887711.jpg

شراء أرض أثناء السبي

يبدأ الجزء الثاني من "سفر التعزية" بهذا الأصحاح الذي له أهميته الخاصة، حيث يؤكد إرميا النبي إيمانه ورجاءه في الوعد الإلهي بالعودة من السبي. وقد وقعت هذه الحادثة في الوقت الذي كانت فيه جيوش بابل قد انسحبت مؤقتًا من حصار أورشليم عند اقتراب الجيش المصري في صيف 588 ق.م.، ثم عادت لتحاصرها. أي كان هذا قبل حوالي عام من السبي الأخير لليهود إلى بابل (2 مل 25: 1-2).
بينما كان البابليون يدقون أبواب أورشليم لنهبها بعد عدة شهور، اشترى إرميا قطعة أرض، وهو يعلم أنه لن يستطيع أن يستقر فيها. لكنه أراد تأكيد أنه في المستقبل تعود الحياة الطبيعية في يهوذا.






1. شراء الأرض:

1 اَلْكَلِمَةُ الَّتِي صَارَتْ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ، فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لِصِدْقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، هِيَ السَّنَةُ الثَّامِنَةُ عَشَرَةَ لِنَبُوخَذْرَاصَّرَ، 2 وَكَانَ حِينَئِذٍ جَيْشُ مَلِكِ بَابِلَ يُحَاصِرُ أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ مَحْبُوسًا فِي دَارِ السِّجْنِ الَّذِي فِي بَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا، 3 لأَنَّ صِدْقِيَّا مَلِكَ يَهُوذَا حَبَسَهُ قَائِلًا: «لِمَاذَا تَنَبَّأْتَ قَائِلًا: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَدْفَعُ هذِهِ الْمَدِينَةَ لِيَدِ مَلِكِ بَابِلَ، فَيَأْخُذُهَا؟ 4 وَصِدْقِيَّا مَلِكُ يَهُوذَا لاَ يُفْلِتُ مِنْ يَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ بَلْ إِنَّمَا يُدْفَعُ لِيَدِ مَلِكِ بَابِلَ، وَيُكَلِّمُهُ فَمًا لِفَمٍ وَعَيْنَاهُ تَرَيَانِ عَيْنَيْهِ، 5 وَيَسِيرُ بِصِدْقِيَّا إِلَى بَابِلَ فَيَكُونُ هُنَاكَ حَتَّى أَفْتَقِدَهُ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ حَارَبْتُمُ الْكَلْدَانِيِّينَ لاَ تَنْجَحُونَ». 6 فَقَالَ إِرْمِيَا: «كَلِمَةُ الرَّبِّ صَارَتْ إِلَيَّ قَائِلَةً: 7 هُوَذَا حَنَمْئِيلُ بْنُ شَلُّومَ عَمِّكَ يَأْتِي إِلَيْكَ قَائِلًا: اشْتَرِ لِنَفْسِكَ حَقْلِي الَّذِي فِي عَنَاثُوثَ، لأَنَّ لَكَ حَقَّ الْفِكَاكِ لِلشِّرَاءِ». 8 فَجَاءَ إِلَيَّ حَنَمْئِيلُ ابْنُ عَمِّي حَسَبَ كَلِمَةِ الرَّبِّ إِلَى دَارِ السِّجْنِ، وَقَالَ لِي: «اشْتَرِ حَقْلِي الَّذِي فِي عَنَاثُوثَ الَّذِي فِي أَرْضِ بِنْيَامِينَ، لأَنَّ لَكَ حَقَّ الإِرْثِ، وَلَكَ الْفِكَاكُ. اشْتَرِهِ لِنَفْسِكَ». فَعَرَفْتُ أَنَّهَا كَلِمَةُ الرَّبِّ. 9 فَاشْتَرَيْتُ مِنْ حَنَمْئِيلَ ابْنِ عَمِّي الْحَقْلَ الَّذِي فِي عَنَاثُوثَ، وَوَزَنْتُ لَهُ الْفِضَّةَ، سَبْعَةَ عَشَرَ شَاقِلًا مِنَ الْفِضَّةِ. 10 وَكَتَبْتُهُ فِي صَكّ وَخَتَمْتُ وَأَشْهَدْتُ شُهُودًا، وَوَزَنْتُ الْفِضَّةَ بِمَوَازِينَ. 11 وَأَخَذْتُ صَكَّ الشِّرَاءِ الْمَخْتُومَ حَسَبَ الْوَصِيَّةِ وَالْفَرِيضَةِ وَالْمَفْتُوحَ. 12 وَسَلَّمْتُ صَكَّ الشِّرَاءِ لِبَارُوخَ بْنِ نِيرِيَّا بْنِ مَحْسِيَا أَمَامَ حَنَمْئِيلَ ابْنِ عَمِّي، وَأَمَامَ الشُّهُودِ الَّذِينَ أَمْضَوْا صَكَّ الشِّرَاءِ أَمَامَ كُلِّ الْيَهُودِ الْجَالِسِينَ فِي دَارِ السِّجْنِ. 13 وَأَوْصَيْتُ بَارُوخَ أَمَامَهُمْ قَائِلًا: 14 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: خُذْ هذَيْنِ الصَّكَّيْنِ، صَكَّ الشِّرَاءِ هذَا الْمَخْتُومَ، وَالصَّكَّ الْمَفْتُوحَ هذَا، وَاجْعَلْهُمَا فِي إِنَاءٍ مِنْ خَزَفٍ لِكَيْ يَبْقَيَا أَيَّامًا كَثِيرَةً. 15 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: سَيَشْتَرُونَ بَعْدُ بُيُوتًا وَحُقُولًا وَكُرُومًا فِي هذِهِ الأَرْضِ».

يقدم لنا تاريخ نبوة إرميا النبي هنا، قائلًا:
"الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب في السنة العاشرة لصدقيا ملك يهوذا، هي السنة الثامنة عشرة لنبوخذراصر.
وكان حينئذ جيش ملك بابل يحاصر أورشليم وكان إرميا النبي محبوسًا في دار السجن الذي في بيت ملك يهوذا" [1-2].
حدث هذا في السنة العاشرة لصدقيا ملك يهوذا، أي سنة 7-588 ق.م، وهي تقابل السنة الثامنة عشرة لنبوخذراصر. إذا حُسبت سنة اعتلاء العرش كعادة يهوذا، أما إذا حُسبت من السنة التالية (أي الكاملة) لملكه كعادة بابل فتكون السنة السابعة عشرة.
"لأن صدقيا ملك يهوذا حبسه قائلًا:
لماذا تنبأت قائلًا هكذا قال الرب.
هأنذا أدفع هذه المدينة ليد ملك بابل فيأخذها.
وصدقيا ملك يهوذا لا يفلت من يد الكلدانيين،
بل إنما يُدفع ليد ملك بابل ويكلمه فمًا لفمٍ وعيناه تريان عينيه.
ويسير بصدقيا إلى بابل،
فيكون هناك حتى أفتقده يقول الرب.
إن حاربتم الكلدانيين لا تنجحون" [3-5].
الأعداد [3-5] عبارات اعتراضية وُضعت لتفسير السبب في احتجاز إرميا، ومنعه من الهروب، إذ كان الهدف الرئيسي هو محاولة القضاء على رسالته النبوية. لا نعرف المدة التي قضاها إرميا في السجن.
تقدم لنا العبارات السابقة سبع نبوات نطق بها النبي في أورشليم، أعلن النبي هذه النبوات في مواضع كثيرة (إر 21: 3-7؛ 24: 8-10؛ 25: 8-29)، وقد تحققت حرفيًا كما جاء في (2 مل 25؛ 2 أي 36)
أ. يدفع الله مدينة أورشليم ليد ملك بابل فيأخذها.
ب. لا يفلت صدقيا ملك يهوذا من يد الكلدانيين.
ج. بالتأكيد يُدفع صدقيا ملك يهوذا ليد ملك بابل.
د. سيتكلم صدقيا ملك يهوذا مع ملك بابل فمًا لفمٍ، وعيناه تريان عينيه.
ه. يسير بصدقيا إلى بابل.
تنبأ حزقيال النبي عن صدقيا أنه لا يرى بابل (حز 12: 13). حُمل الملك إلى بابل ليلًا، لكنه لم يرها كما يقول إرميا النبي، إذ فقأوا عينيه في ربلة (2 مل 25: 4-7).
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[يعلن أحد الأنبياء: "لا يرى بابل" (حز 12: 13) وآخر يقول: "يسير به إلى بابل" [5] وتبدو النبوة كأنها متناقضة. ولكن الأمر غير ذلك، إذ كلاهما حق، فإنه لا يرى بابل وإن كان يُحمل إليها... لأنه في اليهودية تُفقأ عيناه، لأنه حيث حنث بالقسم هناك يثبت ذلك عليه وينال العقوبة.
كيف يُحمل إلى بابل؟ مسبيًا!
فإن العقوبة مضاعفة: حرمان من البصر والسبي].
[إنه لم يرَ بابل مع أنه حُمل إليها... لأنه فُقئت عيناه في اليهودية، في الموضع الذي فيه حنث بالقسم هناك نال العقوبة.
لقد خان العهد وحنث بالقسم ولو مع رجلٍ وثنيٍ، لهذا نال عقوبة مضاعفة: السبي والعمى.
هذا هو ثمر خيانة العهد مع الناس فكم بالأحرى مع الله؛ إنها تُفقد النفس حريتها والبصيرة الداخلية نورها، فيخضع الإنسان لعبودية داخلية وعمى داخلي].
و. يكون صدقيا في بابل فيكون هناك حتى يفتقده الرب، أي إلى يوم موته.
ز. إن حاربوا الكلدانيين لا ينجحون.
طبقًا لما جاء في (إر 39: 1) بدأ حصار أورشليم في السنة التاسعة لملك صدقيا، وقد رُفع الحصار لمدة بسيطة عندما اقتربت القوات المصرية من أورشليم (إر 37: 5) ، لكنه فُرض مرة أخرى عندما قرر المصريون الامتناع عن القتال. وعندما كان إرميا ذاهبًا إلى عناثوث من أورشليم ليتولى عملية شراء ملكية العائلة ظنوه يتعامل مع العدو، لذا تم القبض عليه (إر 37: 11-14)، وُوضع في حبسٍ محكمٍ، ولكن أُعطي بعد ذلك قليلًا من الحرية (إر 37: 21). كانت دار السجن عبارة عن سياج داخل القصر الملكي (نحميا 3: 25).
نقرأ تفاصيل هذا الوصف المختصر هنا في الأصحاحين 37، 38، حيث أُغلق عليه في سجن القصر بواسطة رجال القصر (إر 37: 17) كما أُلقى فيما بعد في جب آخر حيث لم يُوجد فيه ماء بل وحل (إر 38: 6). هنا نرى عدم ترتيب فصول السفر ترتيبًا تاريخيًا.
ربما لم يرد الملك سجن إرميا، بل بالعكس نجَّاه من يد أعدائه فاعتقله في مكانٍ في قصره الخاص حتى لا يمكِّن أعداءه من إيذائه. وكان لإرميا شيء من الحرية أثناء الاعتقال كما كان لبولس الرسول في رومية (أع 28: 30)، فأمكن لأصحابه وأقرباؤه أن يزوروه، واستطاع هو أن يقوم بأعمال البيع والشراء.
"فقال إرميا: كلمة الرب صارت إليّ قائلة:
هوذا حنمئيل بن شلوم عمك يأتي إليك قائلًا:
اشترِ لنفسك حقلي الذي في عناثوث لأن لك حق الفكاك للشراء.
فجاء إليّ حنمئيل ابن عمي حسب كلمة الرب إلى دار السجن،
وقال لي: اشترِ حقلي الذي في عناثوث الذي في أرض بنيامين، لأن لك حق الإرث ولك الفكاك، اشتره لنفسك، فعرفت أنها كلمة الرب.
فاشتريت من حنمئيل ابن عمي الحقل الذي في عناثوث،
ووزنت له الفضة سبعة عشر شاقلًا من الفضة.
وكتبته في صكٍ، وختمت وأشهدت شهودًا ووزنت الفضة بموازين.
وأخذت صك الشراء المختوم حسب الوصية والفريضة والمفتوح.
وسلمت صك الشراء لباروخ بن نيريَّا بن محسيا أمام حنمئيل ابن عمى وأمام الشهود الذين أمضوا صك الشراء أمام كل اليهود الجالسين في دار السجن.
وأوصيت باروخ أمامهم قائلًا:
هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:
خذ هذين الصكين، صك الشراء هذا المختوم والصك المفتوح هذا، واجعلهما في إناءٍ من خزفٍ لكي يبقيا أيامًا كثيرة.
لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:
سيشترون بعد بيوتًا وحقولًا وكرومًا في هذه الأرض" [6-15].
الحديث الذي يذكر حق القريب في التملك بالشفعة هنا يبين أن العادات القديمة التي تتحكم في ملكية الأرض كانت لا تزال سارية المفعول. ففي لاويين (لا 25: 25) يمكن للقريب أن يفك البيع لكي لا تخرج الملكية من العائلة.
كانت الإجراءات القانونية الصحيحة تُراعي كما لو كانت الأرض في حالة السلم، وكانت الحجة تتكون من نسخة محرزة (مغلقة) تشمل العقد وشروط البيع ونسخة أخرى مفتوحة، وسواء كانت الوثيقتان طبق الأصل أو كانت إحداهما تحوي ملخصًا للثانية هذا ما لا يمكن تأكيده.
كانت الأواني الفخارية شائعة الاستعمال لحفظ الأوراق والنفائس الأخرى، تختم بالقار لضمان حفظ محتوياتها.
ويظهر من الحفريات أنه وُجدت نفس هذه العادة في بلاد ما بين النهرين حيث كانت تُكتب نسختان من العقد على خزف، واحدة تُغلف بغلاف خزفي والأخرى تبقى بغير غلاف. ووُجدت أيضًا نفس هذه العادة في فلسطين في أواخر القرن الرابع ق.م.

كما وُجد حديثًا في مغارة بالقرب من بحر لوط آنية خزف فيها صكوك ومخطوطات وهي نسخ من أسفار العهد القديم وغيرها، وقد ظلَّت مختزنة في بطن الأرض أكثر من ألفي سنة.
ربما كانت الحجة مماثلة لعقود أخرى وُجدت في مصر في أواخر القرن الخامس ق.م. في جزيرة فيلة حيث كانت الحجج من نسختين تُكتب على ورق البردي، إحداهما مقفلة ومختومة والأخرى مفتوحة ليسهل الرجوع إليها. تُحفظ المفتوحة في الدوائر الرسمية، أما المختومة فتُحفظ في مكان أمين إلى انقضاء سني السبي السبعين حيث يكون مستندًا رسميًا لتحديد ميراث إرميا الذي اشتراه من ابن عمه.
يرى البعض أن مجيء حنمئيل إلى ابن عمه إرميا ليبيع حقله ويترك قريته فيه إشارة إلى حالة اليأس التي حلت بالشعب من جهة المستقبل. ربما كان لحنمئيل من هم أقرب من إرميا لكنهم رفضوا الشراء لظروف البلد القاسية، لذا تقدم إلى إرميا.
لم تكن زيارة حنمئيل لإرميا مفاجئة له، فقد سبق فأعلن الله له عنها، وقد أرشده الرب إلى ما يصنعه. هكذا عندما انسحب الكل من إرميا تدخل الله ليرشده في كل أمور حياته حتى التي تبدو زمنية
دفع إرميا في الحقل 17 شاقلًا من الفضة، فإن كان الشاقل يساوي حوالي خُمسين من الوقية (5، 11 جم)، فقد دفع حوالي سبع أوقيات فضة (تك 23: 16) . ويمكننا أن نستنتج من هذا بأن إرميا لم يكن فقيرًا.
مع أن موضوع شراء الحقل من حنمئيل أمر شخصي يعطي قراره فيه بكامل حريته، لكن الكتاب المقدس يوضح أن الله ضابط الكل يحول كل الأمور حتى التي تبدو تافهة لبنيان شعبه وأولاده. كأن ما حدث لم يكن كما يظن البعض محض صدفة - إن صح التعبير - لكن تمّ بعناية إلهية يحمل الآتي:
أ. تأكيد طاعة إرميا النبي لله الذي أعلن له عن الأمر مسبقًا.
ب. تزكية إيمان إرميا الذي يعلن بهذا الحدث أن السبي قادم حتمًا، لذا حفظ نسختي العقد في إناء خزفي. لأنه حفظ النسختين وليس نسخة واحدة في إناء خزفي لإدراك النبي أن تنفيذ شراء الحقل يتطلب عشرات السنين حتى ينتهي السبي. بهذا أعلن تأكيده أن السبي قادم حتمًا، وأن العودة أيضًا قادمة حتمًا!
ج. تزكية إيمانه بأنه سيعود المسبيين يومًا ما وتعود الحياة اليومية من بيع وشراء وفلاحة حقل إلخ.
د. حمل الشراء رمزًا لعمل السيد المسيح الخلاصي.
التفسير الرمزي لشراء الحقل

ما هو هذا الحقل الذي اشتراه إرميا وهو في السجن أثناء السبي ليسجل عقد الشراء من نسختين، إحداهما مختومة والأخرى مفتوحة، حتى يملك الحقل بعد الانتهاء من السبي؟
أ. الحقل موضوع الشراء هي الكنيسة التي اقتناها السيد المسيح لنفسه ميراثًا أبديًا، هي له يمتلكها في كمال بهائها ومجدها بعد انقضاء الدهر، كما بعد السبي، كما هو ميراثنا الذي نقتنيه بكوننا أولاد الله، ورثة الله، ووارثون مع المسيح (رؤ 8).
مع أنه اشترى الحقل ودفع ثمنه إلاّ أن لم يضع اليد عليه، فما زال الميراث تحت عبودية الفساد.

لقد حصل فداء هذا الميراث بالدم وهو الثمن المدفوع، أما الفداء بمعنى تحقيق الملكية ووضع اليد بالقوة فما زال مؤجلًا ونحن ننتظر ونتوقع فداء المقتنى المدفوع ثمنه.
الدرج المكتوب هو سند ملكية هذا العالم ولا جدال في هذا، ويبقى مختومًا إلى أن يقوم الوارث الشرعي ليطالب بالملكية، ومن الواجب قبل امتلاك العالم فعلًا أن ينقي ميراثه أولًا خلال وفتح الختوم.
ب. قدم إرميا الثمن وهو بعد في السجن داخل القصر وجيوش الأعداء تحيط بأورشليم. لم يرجيء إرميا الثمن بل بثقة ويقين قدم الثمن واستلم العقد. هكذا دفع مسيحنا ثمن خلاصنا، دمه الثمين، بعد أن نزل إلى عالمنا كواحدٍ منا، وهو الملك صار تحت الحكم. أُحصي مع الأثمة، وانهالت الاتهامات ضده، أما هو فما كان يشغله إلا اقتناء كنيسته التي هي حقله المحبوب لديه.
ج. كتابة العقد من نسختين إحداهما مختومة والأخرى مفتوحة إنما تشير إلى أن الخلاص قد تحقق فعلًا إذ سجل مسيحنا بدمه عهده الجديد على الصليب، مكتوبًا بحبه العملي الباذل. صار صليب مسيحنا عقدًا أو عهدًا جديدًا مفتوحًا للمؤمنين الذين يدركون أنه قوة الله للخلاص (1 كو 3: 18)، أما لغير المؤمنين فهو مختوم، إذ يراه اليهود عثرة واليونانيون جهالة (1 كو 3: 23).
بالنسبة لنا أيضًا نرى في الصليب عهدًا واحدًا من نسختين: النسخة المختومة هو ما نناله الآن من عربون للسماويات، فننعم بخبرة الميراث الأبدي ونحن بعد في هذا العالم، أما النسخة المفتوحة فهو تمتعنا بالسماويات عينها حين نرى الرب وجهًا لوجه ونحيا في الأحضان الأبوية أبديًا.
د. وضع النسختين في إناءٍ خزفيٍ يشير إلى أن العهد الجديد الذي به ينال المؤمنون الميراث الأبدي يودع في أناس (لهم الجسد كإناءٍ خزفيٍ) يشهدون للعمل الخلاصي الإلهي خلال حياتهم الزمنية، هذا ما دفع الرسول بولس أن يحث تلميذه تيموثاوس أن يحفظ الوديعة (1 تي 6: 20؛ 2 تي 1: 14) وأن يودعها في أناسٍ أمناءٍ.
ه. تم العقد أمام باروخ وكل اليهود الذين كانوا في قاعة السجن تأكيدًا أن عمل الخلاص أو العهد الجديد بالصليب يتحقق علانية حيث يرتفع السيد المسيح على جبل الجلجثة أمام اليهود وبعض رجال الدولة والأمن.
لأول مرة يُذكر باروخ [12]، الكاتب الذي يملي النبي كلامه عليه ثم يكتبه، وكان رجلًا تقيًا، صديقًا لإرميا ومعاونًا له وأمين سرّه، كان مسئولًا عن إعداد وثائقه، ولعلّه كان كاتبًا رسميًا وخطّاطًا (إر 36: 26).
2. رد الفعل للشراء:

16 ثُمَّ صَلَّيْتُ إِلَى الرَّبِّ بَعْدَ تَسْلِيمِ صَكِّ الشِّرَاءِ لِبَارُوخَ بْنِ نِيرِيَّا قَائِلًا:
17 «آهِ، أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ،
هَا إِنَّكَ قَدْ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقُوَّتِكَ الْعَظِيمَةِ، وَبِذِرَاعِكَ الْمَمْدُودَةِ.
لاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ شَيْءٌ.
18 صَانِعُ الإِحْسَانِ لأُلُوفٍ، وَمُجَازِي ذَنْبِ الآبَاءِ فِي حِضْنِ بَنِيهِمْ بَعْدَهُمُ،
الإِلهُ الْعَظِيمُ الْجَبَّارُ، رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ.
19 عَظِيمٌ فِي الْمَشُورَةِ، وَقَادِرٌ فِي الْعَمَلِ،
الَّذِي عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَانِ عَلَى كُلِّ طُرُقِ بَنِي آدَمَ لِتُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، وَحَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ.
20 الَّذِي جَعَلْتَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ مِصْرَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، وَفِي إِسْرَائِيلَ وَفِي النَّاسِ، وَجَعَلْتَ لِنَفْسِكَ اسْمًا كَهذَا الْيَوْمِ،
21 وَأَخْرَجْتَ شَعْبَكَ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ، وَبِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ وَمَخَافَةٍ عَظِيمَةٍ،
22 وَأَعْطَيْتَهُمْ هذِهِ الأَرْضَ الَّتِي حَلَفْتَ لآبَائِهِمْ أَنْ تُعْطِيَهُمْ إِيَّاهَا، أَرْضًا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا.
23 فَأَتَوْا وَامْتَلَكُوهَا، وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِكَ، وَلاَ سَارُوا فِي شَرِيعَتِكَ.
كُلُّ مَا أَوْصَيْتَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ، فَأَوْقَعْتَ بِهِمْ كُلَّ هذَا الشَّرِّ.
24 هَا الْمَتَارِسُ!
قَدْ أَتَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَأْخُذُوهَا،
وَقَدْ دُفِعَتِ الْمَدِينَةُ لِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَهَا بِسَبَبِ السَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْوَبَإِ،
وَمَا تَكَلَّمْتَ بِهِ فَقَدْ حَدَثَ، وَهَا أَنْتَ نَاظِرٌ.
25 وَقَدْ قُلْتَ أَنْتَ لِي أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ: اشْتَرِ لِنَفْسِكَ الْحَقْلَ بِفِضَّةٍ وَأَشْهِدْ شُهُودًا، وَقَدْ دُفِعَتِ الْمَدِينَةُ لِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ». [16-25].

يلاحظ في صلاة إرميا أو تسبحته الآتي:
أولًا: لم ينشغل إرميا بشراء الحقل، فقد أدرك أنه لن يعيش على الأرض حتى يتسلم الحقل... لكن ما كان يشغله هو الله نفسه خالق السماء والأرض، الذي يبسط يديه بالحب لمؤمنيه وهو قدير على خلاصهم. حاول إرميا أن يسّكِن من مخاوفه وقلقه بالتفكير بأنه لا شيء يستحيل على الله الذي خلق الكون فهو يفعل ما يشاء. ومع ذلك فهناك مشكلة خطيرة تتعلق بيهوذا، لأن الأمة رفضت سلطان الله عليها (لو 19: 14)، ولأن كل شيء مكشوف بالنسبة لله فلا يمكن لأي شر أن يختفي عن نظر الله.
ثانيًا: صلى بحزن إلى الله الذي هدأ من روعه ليطمئن على المستقبل. كان الحصار ضد أورشليم يشهد بأن إنذارات الله السابقة قد أضحت حقيقة ماثلة الآن، لذلك كان يصعب على إرميا أن يعتقد أن الله الغير متغير وكلي القدرة يمكن أن يأمره بشراء الأرض بينما كانت نهاية الحياة الطبيعية في يهوذا قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى. ومع ذلك فقد أُمر النبي أن يتصرف كما لو كان للأرض مستقبل مجيد ورائع، وكان إيمانه وطاعته في ظل هذه الظروف نموذجًا للسلوك يحتذي به كل من المؤمنين الحقيقيين (عب 11: 6).
ثالثًا: يقول: "الإله العظيم الجبار رب الجنود اسمه".
اهتم موسى النبي أن يسأل الله عن اسمه (خر 3)، فأعلن الله له أن اسمه "يهوه"، هنا أيضًا يعلن الرب عن اسمه أنه "رب الجنود"، فالله فوق الأسماء كما يقول القديس إكليمنضس السكندري، لكنه يعلن اسمه حسب احتياجنا.
احتاج موسى إلى الله ككائنٍ يحل وسط شعبه، فقدم الله اسمه "يهوه"أي "أنا كائن"، وإرميا يدخل في آلام كثيرة ومرارة، لذلك يعلن الله له عن اسمه "رب الجنود"... وأخيرًا جاء السيد المسيح الابن الوحيد ليعلن اسم أبيه للبشر كآب...
يقول القديس جيروم: [لم يكن هذا الاسم معروفًا في الماضي، إذ يقول الرب: "أنا أظهرت اسمك للناس" (يو 17: 6). فإن كل ابنٍ في الحق يحمل اسم أبيه].
رابعًا: يحدثنا في [23] عن ثلاثة أسباب لدمارهم:
أ. لم يطيعوا الصوت الإلهي.
ب. لم يسلكوا في ناموسه الإلهي.
ج. لم يتمموا شيئًا من وصاياه الإلهية!
لقد حرموا أنفسهم من الصوت الإلهي، والناموس الإلهي، والوصية الإلهية؛ وإن كان من الصعب وضع حدٍ فاصٍل للتمييز بين هذه الثلاثة إلا إنه يمكننا القول:
حرموا أنفسهم من اللقاء الشخصي مع الكلمة الإلهية أو الصوت الإلهي، لقاء الحب والود!
حرموا أنفسهم من الناموس أو الشريعة الإلهية كقائد لهم في الطريق الملوكي حتى لا ينحرفوا يمينًا أو يسارًا عن الطريق الملوكي أو طريق الحياة.
وأخيرًا حرموا أنفسهم من الوصية الإلهية التي قدمها الله للإنسان ليعلن بطاعته لها عن تجاوبه مع الحب الإلهي، فيدخل في حب مشترك بين الله والإنسان!
خامسًا: يصف الله المحرر من السبي بعدة سمات تتحدث عن عظمة قدرته:
أ. خالق السماء والأرض بقوته العظيمة [17].
ب. إله المستحيلات، لا يعسر عليه شيء [17].
ج. محب ومترفق بالآلاف [18].
د. يجازي الآباء في أبنائهم المصرين على السلوك بروح آبائهم لكي يؤدب الكل.
ه. الله العظيم الجبار [17].
ح. عظيم في المشورة [19].
ز. الإله القدير [19].
ط. العارف كل شيء، عيناه مفتوحتان على طرق بني آدم ليعطي كل واحٍد حسب طرقه وحسب ثمر أعماله [19].
ى. إله العجائب والمعجزات [20].
ك. واهب الخروج لشعبه بقوة [21].
ل. إله المواعيد الصادقة: واهب أرض الموعد [22].
م. يؤدب على الشرور [23].
سادسًا: لم يتحدث عن التأديب الإلهي إلا بعد أن كشف عن حب الله الفائق واهتمامه بالإنسان، إذ خلق الكل لأجله، وقدم له المستحيلات، مع المشورة الإلهية العظيمة. إنه يشتهي حريته فيخرجه كما من عبودية فرعون، ويدخل به إلى أرض الموعد فلا يعتاز شيئًا، وأخيرًا إذ يصمم الإنسان على العصيان لا يوجد طريق آخر غير التأديب الإلهي مهما بدى قاسيًا.
سابعًا: تحدث في تسبحته للرب عن الخروج من مصر، وهو موضوع لم يشغل موسى النبي وحده بل ورد في الأسفار التاريخية والمزامير وكتب الأنبياء، ويردد كثيرًا في ليتورجيات الأعياد اليهودية والتسابيح التي كانت تُقدم في الهيكل.
3. إجابة الله عليه:

26 ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا قَائِلَةً:
27 «هأَنَذَا الرَّبُّ إِلهُ كُلِّ ذِي جَسَدٍ. هَلْ يَعْسُرُ عَلَيَّ أَمْرٌ مَا؟
28 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
هأَنَذَا أَدْفَعُ هذِهِ الْمَدِينَةَ لِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَلِيَدِ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ فَيَأْخُذُهَا.
29 فَيَأْتِي الْكَلْدَانِيُّونَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ هذِهِ الْمَدِينَةَ، فَيُشْعِلُونَ هذِهِ الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ، وَيُحْرِقُونَهَا وَالْبُيُوتَ الَّتِي بَخَّرُوا عَلَى سُطُوحِهَا لِلْبَعْلِ وَسَكَبُوا سَكَائِبَ لآلِهَةٍ أُخْرَى لِيُغِيظُونِي.
30 لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي يَهُوذَا إِنَّمَا صَنَعُوا الشَّرَّ فِي عَيْنَيَّ مُنْذُ صِبَاهُمْ.
لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا أَغَاظُونِي بِعَمَلِ أَيْدِيهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ.
31 لأَنَّ هذِهِ الْمَدِينَةَ قَدْ صَارَتْ لِي لِغَضَبِي وَلِغَيْظِي مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ بَنَوْهَا إِلَى هذَا الْيَوْمِ، لأَنْزِعَهَا مِنْ أَمَامِ وَجْهِي
32 مِنْ أَجْلِ كُلِّ شَرِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي يَهُوذَا الَّذِي عَمِلُوهُ لِيُغِيظُونِي بِهِ، هُمْ وَمُلُوكُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَكَهَنَتُهُمْ وَأَنْبِيَاؤُهُمْ وَرِجَالُ يَهُوذَا وَسُكَّانُ أُورُشَلِيمَ.
33 وَقَدْ حَوَّلُوا لِي الْقَفَا لاَ الْوَجْهَ.
وَقَدْ عَلَّمْتُهُمْ مُبَكِّرًا وَمُعَلِّمًا، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا لِيَقْبَلُوا أَدَبًا.
34 بَلْ وَضَعُوا مَكْرُهَاتِهِمْ فِي الْبَيْتِ الَّذِي دُعِيَ بِاسْمِي، لِيُنَجِّسُوهُ.
35 وَبَنَوْا الْمُرْتَفِعَاتِ لِلْبَعْلِ الَّتِي فِي وَادِي ابْنِ هِنُّومَ، لِيُجِيزُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ فِي النَّارِ لِمُولَكَ، الأَمْرَ الَّذِي لَمْ أُوصِهِمْ بِهِ، وَلاَ صَعِدَ عَلَى قَلْبِي، لِيَعْمَلُوا هذَا الرِّجْسَ، لِيَجْعَلُوا يَهُوذَا يُخْطِئُ. [26-35].

أولًا: يحدثنا عن خطايا إسرائيل السبع:
أ. يمارسون الشر منذ صباهم [30]، أي نشأوا فيها أبًا عن جدٍ، متأصلون فيها.
ب. يثيرون غضب الله بعمل أيديهم (الأصنام)، أي مصممون على الشر بإقامتهم آلهة وثنية.
ج. يعطون الله القفا لا الوجه [33]، أي لا يحملون حبًا لله بل كراهية.
د. لا يصغون لتعاليم الله، متجاهلين الوصية الإلهية.
ه. يقيمون رجاساتهم في بيت الله ويدنسونه [34]، فيخلطون عبادة الله بالأوثان والحياة التعبدية بالرجاسات. إذ قدمت أورشليم محرقات للأوثان سمح لها أن تحترق على أيدي الكلدانيين.
و. يبنون مرتفعات للبعل [35].
ز. يجيزون أبناءهم وبناتهم في النار للإله مولك في وادي ابن هنوم. يضحون من أجلها حتى بأبنائهم فيلقون بهم في النار كذبائحٍ بشريةٍ، متجاهلين أبسط المشاعر الإنسانية أو حتى الحيوانية!
نجد هنا تركيزًا على شرورهم المستمرة طوال تاريخهم.
تمثل أورشليم الأمة كلها التي كانت في أيام ما قبل داود النبي مسرحًا لوثنية اليبوسيين، وكان الفساد الذي أُدخل تحت حكم سليمان بداية لدخول العبادات الغريبة إلى جانب عبادة الله، والارتداد بصورة شبه مستمرة. وفي عصر إرميا كان ذلك هو الطابع السائد للحياة حتى أن إصلاحات يوشيا لم يكن لها تأثير دائم، وقد أضاف المواطنون لتلك العبادات إساءة وإغاظة برفضهم عهد النعمة، والارتباط بالعبادة الوثنية (إر 7: 31) وتقديم ذبائح بشرية (إر 19: 5؛ لا 18: 21). وكانت عبادة الأوثان على السطوح (انظر 19: 13) من أكثر الأخطاء الذميمة للشعب المختار.
بمعنى آخر احتلت الخطية كل كيانهم: تأصلت فيهم منذ الصبا، فأفسدت سلوكهم (ممارسة الشر) وقلوبهم (إعطاء الله القفا)، وإرادتهم (لا يصغون للتعاليم الإلهية)، وعبادتهم (تدنيس بيت الله)، وطاقاتهم (يصنعون التماثيل ويبنون المرتفعات للبعل)، حتى عواطفهم وعلاقاتهم الأسرية (يجيزون أولادهم في النار).
هذا وقد تسللت الخطية إلى الجميع، لم تقتصر على أسباط معينة ولا على فئات معينة بل انخرط فيها أبناء إسرائيل كما أبناء يهوذا [30]؛ سقطت فيها كل الأمة: الملوك ورجال الدولة والكهنة والأنبياء والشعب، فقد صنعوا شرورًا جماعية كثيرة [31-32] لذا استحقوا تأديبًا جماعيًا! لقد كسروا العهد مع الله [33-35]، وأقاموا عهودهم مع البعل والإله مولك.
ثانيا: نفذ إرميا النبي الأمر الإلهي الخاص بشراء الحقل في ظروف غير طبيعية، بالرغم من تأكده من تسليم أورشليم في أيدي الكلدانيين.
إذ سبَّح إرميا الله القدير مؤكدًا أنه ليس شيء غير مستطاع لديه، أجاب الله أنه إله كل جسد [27]. إله كل البشرية، يعمل في الكل بخطته الفائقة. يستخدم الله نفس كلمات إرميا [17] ليؤكد له أنه لا شيء يعسر على الخالق.
4. الوعد برد السبي:

36 «وَالآنَ لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ عَنْ هذِهِ الْمَدِينَةِ الَّتِي تَقُولُونَ إِنَّهَا قَدْ دُفِعَتْ لِيَدِ مَلِكِ بَابِلَ بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْوَبَإِ: 37 هأَنَذَا أَجْمَعُهُمْ مِنْ كُلِّ الأَرَاضِي الَّتِي طَرَدْتُهُمْ إِلَيْهَا بِغَضَبِي وَغَيْظِي وَبِسُخْطٍ عَظِيمٍ، وَأَرُدُّهُمْ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ، وَأُسَكِّنُهُمْ آمِنِينَ. 38 وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا. 39 وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا وَاحِدًا وَطَرِيقًا وَاحِدًا لِيَخَافُونِي كُلَّ الأَيَّامِ، لِخَيْرِهِمْ وَخَيْرِ أَوْلاَدِهِمْ بَعْدَهُمْ. 40 وَأَقْطَعُ لَهُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا أَنِّي لاَ أَرْجِعُ عَنْهُمْ لأُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَأَجْعَلُ مَخَافَتِي فِي قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَحِيدُونَ عَنِّي. 41 وَأَفْرَحُ بِهِمْ لأُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَأَغْرِسَهُمْ فِي هذِهِ الأَرْضِ بِالأَمَانَةِ بِكُلِّ قَلْبِي وَبِكُلِّ نَفْسِي. 42 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: كَمَا جَلَبْتُ عَلَى هذَا الشَّعْبِ كُلَّ هذَا الشَّرِّ الْعَظِيمِ، هكَذَا أَجْلِبُ أَنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ الْخَيْرِ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَيْهِمْ. 43 فَتُشْتَرَى الْحُقُولُ فِي هذِهِ الأَرْضِ الَّتِي تَقُولُونَ إِنَّهَا خَرِبَةٌ بِلاَ إِنْسَانٍ وَبِلاَ حَيَوَانٍ، وَقَدْ دُفِعَتْ لِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ. 44 يَشْتَرُونَ الْحُقُولَ بِفِضَّةٍ، وَيَكْتُبُونَ ذلِكَ فِي صُكُوكٍ، وَيَخْتِمُونَ وَيُشْهِدُونَ شُهُودًا فِي أَرْضِ بِنْيَامِينَ وَحَوَالَيْ أُورُشَلِيمَ، وَفِي مُدُنِ يَهُوذَا وَمُدُنِ الْجَبَلِ وَمُدُنِ السَّهْلِ وَمُدُنِ الْجَنُوبِ، لأَنِّي أَرُدُّ سَبْيَهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ».

إذ قدم الله لشعبه الحجة تلو الأخرى، معللًا سر سقوطهم تحت التأديب الجماعي، لم يتركهم في يأس بل قدم لهم عهدًا جديدًا على مستوى أعظم من العهد القديم، حيث ينقشه في قلوبهم. يقدمه عهدًا أبديًا، يُسر به فهو محب لمؤمنيه.
بعد أن كشف الله عن خطاياهم التي بسببها سقطوا تحت التأديب، أراد أن يوضح لهم أن التأديب ليس إلاّ مرحلة مؤقتة، خلالها يدخل بشعبه إلى التوبة كما إلى مدرسة إلهية، يكشف لهم عن خطاياهم ويحاججهم لأجل رجوعهم إليه ونموهم. من الجانب الايجابي يكشف لهم عن حبه العجيب لهم واهتمامه بهم وتقديم عهدٍ جديدٍ فائقٍ: أولًا: يتحدث بروح الصراحة والأبوة أنه هو الذي دفع بهم إلى السبي كما إلى السيف والجوع والوبأ، إذ صاروا موضع غضبه بسبب خطاياهم وعصيانهم. ها هو الآن يردهم بالحب ويدخل بهم إلى الموضع الذي طردهم منه ليعيشوا في أمان سالمين [36-37].
"والآن لذلك هكذا قال الرب إله إسرائيل عن هذه المدينة التي تقولون إنها قد دفعت ليد ملك بابل بالسيف والجوع والوبأ.
هأنذا أجمعهم من كل الأراضي التي طردتهم إليها بغضبي وغيظي وبسخطٍ عظيمٍ،
وأردهم إلى هذا الموضع وأسكنهم آمنين" [36-37].
جاء الحديث في العبرية في صيغة الماضي وليس كمن يتنبأ عن المستقبل ليؤكد لهم أن السبي يتحقق حتمًا والرد منه أيضًا سيتم لا محالة!
ثانيًا: جوهر العهد هو اتحاد الله بشعبه: "ويكونونلي شعبًا، وأنا أكون لهم إلهًا" [38]. هذا الاتحاد هو قمة مجدنا الأبدي، حيث نجد لنا موضعًا في حضن الآب، وُينسب الله إلينا ونحن ننتسب إليه، الذي يعتز بهذا النسب قائلًا: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب".
ثالثًا: "وأعطيهم قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا ليخافوني كل الأيام لخيرهم وخير أولادهم بعدهم" [39].
يعطينا "قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا" ما هو هذا القلب الواحد إلا روح الوحدة، وما هو الطريق الواحد الذي يدخل بنا إلى مخافة الرب لخيرنا وخير أولادنا إلا السيد المسيح القائل: "أنا هو الطريق". ففي هذا العهد نتمتع بعمل الروح القدس والسيد المسيح، فنعيش كشعبٍ واحدٍ، الجسد الواحد، ونثبت في الطريق الإلهي الملوكي لننعم بشركة الطبيعة الإلهية، حاملين الشركة في سمات المسيح فينا.
رابعًا: "وأقطع لهم عهدًا أبديًا أني لا أرجع عنهم لأحسن إليهم وأجعل مخافتي في قلوبهم فلا يحيدون عني" [40].
يبقى العهد أبديًا حتى في السماء (رؤ 21؛ إش 50: 3، حز 16: 60)... نرتبط بالله، فلا يقدر الموت أن يحطم علاقتنا به، بل يدخل بنا إلى لقاءٍ أعظمٍ لا يتحطم!
يقول الأب بفنوتيوس: [يتحدث إرميا النبي على لسان الله مقررًا بوضوح أن مخافة الله التي بها نثبت فيه تنسكب علينا منه]. كاسيان 3: 18.
خامسًا: "وأفرح بهم" [41].
هذه هي قمة علاقة الحب، فإنه ليس فقط يحبنا بل يفرح بنا، كأب يشتهي أن يرى أبناءه ويلتقي بهم ويسكب مجده فيهم مقدمًا لهم ميراثًا إلهيًا. هكذا يكشف العهد الجديد عن قلب الله - إن صح التعبير- الذي كأبٍ يطلب خير أولاده ونموهم فيه.
سادسًا: "لأحسن إليهم وأغرسهم في هذه الأرض بالأمانة بكل قلبي وبكل نفسي" [41].
علامة العهد أن تمتد يد الله نفسه لتغرسنا في الأرض الجديدة، اليد الأمينة التي تعمل بغير حدود، بل بكل قلب الله التي لا يأتمن آخر غيره على غرسنا! إن كان بولس الرسول يغرس وآخر يسقي، لكن يبقى الله العامل في قلب الرسل والخدام، هو الذي يغرس ويروى وينمي ويقدم ثمر الروح.
سابعًا: أخيرًا يؤكد لهم استقرار حياتهم بعد السبي في ظل العناية الإلهية كعربون للحياة الكنسية الغنية في ثمارها، والمملؤة سلامًا روحيًا.
"لأنه هكذا قال الرب: كما جلبت على هذا الشعب كل هذا الشر العظيم هكذا أجلب أنا عليهم كل الخير الذي تكلمت به إليهم.
فتُشترى الحقول في هذه الأرض التي تقولون إنها خربة بلا إنسانٍ وبلا حيوانٍ وقد دُفعت ليد الكلدانيين.
يشترون الحقول بفضة ويكتبون ذلك في صكوك ويختمون ويشهدون شهودا في أرض بنيامين وحوالي أورشليم وفي مدن يهوذا ومدن الجبل ومدن السهل ومدن الجنوب لأني أرد سبيهم يقول الرب" [41-44].
من وحي إرميا 32

وعودك تتحدى الزمن!


* آمن إرميا بوعودك الصادقة:
بعد 70 عامًا لا بُد أن ينتهي السبي!
كان في دار السجن وسط الآلام،
وكان البابليون يستعدون لنهب أورشليم،
فرأى بعينيْ الإيمان اليقين الملك ورجاله يُسبون،
المدينة وهيكلها، والقرى وحقولها... تخرب،
مع ذلك اشترى قطعة أرض في عناثوث قريته!
* افتدى الأرض بسبعة عشر شاقلًا من الفضة!
قدم صك الشراء لباروخ كاتبه!
حُفظت منه نسختان في إناءٍ خزفي،
نسخة مختومة وأخرى مفتوحة!
أكد تقديره لميراث آبائه واعتزازه بأرض الموعد!
أكد إيمانه أنه وإن طال الزمن سيعود شعبه من السبي،
وترجع الحياة اليومية الطبيعية إلى ما هو أفضل!
وعودك بالعودة المجيدة تتحدى الزمن بكل مرارته وعاره!
* من أجلي دخلت أنت يا مخلصي، وليس إرميا، إلى السجن!
لحسابي حُوكمت كمذنبٍ وحملت ثمرة عصياني!
رأيتني أنهار في السبي وتخرب كل أعماقي!
فقدت مجدي وحاط بي الخزي!
اشتريتَ قلبي حقلًا خاصًا بك!
أقمت منه جنتك وفردوسك!
نعم! ليثمر روحك القدوس فيَّ!
لأتحرر الآن، هوذا صك الشراء محفوظ!
صك الشراء بل صك الفداء مختوم هنا لا نراه إلا بعينيْ الإيمان،
ومفتوح في السماء يتهلل به السمائيون معنا!
* من أجلي سقطت تحت المحاكمة يا إله إرميا!
لم تنشغل بالاتهامات ولا بالجلدات ولا بالجراحات،
بل كل ما كان يشغلك أن توقع عهدًا جديدًا،
كتبتهلي بدمك الثمين!
اشتريتني وسط آلامك حقلًا مقدسًا لك،
قبلتني ميراثك، وأنت ميراثي.
حبيبي لي وأنا لحبيبي الراعي بين السوسن!
* بدمك سجلت العهد الجديد،
أودعته في قلبي الصغير، الإناء الخزفي،
أودعت كنزك الإلهي في حقارتي!
* هب لي أن أقرأ النسخة المفتوحة،
فأرى مع يوحنا حبيبك بابًا مفتوحًا في السماء،
ويرتفع قلبي إلى أمجادك!
إني أنتظر أيضًا أن تفتح النسخة المختومة،
حين تأتي يا ديان البشرية،
فأرى ما لم تره عين،
وأسمع ما لم تسمع به أذن،
وأتمتع بما لم يخطر على قلب إنسان!
لك الحمد والتسبيح يا من اقتنيتني لا بذهب وفضة،
بل بدمك الثمين المبذول على الصليب!





Mary Naeem 13 - 10 - 2023 11:10 AM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/169062724887711.jpg



من وحي إرميا 34

هب لي روح الحرية!


* أنت هو الحُر الحقيقي،
والد الحرية،
وباعث روح الحرية!
* قدمتَ لخليقتك العاقلة روح الحرية،
لكنني أسأت استعمالها!
في كمال حريتي عصيتك،
فصرت عبدًا للعصيان،
وذليلًا للشهوات!
فقدت كمال حريتي بك أيها الحُر الحقيقي!
* تشتاق أن يعمل روحك فيّ،
روح الحرية الذي يرفعني فوق كل مذلةٍ وعبوديةٍ،
يهبني لا أن أعيش حُرًا حقيقيًا فحسب،
بل أَبذل كل حياتي ليعيش الكل حرًا!
من ذاق الحرية الحقيقية لا يحتمل أن يرى كائنًا في مذلة العبودية!
* أقسم الملك صدقيا وكل رجاله وشعبه في ضيقتهم المرّة،
وتعهدوا في بيتك أن يحرروا العبيد!
لكن ما أن رفعت الضيق عنهم،
حتى حنثوا بالعهد معك،
واستخدموا كل وسيلة بشرية لإذلال إخوتهم!
نسوا أنهم العبيد رفقاؤهم!
فقدوا روح الحرية... فانسحبت قلوبهم إلى العنف!
* أرادوا لإخوتهم المذلة،
فسقطوا تحت الغضب الإلهي!
فقدوا حريتهم وانهاروا مع العبيد تحت السيف والسبي‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
لم يترفقوا باخوتهم ففقدوا الترفق والحنان!‍‍‍‍‍
* ليعمل روحك القدوس فيّ،
فيهبني التحرر من الذات كما من الشهوات،
ليرفعني إلى الحب الإلهي ويحملني إلى اتساع القلب السماوي!
نعم لاختبر الحرية الداخلية،
فتنفتح أعماقي ببذل الذات لأجل كل خليقة!
حررني فاشتهي حرية المسكونة كلها!
نعم اجعلني أتمثَّل بك يا واهب الحرية!
* طالبت شعبك أن يحرروا العبيد في السنة السبتية،
فيفرح الكل: السادة والعبيد،
ويدرك الكل أنهم إخوة متساوون!
يفرحون معًا، وتفرح أنت بهم!
حوّل كل حياتي إلى سنة سبتية، إلى عيدٍ غير منقطع!
أطلب تحرير كل أخوتي كما ضعفي،
نعيش كلنا أحرارًا يا واهب الحرية!
نفرح جميعًا إذ نختبر جدة الحياة المقدسة الفائقة.
وتفرح أنت بنا.
نعم ليأت اليوم الأخير لتحيا خليقتك المتحررة معك إلى الأبد!

Mary Naeem 13 - 10 - 2023 11:12 AM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/169062724887711.jpg




موقف الركابيين الأمناء



يُظهر هذا الأصحاح معنى الأمانة والالتزام الروحي خلال أمانة الركابيين عبر قرنين ونصف لوصية أبيهم بالرغم من صعوبتها، كما يُظهر خيانة الشعب لله نفسه وكسر ناموسه.


في أواخر أيام يهوياقيم، قُبيل موته، تعرضت القرى المحيطة بأورشليم إلى هجمات من الأشوريين والموآبيين والعمونيين كتهيئة لهجوم نبوخذراصر على أورشليم. هؤلاء اكتسحوا الأودية، وقتلوا الفلاحين والرعاة، ونهبوا المحاصيل والماشية. لهذا اضطر سكان القرى إلى الالتجاء إلى أورشليم العاصمة ليحتموا في أسوارها من الهجمات المتوالية. تدفقت الجماهير يومًا فيومًا على المدينة المكتظة بالسكان. من بين هذه الجماهير وُجدت جماعة غريبة في سلوكها؛ رفضت السكنى في بيوت مبنية، وأقامت خيامها في الأماكن الخالية داخل أسوار المدينة. هذه الجماعة تُدعى "الركابيون".



* مقدمة في الركابيين:

لم يكن الركابيون أصلًا من جماعة إسرائيل بل كانوا من قبيلة القينيين. كلمة "قيني" اسم سامي معناه "حداد"، والقين باللغة العربية معناها "الحداد". لهذا يُظن أن القينيين كانوا حدادين لإسرائيل. لكن هذا القول مشكوك فيه، إذ قيل: "لم يوجد صانع في إسرائيل" (1 صم 13: 19).
انضم القينيون إلى الإسرائيليين وهم صاعدون من مصر إلى أرض كنعان (قض 4: 11)، وأظهروا لهم عطفًا جزيلًا، وهذا أسس علاقات ودية بين الشعبين، ويبدو أنهم اعتنقوا معتقدات إسرائيل الدينية، ورافقوهم إلى أرض الموعد. صاروا من أحلاف إسرائيل ولا سيما يهوذا. أُحصوا مع سبط يهوذا في (1 أي 2: 55).
يرى البعض أن عدة شعوب تسمّوا بهذا الاسم:
1. أحد الشعوب التي كانت موجودة في أرض كنعان يوم دُعي إبراهيم (تك 15: 19).
2. كان يثرون أو رعوئيل حمو موسى كاهن مديان يدعى القيني (قض 1: 16)، كما يُدعى المدياني (عد 10: 9). هذا يدل على أن القينيين كانوا يسكنون في مديان عند خليج العقبة على ما يُظن. ومديان هو من نسل إبراهيم من قطورة (تك 25: 2). وقد خرج أبناء حوباب ابن حمى موسى من أريحا مدينة النخل (قض 1: 16) مع بني يهوذا إلى البرية التي في جنوب عراد وسكنوا هناك مع الشعب. أما حابر القيني فقد انفصل عن قبيلته ورحل إلى الشمال قرب قادش، وكان على الحياد بين إسرائيل وأعدائهم. لكن إذ لجأ سيسرا رئيس جيش يابين إلى خيمته استقبلته ياعيل زوجته هذه التي قتلته وهو نائم في الخيمة (قض 4: 11، 17، 5: 24). وأما الآخرون فقد ظلّوا في أماكنهم في أقصى الجنوب، لأنه لما ذهب شاوللكي يضرب عماليق أوصى القينيين أن ينزلوا من وسط العمالقة لئلا يلحقهم أذى الحرب وهم فعلوا معروفًا مع إسرائيل عند صعودهم من مصر (1 صم 15: 16)، وكانوا أصدقاء لداود وأرسل إليهم هدايا من الغنيمة (1 صم 30: 29).
3. هناك قينيون رآهم بلعام ساكنين بين الصخور يأسرهم فيما بعد أشور، إذ يقول: "ليكن مسكنك متينًا، وعشك موضوعًا في صخرة، لكن يكون قايين للدمار، حتى متى يستأسرك أشور؟" (عد 24: 21-22). هذا جعل البعض يظنون أن القينيين كانوا يسكنون في مدينة البترا (الصخرة)، التي بيوتها منحوتة في الصخر. وربما كان هؤلاء بقايا القينيين المذكورين في سفر التكوين (تك 15: 19).
نخلص مما سبق أن الركابيين ينتسبون إلى يثرون حمى موسى. هذه العائلة التي انسلخت من مديان وارتبطت بموسى، فبعد أن عاد يثرون إلى أرضه بعد أن زار موسى والشعب في البرية (خر 18: 27) سأل موسى حوباب أن يكون للشعب بمثابة عيون ليقودهم في ارتحالهم في البرية (عد 10: 29-32) وعلى الرغم من رفضه لكن أولاده ساروا بإيمان في خطوات شعب الله (قض 4: 11، 1 صم 15: 16). وهم في هذا يشبهون راحاب التي كانت من أريحا وتركتها لتقيم مع شعب الله حيث التصقت بيهوذا، وراعوث الموآبية التي تركت شعبها وآلهتها لتلتصق بإله نعمى، وبوعز الذي من سبط يهوذا أيضًا. هكذا صعد بنو القيني من أريحا مدينة النخل (قض 1: 16) مع (تث 34: 3، 2 أخ 28: 15) ليقيموا مع بني يهوذا جنوب عراد.
بيت الركابيين مجتمع ديني، عبارة عن عشيرة أو جماعة تُنسب إلى يوناداب بن ركاب الذي ظهر في أيام إيليا وكان رئيس أحد فروع قبيلة القينيين، ولعله تأثر إلى حدٍ كبيرٍ بتعاليم إيليا. وإذ رأى أن تيار الفساد قد تعاظم جدًا، خصوصًا في المملكة الشمالية التي كانت خاضعة لنفوذ ايزابل وأخاب السيء، تسرب اليأس إلى نفسه، وأصبح الجو كله مسمومًا وخانقًا، ووباء الفساد وحُمى النجاسة في ازدياد مضطرد.
أعطت شجاعة يوناداب بن ركاب الركابيين مكانة ممتازة، فقد خرج لملاقاة ياهو بن نمشى بعد مسحه ملكًا على إسرائيل حيث أباد ياهو بيت آخاب الشرير سنة 480 ق.م، وبينما كان ياهو منطلقًا إلى السامرة التقى بيهوناداب بن ركاب فباركه، وقال له: هل قلبك مستقيم نظير قلبي مع قلبك؟ فقال يهوناداب: نعم نعم (2 مل 10: 15)، فهتف ياهو فجأة: "هات يدك"، فناوله إيَّاها وأصعده إلى المركبة قائلًا: هلمَّ معي وانظر غيرتي للرب. من هنا نستنتج أن ياهو كان يعرف يهوناداب جيدًا باعتباره رجلًا مكرسًا لعبادة الرب وكارهًا لعبادة الأوثان لأنه لم يختلط بعبدة البعل في هيكل السامرة قبل قتلهم.
أما غاية ياهو فكانت التخلص من كل الذين يعترضون مطامعه فقط، فتعامل مع الشر حسبما يناسب مطامع قلبه، لذلك نراه يقضي على بيت آخاب وخطاياه ولا يتعرض مطلقًا لخطايا بيت يربعام. لقد هدم بيت البعل، لكنه أبقى عجول الذهب. لقد أشهر حربه ضد أعداء الرب مندفعًا بميوله الشخصية ولم يكن يُبالي بشريعة الرب، لذلك نقرأ: "ولكن ياهو لم يتحفظ للسلوك في شريعة الرب إله إسرائيل من كل قلبه، لم يحد عن خطايا يربعام الذي جعل إسرائيل يخطئ" (2 مل 10: 31).
أما يهوناداب فلما رأى ياهو يسير في طريق بيت يربعام انسحقت روحه فيه بسبب هذه الإهانات الموجهة إلى الرب، وقاده ذلك إلى أن يلزم نفسه بلون من الحياة يشهد بحكمه الأدبي على الشر وعلى رفضه لأن يمتع نفسه بمباهج الحياة أو حتى لأن يكون مواطنًا في تلك الأرض التي جعلت عبادة الرب مستحيلة بدون النعمة الإلهية.
ولما قُسمت البلاد بين الأسباط بقيت هذه الفرقة تمارس حياتها البدائية الصحراوية بعيدًا عن الحضر، وتمسكت بمبدأ عدم شرب الخمر. ولعلها كانت تتمسك أيضًا بالعبادة الأصلية البسيطة كما كان الإسرائيليون في البرية، أي في خيمة الاجتماع دون الهيكل. وقد خشوا إدخال أي شيء حديث على العبادة القديمة، لذلك كان وجودهم في أورشليم كلاجئين فقط.
في عصر إرميا يبدو أنهم استقروا في مرتفعات يهوذا، وكان نظامهم في الحياة كما فرضه يهوناداب: تقديس النظام البدوي، وعدم الزراعة، مع الامتناع التام عن شرب الخمر.
وعلى هذا يجيء الأصحاح 35 (إر 35) والمتضمن لحادثة بيت الركابيين في ترتيب أدبي جميل لعمل مباينة بين الشعب المتمرد الذي لم يسمع لوصايا الرب إلهه خاصة بعتق العبيد رفقائهم (إر 34) وبين بيت الركابيين الذين أطاعوا وصية أبيهم.
إذ كان بنو ركاب أناس إيمان، مخلصين وأمناء، فاستخدمهم الله مثلًا... كانت الفرصة سانحة لهم أن يشربوا خمرًا في أحد المخادع في الخفاء، لكن الوصية بالنسبة لهم لها قوتها في حياتهم الخفية.

1. إرميا يختبر أمانة الركابيين:

انقضى على هذه الحال مائتان وخمسون عامًا. وعندما وصلوا إلى أورشليم ظلوا أمناء لتقاليد الآباء، وبكل قوة وقفوا بين شعب المدينة الغارقين في العبادة الوثنية، شاهدين لهم بالحياة السامية الطاهرة، التي كان عليها شعب الله القديم.
1 الْكَلِمَةُ الَّتِي صَارَتْ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ فِي أَيَّامِ يَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا قَائِلَةً:
2 «اِذْهَبْ إِلَى بَيْتِ الرَّكَابِيِّينَ وَكَلِّمْهُمْ،
وَادْخُلْ بِهِمْ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى أَحَدِ الْمَخَادِعِ وَاسْقِهِمْ خَمْرًا».
3 فَأَخَذْتُ يَازَنْيَا بْنَ إِرْمِيَا بْنِ حَبْصِينِيَا وَإِخْوَتَهُ وَكُلَّ بَنِيهِ وَكُلَّ بَيْتِ الرَّكَابِيِّينَ،
4 وَدَخَلْتُ بِهِمْ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مِخْدَعِ بَنِي حَانَانَ بْنِ يَجَدْلِيَا رَجُلِ اللهِ، الَّذِي بِجَانِبِ مِخْدَعِ الرُّؤَسَاءِ، الَّذِي فَوْقَ مِخْدَعِ مَعْسِيَّا بْنِ شَلُّومَ حَارِسِ الْبَابِ.
5 وَجَعَلْتُ أَمَامَ بَنِي بَيْتِ الرَّكَابِيِّينَ طَاسَاتٍ مَلآنَةً خَمْرًا وَأَقْدَاحًا،
وَقُلْتُ لَهُمُ: «اشْرَبُوا خَمْرًا».
6 فَقَالُوا: «لاَ نَشْرَبُ خَمْرًا، لأَنَّ يُونَادَابَ بْنَ رَكَابَ أَبَانَا أَوْصَانَا قَائِلًا:
لاَ تَشْرَبُوا خَمْرًا أَنْتُمْ وَلاَ بَنُوكُمْ إِلَى الأَبَدِ.
7 وَلاَ تَبْنُوا بَيْتًا، وَلاَ تَزْرَعُوا زَرْعًا، وَلاَ تَغْرِسُوا كَرْمًا،
وَلاَ تَكُنْ لَكُمْ، بَلِ اسْكُنُوا فِي الْخِيَامِ كُلَّ أَيَّامِكُمْ، لِكَيْ تَحْيَوْا أَيَّامًا كَثِيرَةً عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ مُتَغَرِّبُونَ فِيهَا.
8 فَسَمِعْنَا لِصَوْتِ يُونَادَابَ بْنِ رَكَابَ أَبِينَا فِي كُلِّ مَا أَوْصَانَا بِهِ، أَنْ لاَ نَشْرَبَ خَمْرًا كُلَّ أَيَّامِنَا، نَحْنُ وَنِسَاؤُنَا وَبَنُونَا وَبَنَاتُنَا،
9 وَأَنْ لاَ نَبْنِيَ بُيُوتًا لِسُكْنَانَا،
وَأَنْ لاَ يَكُونَ لَنَا كَرْمٌ وَلاَ حَقْلٌ وَلاَ زَرْعٌ.
10 فَسَكَنَّا فِي الْخِيَامِ، وَسَمِعْنَا وَعَمِلْنَا حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَانَا بِهِ يُونَادَابُ أَبُونَا.
11 وَلكِنْ كَانَ لَمَّا صَعِدَ نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ إِلَى الأَرْضِ، أَنَّنَا قُلْنَا: هَلُمَّ فَنَدْخُلُ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ وَجْهِ جَيْشِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَمِنْ وَجْهِ جَيْشِ الأَرَامِيِّينَ.
فَسَكَنَّا فِي أُورُشَلِيمَ». [1-11].

طلب الله من إرميا أن يذهب إلى بيت الركابيين ويكلمهم ويدخل بهم إلى بيت الرب إلى أحد المخادع ويسقيهم خمرًا [2].
إن الأشخاص المذكورين في [4] مجهولون لنا.
حانان بن يجدليا: يبدو أنه كان رئيس جماعة من التلاميذ.
معسيا: كان يشغل وظيفة كهنوتية يقوم بها ثلاثة أفراد (إر 52: 24، 2 مل 25: 18)، كانوا مسئولين عن الأموال المخصصة لعمل الاصلاحات في الهيكل (2 مل 12: 1)، يُنظر إليهم بعين التقدير كما كان لهم نفوذ ديني (إر 52: 24).
لعل جماعة من اليهود استرعى نظرهم اجتماع النبي بهؤلاء الرجال الغريبين في منظرهم، فاقتفوا أثرهم ودخلوا معهم ليرقبوا النتيجة. تأملوا بدقة في تصرفات إرميا حين جعل أمام بني بيت الركابيين طاسات ملآنة خمرًا وأقداحًا ليملأوها من الطاسات ويشربوا. ثم سمعوا أيضًا هذه الجماعة المحافظة وهم يقولون لا نشرب الخمر".
هذا والطاسات هي أوعية كبيرة يُصب منها الخمر في اقداح وكؤوس (تك 44: 2، 12، 16).
أما المخدع أو الغرفة المشار إليها هنا فهي إحدى الغرف الكثيرة التابعة للهيكل.
وقد استخدمت لسكن الكهنة والمخازن والمكاتب وأكل الذبائح والتعليم.
ربما تبدو أوامر يوناداب تحكمية وظاهرية، أما أوامر الرب فإنه يؤيدها اقتناع الضمير، ومتفقة مع أعمق مبادئ الفضيلة والتقوى. كان صوت يوناداب خافتًا وآتيًا إليهم من قرنين ونصف، أما صوت الرب فكان دائم التحدث إليهم في كل عصر جديد، وعلى لسان كل رسول أرسله إليهم مبكرًا.
كانت الخمر أمامهم، ولم تكن هناك خطية ضد الله في شربها. ولم يكن ممكنًا أن يتعثر الشعب بها. والنبي نفسه هو الذي دعاهم للشراب.
كانت الخمر مقترنة بالترف والفساد (إش 28: 1-8)، فامتناعهم عن شرب الخمر لم يكن فقط احتجاجًا ضد الشرور التي كانت منتشرة بين الشعب في عصرهم، بل كان أيضًا ضمانا أكيدًا لعدم اشتراكهم فيها.
وخير ما نقدمه في هذا الصدد تلك الكلمات الثمينة التي تحدث بها الرسول: "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح". لا يستطيع المؤمن طرد الشيطان بالموقف السلبي، بل يجب أن تمتلئ بالروح القدس. فالذين امتلأوا بالروح القدس، في ملء قوته، هم وحدهم يقفون ثابتين في وجه العالم ولا يشربون من كأسه.
إذا كان شخص تقي، هو رئيس القبيلة، مات منذ القديم، قد أثر في تابعيه هذا التأثير، أفلم يكن من المنتظر أن يؤثر كلام الله في حياة شعبه؟
وقد كان من السهل أن يخطر ببالهم أنه في مكان مقدس كهذا وبدعوة مقدمة إليهم من رجال أتقياء أمناء مثل إرميا النبي يجوز لهم أن يتحللوا من التزامهم العادي ولكنهم قاوموا التجربة وصمدوا للامتحان وظلّوا أمناء لوصية أبيهم على الرغم من سكناهم في أورشليم المدينة.
أما عن التطبيق الروحي بالنسبة لنا نحن المسيحيين فنقول أن الخمر في الكتاب ترمز إلى الفرح (قض 9: 13) وكان على النذير أن يمتنع عنها لأنه لا يجد فرحه في خليقة فسدت. وبنو ركاب باعتبارهم غرباء ونزلاء لا يطلبون فرحهم مما ينتج من كرمة الأرض، وهم في ذلك يرمزون إلى أولئك الذين يطلبون فرحًا أسمى لا يمكن أن يعطيه العالم. إنهم يأكلون بقية ثمار الأرض كضرورة من أجل الحياة الزمنية المؤقتة، أما فرحهم ففي الرب نفسه.
وكما يقول الأب ثيوناس: بنو ركاب أوفوا أكثر مما يطلب الناموس.

2. عدم أمانة الشعب:

بينما كانت تعليمات يهوناداب تطيعها الأجيال المتعاقبة، كانت أوامر الله في سيناء تُهمل بل وتُرفض، وصار هذا هو السلوك المألوف في الحياة.
"
12 ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا قَائِلَةً:
13 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ:
اذْهَبْ وَقُلْ لِرِجَالِ يَهُوذَا وَسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ:
أَمَا تَقْبَلُونَ تَأْدِيبًا لِتَسْمَعُوا كَلاَمِي، يَقُولُ الرَّبُّ؟!
14 قَدْ أُقِيمَ كَلاَمُ يُونَادَابَ بْنِ رَكَابَ الَّذِي أَوْصَى بِهِ بَنِيهِ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا خَمْرًا، فَلَمْ يَشْرَبُوا إِلَى هذَا الْيَوْمِ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا وَصِيَّةَ أَبِيهِمْ.
وَأَنَا قَدْ كَلَّمْتُكُمْ مُبَكِّرًا وَمُكَلِّمًا وَلَمْ تَسْمَعُوا لِي.
15 وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ كُلَّ عَبِيدِي الأَنْبِيَاءِ مُبَكِّرًا وَمُرْسِلًا قَائِلًا: ارْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئَةِ، وَأَصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ، وَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِتَعْبُدُوهَا، فَتَسْكُنُوا فِي الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُكُمْ وَآبَاءَكُمْ.
فَلَمْ تُمِيلُوا أُذُنَكُمْ، وَلاَ سَمِعْتُمْ لِي.
16 لأَنَّ بَنِي يُونَادَابَ بْنِ رَكَابَ قَدْ أَقَامُوا وَصِيَّةَ أَبِيهِمِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِهَا. أَمَّا هذَا الشَّعْبُ فَلَمْ يَسْمَعْ لِي." [12-16].

بينما كان البابليون يعيدون تنظيم صفوفهم بعد المعركة مع مصر عام 601 ق.م، قامت قوات الغزو الآرامية والكلدانية بغارات متفرقة على أهداف مختارة في يهوذا فيما بين 599 و597 لنهب يهوذا (2 مل 24: 2).

3. البقية المقدسة:

17 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ الْجُنُودِ، إِلهُ إِسْرَائِيلَ:
هأَنَذَا أَجْلِبُ عَلَى يَهُوذَا وَعَلَى كُلِّ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ كُلَّ الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، لأَنِّي كَلَّمْتُهُمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يُجِيبُوا».
18 وَقَالَ إِرْمِيَا لِبَيْتِ الرَّكَابِيِّينَ: «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ لِوَصِيَّةِ يُونَادَابَ أَبِيكُمْ، وَحَفِظْتُمْ كُلَّ وَصَايَاهُ وَعَمِلْتُمْ حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَاكُمْ بِهِ،
19 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ:
لاَ يَنْقَطِعُ لِيُونَادَابَ بْنِ رَكَابَ إِنْسَانٌ يَقِفُ أَمَامِي كُلَّ الأَيَّامِ». [17-19].

كانوا أمناء في الخفاء فتمتعوا بوعد إلهي: "لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل الأيام" [19].
إن العبارة "يقف أمامي" [19] (أمام الله) تشير إلى حياة روحية سامية، وتتضمن معرفة الله، والقدرة على إتمام وصاياه، وموهبة الشفاعة من أجل الآخرين. كانت هذه العبارة محبوبة جدًا لإيليا، وكانت تشير إلى سر قوة حياته، وقد أختارها الملاك جبرائيل في حديثه مع القديسة مريم كأقوى ضمان على تصديق رسالته.
مما تجدر الاشارة إليه أن الدكتور ولف Dr. Wolff، أحد المبشرين المتجولين، التقى بقبيلة في بلاد العرب اعترفت بأنها تتصل بالركابيين، وقرأت إليه كلمات إرميا هذه من الكتاب المقدس باللغة العربية. وأن السنيور بيروتي Signor Pierotti التقى بقبيلة قرب الطرف الجنوبي الشرقي للبحر الميت صرحت أيضًا بأنها تتصل بالركابيين، وقرأت هذه الكلمات.
في وسط الضيقة لا ينسى الله البقية الباقية القليلة الأمينة، فإنه يرد لهم أمانتهم بوعود إلهية أمينة وسخية.
ليتنا ندرك دائمًا أن لله بقية أمينة في كل جيل. ففي وسط أحداث السبي المرّة كان الله مشغولًا بمكافأة بني ركاب الأمناء. وحينما رفضته كل أورشليم وُجد له موضع راحة في بيت لعازر ومريم ومرثا في قرية عنيا (العناء) الصغيرة والمجهولة. لم ينشغل الله بكل قيادات المدينة العظمى أورشليم المقاومة له، إنما انشغل بحب أسرة مجهولة في قرية صغيرة!
في الوقت الذي كان فيه العالم كله شريرًا يستحق الإبادة، لم ينسَ الله نوحًا وبنيه ونساء بنيه. لم ينسَ ثمانية أشخاص وسط جمهور البشرية في ذلك الحين.
وعندما استحقت سدوم وعمورة نارًا وكبريتًا للحرق أرسل الله ملاكين لإنقاذ لوط وبنتيه.
وفي سفر حزقيال كثيرًا ما يذَّكر الله نبيَّه أن له بقية باقية أمينة.
الله له شهود أمناء في كل عصر.

من وحي إر35

أيها الأمين هب لي روح الأمانة


* وعدتني: كن أمينًا إلى الموت، فسأعطيك إكليل الحياة.
نفسي تئن في داخلي، قائلة:
من أين لي أن أكون أمينًا؟!
انظر إليَّ أيها الأمين وحده،
وهب لي روح الأمانة!
فأشاركك طبيعة الأمانة!
* كان بنو ركاب أمناء في وصية أبيهم الذي رقد،
أما أنا فغير أمين في وصية أبي واهب الحياة!
كسرت وصيتك، وقدمت لنفسي أعذارًا!
* قدّم يوناداب ابن رِكاب وصية لأولاده فحفظوا الأمانة!
أما أنت فقدمت ذاتك لي وديعة أمانة،
فخُنت الأمانة وبددتها دون مقابلٍ!
* قدّم يوناداب لبنيه وصية تبدو جافة،
أمّا أنت فتُقدم لي ذاتك روح وحياة!
سألهم ألاّ يبنوا بيوتًا يسكنون فيها، بل يُقيموا في خيام.
وها أنت تُقدم لي ذاتك لأختفي فيك أيها المسكن الإلهي؛
أستتر فيك كما في صخرة تحميني من كل الأعداء.
* طلب منهم ألاّ يزرعوا كرومًا،
وأنت تطلب مني أن أُطعَّم فيك أيها الكرمة الحقيقية.
أوصيتهم ألاّ يشربوا خمرًا،
وأما أنت فوهبتني روحك القدوس يُسكر نفسي بخمر الحب الإلهي.
أشرب من ينابيع روحك،
فتفيض في داخلي أنهار حب تُسكر النفوس!
* بماذا أعدك يا أبي ومخلصي؟!
ليسكن فيَّ روحك القدوس،
فأحيا أمينًا أبديًا!
اسمع صوتك الإلهي:
كنتَ أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير.

Mary Naeem 17 - 10 - 2023 08:13 AM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/169752987081581.jpg






كلمة الرب لا تفنى





غالبًا ما تحوي الأصحاحات 36-44 أحداثًا تاريخية مع نبوات قليلة لإرميا النبي.
في أواخر ربيع 605 ق.م. أو بداية الصيف هزم نبوخذنصر القوات المصرية في موقعة كركميش على نهر الفرات، وبدأ يتحرك جنوبًا في سوريا إلى فلسطين. يبدو أن هذا الجو كان مناسبًا لإرميا لقراءة درج يحمل نبواته، هذه التي أملاها بروح الرب على كاتبه باروخ. لم تُقرأ حتى الشهر التاسع من السنة الخامسة للملك يهوياقيم [9]، أي في ديسمبر 604 ق.م، نفس الشهر الذي فيه هاجم الجيش البابلي مدينة اشقلون في السهول الفلسطينية ونهبها .
كانت يهوذا في صف مصر شكليًا، لكن عمليًا لم يكن ممكنًا لمصر أن تسيطر على يهوذا. وكان يلزم ليهوذا أن تحدد موقفها من الصراع بين بابل ومصر. وربما جاء الصوم العام لا لطلب مشورة الله بخصوص سياسة يهوذا، وإنما لكي يرفع الله الضيق عن يهوذا وتبقى في سياستها تتمم إرادتها لا إرادة الله... على أي الأحوال كانت الظروف من كل جانب تدفع إرميا لإعلان نبواته أو ملخص لها على لسان كاتبه باروخ.
لهذا الأصحاح أيضًا أهمية خاصة، فمن ناحية أوضح كيف بدأ جمع نبوات إرميا؛ ومن ناحية أخرى ألقى ضوءًا على بعض رؤساء يهوذا الذين كانوا في أعماقهم يطلبون سلام إرميا وباروخ... ربما كان هؤلاء الرؤساء مساعدين في إصلاحات الملك يوشيا لذلك تعاطفوا مع النبي وكاتبه .
واضح أيضًا أن كاتب القصة شاهد عيان، غالبًا باروخ نفسه، يكتبها، لا ليسجل لنا عملًا تاريخيًا أو جزءًا من حياة النبي فحسب، بل يعرض لنا أيضًا فكرًا لاهوتيًا.

لم يستطع إرميا أن يتحدث مع الشعب، فأرسل إليهم صديقه باروخ يقرأ للقادمين إلى أورشليم الصائمين النبوات التي سبق فأعلنها، لا لإثارتهم ضد السلطات بل لتوبتهم، إذ يقول: "لعل تضرعهم يقع أمام الرب فيرجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء، لأنه عظيم الغضب والغيظ اللذان تكلم بهما الرب على هذا الشعب" [7].
لم يحتمل الملك كلمة الرب، وعوض التوبة أحرق الدرج، وطلب قتل النبي وكاتبه! إنه لم يطق كلمة الرب ولا الناطق بها.
عاد فكتب إرميا ما كان بالدرج الأول وزاد عليه ما لم يكن مكتوبًا. ولا تزال كلمة الله حيَّة إلى يومنا هذا، لم تقدر النيران أن تبيدها‍‍!


1. كتابة درج السفر:

1 وَكَانَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِيَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، أَنَّ هذِهِ الْكَلِمَةَ صَارَتْ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ قَائِلَةً:
2 «خُذْ لِنَفْسِكَ دَرْجَ سِفْرٍ،
وَاكْتُبْ فِيهِ كُلَّ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكَ بِهِ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَعَلَى يَهُوذَا وَعَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ،
مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي كَلَّمْتُكَ فِيهِ، مِنْ أَيَّامِ يُوشِيَّا إِلَى هذَا الْيَوْمِ.

3 لَعَلَّ بَيْتَ يَهُوذَا يَسْمَعُونَ كُلَّ الشَّرِّ الَّذِي أَنَا مُفَكِّرٌ أَنْ أَصْنَعَهُ بِهِمْ،
فَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيءِ،
فَأَغْفِرَ ذَنْبَهُمْ وَخَطِيَّتَهُمْ».
4 فَدَعَا إِرْمِيَا بَارُوخَ بْنَ نِيرِيَّا،
فَكَتَبَ بَارُوخُ عَنْ فَمِ إِرْمِيَا كُلَّ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي كَلَّمَهُ بِهِ فِي دَرْجِ السِّفْرِ.
5 وَأَوْصَى إِرْمِيَا بَارُوخَ قَائِلًا:
«أَنَا مَحْبُوسٌ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَدْخُلَ بَيْتَ الرَّبِّ.
6 فَادْخُلْ أَنْتَ وَاقْرَأْ فِي الدَّرْجِ الَّذِي كَتَبْتَ عَنْ فَمِي كُلَّ كَلاَمِ الرَّبِّ فِي آذَانِ الشَّعْبِ، فِي بَيْتِ الرَّبِّ فِي يَوْمِ الصَّوْمِ،
وَاقْرَأْهُ أَيْضًا فِي آذَانِ كُلِّ يَهُوذَا الْقَادِمِينَ مِنْ مُدُنِهِمْ.
7 لَعَلَّ تَضَرُّعَهُمْ يَقَعُ أَمَامَ الرَّبِّ،
فَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيءِ،
لأَنَّهُ عَظِيمٌ الْغَضَبُ وَالْغَيْظُ اللَّذَانِ تَكَلَّمَ بِهِمَا الرَّبُّ عَلَى هذَا الشَّعْبِ». [1-7].

كان إرميا محبوسًا لا يقدر أن يدخل بيت الرب [5]. هنا كلمة "محبوس" لا تعني أنه كان مسجونًا، لكنه كان ممنوعًا من الدخول إلى بيت الرب، فحسب نفسه محبوسًا. الفعل العبري Asur الذي يصف سجن إرميا يرد في (إر 33: 1، 39: 15) بمعنى إلقاء القبض عليه أو سجنه، لكن المعنى هنا مختلف حيث أن عدد 19 يبين أن إرميا كان حرًا في أن يهرب عندما يريد. ولعله تم استبعاد إرميا من الهيكل وحرمانه من دخوله بعد الأحداث الواردة في (إر 19: 1-20)، أو بعد صدور أمرٍ عامٍ بذلك بسبب الاشتباه في أمره حتى يُحرم من الحديث مع الشعب.

يظهر أن إرميا لم يجمع قبل هذا الوقت أقوال نبواته في سفر. ولسنا نعرف هل دونها حين ألقاها، أم تركها في ذاكرته. ومهما يكن من أمر، فقد أمره الله أن يجمع كل ما تنبأ به في تلك المدة الطويلة، فيعلنه للشعب بقراءته أمامهم في يوم احتفالٍ عامٍ.
أُملى الدرج الأول ما بين نيسان (أبريل) 605 ق.م. ونيسان 604 ق.م، بعد هزيمة مصر في موقعة كركميش مباشرة. وربما كانت بداية الكارثة باعثًا على جمع النبوات على أمل أن يتوب يهوذا.
كان الدرج رقوقًا من الجلد أو البردي (مز 40: 7، حز 2: 9). وكانت الكتب العبرية القديمة تُكتب على شكل أعمدة متوازية تستوجب فتح الدرج عند الاستمرار في القراءة. واضح أن السفر لم يكن حجمه كبيرًا جدًا بدليل أنه قُرأ في جلسة واحدة [10، 15، 21، 22].
لم يسجل إرميا النبي نبواته قبلًا لأنه كان في وسط الشعب يتحدث إليهم من حين إلى حين. أما الآن إذ اقترب السبي جدًا تم تسجيل النبوات كتابة بأمرٍ إلهيٍ حتى يحمل المسبيون نسخة منها إلى بابل فتشهد لهم بكلمة الرب، وتبقى نسخة أخرى مع الذين يبقون في يهوذا أو مع الراحلين إلى مصر.
لعل إرميا أدرك أن حياته في خطرٍ، فلا تعود توجد فرص كثيرة للحديث الشفوي مع الشعب، خاصة وأنه ليس له ابن يردد ما قاله أبوه (إر 16: 2)، فأراد تسجيل النبوات.
محتويات الوثيقة التي نحن بصددها غير معروفة، وإن كان من المحتمل أنها ضمت نبوات في شكل مختارات أدبية وأشعار أُعلنت بين عامي 626 و605 ق.م، وبمضاهاتها بالنبوة الحالية يتضح أنها قصيرة نسبيًا، لأنه يمكن أن تقرأ ثلاث مرات في يومٍ واحدٍ [10، 15، 21].
واضح من [3، 7] أن الله يترجى توبة شعبه ولو في اللحظات الأخيرة حتى ليغير الحكم الإلهي من نحوهم؛ فتغْير اتجاه بيت يهوذا يتبعه تغيير في حكم الله (إر 26: 3).
ما قد سجله إرميا من نبوات ضد يهوذا بواسطة باروخ كان قاسيًا على نفسية إرميا صاحب المشاعر الرقيقة لو لم يتحقق أنها كلمة الرب. لذلك كثيرًا ما يكرر العبارات: "لأنه هكذا قال الرب"، "وصارت إليّ كلمة الرب"، "لأنه هكذا قال رب الجنود"، "اسمعوا كلمة الرب"، "يقول الرب"، "اسمعوا الكلمة التي تكلم بها الرب"، "قال الرب لي". فما نطق به هو إعلان إلهي كما يقول الرسول بطرس "لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسانٍ بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2 بط 1: 21). كان رجلا الله إرميا النبي وباروخ تحت قيادة الروح القدس، يُعطى للأول كلمة ينطق بها والثاني يكتب.

كان ثمن هذه النبوات حياته كلها، لكنه بقوة الروح يقول للكهنة والأنبياء والرؤساء "أما أنا فها أنذا بيدكم، اصنعوا بي كما هو حسن ومستقيم في أعينكم، لكن اعلموا علمًا أنكم إن قتلتموني تجعلون دمًا زكيًا على أنفسكم وعلى هذه المدينة وعلى سكانها لأنه حقًا قد أرسلني الرب إليكم لأتكلم في آذانكم بكل هذا الكلام" (إر 24: 14-15).
كان الرب هو المشدد والمعضد له، لذلك على الرغم مما أصابه من أتعابٍ وسخريةٍ وعارٍ واستهزاءٍ لم يستطع السكوت، إذ يقول: "فكان كلام الرب في قلبيَ كنارٍ محرقةٍ محصورةٍ في عظامي فمللت من الإِمساك ولم أستطع" (إر 20: 9) إنه يشهد للكلمة الإلهية التي ألهبت أعماقه، إذ يقول: "هأنذا جاعل كلامي في فمك نارًا وهذا الشعب حطبًا فتأكلهم" (إر 5: 14)، كما قال الرب له: "لأني ساهر على كلمتي لأجريها" (إر 1: 12).
وقد شبَّه إرميا كلمة الله بالنار والمطرقة فيقول: "أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب، وكمطرقةٍ تحطم الصخر؟!" (إر 23: 29).
وقد قال له الرب "إذا أخرجتَ الثمين من المرذول فمثل فمي تكون، هم يرجعون إليك وأنت لا ترجع إليهم" (إر 15: 19).
ولا ننسى أن نبوة إرميا كانت موضوع اهتمام ودراسة الأمناء المعاصرين له مثل دانيال الذي قال: "أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب لإرميا لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم" (دا 9: 2).
كانت كلمة الرب طعامًا مفرحًا لنفس إرميا: "وُجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" (إر 15: 16). وهذا يذكرنا بقول داود النبي "ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي" وقول الرب للنبي حزقيال الذي كان معاصرًا لإرميا "كُل هذا الدرج واذهب كلم بيت إسرائيل، ففتحت فمي، فأطعمني ذلك الدرج، وقاللي يا ابن آدم أطعم بطنك واملأ جوفك من هذا الدرج الذي أنا معطيكه، فأكلته فصار في فمي كالعسل حلاوة" (حز 3: 1-3).
غاية كتابة السفر هو أن يدفعهم إلى التمتع بمغفرة ذنوبهم وخطاياهم، فإن الله لا يشغله كثيرًا إن كنا نسقط تحت التأديب أو نُعفي منه، قدرما يشغله نقاوة قلوبنا وتقديس أعماقنا لكي نصير قديسين كما أنه هو قدوس. إنه الأب الذي يشتهي أن يقتدي به أولاده، يشاركونه حياته لكي يتمتعوا أيضًا بشركة مجده.
لقد أدرك المرتل قوة كلمة الله في رفع الخطايا ونزع عارنا الداخلي فقال: "دحرج عني العار والخزي، فإني لشهاداتك ابتغيت" (مز 119: 22).
ويعلق العلامة أوريجينوسعلى هذه العبارة قائلًا:
[تستوجب الخطايا العار والخزي، ففي يوم الدينونة يقوم الخطاة إلى الخزي والعار الأبدي (دا 12: 2)...
يوجد نوعان من العار: فمن جهة اختار الله أدنياء العالم والمزدرى" (1 كو 1: 28)؛ ومن جهة أخرى: "فاعل الشر مرذول أمام (الرب)" (مز 15: 4)...
إنني أقول: "دحرج عني العار والخزي، فإني لشهاداتك ابتغيت" (مز 119: 22). لا تحسبني مستحقًا العار والخزي، لأنني حفظت شهاداتك التي قيل عنها: "طوباهم الذين يحفظون شهاداتك" (مز 119: 2)].
إن كانت الخطايا تلصق الإنسان بالتراب، فإن كلمة الله تلصقه بالله، إذ يقول المرتل: "لصقت بالتراب نفسي، فأحيني بكلمتك" (مز 119: 25). ويعلق العلامة أوريجينوس قائلًا:
[إذ وجد داود نفسه ساقطًا في الخطية التصقت نفسه بالتراب بفعل الخطية. لقد دمرت الخطية مكانة نفسي وحطمت علوها الطبيعي. حقًا إن كل نفس خاطئة تكون "ملتصقة بالتراب" لذا قيل: "وراء إلهك تسير، وتلتصق به" (تث 13: 4؛ 6: 13؛ 10: 30)؛ هذا ما قيل في الشريعة.
إذ رفض الالتصاق بالتراب وأراد أن يعيش حسب كلمة الرب؛ أي حسب الكتاب المقدس الإلهي الموحي به، يطلب العون الإلهي لكي يحيا. من يهتدي ينطق بكلمات الرب، فتظهر أعماله وسيرته الصالحة].
2. إعلان عن الصوم:


أملى إرميا كاتبه باروخ النبوات، ولا نعرف هل جمعها إرميا كما هي، أو رتبها ولخَّص بعضها. على كل حالٍ يظهر أن هذا العمل استغرق وقتًا طويلًا. والفرصة التي انتهزها إرميا هي الصوم الذي فرضه الملك على الشعب بسبب الخطر المرتقب من جراء تقدم جيوش الكلدانيين. والظاهر أنها كانت الفرصة الأخيرة التي أراد الله أن يعطيها للشعب لأجل التوبة والرجوع إليه.
8 فَفَعَلَ بَارُوخُ بْنُ نِيرِيَّا حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَاهُ بِهِ إِرْمِيَا النَّبِيُّ، بِقِرَاءَتِهِ فِي السِّفْرِ كَلاَمَ الرَّبِّ فِي بَيْتِ الرَّبِّ.
9 وَكَانَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ لِيَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، فِي الشَّهْرِ التَّاسِعِ، أَنَّهُمْ نَادَوْا لِصَوْمٍ أَمَامَ الرَّبِّ، كُلَّ الشَّعْبِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكُلَّ الشَّعْبِ الْقَادِمِينَ مِنْ مُدُنِ يَهُوذَا إِلَى أُورُشَلِيمَ.
10 فَقَرَأَ بَارُوخُ فِي السِّفْرِ كَلاَمَ إِرْمِيَا فِي بَيْتِ الرَّبِّ فِي مِخْدَعِ جَمَرْيَا بْنِ شَافَانَ الْكَاتِبِ، فِي الدَّارِ الْعُلْيَا، فِي مَدْخَلِ بَابِ بَيْتِ الرَّبِّ الْجَدِيدِ، فِي آذَانِ كُلِّ الشَّعْبِ. [8-10].
باروخ بن نيريا

باروخ اسم عبري معناه "مبارك".
كان أخو سرايا رئيس المحلة للملك صدقيا (إر 51: 59)، الذي كان يشغل مركزًا ساميًا في حاشية الملك صدقيا، وكان يطمع في أن يكون واحدًا من ملازميه "هل تطلب لنفسك أمورًا عظيمة" (إر 45: 5). وكما يقول يوسيفوس المؤرخ إنه من عائلة عريقة للغاية .
وقد ذكر أولًا في (إر 32: 12) كمرافق لإرميا، كان معه في السجن، وشهد على عملية شراء حقل ابن عمه بعناثوث، واحتفظ بعقود الشراء. وقد خدم سيده بأمانة (إر 36: 10)، وكتب نبواته (إر 36: 4، 32)، وكان يقرأها بصوتٍ عالٍ أمام الناس (إر 36: 10-15). وقد كلفه ذلك التضحية بالكثير من مشروعاته وأعماله العالمية.

وعندما سقطت أورشليم أقام مع إرميا في المصفاة ، وعندما قُتل جدليا قُبض عليه للتأثير على إرميا لكي يرحل (إر 43: 3)، وطبقًا لما جاء في (إر 43: 6) حُمل مع إرميا إلى مصر حيث ماتا هناك. يوجد تقليد آخر يقول إن باروخ ذهب مؤخرًا إلى بابل أو حُمل إلى هناك بواسطة نبوخذنصر بعد فتح الأخير لمصر.
وفي كل أجزاء النبوة يُذكر باروخ على أنه كاتب إرميا وليس كاتب السفر. كتب باروخ في بابل السفر الذي يحمل اسمه، من الأسفار القانونية الثانية، يحوى ستة أصحاحات، منها الأصحاح السادس والأخير عبارة عن رسالة لإرميا النبي موجه للذين كانوا مزمعين أن يُساقوا إلى السبي.
بسبب ارتباط باروخ بشخصية إرميا استغل البعض شهرته فنسبوا إليه فيما بعد كتابًا يسمى "رؤيا باروخ"، ينسب له رؤى تسلمها من السماء. جاء في النسخة السريانية أنه بسبب تقواه لم يسمح الله بخراب الهيكل، لهذا أمره أن يترك أورشليم قبل خرابه ليُبعد حماية حضوره عن الهيكل. وقد رأى باروخ من سنديانة إبراهيم التي في حبرون الهيكل مُقامًا على نارٍ بواسطة ملائكة الذين سبقوا أن أخفوا الأواني المقدسة.
في الأدب العبري ينتمي باروخ إلى إرميا بقرابة جسدية، وكلاهما كانا كاهنين ومن نسل راحاب الزانية .
قُرئ كلام السفر في آذان الشعب في يوم صوم في الشهر التاسع في السنة الخامسة لحكم الملك يهوياقيم. لم يكن هذا اليوم من أيام الصوم الخاصة بمناسبة دينية وردت في الشريعة، إنما كان من أجل الأزمة القومية التي حلَّت بهم، ربما بمناسبة وصول الجيوش البابلية إلى السهول الفلسطينية. في مثل هذه المناسبة يربط الشعب توسلاته وطلباته بالصوم لكي يخلصهم الله من الضيق. لكنهم إذ لم يلتزموا بالتوبة قيل: "حين يصومون لا اسمع صراخهم، وحين يُصعدون محرقة وتقدمة لا أقبلهم" (إر 14: 12).
كان الشهر التاسع هو ديسمبر من عام 604 ق.م، حيث كان الجو باردًا [22]، عندما أطاح البابليون بأشقلون في سهل فلسطين.
جمريا

هو ابن "شافان" الكاتب الرسمي للدولة تحت حكم يوشيا (2 مل 22: 3، 8). إذا كان "شافان" هذا هو نفسه الرجل المذكور في إرميا (إر 25: 24) يكون "جمريا" أخو "أخيقام" الذي عامل إرميا برفق.
ولقد كان اسم "جمريا" شائعًا إلى حد ما في القرن السابع ق.م. وتذكر إحدى رسائل "لخيش" (اللوح الأول) "جمريا بن هيسيل ياهو في عام 589 ق.م.
يربط البعض بين قراءة باروخ السفر في غرفة جمريا بن شافان وقصة وجود السفر في الهيكل في أيام يوشيا الملك (2 مل 22: 3، 23: 3)، عندما قرأ شافان هذا الدرج (2 مل 22: 3). علىأي الأحوال استخدام باروخ غرفة جمريا يشير إلى تعاطف الأخير مع إرميا النبي.
كانت الحجرة في العلية (إر 26: 10)، حيث يستطيع الشعب المجتمع في الفناء والقاعات السفلى أن يتطلع إليه ويسمعه. لكن للأسف لم نعرف شيئًا عن رد فعل الشعب عند سماعه السفر.

3. قراءة للرؤساء:

11 فَلَمَّا سَمِعَ مِيخَايَا بْنُ جَمَرْيَا بْنِ شَافَانَ كُلَّ كَلاَمِ الرَّبِّ مِنَ السِّفْرِ،
12 نَزَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَلِكِ، إِلَى مِخْدَعِ الْكَاتِبِ، وَإِذَا كُلُّ الرُّؤَسَاءِ جُلُوسٌ هُنَاكَ:
أَلِيشَامَاعُ الْكَاتِبُ، وَدَلاَيَا بْنُ شِمْعِيَا، وَأَلْنَاثَانُ بْنُ عَكْبُورَ، وَجَمَرْيَا بْنُ شَافَانَ، وَصِدْقِيَّا بْنُ حَنَنِيَّا، وَكُلُّ الرُّؤَسَاءِ.
13 فَأَخْبَرَهُمْ مِيخَايَا بِكُلِّ الْكَلاَمِ الَّذِي سَمِعَهُ عِنْدَمَا قَرَأَ بَارُوخُ السِّفْرَ فِي آذَانِ الشَّعْبِ.
14 فَأَرْسَلَ كُلُّ الرُّؤَسَاءِ إِلَى بَارُوخَ يَهُودِيَ بْنَ نَثَنْيَا بْنِ شَلَمْيَا بْنِ كُوشِي قَائِلِينَ:
«الدَّرْجُ الَّذِي قَرَأْتَ فِيهِ فِي آذَانِ الشَّعْبِ، خُذْهُ بِيَدِكَ وَتَعَالَ».
فَأَخَذَ بَارُوخُ بْنُ نِيرِيَّا الدَّرْجَ بِيَدِهِ وَأَتَى إِلَيْهِمْ.
15 فَقَالُوا لَهُ: «اجْلِسْ وَاقْرَأْهُ فِي آذَانِنَا».
فَقَرَأَ بَارُوخُ فِي آذَانِهِمْ.
16 فَكَانَ لَمَّا سَمِعُوا كُلَّ الْكَلاَمِ أَنَّهُمْ خَافُوا نَاظِرِينَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا لِبَارُوخَ:
«إِخْبَارًا نُخْبِرُ الْمَلِكَ بِكُلِّ هذَا الْكَلاَمِ».
17 ثُمَّ سَأَلُوا بَارُوخَ قَائِلِينَ: «أَخْبِرْنَا كَيْفَ كَتَبْتَ كُلَّ هذَا الْكَلاَمِ عَنْ فَمِهِ؟»
18 فَقَالَ لَهُمْ بَارُوخُ: «بِفَمِهِ كَانَ يَقْرَأُ لِي كُلَّ هذَا الْكَلاَمِ، وَأَنَا كُنْتُ أَكْتُبُ فِي السِّفْرِ بِالْحِبْرِ».
19 فَقَالَ الرُّؤَسَاءُ لِبَارُوخَ: «اذْهَبْ وَاخْتَبِئْ أَنْتَ وَإِرْمِيَا وَلاَ يَعْلَمُ إِنْسَانٌ أَيْنَ أَنْتُمَا». [11-19].

وقف باروخ في الدار العليا، في مدخل باب بيت الرب الجديد وبدأ يقرأ. سمعه شاب يدعى ميخايا حفيد شافان، فتأثر جدًا وأسرع إلى القصر وأخبر الرؤساء الذين استدعوا باروخ ليقرأ لهم ما بالدرج. خافوا جدًا إذ سمعوا عن الخراب الذي سيحل بالبلاد، وشعروا بالمسئولية أن يُخطروا الملك بمحتويات الدرج.
إذا كان "اليشاماع" الكاتب هو نفسه "اليشاماع" المذكور في (إر 41: 1، 2 مل 25: 25) فإنه يكون من أصل ملكي.
"الناثان بن عكبور" ذكر مرة أخرى في (إر 26: 22)، أما عن الآخرين باستثناء "جمريا بن شافان" فلا نعرف عنهم شيء. و"يهودي بن نثنيا بن شلميا بن كوش" [14] غير معروف إلا في هذا الموضع، ولا بُد أنه كان ذا أهمية في عصره وإلا ما كان هناك داعٍ لذكر نسبه إلى الجيل الثالث.
إذ أمر الرؤساء باروخ أن يجلس فمن الواضح أنهم كانوا يظهرون له المودة، وربما انحدر من عائلة من الطبقات العليا. وقد يدل الاستقبال والحفاوة التي قوبل به على أن لإرميا بعض الأتباع بين حكام يهوذا.
استقبالهم المشوب بالخوف لهذا الدرج ألزمهم أن يخبروا الملك فورًا بما فيه. وقد اهتم الرؤساء أيضًا بسلامة إرميا وباروخ إذ كانوا يعرفون ما اتصف به يهوياقيم من ظلمٍ وعدوانٍ. ومن الواضح أنهم استفادوا من النهاية المأساوية التي لقيها "يوريا" نتيجة لأقواله (إر 26: 23).
يذكر التقليد اليهودي أن مكان الاختباء عرف باسم "كهف إرميا"، وكان يقع خارج باب دمشق وإن كان ذلك ليس يقينًا.

4. حرق الدرج:

20 ثُمَّ دَخَلُوا إِلَى الْمَلِكِ إِلَى الدَّارِ، وَأَوْدَعُوا الدَّرْجَ فِي مِخْدَعِ أَلِيشَامَاعَ الْكَاتِبِ،
وَأَخْبَرُوا فِي أُذُنَيِ الْمَلِكِ بِكُلِّ الْكَلاَمِ.
21 فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ يَهُودِيَ لِيَأْخُذَ الدَّرْجَ،
فَأَخَذَهُ مِنْ مِخْدَعِ أَلِيشَامَاعَ الْكَاتِبِ،
وَقَرَأَهُ يَهُودِيَ فِي أُذُنَيِ الْمَلِكِ، وَفِي آذَانِ كُلِّ الرُّؤَسَاءِ الْوَاقِفِينَ لَدَى الْمَلِكِ.
22 وَكَانَ الْمَلِكُ جَالِسًا فِي بَيْتِ الشِّتَاءِ فِي الشَّهْرِ التَّاسِعِ، وَالْكَانُونُ قُدَّامَهُ مُتَّقِدٌ.
23 وَكَانَ لَمَّا قَرَأَ يَهُودِيُ ثَلاَثَةَ شُطُورٍ أَوْ أَرْبَعَةً أَنَّهُ شَقَّهُ بِمِبْرَاةِ الْكَاتِبِ، وَأَلْقَاهُ إِلَى النَّارِ الَّتِي فِي الْكَانُونِ، حَتَّى فَنِيَ كُلُّ الدَّرْجِ فِي النَّارِ الَّتِي فِي الْكَانُونِ.
24 وَلَمْ يَخَفِ الْمَلِكُ وَلاَ كُلُّ عَبِيدِهِ السَّامِعِينَ كُلَّ هذَا الْكَلاَمِ، وَلاَ شَقَّقُوا ثِيَابَهُمْ.
25 وَلكِنَّ أَلْنَاثَانَ وَدَلاَيَا وَجَمَرْيَا تَرَجَّوْا الْمَلِكَ أَنْ لاَ يُحْرِقَ الدَّرْجَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمْ.
26 بَلْ أَمَرَ الْمَلِكُ يَرْحَمْئِيلَ ابْنَ الْمَلِكِ، وَسَرَايَا بْنَ عَزَرْئِيلَ، وَشَلَمْيَا بْنَ عَبْدِئِيلَ، أَنْ يَقْبِضُوا عَلَى بَارُوخَ الْكَاتِبِ وَإِرْمِيَا النَّبِيِّ، وَلكِنَّ الرَّبَّ خَبَّأَهُمَا. [20-26].
بلا شك توقع "أليشاماع" استقبالًا فاترًا من يهوياقيم المتعجرف والذي كان يسكن في بيت الشتاء. والكلمة العبرية "بيت beyit" تعني أحيانًا جزءًا من البناء (1 أي 28: 11، حز 46: 24). ففي المنازل المكونة من طابقين كان الطابق الأرضي عادة يُستخدم للإقامة الشتوية بينما الطابق العلوي الجيد التهوية كان أنسب لحر الصيف. وكان "الكانون" مصدرًا للحرارة في يوم شديد البرودة من أيام الشتاء.
كان دور الشاب ميخايا بن جمريا حيًّا، إذ لم يحتمل أن يسمع الكلمة ويصمت بل ابلغ الرؤساء لعلهم يقومون بدورٍ روحي. فعلًا سألوا أن يأتي بباروخ دون إبطاء ليقرأ عليهم كلمات النبي. وقد وقع عليهم - وكان من بينهم بعض الأشراف - خوف عظيم. ورغم مقاومتهم لإرميا لكنهم خافوا، كما وُجد نفر قليل منهم يثق في كلمات الرب على لسان إرميا، شعروا أن من واجبهم إخطار الملك بالأمر لخطورته.
قبل تقديم السفر طلبوا من باروخ وإرميا أن يختبئا، لأنهم يعرفون طبيعة يهوياقيم العنيفة الظالمة. لقد ظنّوا أن الملك يكتفي بسماع ملخص لما ورد في الدرج، لكن هذا لم يرضه بل طلب من "يهودي" أن يحضر الدرج بينما جلس الملك بجوار كانون النار يستدفئ، والرؤساء واقفون حوله، بينما كان الشعب في أرجاء المدينة في حالة خوفٍ وفزعٍ، خاصة الذين في الهيكل. إذ بدأ الملك يستمع لما ورد في الدرج بدت علامات الغضب على وجهه. كانت أمامه فرصة للتوبة، خاصة وأن بعض رجاله حثوه أن ينصت إلى كلمة الرب، لكنه طرح السفر في النار، فإذا به يطرح نفسه وبيته ومدينته في نيرانٍ قاسيةٍ! وبعد قراءة ثلاثة سطور أو أربعة خطف الدرج وطلب المبراة التي تلازم الكاتب عادة. وكلما كان "يهودي" يقرأ عدة أسطر من الدرج كان الملك يقطع ذلك الجزء ويحرقه في النار باحتقار، ظانًا أنه يستطيع أن يحطم الكلمة النبوية. عوض أن يشقوا ثيابهم ويمزقوا قلوبهم بروح التوبة مزق يهوياقيم الدرج وإلقاء في النار. عبثًا حاول دلايا وجمريا والناثان إقناعه ألاّ يحرق الدرج، لكنه أصدر أمره بالقبض على إرميا النبي وكاتبه باروخ فلم يجدهما رسله.

كانت "المبراة" أو "سكين الكاتب" تُستخدم في عمل وإصلاح الأقلام المصنوعة من الغاب ولقطع أو قص سجلات البردي.
التحدي السافر الذي أظهره الملك وحاشيته فيه تناقض صارخ مع رد فعل يوشيا عندما سمع سفر الشريعة المُكتشف حديثًا (2 مل 22: 11). إذ لما سمع يوشيا والد يهوياقيم سفر الشريعة مزق ثيابه.
استخدم الملك المبراة لتمزيق الكتاب والنار لحرقه، لكن ما ورد في الدرج تحقق، وبقيت كلمة الله أعظم من كل قوة مضادة. هكذا يحاول الملحدون وأيضًا النُقاد تمزيق كلمة الله بفلسفات بشرية برّاقة، لكن كلمة الله أعظم من كل مقاومة. كذلك الذين يرفضون طريق الصليب الضيق من أجل الراحة الزمنية يمسكون بمبراة يهودي ليمزقوا الكلمة الإنجيلية في حياتهم.
ما أتعس الإنسان الذي يمزق كلمة الله بمبراة ذهنه ويزيفها بعقله، يطرح رجاءه لا الدرج في النار، أما كلمة الرب فباقية إلى الأبد. "السموات والأرض تزولان لكن كلامي لا يزول" (مر 13: 31). من يرتبط بكلمة الحياة الباقية إلى الأبد (1 بط 1: 25، يو 12: 48) يحطم الفناء ويغلب الموت ويدخل إلى عدم الفساد الأبدي.
حقًا إن استخف أحد بصوت الله كف عن التحدث، والذين لا يستحسنون أن يبقوا الله في معرفتهم يسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوضٍ ليفعلوا كل نجاسةٍ وطمعٍ (رو 1: 28 إلخ)، هذا يذكرنا بتلك الكلمات الرهيبة التي خُتمت بها حياة أول ملوك إسرائيل، "ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته" (1 صم 15: 35).
* لا تمزق الخطاب المكتوب على قلبك كما فعل الملك الفاسد حيث شق بمبراة الكاتب الخطاب المُسلم إليه بواسطة باروخ. لا تجعل هوشع يقول لك كما لإفرايم: "أنت كحمامة رعناء" (هو 7: 11).
القديس جيروم
لا نستطيع أن ندرك على وجه التحديد التام معني "الله خبأهما". هل حث أحدًا من الرؤساء ليخفيهما في موضع معين، أم اختفي إرميا وكاتبه وستر الرب عليهما فلم يعرف أحد موضعهما؟!
إننا جميعًا في حاجة إلى هذه التخبئة الإلهية التي لا نعرف مدتها. يجب علينا إطاعة الصوت الذي ينادينا كما نادى إيليا "انطلق من هنا واتجه نحو المشرق واختبئ".
عندما لا نطمع في شيء في الوجود إلا في إرضائه فحينئذ نكون مختبئين في حصنه الحصين، ومن مخبأنا الأمين الذي ننعم فيه بمجد نوره العظيم نتطلع بثبات إلى الشرور المزعجة وهي تجوز بجوارنا دون أن تجترئ على الاقتراب منا.

هكذا لا يزال ابن الله يتدخل لحماية خاصته. فعشْ له وحده. كن سهمًا مبريًا مختبئًا في ظل يده وفي كنانته مختفيًا (إش 49: 2). أثبت فيه. أصغِ إليه، فإنه يقول لك كما قال داود لأبياثار: "أقم معي. لا تخف لأن الذي يطلب نفسي يطلب نفسك. ولكنك عندي محفوظ" (1 صم 22: 23).
الاسم "يرحمئيل ابن الملك" [26] قد يعني أنه كان من سلالة الملك (إر 39: 6، 1 مل 22: 26، صف 1: 8).
5. النسخة الثانية من الدرج:

27 ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا بَعْدَ إِحْرَاقِ الْمَلِكِ الدَّرْجَ وَالْكَلاَمَ الَّذِي كَتَبَهُ بَارُوخُ عَنْ فَمِ إِرْمِيَا قَائِلَةً:
28 «عُدْ فَخُذْ لِنَفْسِكَ دَرْجًا آخَرَ، وَاكْتُبْ فِيهِ كُلَّ الْكَلاَمِ الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّرْجِ الأَوَّلِ الَّذِي أَحْرَقَهُ يَهُويَاقِيمُ مَلِكُ يَهُوذَا،
29 وَقُلْ لِيَهُويَاقِيمَ مَلِكِ يَهُوذَا:
هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
أَنْتَ قَدْ أَحْرَقْتَ ذلِكَ الدَّرْجَ قَائِلًا: لِمَاذَا كَتَبْتَ فِيهِ قَائِلًا: مَجِيئًا يَجِيءُ مَلِكُ بَابِلَ وَيُهْلِكُ هذِهِ الأَرْضَ، وَيُلاَشِي مِنْهَا الإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ؟
30 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَنْ يَهُويَاقِيمَ مَلِكِ يَهُوذَا:
لاَ يَكُونُ لَهُ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ، وَتَكُونُ جُثَّتُهُ مَطْرُوحَةً لِلْحَرِّ نَهَارًا، وَلِلْبَرْدِ لَيْلًا.

31 وَأُعَاقِبُهُ وَنَسْلَهُ وَعَبِيدَهُ عَلَى إِثْمِهِمْ، وَأَجْلِبُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ وَعَلَى رِجَالِ يَهُوذَا كُلَّ الشَّرِّ الَّذِي كَلَّمْتُهُمْ عَنْهُ وَلَمْ يَسْمَعُوا».
32 فَأَخَذَ إِرْمِيَا دَرْجًا آخَرَ وَدَفَعَهُ لِبَارُوخَ بْنِ نِيرِيَّا الْكَاتِبِ، فَكَتَبَ فِيهِ عَنْ فَمِ إِرْمِيَا كُلَّ كَلاَمِ السِّفْرِ الَّذِي أَحْرَقَهُ يَهُويَاقِيمُ مَلِكُ يَهُوذَا بِالنَّارِ، وَزِيدَ عَلَيْهِ أَيْضًا كَلاَمٌ كَثِيرٌ مِثْلُهُ. [27-32].

كم مضى من الوقت بعد تدمير الدرج الأصلي وبين عمل النسخة الثانية؟ لا يعرف أحد بالضبط. لكن ربما لا تزيد عن عدة شهور. وشملت النسخة الثانية على مادة إضافية تركز على المصير الذي ينتظر حاكم غير تقي.
لم ينشغل إرميا النبي وكاتبه بمقاومة الأشرار لهما بل بحفظ الكلمة الإلهية وتسجيلها، ليس فقط في سفر عبر الدهور بل وفي حياتهما.
وكما يقول العلامة أوريجينوس معلقًا على قول المرتل: "جلس الرؤساء وتقاولوا عليّ، أما عبدك فكان يهتم بحقوقك" (مز 119: 23): [ليتكلم هؤلاء الرؤساء أيا كانوا، فإن البار لا يفعل شيئًا سوى التحدث بفرائض الرب، هذه الفرائض التي ينطق بها البار ليست كلمات بشرية! ].
من وحي إرميا 36

كلماتك نار آكلة


* ثار الكل على نبيك إرميا لكي يصمت،
أما فهو فشعر بنار الكلمة الإلهية تلتهب في أعماقه،
مياه الضيقات والسخرية لا تقدر أن تطفئها!
* ليلهب روحك الناري نار كلمتك فيّ،
تحرق كل الأشواك الخانقة في أعماقي!

نعم! لتهبني شركة الطبيعة الإلهية، إنها النار الآكلة.
تبدد كل برودٍ روحيٍ،
وتحولني إلى خادمٍ سماويٍ ناري!
* لم يمزق يهوياقيم ثيابه عند سماعه كلمتك،
بل مزق بمبراة السفر نفسه،
وألقاه في أتون النار!
ظن هذا المسكين أنه قادر أن يبدد الكلمة،
ولم يدرك أن الكلمة نار سماوية تبني وتمجد!
* هب لي يا رب هذه النار،
فأصرخ قائلًا:
نار كلمتك قد أحرقتني،
أريد أن أرتفع إلى سمواتك
وأحيا معك أيها النار الآكلة،
وأشارك السمائيين النورانيين تسابيحهم!


Mary Naeem 23 - 10 - 2023 01:56 PM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
صدقيا يستشير إرميا



تعتبر الأصحاحات 37 إلى 44 قسمًا تاريخيًا، يبدأ بالحديث عن رفع الكلدانيين الحصار عن أورشليم مؤقتًا لملاقاة فرعون خفرع، وقد طلب صدقيا الملك من إرميا الصلاة من أجله.
ذُكرت هنا حادثتان في الفترة 589-588 ق.م.، ربما في ربيع 588 جاءت الأخبار بوصول قوة إنقاذ مصرية، فرفع البابليون الحصار عن أورشليم مؤقتًا لمواجهة التهديد الحربي الجديد، فشهد السكان المحاصرون هدنة لالتقاط الأنفاس.
أرسل صدقيا الذي ملَّكه نبوخذنصر ملك بابل على يهوذا إلى إرميا يستشيره إن كان يتحالف مع فرعون مصر لحمايته من الكلدانيين، ظانًا أن الله يجعل من هذه الهدنة المؤقتة هدنة دائمة. وكانت الإجابة صريحة وهي عدم الاتكال على ذراع بشرٍ، مؤكدًا أن جيش الكلدانيين الذي حاصر أورشليم وتركها سيعود مرة أخرى ويحاصرها، ولن يستطيع فرعون أن يخلصهم.
"لأنكم وإن ضربتم كل جيش الكلدانيين الذين يحاربونكم وبقى منهم رجال طُعنوا (جرحي)، فإنهم يقومون كل واحدٍ في خيمته ويحرقون هذه المدينة بالنار" [10].
اعتبره الملك ورجاله خائنًا، مثبِّطًا لهمم الجيش والشعب، لذلك ضربوه وجعلوه في بيت السجن في بيت يوناثان الكاتب [15]. كانوا يستخدمون الجب لحبس الأشخاص المقبوض عليهم وكان ذلك مؤلمًا جدًا، خاصة وأنه غالبًا ما وُضع في حبسٍ منفردِ.
لم يسترح ضمير الملك إذ بدأ يكتشف أن ما قاله الأنبياء الكذبة خلال الثلاثين عامًا لم يكن إلا خداعًا. فأرسل إلى إرميا سرًا يسأله مرة أخرى، فأكد له أنه سينهزم أمام بابل.
لم يخف إرميا من السجن، ولا انهار أمام الملك، بل بكل جرأة قال للملك: "ما هي خطيتي إليك وإلى عبيدك وإلى هذا الشعب حتى جعلتموني في بيت السجن؟! [18].
نُقل إرميا من سجن بيت يوناثان الذي هو تحت الأرض وغير صحي إلى سجن بيت الملك (إر 32: 2؛ نح 3: 25، 12: 39)، حيث أصبح لإرميا شيء من الحرية، وأعطي قسطًا من الطعام يوميًا.




1. مُلك صدقيا:

"1 وَمَلَكَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا بْنُ يُوشِيَّا مَكَانَ كُنْيَاهُو بْنِ يَهُويَاقِيمَ، الَّذِي مَلَّكَهُ نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ فِي أَرْضِ يَهُوذَا.
2 وَلَمْ يَسْمَعْ هُوَ وَلاَ عَبِيدُهُ وَلاَ شَعْبُ الأَرْضِ لِكَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنْ يَدِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ." [1-2].


جاء صدقيا خلفًا للملك يكنيا أو كنياهو (2 مل 24)، وقد رأى في سلفه ثمار رفض الكلمة الإلهية، لكنه لم يتعظ هو ورجاله وشعبه. اُستخدم اسم كنياهو اختصارًا لكلمة "يكنيا"، وفيه نوع من التوبيخ.
رفض الملك وعبيده وشعبه أن يسمعوا لكلام الله [2]، ففقدوا سلامهم الداخلي. ظنوا أن في حبس إرميا إراحة لضمائرهم ونصرة لأفكارهم، لكن بقي النبي المُفترى عليه يحمل قوة وحرية داخلية داخل السجن لأنه ملتصق بالكلمة الإلهية، بينما شعر الملك بالضعف... يطلب كلمة من شفتي إرميا لعله يستريح.
لعل إرميا النبي كان في أعماقه يردد كلمات داود الملك: "تكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخزَ" (مز 119: 46)، ويعلق الأب أنثيموس أسقف أورشليم على هذه العبارة، قائلًا: [علامة محبة الله... هي أن تتكلم بشهاداته قدام الملوك جهرًا وبشجاعة، كما تكلم الرسل والشهداء... لا نخزى إن كانت أعمالنا وأقوالنا لائقة بملك الملوك المتكلم فينا، وأن نهذّ بوصاياه بالمحبة والثقة، لا بضجر أو تهاون ].
2. صدقيا يلجأ إلى إرميا:

"3 وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا يَهُوخَلَ بْنَ شَلَمْيَا، وَصَفَنْيَا بْنَ مَعْسِيَّا الْكَاهِنَ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ قَائِلًا:
«صَلِّ لأَجْلِنَا إِلَى الرَّبِّ إِلهِنَا».
4 وَكَانَ إِرْمِيَا يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ فِي وَسْطِ الشَّعْبِ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ جَعَلُوهُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ." [3-4].

بعث صدقيا برسولين إلى النبي، ربما لأنه كانت تنقصه الجرأة للحديث معه وجهًا لوجه. على أي الأحوال لقد دان صدقيا نفسه بفمه، فإن كان قد أرسل إلى إرميا يطلب صلواته ومشورته إيمانًا بأنه نبي، فلماذا لم يسمع للصوت الإلهي؟! كان يليق بالملك لا أن يطلب من النبي من أجله فحسب، بل وأن يُصلي معه فيمارس حياة الصلاة القادرة على تغيير الأمور. فإننا حتى في الشفاعة نطلب صلوات القديسين معنا فلا تُقبل الصلوات بدون التجائنا نحن إلى الصلاة مع التوبة.
واضح من تصرف صدقيا أنه فاقد الثقة في أنبيائه، لكنه في نفس الوقت لم يأخذ خطوات جادة في الاستماع لصوت الرب.
كان يهوخل بن شلميا مقاومًا لإرميا وطلب موته (إر 38: 4),
كان صفنيا بن معسيا عضوًا في الوفد السابق إلى إرميا.
كان لإرميا حرية الحركة حتى أُلقى القبض عليه وأُودع في السجن إلى لحظات سقوط أورشليم في يوليو 587 ق.م.
3. رفع الحصار:

"وَخَرَجَ جَيْشُ فِرْعَوْنَ مِنْ مِصْرَ.
فَلَمَّا سَمِعَ الْكَلْدَانِيُّونَ الْمُحَاصِرُونَ أُورُشَلِيمَ بِخَبَرِهِمْ، صَعِدُوا عَنْ أُورُشَلِيمَ." [5].

في صيف 588 ق.م. تحرك المصريون إلى منطقة فلسطين، ربما استجابة لطلب صدقيا، (حز 17: 11-21)، إذ جاء في رسالة لخيش الثانية إشارة إلى زيارة قائد جيش يهوذا إلى مصر. ولعل تحرك فرعون بجيشٍ لم يكن لحماية يهوذا، وإنما كخط دفاعٍ خشية حدوث هجوم بابلي على مصر. هذا ولم يستمر الكلدانيون في حصارهم لأورشليم خشية أن يأتي جيش مصر فينضم إليه جيش يهوذا ضدهم، لهذا فضل الكلدانيون أن يتركوا أورشليم إلى حين ويحاربوا فرعون بعيدًا عن أورشليم ليعودوا ويحاصروها بعد غلبتهم على فرعون.
فرعون هنا هو خفرع (إر 44: 30) الذي خلف والده نخو والذي حكم من سنة 589-570 ق.م، تراجع قبل الدخول في معركة حقيقية، تاركًا أورشليم تسقط في يد البابليين سنة 587 ق.م. عدم تدخل نخو الثاني (610-595 ق.م) سمح لبابل أن تهاجم أورشليم في سنة 597 ق.م، والنتيجة الوحيدة لتدخل خفرع كان رفع الحصار لمدة مؤقتة، لكن في نهايتها تمت الإطاحة بآمال صدقيا.
4. نبوته عن استئناف الحصار:

6 فَصَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ قَائِلَةً:
7 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ:
هكَذَا تَقُولُونَ لِمَلِكِ يَهُوذَا الَّذِي أَرْسَلَكُمْ إِلَيَّ لِتَسْتَشِيرُونِي:
هَا إِنَّ جَيْشَ فِرْعَوْنَ الْخَارِجَ إِلَيْكُمْ لِمُسَاعَدَتِكُمْ، يَرْجِعُ إِلَى أَرْضِهِ، إِلَى مِصْرَ.
8 وَيَرْجِعُ الْكَلْدَانِيُّونَ وَيُحَارِبُونَ هذِهِ الْمَدِينَةَ وَيَأْخُذُونَهَا وَيُحْرِقُونَهَا بِالنَّارِ.
9 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
لاَ تَخْدَعُوا أَنْفُسَكُمْ قَائِلِينَ: إِنَّ الْكَلْدَانِيِّينَ سَيَذْهَبُونَ عَنَّا، لأَنَّهُمْ لاَ يَذْهَبُونَ.
10 لأَنَّكُمْ وَإِنْ ضَرَبْتُمْ كُلَّ جَيْشِ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَكُمْ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ رِجَالٌ قَدْ طُعِنُوا، فَإِنَّهُمْ يَقُومُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي خَيْمَتِهِ وَيُحْرِقُونَ هذِهِ الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ». [6-10].

كانت الإجابة صريحة، ليس فيها خداع، ولكن هم أرادوا أن يخدعوا أنفسهم بأنفسهم. يريدون إجابة لا تمثل الواقع، بل حسب هواهم وإرادتهم. حقًا إن لم يخدع الإنسان نفسه لا يقدر حتى إبليس المخادع أن يخدعه! لهذا يقول إرميا النبي: "لا تخدعوا أنفسكم" [9].
بقوله "طُعنوا" [10] بلاغة في التصوير، يؤكد الاستيلاء على أورشليم تحت كل الظروف، حتى إن كان قلة من الرجال قد طعنوا بجراحات قاتلة يقومون ويغلبون أورشليم. هكذا جاءت الإجابة هنا واضحة وقاطعة أكثر من قبل.
يرى البعض إن ما ورد في (إر 52: 15) يظهر أن عددًا من السكان كان قد غادر المدينة وانضم إلى ملك بابل قبل سقوط المدينة. وإن كان هذا مردُّه إلى انشقاق بين الناس واختلاف في الرأي حول السياسة الرشيدة التي يجب اتباعها، فلا يكون إرميا هو الوحيد الذي نصح الملك بالخضوع لبابل، ولكن الحزب المعارض لهذا الفكر حُسب أنصاره من الخائنين.

5. القبض على إرميا:

11 وَكَانَ لَمَّا أُصْعِدَ جَيْشُ الْكَلْدَانِيِّينَ عَنْ أُورُشَلِيمَ مِنْ وَجْهِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ،
12 أَنَّ إِرْمِيَا خَرَجَ مِنْ أُورُشَلِيمَ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أَرْضِ بَنْيَامِينَ لِيَنْسَابَ مِنْ هُنَاكَ فِي وَسْطِ الشَّعْبِ.
13 وَفِيمَا هُوَ فِي بَابِ بَنْيَامِينَ، إِذَا هُنَاكَ نَاظِرُ الْحُرَّاسِ، اسْمُهُ يَرْئِيَّا بْنُ شَلَمْيَا بْنُ حَنَنِيَّا،
فَقَبَضَ عَلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ قَائِلًا:
«إِنَّكَ تَقَعُ لِلْكَلْدَانِيِّينَ».
14 فَقَالَ إِرْمِيَا: «كَذِبٌ!
لاَ أَقَعُ لِلْكَلْدَانِيِّينَ».
وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ، فَقَبَضَ يَرْئِيَّا عَلَى إِرْمِيَا وَأَتَى بِهِ إِلَى الرُّؤَسَاءِ. [11-14].

تم القبض على إرميا في وقت كان فيه الحصار مرتبكًا، وكان هناك نوع من الحرية في الحركة داخل المدينة وخارجها.
إذ رُفع الحصار مؤقتًا عن أورشليم اندفعت الجماهير إلى الخارج كنوعٍ من التنفيس. خرجت أعداد بلا حصر لترى حقولها التي خربت ومراعيها التي اندثرت. وسط هذه الجماهير خرج إرميا ظانًا أن أحدًا لا يهتم بشأنه في ظروفٍ كهذه، خاصة وأنه مختفٍ وسط أعداد بلا حصر.
يقع باب بنيامين [13] في الجانب الشمالي من أورشليم، كان مؤديًا إلى أرض بنيامين، خرج منه يبحث عن الأرض التي اشتراها من حمنئيل، لكن أُسيء فهم نواياه، وتم القبض عليه في شك أنه ذاهب إلى العدو. ويرى البعض أنه إذ رأى الحصار قد نُزع مؤقتًا اراد إرميا أن يخرج من أورشليم إلى عناثوث اشتياقًا إلى الراحة بعد حياة شاقة للغاية مملوءة أحزانًا. أو لعله شعر أن مجهوداته قد فشلت في أورشليم، لم يسمع له أحد لهذا أراد الخروج منها. يبدو أن هذا التصرف كان من عندياته بدون استشارة الرب، مما سبب له متاعب أكثر. كان لا بُد أن يسأل الرب في كل تحركاته.
يقدم لنا B. Duhm صورة حية عن الموقف فيقول إنه من ناحية كان الملك يُعامله بطريقة غير لائقة، حيث وُضع في الجب، مع أنه لم يبالغ في أحاديثه ولم يكن متهورًا، بل كان إنسانًا بسيطًا متضعًا ورقيقًأ، ومن ناحية أخرى كان الملك يقوده رجاله العاملون معه بغير إرادته إلى مغامرة خطيرة. حقًا كان الملك يترقب كلمة تصدر من شفتي النبي، يسمعها في الخفاء لإرضاء ضميره، لكنه كان ضعيفًا وليس شريرًا؛ كان مقيدًا أكثر بكثير من قيود النبي الواقف أمامه.
لماذا وُضع في سجن بيت يوناثان؟ ربما كانت السجون الأخرى مكتظة بالمسجونين، أو لأنهم رأوا أن شخصية إرميا خطيرة للغاية حتى علم أفكار المسجونين أنفسهم من جهة الفكر السياسي، لذا رأوا ضرورة عزله حتى عن المساجين في هذا السجن ضمانًا لعدم التقائه بأحدٍ.
واضح أن الاهتمام الذي وُجه إلى إرميا كان باطلًا، لأن الكلدانيين كانوا قد فارقوا أورشليم، وكانوا مشغولين في الدخول في معركة مع فرعون. هذا وقد وُضع في السجن دون محاكمة طبيعية.
6. طرحه في الجب:

"15 فَغَضِبَ الرُّؤَسَاءُ عَلَى إِرْمِيَا، وَضَرَبُوهُ وَجَعَلُوهُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ، فِي بَيْتِ يُونَاثَانَ الْكَاتِبِ، لأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بَيْتَ السِّجْنِ.
16 فَلَمَّا دَخَلَ إِرْمِيَا إِلَى بَيْتِ الْجُبِّ، وَإِلَى الْمُقَبَّبَاتِ، أَقَامَ إِرْمِيَا هُنَاكَ أَيَّامًا كَثِيرَةً." [15-16].

مسكين هو ذاك الذي يحمل كلمة الله (الذي يرمز إليها إرميا) كما إلى الجب لكي يدفنها وسط تراب هذا العالم ووحله عوض أن يلتصق بها لتحمله إلى سمواتها.
يعلق العلامة أوريجينوسعلى قول المرتل: "إلى الدهر لا أنسى حقوقك، لأنك بها أحييتني" (مز 119: 93)، قائلًا: [سأحفظ ذكرى تعاليمك التي تسلمتها منك، هذه التي تعلمتها هنا على الأرض، وبها انتقلت من الأرض إلى السماء، وصرت ساكنًا مع الملائكة].
7. إطلاق إرميا:

"17 ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا وَأَخَذَهُ، وَسَأَلَهُ الْمَلِكُ فِي بَيْتِهِ سِرًّا وَقَالَ:
«هَلْ تُوجَدُ كَلِمَةٌ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ؟»
فَقَالَ إِرْمِيَا: «تُوجَدُ».
فَقَالَ: «إِنَّكَ تُدْفَعُ لِيَدِ مَلِكِ بَابِلَ»." [17].

التجأ صدقيا الملك إلى إرميا إما لأنه ظن أن طرح إرميا في السجن قد غيَّر من فكره، فينطق بكلمات مطمئنة عوض إصراره على تحقيق السبي البابلي، أو أراد من النبي أن يثبِّت ظنَّه وسؤال قلبه أي أن مغادرة الكلدانيين تعني خلاصًا نهائيًا كليًا لأورشليم. أما إرميا فيرد بأن هذا فكر باطل لأن جيوش بابل ستعود لتهلك المدينة.
كان الحكم على صدقيا قاسيًا لأنه استشار إرميا النبي على الأقل مرتين وأظهر حنوًا نحوه، لكنه في ضعف شخصيته كان يخشى العاملين معه (إر 38: 24-27) الذين رفضوا رسالة إرميا.
8. إرميا يطلب رحمة:

18 ثُمَّ قَالَ إِرْمِيَا لِلْمَلِكِ صِدْقِيَّا:
«مَا هِيَ خَطِيَّتِي إِلَيْكَ وَإِلَى عَبِيدِكَ وَإِلَى هذَا الشَّعْبِ، حَتَّى جَعَلْتُمُونِي فِي بَيْتِ السِّجْنِ؟
19 فَأَيْنَ أَنْبِيَاؤُكُمُ الَّذِينَ تَنَبَّأُوا لَكُمْ قَائِلِينَ: لاَ يَأْتِي مَلِكُ بَابِلَ عَلَيْكُمْ، وَلاَ عَلَى هذِهِ الأَرْضِ؟
20 فَالآنَ اسْمَعْ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ.
لِيَقَعْ تَضَرُّعِي أَمَامَكَ،
وَلاَ تَرُدَّنِي إِلَى بَيْتِ يُونَاثَانَ الْكَاتِبِ، فَلاَ أَمُوتَ هُنَاكَ».
21 فَأَمَرَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا أَنْ يَضَعُوا إِرْمِيَا فِي دَارِ السِّجْنِ،
وَأَنْ يُعْطَى رَغِيفَ خُبْزٍ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ سُوقِ الْخَبَّازِينَ، حَتَّى يَنْفُدَ كُلُّ الْخُبْزِ مِنَ الْمَدِينَةِ.
فَأَقَامَ إِرْمِيَا فِي دَارِ السِّجْنِ. [18-21].

سوق الخبازين [21]: من عادات الشرق القديم أن يكون لكل حرفة أو صناعة شارع يقتصر على أهل المهنة.
كان يمكن لصدقيا أن يطلق إرميا من السجن، لكن لم تكن لديه الشجاعة لأخذ قرارٍ كهذا.
لقد تركه في السجن بعد أن خفف عنه بعض الأتعاب، وقد حوَّل الله سجن إرميا إلى بركةٍ له ولغيره.
على أي الأحوال، كان إرميا النبي صاحب الدموع الغزيرة، وجدران القلب المتوجعة، والأحشاء التي لا تكف عن أن تئن، لكنه الرجل الشجاع الذي يقف أمام الملوك بقوة، ليقول "يا رب عزّي وحصني وملجأي في يوم الضيق" (إر 16: 19). وكأنه يردد ما سبق فقاله ميخا النبي: "أنا ملآن قوة روح الرب وحقًا وباسًا لأخبر يعقوب بذنبه وإسرائيل بخطيته" (مي 3: 8).
من وحي إرميا 37

ليتني لا أدخل بكلمتك إلى الجب،

بل تحملني هي إلى سمواتك!


* لم يطق الأشرار كلمتك الإلهية،
فدفعوا بإرميا إلى الجب،
ولم يدركوا أن كلمتك تحول التراب إلى سماءٍ!
* هب لي قوة وشجاعة،
فلا أخدع نفسي كما فعل صدقيا الملك.
أطلب كلمتك حسب هواي،
وأنتظر إراحة لضميري على حساب خلاص نفسي.
لألتقي بإرميا لكن ليس في خوفٍ من الناس.
لأنصت إلى صوته،
وأطلب عمل روحك الناري فيّ،
فأستجيب لوصيتك،
وأحيا بكلمتك!
* نعم ليحملني إرميا الحقيقي إلى الأحكام الإلهية،
وليدخل بي إلى السموات!
لترتفع معه نفسي،
ولتختبر عذوبة الوصية حتى إن بدت صعبة!








Mary Naeem 25 - 10 - 2023 04:49 PM

رد: تفسير سفر آرميا النبي
 
https://upload.chjoy.com/uploads/169806906047231.jpg




إرميا في الجب



يرى بعض الدارسين أن كُلًا من الأصحاحين 37، 38 يحملان تفاصيل خاصة بنفس الحادثة، فإن أردنا القصة كاملة يُضم الأصحاحان معًا.
تبرز الأحداث الزمنية لهذا الأصحاح بعض الصعوبات بسبب التشابه بينها وبين ما ورد في (إر 37: 11-21)، ففي كلتا الروايتين يُتهم إرميا بالخيانة ويُسجن (إر 37: 15-20، 38: 6، 26). وكلا الأصحاحين يتحدثان عن مقابلة سرية مع الملك، وكلاهما ينتهيان بأن يوضع إرميا في دار السجن. لكن يوجد مع ذلك اختلاف في الروايتين تشمل الآتي:
أ. [الأصحاح إر 37] يشير إلى القبض على إرميا (إر 37: 11-15)؛ أما الأصحاح 38 فلم يُشر إلى ذلك.
ب. السجن المذكور في (إر 37: 15-16) في بيت يوناثان الكاتب، أما في [6] فيُدعى جب ملكيا ابن الملك الذي في دار السجن. ربما هذا الاختلاف ليس بذي قيمة لأننا لا نعرف موقع بيت يوناثان الكاتب بالنسبة لدار السجن الذي كان بجوار القصر (إر 32: 2)، فقد يكون ملاصقًا له.
ج. أصحاح 38 يروي لنا الإفراج عن إرميا من الجب في شيء من التفصيل، والدور الذي قام به عبد ملك الكوشي [7-13] الأمر الذي لم يُشر إليه الأصحاح 37.
د. جاء اللقاء السري الذي تم بين الملك والنبي إرميا في [14-26] بشيء من التفصيل أكثر مما جاء في [11-27]؛ وإن كانت النغمة واحدة.
ه. يوضح الأصحاح 38 حقيقة أن صدقيا الملك كانت له سلطة كافية لمنع إعدام النبي بتهمة الخيانة.

مع هذا يرى كثير من الدارسين أن ما ورد في الأصحاحين هما تقريران عن حادثٍ واحدٍ، وهذا ليس بالأمر الغريب على إرميا؛ فقد أشار إلى العظة في الهيكل في الأصحاحين 7، 26؛ وإلى إفراج إرميا بواسطة البابليين في (إر 38: 28؛ 39: 14) وأيضًا في (إر 39: 11-12؛ 40: 1-6).




1. المطالبة بقتل إرميا:

1 وَسَمِعَ شَفَطْيَا بْنُ مَتَّانَ، وَجَدَلْيَا بْنُ فَشْحُورَ، وَيُوخَلُ بْنُ شَلَمْيَا، وَفَشْحُورُ بْنُ مَلْكِيَّا، الْكَلاَمَ الَّذِي كَانَ إِرْمِيَا يُكَلِّمُ بِهِ كُلَّ الشَّعْبِ قَائِلًا:
2 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
الَّذِي يُقِيمُ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ يَمُوتُ بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْوَبَإِ.
أَمَّا الَّذِي يَخْرُجُ إِلَى الْكَلْدَانِيِّينَ فَإِنَّهُ يَحْيَا وَتَكُونُ لَهُ نَفْسُهُ غَنِيمَةً فَيَحْيَا.
3 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
هذِهِ الْمَدِينَةُ سَتُدْفَعُ دَفْعًا لِيَدِ جَيْشِ مَلِكِ بَابِلَ فَيَأْخُذُهَا».
4 فَقَالَ الرُّؤَسَاءُ لِلْمَلِكِ: «لِيُقْتَلْ هذَا الرَّجُلُ،
لأَنَّهُ بِذلِكَ يُضْعِفُ أَيَادِيَ رِجَالِ الْحَرْبِ الْبَاقِينَ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ، وَأَيَادِيَ كُلِّ الشَّعْبِ،
إِذْ يُكَلِّمُهُمْ بِمِثْلِ هذَا الْكَلاَمِ.
لأَنَّ هذَا الرَّجُلَ لاَ يَطْلُبُ السَّلاَمَ لِهذَا الشَّعْبِ بَلِ الشَّرَّ». [1-4].

اثنان من المذكورين في [1] سبق أن أرسلهما الملك صدقيا إلى إرميا: زار يوخل بن شلميا إرميا خلال الانسحاب المؤقت للكلدانيين (إر 37: 3)، وفشحور بن ملكيا عندما بدأ نبوخذنصر حصاره لأورشليم عام 588 ق.م. (إر 21: 1).

جاء التقرير هنا مطابقًا تمامًا لما ورد في (إر 21: 9) الذي قدمه في بدء الحصار قبل القبض عليه، مؤكدًا موت الذين يقيمون في المدينة بالسيف والجوع والوبأ. وقد تكررت هذه الضربات الثلاث معًا في سفر إرميا (إر 24: 12؛ 21: 7، 9؛ 24: 10؛ 27: 8، 13؛ 29: 17-18؛ 32: 24؛ 34: 17؛ 38: 2؛ 42: 17، 22؛ 44: 13).
يقصد بقوله: "يخرج إلى الكلدانيين" تسليم نفسه لهم.
صدر الحكم من الرؤساء على إرميا بالقتل [4] كخائنٍ للوطن، ولم يدركوا أن إرميا يحمل حبًّا حقيقيًا للشعب، ينبع عن أحشائه الملتهبة. وأن ما نطق به هو حكم صدر عليهم بسبب عصيانهم المستمر. فالأمر ليس في يديه بل في أيدي الملك والرؤساء والكهنة والشعب إن قدموا توبة تتغير كل الأحكام!
ما أسهل أن يلقي الرؤساء اللوم على إرميا، حاسبين أن بقتله تُحل المشاكل ويعود للبلد سلامه وأمانه!
2. إلقاء إرميا في السجن:

"5 فَقَالَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا: «هَا هُوَ بِيَدِكُمْ، لأَنَّ الْمَلِكَ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْكُمْ فِي شَيْءٍ».
6 فَأَخَذُوا إِرْمِيَا وَأَلْقُوْهُ فِي جُبِّ مَلْكِيَّا ابْنِ الْمَلِكِ، الَّذِي فِي دَارِ السِّجْنِ، وَدَلُّوا إِرْمِيَا بِحِبَال.
وَلَمْ يَكُنْ فِي الْجُبِّ مَاءٌ بَلْ وَحْلٌ، فَغَاصَ إِرْمِيَا فِي الْوَحْلِ." [5-6].

ربما لم يصرح الملك بقتله ظنًا منه أنه طالما كان النبي على قيد الحياة فإن الله يمكن أن يرجئ عقاب يهوذا المتنبأ عنه في (إر 37: 15)، أو يريد الملك قتله لكن ليس بيديه، إنما بأيدي الرؤساء، وهذا من شيمة الإنسان الضعيف الذي يشتهي الشيء، لكنه يدفع الآخرين إلى تنفيذه، لكي يبرر نفسه فيما بعد!

كان لمعظم البيوت في أورشليم آبار خاصة (2 مل 18: 31، أم 5: 15) لتخزين المياه المتجمعة من الأمطار أو من الينابيع، وكانت في العادة على شكل كمثري ذات فتحة صغيرة من أعلى حتى يمكن تغطيتها عند الضرورة لمنع الحوادث أو تلوث الماء. وبحلول عام 1200 ق.م. كانت الآبار تقوى بالأسمنت، مثل خزان قمران.
اهتز صدقيا الملك أمام كلمات إرميا، الذي ربما كان يشعر بمخافة أمامه، إذ كان يخشاه. لكنه إذ كان ضعيف الشخصية سلمه إلى أيدي رجاله الأشرار قائلًا لهم: "ها هو بيدكم، لأن الملك لا يقدر عليكم في شيء" [5].
كان للرؤساء سلطة الحكم عليه ولكن حكم الإعدام لا بُد من موافقة الملك عليه. وقد أبدي هذا بوادر الضعف والاستسلام فلم يرتدعوا، إلاَّ أنه لم يسمح لهم بقتله رأسًا، لذلك ألقوه في الجب ليموت هناك جوعًا.
كلمات الملك نفسها [5] تكشف عن شخصيته الضعيفة أو عن مركزه الضعيف، فكانت السلطة الحقيقية في يد الرؤساء الذين كانوا يحركون الملك كدمية في أيديهم، لأن نبوخذنصر أقامه ملكًا بعد سبي يهوياكين، وربما كان غير مقبولٍ من أحدٍ في الأمة كملك حقيقي، بل ينتظر الكل عودة الملك المسبي يهوياكين.
لقد صدر الحكم بإلقائه في جب به وحل ليموت هناك. وقد فضَّل إرميا أن يموت في وحْل الجُب ولا تُدفن كلمة الله في وحل العصيان أو المجاملة على حساب الحق.
كان يمكنه أن يهرب من هذا الوحْل إن تراجع عن نبواته وتخلّي عن كلمة الله ورسالته... لكنه رفض!
ألقوه ليموت جوعًا دون سفك دمه، ولم يدركوا أنهم يقتلون أنفسهم إذ حرموا أنفسهم من خبز الملائكة، كلمة الله. قَبِلَ أن يموت جسديًا بجوع من خبز العالم ولا يموت جوعًا من خبز الملائكة!
* تُرك إرميا وحده يسبح الله؛ ألقوه في جب مملوء وحلًا، أما نفس هذا الرجل فكانت أثمن من كل الشعب.
أتريد أن تعرف ماذا يمكن لإنسان واحدٍ أن يفعل؟ كان يشوع بن نون وحده، بينما كان العالم كله مسكونًا. هناك كانت توجد جماهير بلا عدد أما هو فكان وحده بمفرده وأمر الشمس والقمر فتوقفا. أعطى إنسان أمرًا فاهتمت السماء! انصتت السماء إليه لأنه كان ينصت للرب...

ماذا يقول (ميا)؟ "جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا" (إر 15: 17). كيف كنت وحدك في المدينة؟ أقول كنت وحدي لأنه لم يكن أحد معي يشاركني هدفي .
القديس جيروم
إذ أُلقى إرميا في الجب السفليّ تحولت حياته إلى صلاة، فصرخ إلى الله قائلًا:
"دعوت باسمك يا رب من الجب الأسفل،
لصوتي سمعت،
لا تستر أذنك عن زفرتي عن صياحي،
دنوت يوم دعوتك،
قلت: لا تخف.
خاصمت يا سيد خصومات نفسي...
رأيت يا رب ظلمي.
أقم دعواي..." (مرا 3: 55-59).
حين أُغلقت كل الأبواب في وجهه وجد أبواب الله مفتوحة. وجد أذني الرب تميل إليه وهو في الجب لتسمع صرخات قلبه الداخلية. يؤكد له الرب وعوده السابقة منذ لحظات دعوته: "لا تخف!"؛ ويشاركه آلامه، فيحسب الخصومات ضد إرميا كأنها خصومات ضد الله نفسه. يصير الله هو القاضي وهو المحامي الذي يقيم دعوى إرميا ضد مضطهديه.
إن كان هذا الأصحاح قد كشف عن دور عبد ملك الكوشي في خلاص إرميا، فإن مراثيه تكشف عن الذي قام بالدور الحقيقي هو الله سامع صلوات المظلومين... تحرك بالحب لينصت إلى أنينه، وحرَّك عبد ملك بالحنان ودبّر خلاص إرميا من الجب!

3. عبد ملك الكوشي ينقذ إرميا:

7 فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدَ مَلِكُ الْكُوشِيُّ، رَجُلٌ خَصِيٌّ، وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ، أَنَّهُمْ جَعَلُوا إِرْمِيَا فِي الْجُبِّ، وَالْمَلِكُ جَالِسٌ فِي بَابِ بَنْيَامِينَ،
8 خَرَجَ عَبْدَ مَلِكُ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ وَكَلَّمَ الْمَلِكَ قَائِلًا:
9 «يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ، قَدْ أَسَاءَ هؤُلاَءِ الرِّجَالُ فِي كُلِّ مَا فَعَلُوا بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ، الَّذِي طَرَحُوهُ فِي الْجُبِّ،
فَإِنَّهُ يَمُوتُ فِي مَكَانِهِ بِسَبَبِ الْجُوعِ،
لأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدُ خُبْزٌ فِي الْمَدِينَةِ».
10 فَأَمَرَ الْمَلِكُ عَبْدَ مَلِكَ الْكُوشِيَّ قَائِلًا:
«خُذْ مَعَكَ مِنْ هُنَا ثَلاَثِينَ رَجُلًا، وَأَطْلِعْ إِرْمِيَا مِنَ الْجُبِّ قَبْلَمَا يَمُوتُ».
11 فَأَخَذَ عَبْدَ مَلِكُ الرِّجَالَ مَعَهُ، وَدَخَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَلِكِ، إِلَى أَسْفَلِ الْمَخْزَنِ،
وَأَخَذَ مِنْ هُنَاكَ ثِيَابًا رِثَّةً وَمَلاَبِسَ بَالِيَةً وَدَلاَّهَا إِلَى إِرْمِيَا إِلَى الْجُبِّ بِحِبَال.
12 وَقَالَ عَبْدَ مَلِكُ الْكُوشِيُّ لإِرْمِيَا: «ضَعِ الثِّيَابَ الرِّثَّةِ وَالْمَلاَبِسَ الْبَالِيَةَ تَحْتَ إِبْطَيْكَ تَحْتَ الْحِبَالِ».
فَفَعَلَ إِرْمِيَا كَذلِكَ.
13 فَجَذَبُوا إِرْمِيَا بِالْحِبَالِ وَأَطْلَعُوهُ مِنَ الْجُبِّ.
فَأَقَامَ إِرْمِيَا فِي دَارِ السِّجْنِ. [7-13].

كان هدف الرؤساء قتل النبي دون سفك دمه، بتركه يتعذب ويموت ببطئ في الجب.
ربما كان عبد ملك الكوشي خصيًّا، موظفًا في بيت نساء الملك، وربما كانت المخازن تحت يديه. ولعلَّ بعض النساء أشفقْن على إرميا النبي فاعتنين بأمره.
الرجل الغريب الجنس لم يقبل أن يرى إرميا في الوحل، فذهب إلى الملك وتحدث معه بصراحة... قائلًا له حقًا قد يموت إرميا في الجب، لكن بسبب هذا تموت المدينة كلها من الجوع [9].
العجيب في شخص عبد ملك أنه اتسم بالآتي:
أ. الشجاعة، فذهب إلى الملك وهو يعلم أن تكلفة هذا العمل هو هياج كل رجال الملك ضده، وربما تكون تكلفته حياته كلها.

ب. الإيمان: إن مات إرميا في الجب جوعًا ستموت المدينة كلها جوعًا، فإن ما فعلته المدينة بنبي الله يرتد عليها.
ج. تشغيل طاقات الآخرين لحساب ملكوت الله، فلم يعمل وحده بل أخذ ثلاثين رجلًا لرفع إرميا النبي بالحبال من الجب، مع أنه كان يمكن له وحده أو ربما معه شخص آخر أو أثنان للعمل، لكنه أراد أن يشرك الكثير في عمل الخير.
د. كان عجيبًا في رقته وحنانه، فكان يكفي لإرميا في الجب أن ُتلقى إليه الحبال ليمسك بها فإنه كاد أن يموت، لكن عبد ملك دلى ثيابًا بالية لكي يضعها النبي تحت أبطيه حتى لا يتجرح جسمه أو يشعر بألم! أحيانًا نطلب خلاص الآخرين لكن بعنف، فنتحدث معه بكلمات جارحة. ليتنا في خدمتنا للغير الاَّ نجرح مشاعر أحد.
إذ كان الوقت شتاءً لم يكن الجب مُحتملًا بسبب البرد القارس مع الوحل، مما يدفع بإرميا إلى الموت الأكيد!
وُجد عبد ملك الغريب الجنس يعمل بحب لحساب ملكوت الله، ففي كل جيلٍ نجد حتى في قصور الملوك والرؤساء أناسًا يعملون لمجد الله! بلا شك أن أمانة هذا الخصي الغريب الجنس كان لها أثرها على الملك الذي وثق فيه، واستمع إلى مشورته، وأعطاه سلطانًا لتحقيق خطته، دون مبالاة بما قد يحدث من الرؤساء أصحاب السلطة الذين حملوا عداوة مُرّة ضد إرميا. بأمانته شهد للحق وواجه بشجاعة ما لم يستطع غيره أن يفعله!
لعل عبد الملك هنا يشير إلى الأمم الذين يقبلون كلمة الله لخلاصهم فيشبعون من الخبز النازل من السماء، السيد المسيح؛ بينما أنزل بنو إسرائيل الكلمة النبوية إلى الجب ورفضوا المخلص وصاروا في مجاعة روحية.
هذه كانت نبوة عن دخول الأمم إلى الإيمان، هؤلاء الذين رفضوا أن يدخل الناموس والأنبياء إلى وحل الحرف القاتل.
نزول إرميا إلى الجب يشير إلى الإنسان الذي ينزل بكلمة الله إلى وحل هذا العالم، فيحول حتى الكلمة التي لخلاص نفسه وتمتعها بالسماويات إلى وسيلة لطلب الزمنيات.
يقيم العلامة أوريجينوس مقارنة بين إرميا النبي الذي أُلقى في جب ملكي في دار السجن، حيث غاص في الوحل [6]، والقديس بطرس الذي صعد إلى السطح وهناك نظر رؤيا إلهية، فيقول بأن واجبنا كمؤمنين روحيين أن نصعد مع كلمة الله بالروح القدس لننال معرفة حقة ورؤى إلهية، ولا ندع كلمة الله أن تُلقى في الجب خلال أفكارنا الجسدانية وشهواتنا الشريرة. لقد أخذ عبد ملك ثلاثين رجلًا معه ورفعوا إرميا من الجب، بالقاء ثياب بالية إليه ليضعها تحت ابطيه مع الحبال [12]. من هو عبد ملك هذا إلا ربنا يسوع المسيح الذي صار عبدًا ليرفع أفكارنا وطبيعتنا من عمق الهاوية خلال الكنيسة (30 رجلًا) باتضاعه (الثياب البالية)؟! يليق بنا أن نقبل فقر ربنا يسوع المسيح لكي نُرفع إلى فوق ونرتدي الثياب السماوية الملوكية أبديًا. هكذا نجلس عن يمين الملك السماوي الذي نزل إلى الحفرة كي لا ننزل نحن إليها.
يرى العلامة أوريجينوس أن هذه العبارات تطابق ما جاء في نشيد الأناشيد: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار كشقق سليمان" (نش 1: 5).
* لست أظن أنه غير لائق أن نقول أن هذا الأجنبي الذي من جنس قاتم ignoble، الذي سحبه من جب الموت، هذا الذي ألقاه فيه رؤساء إسرائيل، يمثل شعب الأمم، الذين آمنوا بقيامة ذاك الذي مات، هذا الذي أسلمه هؤلاء الرؤساء للموت. بهذا الإيمان سحبوه مرة أخرى من الهاوية.
بل أظن أن هذا الأثيوبي ُيقال عنه أنه الخِصْيْ، لأنه خَصَى نفسه لأجل ملكوت السموات، بل لأن فيه ذاك الذي بلا بذار للشر (مت 19: 12).
هو أيضًا عبد الملك، لأن العبد الحكيم يحكم على سادة جهلاء، فإن كلمة "عبد ملك" تعني "عبدًا للملوك" (أم 17: 2).

هذا هو سبب أن الرب الذي ترك شعب إسرائيل بسبب خطاياهم، يتحدث إلى الأثيوبي مخبرًا إيَّاه: "هأنذا جالب كلامي على هذه المدينة للشر لا للخير... ولكنني أنقذك في ذلك اليوم... فلا ُتسلَّم ليد الناس... بل إنما أنديك نجاة" (إر 39: 17-18).
أما السبب الذي لأجله خلص، فهو أنه سحب النبي من الجب، أي أنه بإيمانه في قيامة المسيح من الأموات بطريقة عُبر عنها أنه سحبه من الجب.
العلامة أوريجينوس
لم يكن عبد الملك محتاجًا إلى ثلاثين رجلًا لرفع إرميا من الجب حتى ظن البعض أن الرقم الأصلي هو ثلاثة رجال، لكن بعض الدارسين يرون أنهم كانوا ثلاثين لا لرفعه وإنما لإنجاح مهمة عبد ملك، لئلا يحاول البعض من قبل بعض الرؤساء إفساد مهمته.
إذ تصرف عبد ملك بلطفٍ لإنقاذ النبي من الموت، وعده النبي بالخلاص من الخراب المقبل على أورشليم (إر 39: 15-18). الله لا ينسى تعب المحبة من أجله ومن أجل خدامه، لذلك أنقذ عبد ملك الكوشي في يوم المدينة ولم يُسلم ليد أعدائه (إر 39: 15- 18). كان أجنبيًا عن رعوية إسرائيل حسب الجسد، لكنه ابن إبراهيم حسب الإيمان الحيّ العامل بالمحبة.
وجد إرميا عطفًا من رجل غريب في وقت كاد أن يرفضه الكل!
4. لقاء سري مع الملك:

يروى لنا اللقاء الأخير والوداعي بين الملك وإرميا، كان فيه النبي صريحًا كل الصراحة. قدَّم كل ما في قلبه وما أعلنه له الرب، فقد أدرك أنه لن يرى الملك بعد... تحدث بصراحة كاملة حتى لا يُدان أمام الله!

"14 فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا وَأَخَذَ إِرْمِيَا النَّبِيَّ إِلَيْهِ، إِلَى الْمَدْخَلِ الثَّالِثِ الَّذِي فِي بَيْتِ الرَّبِّ،
وَقَالَ الْمَلِكُ لإِرْمِيَا:
«أَنَا أَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرٍ.
لاَ تُخْفِ عَنِّي شَيْئًا».
15 فَقَالَ إِرْمِيَا لِصِدْقِيَّا: «إِذَا أَخْبَرْتُكَ أَفَمَا تَقْتُلُنِي قَتْلًا؟
وَإِذَا أَشَرْتُ عَلَيْكَ فَلاَ تَسْمَعُ لِي!»
16 فَحَلَفَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا لإِرْمِيَا سِرًّا قَائِلًا: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي صَنَعَ لَنَا هذِهِ النَّفْسَ، إِنِّي لاَ أَقْتُلُكَ وَلاَ أَدْفَعُكَ لِيَدِ هؤُلاَءِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ»." [14-16].

بقوله: "أفما تقتلني قتلًا؟" لا يعني أن الملك نفسه يقتله، إنما يتخلى عنه حتى يقتله أعداءه كما سبق إن ألقوه في الجب، وربما قصد ألاّ يتركه يُلقى في الجب مرة أخرى.

"المدخل الثالث" لم يذكر إلا هنا، ربما هو مدخل الملك (2 مل 16: 18)، وهو مدخل سرى يسمح لدخول الملك اليائس في سرية ليستشير النبي المرذول من الملك وشعبه طويلًا.
عاد الملك صدقيا فأرسل إلى النبي قائلًا له: "أنا أسألك عن أمرٍ. لا تخفِ عني شيئًا..." [14]. ربما لأنه لم يكن مستريحًا في أعماقه لمشورة رجاله، فكان يود أن يسمع من رجل الله. ولعله ظن أنه صنع خيرًا بإرميا وأخرجه من الجب فيغير إرميا كلماته. كان يود أن يسمع النبي يتنبأ ليس حسب كلمات الرب بل حسب هواه الشخصي ليهدأ ضميره.
واضح من تصرفات صدقيا في أكثر من موقف ضعف شخصيته واهتزازها أمام رجال الدولة، إذ كان يدرك دور إرميا كنبي حقيقي، لكنه كان يصدر أوامره أحيانًا بالتخفيف كما سمح أن يُعطى رغيف خبز كل يوم من سوق الخبازين طالما في المدينة خبز... كما كان يستشيره سرًا، لكنه لم يطلقه ولا أعلن براءته. كانت تنقصه الشجاعة لذلك سلم إرميا بين يدي رجاله، إذ قيل: "ها هو بيدكم لأن الملك لا يقدر عليكم في شيء" [5].
لا نعرف أيضًا ما الباعث هنا لأن يرسل الملك في طلب إرميا. لعلَّه أدرك أن النهاية وشيكة فأراد أن يسمع نصيحة النبي لينجو من الخطر. ولا يخفي أن الملك خشي التسليم وخاف من أعدائه من اليهود الذين كانوا قد غادروا المدينة من قبل، وحرَّضوا ملك بابل عليه.
يؤكد إرميا النبي للملك أنه يليق به ألاّ يخاف الناس، أي رجال الدولة، بل يخاف الله، فلا يعصي كلمته، بهذا ينقذ حياته، وينقذ أورشليم من حرقها بالنار.
لقد رسم إرميا النبي صورة مثيرة عن نتائج عصيان الكلمة الإلهية، وذلك خلال رؤيا أظهرها الله له، فقد شاهد بروح النبوة نساء القصر والأبناء يُقادون وهم ينشدون مرثاة مُرَّة تُعلن عن شعورهم بالخداع الذي مارسه الأصدقاء، متطلعين إلى الملك أنه قد غاص في الوحْل. تتناسب هذه المرثاة مع وضع إرميا الذي أُلقي في جب ليغوص في الوحْل حتى يموت [7]. لم يمت إرميا في الوحْل، إنما دفع الأنبياء الكذبة الملك في وحْل كذبهم فغاص في خداعهم. لقد أرسل الله عبد ملك الغريب الجنس لينقذ إرميا، أما الملك فلم يجد من ينقذه من وحْله!
5. نبوة عن رحمة مشروطة:

17 فَقَالَ إِرْمِيَا لِصِدْقِيَّا: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ:
إِنْ كُنْتَ تَخْرُجُ خُرُوجًا إِلَى رُؤَسَاءِ مَلِكِ بَابِلَ، تَحْيَا نَفْسُكَ وَلاَ تُحْرَقُ هذِهِ الْمَدِينَةُ بِالنَّارِ، بَلْ تَحْيَا أَنْتَ وَبَيْتُكَ.
18 وَلكِنْ إِنْ كُنْتَ لاَ تَخْرُجُ إِلَى رُؤَسَاءِ مَلِكِ بَابِلَ،
تُدْفَعُ هذِهِ الْمَدِينَةُ لِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ فَيُحْرِقُونَهَا بِالنَّارِ، وَأَنْتَ لاَ تُفْلِتُ مِنْ يَدِهِمْ».
19 فَقَالَ صِدْقِيَّا الْمَلِكُ لإِرْمِيَا: «إِنِّي أَخَافُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَدْ سَقَطُوا لِلْكَلْدَانِيِّينَ لِئَلاَّ يَدْفَعُونِي لِيَدِهِمْ فَيَزْدَرُوا بِي».
20 فَقَالَ إِرْمِيَا: «لاَ يَدْفَعُونَكَ.
اسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ فِي مَا أُكَلِّمُكَ أَنَا بِهِ، فَيُحْسَنَ إِلَيْكَ وَتَحْيَا نَفْسُكَ.
21 وَإِنْ كُنْتَ تَأْبَى الْخُرُوجَ، فَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي أَرَانِي الرَّبُّ إِيَّاهَا:
22 هَا كُلُّ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي بَقِينَ فِي بَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا، يُخْرَجْنَ إِلَى رُؤَسَاءِ مَلِكِ بَابِلَ وَهُنَّ يَقُلْنَ: قَدْ خَدَعَكَ وَقَدِرَ عَلَيْكَ مُسَالِمُوكَ.
غَاصَتْ فِي الْحَمْأَةِ رِجْلاَكَ وَارْتَدَّتَا إِلَى الْوَرَاءِ.
23 وَيُخْرِجُونَ كُلَّ نِسَائِكَ وَبَنِيكَ إِلَى الْكَلْدَانِيِّينَ، وَأَنْتَ لاَ تُفْلِتُ مِنْ يَدِهِمْ،
لأَنَّكَ أَنْتَ تُمْسَكُ بِيَدِ مَلِكِ بَابِلَ، وَهذِهِ الْمَدِينَةُ تُحْرَقُ بِالنَّارِ». [17-23].

كان إرميا صريحًا كل الصراحة، فتحدث مع الملك بكلمات الرب، كما كان عجيبًا في حبه للغير، حتى للملك الذي دخل به إلى السجن فإنه يطلب له أن يخلص من الموت.
بما أن إرميا قد عرف أن الملك لا يقبل نصيحته، فإنه كلمة "اسمع" يكون معناها هنا "إذا سمعت".
قدم له سبع نبوات خطيرة إذا لم يسمع لصوت الرب ويخرج إلى رؤساء ملك بابل، وقد تحققت هذه النبوات حرفيًا:
أ . تسليم المدينة في أيدي رؤساء ملك بابل [17-18].
ب. يحرقون المدينة بالنار [18، 23].
ج. لن يفلت الملك من أيديهم.
د . يخرج كل نساء الملك إلى الرؤساء [22].
ه. يقدم النساء مرثاة على الملك، قائلًات: لقد خدعك أصدقاؤك [23]. وردت هذه المرثاة في عوبيديا 7: "طردكَ إلى التُخم كل معاهديك، خدعك وغلب عليك مسالموك؟ أهل خبزك وضعوا شركًا تحتك؛ لا فهم فيه".
في الشرق يشعر الإنسان بخجلٍ شديدٍ عندما يصدر التوبيخ من امرأة، كم بالأكثر إن صدر هذا نحو ملك، خاصة وإن كانت النساء هن نساء قصره.
و. يُرسل نساء الملك وبنوه إلى الكلدانيين.
ز. يهرب الملك لكن يلقي ملك بابل القبض عليه.
تتم هذه النبوات الخطيرة في حياة كل إنسانٍ يرفض كلمة الرب ويعمل حسب مشيئته البشرية:
* تُسلم مدينة قلبه إلى أيدي رؤساء ملك بلبل، أي تسقط تحت خطايا كثيرة تفقده حريته الداخلية، وتسلبه سلامه الحقيقي، فيعيش مستعبدًا في مذلةٍ وعارٍ.
* تحرق المدينة أورشليم الداخلية بنار الشهوات عوض أن تلتهب بنار الروح القدس وتشتعل بالحب الإلهي.
* لن يفلت الملك من أيديهم بل يسقط أسيرًا فيُنزع عنه سلطانه الملوكي. هكذا تفقد الخطية سلطان الإنسان، وتحرمه من الملوكية ليعيش في ضعف.
* أما نساؤهأي طاقات جسده وغرائزه وأحاسيسه ومشاعره فتخرج إلى الرؤساء؛ أي تُمتص في الشر، وتتحد مع الفساد عوض تقديسها لحساب الرب.
* المرثاة التي تقدمها النساء تشير إلى شهادة أعماق الإنسان نفسه ضده، فبعد سقوطه في الفساد، يشعر بالخيبة والضياع، لكنه يفقد حرية الإرادة والقدرة على التصحيح.
* إرسال النساء والبنون إلى الكلدانيين، تعني حرمان الإنسان من أرض الموعد والتمتع ببيت الرب الروحي ليحيا كما في السبي.
* هروب الملك صدقيا وقبض ملك بابل عليه يشير إلى فشل المحاولات البشرية للخلاص دون الالتجاء إلى الطاعة لكلمة الله والتمسك بالنعمة الإلهية.
6. صدقيا يخشى الرؤساء:

24 فَقَالَ صِدْقِيَّا لإِرْمِيَا: «لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِهذَا الْكَلاَمِ، فَلاَ تَمُوتَ.
25 وَإِذَا سَمِعَ الرُّؤَسَاءُ أَنِّي كَلَّمْتُكَ، وَأَتَوْا إِلَيْكَ وَقَالُوا لَكَ: أَخْبِرْنَا بِمَاذَا كَلَّمْتَ الْمَلِكَ، لاَ تُخْفِ عَنَّا فَلاَ نَقْتُلَكَ، وَمَاذَا قَالَ لَكَ الْمَلِكُ.
26 فَقُلْ لَهُمْ: إِنِّي أَلْقَيْتُ تَضَرُّعِي أَمَامَ الْمَلِكِ حَتَّى لاَ يَرُدَّنِي إِلَى بَيْتِ يُونَاثَانَ لأَمُوتَ هُنَاكَ».
27 فَأَتَى كُلُّ الرُّؤَسَاءِ إِلَى إِرْمِيَا وَسَأَلُوهُ، فَأَخْبَرَهُمْ حَسَبَ كُلِّ هذَا الْكَلاَمِ الَّذِي أَوْصَاهُ بِهِ الْمَلِكُ. فَسَكَتُوا عَنْهُ لأَنَّ الأَمْرَ لَمْ يُسْمَعْ. [24-27].

سمع الرؤساء عن هذا اللقاء السري الذي تمّ بين الملك وإرميا النبي، وعرفوا جانبًا واحدًا من الحديث وهو الجانب الذي لا يهمهم، أما الأمور الخطيرة فقد أُخفيت عنهم.
لسنا ندري لماذا خاف الملك من إشاعة هذا الكلام بين الناس. ولعله خاف أن يعرف الناس شيئًا عن قلق نفسه وميله للاستسلام.
7. بقاء إرميا في الحبس:

"فَأَقَامَ إِرْمِيَا فِي دَارِ السِّجْنِ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي أُخِذَتْ فِيهِ أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا أُخِذَتْ أُورُشَلِيمُ." [28].
سمح الله لإرميا أن يبقى في دار السجن حتى سقوط أورشليم، ربما لكي لا يرى بعينيه انهيار مدينته المحبوبة جدًا لديه، بينما عاد الملك صدقيا إلى قصره يحمل في جعبته صورة حيّة عمّا كان يجب عليه أن يفعله، لكن لم تسعفه جرأته لفعل شيء ما. بمعنى آخر كان إرميا ملقيًّا في السجن لكنه يحمل روح الحق بشجاعة، بينما دخل الملك قصره يترقّب لحظات هلاكه وهلاك شعبه وبلده!
من وحي إرميا 38

أطلقني من الجب السفلي


* نطق إرميا بكلمة الحق أمام الكل،
فأنزلوه في جب سفليّ!
أرادوا أن يطمروا كلماته في الوحْل،
ويكتموا فمه الناري فلا ينطق بكلمة!
ويخلصوا من حياته التي تبكتهم!
* ظنوا أنهم يقتلونه بالجوع دون سفك دمه،
ولم يدركوا أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،
بل بكل كلمة تخرج من فم الله!
ألقوه ليموت جوعًا من خبز العالم،
وإذا بهم يموتون جوعًا من خبز الحياة!
حرموا أنفسهم من كلمة الرب،
من خبز الملائكة واهب الحياة!
* نعم! تحوَّل قلبي إلى جب سفليّ،
نزلتُ بكلمتك كما إلى وحلّ هذا العالم،
ولم أرد أن ترتفع بأعماقي إلى نور سمواتك العليا!
* لم ترسل لي عبد ملك الكوشي ليرفعني،
بل صرت عبدًا لتهبني بنوتك العجيبة نعمة مجانية!
لم تلقِ بحبال مادية لأمسك بها،
بل ألقيت عليّ بحبال حبك الإلهي لتقتنصني!
لم تترفق بي بثيابٍ بالية أضعها تحت إبطي،
بل سكنت فيَّ ووهبتني روحك القدوس،
تقدم لي شركة الطبيعة الإلهية!
نعم! ارتديت طبيعتي كثيابٍ بالية،
فنزعت عنها فسادها وقدستها لحسابي!
* لأمانته ألقوا إرميا في جب الضيق،
لكن الجب قذفه إلى النور،
بينما ألقت الخطية بالملك ورجاله إلى جب الذلٍ والعارٍ مع الهلاك!
* هب لي ألاّ أخاف من الجب الذي يلقيني فيه الناس،
بل أحذر الجب الذي تحدرني إليه إرادتي الشريرة وخطاياي!



الساعة الآن 10:33 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025