منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الرب يسوع المسيح الراعى الصالح (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=17)
-   -   رؤية شاهد عيان على آلام المسيح وقيامته (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=105730)

Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:46 PM

الفصل الثامن والعشرون
يسوع يؤخذ أمام بيلاطس


وقفت العذراء مريم مع يوحنا والمجدلية عند ركن بناية غير بعيدة عن دار قيافا، وقفوا ينتظرون يسوع. لقد كانت نفسها متّحدة بنفسه؛ لكن من قبل محبّتها، لم تترك وسيلة لم تجرّبها لتقترب منه. لقد ظلت بعض الوقت بعد زيارتها فى منتصف الليل لمحكمة قيافا ضعيفة وصامتة من الأسى؛ لكن عندما اقتيد يسوع من السجن، ليقف مرة ثانية أمام قضاته، نهضت وقالت للمجدلية ويوحنا : " فلنتبع ابني إلى محكمة بيلاطس؛ لابد أن أنظره مرة أخرى " فذهبوا إلى موضع لابد أن يعبر الموكب منه وانتظروه. لقد عرفت العذراء مريم أنّ ابنها يعاني على نحو مخيف، لكنها ليس بإمكانها أن تخفف آلامه.
ظهر فى بداية الموكب الكهنة، أكثر الأعداء مرارةّ لابنها الإلهى. كانوا متزيّنين بملابسهم؛ لكن من المؤلم أن نقول، عوضاً عن المظّهر المتألق في شخصهم ككهنة العلي، فأنهم قد تحوّلوا إلي كهنة إبليس، لأن لا أحد يستطيع أن ينظر على مُحياهم دون أن يرى ميولهم الشّريّرة التى امتلأت بها نفوسهم، لقد كانوا متشوقين لتنفيّذ تلك الجريمة، مُتشوقين لموت مُخلصهم وفاديهم، ابن الرب الوحيد. يتبعهم الشّهود الكذبة مُحاطين من قبل عامة الناس؛ وآخر الكل كان ابنها يسوع، ابن الرب، ابن الإنسان، مُقيدا بالسّلاسل، قادرا بالكاد أن يسند نفسه، لكنهم يجرونه بلا رحمة، يُضرب من البعض، ويُركل من الآخرين، وتسبه كل حشود الرّعاع وتلعنه. لقد كان من المستحيل تمييزه بالمرة حتى لأعين العذراء، لقد كان عرّياناً لا يكسوه سوى بقايا ردائه الممزّق،
لقد كان وحيدا في وسطِ الاضطهاد مُتألم, لكنه مستسلم، كشاه تُساق للذبح، لم يرَفعَ يديه إلا للتّضرّعِ لأبيه الأزلى ليصفحِ عن أعدائه. ما أن اقتربَ من الموضع الذى تقف فيه العذراء مع رفاقها، حتى صِاحتْ بنبرة مؤثرةِ : " واحَسْرتاه‏ً! أهذا ابني؟ آه، نعم! إنى آري إنه أبني الحبيبَ, يسوع، يسوعي! " عندما كان الموكب مقابلَها تقريباً، نَظرَ يسوع إليها بأعظم تعبيرِ عن الحبِّ والشّفقةِ؛ لقد كانت هذه النّظرةِ أكثر من قدرة الأمِّ المفجوعةِ على الاحتمال, لقد فقدت الوعيِ بالكامل للحظةً، وسعي يوحنا والمجدلية لأن يَحْملاها للبيت، لكنها أفاقت بسرعة، ورَافقتْ التلميذ المحبوب إِلى قصرِ بيلاطس.
تجمع كل سكان مدينةِ أوفيل في أرض فضاءِ ليُلاقوا يسوع، لكن ليس ليريحوه، بل لضيفوا آلاماً جديدة إِلى كأس أحُزانِه؛ لقد أصابوه بذلك الألمِ الحادِّ الذي لابد أَنْ يَكُونَ إحساس أولئك الذينِ يَرون أصدقاءهم يَتْركونهم في سّاعةِ الضيقةِ. لقد أدى يسوع أعَمالاً كثيرة لسكانِ أوفيل، لكن ما أن رَأوه فى مثل هذه الحالة من البؤسِ والإذلالِ، حتى أهتزَّ إيمانهم به؛ لَمْ يَعُودوا يؤمنون أنْه ملكَ أو نبي أو أنه المسيا المنتظر أو ابن الرب. استهزأ بهم الفريسيون وسخروا منهم، بسبب إعجابهم السابق بيسوع وصاحوا قائلين لهم. " اَنْظرواُ إلى ملككَم الآن, هيا بايعوه؛ ألن تقدموا له التهانيُ لكونه عَلى وَشَكِ الآن أَنْ يُتَوَّج ويجلسَ على عرشه؟ لقد انتهت كل معجزاتهِ؛ لقد وضع رئيس الكهنة نهاية لخداَعه وسحره. "
على الرغم من تّذكر هؤلاء الناسِ المساكين للمعجزاتِ والأشفية الرّائعِة التي صنعها يسوع أمام أعينهم؛ على الرغم من المنافع العظيمة التى قدمها لهم، إلا إن إيمانهم أهتزَّ عندما نَظْروه مُهاناً ويُشارَ إليه كشيء محتقرِ مِن قِبل رئيس الكهنة وأعضاءِ السنهيدريم، هذا الذي أُستقبل في أورشليم بأعظم تّبجيلِ. البعض ذَهبَ وهو يشكّ فيه، بينما الآخرون مكثوا وسَعوا أن ينضموا إلى الرّعاعَ، لكن الحرّاسِ الذين أُرسلوا مِن قِبل الفريسيون، ليَمْنعوا أعمال الشغب والفوضى, منعوهم .


Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:46 PM

الفصل التاسع والعشرون


يسوع أمام بيلاطس




كانت حوالي الثمانية صّباحاِ، عندما وصل الموكب إلى قصر بيلاطس. وقف حنّان وقيافا وكبار أعضاء مجلس السنهدريم في الجزءِ الذى يقع بين الساحة ومدخلِ دار الولاية، حيث وضعت بعض المقاعدِ الحجريةِ لهم. جر الحرّاس المتوحشين يسوع إِلى بداية الدّرجِ الذي يقودَ إِلى مقعدِ الحكمِ. كَانَ بيلاطس مُضجعاً على كرسيِ مريحِ فى شرفة تُشرف على الساحةِ وبجانبه منضدة صّغيرة ذات ثلاث أرجل وُضِعَت عليها شارة مكتبه وأشياء أخرى. كان يحيط به ضّبّاطِ وجنودِ يرتدون زي الجيشِ الرّومانيِ. لم يدخل اليهود والكهنة دار الولاية، لئلا يُدنّسُوا أنفسهم، بل ظلوا فى الخارج.
عندما رَأىَ بيلاطس الموكبَ الصّاخبَ يَدْخلُ، وأدرك كيف عَامل اليهود القساة سجينهم، نَهضَ وكلمهم بنغمةِ محتقرة بقدر ما يستطيع : "ماذا أتى بكم مبكّراً جداً؟ لماذا بالغتم فى الإساءة فى معاملة هذا السّجينِ على نحو مُخجل ؟ ألم يكن من الممكن أَنْ تَمتنعَوا من تُمَزيِّق مجرميكم أربا وإعدامهم حتى قبل أنْ يُحاْكموا؟ " فلم يجيبواُ بل صِاحوا إِلى الحرّاسِ " أحضروه, أحضروه ليُحاْكَمُ! " وبعد ذلك التفتوا إِلى بيلاطس وقالوا " اَستمعُ لاتهاماتنا ضد هذا الشّريرِ؛ لأننا لا نستطيع أَنْ نَدْخلَ المحكمة خشية أن نُدنّسُ أنفسنا. " ما أن انتهوا من هذه الكَلِماتِ، حتى صاح من وسطِ الحشود؛ شيخاً عجوزاً " أنكَم على حق في عدم دْخولُ دار الولاية، لأنها تقُدّستَ بدمِ الأبرياءِ؛ ليس لأحد الحق فى أَنْ يَدْخلَ سوى شخصاً واحداً، وهو الوحيد الذى يستطيع أَنْ يَدْخل، لأنه هو الوحيد النقي كالأبرياءِ الذين ذُبِحوا هناك" الشيخ الذي نَطقَ بهذه الكَلِماتِ بصوتِ عالِ، وبعد ذلك اختفىَ بين الحشودِ، كَانَ رجلاً غنياَ اسمهِ صادوق وهو ابن عم سيراخ زوج فيرونيكا؛ لقد ذُبح اثنين من أطفاله من بين الأطفال الذين أمر هيرودس بذبحهم عند مولدِ مُخلصنا. لقد يأس منَ العالم منذ تلك اللّحظةِ المُخيفةِ، لقد رَأىَ مُخلصنا ذات مرة في دارِ لعازر وسَمعه هناك يتناقشُ، وبرؤية الأسلوب البربريِ الذي يُجر به يسوع أمام بيلاطس تَذكّرَ كل ما عَاناه عندما قُتل طفليه بقسوة أمام عينيه، وقرر أن يُقدم هذه الشّهادةِ العلنية عن إيمانه ببراءةِ يسوع. أما الكهنة وحاشيتهم لكونهم كَانوا مغتاظين من الأسلوب المتغطرسِ الذي يعاملهم به بيلاطس، وبالوضعِ المهين الذى اضطروا أَنْ يتخذوه، لم يبالوا بكَلِماتِ هذا الرجل.
جر الحرّاس المتوحشون يسوع على السلمِ الرّخاميِ واقتادوه إِلى نهايةِ الشرفة، حيث كان بيلاطس يَتشاورُ مع كهنة اليهود. لقد سمع الحاكم الرّوماني عن يسوع كثيراً ومع ذلك فهو لم يسَبَقَ أَنْ رَآه، وقَدْ انُدهشَ تماماً بالمظهر الهادئِ لتصرفِ الرجلِ الذى جُلبَ أمامه في حالة يرثى لها. أن السّلوك الوحشي للكهنة والشيوخ قد أثاره وزِادَ من احتقاره لهم، وأعلمهم فى الحال أنه لَيْسَ لديه أدنى نّيةُ لإدانةِ يسوع بدون براهين مقنعة عن حقيقةِ اتهاماتهم. وقال مُخاطباً الكهنة بنّغمةِ أكثر احتقاراً : " أي اتّهام تَجْلبُونه ضد هذا الرّجلِ؟ " أجابَ الكهنة بتجهّم : " ما لم يكنَ شريرا لما كُنّا أُسلّمناه إليك " فقال لهم بيلاطس : " خذوه، وَحاْكموه أنتم طبقاً لناموسكم " فقالوا له : " إنك تعلم جيداً إنه لا يحق لنا أَنْ نحكم على أي إنسان بالموتِ. " كان أعداء يسوع غاضبين ورُغِبوا أَنْ يَنهوا المحاكمةُ، ويُعدموا ضحيّتهم بأسرع ما يمكن، لكى يستعدوا للاحتفال بالفصحِ، ولم يعرف هؤلاء التعساء الأردياء، أن من ساقوه أمام محكمةِ قاضِ وثنيِ لم يدخلوا منزله خوفاً من أن يُدنّسُوا أنفسهم قبل تَنَاوُلِ الذبيحة الرّمزيةِ، ليس سوي هو، وهو فقط، كَانَ حملَ الفصحَ الحقيقيَ، ولم تكن الحملان الأخرى إلا مجرد ظّل له فقط.
أمرهم بيلاطس أَنْ يُقدموا اتهاماتهم. هذه الاتهامات كَانَت ثلاث، وقَدّموا عشَر شهودَ ليَشْهدوا عن صدق كل اتهام. لقد كان هدفهم الأعظم هو أَنْ يَجْعلَوا بيلاطس يُصدق أن يسوع زعيمَ مؤامرةِ ضد الإمبراطورِ، لكى يُدينه إِلى الموتِ كمتمرّدِ، لقد سعوا أَنْ يُدينوه بإغْواءِ الشعب وتُحريضه عِلى التّمرّدِ، وأنه عدو للسّلامِ العامّ والهدوء.
ليُبرهنَوا على صدق هذه الاتهامات قَدّموا بعض الشّهودِ الكذبة، أعلنوا أيضا أنه انتهكَ السبت ودَنّسه بشفاء المرضىِ فى ذلك اليومِ. قَاطعهم بيلاطس عند هذا الاتهام وقالَ لهم باسْتِهْزاءِ : " من الواضح أن لا أحد منكم كان من بين هؤلاء المرضى وإلا لما كُنتُم ستَشتكونَه لكُونه قد شفاكم فى السبت. " فرد رؤساء الكهنة : " إنه يُحرض الشعب، ويَغْرسُ تعاليم كريهة. إنه يقول، لا أحد يستطيع أَنْ ينال الحياة الأبدية ما لم يَأْكلَ لحمه ويَشْربَ دمه " أغتاظ بيلاطس تماماً من الكراهيةِ الحادةِ التي أظهرتها كَلِماتهم ووجوههم وصاح بنظرةِ ازدراء : " أنكم بكل تأكيد تَرْغبَون أَنْ تَتْبعوا تعاليمه وأَنْ تنالوا حياة أبدية، لأنكم متعطشون لجسده ولدمه. "
ثم قدم اليهود الاتهام الثّاني ضد يسوع، أنه منع الشعب من أَنْ يَدْفعَ الجزية إِلى الإمبراطورِ. هذه الكَلِماتِ أيقظتْ نقمة بيلاطس، لأنه كان يَرى من موضعه أنّ كل الضّرائبِ قَدْ دُفِعتَ بشكل سليم، وصِاحَ بنغمةِ غاضبةِ : " ذلك كذبُ! لابد أنى اَعْرفَ ذلك أكثر منكم. " هذا أكره أعداءِ يسوع أَنْ يَمْضوا إلى الاتهام الثالث، الذي أعلنوه قائلين : " مع أن هذا الرّجلِ ذو مولد غامض، إلا أنه رئيسُ حزبِ كبيرِ. أنه يسكب اللعناتَ على أورشليم، ويروى أمثالاً ذات معنىِ مزدوج فيما يتعلق بملك يَعدُّ لحفل عرس لابنه. إن الجموع التي جمّعَها على جبلِ سَعت ذات مرة أَنْ تَجْعله ملكاً عليهم؛ لكن لكون ذلك كان أقرب مما نَوى؛ لأن خططه لم تكن قد نْضجُت بعد؛ لهذا هَربَ وأخفىَ نفسه. حديثا‏ قَدْ تَقدّمَ أكثر, فقبل أيام دَخلَ أورشليم علي رأسِ جمّعِ صاخبِ، الذين بأمره جَعلوا الشعب يشقون الجو باستقبال حافلِ صارخين : " أوصنا لابن داود! مباركة هى مملكة أبينا داود، التي تَبْدأُ الآن. " أنه يُلزمُ الموالين له أَنْ يقدموا له كرامة ملوكية، ويُخبرهم أنه هو المسيحُ، مسيح الرب، المسيا المنتظر، ملك اليهودِ الموَعود، إنه يَرْغبُ أنْ يُنادى بهذه الألقاب الرّفيعةِ ". ثم قدموا عشَرة شهود تختص شهادتهم بتلك الأمور .
أدى الاتهام الأخير بأن يسوع قد جعل نفسه يُدْعَى ملكاً إلى بعض التأثير على بيلاطس؛ فاصبحَ مستغرقاً في التفكير‏ قليلاً وترك الشرفة وأَلقي نظرة فاَحْصة على يسوع، ثم دَخلَ الغرفة المُجَاوِرةَ، وأَمرَ الحرّاس أَنْ يَأتوا بيسوع بمفرده إلي حضرته. لم يكن بيلاطس يؤمن فقط بالخرافات، بل كان أيضاً ضعيفَ العقل بشدة وسريع التأثُّر. لقد سمع كثيراً، خلال منهج تعليمه الإلحادي، عن إشارات عن أبناءِ آلهته الذين قَدْ سَكنوا لفترة على الأرضِ؛ لقد كَانَ مدركاً بالكامل أيضاً بأنّ أنبياءِ اليهود قد تنبئوا منذ أمد بعيد بأنّ شخصاً ما يَجِبُ أَنْ يَظْهرَ في وسطهم وأنه سيَكُونَ مسيح الرب، مُخلّصهم ومنجيهم من العبوديةِ؛ وأن كثيرين من بين الناسِ يؤمنون بهذا إيماناً قوياً.
لقد تَذكّرَ أيضاً هؤلاء الملوكِ الذين قَدْ جاءَوا من الشّرقِ إِلى هيرودس، جد الملكِ الحالي وبنفس ذلك الاسم، ليقدموا الولاء إِلى ملكِ لليهودِ مولودِ حديثاً، وأن هيرودس لهذا أمر بذبح الأطفال. لقَدْ سَمعَ كثيراً من التّقليدِ بما يختص بالمسيح المنتظر وملك اليهودِ، حتى أنه امتحنهم ببعض الفضولِ؛ ولو بالطبع، بَكُونُه مُلحدَاً, بدون أدنى إيمان، من المحتمل أن يكون قَدْ وَافقَ حزب هيرودس وأولئك اليهودِ الذين يتَوقّعوا ملكاً قوياً ومنتصراً. بمثل هذه الانطباعات، فكرة أن يَتّهمُ اليهودِ هذا الشخص المسكين الذي جَلبوه في حضرته بوَضعُ نفسه كملكِ وكالمسيح المنتظرِ المَوْعُودِ، بدت له بالطبع فكرة سخيفة؛ لكن لأن أعداءِ يسوع قَدّموا هذه الاتهامات ببرهانِ الخيانةِ ضد الإمبراطورِية، اعتقد أنه من الأسلم له أَنْ يَستوجبه سراً.
قال بيلاطس ناظراً إلى يسوع : " أأنت ملك اليهودِ؟ " ولم يقدر أَنْ يخفى دهشته من المظهر الإلهى لطلعته. أُجابه يسوع : " هل تقول هذا الشيء من نفسك, أم الآخرون يقولون ذلك عنّي؟" أما بيلاطس فقَدْ شعر أنه أُهين بأن يظن يسوع أنه من الممكن أَنْ يؤمن بمثل هذا الأمر وأجابَ : " وهَلْ أنا يهودي؟ أن أمتك ورؤساء الكهنة قَدْ أسَلّموك إلي كمستحق للموتِ؛ ماذا فعلت؟ "أجاب يسوع : " لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. وَلَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدامي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. أَمَّا الآنَ فَمَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هُنَا" تأثر بيلاطس بهذه الكَلِماتِ المهيبةِ إلى حد ما، وتكلم إليه بنبرة أكثرِ جديّة : " فَهَلْ أَنْتَ مَلِكٌ إِذَنْ؟" أَجَابَهُ يسوع : " أَنْتَ قُلْتَ، إِنِّي مَلِكٌ. وَلأجل هَذَا وُلِدْتُ وَلأجل هَذَا جِئْتُ إِلَى الْعَالَمِ: لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يُصْغِي لِصَوْتِي" نَظرَ بيلاطس إليه ونهض من مقعده وقالَ : " الحق! ما هو الحق؟ "
ثم تبَادلا بضع كَلِمات لكنى لا أَتذكّرها الآن، وعاد بيلاطس إِلى الشرفة. كَانت إجابات وتصرفات يسوع بعيدَة عن فهمه؛ لكنه رَأىَ بوضوح أن إدعاء المَلوَكِيَّة‏ لا يَتعارض مع الإمبراطورية، لأنها ليست مملكةُ دنيويةُ تلك التي ينشدهاَ؛ بينما الإمبراطوريةُ لا تهتم بشيء أبعد من هذا العالمِ. لهذا خاطب رؤساء الكهنة ثانية من الشرفة وقالَ : " إنى لست أَجدُ علة فيه" غضب أعداء يسوع ونَطقوا باتهامات مختلفة ضد مُخلّصنا. لكنه ظل صامتاًَ، مُستغرقاً بالكلية في الصَّلاةِ من أجل أعدائه، عندما خاطبه بيلاطس قائلاً : " أما تجيب بشيء ؟ اَنْظرُ بكم عديد من الأمور يَتّهمونك!" لم يُجبَه يسوع بشيء
قالَ بيلاطس وقَدْ أمتلئ بالدّهشةِ : " أنى أرى بوضوح أنّ كل ما تدعونه لهو باطل " أما متهموه، الذين استمر يتَزاِيد غضبهم، صْرخوا : " ألست تَجدُ علة فيه؟ ألم يجرم عندما حرّضُ الشعب على الَتمرّد في كل أنحاء المملكةِ ليَنْشروا تعاليمه الباطلة؟ ليس هنا فقط، بل في الجليل أيضاً ؟ "
ذكر الجليل جَعل بيلاطس يتردد: تأمل للحظةِ، وبعد ذلك سَألَ : " أهذا الرّجلِ جليلي، ومن اختصاص هيرودس؟ فأجابوا " أنه جليلى؛ وعِاش والديه في الناصرة، ومنزله حالياً في كفر ناحوم. "
أجاب بيلاطس : " فى تلك الحالةُ، خذوه أمام هيرودس؛ إنه هنا لأجل العيد، ومُمكنُ أَنْ يَحْاكمه حالاً، لأن هذا اختصاصه " اقتيد يسوع فى الحال لخارج الساحةِ، وبعث بيلاطس بضابطَ إِلى هيرودس، ليُعلمه أن يسوع الناصري، الذي من اختصاصه عَلى وَشَكِ أَنْ يصل إليه ليُحاْكَمهُ.
كان لدى بيلاطس سببان ليتصرف هذا التصرفِ؛ بالدرجة الأولى أنه قَدْ سر أَنْ يَهْربَ من أن يَحاْكمَه بنفسه، حيث أنه شَعرَ بغاية القلق من تلك القضيةِ بالكامل؛ وبالدرجة الثّانية كَانَ مسروراً لكونه وجد فرصةِ لكى يسَرِ هيرودس، الذي كَانَ على خلافَ معه، لأنه عَرف أنه فضوليَ جداً ويريد أَنْ يَرى يسوع.
غضب أعداء يسوع لكُونهم طردوا هكذا مِن قِبل بيلاطس في حضورِ هذه الحشود، وأعطوا متنفساً لغضبهم بإسَاْءَة معاملة يسوع أكثر من ذى قبل. كبلوه ثانية وبعد ذلك لم يتَوقّفوا عن أن يَغْمروه باللّعناتِ والضّربِ واقتادوه بعجالة خلال الحشدِ نحو قصر هيرودس، الذي كان على مقربة من الساحةِ. وانضم بعض الجنودِ الرّومان للموكب.
خلال وقت المحاكمة أرسلت كلوديا بروكليس، زوجة بيلاطس، رسائل متكررة لزوجها تُعلنَ فيها أنّها ترُغِب بشدة فى محادثته؛ وعندما أُرسلَ يسوع إِلى هيرودس، وقفت فى شرفةِ ورَاقبتْ التّصرف القاسى لأعدائه بمشاعرِ مَخْتلُطةِ من الخوفِ والأسى والرعب.


Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:47 PM

تأمل الرب يسوع


فى الفجر أَمرهم قيافا أَنْ يَأْخذوني إِلى بيلاطس كي يُعلنُ حكم الموتِ. سَألني بيلاطس، أملاً أن يجد سبباً ليُدينني، لكن في نفس الوقت عذبه ضميره وشَعرَ بخوفَ عظيمَ من الظّلمِ الذي سيَرتكبُه. أخيراً وَجدَ طريقَه ليتجاهلني وأوعز باقتيادي إِلى هيرودس.
فى بيلاطس مثال صادق عن النفوس التي تَشْعرُ بحركة النّعمةِ وتعميها في نفس الوقت أهوائها الخاصة بحبِّ الذات، وتَسْمحُ للنّعمة أَنْ تَعْبرَ عنها مخافةّ من أن تَكُونَ مُستهّْزأ بها.
أنا لم أجب عن أي من أسئلةِ بيلاطس. لكن عندما سَألنيَ :" أأنتَ ملك اليهودِ؟ "، أجبتهُ حينئذ بجديةِ وباستقامة : " أنتَ قَدْ قُلتَ، أنى أنا ملكُ، لكن مملكتي لَيستْ من هذا العالمِ " بهذه الكَلِماتِ أردتُ أَنْ أُعلّمَ عديداً من النفوس كيف يَتحمّلَون الآلام أو الإذلال الذى يستطيعوا أن يتجنبوه بسهولة عندما تواتيهم الفرصةِ، إنهم يَجِبُ أَنْ يُجيبوا بسماحه :" إن مملكتي لَيستْ من هذا العالمِ ..." هذا بمعنى، إنني لست اَبْحثُ عن المديح مِن قِبل البشرِ. إن مسكني لَيسَ فى هذا العالم، أنا سَأستَريحُ فى بيتي الحقيقي."
الآن، تُشَجَّعَوا كي تُتمموا اهتماماتي بدون أن تأَخْذوا في الاعتبار رأيِ العالم. أن تقيمه ليس له قيمة, بل المهم هو أَنْ تتبعوا صوت النّعمةِ كي تتخلّصوا مِن‏ إغراء الطبيعة‏‏. إن لم تكونوا قادرين على أَنْ تغلبوا بمفردكم، َاَطلبواُ القوةِ والَنْصحُ‏، لأنة فى مناسباتِ عديدة، الأهواء والكبرياء المفرط يَعميان النفس ويَدْفعانها إلى أَنْ تَتصرّفَ على نحو خاطئ.




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:47 PM

الفصل الثلاثون

أصل طريق الصّليب

خلال كل المشهدِ الذي وَصفنَاه الآن، كانت العذراء مريم تقف مع المجدلية ويوحنا في أحد جوانب الساحةِ: مغُمِورين بحُزنِ بغاية المرارة، حزن كان يتزاِيدَ مع كل ما يسَمعونه ويرونه. عندما اُخِذَ يسوع أمام هيرودس، قادَ يوحنا العذراءَ المباركَة والمجدلية ومروا على كل المناطق التي تقُدّسَت بخطاه. لقد مروا على دّارِ قيافا ثانية، دار حنان، أوفيل، جَثْسَيْمَانِي وبستان الزّيتونِ؛ لقد توَقفوا وتَأمّلوا كل بقعةِ حيث سَقطَ، أو حيث عَانى؛ وبَكوا بصمت بتذكر كل ما خَضعَ له. سَجدتْ العذراءُ المباركةُ راكعة وقَبّلتْ الأرض حيثما سَقطَ ابنها، بينما اعتصرت المجدلية يديها من الأسىِ المرّير، ويوحنا، مع أنه لم يستطع أَنْ يمنع دموعه، إلا أنه سَعى إلى مواساتهما ومساندتهما. هكذا كَانتَ ممارسة تكريس طريق الآلام لأول مرةِ؛ هكذا كَانَ إكرام آلام يسوع أول مرة، حتى قبل أن تكتمل تلك الآلام بحمل الصليبَ، والعذراء المباركة، ذلك النموذجِ للنقاوةِ التى بلا تلوثِ، كَانَت الأولَى فى إظهار التّبجيل العميق الذى تشعر به الكنيسةِ لإلهنا الحبيب. كم هو حلو ومُعزى أَنْ نتبع تلك الأمِ التى بلا دنس، بالمرور ذهاباً وإياباً، ونُبجل تلك البُقَعِ المقدّسة بدموع توبتنا. لكن، آه! كيف نستطيع أَنْ نَصفَ السّيف الحادّ، سيف الأسىِ الذى جاز فى نفسها الرقيقة؟ تلك التي حبلتْ بمخلص العالمِ في رحمها العفيفِ وأرضعته، تلك التي حَبلت بالحقيقة بكلمةَ الرب، أنها ذات القلب الممتلئ بالنّعمةِ، الذى تَنازلَ وسكن فيه مُخلص العالم تسعة اشهرَ، إنها من شَعرت به يَعِيشُ داخلها قبل أن يظَهرَ بين البشر ليَمْنحهمَ بركة الخلاص ويُعلّمهم تعاليمه السّمائية؛ لقد عَانتْ مع يسوع، شاركُته ليس فقط آلامه المريرة، بل أيضاً تلك الرغبة المتوهجة فى تحرير البشريةِ السَاقطةَ بالموتِ المخزي على الصليب.
بهذا الأسلوب المؤثر صنعت العذراءِ كلية الطهر والقداّسةِ أساسِ الولاءِ الذى سُمى بطريقَ الصّليبِ؛ في كل موقع موسوم بآلامِ ابنها، لقد ادخرت في قلبها استحقاقات لا تنضب من آلامه، وجمّعتهم كحجر كريمِ أو كرائحة زهور حلوة لتُقَدّمُهم كتقدمة مختارة إِلى الأبِ الأبدي نيابة عن كل المؤمنين الحقيقيين.
إن حزن المجدلية كَانَ شديداً جداً حتى أنها بدت تقريباً كشّخصِ مذهول. الحبّ المقدّس والغير محدود الذى أحست به تجاه يسوع حَثها على أن تسكب نفسها عند قدميه، وتسكب هناك مشاعر قلبها كما سكبت الطيب الثّمينَ ذات مرة على رأسه بينما كان يتكئ على المائدة؛ لكن ها هنا يوجد ما يحيل بينها وبينه. إن التوبة التى عاشتها لأجل ذنوبها كَانتْ هائلةَ، وشكرها لم يكن أقلَ شدة لأجل غفرانهم؛ لكن عندما اشتاقت أَنْ تَقدم أْعمال الحبِّ والشّكرِ كرائحة بخور ذكية عند قدمي يسوع، رأته مُخاناً، مُتألماً وعَلى وَشَكِ أَنْ يَمُوتَ من أجل التكفير عن آثامها التي أَخذَها على نفسه، وهذا المشهد مَلأها بالرّعبِ، ومزقت نفسها إرباً بمشاعرِ من الحبِ والندم والشكر. منظر جحودِ أولئك الذين كَانَ يسوع عَلى وَشَكِ أَنْ يَمُوتَ من أجلهم زاد من مرارة هذه المشاعرِ كثيراً وكل خطوةِ أو كلمة أو حركة أظهرت آلام نفسها.
أمتلئ قلب يوحنا بالحبِّ، وتألم بشدة، لكنه لم ينَطقَ بكلمةَ. لقد شَجّع‏ أمَ سيده الحبيبِ في رحلتها الأولى لمواضع طريقِ الصليبِ، وسَاعدها في إعْطاءِ مثالِ عن ذلك الولاءِ الذي صار يُمَارسَ بكثير من التأجّجِ من أعضاءِ الكنيسةِ المسيحيةِ.


Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:47 PM

الفصل الحادي والثلاثون
بيلاطس وزوجته


بينما كان اليهودَ يَقتادُون يسوع إِلى هيرودس، رَأيتُ بيلاطس يَذْهبُ إلى زوجته، كلوديا بروكليس. لقد كانت متعَجّلة لملاقاته، وذَهبا معا إلى إحدى الشرفات التى تقع خلف القصرَ. بدت كلوديا متأثرة كثيراً وخائفةِ. لقد كَانتْ امرأة طويلةَ القامة، رقيقة، لكنها كانت شاحبة. شعرها مُضُفِرَ ومُزَيَّن قليلاً، لكنه مُغَطَّىَ جزئياً بخمار طويلِ يسَقطَ بشكل رشيق على كتفيها. تَحدّثتْ مع بيلاطس لوقتِ طويلِ، وتَوسّلت إليه بكل ما هو مقدّسَ عنده ألا يظلم يسوع، ذلك النّبيِ، قدّيسِ القديسين؛ وروت الأحلامِ والرُّؤى الغير عادية التى رأتها فى اللّيلةِ السّابقة والتى تختص به .
بينما كَانتْ تَتكلّم رَأيتُ أكبر جزءَ من هذه الرُّؤىِ: أولاً الأحداث الرّئيسية في حياةِ الرب يسوع : البشارةِ، الميلاد، توقير الرّعاةِ والمجوسِ، نبؤه سمعان الشيخ وحنة النبيةِ، الهروب إلي مصر، مذبحة الأطفالِ، وتجربة الرب يسوع في البريةِ. لقَدْ رأت في نومها أيضاً السمات الآخّاذ‏ة للحياةِ العامّةِ ليسوع. لقد ظَهرَ لها دائما مُحاَّطاً بضياءِ متألقِا، لكن أعداءه الخبثاء والقساة كَانوا يظهرون فى أشكالِ مروّعةِ ومثيرة للاشمئزاز. لقد رَأتْ آلامه الشديدة وصبره ومحبّته التى لا تنضب، على نفس النمط رأت آلام أمه واستسلامها الكامل. هذه الرُّؤىِ مَلأتْ زوجةَ بيلاطس بالقلقِ والرّعبِ، خاصة أنها يرافقها رّموزِ جَعلتها تفَهمَ معانيها، ومشاعرها الرقيقة قَدْ سُلِبت برؤية مثل هذه المشاهدِ المُخيفةِ. لقَدْ عَانتْ منها طوال اللّيلِ؛ وعندما أشرق الصباح واستيقظتْ على ضوضاءِ الغوغاءِ الذين كَانواَ يَسْحبُون يسوع لُيحْاكَمُ ورَأتْ فى الحال الذبيح بلا مُقَاوَمَةِ وسطِ الحشودِ، مُقيداً، متألماً، ويُعامل على نحو غير أنساني حتى أنه كانَ من الصعب تمييزه، كأنه لم يكنَ ذلك الشخص المُشرق والممجدِ الذى رأته أمام عينيها في رُؤىِ اللّيلِة الماضيةِ. لقَدْ تأثّرتْ بشّدة من هذا المنظر، وطَلبتْ بيلاطس فوراً وأعطته تقريراً عن كل ما حَدثَ لها. تَكلّمتْ بكثير من الشدة والانفعال؛ بالرغم من أن جزء عظيمَ مما رَأتْه لم تتَمَكّنَ من َفْهمَه أو توضحه، ومع ذلك تَوسّلتْ إلى زوجها ونَاشدتْه بأكثر التّعبيرات تأثيراً أَنْ يَمْنحَها طلبها.
كَانَ بيلاطس مُتعجّبَا ومضطرباً من كَلِماتِ زوجته. لقد قَارنَ بين رّوايتها مع كل ما سَمعهَ بخصوص يسوع سابقاً؛ وتأمل فى كراهيةِ اليهودِ وصّمت مُخلصنا وإجاباته الغامضة عن كل أسئلته. لقد تَردّدَ لبعض الوقتِ، لكنه تغلّبَ أخيراً بالتماسات زوجته واخبرها أنه أعلن بالفعل عن إيمانه ببراءةِ يسوع وأنه لَنْ يُدينه، لأن رَأىَ أنّ الاتهامات ليست سوي تّلفيقَ من أعدائه. لقد تَكلّمَ عن كَلِماتِ يسوع له ووَعدَ زوجته أن لا شيء يَجِبُ أَنْ يُقنعه بأَنْ يُدينَ هذا الرجل البار، حتى أنه أعطاها خاتمه قبل أن يفترقا كعربون عن وفائه بوعده.
شخصية بيلاطس كانت فاسدة ومترددة، لكن أسوأَ صفاته كَانتْ الكبرياءَ الشديد والدناءة‏ اللتين تجَعلانه لا يَتردّدَ عن فعل أى عملِ ظالمِ. أنه يؤمن بالخرافاتَ بشدة، وكان يستعين بالسّحرِ والشعوذةِ إن اعترضته أي صعوبات. لقد كَانَ مرتبكاً كثيراً ومنزعجاً بخصوص محاكمةِ يسوع؛ ولقد رَأيته يَجْري ذهاباً وإيابا، يقدم بخوراً أولاً لأحد الآلهة وبعد ذلك إِلى إله آخرِ، ويُنَاشَدهم أَنْ يُساعدونه؛ لكن الشيطانَ مَلأَ خياله بأعظمُ تشويشُ ؛ لقد غرس أولاً فكرة باطلة وبعد ذلك فكرة أخرى. ظل ذهنه مُغَلَّفاً بالظّلمةِ، واصبحَ متردداً أكثر فأكثر. لقد فكر أولاً أن يُبرّئُ يسوع، لأنه يعرف جيّداً أنْه برئَ، لكنه خَافَ تَحَمُّلَ غضبَ آلهته إن أطلق سراحه، كما أنه توهم أنه أحد أنصاف الآلهةِ، وبغيض إِليهم, لقد قال فى نفسه " من المحتمل أن يكون هذا الرّجلِ ملكِ اليهودِ الذى اختصت به عديد من الّنبوءاتِ. ربما كان هو ملك اليهودِ الذي أتى المجوس من الشّرقِ ليُمجّدَوه. ربما يكون العدوُ السريُ لكل آلهتنا والإمبراطوريةِ؛ ربما يَكُونَ إنقاذ حياته يكون أكثر الحماقات فى حياتي. من يَعْرفُ ربما يكون موته نصراً لآلهتي؟ " ثم تَذكّرَ الأحلامَ الغير عادية التي وَصفتْها له زوجته، التي لم يسَبَقَ أَنْ رَأتْ يسوع، ومرة أخرى غَيّر رأيه، وقرر أنه سَيَكُونُ أكثر آمناً إنْ لم يُدنه. حَاولَ أَنْ يُقنعَ نفسه أنه يرَغبَ أَنْ يجيز حكماً عادلاً؛ لكنه خَدعَ نفسه، لأنه عندما سَألَ نفسه، " ما هو الحق؟ " لم ينتظرَ الجواب. ذهنه قَدْ أمتلئ بالتّشويشِ، وكَانَ مرتبكاً تماماً ولا يعرف كيف يَتصرّف، أمنيته الوحيدةِ كَانتْ أَنْ لا يُعرض نفسه لأي مخاطرة .




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:48 PM

الفصل الثاني والثلاثون
يسوع أمام هيرودس


بُنِى قصر هيرودس في المدينةِ الجديدةِ على الجانبِ الشّماليِ للساحةِ؛ على مسافة ليست بعيدة عن قصر بيلاطس. سار الموكب برفقة جنودِ رومان. كان أعداء يسوع بغاية الغيظ لكونهم قَدْ أُرغموا على أَنْ يسلكوا الطريق ذهابا وإيابا، ولهذا نَفّسوا عن غيظهم فى يسوع.
سبق رسول بيلاطس الموكب، ولذلك كان هيرودس يَتوقّعهم. كان جالساً في قاعةِ واسعة ومُحاطاً مِن قِبل حاشيته وحراسه. دخل رؤساء الكهنة واتكئوا بجانبه، تْاركُين يسوع في المدخلِ. كان هيرودس مبتهجاَ ومسروراً كثيرا من بيلاطس لكونه اعترفِ علانية بحقه فى محُاكْمةِ الجليلى، واُبتَهَج أيضاً برُؤيةِ يسوع الذي لم يسَبَقَ أَنْ تَنازلَ وَظْهرَ أمامه وقد أهين بمثل هذه الحالة من الإذلالِ. فضوله قد أثير بشّدة بالتّعبيراتِ التي أعلن بها يوحنا المعمدان عن مَجيء يسوع، وسَمعَ كثيراً أيضاً عنه من هيروديا ومن عديد من الجواسيسِ الذين أرسلهم في مختلف المناطقِ: لهذا كَانَ مسروراً لكونه وجد فرصةِ لاسْتِْجوابه في حضورِ رجال حاشيته وكهنة اليهود، مَتمنّياً أَنْ يَقدم يسوع عرضاً كبيراً عن معرفته ومواهبه. ولكون بيلاطس قد أرسل له خطاباً يقول فيه : " أنه لم يستطع أَنْ يَجدَ علة في الرّجل " فقد استنتجَ بأن هذه الكَلِماتِ قَدْ تكون تلميحِ بأن بيلاطس يرَغبَ أن يُعامل مُتهمي يسوع باحتقار وارتياب. لهذا خاطبهم بأسلوب متغطرسِ بأقصى ما يستطيع مما زِادَ من غيظهم وغضبهم بما يفوق الوصف .
بدأ الجمع فى الحالً يَصِيح باتهامات سمعَها هيرودس بصعوبة، ولكونه اعتزم أن يرْضى فضوله باختبار سريع ليسوع، الذى تمنى كثيراً أَنْ يَراه. لكن عندما نَظره عاَرّيا من كل لباسِ باستثناء‏ عباءةِ وقادراً بالكاد أَنْ يَقفَ، وطلعته تشَوّهتْ بالكلية من الضّرب الذى ناله، ومن الطّينِ الذي ألقاه الرّعاع علي رأسه، استدارا الأمير المترف والمخنث في اشمئزازِ، ناَطقَا باسمَ الرب، وقال للكهنة بنغمةِ هى خليط من الرّحمةِ والاحتقار : " خذوه من هنا، ولا ترجعوه إلى حضرتي بمثل هذه الحالة المذرية ", أخذ الحرّاس يسوع إلي القاعة الخارجيةِ، ودبّروا بمشقّة‏ بعض الماءِ في أناء ونظفوا ملابسه المُلَوَّثةَ ووجهه المشَوّه؛ لكنهم لم يتَمَكّنوا من أَنْ يمنعوا توحشهم حتى بينما كانوا يفعَلَون هذا، ولم يبالوا بالجراحِ التى قَدْ تغُطّى بها.
أثناء ذلك تَحرّشَ هيرودس بالكهنة كما فعل بيلاطس وقال لهم " إن سلوككمَ يَشْبهُ جداً سلوك الجزارين، وها أنتمَ قد شْرعُتم فى ذبائحكم مبكّراً‏ في الصّباحِ." تلا رؤساء الكهنة اتهاماتهم فى الحال. أدعى هيرودس عندما جاء يسوع ثانية إلي حضرته أَنْه يَشْعرَ ببعض الشّفقةِ، وقدم له قدحاً من الخمر ليُجددَ قوته؛ لكن يسوع أدارَ رأسه بعيداً ورَفضَ.
بَدأَ هيرودس حينئذ يُسهِب‏ بثّرثرةِ عظيمةِ عن كل ما سَمعهَ بخصوص يسوع. سَألَه كثيراً وحَثّه أَنْ يؤدى معجزة في حضرته؛ لكن يسوع لم يُجبَه بكلمةَ ووَقفَ أمامه وعيناه ناظرتان لأسفل، مما جعل هيرودس يُغضَب ويرتبكَ، مع أنه سَعى أن يُخفى غضبه واستمرَّ فى استجواباته. في بادئ الأمر عبَّر عن‏ دهشته واستعملَ كَلِماتِ مقنعةِ : " هل ممكن أن تظهر بنفسك يا يسوع أمامي كمجرمِ؟ لقَدْ سَمعتُ عن أعمال كثيرةً تخصك يتحدثون بشأنها. ربما تكون غير مدرك أنك أهنتني بشدة بإطْلاقِ صراح السّجناءِ الذين حبستهم، لكن ربما كانت النوايا حسنه. لقَدْ أرسلَك الحاكم الرّوماني إلي الآن لتُحاْكَمُ؛ أي جواب ممكن أن تَعطيه لى عن كل هذه الاتهامات؟ لماذا أنت صامت؟ لقَدْ سَمعتُ كثيراً عن حكمتك، وعن الدّيانة التى تنادى بها, دعني اَسْمعُ إجابتك وفنّد ما يدعيه خصومك. هل أنت ملك اليهودِ؟ هل أنت ابن الرب؟ من أنت ؟ لقد قيل لى أنك تؤدى معجزات عظيمة؛ أصنع واحدة الآن في حضرتي. فإن لى السلطة أَنْ أطلقك. هَلْ أعدت حقاً البصرَ للأعمىُ وأحييت لعازر من الموتِ، وأطعمت ألفين أو ثّلاث آلاف إنسان ببضعة أرغفةِ؟ لماذا لا تجيبَ؟ لقد أمرتك أَنْ تفَعْلَ معجزة بسرعة أمامي؛ ربما تُسر بعد ذلك لكونك امتثلتَ لرغباتي. " استمر يسوع مَحتفظاً بصمته واستمرَّ هيرودس يَسْأله بثرثرةِ أكثرِ.
" من أنت ؟ من أين تستمد قوتك؟ كيف أنك لم تعد تَمتلكها؟ هل أنت من كان ميلادك قَدْ أُنبّأ به بمثل هذا الأسلوب العجيب؟ لقد جاء ملوك من الشّرقِ إِلى جدي ليَروا ملك اليهودِ المولود حديثاً: هَلْ حقاً أنك أنت ذلك الطّفلِ؟ هل هربت عندما ذُبح الكثير من الأطفال، وكيف دبرت أمر هروبكَ؟ لماذا كنت غير معروف لعديد من السَنَوات؟ أجب عن أسئلتي! هل أنت ملك؟ أن مظهرك الآن لا يُعطى بالتأكيد ذلك الانطباع. لقد قيل لى أنّك كنت ذاهباً إِلى الهيكلِ في موكب منذ وقت قصير. ماذا كَانَ يُعنى مثل هذا الموكبِ؟ تكلّمُ حالاً! أجبني! "
استمرَّ هيرودس يَسْألَ يسوع بهذا الأسلوب السّريعِ؛ لكن يسوع لم يجبه. لقَدْ رأيت أن يسوع كَانَ صامتاً هكذا لأن هيرودس كُان فى حالة عزلة، بسبب زواجه الغير شرعي من هيروديا، ولأنه أعطىَ أمراً بقتل يوحنا المعمدان. عندما شاهد حنان وقيافا كيف أن هيرودس ساخطاً من صمتِ يسوع، سَعيا فى الحال أن يَستغلاُ مشاعر غضبِه، وأعلنا تهمهما قائلين أن يسوع قَدْ وصف هيرودس نفسه بالثعلب؛ وأن هدفه العظيم لسنوات عديدّة مضت هو أَنْ يُسقطَ عائلةِ هيرودس؛ وأنه كَانَ يسعي إلى أن يُؤسّسَ ديانةَ جديدَ، وإنه احتفلَ بالفصح فى اليومِ السّابقِ. ومع أن هيرودس قَدْ اُغتاظ بشدة من تصرفاتِ يسوع، إلا أنه لم يُبعد نظره عن النّهاية السّياسيةِ التي أراد أَنْ يحققها. لقَدْ قرر أَلا يُدينُ يسوع، لأنه أحس بإحساس غامض بالرّعبِ في حضوره، ولأنه ما زالَ نادماً لكونه أسلم يوحنا المعمدان إِلى الموتِ، بالإضافة أنه يمَقتَ رؤساء الكهنة لأنهم لم يسَمحوا له أَنْ يُشتركَ في التّضحياتِ بسبب زواجه الغير شرعي من هيروديا.
لكن دافعه الرّئيسيَ لقراره بألا يُدينُ يسوعَ، أنه أراد أَن يصنع مودة مع بيلاطس لأجل مجاملته له، واعتقدَ أن أفضلَ مُقابل سيَكُونُ إظهار التقديرَ لقراره ومُوَافَقَته في الرّأيِ. لكنه تَكلّمَ بأسلوب محتقر إِلى يسوع، والتفت إِلى الحرّاسِ والخدمِ الذين أحاطوه، وكَان عددهم يُناهز مأتى شخص قائلاًَ :' خذُوا هذا الغبيِ، وقدموا له الإجلال الذى يستحقه؛ إنه مجنونُ، لكنه ليس مذنباً بأي جريمةِ. "
حينئذ اُخِذوا يسوع فى الحال إلى قاعة كبيرةِ، حيث أهانوهِ واحتقروه بكل أهانه ممكنة. كانت هذه القاعة بين جناحي القصرِ، وقف هيرودس ليشاهدَ ذلك لبعض الوقتِ. كان حنان وقيافا بجانبه، يَسْعيان إلى إقناعه بأَنْ يُدينَ مُخلصنا. لكن جهودهم كَانتْ غير مثمرةَ، وأجاب هيرودس بنغمةِ عاليةِ تكفى أنْ تُسْمَعُ مِن قِبل الجنودِ الرّومان : " كلا، سأكون مُخطئاً بالتأكيد إن أنا أدنته. " بما معناه، أنه سَيَكُونُ مخطئاً إذا أدان شخصاً كمذنبِ بينما يرى بيلاطس أنه برئُ، وأنه يرجأ الحكم النّهائي له.
عندما أدرك رؤساء الكهنة وباقي خصوم يسوع أنّ هيرودس قَدْ قرر أَلا يَستسلمُ لرغباتهم، أرسلوا مبعوثين إلى الجزء الذى يسُكِنهَ الفريسيون من المدينة، ليعلموهم إنهم يَجِبُ أَنْ يحتشدوا بجوارِ قصرِ بيلاطس وأن يجمّعواُ الرّعاعَ ويَرْشوهم ليصنعوا ضوضاء، ويَطاْلبوا بإدانة يسوع. وبَعثوا بوكلاءَ سريين أيضاً كى يُحذروا الشعب بتهديدات الثّأرِ الإلهى إن لم يصروا على قتل يسوع، الذي يعتبرونه مُجدفاً. لقَدْ أمروا هؤلاء الوكلاءِ أَنْ يحذروا الشعب بإعْلانِ أنه إن لم يُقتل يسوع، فأنه سيَذْهبُ إِلى الرومانِ، وسيُساعدُ على إبادةِ الأمةِ اليهوديةِ، لأن ذلك كان ما يُشير إليه عندما تَكلّمَ عن مملكته المُقبلة. لقد سَعوا فى نْشر تقريرَ في أجزاء أخرى من المدينةِ، أن هيرودس قَدْ أدانه، لكن ما زالَ ضروري للشعب أَنْ يُظهر رغبته، كما أن الموالين له سيَخَافونَ؛ لأنه إن أطلق سراحه فأنه سيتقرب للرومان، ويصنع اضطراباً فى يومِ العيدِ، وينتقم بوحشية منهم. رَوّج البعض منهم تقارير تحذير مناقضة ليُثيروا الشعب ويتسبّبُوا فى حدوث تمرد؛ بينما وزع آخرون أموال بين الجنودِ ليَرْشوهم ليسيئوا معاملة يسوع، لكي يتُسبّبَوا فى موته، الذي كَانوا مُتلهفين على َجْلبه بأسرع ما يمكن، خشية أن يُبرّئه بيلاطس.
بينما كان الفريسيون يُعدون أنفسهم بهذا الأسلوب، كان مُخلصنا المبارك يَعاني أبلغ إساءة من الجنودِ الهمج الذين سلم هيرودس يسوع لهم، لقد سْخروا منه كأحمق. لقد سَحبوه إلي القاعة، وكان لواحد منهم كيس أبيض كبير كَانَ فيما سبق مَمْلُوءاً بالقطنِ، صنعوا فتحةَ في وسطه بالسيفِ، وبعد ذلك ألقوه على رأسِ يسوع ومصاحبين كل فعلِ بالضحك مُستهزئين به. أحضر جنديُ آخرُ عباءةِ قِرمزيةِ قديمةِ، ووضعها حول رقبته، بينما أحنى الباقون رؤوسهم أمامه وكانوا يَدْفعونه ويسبونه ويتفلون عليه ويصفعونه على وجههِ، لأنه رَفضَ أَنْ يُجيبَ ملكهم، سخروا منه بالتظاهر بأنهم يُبايعونه, ألقوا الوحل عليه, أوثقوه من خصرهِ كي يَجْعلوه يَرْقصَ؛ ثم طرحوه أرضاً، جروه إلى إلي جانبِ القاعةِ، لتصطدم رأسه المقدّسة بالأعمدة وبجوانب الحوائطِ، وعندما أنهضوه فى النهاية، كان ذلك فقط لكي يواصلوا إهاناتهم. بَلغ جنود وخدم هيرودس الذين تجُمّعوا في هذه القاعة أكثر من مائتين، وكل فكرهمِ أَنْ يتوددوا إِلى حاكمهم بتَعذيبِ يسوع ببعض الطّرقِ التى لم يُسمع بها من قبل. كثيرون منهم قَدْ أرتشي مِن قِبل خصوم يسوع كى يَضْربوه على رّأسهِ بعصيهم، وقد استغلّوا الفوضى والضّوضاءِ ليفعلوا هكذا. نَظرَ يسوع إليهم بشّفقةِ؛ زيادة الألمِ جعلته يتأوه ويئن، لكن أعداءه ابتهجوا بآلامه، وهزءوا بتأوهاته، ولا واحد من بين كل الّجمّعِ أظهر أدنى دّرجة من الرحمة. لقد رَأيتُ الدمَ ينزف من رأسه، وثلاث مرات طرحه الضّرب أرضاً، لكن الملائكةَ التى كَانتْ تَبْكي بجانبه كانت تدَهن رأسه ببلسمِ سّمائيِ. لقد كُشفَ لي ذلك لأعلم أنه لولا تلك المعونة لأفضت تلك الجراحِ إلى موت يسوع. أن الفلسطينيين في غزة، الذين أعطوا متنفساً لغضبهم بتَعذيبِ شمشون الأعمىِ، كَانَوا أقل بربريَة ووحشية من هؤلاء الجلادين اليهود القساة .
لم يكن الكهنة صبورين فى الرجوع إِلى الهيكلِ؛ لهذا، بعد ما تأكدوا من أن طلباتهم بخصوص يسوع لن تُطاع، رَجعوا إِلى هيرودس، وسَعوا لإقناعه بإدانة يسوع. لكنه، لِكَونِهِ قد قرر أن يفَعَلُ كل ما فى مقدوره كى يُسر بيلاطس، رْفضُ أَنْ ينصاع لرغباتهم، وأعاد يسوع ثانية مُكتسياً بزي الحمقى .




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:48 PM

تأمل الرب يسوع


أَمرَ بيلاطس أن يَأْخذوني إِلى هيرودس, إنه رجلاً فاسداً مسكيناً من الذين يبَحثونَ عن اللذة فقطِ، سْامحاً لها أنْ تُسوقُه إِلى مشاعر منحرفةِ. لقد كَانَ يأمل أنَ يراني آتياً أمام محكمته لأنه تَمنّى أَنْ يَسلّي نفسه بكَلِماتي وبمعجزاتي.
خذوا بعين الاعتبار يا أبنائي النّفور الذي شَعرتُ به في حضرِة أكثر الرجال إثارة للاشمئزاز، الذي غَطّتني كلماته وأسئلته وإيماءاته بالتّشويشِ. أيتها النفوس النقية والعفيفة، تعالوا لتُحيطَوا بعريسكم ولتَحْمونه.
توقّع هيرودس أَنْ أُجيبَه على أسئلته السّاخرة لكنني لم اَنْطقُ بكلمة؛ اَحتْفظُت بصّمتَ مُطلق أمامه. عدم إجابتي كَانتَ أعظم برهانَ أستطيع أَنْ أَعطيه له عن منزلتي. كَلِماته البذيئة لم تكن جديرة بأَنْ تلتقي بكلماتي النقية. فى نفس الوقت، قلبي كان قَدْ توُحّدَ بشكل لانهائي مع أبي السّماويِ. لقد كنت متشوقاً برغبة أَنْ أسفك دمى حتى القطرة الأخيرة من أجل فداء النفوسِ. إن فكرة أن كل إنسان، سيتبعني بعد ذلك، سيغلب بمثالي وسخائي، اشعلتني حباً، ولذا لم أمتنع فقط عن ذلك الاستجواب الفظيعِ بل أردتُ أَنْ أركض نحو عذابِ الصّليبِ.
لقد سَمحت لهم أَنْ يُعاملوني كإنسان أحمق وقد غطّوني بسترةِ قرمزية كعلامة سخريتهم وهزئهم بى. بعد ذلك، في وسط صراخ صّياحهم الساخر، اقتادوني مرة أخرى إلى بيلاطس .



Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:49 PM

الفصل الثالث والثلاثون
اقتياد يسوع من هيرودس إلى بيلاطس




غضب أعداء يسوع تماماً لَكُونهمَ مُضطرين للعودة بيسوع إِلى بيلاطس الذي أعلن براءته مراراً وأنه غير مُدَانُ. لقد اقتادوه فى طريقِ أكثر طولاِِ، كي يدّعوا أناس تلك المناطق من المدينةِ يَرونه في حالة العارِ التي كَانَ عليهاَ، ومن ناحية أخرى كي يَعطوا رسلهم وقتاً كافياً ليُثيروا عامة الشعب.
هذا الطّريقِ كَانَ صعباً وغير ممهد؛ وبتحريض الفريسيين لم يمتنع الجنود لحظةَ عن تَعذيبِ يسوع. كان الرداء الطّويل الذي يرتديه يعَرقَل خطاه، وتسَبّب فى سْقوطه أكثر من مرة؛ وبدلاً من أن يُساعده حرّاسه القساة في إعيائهِ سعوا بمشاركة كثيرين من عامة الناسِ الهمج أن يجبروه على النهوض بالضّربِ والرّكلِ .
لم يبد يسوع أدنى مقاومةَ إِلى كل الإساءات؛ بل كان يصَلّى باستمرار إِلى أبيه لأجل النّعمةِ والقوةِ التي لولاهما لكان أنهار، لكى يتمم آلامه لأجل فدائنا .
وصل الموكب لقصرَ بيلاطس. الحشود كَانتَ كثيرة، وكان الفريسيون يسيرون ذهاباً وإيابا، يَسْعون أن يُحرّضُوا الجموع أكثرُ. جَمّعَ بيلاطس أكثر من ألف جنديِ، وأرسلهم حول دار الولاية والساحة وقصره لأنه تَذكّرَ التمرد الذي حَدثَ السّنة الماضية في عيد الفصحِ.
العذراء المباركة ومريم التى لكلوبا والمجدلية، وحوالي عشرين من النِّساءِ القديّساتِ، كَنَ يَقفنُ في موضع يستطعن منه أَنْ يَرين كل ما يحَدث، وفي بادئ الأمر كَانَ يوحنا معهم.
أقتاد الفريسيين يسوع، الذى كان ما زالَ يرتدى ذلك الرداء، وسطِ الغوغاءِ الوقحين، وقَدْ فعَلَوا كل ما فى قدرتهم ليجمّعواَ الحقراء والأشرار الفجار من حثالةِ الشعب. كان هناك خادمُ قَدْ وَصلَ بالفعل إلى بيلاطس مُرسلَ مِن قِبل هيرودس، ومعه رسالةِ تُظهر أن سيده يقَدّرَ بالكامل رأيه، لكنه ينَظرَ إلى الجليلى على أنه ليس سوى إنسان أحمق، وأنه عَامله على هذا الأساس وها هو يرجعه له الآن. رضىَ بيلاطس تماماً لكونه وجد أن هيرودس قَدْ وصل إِلى نفس النتيجة التى وصل إليها هو نفسه، ولهذا أرجعه برسالة مهذبة. من تلك السّاعةِ اصبحا صديقان، بعد ما كاناَ أعداء لعديد من السَّنَواتِ؛ منذ أن انهارت القناةِ .
اقتيد يسوع ثانية إِلى قصر بيلاطس. جره الجنود على الدّرجِ بوحشيتهم المعتادةِ؛ أقدامه تُشَابكت مع ردائه الطّويلِ، وسَقطَ على الدرج الرّخاميِ الأبيضِ، الذى تلُطّخْ من الدّمِ النازف من رأسه المقدّسِ. أخذ أعداؤه مقاعدهم ثانية عند مدخلِ الساحةِ؛ سَخرَ الغوغاءُ من سقوطه، وضرب الجنود ضحيتهم البريئةَ، بدلاً من أن يُساعدونه على الَنْهوضَ. كان بيلاطس يَتّكئ على كرسي وأمامه منضدةِ صغيرة ومحاطَاً بضّبّاطِ وأشخاصِ يحَملون أشرطة رقّ الكتابةِ فى أياديهم. تَقدّمَ وقالَ إِلى من يتّهمون يسوع : " لقد قَدّمتَم لي هذا الرّجلِ، كشخص يُفسد الشعب، وها أنا بعد ما اختبرته أمامكم، لم أجد علة فيه من جهة تلك الأمور التى تشتكون بها عليه. كلا، ولا هيرودس. لأنى أرسلتكمَ إليه، وإنه لم يفعل شيئاً يستحقّ عليه الموتِ. لهذا أنا سأؤدبه وأُطلقه. "
غضب الفريسيون عندما سمعوا هذه الكَلِماتِ، وسَعوا بكل قدرتهم أَنْ يُقنعَوا الشعب أَنْ يَتمرّد، مُوزّعين الأموال عليهم ليصلوا إلىَ هذا الغرضِ. نظر بيلاطس حوله باحتقارِ، وخاطبهم بكَلِماتِ هازئة .
وكان من المعتاد طبقاً لتقليد قديم، أن الشعب كَانَ له امتياز طَلَبِ إطلاق سراح أحد السّجناء. أرسل الفريسين مبعوثون ليُقنعوا الشعب أَنْ يَطْلبوا الموت ليسوع. تَمنّى بيلاطس أن يطلبوا يسوع، وقرر أن يَعطيهم أَنْ يَختاروا بينه وبين مجرم يُدعِيِ باراباس، الذي كَانَ قَدْ أدين بجرائم قتلِ مُخيفةِ ارتكبَها خلال العصيان، وأيضا بعديد من الجرائمِ الأخرىِ، وكَانَ، علاوة على ذلك، مَكروه مِن الشعب.
كَانَ هناك هياج بين الحشودِ؛ تَقدّمَ قسم مُعين، وكلم خطباؤهم بيلاطس بصوتِ عال قائلينَ : " امنحنا الامتياز الذى تمَنحه لنا دوماً فى يومِ العيد " فأجاب بيلاطس : " لقد اعتدت أَنْ أُسلّمَ لكم مجرماً في عيد الفصحِ؛ من ستطلبون أن أُطلقُ لكم، باراباس، أم يسوع الذى يُدعى ملك اليهود ؟ "
مع أن بيلاطس كان متأكداً بأن يسوع ليس ملكَ اليهودِ، إلا أنه دَعاه هكذا، من ناحية لأن كبرياءه الرّومانيَ جَعله يستمد سعادته من إذْلاْلِ اليهودِ بدُعوةِ مثل هذا الشخصِ الحقيرِ المظهرِ بملكهم؛ ومن ناحية أخرى لأنه شَعرَ بنوعَ من الاعتقاد الدّاخليِ أن يسوع رُبَما يكون حقاً ُ ذلك الملكِ العجيب، ذلك المسيح المنتظر الموُعوِدَ. لقد رَأىَ بوضوح أنّ الكهنة قَدْ حُرّضوا بالحسدِ فقط في اتهاماتهم ضد يسوع؛ هذا جَعله يحرصِ أكثر على أَن يُخيّب آمالهم؛ وكَانَ هناك بعض التّرددِ بين الحشودِ عندما سأل بيلاطس هذا السّؤالِ، أجابت بعض الأصوات: " باراباس "
جاءه خادمَ مُرسل مِن قِبل زوجته في هذه اللّحظةِ؛ تَركَ بيلاطس الرّصيفَ، وقَدّم الرسول التعهد الذي أعطاه بيلاطس لزوجته، قائلاً في نفس الوقت : " إن كلوديا بروكليس تَستجديكَ أَنْ تَتذكّرَ وعدكَ لها فى هذا الصباح " سار الفريسيين والكهنة بحرص وبعجالة بين الحشودِ، يهددون البعض ويأَمْرونِ الآخرين، مع أنه، في الحقيقةِ، قليلاً الذى تطلّبَ لتُحرّيضَ الحشود التى كانت غاضبة بالفعل .
وقفت العذراء مريم مع المجدلية ويوحنا والنِساء القديّسات، في ركن الساحة، مَرتعدات يَبْكين؛ لأنه مع أن أمِ يسوع كَانتَ مدركةَ بالكامل بأنّ فداء البشر لا يَمَكّنَ أَنْ يتم مِن قِبل أي وسائلِ أخرىِ إلا بموتِ ابنها، إلا أنها امتلئت بالألمِ كأمِّ، وبرغبة متلهفة فى أَنْ تُنقذه من ذلك العذابِ ومن ذلك الموتِ الذي كَانَ عَلى وَشَكِ أَنْ يَعانيه. لقد صَلّتْ إلى الرب ألا يَسْمحُ أنْ تُرتَكبُ هذه جريمةِ المخيفة؛ لقد كَرّرتْ نفس كَلِماتَ يسوع في بستان جَثْسَيْمَانِي : " إن أمكن، فلتجيز هذا الكأسِ " كانت لم تزالَْ تشعر ببصيص من الأملِ، لأنه كان هناك تقريرَ شائع أن بيلاطس يرَغبَ فى تبرئة يسوع. تُجمّع بجوارها مجموعة من الناس، أغلبهم من كفر ناحوم، حيث عَلّمَ يسوع وأجرى عديداً من معجزات الشفاء بينهم؛ لقد ادّعوا إنهم لا يَتذكّرونَها لا هى ولا باقي رفاقها. لقد فكرت كثيراً، كما فعَلَ رفاقها أيضاً، أن هؤلاء الأشخاصِ على الأقل سيَرْفضونَ باراباس ويطلبون حياة مُخلصهم وفاديهم؛ لكن هذه الآمالِ كَانتْ، للأسف، أوهاماً.
أعاد بيلاطس التعهدَ إِلى زوجته، كتأمينِ عن نيته بأَنْ يَحْفظَ وعده. تَقدّمَ ثانية إلى الرّصيفِ، وجلسَ علي المنضدةِ الصغيرة. أخذ كبار الكهنة مقاعدهم أيضاً، وسأل بيلاطس مرة أخرى: " أي من الرجلين على أَنْ أطلق لكم؟ " دَوّى صراخ عامَّ خلال القاعةِ : " لَيسَ هذا الرّجلِ، بل باراباس! " فرد بيلاطس : " لكن ماذا أفعل بيسوع، الذى يًدعى المسيح ؟ " صرخ الجميع بطريقة صاخبةِ : " فليصلب! فليصلب " سأل بيلاطس لثالث مرة: " لكن أي شر قَدْ فعلَ؟ أنى لست أَجدُ علة فيه. لذا سَأَجْلدهُ وبعد ذلك أُبرّئه. " لكن الصراخ " أَصْلبه! أصلبه! " دوى من الحشودِ، ودوت الأصوات كعاصفةِ جهنميةِ؛ صرخ رؤساء الكهنة والفريسيين وأسرعوا ذهاباً وإيابا كالمجانين. بيلاطس فى النهاية؛ لم يتَمَكن من أَنْ يُقاومَ مثل هذه المظاهراتِ العنيفةِ؛ أطلق باراباس للشعب، وقرر أنْ يُجْلَدُ يسوع.




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:49 PM

تأمل الرب يسوع

كَانَ بيلاطس يَبْحثُ عن طّريقة كى يُطلقني. لقَدْ كان قُلِقاًَ بسبب تحذير زوجته وارتبك بين شعورِ ضميره بالذنب وبين الخوفِ من أن يُحدث الناس الشغب ضده. بالحالة التى يُرثى لها التى وَجدتُ فيها نفسي، قدمني إِلى الغوغاءِ مُقترحُاً أن يطلقني وأن يُدينُ باراباس، اللص الشهير القاتل في مُقابلي. أجاب الناس بصّوتِ واحد :" دعة يَمُوتُ وأطلق باراباس ! "
آيتها النفوس التي تَحْبّني، انظروا كيف إنهم قَدْ قَارنوني بمجرمِ، كيف إنهم قَدْ خفضوني عن أكثر البشر انحرافاً. أنصتوا إلى الصّياحِ الغاضبِ الذى أطلقوه ضدي. انظروا بأى غضبِ يَطلبون موتي. هَلْ رَفضتُ أَنْ أواجه مثل هذه المجابهةِ المخزيةِ؟ كلا، بالعكس، لقد عَانقتها من أجل محبّتي للأنفس وكي أريهم أن هذا الحبِّ لم يأخذني فقط حتى الموتِ، بل حتى الموتِ الأكثر خزياًً .
ومع ذلك، لا تَظنوا أنّ طبيعتي البشريةَ لم تشَعر بالاشمئزاز أو بالأمُ. بالعكس، لقد أردتُ أَنْ اَشْعرَ بكل اشمئزاز طبيعة البشر، وأن أَكُونُ مُتعرضاً لنفس حالتهاِ، مَعطيكمَ النموذج الذي سَيَهبكم القوة في كل ظروفِ الحياةِ وأن أُعلّمكِم أَنْ تتغلبوا على الرفض متى سُئلتم أن تْتمموا المشيئة الإلهية َ.
تأمّلْوا للحظةِ فى عذاب قلبي الذى لا يوُصف، تأملوا برُؤيةِ أنى قد وَضعَت خلف باراباس. تأملوا كيف أنى تَذكّرتُ حينئذ حنان أمي عندما كانت تحتضني وتضمني إلى قلبها! وكيف كان القلقَ والإعياءَ شديد الوضوح على أبي بالتبّني كى يُظهر لى محبّته. تأملوا كيف أنى تَذكّرتُ المُساعدات‏ التى سكبتها مجاناً على هؤلاء الناسِ النّاكرين للجميل: مُعطياً البصرِ للعميانِ، شافيا للمرضىَ، مُرجعا الحياة لأطرافهم التى فَقدوها، مطعماً الحشودِ، ومُقيماً لموتى. الآن أرى نفسي خُفّضتُ إِلى أكثر الحالات احتقارا! لقد صرت إنساناً مَكْرُوهاً من قبل البشرِ، ومُدان كلصِ بلا سمعةِ.




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:50 PM

الفصل الرابع والثلاثون
جلد يسوع



كرر بيلاطس عدَة مراتُ عبارة " أنى لست أَجدُ جُرماً فيه, لذا سَأؤدبه ثم أطلقه " لكن اليهود استمرّوا يَرْددّون، " اَصْلبه! اصلبه!" لكنه صَمّمَ على أن يَتمسّكَ بقراره بعدم إُدانةُ الرب إِلى الموتِ، وأَمر أنْ يُجْلَدُ طبقاً للأسلوب الروماني.
اَقتاد الحرّاس يسوع وسط الحشود الغاضبةِ إِلى الساحة، وفعلوا ذلك بوحشيةِ بالغة، في نفس الوقت واصلوا سبه وأهانته، وضَربه بعصيهم.
يقع العمود الذى كان يُجلد عليه المجرمون شمالِ قصرِ بيلاطس، قُرْب بيت الحرسِ، وَصل الجلاّدون فى الحال، حاملين السياط والعصي والحبال، التى القوها أسفل العمود. لقد كَانوا ستة أفراد، ذى بشرة داكنة، أقصر قليلا من يسوع؛ صدورهم مغُطاة بقطعةِ من الجلد، أذرعهم القوية المشعرة عارّية. كَانوا أشراراً من تخوم مصر وقد أدينوا لأجل جرائمهم بالأشغال الشاقةِ، وقَدْ استخدموا من حيث المبدأ في شق القنواتِ، وفي نَصْبِ البناياتِ العامّةِ، لقد اُختير الأكثر جرماً ليَقُوموا بدور الجلادين في دار الولاية.
هؤلاء الرّجالِ القساة كَانوا قد جلدوا عديداً من المرات مذنبين مساكين علي هذا العمودِ حتى الموتِ. إنهم يشَبهون الوحوشَ أو الشياطين، وبَدوا نصف سكارىِ. ضَربوا الرب بقبضات أياديهم، وجروه بالحبالِ التي كان مُكبلاً بهاَ، مع أنه تبعهم دون أن يبدى أدنى مقاومةِ، وفى النهاية طرحوه بشكل بربري عند العمودِ. وُضعَ هذا العمودِ وحده في منتصف القاعة ولم يكن له أى دور فى حمّلَ أي جزءِ من البنايةِ؛ لم يكن مرتفعاً، كان ممكن لأي إنسان طويلِ القامة أَنْ يَمْسَّ قمّته بمِدِ ذراعه؛ كَانت هناك حلقة حديديةَ عند قمته، وحلقة وخُطاف أسفل قليلا. من المستحيل تماماً أَنْ أصفَ القسوة التى رأيتها فى هؤلاء الأشرارِ تجاه يسوع: لقد مَزّقوا العباءةَ التى كَانَ مكتسي بها عندما سّخروا منه في محكمةِ هيرودس، وطرَحوه شبه ساجداً.
أرتعد يسوع وارتجف عندما وَقفَ قبالة العمودِ، وخلع ملابسه بسرعة بقدر ما يستطيع، لكن يديه كَانتا ملطختين بالدماء ومتورمتين. المقابل الوحيدة الذى صنعه عندما ضربه جلادوه المتوحشون وسبوه كَانَ الَصلاة من أجلهم بأسلوبِ مؤثر للغاية: أدارَ وجهه مرة نحو أمه، التي كَانتْ تَقفُ مقهورة بالأسىِ؛ هذه النّظرةِ أفقدتها شجاعتها تماماً: غِابتْ عن الوعي، وكَادت أن تَسْقطُ، لولا أن النِّساءُ القدّيساتُ سندنها. وضع يسوع ذراعيهَ حول العمودِ مطوقاً إياه، وعندما رُفعت يداه هكذا، قيدها الجلادون بالحلقة الحديدية التي علي قمةِ العمودِ؛ ثم شدوا ذراعيه عالياً بحيث كانت قدميه المقيدة بأحكام بقاعدةِ العمودِ تمَسَّ بالكاد الأرضَ. هكذا كَانَ قدوس القديسين ممدّداً بقسوة، بدون أى لُباسِ، على عمودِ يستعملَ لعقابِ اعتي المجرمين؛ وبعد ذلك بدأ شريران هائجان متعطشان لدمه بأسلوب بغاية البربرية يَجْلدَان جسده المقدّس من الرّأسِ إِلى القدمينِ. السّياط التي استعملوها أولا بدت لي مصنوعة من نوع من الخشب الأبيضِ المرنِ، لكن ربما كانت تنتهي بأوتار الثيرانِ، أو بأشرطةِ من الجلدِ.
إلهنا الحبيب، ابن الرب، الإله الحقيقي والإنسان الحقيقي، تَلوّى تحت ضرباتِ هؤلاء البرابرةِ؛ آهاتَه العميقةَ كانت تُسْمعُ من بعيد؛ لقد دَوت خلال الأثير‏ِ. هذه الآهاتِ تشَبه بالأحرىَ صراخاً مؤثراً نابعاً من الصّلاةِ والتّضرّعِ أكثر من كونها أنيناً من الألمِ. صخب الفريسيون والشعب شَكّل نوعاً أخرَ من المصاحبة، كانت في بعض الأوقات مثل زوبعةِ رعديةِ تجلب الُصمّم تخَفّت وتخَنق هذه النّداءاتِ المقدّسةِ والمحزنةِ، وترددت صيحات " أسلمه إِلى الموتِ! أَصْلبه!" أستمر بيلاطس يَتفاوضُ مع الشعب، وعندما طَلبَ الصمتَ ليستطع الَتكلّمَ، كان مضطراً إلى أَنْ يعلن عن رغباته إِلى الحشود الصّاخبةِ بصوتِ البوقِ، وفي مثل هذه اللّحظاتِ رُبَما تَسْمعَ ثانية أصوات السّياطِ وأنين يسوع ولعنات الجنودِ، وَمأمأة حملانِ الفصحِ التي كَانت تُغْسل في بركةِ بروباتيكا، على مسافةُ قريبة من الساحة. كَانَ هناك شيء ماَ مؤثر بشكل غريب في المأمأة الحزينة لهذه الحملانِ: لقد بدت كأنها توحّد أنينها وتمزجه بالأنين المؤلم لمخلصنا.
تُجمّع غوغاء اليهود علي مسافةِ قليلة من العمودِ حيث كَان يتم العقاب المُخيفِ، وكان الجنود الرومان منتشرين في مناطق مختلفةِ. عديد من الأشخاصِ كَانوا يَمْشونَ ذهاباً وإيابا، البعض في صّمتِ، وآخرون يَتكلّمونَ عن يسوع بأكثر التعبيرات مهانة، وبدا القليل متأثر، واعتقد أنى نَظرتُ أشعةَ من النور تُصدرُ من إلهنا وتدُخُلِ قلوبِ هؤلاء.
رَأيتُ مجموعاتَ من الشّبابِ الوقح والسّيئ السمعة، يشغلون أنفسهم قُرْب دار الحراسة في إعْداْدِ سياطِ جديدةِ، بينما ذَهبَ الآخرون ليَنشدوا فروعاً من الأشّواكِ. ْبعض من خدمِ رؤساء الكهنة صعدوا إِلى الجلادين المتوحشين وأعطوهم أموالاً ودورقاً كبيراً ممتلئ بسائلِ أحمرِ ساطع أسكرهم تماماً، وزِادَت قسوتهم نحو ضحيتهم البريئة عشرات الأضعاف. استمرّ الشّريران يَضْربان إلهنا بعنفِ متواصلِ لمدة ربع ساعةِ، ثم استبدلا بآخرين. لقد تغطى جسده بالكامل بعلامات زرقاء وسوداء وحمراء؛ الدّم كَانَ يقطّرُ ساقطاً على الأرضِ، ومع ذلك أظهرت النّداءات الغاضبة التي صدرتْ من اليهودِ المُتجَمَّعين أنّ قسوتهم كَانتْ بعيدةَ من أن تَكُونُ مُشبَعة.
شرع الجلادان الجديدان فى جَلْد يسوع بأقصى ضراوة‏ ممكنة؛ لقد استعملا نوعاً مختلفاً من العصي، نوع من العصي الشّائكِة، مغَطاة بالعقدِ والنتوءات. الضّربات من هذه العصي مَزّقتْ لحمه إِلى قِطَعِ؛ اندفع دمه ليُلطّخَ عصيهم، وهو تَأَوَّه‏ وصَلَّى وارتجفَ. فى هذه اللّحظةِ، اجتاز الساحة بعض الغرباءِ الممتطين الجمال؛ توَقفوا للحظةِ، وقَدْ تُأثروا تماماً برّحمةِ ورّعبِ من المشهدِ الذى أمامهم، وَضّحَ بعض من الموجودون لهم سببَ ما يشَهدونه. كَانَ بعض من هؤلاء المسافرين قَدْ تعمّد على يد يوحنا، والآخرون قَدْ سَمعوا عظة يسوع على الجبلِ. كَان صخب وجلبة الغوغاءِ يصم الأذان حتى قُرْب دارَ بيلاطس.
آخذ جلادان جديدان أماكن الأخيرينِ، كانت سياطهم مصنوعة من سّلاسلِ صّغيرةِ، أو أشرطة مغَطاة بخطّافاتِ حديديةِ، لقد كانت تخترق إِلى العظم وتمَزّقْ قِطَعاً كبيرة من اللّحمِ في كل ضربةِ. أى كلمات مُمكنُ أَنْ تَصفَ هذا المشهد الفظيع ؟ ليس هناك كلمات ممكن أن تصفه!
مع ذلك, قسوة هؤلاء البرابرةِ لم تشبع بعد؛ حَلا يسوع ورْبُطاه ثانية بظهره ملتصق بالعمودَ. ولأنه كَانَ عاجزاً بالكلية عن أَنْ يَسند نفسه في وضع الوقوف، أجازوا الحبال حول خصره وتحت ذراعيهِ ومن فوق رُكَبتيه، وقيدوا يديه بإحكام في الحلقاتِ التي وُضِعتْ في الجزءِ الأعلى من العمودِ، وجْلداه بضراوة أعظمِ من ذى قبل؛ واحد منهم ضَربه بشكل ثابت على وجههِ بعصاِ جديدةِ. لقد تمزق جسد إلهنا تماماً إِلى قطع صغيرةِ، إنه لم يكن سوى جرحَ واحد. لقد نَظرَ إلى مُعذبيه بعينيه الملآنة بالدّمِ، كما لو أنه ينشد الرحمة؛ لكن وحشيتهم بدت أَنْها تَزدادَ، وتأوهاته صارت تخفت أكثر فى كل لحظة.
تواصل الجَلْد المُخيف بلا توقف لمدة ثلاثة أرباعِ الساعةِ، حينئذ أسرع من وسط الحشودِ إنسان غريب قريب لكتسيفون، الرّجل الأعمى الذي أبرأه يسوع، واقتربَ من العمودِ بسكينِ على شَكّلَ سيف قصير مقوّس‏ في يدّه. وصاح بنغمةِ غاضبة : كفى! كفى! لا تجلدوا هذا الرّجلِ البريء حتى الموت! " آَخذوَا الأوغاد‏ السّكارى على حين غرة، توَقفاَ لبرهةَ، بينما قَطعَ الرجل الحبالَ التي تُقيد يسوع بالعمودِ بسرعة واختفىَ بين الحشودِ. سَقطَ يسوع تقريباً دون وعي على الأرضِ، التي قَدْ اغتسلت من دماه. تركه الجلادان هناك، وانضما ثانية إلى رفاقهم القساة، الذين كَانوا يَسلّونَ أنفسهم في دارِ الحراسِة بالشُرْبِ، وضَفْر إكليل الشّوكِ.
ظل إلهنا لوقتِ قصيرِ على الأرضِ، عند العمودِ، مستحمَّاً في دمه، واقتربت بعض الفتيات الوقحات ليَرضينَ فضولهن بالنَظْر إليه. ثم اَستدرن مشمئزات، في هذا الوقت كانت ألام جراحِ يسوع شديدة جدا حتى أنه رُفِعَ رأسَه النَازْفة ونَظرَ إليهن. تراجعن بسرعة، وضحك الجنود وسخر منهن الحرّاس .
خلال جَلْدِ إلهنا، رَأيتُ ملائكةَ باكية تَقتربُ منه لمرات عديدة؛ سَمعتُ أيضاً الصّلواتَ التى يُوجها إلى أبيه بشكل ثابت ليغفر لنا آثامنا, صلوات لم تتَوقّف خلال تعرضه لهذا العقابِ القاسي.
بينما كان يسوع ممدداً مستحمّاً في دمه رَأيتُ ملاكاً يقدم إليه وعاء يَحتوي على شرابَ ساطع المظهرَ الذي بدا أَنْه يُنشّطه لدّرجةِ معينة. رَجع الجنود فى الحال، وبعد أن وجهوا له بعض الضّرباتِ بعصيهم, أمروه أن يَنْهضُ ويَتْبعهم. لقد نهض بصّعوبةِ بالغة، لأن قدميه المرتجفتان استطاعتا بالكاد أن تحملا جسده؛ أنهم لم يعطوه الوقت الكافي ليرتدى ملابسه، بل ألقوا ردائه على كتفيه العاريتين واقتادوه من العمودِ إِلى بيت الحرسِ، حيث مَسحَ الدّمَ الذي كان يَقطّرَ من وجهه بطرف ردائه. عندما اجتاز أمام المقاعدِ التى يجلس عليها رؤساء الكهنة، صَرخوا، " أسلموه إِلى الموتِ! اصلبوه! اصلبوه! " وبعد ذلك استدارواَ بازدراء‏. اقتاد الجلادون يسوع إلي داخلِ بيت الحرسِ، الذي كان ممتلئاً بالعبيدِ والجلاّدين‏ وأناس سكارى من الشعبِ، لكن لم يكَنَ هناك جنودُ.
نَبّه الهياج العظيم بين عامة الناسِ بيلاطس كثيراً، حتى أنه أرسلَ إِلى قلعةِ أنطونيو يطلب تعزيزاتِ من الجنودِ الرّومان، وأُرسلتْ هذه الفِرَق العسكريةِ حول بيت الحرسَ؛ لقَدْ سُمح لهم أَنْ يَتحدّثوا وأَنْ يَسْخروا من يسوع بمختلف الطرق الممكنة، لكنهم مُنّعواَ من أَنْ يَتْركواَ صفوفهم. كان عدد هؤلاء الجنودِ، الذين طَلبَهم بيلاطس كى يُخيفَوا الغوغاء، حوالي ألف جندي.




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:50 PM


تأمل الرب يسوع


لاحظوا كيف كان هذا الرّجل مذهولا, بغاية الاضطراب ولا يَعْرفُ ماذا يَفعَلُ معي. وكي يهدئِ غضبِ الغوغاءِ، أْمر أن أجَلد.
أُمَثاَّل بيلاطس، رَأيتُ نفوساً تنَقصَها الشّجاعة أن تَنفصلَ نهائياً عن مطالبِ العالم وعن طبيعتهم. وبدلاً من تفادى الأخطارِ التى يخبرهم ضميرهم عنها, بأن لا ينقادوا من قبل العالمِ ولا من قبل طّبيعتهمِ، يُخبرهم عقلهم الواعي أَنْ لا يَكُونوا تابعين لرّوحِ الصلاحِ. ومن ثم يَستسلمونَ لنزوةِ، ويُمتّعُون أنفسهم برضاءِ عابر، ويَستسلمونَ جزئياً إِلى ما تتطلبه عواطفهم. وليُسكتواَ إحساسهم بالذنب، يُقولون لأنفسهم :" لقد حَرمت نفسي بالفعل من هذا أو من ذاك، وهذا يكفيُ. "
سَأقول فقط إِلى هذه النفس : " أنك تَجْلديني كما صنع بيلاطس, لقَدْ خطوت خطوة بالفعل وغداً ستُكون الخطوة التاليةً. هَلْ أنت عازمة أَنْ تَرضي عواطفك بهذه الطريقة؟ كلا! أن عواطفك ستَطْلبُ المزيد قريباً. وكما لَمْ يكن عندك الشّجاعةَ لتُقاتليَ طبيعتكِ في هذا الشيء الصّغيرِ، فيما بعد ستكون شجاعتك أقل عندما ستكون الواقعة أعظم."
لقد عوقبت بكثير من العنفِ قبل الجلد بحيث أنه لم يكنَ هناك جزءاً منّي لم يكنَ فريسةَ للألمِ الأكثر فظاعة. الضّرب والرّكل سَبّبت جراحَ لا حصر لها ومرة بعد مرة سَقطتُ بسبب الألمَ الذى سببته الركلات.
انظرْوا إليّ يا أحبائي. لقد تَرْكت نفسي مُقاد بوداعة الحملِ إِلى تّعذيبِ الجلّد الفظيعِ. انهال الجلادون بوحشيه وبقسوة رهيبة على جسدى المغطّى بالفعل بالضرب والمقهور بالإعياء بسياط من حبال مضفرة وبعصي. العصيَ مَزّقتْ ونثرت أجزاء من جلدي ومن جسدى. تفجرت الدماء من كل أعضائي. جسدي كَانَ في حالة بشعة حتى أنى أشَبهتُ مسخ مشوه أكثر منى كإنسان. قسمات وجهي قَدْ فَقدتْ شكلها؛ لقد كان مُنْتَفخِاً بالكامل.
التفكير فى أن عديد من النفوس، التي ستكون بعد ذلك مُلهمهُ كى تَتبع خطواتي، قد ذوانى حبِّاَ.




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:51 PM

الفصل الخامس والثلاثون
العذراء مريم خلال جلد إلهناالصالح


لقد رَأيتُ العذراءَ المباركةَ خلال وقتِ جَلْدِ ابنها الإلهي؛ لقد رَأتْ وعَانتْ بحبِّ وأسىِ يتعذر وصفه كل العذابِ الذى كَانَ يَتحمّلهُ. كانت تتأوه بضعف، وعيناها كَانتْ حمراء من كثرة البُكاءِ. لقد كانت مُغطاة بإزار كبير، ومتكئة على مريم التى لهالي، أختها الأكبر سنا , التي كَانتَ كبيرة السنَ ومثل أمّها حنة, كَانت هناك أيضا مريم التى لكلوبا، ابنة مريم التى لهالي. وقف رفاق يسوع ومريم حول مريم؛ مرتدين إزارات كبيرةَ، بدوا مغلّوبُين بالأسىِ والقلقِ، وكَانواَ يَبْكون. رداء مريم كَانَ أزرقَ؛ طويلاً، ومُغَطَّى جزئيا بعباءةِ مصنوعة من الصّوفِ الأبيضِ، وإزارها كَان إلى حد ما‏ أبيضِ مُشرباً بصفرة. كانت المجدلية مستغرقة بالكلية فى الأسىِ وشعرها كَان طليقاً تحت إزارها .
عندما سقط يسوع عند العمودِ، بعد الجلدِ، رَأيتُ كلوديا بروكليس، زوجة بيلاطس، تُرسلُ بعض قِطَعِ من الكتان الكبيرةِ إِلى أمِ الرب. لم اَعْرفُ إن كانت تظن أنّ يسوع سَيُطلقُ سراحه، وأن أمه ستحتاج للكتان لتكسى جراحه، أم أن هذه السّيدةِ العطوفةِ كَانتْ مدركه للاستعمال الذي سَيَؤدى بهديتها. عند انتهاء الجَلْدِ، انتبهت مريم لنفسها لبرهة، ورَأت ابنها الإلهي مُمَزَّقاً بالكامل ومشوهاً، لِكَونِهِ اقِتيدَ بعيداً بعد الجَلْدِ مِن قِبل الجنود, مَسحَ عينيه، اللتين امتلأتا بالدّمِ، لكي يَنْظرُ إلي أمه، وهي مدّتْ يديها نحوه، واستمرّتْ تَنْظرَ إلي آثارِ الدّمِ على مواضع خطاه. ثم رَأيتُ مريم والمجدلية تقتربان من العمود حيث جُلِدَ يسوع؛ وسَجدا راكعتين على الأرضِ قُرْب العمود، ومَسحا الدّم المقدّس بالكتّانِ الذي أرسلته كلوديا بروكليس. يوحنا لم يكنَ فى ذلك الوقت مع النِّساءِ القدّيساتِ، اللواتي كُنّ حوالي عشرون سيدةِ. كان هناك أبناء سمعان وعوبيد، وفيرونيكا، وأيضا أبني أخ يوسف الرامى آرام وسيمني, بينما كان يوحنا في الهيكلِ، وبَدا مَغْمُوراً بالأسىِ. لم تكن الساعة قد جاوزت التاسعة صباحاً عندما انتهى جَلْد يسوع .




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:51 PM

الفصل السادس والثلاثون
وصف المظّهر الشّخصي للعذراء المباركة



بينما كانت هذه الأحداثِ الحزينةِ تَجري كُنْتُ في أورشليم، أحياناً في نّاحيةِ وأحياناً في ناحية آخرِ؛ لقَدْ كنت مُغلّوبة تماماً، آلامي كَانتْ حادَة، وشَعرتُ كما لو أنى عَلى وَشَكِ الموت. خلال وقت جَلْدِ عريسي الحبيبِ، جَلستُ بقربه، في الجزءِ الذي لم يتَجاسرَ يهوديُ أن يقترب منه، خوفا من أن يُدنّسُ نفسه؛ لكنى لم أخِاف، كُنْتُ حريصة فقط على أَنْ تَسْقطَ قطرةِ من دّماءِ إلهى عليّ، لتَنقّيني. لقد شَعرتُ بأنني منسحقة القَلْب‏ بالكامل حتى أنى يَجِبُ أَنْ أَمُوت طالما أنى لا أستطيع أَنْ أُحل محل يسوع، وكل ضربةِ نالها جذبت منّي مثل هذه التنهدات والتأوهات حتى أنّي شَعرتُ بأنى مذهولة تماماً لَكُوني لم أُبَعَد. عندما أخذ الجلادون يسوع نحو بيت الحرس, ليُتوّجوه بالأشّواكِ، اشتقت أَنْ اَتبعه لأَتأمّله ثانية في آلامه. حينئذ أم يسوع، ترَافقَها النِّساءِ القدّيساتِ، اقتربنَ من العمودِ ومَسحنَ الدّم من عليه ومن على الأرضِ من حوله. كَانَ باب بيت الحرسِ مفتوحَاً، وسَمعتُ الضّحكَ الموجع للرّجالِ القساة الذين انشغلوا في إنْهاءِ إكليل الشّوكِ الذي أعدّوه لإلهنا. لقد كُنْتُ متأُثّرة كثيرا حتى الَبْكاء، لكنى سَعيتُ أن أذهب بقُرْب المكانِ حيث كَانَ الرب يسوع سيُتوّجُ بالأشّواكِ.
مرة أخرى رَأيتُ العذراء المباركة؛ كَانتْ شاحبَة وضعيفة، عيناها حمراء من كثرة البُكاءِ، لكن نُبلها البسيطَ فى سلوكها لا يُمكنُ أَنْ يُوْصَفَ. على الرغم من حزنها وآلامها، على الرغم من الإعياء الذي تَحمّلتْه لكونها كَانتْ تجولُ منذ المساء السّابق خلال شوارعِ أورشليم وعبر وادي يهوشافاط، إلا أن مظهرها كَانَ هادئاًَ ومعتدلاًَ، ولا طيّةَ من ردائها كانت فى غير موضعها. نَظرتْ حولها بنبل، وطرحتها متهدلة على كتفيها. تحَرّكتْ بهدوء، ومع أن قلبها كَانَ فريسةَ للأسىِ المرّ، هيئتها كَانتْ هادئةَ ومستسلمة. ردائها كان مبتل من النّدىِ الذي سَقطَ عليه خلال اللّيل، ومن الدّموعِ التي ذرفتها بمثل هذه الوفرةِ؛ دون هذا كان غير مُتسخ بالكليةً. جمالها كَان عظيماً، لكن يتعذر وصفه، لأنه فوق طاقة البشر,َ خليطَ من العظمة والقداسة والبساطة والنقاوة.
مظهر مريم المجدلية كَانَ مختلفَ بالكليةً؛ كَانتْ أطولَ وأكثر قوةَ، تعبيرات مُحياها أظهرت تصميماً أعظمَ، لكن جمالها قَدْ ذبل تقريباً من طريقة حياتها السابقة التى انغمسَت فيها طويلا، ومن التوبة والحزن الذى عاشته منذ أن أحست بخطاياها. كان مؤلماً أَنْ تَنْظرَ إليها؛ لقد كَانتْ صورةَ من اليأسِ، شعرها الطّويل الغير مرتب قَدْ تغُطّيِ جزئيا بطرحتها المُمَزَّقةِ والمبلّلةِ، ومظهرها كَان مظهر إنسان مستغرق‏ بالكامل فى البلاء، ومنزوية فى نفسها من الحُزنِ. كثيرين من سكان مدينة مجدل كَانوا يَقفونَ قُريْبا، يحدقون فها بدهشة وفضولِ، لأنهم كانوا يعَرفونها في الأيامِ السّابقةِ، أولا في ازدهار وبعد ذلك في إذلالِ وبؤسِ. أشاروا إليها، القوا الوحل عليها، لكنها لم تر شيئاً ولا عَرفتَ شيئاً ولا شَعرتْ بشيء، محتفظة بآلام أحزانها





Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:52 PM

الفصل السابع والثلاثون
التتويج بالأشّواك


خَطبَ بيلاطس فى عامة الناسَ مرات عديدة خلال وقت جَلْدِ يسوع، لكنهم كانوا يقَاطعونه ويصرخون : " أنه سَيُعدم، حتى لو متنا من أجل ذلك. " عندما اقتيد يسوع نحو بيت الحرسِ، صرخوا جميعاً ثانية : " أَصْلبه، أَصْلبه! "
بعد هذا كانت هناك فترة صمتَ. شغل بيلاطس نفسه فيها بإعْطاءِ الجنود أوامر مختلفة، وأحضر خدم رؤساء الكهنة بعض المرطباتِ لهم؛ بعد ذلك دخل بيلاطس إلى الجزءَ الدّاخليَ من قصره لأجل أن يَستشيرَ آلهته، وكي يبخر لها .
عندما جمعت العذراء المباركة والنِّساء القدّيسات دماء يسوع، من العمودِ ومن الأجزاءِ المجاورةِ له، تَركن الساحة ودَخلن دارِ صغيرة مُجَاوَرَة، لم أعرف مالكها. يوحنا على ما أعتقد، لم يكن حاضرا عند جَلْدِ يسوع.
فى رواق يحيط بالقاعة الدّاخليةَ لبيت الحرسِ تُوّجَ يسوع بالأشّواكِ، والأبواب كَانتْ مفتوحةَ. الأشرار الجبناء، الذين كَانوا يَنتظرونَ بلهّفة أن يَرضوا قسوتهم بتَعذيبِ وإهانةِ إلهنا، كَانواَ خمسين تقريباً، معظمهم عبيد أو خدم للسّجّانين والجنودِ. تجمع الغوغاء حول البنايةَ، لكنهم أزيحوا فى الحال مِن قِبل ألف جنديِ روماني كانوا قد اصطفوا هناك ومُنعوا من أَنْ يَتْركَوا صفوفهم، هؤلاء الجنودِ على الرغم من هذا فعَلوا كل ما بوسعهم بالضّحكِ والتّصفيقِ ليُحرّضوا الجلادين القساة على مضاعفة إهاناتهم كذلك زادت كَلِمات تشجيعهمِ قسوة هؤلاء الرّجالِ كثيراً .
فى وسط القاعة انتصب هناك عمودِ، ووضع عليه كرسي صغير منخفض جداً غطاه هؤلاء الرّجالِ القساة بمكر بأحجار حادةِّ وقطعِ من الخزفِ المَكْسُورِ. ثم نزعوا ملابسَ يسوع، لذا انفتحت كل جراحه مرة أخرى؛ القوا على كتفيه عباءة قرمزية قديمة وَصلتْ بالكاد إلى رُكَبتيه؛ جروه إِلى المقعدِ، ودَفعوه عليه بقسوة، ووَضعَوا إكليل الشّوكِ على رأسه. إكليل الشّوك كَانَ مصنوعاً من ثلاث أفرعِ مضَفرة معا، الجزء الأعظم من الأشّواك كان متجهاً للداخل عن قصد لكي يَثْقبَ رأس الرب. وضعوا أولاً هذه الفروعِ المَلْفُوفةِ على جبهته، رَبطوها بإحكام من الخلف، وما أن أُتمّواِ ذلك حتى وَضعوا قصبةَ كبيرةَ في يدّه، فاعَلين كل ذلك بسّخريةِ كما لو إنهم كَانوا يُتوّجونه ملكاً حقاً. ثم أخذوا القصبةِ، وضَربوه على رأسه بها بغاية القسوة حتى أن عينيه قَدْ امتلأتا بالدّمِ؛ لقد سَجدوا أمامه، سَخرواَ منه، بصقوا في وجهه وصفعوه قائلين في نفس الوقت، " السلام يا ملك اليهودِ! " ثم طَرحوا كرسيه الصغيرَ، أقاموه ثانية من الأرضِ حيث كان قَدْ سَقطَ، أجلسوه بأعظم وحشيةِ ممكنة.
من المحال تماماً أَنْ أَصفَ الإساءة القاسية التي ارتكبها هؤلاء الوحوشِ التى بهيئة بشر. مُعاناة يسوع من العطشِ كَانتْ حادَة، سببها الحمى التي أوجدتها جراحه وآلامه . لقد ارتجف جسده بالكامل، لحمه قَدْ مُزّقَ إرْبا إرْبا‏، لسانه تَقلّصَ، والترطيب الوحيد الذى ناله كَانَ الدّمَ الذي يقطّرَ من رأسه على شفاهه الجافّةِ. هذا المشهدِ المخزيِ قَدْ امتد نصف ساعة كاملة، واستمر الجنود الرّومان خلال كل الوقت يُصفّقون ويُشجّعَون الجناة على فعل المزيد من الإساءةُ .





Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:52 PM


تأمل الرب يسوع


انظرْوا، لقد عشَت أياماً من الحزنِ الشديد بإرادة الأبِ بلا تذمر بل بَقْبولُ ما أراده الآب أَنْ يَجْعلني اَشْعرَ به. عندما قُبض علىّ في البستان، أسرعوا فى اتهامي كاذبين, وأنا بلا أدنى مقاومة, سَمحت لهم أَنْ يَأْخذوني إِلى حيثما أرادوا أن يأخذوني. وعندما أرادوا أَنْ يُطوّقوا رأسي بتاجِ الشّوكِ، أحنيتُ رأسي بلا مقاومة، لأنى أَخذتُ كل شيءَ من أياديِ من أرسلني في العالمِ.
عندما استنزفتني أذرع أولئك الرّجالِ القساة بقوةِ الضرب الذى وجهوه ضد جسدي، وَضعوا تّاجاً نَسجوه من أفرعِ الشّوكِ على رأسي، واسْتِعْرضوا أمامي قائلين :" ها أنتَ هكذا ملك؟ ها نحن نُحيّيك!", البعض صفعني؛ آخرون أهانوني؛ آخرون وجهوا الضربَ من جديد ضد رأسي، كل ضربة أضافت ألماً جديداً إِلى جسدي، المجروح والمسحوق بالكامل .
لقد تعبُت؛ لم يكن لى أى موضع لأستريح فيه. أعيروني قلوبكمَ وأياديكم لأَغطّي نفسي بحبّكمَ. أنى مرتجفاً من البرد ومحموماً؛ احتضنوني ولو للحظةِ قبل أن يَستمرّوا فى هدم هيكلِ الحبِّ هذا.
دفع بعض الجنود والجلادون جسدى بأياديهم القذرة وآخرون دفعوني برماحهم لكونهم مشمئزين من دمائي، وبهذا أُعادوا فتح جراحي. أجلسوني عنوة على أحجارِ مدببة؛ لقد كنت أبكى بصّمتِ بسبب الألم. بطريقةِ بشعةِ، سْخرواَ من دموعي. فى النهاية مزّقواَ صدغيّ، وغرسوا لأسفل التّاجَ المنسوج من الأغصان الشّائكةِ.
خذوا بعين الاعتبار كيف أنني بذلك التّاجِ، أردتُ أَنْ اصنع كفارة عن خطيئةِ الكبرياءِ عن الكثير من النفوس التي ترَغْب أنْ تُمْدَحُ على نَحْو زائد‏، تاَركه نفسها متأثرة بآراءِ العالم الباطلة. فوق كل شيء، سَمحت لهم أَنْ يُتوّجوا رأسي بالأشّواكِ. تألم رأسي بقسوة بهذه الطّريقة كي أصنع كفارة من خلال الإذلالِ الإرادي من أجل البغض‏ والافتخار والمظهرية لكثير جداً من النفوسِ. النفوس التى بسبب منزلتها وحالتها، يَحْكمون علىّ بلا استحقاقَ، رافضين أَنْ يتَبعوا الطّريق الموَضوعَ لهم بتدبيري.
لا يوجد طريق مُهين عندما يكون مُخَطّطاًَ بإرادة الرب .... بلا جدوى تَعتزمون خْداع أنفسكم، فكّروا فى إتباع إرادة الرب وباستسلام كامل مهما كان ما يطلبه منكم.
هناك أناسُ في العالمِ، عندما تحين لّحظة اتخاذ قرارِ، يفكرون مَليّا‏ ويَمتحنُون رغبات قلوبهم. فعلى سبيل المثال من يريدون الزواج يبحثون عن شريك حياتهم لعلهم يَجدون فيمن ينوون الاقتران بهم الأساس الصّلب والتقى للحياة المسيحية. قد يَرون إنهم سَيَتبعون واجبات عائلاتهم بطريقة ما ضرورية تَرضى رغباتهم فى السّعادةِ. لكن الزهوَ والكبرياءَ يَحْجبان روحهم فيَتْركون أنفسهم مُنجذبين برغبة أن يَكُونُوا بارزين وظاهرين. حينئذ يَفْعلونَ ما بمقدورهم كى يَبْحثوا عن شخص يَكُونَ أغنى أو من طبقة أعلي، كي يَرضون طموحهم. أه! كم بعناد يَعمونَ أنفسهم. كلا، أنا سَأُقول لهم، أنكَم لَنْ تَجدواَ سعادة حقيقية في هذا العالمِ وأَتمنّى أن تَجدوها في العالم الآتي, انتبهْوا، أنكم تَضعُون نفوسكم في خطرِ عظيمِ!
سَأَتحدّثُ أيضا إِلى النفوس التي اَدْعوها إِلى طريقِ الكمالِ. كم كثير من الأوهامِ تكون في أولئك الذينِ يُقولون لى إنهم مستعدين أَنْ يصنعون مشيئتي وبعد ذلك يَثْقبونَ رأسي بأشواكِ تاجي.
هناك أيضا نفوساً أُريدهاُ لي. أنى أَعْرفها وأحَبّها، أُريدُ أَنْ أضعها حيث أقيم، أريد أن أضعها بحكمتي اللانهائيةِ حيث سَيَجدونَ كل ما هو ضروري ليَصلَوا إلى القداسة. هناك حيث سَأَجْعلُ ذاتي مُعلنة لهم، وحيث سَيَعطونني راحة أكثر، محبة أكثر، ونفوساً أكثر. لكن، بكثير جداً من المكرِ! كثيراً جداً من النفوس تكون مَعمية بالكبرياءِ والزهو من أجل طّموحِ واه. مالئين رؤوسهم بأفكارِ عقيمةِ وبلا فائدةِ؛ إنهم يَرْفضونَ أَنْ يَتبعوا الطّريق الذي وَضعَته بدافع محبّتي لهم.
أحبائي يا من قَدْ اخترتُهم، هَلْ تظنون أنّكم تُحققون مشيئتي بمُقَاوَمَةِ صوتِ النّعمةِ الذي يَدْعوكمَ ويرشدكم إلى ذلك الطّريقِ الذي يَرْفضه كبرياؤكَم ؟
هناك نفوس تُدَعىْ إِلى حالة الكمالِ، لكنها تتُناقشُ مع النّعمةِ وتتّراجعِ عندما توَاجه مذلةِ الطّريقِ الذي أريه لها، َخَائفة كيف إنها ستُحاكم من قبل العالمِ أو عندما تُُقيّم قدراتها، مُقنعة أنفسها إنها سَتَكُون أكثر فائدة فى موضع آخر لخدمتي ومن أجل مجدي.
سأجيب تلك النفوسِ: قولوا لى، هل رَفضتُ أو حتى تَردّدتُ عندما رَأيتُ نفسي أولدَ في الليل لوالدينِ فقيرين متواضعين وفي إسطبلِ، بعيداً عن مسكني وعن بلدي وفي أقسى فصولِ السّنةِ؟
بعد ذلك عِشتُ ثلاثين سنةَ أمارس عملاً بسيطاً في ورشةِ: مُتعرضاً لازدراء ومهانة الناسِ الذين يطَلبون عملاً مِن يوسف، أبي. أنى لم أبغض مُسَاعَدَة أمي في أكثر المهام خدمهِ في الدّارِ. ومع هذا، هَلْ لم يكَنَ لدى موهبةُ أكثرُ من تلك التى يتَطَلّبهاِ العملِ القاسيِ كنجارِ؟ أنا، من في سن الثانية عشر عَلّمتَ العلماء في الهيكلِ ... لكنها كانت إرادة أبي السّماويَ وهكذا، مَجّدته. عندما تَركتُ الناصرة وبَدأتُ حياتي العامّة، كَانَ من الممكنُ أَنْ أجعل نفسي معَروفاً أنى أنا المسيا وابن الإله، حتى يسمع البشر تعاليمي بتّبجيلِ، لكنى لم أفعَلُ ذلك لأن رّغبتي الوحيدة كانت أَنْ أَعمَلُ مشيئة أبى ....
وعندما حان وقت آلامي، من خلال قسوةِ البعض وإهاناتِ الآخرين، من خلال هجر خاصتى وجحودِ الغوغاءِ، من خلال العذاب العظيم الذى لا يوصف لجسدي واشمئزاز نفسي، انظروا كيف بأعظم حب, كنت ما زِلتُ كاشفاً ومُعانقُاً إرادة أبي السّماوي.
هكذا عندما تَتغلّبُون على الصّعوباتِ وعلى الاشمئزاز، تُقدّمُ النفس ذاتها بشكل كريم إِلى إرادة الرب. تأتى لحظةُ، تجدون أنفسكم متّحدين بقوة به، وتَتمتّعُ النفس بعذوبة يتعذر وصفها .
ما قُلتهُ للنفوس التي تَحتقرُ الحياة المتواضعة والمخفية، أُكرّرهُ إِلى أولئك الذينِ أَدْعوهم إِلى اتصال ثابتِ بالعالمِ، بينما يفضلون هم أن يحيوا فى عزلة كاملةَ وعملَ متواضعَ ومخفيَ.
أحبائي المختارين، إن سعادتكمَ وكمالكمَ لا يقومان على أتباع مذاق ما تفضلونه وعلى اتباع ميولكمَ الطّبيعية، بَكُونُكم مَعْرُوفين أو مجهولين من قبل المخلوقاتِ، بكونكم تسْتِعْملون أو تَخفون الموهبة التى لديكم، بل ستكون سعادتكم بتَوحيدِ وتَوفيُقِ نفوسكم من خلال محبِّة مشيئة الرب والاستسلام الكلى لهاِ، الاستسلام إِلى من يطلب منكم من أجل مجده ومن أجل قداستكَم .
أن الجلادين الذين يُحطّمونَ جسدي ليسوا عشَره ولا عشرين. هناك الكثير من الأياديِ التي تجرح جسدي؛ مُتلقيين العشاء الرباني في الأيادي, أنه العملِ المدنسِ لإبليس !
كيف يستطيعون أَنْ يَتأمّلوني في خضّم هذا الألمِ والمرارةِ بدون أن تتحرك قلوبهم بالشّفقةِ علىّ؟ لكن لَيسَ الجلادين من ينبغى أَنْ يَواسوني بل أنتم، أنتم أحبائي المختارينَ، واسوني حتى تخففوا آلامي. تأمّلواْ جراحي وانظروا إن كان هناك من تألم بقدر ما تألمت أنا لأظهر محبّتي لكم.




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:53 PM

الفصل الثامن والثلاثون
الحكم علي يسوع


حينئذ عاد الجلادون القساة واقتادوا يسوع إلى قصر بيلاطس والعباءة القرمزية كانت ما زالت مُلقاة على كتفيه وتاج الشّوك على رأسه والقصبة في يديه المقيّدتين. لقد كان من المستحيل تمييزه بالمرة، عيناه، فمه، لحيته, الكل مُغطّى بالدّم، لم يكن جسده سوى جرح واحد، وظهره انحنى كأنه رجل مُسن، بينما كانت كل أطرافه ترتعد عندما يسير. عندما رآه بيلاطس واقفاً عند مدخل محكمته، حتى هو, وهو المعروف عنه القسوة, ارتخى وارتجف بالرّعب والحنو، بينما كان الكهنة البرابرة وعامة الشعب بعيدين عن الإحساس بالشفقة تجاهه، استمروا فى إهاناته والسخرية منه. عندما صعد يسوع الدّرج، تقدّم بيلاطس، أعلن البوق أنّ الحاكم على وشك أن يتكلّم، وخاطب رؤساء الكهنة قائلاً : " انظروا الرجل، لقد أحضرته إليكم، لكى تعرفوا أننّي لست أجد علة فيه. "
حينئذ اقتاد الجنود يسوع نحو بيلاطس، حتى يُمتع الشعب عيونهم القاسية مرة أخرى برؤيته، في الحالة المُزرية التى وصل إليها. مُهاناً ومُحتقراً حقا كان المنظر الذى قُدّم به، انفجر صياح الرّعب من الحشود، تلاه صمت مميت، عندما رفع يسوع بصّعوبة رأسه الجريح المتوّج بالأشّواك، وألقى نظرة منهكة على الحشود الثائرة. صاح بيلاطس بينما يشير إلى الشعب: " انظروا الرّجل! "
كراهية رؤساء الكهنة وتابعيهم كانت تزداد من منظر يسوع، وصرخوا : أسلمه إلى الموت؛ أصلبه. " فقال بيلاطس " ألستم قانعين. لقد نال عقاباً يكفي بدون شك أن يحرمه من كل شهوة لأن يجعل من نفسه ملكاً ", لكنهم صرخوا أكثر، وواصلت الحشود الصراخ : " اصلبه، اصلبه! " حينئذ قال بيلاطس : " خذوه أنتم واصلبوه، لأنى لست أجد علة فيه" أجاب الكهنة " نحن لدينا ناموسنا، وطبقا لذلك الناموس هو يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الرب. "
جملة "جعل نفسه ابن الرب" جددت رعب بيلاطس؛ فاخذ يسوع في غرفة أخرى وسأله؛ " من أين أنت ؟ " لكن يسوع لم يُجب. قال بيلاطس " ألا تكلمني؟ ألا تعلم أن لى سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك ؟ " فأجابه يسوع " ليس لك أي سلطان علىّ، ما لم يُعط لك من فوق؛ لهذا الذي أسلّمني إليك خطيئته أعظم. "
تردد وضّعف بيلاطس ملأ زوجته كلوديا بروكليس بالقلق؛ أرسلت له رسولا آخر، لتذكّره بوعده، لكنه رجع فارغاً بإجابة تعنى أنه يجب أن يترك القرار فى القضية فى النهاية إلى الآلهة.
بعد أن سمع رؤساء الكهنة والفريسيين عن جهود كلوديا لإنقاذ يسوع، أشاعوا بين الشعب، أن الموالين ليسوع قد أضَلوها، وأنه سيُطلق سراحه وبعد ذلك سينضم للرومان وسيجلب الدمار لأورشليم ويبيد اليهود.
كان بيلاطس في حالة من التّردد والاضطراب؛ لقد كان لا يعرف ما هى الخطوة التالية التى ينبغي عليه أن يخطوها، وخاطب أعداء يسوع ثانية بنفسه، مُعلناً أنه لا يجد أى جرم فيه لكنهم طلبوا موته بصورة أكثر شغباً. حينئذ تذكّر تناقض التهم الموجهة ضد يسوع وأحلام زوجته الغامضة، والتأثير الغير قابل للتفسير الذي أحدثته كلمات يسوع عليه هو شخصياً، ولهذا صمّم أن يسأله ثانية لكى يحصل على بعض المعلومات التي قد ترشده للطريق الذى يجب أن يتّبعه؛ لذا رجع إلى القصر، ذهب بمفرده في غرفة، وطلبت يسوع. نظر إلى الإنسان المعصور والناّزف أمامه، وصاح فى نفسه : " أيمكن أن يكون هذا إلهاً " ثم التفت إلى يسوع واستحلفه أن يخبره إن كان هو الرب، إن كان هو الملك الذي قد وُعد به اليهود، فأين مملكته تكون، وإلى أى صنف من الآلهة ينتمي, أما يسوع فقد لزم الصمت.
كان بيلاطس متردداً بين الخوف والغضب من كلمات يسوع؛ عاد إلى الشّرفة، وأعلن ثانية إنه سيطلق يسوع؛ لكنهم صرخوا " إن أنت أطلقت هذا الرّجل, فلن تكون مُحب لقيصر, لأن كل من يجعل نفسه ملكاً يكون ضد قيصر." آخرون قالوا إنهم سيتّهمونه إلى الإمبراطور بأنه أزعج عيدهم؛ وأنه لابد أن يقرر فى الحال، لأنهم ينبغى أن يكونوا في الهيكل قبل العاشرة ليلاُ.
دوّى صياح " أصلبه! أصلبه! " فى كل الجوانب؛ حتى أنها تردّدت من أسطّح البيوت التى قرب المحكمة، حيث تجمّع عليها عديد من الأشخاص. رأى بيلاطس أنّ كل جهوده عقيمة، وأنه لن يستطع أن يؤثر على الغوغاء الغاضبين؛ الذين كانت صرخاتهم ولعناتهم تصمّ الأذان، وبدأ يخاف من التمرد. حينئذ اخذ ماء وغسل يديه أمام الشعب قائلا : " إني برئ من دم هذا الرجل البار؛ أبصروا أنتم فى ذلك ", حينئذ صدر صياح مخيف وجماعي من الحشود التي تجمّعت من كل أجزاء إسرائيل " دمه علينا وعلى أبنائنا ".





Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:53 PM


تأمل الرب يسوع


مُتَوَّجاً بالأشّواكِ ومُغَطّى بعباءةِ أرجوانيةِ،
قَدّمني الجنود مرة أخرى إِلى بيلاطس.
بدون أن يَجد فيّ جريمة واحدة كى يُعاقبني عليها،
سَألني بِضْعة أسئلةَ، تسائل لماذا لا أجيبه رغم علمي أنّه له كل السّلطة علىّ .
حينئذ، كْسرتُ صمتي وقلت له :
" أنك لَنْ يَكونَ لك ذلك السلطان ما لم تنله من فوق،
لكن لابد أن تتم الكتب المقدّسةِ "
وَتْركتُ نفسي إِلى أبي السّماويِ،
لقد صمتَّ مرة أخرى .







Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:54 PM

الفصل التاسع والثلاثون
الحكم على يسوع بالصلب


بيلاطس، الذي لم يرد أَنْ يَعْرفَ الحقيقة، بل كَانَ حريصاً فقط أَنْ يَخْرجَ من المأزق بدون مشاكل، صار متردداً أكثرَ من ذى قبل؛ هَمسَ ضميره داخله : " أن يسوع برئُ " قالتْ له زوجته " إنه قدّيسُ " مشاعره المؤمنة بالخرافات جَعلته يَخَافُ من أنّ يكون يسوع فعلا عدواً لآلهته؛ وجبنه مَلأه بالُخوفِ لئلا يُنتقم يسوع لنفسه إن كان هو فعلا الرب. لقد كَانَ غاضَباً ومنتبّهَ لكلمات يسوع الأخيرةِ، وحاول مرة أخرى إطلاق سراحه؛ لكن اليهودَ هَدّدوه فى الحال إنهم سيتّهمونهِ أمام الإمبراطورِ. هذا التّهديد أفزعه، وقرر أن يذعن لرغباتهم، مع أنه مقتنعَ ببراءةِ يسوع بقوة، وواعيا تماماً أنه بنطق عقوبة الموتِ علي يسوع فإنه يَنتهكَ كل قوانينِ العدالةِ، هذا بالإضافة إلى نْكثُه بوعده الذى وعد به زوجته هذا الصّباحِ. وهكذا ضحى بيسوع، وسْعي إلى أن يرضى ضميره بغَسْلِ يديه أمام الشعب قائلا " إنى بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. فَانْظُرُوا أَنْتُمْ فِي الأَمْرِ!. " عبثاً تُعلنُ هذه الكَلِماتِ يا بيلاطس, لأن دمه على رأسك أيضاً؛ أنك لا تستطيع أن تغسلَ دماه لا عن نفسك، ولا عن يديك
ما أن تَوقّفَت تلك الكَلِماتِ المخيفةِ : " دمه علينا وعلى أولادنا " عن أن تَدوّي، حتى شرع بيلاطس فى إعداد حكم الموت. طَلبَ الرداء الذي يرتديه فى المناسباتِ الرسمية، وَضعَ تاجاً مرصع بمجموعة من الأحجار الكريمةِ على رأسه، غَيّرَ عباءته وجعل عصا أمامه. لقد كان مُحاطَاً بجنودِ وضبّاطِ المحكمةِ، وبعض الكتّبِة، الذين حَملواَ رقائق الكتابةِ وكتبِ تستعملَ لكِتابَةِ الأسماءِ والتواريخِ. سار رجلُ إلى الأمام وكان يحَملَ بوقاً. تقدَّم‏ الموكبُ بهذا الترتيب من قصرِ بيلاطس إِلى الساحةِ، حيث يوجد مقعد مرتفع، يُستعمل فى هذه المناسباتِ الخاصةِ، موُضِوعَ قبالة العمود حيث جُلِدَ يسوع. هذه المحكمةِ تُدعِي جَبَّاثَا؛ أنها شرفة واسعةِ مستديرةِ، يُصَعدَ إليها بدرج؛ يوجد بها مقعدَ لبيلاطس، وخلف هذا المقعدِ منصة، ويصطف عددَ من الجنودِ حول الشرفة وكذلك على الدرج. غادر عديد من الفريسيون القصر ومضوا إلى الهيكلِ، وتبع حنان وقيافا وثمانية وعشرون كاهناً الحاكم الرّوماني إِلى الساحةِ، وأُخذا اللّصان إلى هناك في ذلك الوقت الذي قَدّمَ فيه بيلاطس مُخلصنا إِلى الشعب قائلا :" انظروا الرجل "
كان يسوع ما زالَ يكتسي بردائه الأرجواني وتاج الشّوك على رأسه، ويداه مقَيّدتان، عندما أحضره الجنود إِلى المحكمةِ، ووَضعاه بين الشّريرين. ما أن جلس بيلاطس، حتى بدأ يخاطب أعداءَ يسوع ثانية بهذه الكَلِماتِ " اَنْظرُوا ملككَم! " لكن نداءاتَ " أَصْلبه! أصلبه! ' دَوّت من كل جانبِ. قال بيلاطس " أأصْلبُ ملككَم؟ ". رَدَّ كبار الكهنة " لَيْسَ لنا ملكُ سوى قيصرَ!" .
وَجدَ بيلاطس أنه لا يجدي بالمرة أَنْ يَقُولَ أي شئ آخر، ولهذا شَرعَ فى إعداد حكم الموت. اللّصان كانا قد تلقيا الحكم بصلبِهما من قبل؛ لكن كبار الكهنة قَدْ حَصلوا على تأجيلِ لهما، من أجل أن يُصلب يسوع معهما ليَعاني عاراً إضافياً لَكُونُه يُصلب مع مجرمين من أردأ المجرمين. صليبا اللّصان كَانا بجانبهما؛ أما صليب يسوع لم يكن قد جُلب بعد، لأنه لم يكَنَ قد حُكمَ عليه بالموتِ حتى الآن.
اقتربتَ العذراء المباركة لتَسْمعَ النطق بعقوبة الموتِ على ابنها وإلهها. وَقفَ يسوع وسطِ الجنود، عند بداية السّلمِ الذى يُؤدّي إلى المحكمةِ. دوى البوق ليَطْلبَ الصمت، وبعده أعلن القاضي الجبان، بصوتِ مرتجفًِ مترددً، عقوبة الموتِ على الإنسان البارِ. أنهكني منظر جبنِ ونفاق هذا الإنسان، وكذلك بهجة الجلادين ووجوه كبار الكهنة الذين بدوا منتصرين، بالإضافة إِلى الحالة المحزنةِ التي وصل إليها مُخلصنا الحبيب، وأسى أمه الحبيبة, كل ذلك زِادَ من آلامي. نَظرتُ ثانية، ورَأيتُ اليهود القساة يَلتهمونَ تقريباً ضحيّتهم بأعينهم، الجنود يَقفونَ ببرود، وحشود من الشّياطينِ المروّعةِ تَعْبرُ ذهاباً وإيابا وتخَتلْط بالحشودِ. شَعرتُ أنّي كَانَ يجبُ أَنْ أكُونَ في موضع يسوع، عريسي الحبيب، لأن العقوبة حينئذ لَنْ تكون ظالمةَ؛ لكنى كنت مقهورة بالألمِ، وآلامي كَانت حادةَ جداً، حتى أنى لا أستطيع أَنْ أَتذكّرَ بالضبط كل الذي رَأيتُه. على أية حال، سوف أروى كل شئ تقريباً بقدر الإمكان .
بعد مقدمةِ طويلةِ، قَدْ أُعدّتْ بالدرجة الأولى‏ كقصيدة مدح للإمبراطور ِطيباريوس، تَكلّمَ بيلاطس عن الاتهامات الموجهة ضد يسوع من قِبل رؤساء الكهنة. قالَ إنهم قَدْ أدانوه إِلى الموتِ لكونه يُعكر السّلام العامّ، وكَسرَ ناموسهم بدُعوةِ نفسه ابن الرب ِوملكِ اليهودِ؛ وأن الشعب قَدْ طَالب بشكل جماعي أن حكمهم لابد أَنْ يُنفّذَ. هذا القاضيِ على الرغم من قناعته المتكرّرة ببراءةِ يسوع، لم يكن خجلاناً من أن يقَولِ أنه أيضاً احترم‏ قرارهم كقرار عادل، وإنه لهذا يَجِبُ أَنْ يعلنَ الحكم الذى صاغه في هذه الكَلِماتِ : " إني أُدينُ يسوع الناصري، ملك اليهودِ، بأنْ يُصْلَبُ " وأَمرَ الجلادين أَنْ يُحضروا الصّليب. أَعتقد أنى أَتذكّرُ أيضاً أنه اَخذَ عصا طويلةَ في يديه وكَسرها، وألقاها عند قدمي يسوع.
بسّماعِ كَلِماتِ بيلاطس هذه, أغمى على أم يسوع لبضع دقائق، لأنها تأكدت الآن أن ابنها الحبيبَ لابد أَنْ يَمُوتَ الموت الأكثر خزيا وألماِ. حملها يوحنا والنِّساء القديّسات، لَمْنعَ هذه الكائنات القاسية التي أحاطت بهم من أضافه جريمةِ إِلى جريمتهم بالسخْرِية منِ أحزانها؛ لكنها أفاقت بعد مدة قليلةَ وتوسلت لرفاقها أنْ يأخذوها ثانية إِلى كل بقعةِ قَدْ تقُدّستْ بآلامِ ابنها، من أجل أَنْ تُبلّلها بدموعها؛ وهكذا قامت أمَ إلهنا، باسم الكنيسةِ، بتكريم تلك الأماكنِ المقدّسةِ.ُ
كتب بيلاطس الحكم، وأولئك الذين وَقفوا خلفه نَسخوه فى ثلاث نسخ. الكَلِمات التي كَتبَها كَانتْ مختلفةَ تماماً عن الكلمات التي أعلنها؛ إنى أستطيع أَنْ أرى بوضوح أنّ ذهنه قَدْ تحرك على نَحْو مُفزِع‏, ظَهرَ ملاك كى يُوجّهَ يدّه. خلاصة الحكم المكتوبِ كَانتْ كالآتي : " لقد أُرغمتُ، خوفاً من التمردِ، أَنْ أخضع لرغباتِ رؤساء الكهنة والسنهدريم والشعب، الذين طَلبوا الموت بصخب‏ ليسوع الناصري، الذي اتّهموه بأنه يٌعكر السّلام العامّ، وأيضا لكونه يجدف ويكَسرَ ناموسهم. لقَدْ أسلمته لهم كى يُصْلَب، على الرغم من أن اتهاماتهم بَدت بلا أساسِ. لقَدْ فعلتُ هذا خوفا من وشايتهم للإمبراطورِ بأنني أُشجّعُ التمردَ، وأُتسبّبُ فى الاستياء بين اليهودِ بإنْكار حقوقهم فى العدالةِ." ثم كَتبَ لوحة للصّليبِ، بينما كان كتّابه ينَسخَون الحكم عدة مرات، لُترسل هذه النّسخِ إِلى المناطق البعيدةِ من البلدِ.
استاء رؤساء الكهنة بشدة من كَلِماتِ الحكم، التي قالوا إنها ليست صادقة؛ وأحاطوا المحكمةَ بصخب سْاعين أن يُقنعوه بأَنْ يُعدّلَ اللوحة، وأَلا يَضعُ كلمة ملك اليهودِ، بل أنه قالَ، أنا ملكُ اليهودِ. اغتاظ بيلاطس وأجابَ بشكل غير صبور، " ما قَدْ كَتبته قَدْ كَتبته! '
لقد كَانوا حريصينَ أيضاً على ألا يكون صليبِ يسوع أعلى من صليبي اللّصين، لكن ذلك كان ضروريَا، وإلا لن يكون هناك مكانَ كافٍ لوضع لوحة بيلاطس؛ لذا كانوا حريصين على أَنْ يُقنعوه بألا تُوضع هذه اللوحة البغيضِة بالمرة. لكن بيلاطس كان مصمماً ولم تؤثر كَلِماتهم عليه؛ لذا كان لابد من تطويل الصّليب بقطعةِ إضافية من الخشبِ. ولذلك كان شكل الصّليبِ مميزاً, بدا الذراعان مثل فرعىِ شجرةِ ينْموان من جذعِ شجرة، والشّكل كَان على شكل حرف y، الجزءِ السفلي أطَوّلَ لكي يرتفع بين الذراعين اللذين قَدْ وُضِعاَ منفصلين، وكَانَا أنحفَ من جسمِ الصّليبِ. سُمّرتْ قطعة خشب قرب نهاية ساق الصّليبِ لتستقر عليها القدمان.
خلال الوقت الذي كان فيه بيلاطس يُعلنُ حكمه الجائر، رَأيتُ زوجته، كلوديا بروكليس، تُرد له التعهد الذي سبق أن أعطاه لها، وفي المساءِ تَركتْ القصر وانضمت إلى رفاق يسوع، الذين أخفوها في قبو تحت الأرضِ في دارِ لعازر في أورشليم. بعد ذلك في نفس اليوم. صارت كلوديا بروكليس مسيحيةَ وتبعت القديس بولس وأصبحت أحد رفاقه المقربين .
ما أن أعلن بيلاطس حكمه على يسوع حتى أُسلم إلي أياديِ الجنود، والملابس التي قَدْ تبدلت في محكمةِ قيافا أعادوها إليه ليرتديها ثانية. أَعتقدُ أن بعض الأشخاصِ المُحسنين قَدْ غَسلوها، لأنها بدت نظيفة. الأشرار الذين أحاطوا بيسوع حَلّوا يديه ليبدل رداءه، وجذبوا العباءة القرمزية التي كَسوه بها ليسخروا منهِ، بذلك تفتحت كل جراحه مرة أخرى؛ أرتدي ملابسه بأيادي مرتعدة، والقوا وشاحه على كتفيه. ولأن تاجِ الشّوكِ كَانَ كبيراً جداً ومنِعَ العباءة الغير مُخيطة، التي صنعتها له أمه، من المرور من رأسه، نزعوه بقسوة، غير عابئين بالألمِ الذى وقعَ عليه. القوا رداؤه الصّوفي الأبيض بعد ذلك على كتفيه، وأعطوه حزامه العريض وعباءته. بعد هذا، ربطوا ثانية حلقه مغَطّاة بقطع حديديةِ مدببة حول خصره، ورَبطوا بها الحبالَ التي اُقتيد بها، فاعلين كل ذلك بقسوتهم الوحشيةِ المعتادةِ.
كَانا اللّصان يَقفانِ، واحد على يمينِ يسوع والآخرِ على يساره، أياديهم مقيدة وكانت توجد سلسلةَ حول رِقابهم؛ وقَدْ تغُطّوا بعلاماتِ سّوداءِ وزرَقاء مِن أثر الضرب, نتائج‏ الجَلْدِ فى اليومِ السّابقِ. وكان سّلوك أحدهم هادئاَ ومسالمَ، بينما الآخرِ على العكس، كَانَ عنيفا ووقحاً، وشارك الجنود في إهانةِ يسوع والتجديف عليه، بينما نَظرَ يسوع على رفيقيه بحبِّ وشّفقةِ، وقدم آلامه لأجل خلاصهما.
جمع الجنود كل ما هو ضروري من أدواتِ لأجل الصّلبِ، وأعدوا كل شيء للرّحلةِ الشاقة والمؤلمةِ إِلى الجلجثة .
تَخلّى حنان وقيافا أخيرا عن مُعَارَضَةِ بيلاطس، وانسحبا بغضب، آْخذُين رقّ الكتابةِ التي كُتِب عليها الحكم؛ خَرجوا في عجالةِ، خشية أَنْ يصلوا الهيكلِ متأخرين لذبح الفصحِ. هكذا فعَلَ رؤساء الكهنة بجهل‏، تاركين حملِ الفصحِ الحقيقيِ. لقد ذَهبوا إلى هيكلِ مصنوع من حجارةِ، ليذبحوا ذلك الحملِ الذي لم يكن سوى رمزَ، وتَركوا حملَ الفصحَ الحقيقيَ، الذي كَانَ يُقاد إِلى مذبحِ الصّليبِ مِن قِبل جلادين قساة؛ لقد كَانوا حريصين ألا يرتكبون أدنى تلوث خارجي، بينما كانت نفوسهم من الداخل مدُنّسَة بالكامل بالغضبِ والكراهية والحسد. لقَدْ قالوا " أن دمه علينا وعلى أولادنا ! " وبهذه الكَلِماتِ أتموا الطقس، حيث وَضع مُقدم الذبيحة يده على رأسِ الذبيحة. هكذا تشّكل طّريقان, طريق يقود إِلى مذبحِ يختص بالشريعة اليهوديةِ، وآخر يقود إِلى مذبحِ النّعمةِ.
اَخذَ بيلاطس، ذلك الملحد المتكبر والمتردّدِ، عبدِ ذلك العالمِ، الذي ارتعدَ في حضرة الإله الحقيقيِ، ومع ذلك مَجّدَ آلهته الكاذبة، طريقَاً متوسّطَاً وعاد إِلى قصره. صدر الحكم الجائر في حوالي العاشَرة صّباحاِ.





Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:55 PM


الفصل الأربعون
حِمل‏ الصّليب



عندما ترك بيلاطس المحكمةَ تبعه جماعة من الجنودِ، وصاحبوا المذنبين. جاء ثمانية وعشرون فريسياً مُسَلَّحاً إِلى الساحة على الجيادِ، من أجل أَنْ يُرافقَوا يسوع إِلى موضع تّنفيذِ الحكم، ومن بين هؤلاء كَان أعداءَ يسوع السّتة، الذين سَاعدوا في اعتِقاله في بستان الزّيتونِ. أقتاد الجنود يسوع إلى منتصفِ القاعةِ، طرح العبيد الصّليبَ عند قدميه، والذراعان قَدْ رُبِطا حالاً على القطعة العمودية. ركع يسوع بجانبه، طَوّقه بيديه المقدّسةِ، وقَبّله ثلاث مرات، موجهاً في نفس الوقت، صلاة شكر مؤثرة للغاية إِلى أبيه السّماويِ لأجل عملِ الفداء الذي قَدْ بَدأهَ. لقد كان التقليد بين الأمم أَنْ يُعانقَ الكاهن المذبح الجديد، ويسوع بمثل ذلك عَانق صليبه، ذلك المذبحِ الجليلِ الذي كَان عَلى وَشَكِ أَنْ تُقدم عليه الذبيحة الدّمويةِ والكفاريةِ. أنهضه الجنود وبعد ذلك سْجدُ ثانية، ووُضع الصّليبِ الثّقيلِ على كتفه الأيمنِ، سانداً وزنه العظيمَ بيدّه اليمنى بينما كَانَ على رُكَبتيه وكان ما زالَ يَصلّي .
وضع الجلادون أذرع الصليبان الآخرين على ظهرِ اللّصين، ورَبطواْ أياديهم بإحكام بها. الأجزاء العمودية للصّليبينِ حملها بعض العبيد، لأن القِطَعِ المستعرضةِ لم تكن مثبتة حتى قبل وقتِ التّنفيذ. أعلن صَوّتَ البوقُ مغادرة خيالةِ بيلاطس، وجاء أحد الفريسيون الذى ينتمى إلى الحرس إِلى يسوع، الذي كان لا يزالَ راكعاً وقالَ له " انهض، لقد أَخَذنا كفايتنا من الكلام المعسول؛ اَنْهضُ للمسير " لقد أقاموه عنوة، لأنه كَانَ عاجزَا بالكليةً عن أَنْ يَنْهضَ بدون مساعدة، وشَعر على أكتافه بثقل ذلك الصّليبِ الذي يَجِبُ أَنْ نَحْملَه خلفه، طبقاً لوصيته الصادقة والمقدّسة بأَنْ نتبعه. هكذا بَدأَ ذلك الموكبِ المنتصرِ لملكِ الملوكِ، موكب بغاية الخزي على الأرضِ، وبغاية المجد في السّماءِ.
سند جنديان الصليب بواسطة الحبال التي ربطها الجلادون به، ليَمْنعَا تُشَابَكه في أي شئ، وأمسك أربعة جنود آخرين بالحبالِ الأربعة، التي رَبطوها بيسوع أسفل ملابسه. منظر إلهنا الحبيب مَرتجف تحت حمله، ذَكّرني بإسحاق، عندما حَملَ حطبَ محرقته إلى الجبلِ. أعلن بوق بيلاطس الأمر ببدء الموكب، لأنه نَوى أَنْ يَذْهبَ بنفسه إلى الجلجثةِ علي رأسِ فصيلةِ من الجنودِ، ليَمْنعَ أى إمكانية للتمردِ. كَانَ على صهوة جوادِ، مُغطى بدّرعِ ومحاطَ مِن قِبل ضّبّاطه وسلاح الفرسانِ، ويتبعه حوالي ثلاثمائة من المشاةِ. تقدم الموكب نافخ البوق الذي نفخ بوقه في كل زاويةِ وأعلن الحكم. سار عدد من النِّساءِ والأطفالِ خلف الموكبَ بالحبالِ والمسامير والأوتاد وبسلال ممتلئة بأشياء مختلفةِ في أياديهم؛ الآخرون، الذين كَانوا أقوىَ، حملوا السلالم والقطع الرأسية لصليبي اللّصين، وتَابع بعض من الفريسيون الموكب على ظهور الجيادَ. حمل صبى اللوحة التى كتبها بيلاطس للصليب، حَملَ أيضا علي طرف عصى طويلةِ إكليل الشوك الذي كان قَدْ أزيل عن رأس يسوع، أنه لم يبدُو شّريرا وقاسياِ مثل الباقينِ. بعد ذلك رأيت مُخلّصنا المباركَ وفادينا, قدميه عاريتين ومتورمين تَنزفان وظهره منحنى كما لو كَانَ عَلى وَشَكِ الغرقَ تحت الوزنِ الثّقيلِ للصّليبِ، وجسده بالكامل مغَطّي بالجراحِ والدّمِ.
بَدا بغاية الإعياءِ لكونه لم ينام ولا شرب منذ عشاء اللّيلةِ السّابقةِ، بدا ضعيف من نزف الدّماءِ، ظمآن نتيجة الحمىِ والألمِ. لقد كان يسند الصّليبَ الموضوع على كتفه الأيمن بيدّه اليمنىِ، يده اليسرى تدلت بضعف بجانبه، لكنه حاول من وقت لأخر أَنْ يمسك بها رداؤه الطّويل ليَمْنعَ قدميه النَّازِفتين من أن تتُشَابَكا معه. سار الجنود الأربعة الذين أمسكوا بالحبال التي رُبِطتْ حول خصره بعيدا عنه قليلا، الاثنان اللذان فى الأمامِ يسحبانه، والاثنان اللذان فى الخلف كانا يجرانه للخلف، لكي لا يستطيع الَتقدّمَ بالمرة إلا بصّعوبة. يداه تقطعَتا مِن الحبالِ التي قُيد بها؛ وجهه كان ملطخاً بالدماء ومشَوّهَاً؛ شعره ولحيته مشبعان بالدّمِ؛ وزن الصّليبِ وقيوده جعلت رداؤه الصّوفي يخترق جراحه، ويُعيدُ فتحها: الكَلِمات الساخرة والقاسية هى فقط التى وُجهت إليه، لكنه استمرَّ يَصلّي من أجل مضطهديه، ومُحياه يُبدى تعبيراً ينم عن الحبِّ والاستسلام. سار عديد من الجنودِ المسلّحين بجانبِ الموكبِ، وبعد يسوع جاءَ اللّصان، اللذان كانا يُقتادان على نفس النمط، أذرع صليبيها، مَوْضُوعَة على ظهريها وأياديهم مقيدة بأحكام بنهايتها. كانا يرتديان مآزر‏ كبيرةِ، مع وشاح بلا أكمام يغَطّى الجزء الأعلى من جسمهما، وكَانا يرتديان قلنسوتين على رأسيهما. اللّص الصغير السن كَانَ هادئا، لكن الآخرَ كُان على العكس، غاضبا ولم يتَوقّف عن اللَّعْن والسب. مؤخّرة الموكبِ كان بها بقيّةِ الفريسيون على ظهور الجيادِ، كانوا يمشون ذهاباً وإياباً لحفظ النظام. بيلاطس وحاشيته كَانواَ علي مسافةِ فى الخلف؛ كان في وسطِ ضبّاطه مرتدياً دّرعهِ، تسَبقَه فرقة من سلاح الفرسانِ، ويتَلوه حوالي ثلاثمائة جندي من المشاةِ؛ عَبرَ الساحة، وبعد ذلك دَخلَ أحد الشّوارع الرّئيسية، لأنه كَانَ يسير خلال المدينةِ من أجل أَنْ يَمْنعَ أي شغب بين الشعب .
اقتيد يسوع من شارعِ خلفيِ ضيّقِ، لكى لا يُزعج الموكب الأشخاص الذاهِبينَ إلى الهيكلِ، ولكي يأخذ بيلاطس وفرقته الشّارعُ الرّئيسيُ بالكامل لأنفسهم. الجموع كانت قد تفَرّقَت بعد قِراءةِ الحكم، والجزء الأعظم من اليهودِ أمّا رَجعوا إِلى بيوتهم أو إِلى الهيكلِ، ليعدوا حمل الفصح؛ لكن البعض منهم كانْ لا يزالَ يُسْرِع‏ في فوضىِ كي يبصروا مرور الموكبَ السّوداوي؛ منع الجنود الرّومان كل الأشخاصِ من الانضمام للموكبِ، لهذا كان الأكثر فضولاً مضطراً أَنْ يتجه نحو الشّوارعِ الخلفيةِ، أو أَنْ يُسرّعَ ليصلَ الجلجثة قبل يسوع.
الشّارع الذى اقتادوا يسوع خلاله كان ضيقاً وقذراً؛ لقد عَانى الكثيرَ من المرورِ منه، لأن الجنود كَانَوا قريبين ويحثونه. الأشخاص الذين وَقفوا على أسطح البيوت، وفي النّوافذِ أهانوه بلّهجة مخزيةِ؛ العبيد الذين كَانوا يَعْملونَ في الشّوارعِ القوا القاذورات والطينَ عليه: حتى الأطفال حَرّضهم أعداؤه، لقَدْ ملئوا جيوبهم بالحجارة، وكانوا يلقونها أمام أبوابهم حيث كان سيعَبرَ يسوع، لكى يضطر أَنْ يَدُوسَ عليها.





Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:55 PM


تأمل الرب يسوع


بينما كان قلبي مستغرقاً فى الحزن من أجل هلاك يهوذا الأبدي، وَضع الجلادون القساة، عديمي الحس بآلامي، الصّليبِ الصّعبِ والثّقيلِ على كتفي المَجْرُوح, الصليب الذي كان علىّ أَنْ أُكملَ علية سر فداء العالم ِ.
تأمّلوني يا ملائكة السّماءِ. انظروا خالقَ كل الأعاجيب؛ انظروا الإله الذي تُقدم إليه كل الأرواحِ السّماويةِ الإجلال؛ انظروا الإله يَسْير نحو الجلجثةَ حاملاً على كتفيه الخشبة المقدّسةِ والمباركةِ؛ انظروا الإله الماضي كي يُلفظ أنفاسه الأخيرة.
اَنْظروا إلى أيضا يا أحبائي, يا من ترغبوا فى أنْ تَكُونواَ مُقتدين أمناء بى. إن جسدي المُنسحق بكثير من العذابات يَمْشي بلا قوةَ، مغسولاً في العرقِ والدّماء .... إنى أُعاني، بدون أن يكون هناك أي أحد آسفاً على آلامي! الغوغاءُ يَمْشون معي ولَيسَ هناك شخصَ واحد يَشْعرُ بالرحمة تجاهي. إنهم جميعاً يُحيطون بي كذّئابِ جوعي تُريد أَنْ تَلتهمَ فريستها... كل الشّياطينِ جاءتْ من جهنمِ كى تَجْعلَ آلامي أسوأ.
إنّ الإعياءَ الذي شْعرت به كان عظيماً جداً والصّليبُ ثقيلُ جداً حتى أننى فى منّتصف الطريقِ، سْقطُت. انظروا كيف يَنهضوني أولئك الرّجالِ المتوحشين بغاية الوحشية. أحدهم يجذبني من ذّراعي، آخر يجذب ملابسي المُلتصقة بجراحي، بتُمزّقها انَفْتحَت جراحي مرة أخرى.... هذا الحارس يمسكني من رّقبتي، الآخر من شّعري، آخرون يضربونني بقبضات أياديهم وكذلك بأقدامهم ضرباتِ موجعة في جميع أنحاء جسدي. سّقط الصليب فوقي وبوزنه تسبّبُ فى جراحَ جديدةَ... وجهي نظّفُ أحجارِ الطّريقِ والدّمِ الذي نزف من وجهي التصق بعيني اللتين انَغْلقتاِ تقريباً بسبب الضّرب الذى نالاهما؛ التراب والطّين اختلطا بالدّمِ وقد تحوّلتُ إلى شيء أكثر من كريه. أرسلْ أبى ملائكةَ لمعونتي لمساندة نفسي لكي لا يفقد جسدي الوعي عندما يَسْقطُ، حتى لا تُحسم المعركةَ قبل أوانها ويُفقد كل شعبي .
لقد دُسُت على الأحجارِ التي أدمت قدمايّ. تعثّرتُ وسْقطُت مرة ومرة أخرى. نْظرتُ إلى جانبيِ الطّريقِ، بْاحثاً عن نظرةِ حب صغيرةِ، نظرةِ استسلام، نظرةِ اتحاد بآلامي، لكنى لم آري ولا نظرةِ واحدة.
أبنائي، يا من تَتبعوا آثار خطاي، لا تَتْركُوا صليبكَم حتى وإن بدا ثقيلاً جداً. افعلوا هذا من أجلى. بحَمْلِ صليبكَم، سَتُساعدونني على حْملُ صليبى، وفى الطّريقِ الصّعبِ، سَوف تَجدُون أمي وكل النفوس المقدّسة وسيَعطونكَم المساندة والراحة. استمرّْوا معي لبضع لحظاتِ، وبعد عدة خطوات ستبصرونني بحضورِ أمي المقدّسةِ التي خْرجُت كى تلاقيني وقلبها مطعون بالألمِ, لقد جاءت لسّببين: أولهما لتنال المزيد من القوة لمواجهة آلامها برؤية إلهها، ثانيهما كى تَعطي ابنها بصمودهاِ البطولي التشجيع ليَستمرّ فى عمل الفداءِ.
خذوا بعين الاعتبار‏ استشهاد هذين القلبين. إن ما أحبته أمي بالأكثر هو ابنها.... أنها لا تستطيع أَنْ تُهدّئَ آلامي وهي تَعْرفَ أنّ زيارتها سَتَجْعلُ آلامي أكثر سوءاً، لكن ذلك سَيَزِيدُ قوتي أيضا كى أنفذ مشيئة الأب.
إن أمي أعظم حبيب لى على الأرضِ، وليس فقط أننى لم أستطع أَنْ أعزيها، بل أن الحالة الحزينةَ التى َرأتني عليها سبّبُت لقلبها آلاماً عميقة مثل آلامي. لقد دعت تنهداتها تفلت منها. لقد تلقت في قلبها الموتِ الذي كنت أَعانيه في جسدي.أه كم ثبّتتُ عينيها عليّ وثبّتُ عينيّ عليها! نحن لم نَنْطقُ بكلمة واحدة، لكن قلبينا قالا أشياءِ كثيرة في هذه النّظرةِ المؤلمةِ.
نعم، لقد شَهدتْ أمي كل عذابِ آلامي من خلال رؤى سمائية. بِضْع تلاميذ، بالرغم من إنهم ظلوا بعيدينًَ خوفاً من اليهودِ، إلا أنهم حَاولَوا أَنْ يَكتشفوا كل شيء ويُعلمُوا أمي. وعندما وَجدتْ أنّ حكم الموتِ قَدْ صدر بالفعل، رحلت كى تُقابلني ولم تتَركني حتى وَضعوني في القبرِ.




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:56 PM


الفصل الحادي والأربعون
سّقوط يسوع والاستعانة بسمعان القيروانى




الشّارع الذي تَكلّمنَا عنه، بعد انحرافه لليسار قليلا، صار واسعاً وشديد الانحدار وتعبر أسفله قناةِ تأتى من جبل صهيون، وبه حفر تمتلئ دوماً بالماءِ والطّينِ بعد الأمطارِ، وُضعت حجارة كبيرة في منتصفه ليستطيع الناس َعبوره بسهولة. عندما وَصلَ يسوع إلى هذه البقعةِ، كانت قوته قَدْ استنزفْت تماماً؛ لقد كَانَ عاجزاً تماماً عن أَنْ يتحرّكَ؛ وبينما كان الجنود يجرونه ويدَفعونه بلا أدنى رحمة، سَقطَ على هذه الحجارةِ، وسقط الصّليب بجانبه. واضطر الجنود أَنْ يَتوقفوا، شتموه وضَربوه بلا رحمة, لكن كل الموكبَ تَوقّفَ، مما تسَبّبَ فى بعض الاضطراب. عبثاً مد يدّه ليساعده أى أحدِ ليَنْهضَ، صاح : " آه!, إن كل شئ سَينتهي قريباً " وصَلّى من أجل أعدائه. قالَ الفريسيون : " أنهضوه وإلا فإنه سَيَمُوتُ في أيدينا. " كان هناك عديد من النِّساءِ والأطفالِ يَتبعون الموكبَ؛ بكت النساء وخاف الأطفالِ. على أية حال، لقد نال يسوع مساندةَ من فوق ورَفعْ رأسه؛ لكن هؤلاء الرّجالِ القساة، كانوا بعيدا عن السَعي لتخفيف آلامه، ووَضعَوا تاجَ الشّوكِ ثانية على رأسه قبل أن يسَحبوه من الطّينِ، وما أنَ وقف مرة أخرى على قدميه حتى وضعوا الصّليبَ على ظهره. زِادَ تاج الشّوكِ الذي طَوّقَ رأسه من آلامه بما يفوق الوصف, والزمه أَنْ يميل برأسه على أحد الجانبِين ليَعطي مكاناً لصليبه، الذى طُرح بشدّة على كتفيه.
تركت مريم الساحة فور إعلان الحكم الجائر، يرَافقهاَ يوحنا وبعض النِّساءِ. لقَدْ آلت على نفسها أن تسير متجهة إِلى عديد من الأماكن التى تقَدّستْ مِن قِبل إلهنا وترويها بدموعها؛ لكن عندما أعلن صوتَ البوقِ وتدافع الناسِ وضجيج الخيالةِ أنّ الموكب عَلى وَشَكِ المضي للجلجثةِ، لم تتمكن من أَنْ تُقاومَ رغبتها الملحة فى أَنْ ترى ابنها الحبيب مرة أخرى، توسلت إلي يوحنا أَنْ يَأْخذها إِلى الأماكنِ التي يَجِبُ أَنْ يَجتازها. قادها يوحنا إِلى قصر عِنْد مدخلُ الشّارعِ الذي سقط فيه يسوع أولِ مرة؛ لقد كان، كما اَعتقدُ، محل إقامة الكاهن الأكبرِ قيافا. حصل يوحنا على إذنِ من خادمِ عطوف أن يقف عند المدخل مع مريم ورفاقها. أم الرب كَانتْ شاحبَة، عينيها حمراء من كثرة البُكاءِ، وقَدْ لُفّتْ بإحكام‏ بعباءةِ رمادية. الصّخب والكلام المًهين للحشود الهائجة كان يُسْمع بوضوح؛ وأعلن منادي في تلك اللّحظةِ بصوتِ عال، أن ثلاثة مجرمين عَلى وَشَكِ أَنْ يُصْلبوا. فَتحَ الخادمُ البابَ؛ أصبحت الأصوات المُخيفة أكثر وضوحاً؛ وألقت مريم بنفسها على رُكَبتيها. بعد الصَلاةِ بتأجج، التفتت إِلى يوحنا وقالتْ : هَلْ أَبْقى؟ هَلْ على أَنْ أخْرجَ؟ هَلْ سَيكونُ لدى القوةُ لأبصرِه, أجابَ يوحنا: " إن لم تَبْقى لتَريه، فأنك سَتَحْزنُين بعد ذلك." لهذا ظلوا قُرْب البابَ، وأعينهم مثَبّتةَ على الموكبِ، الذي كان ما زالَ بعيدا، لكنه كان يَتقدّمُ بخطي بطيئةِ. عندما أقترب الذين يَحْملُون آلات التّنفيذِ، ورأت مريم نظراتهم الوقحةَ والمنتصرةَ، لم تتَمَكّنَ من السيطرَة على مشاعرها، بل مدت يديها كما لو أنها تُنشدَ معونة السّماءِ؛ مما جعل أحد المارة يقولَ لرفاقه : " من هذه المرأة التي تجيش بمثل هذا البكاءِ؟ ' فأجَاب رفيقه : " إنها أمُ الجليلى " عندما سمع الرّجال القساة هذا، بعيدا عن أن يتأثروا ببكائها بدءوا يتلهون بحزن هذه الأمِ المكلومة: أشاروا إليها، واَخذ واحد منهم المسامير التي ستستعمل فى تسمير يسوع بالصليب، وقَدّمها إِليها بأسلوب مهينِ؛ لكنها استدارتْ، مثَبّتةَ عينيها على يسوع، الذى كان يَقتربُ، واستندت على عمودِ، لئلا تَغِيبَ عن الوعي ثانية من الأسىِ، لأن وجهها كَان شاحبا كالموتى، وشفتاها شبه زرقاء. عَبر الفريسيون الذين على ظهور الجيادِ أولا، يتبعهم الصبي الذى يحمل اللوحة. ثم جاءَ ابنها الحبيب. غاْرقُاً تقريباً تحت ثّقلِ صليبه، ورأسه، الذى ما زالَ مُتوّجاً بالشّوكِ، كَانَ يَتدلّى في ألم على كتفه. ألقى نظرةَ شّفقةِ وحُزنِ على أمه، تَمايَل، وسقط لثاني مرة على يديه ورُكَبتيه. تعذبت مريم تماماً من هذا المنظر؛ نَسيتْ كل شئ ما عدا هذا؛ لا رَأتْ الجنود ولا الجلادين؛ لم تر شيء سوى ابنها الَحْبيبَ؛ وَقْفزتُ من المدخلِ إلي وسطِ المجموعةِ التي كَانَ تُهينُه وتشتمه، ألقت بنفسها على رُكَبتيها بجانبه واحتضنته. الكَلِمات الوحيدة التى سَمعتها هى : " أيا أبني الحبيب! " و" أماه! ".
بدا بعض الجنودِ متأثرين، ومع إنهم اجبروا العذراءَ المباركةَ على أَنْ تنسحب إلى المدخلِ، إلا أنه لا أحد منهم وَضعُ يديه عليها. أحاط بها يوحنا والنِّساء بينما سَقطتْ غائبة عن الوعيَ على الحجارةِ التي كَانتْ قُرْب المدخلَ، والتي انطبعت عليها يداها. هذه الحجارةِ كَانتْ صلبه جداً، وقَدْ انتقلت بعد ذلك إِلى أول كنيسةِ بْنيت في أورشليم، قُرْب بركة بيت صيدا، خلال فترة أسقفية القديس يعقوب الصغير لتلك المدينةِ. التّلميذان اللذان كانا مع أمِ يسوع حَملاها داخل الدّارِ، وأُغلق الباب. أثناء ذلك أنهض الجنود يسوع وأجبروه على أَنْ يَحْملَ الصّليب بأسلوب مختلفِ. لكون ذراعي الصليب لم تكن مثبتة من الوسط، ومُقيدة بالحبالِ التي كَانَ مقيد بهاَ، فأنه سندها بذراعه، وبهذه الطريقة ثقل الصّليبِ قد خف قليلا، حيث أنه جُر أكثر على الأرضِ. لقد رَأيتُ عدداً من الأشخاصِ يَقفُون في مجموعاتِ، الجزء الأعظم منهم كان يَسلّي نفسه بإهانةِ يسوع بطّرقِ مختلفةِ، لكن بضع نساء مؤتزرات كُنّ يَبْكينَ.
نشأ اضطراب مؤقتُ. سعى يوحنا والنِّساء القديّسات أن يُنهضوا مريم من على الأرضِ، ووبخها فريق الصلب، قال لها أحدهم : " ماذا تفعلين هنا يا امرأة؟ لقد كَانَ من الممكنُ ألا يَكُونَ أبنك في أيدينا لو كَانَ تربى بطريقة أفضلَ "
وَصلَ الموكب إلى بوابة في سور قديمِ فى المدينةِ، قبالة ميدان، تنتهي فيه ثلاثة شوارعِ، عندما تَعثّرَ يسوع فى حجرِ كبيرِ موُضوع، انزلق الصّليب من على كتفه وسَقطَ يسوع على الحجرِ وكَانَ عاجزَا بالكلية عن أَنْ يَنْهضَ. وقف عديد من الأشخاصِ كَانوا فى طريقهم إِلى الهيكلِ وصِاحوا على نحو عطوف : " انظروا لذلك الرجل المسكين، أنه يحتضر بالتأكيد!" لكن أعدائه لم يبدوا أية شفقةُ. تسبب هذا السّقوطِ فى تأخيرَ آخرَ، لم يتَمَكّنَ يسوع من أَنْ يَنْهضَ ثانية، وصاح الفريسيون فى الجنودِ : " نحن لَنْ نصل به إِلى مكانِ التّنفيذِ حياً ما لم تَجدُوا أحداً يَحْملَ صليبه. " فى تلك اللحظة كان سمعان القيروانى يَعْبرَ الطريق، يرَافقهَ ثلاثة مِن أولاده. إنه بستانيَ من الأمم كان عائدا توا إلى البيت بعد العَمَلِ في بستان قُرْب السور الشّرقي للمدينة ويحَمْل حزمة من الأغصان المُشَذَّبةِ. فهم الجنود من ردائه أنه من الأمم، امسكوه وآمروه أَنْ يُساعدَ يسوع في حَمْلِ صليبه. رَفضَ في بادئ الأمر، لكنه أُرغم على أَنْ يَطِيعَ، صرخ أولاده من الخوف وبكوا وأحدثوا جلبة عظيمة، مما جعل بعض النِساءِ يهدئون من روعهم . لقد كَانَ سمعان مغتاظاً للغاية واظهرِ سخطه لَكونه مُضطر أَنْ يسير مع رجل ذو مظهر يُرثى له وبحالة بغاية من الاتساخ والبؤسِ؛ لكن يسوع بَكى ونظر إليه نظرة وديعة وسماويةِ حتى أن الرجل تأثر وبدلا من مواصلة إظهار الإحجام سَاعده على النهوض، ربط الجلادون الصّليبِ على كتفيه، ومَشى خلف الرب يسوع، هذا أراحه بدرجة عظيمِة من ثقله؛ وعندما ترتبَ كل شئ، تحرك الموكب للأمام. كَانَ سمعان رجلاً قويَ المظهرَ، يبدو تقريباً فى الأربعين من العُمرِ. أكبر أولاده يُسَمَّى روفوس والثاني ألكسندر وقد صارا فيما بعد من عداد المُبشرين؛ الثالث كَانَ أصغرَ بكثيرَ، لكن بعد بضع سَنين ذَهبتْ ليَعِيشَ مع القديس اسطفانوس.





Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:56 PM


تأمل الرب يسوع

ها أنا فى طريقي نحو الجلجثة. أولئك الرّجالِ الأشرار، خَوفُاً من يَروني أَمُوتَ قبل وُصُولِي للنّهايةِ، بْحثُوا عن أحدِ لمساعدتي فى حْملُ الصليب، أمسكوا برجلِ من منطقة مُجاوِرة‏ يُدَعى سمعان .
انظرواْ إليه خلفي وهو يُساعدني على حْملُ الصّليبَ، وفوق كل شيء خذوا بعين الاعتبار أمرين: أولاً أن هذا الرّجلِ تَنْقصُه النية الحسنةَ، ثانياً أنه إن كان قد جاء وشاركني فى ثّقل الصّليبِ، فذلك لأنه كان مكرهاً على ذلك. لهذا السّببِ، عندما شْعرُ أنه مُتعب جداً, تْركُ الثقل كله يقع عليّ وهكذا سْقطُت على الأرض مرّتان. إن هذا الرّجلِ يُساعدني على حْملُ جزءَ من الصّليبِ لكنة لم يحمل صّليبيَ كله.
هناك نفوساً تسير خلفي بهذه الطريقة. إنهم يَقْبلونَ مساعدتي على حْملَ صليبي لكنهم ما زالوا حريصين على رفاهيتهم وراحتهم. كثيرون آخرون يُوافقونَ على أن يَتْبعوني حتى النّهايةِ، مُنتهجين حياة مثالية. لكنهم لا يَتْخلون عن مصالحهم الشخصيّة، التي تظل تحيى فيهم، في عديد من الحالاتِ، تكون هى أولوياتهم. لهذا يَتردّدونَ ويَسْقطونَ صليبي عندما يثقل عليهم أكثر من اللازم. إنهم يسعون وراء المَعاناة لكن بأقلّ قدر من العناءِ، إنهم يرفضون نكران ذواتهم، يَتجنّبُون الإذلالَ ويَتْعبُون بقدر محتمل، ويَتذكّرونُ ربما بحُزنِ، ما قد تَركوه وراءهم، إنهم يُحاولونَ أَنْ يَحْصلوا على بعض الرّاحة والسّرور لنفوسهم.
باختصار، هناك نفوس أنانية ومغرورة قَدْ جاءت بالأكثر من أجل مصالحها ولا يسعونِ خلفي من أجلى أنا. إنهم يَتخلون عن ذواتهم فقط كى يقدموا لى ما يُضايقهم وما لا يُستطيعوا أَنْ يَضعوه جانبا ... ًإنهم يُساعدوني بحْملَ جزء صغير جداً من صليبي، وبمثل هذا الأسلوب يستطيعون وبصعوبة أَنْ يَكتسبوا استحقاقات لا غنى عنها لأجل خلاصهم . لكنهم في الأبدية، سَيَرواَ مدى بعدهم عن الطّريق الذي كَانَ يجبُ أَنْ يسلكوه .
بالمقابل، هناك نفوس، وهى لَيسَت بقليلة، تتحَرّك برغبتها للخلاص, أنهم مدفوعين بالحبِّ أساساً عندما رأوا ما عَانيتهُ من أجلهم، قرّرواُ أَنْ يَتْبعوني فى الطّريقِ نحو الجلجثةِ. لقد اعتنقوا حياةَ الكمال وأَعطواَ نفوسهم لخدمتي، ليس كى يُساعدوني بحْملُ جزء من الصّليبِ فقط, بل بحمل الصليب كلّه. رغبتهم الوحيدة كانت أَنْ يَريحوني وأَنْ يَواسوني. إنهم يَقدمون أنفسهم إِلى كل شيءِ تطلبه منهم مشيئتى، بْاحثُين عن أي شئ يُمكنُ أَنْ يُسرني. إنهم لا يُفكّرونَ فى الاستحقاقات أو المُكافئة التي تنتظرهم، ولا فى التعب أو الآلام التي ستَتْبع ذلك. الشيء الوحيد الذى يشغهلم هو الحب الذى يستطيعون إظهاره لى، والرّاحة التى سيَعطونها لى .
إن كان صليبي يُقدّمُ لهم كمرضِ، إن كان مخفياًَ تحت عمل يناقض ميولهم ويتفق قليلاًِ مع قدراتهم؛ إذا كان يَجيءُ مُرَافَقَاً لغيابِ الناسِ الذين يُحيطون بهم، فإنهم يقَبلونه باستسلام كاملِّ.
أه! هذه هى النفوس التي تَحْملُ صليبي حقاً؛ تُمجّده. يتحينون الفرصة، ليؤكدوا مجدي دون أدنى اهتمام آخر وبدون أي مُقابل آخر سوى حبّي. إنهم من يُبجلوني ويُمجّدوني.
أحبائي, إن لم تَروا نتائج لآلامكمَ، نتائج لنكران ذواتكَم، فحتماً سترون ذلك فيما بعد، تأكدوا أن ذلك لم يكَن بلا طائل أو بلا ثمر، بل، على العكس، فالثّمار سَتَكُونُ وفيرة.
النفوس التى تَحْبُّ حقاً، لا تَحتْفظُ بكشف حساب عن مدى ما عَانته أو ما صنعته، ولا تَتوقّعُ هذه المكافئة أو تلك، بل ستبحث فقط عما تؤمن أنه يُمجّدُ إلهها .... إنها من أجله لا تُوفّرُ لا الجهد ولا المشقة.
أنها لاْ تَصْبحَ مضطربة ولا مُستاءة، أنها لا تَفْقدُ سلامها إن وَجدُت نفسها مُحبَطَة أو مذلَّة لأن الحافزَ الوحيدَ لأفعالها هو الحبُّ، والحبّ لا يبالى لا بالعواقب ولا بالنَّتائِجَ. هذا هو هدفُ النفوس التى لا تَطْلبُ المُقابل. الشيء الوحيد الذي يتمنونه هو مجدي، مواساتي، راحتي، ولذلك السّببِ يأخذون صليبي وكل الثّقل الذى أشاء أَنْ أضعه عليهم.
أَدْعوني بأسمى يا أولادي، لأن كلمة يسوع تعنى كل شيءِ. أنا سَأَغْسلُ أقدامكَم، تلك الأقدامِ التي خَطتْ على طريقِ زلقِ وَجْرحتُها الصّخورِ. أنا سَأَمْسحُ دموعكَم، سأَشفيكمَ وأُقبّلكَم، ولن تَعْرفُوا طريق آخر سوى ذلك الطريق الذى يقودكمَ نحوى.
نحن الآن في الجلجثةِ! إنّ الغوغاءَ ثائرونُ لأن اللّحظةَ الرهيبة تقُترْب.... أنى مُنهَك بالإعياءِ، أستطيع أَنْ أسير بصعوبة. قدماي تَنْزفان بسبب أحجارَ الطريق.... ثلاث مرات سَقطتُ فى الطّريقِ: مرة كى أَعطي الخطاة الذين تعودوا على الآثمَ القوة أن يتوبواَ؛ الثانية كى أُشجّعَ النفوس التي تسَقطَ بَكُونُها ضعيفة، النفوس التى أعماها الحزنِ والضجر, كي تَنْهضَ وتباشر بشّجاعةِ طريقِ الفضيلةِ؛ والثالثة كى أُعين النفوس على أن تترك الخطيئةِ حتى لو في سّاعةِ موتها.




Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:57 PM

الفصل الثاني والأربعون
فيرونيكا


بينما كان الموكبَ يجتاز شارعاًِ طويلاً، حَدثتْ حادثة أوجدت تأثيراً قوياً على سمعان القيروانى. عدد من الأشخاصِ كَانوا يُسرعون نحو الهيكل، كثيرين منهم تنحى بعيدا عندما رَأوا يسوع، خوفا من أن يتلوثواِ، بينما الآخرون، بالعكس، وَقفَوا واظهروا رحمة نحو آلامه. لكن عندما تقدم الموكبَ حوالي مأتى خطوةِ من البقعةِ التى بَدأَ فيها سمعان فى مُساعدُة الرب في حَمْلِ صليبه، فُتح باب دارِ على اليسار وخَرجَت امرأة ممسكة بيد فتاة صغيرة وسارت نحو مقدمة الموكبِ. كَانَ اسم المرأةِ الشّجاعةِ التى تَجاسرتْ على أَنْ تُواجهَ الحشود الغاضَبة سيرافيا؛ إنها زوجةَ سيراخ، أحد أعضاء مجلس الهيكلِ، وقَدْ عُرِفت بعد ذلك باسم فيرونيكا، الذي يتكون من شقين هما vera icon ومعناه صورة الوجه الحقيقي، لتخليد ذكرى تصرفها الشّجاع فى هذا اليومِ.
كانت سيرافيا قَدْ أعدّتَ بعض النّبيذِِ، الذي نَويتْ أَنْ تُقدّمهَ ليسوع ليُعينه وهو فى طريقه المؤلمِ إِلى الجلجثةِ. لقد وقفت في الشّارعِ لبعض الوقت ثم رَجعتَ للدّارِ لتَنتظرَ. عندما رأيتها أولا كانت مرتدية شالا طويلا وممسكة بفتاة صغيرة فى حوالي التاسعة من العُمرِ تسَعى إلى إخفاء النّبيذِ. أولئك الذين كَانوا على رأس الموكبِ حَاولَوا أَنْ يَدْفعوها للخلف؛ لكنها شقت طريقها خلال الغوغاءِ والجنود وفرقة الصلب حتى وَصلَت إلى يسوع، سقطت على رُكَبتيها أمامه، وقَدّمَت شالها قائلة : " اسمح لى يا ربي أَنْ اَمْسحَ وجهك " اَخذ يسوع الشال بيده اليسرى ومَسحَ وجهه النَّازِفَ، وأرَجعه بشكر. قَبّلته سيرافيا ووَضعته تحت عباءتها. قدمت البنت حينئذ النّبيذ بخجل، لكن الجنودَ المتوحشين لَم يَسْمحوا ليسوع بأَنْ يَشْرب منه. هذا التصرف الشّجاعِ لسيرافيا فَاجأَ الحرّاس، وتسَبّبَ فى توقف الموكب بصورة مؤقتة استطاعت خلاله أَنْ تُقدّم الشال إِلى سيدها الإلهي. غضب الفريسيون والحرس بشّدة، ليس فقط للتّوقّفِ المفاجئِ، بل بالأكثر بالشّهادةِ العامّةِ للتّبجيلِ الذى قدمته ليسوع، وانتقموا لأنفسهم بضّرِبهِ وسبه، بينما عادت سيرافيا بعجلةِ إِلى دارها.
ما أن عادت إلى غرفتها حتى وَضعتْ شالها الصّوفيَ على منضدةِ، وركعت فاقد الوعي‏ تقريباً على رُكَبتيها. دخل صديق الغرفة بعد وقت قصير ووَجدها سْاجدة هكذا والطّفلةِ تبكى بجانبها، ورَأىَ بدهشة الوجه الدّموي ليسوع مطَبوعاً على الشال ويشبهه تماما، مع أنه مؤلماً أن تَنْظرَ إليه. أنهض سيرافيا وأشار إِلى الشال فسَجدتْ ثانية راكعة وصِاحتْ وهى تبكى: " سَأَتْركُ الآن كل شئ بقلبِ سعيدِ، لأن إلهى قَدْ أعطاني ذكرى عن نفسه "
هذا الشال كَانَ من الصّوفِ الناعم؛ طوله حوالي ثلاث أضعاف عرضه، وكان يُلُبِسَ على الأكتافِ. فيا بعد كان من المألوف أَنْ يُقدّمَ هذه الشال إِلى الأشخاصِ الذين يكونوا فى تجربة شديدة أو فى تْعب شديد أو مرض، لكى يَمْسحوا وجوههم به، وكانوا يفعلون هذا لينالوا تعزية وشفقة. احتفظت فيرونيكا بهذا الشال حتى موتها، وعَلّقته علي رأسِ سريرها؛ ثم أُعطىَ للعذراءِ المباركِة، التي تَركته للحواريين، وهم بعد ذلك تركوه للكنيسةِ.
سيرافيا ويوحنا المعمدان كَاناَ أبنيّ عمَ، أبوها كان شقيق زكريا. عندما جاءا يواقيم وحنة والعذراءَ المباركةَ وهى فى الرابعة من العمر، إلى أورشليم ليَضعاها بين العذارىِ في الهيكلِ، قطنا في دارِ زكريا التي تُقِع قُرْب سوق السّمكِ. سيرافيا كَانَت أكبر من العذراء المباركة بخمس سَنَوات على الأقل، كَانتَ حاضرة لخطبتها للقديس يوسف النجار، وهى أيضاً قريبة لسمعان الشيخ، الذي تَنبّأَ عندما حمل يسوع علي ذراعيهِ. لقَدْ تربّت مع أبنائه. عندما كان يسوع فى الثانية عشر من العمر، ومكث يُعلم في الهيكلِ، سيرافيا، التي لم تكَنَ قد تَزوّجت آنذاك، كانت تُرسلَ له الطعامَ يومياً فى مسكن صغير على مسافة ربع ميلِ من أورشليم حيث كان يُقيم عندما لا يكون في الهيكلِ. ذَهبَت العذراء مريم هناك لمدة يومين، عندما كانت فى طريقها من بيت لحم إِلى أورشليم لتقدم ابنها في الهيكلِ. الشيخان اللذان احتفظا بهذا البيت كَانا من اليونانيين، ويعرفان العائلةِ المقدّسةِ جيدا؛ كان البيت يحتوى على أساسِ فقيرِ، ويسوع وتلاميذه كانوا يترددن كثيرا هناك لقضاء الليلِ.
سيرافيا تَزوّجَت فى سن متأخّرة نوعا ما؛ زوجها، سيراخ، كان من نسل سوسنة العفيفة، وكَانَ عضوَ فى السنهيدرم. كان في بادئ الأمر مُعارضاً بشّدة ليسوع، وعَانت زوجته كثيراً معه بسبب ارتباطها بيسوع وبالنِّساءِ القديّساتِ، لكن يوسف الرامى ونيقوديموس أثرا عليه فسَمحَ لسيرافيا أَنْ تتبع يسوع. عندما اتّهمَ يسوع على نحو ظالم في محكمةِ قيافا، أنضم زوج سيرافيا إلى يوسف الرامى ونيقوديموس في مُحاولُة تبرئة يسوع، واستقال الثلاثة من مقاعدهم في المجلسِ.
كَانَت سيرافيا فى الخمسين تقريبا عند دخل يسوع أورشليم فى أحد السعفِ، وقد رَأيتُها تخلع شالها وتضعه على الأرضِ كى يسير عليه. كان هو نفس الشال الذي قَدمتْه ليسوع في موكبه الثّاني هذا، هذا الموكب الذي يبدو بعيداً عن أي مجد، لكنه في الحقيقة أكثر مجدا. بسبب هذا الشال تغير اسمها من سيرافيا إلى فيرونيكا .






Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:57 PM

الفصل الثالث والأربعون
السّقوط الرابع والخامس ليسوع
بنات أورشليم



كان الموكب لا يزالَ علي مسافةِ من البوّابةِ الجنوبية الغربيةِ، إنها بوابة كبيرةَ، ومرتَبطة بالتّحصيناتِ، كان الشّارع وعر وشديد الانحدار؛ كَانَ يعبر أولا تحت قوسِ مُقَبَّبِ، ثم على جسرِ، وأخيراً أسفل قوسِ ثانٍ. السور الذى على الجانبِ الأيسر للبوّابةِ كان يتجه أولاَ نحو الجنوبِ ثم يَنحرفُ قليلا إِلى الغربِ، ويتجه أخيراً نحو الجنوبِ خلف جبل صهيون. عندما كان الموكب يقترب من هذه البوّابةِ، دَفع الجنود المتوحشون يسوع في بركةِ راكدةِ، كَانتْ قريبة منه؛ سمعان القيروانى، رغبة منه فى أَنْ يَتجنّبَ البركة، لف الصّليبُ، مما جعل يسوع يسقط للمرة الرابعة في وسطِ الأوحال القذرة، وبصعوبة بالغة رَفْعِ سمعان الصّليبِ ثانية. حينئذ صِاحَ يسوع بنبرة مؤثرة وحزينة إلا أنها كانت واضحة : " أورشليم، كم من مرة أردت أن أجمع بنيك معا كما تجمع الدّجاجةِ فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا " عندما سمع الفريسيون هذه الكَلِماتِ، صاروا أكثرَ غضبا، واستهلوا إهاناتهم وضربهم ليُجبروه على النهوض من الوحل. أثارت قسوتهم هذه سمعان القيروانى حتى أنه صِاحَ " إن واصلتم هذه التّصرفاتِ الوحشيةِ، فسَأَطْرحُ الصّليب ولن أعود اَحْمله حتى لو قْتلتموني "
ظهر طريق ضيّق وحجري بعد المرور من البوّابةَ، وهذا الطّريقِ يتجه نحو الشمال، ويقودَ إِلى الجلجثةِ. أنقسم الطّريق الرئيسي بعد قليل إلي ثلاث طرقِ، احدهم يتجه إِلى الجنوب الغربي ويقود إِلى بيت لحم من خلال واديِ جيحون؛ الثاني إِلى الجنوبِ نحو عمواس ويافا؛ الثالث نحو الجنوب الغربي أيضا، يلف حول الجلجثةِ وينتهيَ ببوّابةِ تقودَ إِلى بيت صور. الشخص الذى يَبْلغُ البوّابةَ التى اقتِيدَ يسوع من خلالها يستطيع أن يَرى بسهولة بوّابة بيت لحم. كانت هناك لوحة معلقة فى بداية الطّريقِ إِلى الجلجثةِ، تُعلنَ للعابرين أن يسوع واللّصين قَدْ أدينوا إِلى الموتِ. تجمعت مجموعة من النِّساءِ قُرْب هذه البقعةِ، وكن يَبْكين ويَنحنُ؛ كثيرات منهن يحملن أطفالاً صّغار علي أياديهن؛ مُعظمهن كنَ عذارىَ صغيراتَ ونِساءَ من أورشليم، كن قَدْ سَبقن الموكب، وقليلات جئن من بيت لحم ومن حبرون "الخليل حاليا" ومن أماكنِ أخرىِ مُجَاوِرةِ ، للاحتفال بعيد الفصح .
كَانَ يسوع على وشك السقوط ثانية، لكن سمعان، الذي كَانَ خلفه، بتدارك أنّه لا يستطيع أَنْ يَقفَ، أسرع كى يسنده؛ اتكأ يسوع عليه، وهكذا أنقذه من السُقُوطِ على الأرض. عندما رأت النِّساء والأطفال الحالة التى يرثى لها التى كان يسوع عليها، بكين بأصوات عاليةَ، وطبقاً للتّقليد اليهودي، قَدّمن قماشاً ليَمْسحَن وجهه. التفت يسوع نحوهم وقالَ : " يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيِّ، بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ! فَهَا إِنَّ أَيَّاماً سَتَأْتِي يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ اللَّوَاتِي مَا حَمَلَتْ بُطُونُهُنَّ وَلاَ أَرْضَعَتْ أَثْدَاؤُهُنَّ! عِنْدَئِذٍ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا، وَلِلتِّلاَلِ: غَطِّينَا! فَإِنْ كَانُوا قَدْ فَعَلُوا هَذَا بِالْغُصْنِ الأَخْضَرِ، فَمَاذَا يَجْرِي لِلْيَابِسِ؟ " ثم وجه بضع كَلِمات التّعزيةِ إليهن لا أَتذكّرها بالضبط.
توقّف الموكبُ مؤقتا. وَصل الجلادون إلى الجلجثة بآلاتِ التّنفيذِ، وتُلاهم مائة من الجنودِ الرّومان الذين كانوا مع بيلاطس؛ الذى رَافقَ الموكب حتى المدخل ثم عاد إِلى المدينةِ.







Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:57 PM

الفصل الرابع والأربعون
يسوع فى جبل الجلجثة


تحَرّكَ الموكبُ ثانية؛ كَانَ الطّريق شديد الانحدار ووعراً جداً بين أسوار المدينةِ والجلجثةِ، وكَانَ يسوع يجد صّعوبةُ عظيمة في السير بحمله الثّقيلِ على كتفيه؛ لكن أعدائه القساة، بعيدا عن الشعورِ بأدنى شّفقةِ، ودون إعطائه أقل مساعدة، استمروا يَحْثونّه بضّرباتِ قاسية والتفوه باللّعناتِ المُخيفةِ. أخيراً وَصلوا إلى بقعةَ حيث الممر يتحول فجأة نحو الجنوبِ؛ هنا تَعثّرَ وسقط يسوع للمرة السادسة. السّقوط كَانَ مُخيفاَ، لكن الحرّاسَ ضَربوه بطريقة أقسى ليُجبرونه على النهوض، وما أن وصل إلى الجلجثةَ حتى سقط للمرة السابعة.
سمعان القيروانى قَدْ مُلئ بالتّذمرِ والرّحمةِ؛ على الرغم من إعيائه، رَغبَ فى البقاء رُبَما يُساعدُ يسوع، لكن الجنود شَتموه وأبعدوه، صار سمعان القيروانى بعد ذلك مسيحيا وتبع التلاميذ. أمر الجلادون العُمّال والأولاد الذين يحَملون آلات التّنفيذِ أَنْ يرحلوا، ووصل الفريسيون فى الحال، لأنهم كَانوا على صهوة الجيادِ، وقَدْ اَخذوا الطّريق الممهد السّهل الذي يمتد شرقِ الجلجثةِ. منظرَ مدينةِ أورشليم بالكاملِ كان يُرى من قمةِ الجلجثةِ. هذه القمةِ كَانتْ مستديرة ومحاطةَ بسور منخفضِ ولها خمسة مداخلِ منفصلةِ. إن هذا العدد كان أمراً عادياً في تلك المناطق، لأنه كانت هناك خمسة طرقُ عند الحمامات، في الموضع حيث يتعَمّدوا، في بركةِ بيت صيدا، وكان هناك أيضا عديد من المدنِ ذات خمس بوّاباتِ. من هذا، كما في عديد من الخواصِ الأخرىِ للأرضِ المقدّسةِ، كَانَ هناك مغزىَ نبويَ عميقَ؛ عددِ خمسة هذا كَانَ يرمِز إلى‏ جراحِ مُخلصنا المقدّسةِ الخمسة، التي فْتحَت لنا أبوّاب السّماءِ.
توقف الخيالة عند الجانبِ الغربيِ للجبلِ، حيث لم يكنَ المنحدر شديد الانحدار؛ لأن الجانبِ الذي أتى منه يسوع كَان وعراً وشّديد الانحدار. أنتشر حوالي مائة جندي فى أجزاءِ الجبل المختلفةِ، ولأنه كان مطلوب خلو المكان، لم يُحضر اللّصان لأعلى، بل أمروا أَنْ يَتوقّفا قبل أن يصِلوا هناك، وأَنْ يرقدا على الأرضِ وأياديهم مقيدة بصليبيهما ووقف الجنود حولهما ليحَرسوهما، بينما وقفت جموع الناس الذين لم يخشوا من تَدْنيس أنفسهم قُرْب الرّصيفَ أو على المرتفعاتِ المُجَاوِرةِ؛ هؤلاء كَانوا في الغالب من الغرباءِ من الطبقات الدنيا ومن العبيد الوثنين، وعدد منهم كَن من النِساءَ.
كانت حوالي الساعة الثانية عشر إِلا ربعاً عندما وصل يسوع لموضع الصلب. جره الجلادون البرابرة لأعلى بالحبالِ التي رَبطوها حول خصره، وبعد ذلك حَلواَّ ذراعي الصّليبِ والقوهما على الأرضِ. منظر إلهنا المباركِ في هذه اللّحظةِ كَان حقاً يُحرّكَ أقسى القلوب نحو الرحمة؛ لقد وَقفَ أو بالأحرى انحنىَ على الصليب، لكونه قادراً بالكاد أن يسندِ نفسه؛ مُحياه السّماوي كَان شاحبا كما لشخصِ على حافة الموت، على الرغم من‏ أن الجراح والدماء شَوّهته لدرجةِ مخيفةِ؛ لكن قلوبَ هؤلاء الرّجالِ القساة كَانت للأسفً! أقسى من الحديدِ نفسه، وبعيدا عن إظهار أدنى رثاء له، طرحوه أرضاً بوحشية، صائحين باسْتِهْزاءِ : " أيها الملك القدير، ها نحن عَلى وَشَكِ أَنْ نَعدَّ لك العرش " وَضعَ يسوع نفسه فوراً على الصليب، وقِاسوه ووضعوا علامات فى أماكن قدميه ويديه، بينما استمر الفريسيون فى أهانه ذبيحتهم المستسلمة. عندما انتهوا من القياس، اقتادوه إِلى مغارة منحوتة في الصّخر، كَانت تُستعملْ فى السابق كقبوِ، فَتحواَ البابَ، ودَفعوه بغاية القسوة حتى أنه لولا مساندةِ الملائكةِ، لانكسرت ساقاه بالسقوط الصّعبِ جداً على الأرض الحجريةِ. لقد سَمعتُ آهات آلامه بوضوح، ثم أغلقوا البابَ بسرعة، ووَضعوا حرّاساً أمامه، وواصل الجنود إعدادهم للصليبِ. منتصف الرّصيفِ كَانَ جزءاً أكثر ارتفاعا، كان عبارة عن ربوة مستديرة، ترتفع قدمين تقريبا، وكان على المرء أَنْ يَصْعد درجتين أو ثلاث ليَصلَ إليها. حفر الجلادون ثلاث حفر للصّلبانِ الثّلاثة في قمةِ هذه الربوة، وَضعوا صليبى اللّصين واحد على يمينِ صليب يسوع والآخرِ عن يساره؛ كان كليهما أقل ارتفاعا من صليبه. ثم حَملوا صليب مُخلصنا إِلى البقعةِ حيث نَووا أَنْ يَصْلبوه، ووَضعوه بطريقة بحيث يَسهل سْقوطه في الفتحةِ المُعدة له. رَبطوا ذراعي الصليب بقوة بالجزء الطولي، سَمّرواَ قطعة من الخشب فى الجزء السفلي من الصليب حيث ستستند القدمين، ثقبوا أماكن المسامير، وجوفوا أماكن مختلفة في الخشب في الأجزاءِ التي بها رّأس وظهر المسيح، من أجل أن يستقر جسده على الصليب، بدلاً من يَكُونُ معلّقاً منه. هدفهم من هذا لم يكن رحمة منهم بل كَان إطالةَ مدة تعذيبه، لأن لو سُمح لوزنَ الجسد بالكاملَ أَنْ يتدلى من الأياديِ لتمزقت فتحاتِ المسامير تماما ويموت بسرعة أكثر مما يريدون. ثم جلب الجلادون قِطَعاً من الخشب يستعملوها كأوتاد ليحفظوا بها الصّليب قائماً.








Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:58 PM

الفصل الخامس والأربعون
مريم والنّساء القديّسات فى الجلجثة .



مع أن العذراء المباركة كانت قَدْ حُملت بعيدا غائبة عن الوعي بعد اللقاء الحزينِ مع ابنها وهو حاَملا صليبه، إلا أنها استعادتْ وعيَها سريعا؛ لأن حبّها ورغبتها المتوهجة لرُّؤيته مرة أخرى، منحها شّعوراً خارقاً بالقوةِ. ذَهبتْ بصحبة مرافقيها إلى دارِ لعازر حيث تجمعت مارثا والمجدلية وعديد من النِّساءِ القديّساتِ مسبقا. الجميع كن حزانى ومُحبَطات، لكن المجدلية لم تتَمَكّنَ من حبس دموعها وبكائها. لقد بَدأن يسرن من هذه الدّارِ طريق الصّليبِ، بعبارة أخرى، لقد أردن أَنْ يَتْتبعن كل خطوه خطاها يسوع في هذه الرحلةِ الأكثر ألماً. حَسبَت مريم كل خطوةِ، ولَكُونُها أنَيّرتَ بشكل داخلي، أشارت إِلى مرافقيها إلى تلك الأماكنِ التي قَدْ كُرّستْ بآلام خاصة. حينئذ جاز السّيفَ الحادَّ الذى أنبأ به سمعان الشيخ فى البداية في قلبِ مريم, ذلك الولاءِ المؤثر الذى مارسته بشكل ثابت مَنحته مريم لمرافقيها، وهم بدورهم تَركوه لأجيالِ المستقبلِ، عطية ثمينة حقاً، مَُنحَت مِن قِبل إلهنا لأمه الحبيبةِ، والتى جازت من قلبها إِلى قلوبِ أولادها من خلال صّوتِ التّقليد.
عندما وَصلن النِّساءِ القدّيساتِ إلى دار فيرونيكا دَخلنه، لأن بيلاطس وضبّاطه كَانوا في ذلك الوقت يمرون خلال الشّارعِ، فى طريقهم للرجوع. لقد انفجرن باكيات عندما رأين وجه يسوع مطَبوعاً على الشال، وشكرن الرب على تلك العطية التى مَنحَها لخادمته الأمينة. آخذن النّبيذِ الذي منع اليهودِ يسوع من شُرْبِه، وبَدأَن معا المسير نحو الجلجثة. أزداد عددهم إلى حدٍّ بعيد، لأن عديد من الرّجال والنِّساء الأتقياء الذين ملأتهم آلام إلهنا بالرّحمةِ قَدْ انضموا إليهن، وارتقوا ‏الجانبَ الغربيَ للجلجثةِ، حيث المنحدرِ هناك لم يكنَ عظيما. أم يسوع برفقةَ ابنه أختها، مريم أبنه كلوبا ويوحنا وسالومه ذَهبن لحدود الرّصيفِ المستديرِ؛ لكن مرثا ومريم التى لهالى وفيرونيكا ويوحانان وخوزي وسوسنا ومريم أمّ مرقص بَقين مع المجدلية، التي استطاعت أَنْ تسند نفسها بصعوبة.
أسفل الجبلِ كانت هناك مجموعةَ ثالثة من النِّساءِ القدّيساتِ، وكان هناك بعض الأفرادُ المُبَعثَرين بين المجموعاتِ الثّلاث، كانوا يحَملون الرسائل من مجموعة إِلى الأخرِى. الفريسيون الذين يمتطون الجيادِ كانوا يجولون ذهاباً وإيابا بين الشعبِ، وكانت المداخل الخمسة بحراسة الجنودِ الرّومان. ثبتت مريم عينيها على بقعةِ الصلب، ووَقفتْ وكأنها مسلوبة القلب، لقد كان حقاً منظر يُروّعَ ويُمزّقَ قلب أى أمِّ. كان هناك الصليب الرهيب‏، المطارق، الحبال، المسامير، وبمحاذاة آلاتِ التعذيب المخيفةِ هذه وَقف الجلادون المتوحشون، نصف سكارى وتقريباً بلا ملابس، يلعنون ويجدفون، بينما يعدون أنفسهم. ازدادتْ آلام العذراءِ المباركةِ بشّدة لكونها لم تكن قادرة على رؤية ابنها؛ عَرفتْ أنّه ما زالَ حياً، وشَعرتْ برغبة متوهجة فى أَنْ تَنْظره مرة أخرى، بينما التفكيرَ فى العذابِ الذى ما زالَ عليه أَنْ يَتحمّلَه جعِلَ قلبها يفيض بالأسىِ.
كان قليل من الندى قد سْقط خلال بعض أوقات الصّباح، لكن الشّمسَ أشرقت بعد العاشرة، وضباب أحمر كثيف بَدأَ يحجبها نحو الثانية عشرَ.











Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:58 PM

الفصل السادس والأربعون
تسمير يسوع على الصّليب



ذهب أربعة جنود إلى المغارة حيث حبسوا يسوع وجروه خارجاً بوحشيتهم المعتادة، بينما الغوغاء ينظرونه ويُهينونه بإهانات بالغة، والتزم الجند الرّومان الحياد، ولم يفكّروا فى شيء سوى بإصدار الأوامر. عندما اقتيد يسوع ثانية، أعطت النّساء القديّسات رجل بعض المال، وناشدنه أن يقدم للجنود أي شئ يطلبوه إن سمحوا ليسوع أن يشرب النّبيذ الذي أعدته فيرونيكا؛ لكن الجنود القساة، بدلا من أن يعطونه ليسوع، شربوه هم.
كان مع الجنود إناءان، إحداها يحتوى على خل ممزوج بالمر، والآخر خليط من نّبيذ الممزوج بالمرّ والحنظل؛ فقدموا قدح من الخمر الممزوجة ليسوع، الذي بعد أن تذوقه، لم يشاء أن يشرب منه.
كان هناك ثمانية عشر جندياً فى موضع الصلب؛ السّتة الذين جلدوا يسوع، الأربعة الذين اقتادوه إلى الجلجثة، اثنان حملا الحبال التي دعمت الصليب، والستة الآخرون جاءوا لغرض صلبه. كانوا يختلفون عن اليهود أو الرومان؛ كانوا رجالا قصار القامة، ذوى مظهر شرس، بالأحرى يشبهون الوحوش، وهم الذين نفذوا عملية الصّلب.
هذا المشهد رأيته بصورة مخيفة برؤية الشّياطين، التى كانت غير ظاهرة للآخرين، رأيت أجساماً كبيرة من الأرواح الشّريّرة تحت أشكال ضّفادع وثعابين وتنانين وحشرات سامّة، يحثونّ هؤلاء الرّجال الأشرار على أن يكونوا بأعظم قسوة، واظلموا الهواء تماما. زحفوا في أفواههم وقلوبهم، جلسوا على أكتافهم، ملئوا أذهانهم بصّور شّريرة، وحرّضوهم على أن يشتموه ويهينوه بكل وحشية.
وقفت الملائكة الباكية حول يسوع، ومنظر دموعهم واساني قليلاً، وقد رافقتهم ملائكة المجد. كانت هناك أيضاً ملائكة الرّحمة وملائكة التّعزية التى كانت تقترب من العذراء المباركة بشكل متكرر ومن بقية الأشخاص الأتقياء الذين تجمّعوا هناك، وهمسوا بكلمات الرّاحة التي مكّنتهم من أن يتحمّلوا الموقف بثبات .
فى الحال نزع الجنود عباءة يسوع والحزام الذي رُبطت به الحبال وحزامه الخاص، عندما وجدوا أنه من المحال أن ينزعوا رداءه الصّوفي الذي كانت أمه قد نسجته له من على رأسه، بسبب تاج الشّوك؛ مزّقوا التاج المؤلم وهكذا تفتحت كل جراحه من جديد، واستولوا على الرداء. وقف إلهنا الحبيب ومُخلصنا عارياً أمام أعدائه القساة إلا من سترة قصيرة كانت على كتفيه، والملابس الكتانية التي تستر عريه. رداؤه الصوفي كان قد التصق بالجراح، ومن المتعذر وصف آلامه عندما نزعوه عنه بالقوة. لقد ارتجف من الألم، لقد كان بغاية الضعف والألم من نزف الدّم حتى أنه لم يتمكّن من أن يسند نفسه أكثر من بضع لحظات؛ لقد تغطّى بالجراح المفتوحة، وكتفاه وظهره قد تمزّقا حتى العظام من الجلد المخيف الذى ناله. لقد كان على وشك أن يسقط عندما أقتاده الجنود إلى حجر كبير وأجلسوه عليه بقسوة، خوفاً من أن يموت، وهكذا يحرمهم من مسّرة صّلبه، لكن ما أن أجلسوه حتى جددوا آلامه بوضع تاج الشّوك ثانية على رأسه. ثم قدموا بعض الخلّ الممزوج بالمر، لكنه لم يشأ أن يشرب واستدار في صّمت.
لم يسمح له الجنود أن يستريح طويلاً، بل أنهضوه ووضعوه على الصّليب الذي سيسمّرونه عليه. ثم أمسكوا بذراعه اليمين وسحبوها حتى الفتحة المعدة للمسمار، وأوثقوها بأحكام بحبل، جثا واحد منهم على صدره، بينما أمسك آخر بيدّه ليجعلها مفتوحة، والثالث أمسك بمسمار غليظ وطويل، غرزه فى راحة يده المفتوحة، التي كانت دوما مفتوحة لتمنح البركات والحسنات لليهود الجاحدين، وبمطرقة حديدية عظيمة جعله يخترق راحة يده وينفذ خلال الفتحة المُعدة من قبل في خشبة الصليب. تأوه يسوع بآهة واحدة عميقة مكتومة، وتدفق دمه وانتثر على أيدي الجنود. كانت المسامير كبيرة جدا، رّؤوسها بحجم قطعة النقود، وسّمكها كسمك إبهام الرجل.
وقفت العذراء المبارك ساكنة؛ من وقت لآخر يُسمع منها صوت أنين حزين؛ بدت كما لو أنها تغيب عن الوعي من الأسى، والمجدلية كانت بجانبها .
بعدما سمر الجنود يدّ يسوع اليمنى، أدركوا أنّ يده اليسرى لن تصل إلى الفتحة التى أعدوها مُسبقاً لنفاذ المسمار فيها، لهذا ربطوا ذراعه اليسرى بالحبال، ودعموا أقدامهم فى الصليب، شدوا اليد اليسرى بقسوة حتى وصلت المكان المُعد لها. هذه العملية المخيفة سبّبت ليسوع آلاماً يتعذر وصفها، صدره ارتفع، ساقاه تقلّصتا تماما. جثوا ثانية فوقه، أوثقوا ذراعيه، وسمروا المسمار الثّاني في يده اليسرى؛ تدفق دمه ثانية، وآهاته الضّعيفة سُمعت أكثر من مرة بين ضربات المطرقة، لكن لا شيء كان ممكن أن يحرّك قلوب هؤلاء الجنود القساة. هكذا امتدّت ذراعا يسوع، لم تعدا تغطّيان ذراعي الصّليب، اللتان كانتا منحدرتين وكان هناك فراغ واسع بينها وبين إبطيه.
كل عذاب وإهانة وقعت على يسوع سبّبت آلاماً جديدة لقلب أمه المباركة؛ لقد صارت شاحبة كجثة، بل أن الفريسيون سعوا لزيادة آلامها بكلمات وإيماءات مهينة، فأخذها التلاميذ إلى مجموعة من النساء التقيات اللاتي كن يقفن على بعد قليل .
ثبت الجنود قطعة من الخشب فى الجزء السفلي من الصّليب حيث ستُسمر قدما يسوع، لأن ثقل جسده لن تتحمله ثقوب راحة يديه، وأيضاً لكى تمنع كسر عظام قدميه عندما تسمّر على الصّليب. كانت هناك فتحة مُعدة فى الخشبة لينفذ فيها المسمار بعدما ينفذ من قدميه، وكان هناك أيضاً مكان صغير مجوف لأجل عقبيه, هذه التدابير الوقائية‏ قد اتخذت خشية أن تتمزق جراحه وتنفتح من قبل ثقل جسده، ويموت قبل أن يعانى كل التّعذيب الذي تمنّوا أن يروه وهو يُقاسيه على الصليب.
جسد يسوع بالكامل قد سُحب لأعلى، وتقلّص من الطريقة العنيفة التي مددّ بها الجنود ذراعيه، وركبتاه تقلصتا لأعلى؛ لهذا فردوها وقيدوها لأسفل بالحبال بإحكام؛ لكن سريعاً أدركوا أن قدميه لن تصلا لقطعة الخشب التي وضعوها لتستقر القدمان عليها وصاروا غاضبين. اقترح بعضهم عمل فتحات جديدة للمسامير الخاصة بيديه، لأنه ستكون هناك صعوبة في إزالة قطعة الخشب، لكن الآخرين لم يتوقفوا وصاحوا : " أنه لن يمدّ نفسه لكننا سنساعده " ورافقت هذه الكلمات الأقسام واللّعنات، وبعد ما ربطوا حبلاً بساقه اليمنى، سحبوها بقسوة حتى وصلت للخشبة، وبعد ذلك ربطوها بإحكام. الآلام التى جازت على يسوع من هذا الشد العنيف لمن المتعذر وصفها؛ " إلهي، إلهي " أفلتت هذه الكلمات من شفاهه، وزاد الجنود من ألمه بربط صدره وذراعيه بالصليب، خشية أن تتمزق الأيادي من المسامير. ثم ثبتوا قدمه اليسرى بقدمه اليمنى، جاعلين أولاً فتحة فيهما بمثقاب, لأنهم لم يستطيعوا أن يضعوهما بمثل هذا الوضع ليسمّرا معاُ. بعد ذلك اخذوا مسماراً طويلاً جدا وأنفذوه بالكامل فى كلتا القدمين وفي الصّليب، لقد أحصيت على الأقل ستة وثلاثون ضربة من المطرقة.
خلال فترة صّلب الرب لم يتوقّف يسوع عن الصلاة، وترديد فقرات من المزامير التي كان يرددها، مع ذلك, من وقت لآخر كان يُسمع أنين ضعيف بسبب زيادة الألم. بهذه الطريقة كان الرب يصلّى عندما كان يحمل صليبه، وهكذا استمرّ يصلّي حتى موته. سمعته يردد كل هذه الّنبوءات وكرّرتها بعده .
عندما انتهى صلب يسوع، أمر قائد الجنود الرّومان أن تُسمر اللوحة التى أمر بها بيلاطس على قمة الصّليب. أثار هذا سخط الفريسيون، وأزداد غضبهم من سخرية الجنود الرّومان، الذين أشاروا إلى ملكهم المصلوب؛ لذا تعجّل الفريسيون فى الرجوع إلى أورشليم وقد قرروا أن يبذلوا أفضل مساعيهم ليقنعوا الحاكم أن يسمح لهم أن يستبدلوا اللوحة بلوحة أخري.
كانت الساعة حوالي الثانية عشر والربع عندما صلب الرب يسوع؛ وفي اللحظة التى أرتفع فيها الصّليب، دوّت أبواق الهيكل، التي كانت تدوي دائما لتعلن عن ذبح حمل الفصح.










Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:59 PM


تأمل الرب يسوع


انظرْوا بأية قسوةِ التف حولي هؤلاء الرّجالِ القساة. بعضهم جذب الصّليبِ ووضعوه على الأرضِ؛ الآخرون يُمزّقونَ ملابسي المُلتصقة بجراحي فانفتحت مرة أخرى فتفجرت الدماء منها.
انظروا يا أبنائي الأحباء، بأي خجل وخزي عانيت برُؤيةَ نفسي بهذه الطّريقةِ أمام هذه الحشود الهائلة ِ....أى ألم تجرعته نفسي ؟!
الجلادون يُنزعون ردائي ويلقوا قرعَة علية؛ هذا الرداء كثيرا ما غَطّتني به أمي بكثير من العنايةِ خلال طفولتي، وقَدْ نَما مع نموي. ماذا ستكون أحُزانَ أمي عندما تَتأمّلَ هذا المشهدِ؟ كم كَانتْ ستَرغب أَنْ تَحْتفظَ بذلك الرداءِ، إنه ملوّث الآن ومشبع بدمائي.
لكن السّاعةَ قَدْ حانت ومددني الجلادون على الصّليبِ، أمسكوا ذراعيّ وجذبوهما كى يَصلا للثقوب المُعدة فيه من قبل. كل جسدي تَمزق، لقد تلويت من جانب لآخر وأشواك إكليل الشوك اَنغرست بصورة أعمقَ في رأسي. أصغْوا إلى الضّربةِ الأولىِ للمطرقةِ التي سَمّرتَ يديّ اليمني...أن صوتها يَدوّي حتى أعماقِ الأرضِ.... أصغوا أكثر ... ها هم يُسمّرونَ يدى اليسرى، أمام مثل هذا المنظرِ، ارتعدت السّماوات، وطرحتُ الملائكة نفسهما. لقد اَحتْفظُت بأعمق صّمتَ. لا شكوىُ، ولا أنينُ أفلت من شفاهي، لكن دموعي اَختلطُت بالدّماءِ التى غَطت وجهي.
بعد ما سَمّروا يديّ، جذبوا قدمّي بقسوة... تَفْتحتُ جراحي، تمزقت أعصاب يديّ وذراعيّ، تَخْلعت العظام... أن الآلام لرهيبة! قدماي تُسمّرتاُ ودمي تخلل الأرضَ!....
تأمّلْوا للحظةِ هذا الدّمِ الذى لَطّخَ الأياديَ والأقدامَ ....تأمّلْوا هذا الجسدِ العاريِ، هذا الجسد المُغَطّى بالجراحِ والعرق والدم والأوَساّخْ .... تأملوا هذه الرّأس المثقوبة بالأشّواكِ الحادّةِ، المنقّوعة في العرقِ، المملوءة بالترابِ والمُغَطاة بالدّمِاء .
تعجبوا من الصّمتَ، تعجبوا من الصّبر والخضوع الذي قْبلُت به كل هذا الآلام. من الذى تألم بمثل هذا، من الذى ضحى بمثل هذا الإذلالِ؟ إنه ابن الإله! إنه من صنع السّماوات، إنه من أوجد الأرض والبحار، إنه من صنع كل الموجودات .... أنه خاَلقَ الإنسان، أنه من ثبّت المسكونة بقدرته الأزلية... أنه هناك بلا حراك, مُحتَقَراًُ، عارياً، وستتبعه حشود من النفوس التى ستَتْركُ من أجله الممتلكات الدنيوية، سيتركون من أجله العائلة والأوطان، سيتركون الكرامة ومحبة الذات، سيتركون مجد العالم وكل ما هو ممكن أَنْ يَكُونَ ضروري, وسيتبعونه كى يَعطوه المجد ويُظهروا له الحبّ الذى يُكنوه له
تفطني يا ملائكة السماء، وأنتم أيضاً يا أحبائي ... ها هم الجنود سيقلبون الصّليب على ظهره، ليثبّتوا المسامير حتى لا تنخلع بتأثير ثقل جسدي مما قد يؤدى إلى أن أسقط. ها هو جسدي سيعطي الأرض قبلة السّلام الآن. وبينما كان صوت المطارق يدوى خلال الفضاء الخارجي، اكتمل عند قمة الجلجثة المشهد الأكثر من رائع .... وبناء على طلب أمي التي عايشت كل ما كان يَحْدثُ وبَكُونهاُ كانت عاجزة عن أَنْ تُعطيني الراحة، التمست الرحمةَ من أبي السّماوي.... َنْزلت طغمات من الملائكةِ كى تُمجّدَ جسدي، وكي تبقيه هكذا كى لا يَمْسُّ الأرض، لتجنّبهَ أن ينَسْحق تحت ثقل الصّليبِ.
تأمّلواْ يسوعكَم، مُعلقاً على الصّليبَ، عاجزاً عن القيام بأدنى حركة... عارياً، بلا سمعة، بلا شرف، بلا حرية... لقَدْ سلبوا منه كل شيء! لم يكن هناك من يشفق عليه ويَشْعرُ بالآسف لآلامه! أنه فقط من يتلقى العذاب والسخرية والهزء! إن كنتم تَحْبونّني حقاً، فهَلْ سَتَكُونونُ مستعدينَ أنْ تقتدوا بى؟ ما الذى سَتَرْفضُونه كى تُطِيعوني، كى تُسروني وتَواسوني؟ اطرحوا ذواتكم على الأرض ودعوني أُقول لكم بضع كَلِماتَ: ليت مشيئتي تملك عليكم! ليت محبّتي تسحقكم ! ليت آلامكم تُمجّدني!



Magdy Monir 07 - 11 - 2012 04:59 PM

الفصل السابع والأربعون


نصب الصّليب



عندما انتهى الجنود من صلب يسوع، ربطوا الصليب بالحبال، وثبتوا نهايات هذه الحبال حول دعامة ثبّتت بشكل قوي في الأرض علي بعد قليل، وبهذه الحبال نصبوا الصّليب. البعض منهم سندوه بينما دفع الآخرون قاعدته نحو الحفرة المعدّة لتثبيته, سقط الصليب الثّقيل في هذه الحفرة بصدمة هائلة، تأوه يسوع بصرخة واهنة، وتمزّقت جراحه بطريقة مخيفة وتفجرت دمائه ثانية، وعظامه النّصف مخلوعة أحتك بعضها ببعض. دفع الجنود الصّليب ليجعلوه بشكل شامل في الفتحة، وجعلوه يتأرجح ليغرسوا خمسة أوتاد ليثبتوه .
منظر رهيب، لكن في نفس الوقت مؤثر أن تنظر الصّليب منتصباً في وسط حشد عريض من الأشخاص الذين تجمّعوا جميعاً حوله؛ لم يكن هناك الجنود والفريسيين المفتخرون وغوغاء اليهود القساة فقط، بل كان هناك أيضاً غرباء من كل الجهات.
لقد رددوا فى الفضاء هتافات ونّداءات سّاخرة عندما نظروا الصليب مرتفعاً عالياً، الذى بعدما تأرجح للحظة في الجو، سّقط بصدمة عنيفة في الفتحة التى أُعدت له في الصّخور. لكن دوّت فى الفضاء في نفس اللّحظة كلمات الحبّ والشّفقة؛ وهذه الكلمات والأصوات صدرت من الكلية القداسة, مريم العذراء, ويوحنا والنّساء القديّسات وكل أنقياء القلب, لقد ركعوا ومجّدوا الكلمة الذى صار جسداً مسمّراً على الصّليب؛ مدّوا أياديهم كما لو إنهم يتوقون أن يٌعينوا قدّوس القديسين، الذي نظروه مسمّراُ على الصّليب. لكن عندما سُمع صّوت سقوط الصّليب في الفتحة المعدةّ له في الصّخر، ساد صمت رهيب، امتلأ كل قلب بشعور غامض من الرّهبة والحنو لم يحدث أن جُرّب من قبل مطلقا، ولا يستطيع أحد أن يصفه حتى لنفسه؛ كل سجناء جهنم ارتجفوا بالرّعب، ونفّسوا عن تهيّجهم بالسعي إلى تحريض أعداء يسوع أن يواصلوا غضبهم ووحشيتهم؛ النفوس التى في عالم الانتظار امتلئوا بالبهجة والأمل، لأن الصّوت كان بالنسبة لهم بشير السعادة، مقدمة لظهور مُحررهم. هكذا زٌرع الصّليب المُبارك لإلهنا لأول مرة على الأرض؛ وجيّداً أن نقارنه بشجرة الحياة التى في الفردوس، لأن جراح يسوع كانت كينابيع مقدّسة، يتدفّق منها أربعة أنهار تستطيع أن تنقّي العالم من لعنة الخطيئة، وأن تعطيه خصوبة، لكي ينتج ثمار الخلاص.
الربوة التى غُرس الصّليب عليها كانت تعلو حوالي قدمين عن الأجزاء المحيطة بها؛ كانت قدمي يسوع قريبة من الأرض بما يكفى لأحبائه أن يصلوا إليها ليقبّلوها، ووجهه كان يتجه نحو الشمال

Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:00 PM

الفصل الثامن والأربعون
صلب اللّصين


خلال وقت صلب يسوع، تُرك اللّصان راقدين على الأرض على مسافة قليلة؛ أياديهم مقيدة، ووقف بقربهما بعض الجنود. الاتهام الذي كان قد ثبت ضدهم أنهما اغتالا امرأة يهودية كانت مسافرة مع أطفالها من أورشليم إلى يافا. وكانا قد سجنا لوقت طويل قبل أن يُحاكما. اللّص الذى وُضع على الجانب الأيسر كان أكبر سناً بكثير من الآخر وكان يُدعى جيماس؛ لقد كان أثيماً مُحترفاً، وهو الذي افسد الأصغر الذى كان يدعى ديماس وهو اللص اليمين. كلاهما كانا ينتميان إلى عصابة من اللّصوص التى روعت تخوم مصر؛ وكانا يسكنان مغارة عندما كانت العائلة المقدسة هاربة إلى مصر، في وقت مذبحة الأطفال. الطّفل المسكين المصاب بالبرص، الذي برأ فى الحال بمجرد أن غُمر في الماء الذي كان قد استخدم لاستحمام الطفل يسوع، لم يكن سوى ديماس هذا، ومحبة أمّه، باستقبال وإكرام العائلة المقدّسة، قد كوفئ بعلاج طفلها؛ بينما كانت هذه التّنقية الخارجية رمزاً للتّنقية الدّاخلية التى تحققت بعدئذ في نفس ديماس على جبل الجلجثة، من خلال ذلك الدّم المقدّس الذي كان يُراق حينئذ على الصّليب لأجل فدائنا. لم يكن ديماس يعرف شيئاً على الإطلاق عن يسوع، لكن لأن قلبه لم يكن قاسياً، منظر الصّبر الهائل ليسوع أثر فيه كثيراً.
عندما أتم الجنود رفع صليب يسوع، أمروا اللّصين أن ينهضا بلا تأخير، وحلّوا قيودهم من أجل أن يصلبا فى الحال، لأن السّماء صارت مُكفهرة جدا مُنذرة باقتراب زوبعة. بعد إعطائهما بعض المرّ والخلّ، نزعوا لباسهما وربطا الحبال حول أياديهم، وبمساعدة سّلالم صّغيرة جروهما إلى أماكنهما على صّليبيهما. ثم قيد الجنود أياديهم إلى الصليبين بالحبال، وقيدوا رسغيهما وكوعيهما وركبهما وأقدامهما أيضاً، جذبوا الحبال جدا حتى تكسرت مفاصلهما وتدفق الدم منها وصرخا بصرخات حادة، واللص اليمين صاح بينما كانوا يجذبونه لأعلى " أن هذا العذاب لمخيف، لكن إن كانوا عاملونا كما عاملوا هذا الجليلى المسكين، لكنا هلكنا منذ فترة طويلة."
قسّم الجنود ملابس يسوع، من أجل أن يجروا قرعة بينهم؛ عباءته، وردائه الأبيض الطّويل والحزام والثوب الداخلي الذي تشبع بالكامل من دمه المقدّس. ولأنهم لم يتفقوا من سيصبح مالك العباءة التى نسجتها أمه والتى بلا خياطة والتى لا يمكّن أن تُقطّع وتُقسّم، أحضروا ما يشبه رقعة الشطرنج مرسومة بأشكال، وكانوا على وشك أن يلقوا قرعة، عندما أعلمهم رسول، مُرسل من قبل نيقوديموس ويوسف الرامى، أن هناك من يريد أن يشترى كل ملابس يسوع؛ حينئذ جمّعوا كل ثيابه وباعوها كلها معا وهكذا تملك المسيحيون هذه الآثار المقدَّسة‏ الثّمينة.

Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:01 PM

الفصل التاسع والأربعون


يسوع مُعلق على الصّليب بين لّصين




الهزّة الهائلة التى سببها سقوط الصّليب في الفتحة المُعدّة له جعلت الحواف الحادّة لتاج الشّوك، الذى كان ما زال على رأس مُخلصنا الحبيب، تنغرس بصورة أعمق في جسده المقدّس، وسال الدم لأسفل ثانية من رأسه ومن يديه وقدميه. ثم وضع الجنود سلالم على الصليب وصعدوا عليها وحلّوا الحبال التي كانت تقيد يسوع بالصليب .
دمه كان قد صار، بدّرجة معينة، راكدا فى موضعه الأفقي من ضغط الحبال، لكن عندما حلٌت الحبال، استأنف دمه جريانه المعتاد، وتسبّب حل الحبال فى ألام من جراحه الغير معدودة، حتى أنه أحنى رأسه، وبقى كما لو أنه ميت لأكثر من سبع دقائق. أنشغل فيها الجنود بتقسيم ملابسه؛ أبواق الهيكل لم تعد تدوّي؛ وكل فاعلي هذه المأساة المخيفة بدوا منهكين من الجهود التى بذلوها ليتمموا مهمتهم الشّريرة، وابتهج اليهود لنجاحهم أخيرا في جلب الموت إلى من حسدوه طويلا.
بمشاعر مختلطة من الخوف والشّفقة وجهت عيناي نحو يسوع، يسوع فاديّ، مُخلص العالم. رأيته ساكناً، بلا حياة تقريبا. شعرت كما لو أنى أنا نفسي يجب أن أنتهي؛ غُمر قلبي بالأسى والحبّ والفزع؛ فكرى كان نصف تائه، يداي وقدماي مشتعلتان بحرارة محمومة؛ كل عروقي وأعصابي وأطرافي أجهدت بألم متعذر وصفه؛ لم أر شيء بشكل متميّز، باستثناء عريسي الحبيب مُعلقاً على الصّليب. تأمّلت مُحياه المشوّه، رأسه المطوّق بتّاج الشّوك، فمه جَاف‏ ونصف مفتوح من الإعياء، شعر رأسه ولحيته مُلبد بالدّم. صدره مُمزّق ومجروح من ضربات العصي، كوعيه ورسغيه وكتفيه متورمين بشدة وتخلعوا تقريبا؛ يسيل الدم بشكل ثابت لأسفل من الجراح المفتوحة في يديه، واللّحم قد تمزّق عن ضلوعه التي كان ممكن إحصائها. ساقاه وفخذاه، مثل ذراعيه أيضاً، قد شُدت تقريبا حتى الخلع، اللّحم والعضلات بالكامل متعرّية حتى أن كل عظمة كانت مرئية، وجسده بالكامل تغطّى بجراح متضرَّجة بالدم‏. الّدم الذي تدفّق من جراحه كان في بادئ الأمر أحمر، لكنه اصبح خفيف ومائي، وكل مظهر جسده كان مظهر جثة جاهزة للدّفن. ومع ذلك، على الرغم من الجراح المروّعة التي تغطّى بها، على الرغم من حالة العار التي قد آل إليها، كانت ما زالت هناك تلك النّظرة المتعذر وصفها, نظرة النبل والطّيبة التي ملأت كل المشاهدين بالرّهبة.
وُضع صليبا اللّصين واحد على يمين صليب يسوع والآخر على يساره؛ كانت هناك مسافة كافية متروكة لراكبي الخيول ليجولوا بينهم. مظهر اللّصين على صليبيهما كان من الصعب تخيله؛ لقد عانا بشدة، والذي على الجانب الأيسر لم يتوقّف عن اللعن والسب. الحبال التي قُيدا بها كانت ضيّقة جدا، وسبّبت لهما آلاماً عظيمة؛ منظرهما كان شاحباً، وأعينهم ملتهبة وعلى وشك أن تُقتلع من محاجرها. علو صليبي اللّصين كان أقل بكثير من علو صليب يسوع .

Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:01 PM

الفصل الخمسون


كلمات يسوع على الصّليب


إظلام الشّمس




ما أن أنتهي الجنود من صلب اللّصين وتقسّيم ملابس يسوع بينهم، حتى جمّعوا أدواتهم ووجهوا بضع كلمات مُهينة إلى الرب يسوع وذهبوا. أنطلق الفريسيون أيضاً إلى يسوع ونظروا إليه باحتقار، وتكلموا ببعض التّعبيرات المخزية، وبعد ذلك تركوا المكان. رحل الجنود الرّومان، الذين كان مائة منهم يحيطون بالجلجثة، وجاء مكانهم خمسون آخرين، تحت قيادة ابن ادار، العربي المولد، الذي اخذ بعد ذلك اسم كتسيفون في المعمودية؛ والثّاني في القيادة كان كاسيوس، الذي أصبح مسيحيا وُعرف باسم لونجينوس؛ وقد استخدمه بيلاطس بشكل متكرر كرسول. سعى اثنا عشر فريسيا واثنا عشر من الصدوقيين وعديد من الكتبة وبضع شيوخ إلى بيلاطس ليقنعوه بتغييّر اللوحة التى وُضعت على صليب يسوع، جاءوا الآن غاضبين لأن الحاكم الرّوماني رفض مطلبهم. انطلقوا حول الموضع وعندما عبروا بجوار صليب يسوع هزّوا رؤوسهم بازدراء‏ صائحين : " يا هادم هيكل الرب وبانيه في ثلاثة أيام، أنقذ نفسك, انزل عن الصّليب. فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصّليب، حتى نرى ونؤمن " استهزأ الجنود أيضاً منه .
وجه يسوع وكل جسده أصبح أكثر شحوباً: بدا على وشك أن يفقد الوعي، وجيماس اللّص الذى على يساره صاح "إن الشّيطان الذي بداخله على وشك أن يتركه" حينئذ أخذ جندي إسفنجه وملأها بالخلّ، وضعها على قصبة وقدّمها إلى يسوع، الذي بدا أنه يشرب. حينئذ قال له الجندي " إن كنت أنت ملك اليهود، أنقذ نفسك وانزل عن الصّليب " حدثت هذه الأمور خلال الفترة التي كانت تُستبدل فيها فرقة الجنود الأولى بفرقة ابن ادار. رفع يسوع رأسه قليلاً وقال : "أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون. " وصرخ جيماس : " إن كنت أنت المسيح، أنقذ نفسك وإيانا " ديماس اللّص الذى على اليمين ظل صامتاً، لكنه تأثر بعمق من صلاة يسوع من أجل أعدائه.
عندما سمعت العذراء مريم صوت ابنها، لم تستطع أن تمنع نفسها، أسرعت للأمام وتبعها يوحنا وسالومه ومريم التى لكلوبا، واقتربوا من الصّليب، حيث لم يمنعهم القائد الروماني العطوف.
أعطت صلوات يسوع اللّص الذى على اليمين نعمة أكثر قوة؛ فتذكّر فجأة أنه يسوع ابن مريم الذي شفاه من البرص في طفولته وصاح بصوت عال وواضح فى زميله :" كيف تهينه هكذا بينما يصلّي هو من أجلك؟ لقد كان صامتاً، وعانى كل إساءتك بصّبر؛ إنه حقا نبياً, إنه ملكنا, إنه ابن الرب. " سبّب هذا التّأنيب الغير متوقّع من شفاه شرير بائس على وشك أن يموت على الصليب اضطراباً كبيراً بين الموجودين؛ فجمّعوا حجارة، ورغبوا أن يلقوها عليه؛ لكن ابن ادار القائد الروماني لم يسمح لهم بذلك.
واست صلاة يسوع العذراء المباركة كثيراً وقوّتها، وقال ديماس لجيماس، الذي كان ما زال يجدف على يسوع " ألا تخاف الرب، ها أنت تحت نفس الإدانة. ونحن نُعاقب بعدل، لأننا ننال نظير أعمالنا؛ لكن هذا الرجل لم يفعل شراً. تذكّر أنك الآن على وشك الموت وتب " لقد استنار وتأثر واعترف بآثامه إلى يسوع وقال : " إلهى، إن أنت أدنتني فذلك سيكون بعدل. " فأجابه يسوع " إنك ستختبر رحمتي" . بدأ ديماس فى الحال وقد امتلأ بالنّدم، يشكر الرب لأجل النّعم العظيمة التى نالها، وتأمل فى الآثام التى اقترفها فى حياته الماضية.
كل هذه الأحداث حدثت بين الثانية عشرة والثانية عشرة والنّصف بعد الصّلب بقليل؛ لكن حدث تغيير عجيب فى مظهر الطّبيعة أدهش الحاضرين وملأ فكرهم بالرّهبة والرّعب.
كان قليل من البرّد قد سقط حوالي الساعة العاشرة، عندما كان بيلاطس يُجيز العقوبة، وصفا الجو بعد ذلك حتى نحو الثانية عشر، حيث بدأ ضباب كثيف محمر يحجب الشّمس. نحو السّاعة الثانية عشر أظلمت الشّمس فجأة.
لقد كُشف لى السّبب لهذه الظّاهرة؛ لكنى على نحو يؤسَف له‏ نسيته جزئياُ، والذي لم أنسه لا أستطيع أن أجد الكلمات لأعبر عنه؛ لكنى أستطيع القول بأنني قد أُصعدت من الأرض، ونظرت النّجوم والكواكب تتحرّك حول مداراتها الصّحيحة. ثم رأيت القمر مثل كرة هائلة من النّار تتدحرج كما لو أنها تطير من الأرض. ثم عدت فجأة إلى أورشليم، ورأيت القمر يظهر ثانية وراء جبل الزّيتون، يبدو شاحباً وكاملاً، وتقدّم بشكل سريع نحو الشمس, التي كانت معتمة ومُلبدة بالضباب. رأيت في شرق الشّمس جسماً مظلماً كبيراً له مظهر الجبل، والذي أخفى الشّمس بالكامل فى الحال. صارت السّماء أكثر ظلمة وظهرت النّجوم تسكب نوراً أحمر بشعاً. كل من الإنسان والحيوان أصيبوا بالرّعب؛ توقف أعداء يسوع عن سبه، بينما سعا الفريسيين أن يقدموا أسباب فلسفية لما يحدث، لكنهم فشلوا في محاولتهم ولزموا الصمت. كثيرون استولى عليهم النّدم وقرعوا صدورهم صارخين : " ليقع دمه على قاتليه! " آخرون سواء كانوا قرب الصليب أو بعيدين عنه، سقطوا على ركبهم وتوسّلوا أن يغفر يسوع لهم، أدار يسوع عينيه بحنو نحوهم في وسط آلامه. واستمرّت الظّلمة فى ازدياد، وترك الجميع الصّليب باستثناء العذراء مريم ورفاق يسوع المخلصين.
رفع ديماس رأسه حينئذ، وبنغمة متواضعة وبرجاء قال ليسوع " إلهى، تذكّرني عندما تجيء إلى ملكوتك". وأجابه يسوع " الحق أقول لك, أنك اليوم ستكون معي في الفردوس ", وقفت المجدلية ومريم التى لكلوبا ويوحنا بقرب صليب الرب يسوع ونظروا إليه، بينما توسّلت العذراء المباركة إلى ابنها، ممتلئة بالمشاعر الحبّ الأمومي الشديد، أن يجيز لها أن تموت معه، لكنه ألقي نظرة رّقيقة عليها تفوق الوصف والتفت إلى يوحنا وقال : يا امرأة، هو ذا ابنك " ثم قال ليوحنا : " ها هى ذى أمك " نظر يوحنا إلى فاديه المحتضر وحيّا هذه الأمّ المحبوبة التي اعتبرها من ذلك الوقت أمه بأسلوب بغاية التوقير. غلب الحزن العذراء المباركة من كلمات يسوع هذه فغابت عن الوعي تقريبا، وحُملت إلى مسافة صغيرة من الصّليب من قبل النّساء القديّسات.
لقد شعرت بشكل داخلي أن يسوع أعطى مريم إلى يوحنا كأمّ، ويوحنا إلى مريم كابن. فى رّؤى مشابهة كنت أشعر غالبا بالأشياء الغير مكتوبة، والكلمات ممكن أن تُظهر فقط جزء منها، أن مدلولها يكون واضحاً ولا يتطلّب أي تفسير. لهذا السبب لم أندهش لكون يسوع يدعو العذراء المباركة يا امرأة، بدلا من أن يدعوها يا أمي. لقد شعرت أنّه قصد أن يبرهن أنّها هى تلك المرأة التى تكلّم عنها في الكتاب المقدّس التي ستسحق رأس الحية، وأنه فى تلك اللّحظة قد تحقق ذلك الوعد بموت ابنها. لقد عرفت بأنّ يسوع، بإعطائها كأمّ إلى يوحنا، أعطاها أيضا كأمّ إلى كل من يؤمنون به، الذين صاروا أبناء الرب، ولم يولدوا من لّحم ومن دّم، أو من مشيئة إنسان، بل من الرب وُلدوا. لم يبدوا لي مفاجئاً أن الأكثر طُهراً، الأكثر تواضعا، والأكثر طاعة بين النّساء، التي، عندما حياها الملاك دعاها " الممتلئة نّعمة " أجابت على الفور " ها أنا آمة الرب، ليكن لي كقولك " والتى صار الكلمة فى الحال فى رحمها المقدّس جسداً، التي، عندما اعلمها ابنها المحتضر أنها ستصبح الأمّ الرّوحية لأبن آخر، أجابت بنفس الكلمات بطاعة متواضعة، وتبنت فى الحال كل أبناء الرب كأولاد لها وأخوة ليسوع المسيح. أن هذه الأمور أسهل أن تشعر بها بنعمة الرب أكثر من أن يًعبر عنها‏ بالكلمات. أتذكّر مرة قال لى فيها عريسي السّماوي " أن كل شيء يُدمغ في قلوب أولاد الكنيسة الذين يؤمنون ويترجون ويحبون "
كانت حوالي الساعة الواحدة والنّصف عندما آُخذت إلى أورشليم لأرى ما يحدث. كان السّكان هناك بغاية الرّعب والقلق؛ الشّوارع مظلمة وكئيبة، وبعض الأشخاص كانوا يلتمسون طرقهم بها، بينما الآخرون، جلسوا على الأرض ورؤوسهم مُغطاة ويقرعون صدورهم، أو يصعدون لأسطح بيوتهم، ينظرون إلي السّماء وينفجرون في بكاء مرّ. حتى الحيوانات أطلقت نداءات حزينة، واخفت نفسها؛ الطّيور طارت وحطت على الأرض. رأيت بيلاطس يتشاور مع هيرودس على حالة الانزعاج السائدة, كلاهما كان مضطربا بشدة، وتأمّلا مظهر السّماء من الشرفة التى كان يقف بها هيرودس عندما اسلّم يسوع ليُهان من قبل الرّعاع الغاضبين. صاح كلاهما : " أن هذه الأحداث ليست من السياق الشائع للطّبيعة، لابد أن يكون سببها غضب الآلهة التى استاءت من القسوة التي لاقاها يسوع الناصري" , أحاط الجنود ببيلاطس وهيرودس بينما كانا يتجهان بخطي مرتعشة متعجلة إلى قصر هيرودس. التفت بيلاطس برأسه عندما عبر جباثا التى حكم فيها على يسوع بالصلب، الميدان كان فارغاً تقريبا؛ بضعة أشخاص كانوا يرون عائدين لبيوتهم بأسرع ما يستطيعون، وآخرون يركضون ويبكون، بينما ظهرت مجموعتان صغيرتان أو ثلاث على البعد.
أرسل بيلاطس فى طلب بعض الشيوخ وسألهم عن ما تنذر عنه هذه الظّلمة العجيبة فى رأيهم، وقال إنّه يعتبرها برهاناً رهيباً عن غضب إله اليهود بصلب الجليلي، الذي كان بكل تأكيد نبيهم وملكهم وأضاف أنّه ليس عليه شيء ليلوم نفسه عليه، لأنه غسل يديه من القضية بالكامل، وأنه بهذا برئ تماما. كان الشيوخ قساة كعادتهم دوماً وأجابوا بنغمة متجهّمة، أنه ليس هناك شيء غير طبيعي فى سياق الأحداث وأنه ممكن تعليل الظلمة بسهولة من قبل الفلاسفة، وإنهم ليسوا نادمين على أي شئ مما فعلوه. على أية حال، فقد آمن عديد من الأشخاص ومن بينهم أولئك الجنود الذين وقعوا على الأرض من كلمات يسوع عندما أُرسلوا ليعتقلوه في بستان الزّيتون.
تجمّع الرّعاع أمام دار بيلاطس، وبدلا من الصياح " أصلبه، أصلبه! " الذي دوّى في الصّباح، سُمع فقط صيحات " فليسقط القاضي الجائر! ليقع دم هذا الرجل البار على قاتليه! ". كان بيلاطس منزعجاً كثيراً؛ طلب حرّاس إضافيين، وسعى أن يضع كل اللائمة على اليهود. أعلن ثانية أن الجريمة لم تكن جريمته؛ أنه لم يكن له موضوع مع يسوع، وإنهم من جلبوا له الموت على نحو ظالم، وإنه كان ملكهم ونبيهم وقدّوسهم؛ وبالتالي هم فقط المذنبون، كما يجب أن يكون واضحاً للجميع أنه أدان يسوع فقط من قبل الإكراه
عجّ الهيكل باليهود الذين كانوا مُعتزمين ذبح حمل الفصح؛ لكن عندما ازدادت الظّلمة إلى هذه الدرجة حتي أنه كان من المحال أن تُميّز شخصاً من الأخر، استولى عليهم الخوف والرعب والفزع وعبروا عن ذلك بصرخات الحزن والبكاء. سعى رؤساء الكهنة إلى أن يفرضوا السكون والهدوء. أُشعلوا كل القناديل؛ لكن الاضطراب كان يتعاظم فى كل لحظة، وبدا حنان مشلولاً تماما بالرّعب. لقد رأيته يسعي ليختبئ فى موضع وبعد ذلك في موضع آخر.
عندما تركت الهيكل، ومشيت فى شّوارع أورشليم ، رأيت أبواب ونوافذ البيوت تهتز كما لو أنها في زوبعة، مع أن الهواء كان ساكناً، وكانت الظّلمة تزداد كثافة فى كل لحظة .
الذّعر الناتج عن الظّلمة المفاجئة في جبل الجلجثة كان متعذراً وصفه. عندما بدأت، كان تشويش جلبة المطارق وصخب الرّعاع وصراخ اللّصين عند تقيدهما إلى صليبهما وأحاديث‏ الفريسيون المُهينة، وتقيم الجنود وصيحات الجنود السكارى، كان كل ذلك قد يستغرق بالكامل انتباه كل شخص، والتّغيير الذي كان يجيء تدريجياً على وجه الطّبيعة لم يكن يلاحظه أحد؛ لكن ما أن ازدادت الظّلمة حتى توقف كل صوت، وأخذ الندم والرعب يملكان على كل قلب، بينما ابتعد الحاضرون كل واحد عن الآخر وابتعدوا عن الصّليب.
تلي ذلك أن أعطي يسوع أمه إلى القديس يوحنا، وفقدت الوعي جزئياً وحُملت بعيداً لمسافة قليلة. بينما استمرت الظّلمة تزداد بصورة أكثر كثافة، الصّمت صار مّذهلاً تماما؛ بدا كل شخص فى رعب؛ نظر البعض نحو السّماء، بينما التفت الآخرون نحو الصّليب، كانوا ممتلئين بالنّدم وقرعوا صدورهم وآمنوا. مع أن الفريسيون كانوا في واقع الأمر منزعجين تماما بنفس القدر كالآخرين، إلا إنهم سعوا في بادئ الأمر أن يبدوا متماسكين لما يحدث، وأعلنوا إنهم لا يروون أي شيء غير قابل للتفسير في هذه الأحداث؛ لكن أخيرا فقدوا سلامهم وفّضلوا الصمت.
كان قرص الشّمس كان قد صُبغ بالظلمة، كان بالأحرى يشبه جبلاً عندما يُشاهد بضوء القمر ومُحاط بحلقة نارية ساطعة؛ ظهرت النّجوم، لكنّ ضّوئها كان محمراً وشاحباً؛ كانت الطّيور بغاية الفزع وحطت على الأرض؛ البهائم ارتعدت وناحت؛ خيل وحَمير‏ الفريسيون زحفت أقرب ما يمكن لبعضها البعض، ووضعوا رؤوسهم بين سيقانهم. اخترق الضّباب السّميك كل شيء.
خيم السّكون حول الصّليب. يسوع مُعلّقا عليه وحيداً؛ متروكاً من قبل الجميع، من التلاميذ والمعارف والأصدقاء، حتى أمه أبعدوها من جانبه؛ ولا شخص واحد من الآلاف الذين أغدق عليهم بالمنافع كان قريباً منه ليقدم له أدنى تّخفيف لمعاناته المرّة، نفسه كانت ملآنة بشعور متعذر وصفه من المرارة والأسى، كل شئ داخله كان كئيباً ومظلماً وبائساً. الظّلمة التي خيمت حوله كانت مجرد رمز لما انتشر داخله؛ وعلى الرغم من هذا التفت إلى أبيه السّماوي وصلّى من أجل أعدائه، مقدماً كأس آلامه لأجل فدائهم، استمرّ يصلّي كما كان يفعل خلال كل آلامه، وكرّر أجزاء من تلك المزامير التى تّنبأت عنه والتى تتحقق فيه الآن ورأيت الملائكة تقف حوله.
نظرت ثانية إلى يسوع, عريسي الحبيب, على صليبه، معذّباً ويحتضر، ومع ذلك ما زال في عزلة كئيبة. لقد تحمل في تلك اللّحظة الألم الذي لا يستطيع أن يصفه قلم، لقد شعر بذلك الألم الذي يغمر إنساناً ضعيفاً مسكيناً حُرم فى لحظة من كل تّعزية، سواء إلهية أو بشرية، وبعد ذلك يُرغم على عبور صّحراء عاصفة بمفرده، بدون أي معونة أو نور، مُدعوماً فقط بالإيمان والرجاء والمحبة.
أن آلامه كان متعذر وصفها؛ لكن من قبلها نحن استحققنا نّعمة ضرورية لنقاوم ذلك الأغراء الذى سيهاجمنا ليجعلنا نيأس في سّاعة الموت، تلك السّاعة المروِّعة‏ عندما سنشعر بأنّنا على وشك أن نترك كل ما هو عزيز علينا هنا على الأرض. عندما يفقد ذهننا الضعيف من قبل المرض قوة التّفكّير، وحتى آمالنا فى الرّحمة والمغفرة تصبح مغلّفة بالغشاوة والشك، حينئذ علينا أن نهرب إلى يسوع، نوحّد مشاعرنا بالعزلة مع مشاعر العزلة المتعذر وصفها التي تحمّلها على الصّليب، ونكون واثقين من الحصول على غلبة مجيدة على أعدائنا. لقد قدم يسوع إلى أبيه السّرمدي فاقته وهجره وأعماله، وقبل كل شيء، الآلام المرة التى سبّبتها تحمّله لها في التّكفير عن آثامنا وضعفاتنا؛ لهذا لا أحد قد وحّد نفسه بيسوع في أحضان كنيسته يجب أن ييأس في تلك اللّحظة المرعبة التى تسبق خروجه من هذه الحياة، حتى لو كان محروماً من كل بصيص الوعي والرّاحة؛ لأنه يجب أن يتذكّر حينئذ أنّ المسيحي لم يعد ملزما أن يدخل هذه الصّحراء المظلمة وحيداً وغير محمياً، لأن يسوع قد تحمل عنا بهذا الترك الذى عاناه على الصليب سواء الهجر الدّاخلي أو الخارجي ما كان ينبغى أن نشعر به فى لحظة الموت، بِناء على ذلك‏ فإنه لن يُترك ليتغلب على مشكلات‏ الموت بمفرده، أو يعانى من أن يترك هذا العالم بترك الرّوح، محروماً من التّعزية السّماوية. لهذا يجب أن نترك كل الخوف من الوحدة واليأس في الموت؛ لأن يسوع، الذي هو نورنا الحقيقي والطّريق والحق والحياة، قد سبقنا فى ذلك الطّريق الكئيب، لقد نشره بالبركات، ورفع صليبه فوقه، لمحة واحدة عليه ستهدّئ كل خوفنا.
لقد قدم يسوع وصيّته لأبيه وأورث استحقاقات موته وآلامه إلى الكنيسة وإلى الخطاة. لم تُنس نفس مُخطئة واحدة؛ لقد فكّر فى كل شخص؛ مصّلياً، أيضاً، حتى من أجل أولئك الهراطقة الذين سعوا إلى إن يبرهنوا بأنّه لكونه إلهاً فأنه لم يُعانى كإنسان. إن الصراخ الذي سُمح أن يعبر على شفاهه في علو معاناته لم يدل فقط عن زيادة الآلام التى كان يتحمّلها حينئذ، بل كانت أيضاً ليشجّع كل النفوس المبتلية التي تعترف بالرب كأبيها أن تضع حزنها بثّقة بنوية عند قدميه.
لقد كانت نحو الساعة الثالثة عندما صرخ يسوع بصوت عال : " إلوي، إلوي لما شبقتني ؟ " التى معناها " إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ " هذه الكلمات لإلهنا قطعت الصّمت المميت الذي استمرّ طويلاً؛ التفت الفريسيون نحوه، وقال واحد منهم : " ها هو ينادى إيليا " وآخر قال " فلنرى إن كان إيليا سيجيء لينجيه " . عندما سمعت مريم صوت ابنها الإلهي، كانت عاجزة عن أن تمنع نفسها أكثر، بل اندفعت للأمام، ورجعت إلى أقدام الصّليب، وتبعها يوحنا ومريم التى لكلوبا ومريم المجدلية وسالومة.
كانت فرقة من حوالي ثلاثين خيالاً من اليهودية وضواحي يافا فى طريقهم إلى أورشليم للاحتفال بالعيد، تعبر عندما كان كل شئ حول الصليب صامتاً، الجميع كانوا مملوءين بالرّعب والخوف. عندما نظروا يسوع مُعلقاً على الصليب، رأوا القسوة التى عُومل بها، وميزوا العلامات الاستثنائية لغضب الرب التي ملأت الطّبيعة، امتلئوا بالرّعب وصاحوا " لو لم يكن هيكل الرب في أورشليم، لكانت المدينة احترقت حتى الأرض لكونها آخذت على نفسها هذه الجريمة المخيفة ", هذه الكلمات التى جاءت من شفاه غرباء, بدوا كأشخاص ذوى شأن كبير, تركت تأثيراً عظيماً على الحاضرين وهمهمة عالية وصياحاً حزيناً قد سمع من كل جانب؛ تجمّع بعض الأشخاص سوية في مجموعات، مطلقين العنان لأحزانهم، ولو أن جزء من الحشد استمرّ يسب ويلعن كل من حوله.
أضطر الفريسيون أن يُظهروا نغمة أكثر تواضعا، لأنهم خافوا من عِصيان مسلَّح‏ بين الناس، لكونهم مدركين جيّداً للإثارة العظيمة الموجودة بين سكان أورشليم. لهذا استشاروا ابن أدار، القائد الروماني، واتفقوا معه أن تُغلق بوّابة المدينة، التي بجوار موضع الصليب، لمنع أى اتصال إضافي، وإنهم يجب أن يرسلوا إلى بيلاطس وهيرودس حوالي خمسمائة رجل ليمنعوا أى فرصة للتمرد، القائد الروماني، في أثناء ذلك كان يفعل كلّ ما فى قدرته ليحافظ على النظام ويمنع الفريسيون من إهانة يسوع، خشية أن يثير ذلك الناس.
بعد الساعة الثالثة بقليل بدأ النور يظهر ثانية، بدأ القمر يبتعد عن قرص الشّمس، بينما أشرقت الشّمس ثانية، ولو أن ظهورها كان خافتاً، لكونها محاطة بسّحب حمراء؛ أصبحت تدريجياً أكثر سطوعا، واختفت النّجوم، لكن السّماء كانت ما زالت كئيبة. استعاد أعداء يسوع روحهم المتغطرسة عندما رأوا النور يرجع؛ وعندئذ صاحوا : " ها هو ينادى إيليا "
كان يسوع يغيب عن الوعي تقريبا؛ لسانه كان جافاً وقال : " أنى عطشان " نظر التلاميذ إليه بأعمق تّعبير عن الحزن، أضاف يسوع " ألم تستطيعوا أن تعطوني قليلاً من الماء ؟ " بهذه الكلمات أعطاهم أن يفهموا بأنّ لا أحد كان سيمنعهم من فعل ذلك خلال الظّلمة. ملئ يوحنا بالنّدم وأجاب: " نحن لم نفكّر أن نفعل هذا يا رب " نطق يسوع ببضع كلمات أكثر، بمعنى : " إن أصحابي ومعارفي قد نسوني أيضاً، ولم يعطوني لأشرب، هذا ليتم المكتوب " هذا الإهمال قد أذاه كثيرا جدا ً" حينئذ عرض التلاميذ مال على الجنود ليأذنوا لهم أن يعطوه قليل من الماء لكنهم رفضوا، لكنهم غمّسوا إسفنجه في الخلّ الممزوج بالمر وكانوا على وشك أن يقدموها ليسوع، عندما آخذها منهم ابن ادار القائد الروماني، الذي تأثر قلبه وغمس إسفنجه فى بعض الخلّ وربطها إلى قصبة، وضع القصبة في نهاية رمح، وقدّمه ليسوع ليشرب. سمعت الرب يقول بضعة أشياء أخرى، لكنى أتذكّر فقط هذه الكلمات : " عندما سيصمت صوتي، ستُفتح أفواه الموتى"
حانت سّاعة يسوع أخيرا؛ كفاح موته قد شرع؛ انتشر العرق على كل أطرافه. وقف يوحنا عند قدم الصليب، ومسح قدمي يسوع بردائه. انحنت المجدلية بتذلّل‏ على الأرض بانسحاق تام وأسى خلف الصّليب. وقفت العذراء المباركة بين يسوع واللّص اليمين، مستندة على سالومة ومريم التى لكلوبا، وعيناها مثبّتتان على وجه ابنها المحتضر. حينئذ قال يسوع : " قد أُكمل " ورفع رأسه وصرخ بصوت عظيم " أبتاه، في يديك أستودع روحي." هذه الكلمات، التي نطقها بنبرة واضحة وعالية، دوّت خلال السّماء والأرض؛ وبعدها أنحني رأسه واسلم الروح.
لقد رأيت نفسه، بصورة تُشبه نيزك ساطع، تخترق الأرض عند موطئ الصّليب. ركع يوحنا والنّساء القديّسات ساجدين على الأرض. ثبت ابن ادار القائد الروماني عينيه بقوة على وجه يسوع، وقد غُمر بالكلية بكل ما حدث. عندما نطق يسوع كلماته الأخيرة، ارتجفت الأرض وتشققت صخرة الجلجثة، مًشكّلة هوّة عميقة بين صليب يسوع وصليب جيماس.
تردد صوت يسوع خلال كل الكون؛ وقد كسر الصّمت المهيب الذي تخلّل كل الطّبيعة. كل شئ قد تمّ. نفس يسوع تركت جسده: ملأت صرخته الأخيرة كل صدر بالرّعب. قدمت الأرض المشققة الإجلال إلى خالقها: طعن سيف الأسى قلوب أولئك الذين أحبّوه. هذه اللّحظة كانت لّحظة نّعمة لأبن ادار؛ ارتعد حصانه من تحته؛ تأثر قلبه؛ لقد كان قلبه كالصخر الصلب؛ ألقى برمحه بعيداً، قرع صدره وصرخ : " مُبارك يكون الإله العلى، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ حقا أن هذا الرّجل كان ابن الرب! " أقنعت كلماته عديداً من الجنود، التي تبعوا مثاله، وتحوّلوا أيضاً إلى الإيمان بيسوع ربا وفاديا .
اصبح ابن ادار من تلك اللّحظة إنساناً جديداً؛ مُمجداً الإله الحقيقي، ولم يعد يخدم أعدائه. أعطى حصانه ورمحه إلى ضابط اسمه كاسيوس، الذي، بعد ما خاطب الجنود ببضع كلمات، أمتطي جواده، واخذ على عاتقة السّيطرة على المكان. ترك ابن ادار حينئذ الجلجثة، وذهب إلى وادي جِيحُونَ إلى مغارات في وادي هنوم، حيث اختبأ التّلاميذ، وأعلن لهم عن موت يسوع، وذهب بعد ذلك إلى المدينة، ليلاقى بيلاطس.
ما أن أعلن ابن ادار شهادته على الملأ بإيمانه بألوهية يسوع، حتى تبعه عدد كبير من الجنود، كما فعل أيضا بعض من الموجودين، وكثير من الفريسيون قرعوا صدورهم باكين وعادوا إلى بيوتهم، بينما مزق آخرون ملابسهم وأهالوا التراب على رؤوسهم، وامتلأ الجميع بالرّعب والخوف. نهض يوحنا وأتت بعض من النّساء القدّيسات اللواتي كنّ على مسافة قصيرة إلى العذراء المباركة وأخذوها بعيدا عن الصّليب.
عندما أسلم يسوع، رب الحياة, روحه في يدي أبيه، وسمح للموت أن يملك على جسده، أرتجف هذا الجسد المقدّس وصار شاحباً جداً؛ بدت الجراح الغير معدودة التي تغطت بالدم المتجمد كعلامات داكنة؛ خداه صارا غائرين أكثر، أنفه أكثر تدبّبا، وعيناه اللذان قد حجبا بالدّم، بقيتا شبه مفتوحة. رفع رأسه المرهق، الذي كان ما زال متوّجاً بالأشّواك، للحظة، وبعد ذلك سقط ثانية في معاناة الألم؛ بينما شفاهه الجافّة والممزّقة كانت مُغلقة جزئيا وبدا لسانه دّمويا ومنتفخ. في لحظة الموت فُتحت يديه، التي كانت قد تقلّصت حول المسامير فى وقت من الأوقات، فُتحتا وعادتا إلى حجمها الطّبيعي وكذلك ذراعيه؛ جسده أصبح جثّة، وثقله بالكامل قد أُلقي على قدميه، ركبتاه انحنتا وقدماه التفتتا قليلا على جانب واحد.
ما من كلمات ممكن أن تُعبر عن أسى العذراء المباركة, عيناها منًغلقتان، شاحبة كالموتى؛ عاجزة عن أن تقف, فسقطت على الأرض، لكن النساء أقمنها سريعاً واستندت على يوحنا والمجدلية والآخرون. نظرت أكثر من مرة على ابنها الحبيب, ذلك الابن الذي حبلت به من الروح القدس، إنه لحم من لحمها وعظم من عظامها وقلب من قلبها, على الصليب بين لّصين؛ مخزياً ومصلوباً، مُداناً من قبل من جاء إلى الأرض كي يخلصهم؛ ولعله جيّداً أن تُلقب في تلك اللّحظة بـ " ملكة الشهداء. "
الشّمس ما زالت تبدو خافتة؛ وخلال وقت الزّلزال كان الهواء راكداً وثقيل الوطأة‏، لكن مع الوقت اصبح صافياً ومتجدداً .
عندما مات يسوع كانت حوالي الساعة الثالثة. كان الفريسيون في بادئ الأمر مرتعبين من الزّلزال؛ لكن عندما مرت الصّدمة الأولى استعادوا أنفسهم، بدءوا يلقون الأحجار في الهوّة، وحاولوا أن يقيسوا عمقها بالحبال. اكتشفوا إنهم لا يستطيعوا أن يقيسوا عمق قاعها، اصبحوا مستغرقين في التفكير‏، يستمعون بقلق‏ إلى آهات النّادمين، الذين كانوا ينوحون ويقرعون صدورهم، وبعد ذلك تركوا الجلجثة. آمن عديد من الموجودين حقا، والجزء الأعظم منهم عاد إلى أورشليم مغلّوباً تماما بالخوف.
وُضع الجنود الرومان علي الأبوّاب وفي الأجزاء الرئيسية الأخرى من المدينة، ليمنعوا احتمال التمرد. بقى كاسيوس على الجلجثة مع حوالي خمسين جندياً. وقف رفاق يسوع حول الصّليب، يتأمّلون الرب ويبكون؛ عديد بين النّساء القدّيسات رجعن إلى بيوتهن، وكنّ صامتات ومغلّوبات بالأسى.

Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:02 PM


تأمل الرب يسوع


ها صليبي يَرْفعُ الآن. ها هى سّاعةُ افتداء العالمِ! أنا المشهد الذى سخرت منه الجموع ِ ....ِ لكنى أيضا من وقرته وأحبته النفوس. إن هذا الصّليبِ، حتى تلك اللحظة, كان آداه التّعذيبِ حيث يلقى المجرمون عليه حتفهم ، أنه سيصْبَحُ، من الآن فصاعداً، نور وسلام العالمِ.
سَيَجدَ الخطاة مغفرة وحياة في كتبي المقدسةِ. أن دمائي سَتَغْسلُ وتَمْحو آثامهم. النفوس النقية سَتَأتي إِلى جراحي المقدّسةِ كى تُنعش نفسها وكي يتأججون في محبّتي. سَيَأْخذونَ فيها ملجأً وسَيَجْعلونهاَ مسكنهم إلى الأبد.
أبتاه، أَغْفرُ لهم لأنهم لا يَعْرفونَ ما يفعلونَ، إنهم لم يتعَرفوا على من هو حياتهم.... لقَدْ تخلصوا من كل ضراوة ظلمهم فيه. لكنى أناشدك يا أبى! أطلقْ عليهم قوةَ رحمتكِ.
اليوم سَتَكُونُ معي في الفردوس، لأن إيمانكَ برحمةِ مُخلّصك قَدْ مَحا جرائمكَ. أن الرّحمة تَقُودكِ نحو الحياةِ الأبدية .
يا امرأة، هو ذا ابنك! يا أمي، ها هم أخوتي! أحميهم، أَحْبيّهم... إنهم لَيسوا بمفردهم .
وأنتَم، يا من بذلت حياتي من أجلهم، ها أنتم لديكم الآن الأمُ التي تستطيعون أَنْ تُناشدوها من أجل كل احتياجاتكم. لقَدْ وَحّدتُكم جميعاً بأشدِّ الأربطة عندما أعطيتكم أمي .
النفس يحق لها الآن أَنْ تَقُولَ ِلربها " إلهى, إلهى, لماذا تَركتني؟ " في الواقع، بعد أن حققت سر الفداء، الإنسان قد أَصْبَحَ ابن الرب مرة أخرى، صار أخاً ليسوع، وصار وارثاً للحياةِ الأبدية ....
أه يا أبتاه..... أنا عطشانُ لمجدكَ .... وقد حانت السّاعةِ. من الآن فصاعداً، ستتُحققُ كَلِماتي، سَيَعْرفُ العالم أنّك أنت من أرسلتني، وأنك ستكون مُمَجّدُاً!
أنا عطشانُ لمجدكَ، عطشان للنفوس.... وكي أَرْوي هذا العطشِ، سكبت دمي حتى القطرة الأخيرة! لهذا السبب أستطيع أَنْ أقول: قد أُكمل. أن سر الحب العظيم قَدْ أُكمل الآن؛ السر الذى من أجله قد تنازل الرب عن أبنه إِلى العالم كى يُعيدَ الحياة إِلى الإنسان .....لقد أتيت إِلى الأرضِ كى أَعمَلُ مشيئتك، أه يا أبى. إنها قد كمُلت الآن!
بين يديك, أستودع روحي. بهذه الطريقة تستطيع النفوس التي تَتممُّ مشيئتي أَنْ تقول بصدق " الكل قد أُكملُ " يا ربى وإلهي، تَسلمُ روحي....أنى أَضعها في يديكَ المحبوبتين .
لقد قدمت موتي إِلى أبي من أجل النفوس المحتضرةِ، وهم سَيكونُ لهم حياةُ. بصرختي ِ الأخيرة التى أطلقتها من على الصّليبِ، عَانقتُ كل الإنسانيةِ: الماضية والحاضرة والآتية. فورة النشاط القوية التى حررت بها نفسي من الأرضِ، قَدْ تلقيتها من أبى بحبِّ لانهائيِ، واغتبط كل السمائيين بها لأن إنسانيتي كَانَت داخلة في المجدِ. فى نفس اللّحظةِ التي أسلمتُ فيها روحي، قَابلتني حشود من النفوس : أولئك الذين رَغبوني من قرونَ مضت وأولئك الذينَ رَغبوني قبل بضعة شهور أو من أيام مضت، لكنهم جميعاً رَغبوني بشدة. هذه البهجةِ كَانتْ كافيةَ لتعوض عن كل المصاعبِ التى عَانيتْها.
يَجِبُ أَنْ تَعْرفَوا أنّ تذكارِ ذلك الاجتماع البهيجِ، حملني على أن أقَرّر أَنْ أُساعدَ المحتضرين وكثيراً من المرات صنعت هذا جهاراً, أنى أَعطيهم الخلاص لأُكرم أولئك الذين استقبلوني بمودّة في السّماءِ. لذا صلّوا من أجل هؤلاء المحتضرين، لأني اَحْبّهم كثيراً. فى كل مرة ستطلقون الصرخة الأخيرةَ التي قدمتها إِلى الأبِ، ستكونوا مُسْموَعُين لأن نفوساً كثيرة ستُعطي لي من خلال تلك الصرخة،
لقد كانت لحظة مبهجةِ عندما تجمّعتْ سوياً كل القوات السّماويةِ باغتباط مَنتظرةَ موتي، لقَدْ تقدّمَت نحوى. لكن من بين كل النفوس التي أحاطتني، كانت توجد نفس قَدْ غُمِرَت بوضوح، غُمرَت كثيراً، نفس كانت تتَلألأَ بالفرح، بالحب ... إنه يوسف الذى كان أكثر من أي شخص آخر، يفَهمَ المجدَ الذى اكتسبتُه بعد هذه المعاركِ القاسية. لقد قادَ كل النفوس التي كَانَت تَنتظرني؛ لقَدْ مُنِحَ أنْ يَكُونَ سفيري الأولَ فى عالم الانتظار. الملائكة برتبها، قدموا لى الإكرام بحيث أنّ بشريتي، المتألقة بالفعل، قَدْ أحيطت بعدد غير محدود مِن القديسين الذين وقروني ومَجّدوني.
أبنائي، لا توجد هناك صلبانُ مجيدةُ على الأرضِ؛ أنها كلها مُغلفة بالغموض وبالظّلمةِ وبالغضبِ. بالغموض لأنكم لا تَفْهمونها؛ بالظّلمةِ لأنها تُربك العقلَ؛ وبالغضبِ لأنها تَضْربُ بالضبط في المواضع التى لا تريدوا أن تضرب فيها.
لا تَنُوحواُ؛ لا تتوانوا. أنى أقول لكم أننى لم أحمل فقط الصّليبَ الخشبيَ الذي قادني نحو المجد، بل قبل كل شيء، حملت ذلك الصليب المخفيِ لكنه دائمَ الذي قَدْ تكون من صلبانِ آثامكمَ. نعم، ومن صلبان آلامكمَ. أن كل ما تَعانون منه كَانَ موضوع أحُزاني، لأنى لم أتألم فقط كى أَهبكم الفداء، بل أيضا من أجل ما ينبغي عليكم أَنْ تَعانوا منه اليوم. انظرْوا إلى الحبِّ الذي وَحّدني بكم؛ أن فيه تأكيداً لمشيئتي الإلهية فى توَحيّدْ نفوسكم بي، مُلاحظين كيف أنى عملت بمرارةِ بلا حدودِ.
لقَدْ اتَخذتُ قطعة من الخشب كرمزِ، صليب. لقَدْ حَملته بحبِّ عظيمِ، من أجل خير الجميع. لقَدْ عَانيتُ مأساة حقيقية لكي يستطيع كل شخصَ أَنْ يبتهج معي. لكن اليوم، كم نفساً تؤمن بمن أَحْبّكمَ حقاً ومازال يَحْبّكمَ؟ تأملوني وأنا بصورةِ المسيحِ الذي بْكى وَنْزفُ. هناك وبهذه الطريقة يستطيع العالم أن يتناولني.



Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:02 PM

الفصل الحادي والخمسون
الزّلزال
ظهور الموتى في أورشليم




لقد رأيت نفس يسوع، في لحظة موته، تظهر على شكل شبه نيزك ساطع يخترق الأرض عند موطئ الصّليب وترافقها الملائكة، من بين الذين ميّزتهم كان الملاك غبريال. رأيت هذه الملائكة تلقي بعدد من الأرواح الشّريّرة في هاوية عظيمة، وسمعت يسوع يأمر بعض النفوس التى في عالم النسيان أن تدخل الأجساد التي سكنوها ذات مرة، لكى يملأ منظرها الخطاة بمخافة ذات فائدة، وأن تؤدى هذه النفوس شهادة مهيبة عن لاهوته.
ألحق الزّلزال الذي انتج الهوّة العميقة في الجلجثة أضراراً عظيمة فى كثير من أجزاء إسرائيل، لكن تأثيره كان أعظم في أورشليم. كان سكانها فى بداية اطمئنانهم بعودة ظهور الشمس، عندما أرعبتهم اهتزازات الزّلزال والضوضاء والفزع الرهيب الذى سببه انهيار البيوت والجدران من كل جانب، وازداد فزعهم بالظّهور المفاجئ لأشخاص من بين الأموات، يواجهون الفاجرين المرتجفين الذين كانوا يهربون كي يخفوا أنفسهم، ويخاطبونهم بلهجة حادّة وبتّأنيب.
نصح رؤساء الكهنة الشعب أن يواصلوا ذبح حمل الفصح الذى توقّفت بسبب الظّلمة الغير متوقّعة، وكانوا مبتهجين بالنّصر‏ بعودة ضياء الشمس، عندما اهتزت الأرض فجأة من تحتهم، انهارت البنايات المجاورة، وأنشق حجاب الهيكل لنصفين من أعلى إلى أسفل. في بادئ لأمر, الرّعب جعل الذين فى الخارج صّامتين، لكن بعد فترة انفجروا في الصراخ والبكاء.
كانت الحشود التى داخل الهيكل عظيمة، لكن الطقوس كانت منفذة بمهابة من قبل الكهنة. جاءت أولاً تقدمة الحمل، ثم رُش دمه، متبوعاً بترتيل الأناشيد الدينية وهتاف الأبواق. كان الكهنة يسعون إلى الاستمرار فى الذبائح، عندما نشاء فجأة توقف مروّع غير متوقّع؛ تمثّل الرّعب والدّهشة على كل وجه؛ الكل كان مرتبكاً؛ لا صوت قد سُمع؛ توقف الذبح ؛ كان هناك اندفاع عامّ نحو أبوّاب الهيكل؛ كانت الجموع تسعى للهرب سريعاً بقدر ما تستطيع. أزداد الفزع والخوف؛ بظهور أشخاص سبق أن كانوا فى عداد الأموات ودفنوا منذ عدة سنوات في وسط الجموع! نظر هؤلاء الأشخاص إليهم بصرامة، ووبّخوهم بشدة على الجريمة التى ارتكبوها فى ذلك اليوم، بجلب الموت للإنسان البار وصياحهم بأن دمه على رؤوسهم. حتى في وسط هذا الارتباك، كانت تُبذل بعض المحاولات من قبل الكهنة للمحافظة على النظام؛ حاولوا منع من كانوا في الجزء الدّاخلي من الهيكل من الاندفاع للأمام، وتقدموا وسط الحشود التى كانت تتقدمهم، ونزلوا الدرجات التى تقود إلى خارج الهيكل: حتى إنهم استمروا فى الذبائح في بعض الأجزاء، وسعوا إلى أن يهدّئوا من رعب الناس.
قيافا وحاشيته لم يفقدوا صوابهم، وبالهدوء الذى اكتسبوه بقساوة قلوبهم، هدئوا الاضطراب إلي درجة عظيمة، وبعد ذلك فعلوا ما بوسعهم ليمنعوا الشعب من النّظر إلى هذه الأحداث الهائلة كشهادة عن براءة يسوع. أدت الحامية الرّومانية التى تخص قلعة أنطونيا جهوداً عظيمة للمحافظة على النظام؛ ولذلك، اضطراب الاحتفال بالعيد لم يتلوه شغب، ولو أن كل قلب أمتلئ بالخوف والقلق، القلق الذي سعى الفريسيون, وفي بعض الحالات بنجاح, أن يهدّئوه.
أنى أتذكّر بضع أحداث أخرى: بالدرجة الأولى، العمودان اللذان علي مدخل قدّس الأقداس، واللذان يوجد بينهما حجاب فخم، لقد تأرجحا حتى أساساتهما؛ العمود الذى على الجانب الأيسر سقط فى اتجاه الجنوب، والذي على الجانب الأيمن سقط في اتجاه الشمال، وهكذا أنشق حجاب الهيكل لنصفين من أعلى إلى أسفل بصوت رهيب، وأنكشف قدّس الأقداس إلى نّظر العامّة. أنحلّت حجارة كبيرة وسقطت من الحائط الذى في مدخل القدّس، بالقرب من الموضع الذى كان يسجد فيه سمعان الشيخ، وأنكسر القوس. ارتفعت الأرض لأعلى، وسقطت عديد من الأعمدة الأخرى في أجزاء أخرى من الهيكل.
ظهر الكاهن الأكبر زكريا، الذي ذُبح بين الهيكل والمذبح، لقد شوهد في القدّس ونطق بتهديدات رهيبة، تكلّم عن موت زكريا الثّاني , وعن موت يوحنا المعمدان، وأيضا عن الموت العنيف للأنبياء الآخرين. أبني الكاهن الأكبر سمعان, المُلقب بالبار ، ظهرا في الجزء الذى يشغله فى العادة مُعلمي الناموس؛ تكلّما أيضا بتّعبيرات رّائعة عن موت الأنبياء، عن ذبائح العهد القديم التي على وشك أن تتوقّف الآن، وقد حثّوا كل الموجودين على أن يؤمنوا بالرب يسوع كرب وفادي وأن يعتنقوا التعاليم التي أوصى بها. ظهر أيضاً النبي أرميا؛ ووقف قرب المذبح، وصرّح، بنبرة تهديد، أن الذبائح القديمة قد أتت لنهايتها، وأن ذبيحة جديدة قد بدأت.
بنما كانت تحدث ظّهورات أخرى فى الأجزاء التى لا يُسمح لأحد بالدخول فيها إلا للكهنة، كان قيافا وبضع من الآخرون فقط من يميزونها، وقد سعوا بأقصى ما يستطيعون، أمّا أن ينكروا حقيقتها، أو أن يخفونها. هذه الأعاجيب قد تليت بأعاجيب أخرى أكثر روعة. انفتحت أبواب القدّس من تلقاء نفسها، وسُمع صوت ينطق بهذه الكلمات : " فلنترك هذا الموضع " ورأيت كل ملائكة الرب تترك الهيكل فى الحال. الاثنين والثّلاثين فريسي الذين ذهبوا إلى الجلجثة قبل وقت قصير من موت يسوع آمنوا جميعهم تقريبا وهم عند الصّليب. رجعوا إلى الهيكل في وسط الفوضى، وكانوا مصعوقين تماما من كل ما حدث هناك. تكلّموا بصرامة إلى حنّان وقيافا، وتركوا الهيكل. حنان الذى كان دوماً من أكثر أعداء يسوع كراهية، وترأّس كل إجراء أُتخذ ضده؛ كان للأحداث الخارقة التي حدثت تأثيراً عظيماً على أعصابه حتى أنه لم يكن يعرف أين يخفي نفسه. قيافا كان منتبّه جداً وممتلئ بالقلق، لكن كبريائه كان عظيماً جدا حتى أنه أخفى مشاعره بأقصى ما يستطيع، وسعى أن يطمئن حنّان. نجح لبعض الوقت؛ لكن الظّهور المفاجئ للأشخاص الذين سبق أن ماتوا منذ عديد من السنوات أفسد تأثير كلماته، وصار حنّان مرة أخرى فريسة للرّعب والخوف والندم.
بينما كانت هذه الأشياء تحدث في الهيكل، لم تكن الفوضى والرّعب في أورشليم أقل. أشخاص أمواتاً كانوا يتجولون فيها، وعديد من الجدران والبنايات قد اهتزّت بالزّلزال وانهارت أجزاء منها. خَوْف بيلاطس مِن المجهول‏ أفزعه؛ وصمت تماما من الرّعب؛ اهتزّ قصره إلى أساساته ومادت الأرض تحت قدميه. ركض بتهور من غرفة إلى غرفة، والموتى وقفوا بشكل ثابت أمامه، يوبخونه عن الحكم الجائر الذى أصدره ضد يسوع. لقد ظن إنهم آلهة الجليلي، والتجأ إلى غرفة داخلية، حيث قدم بخور ونذر نذور لأصنامه ملتمساً معونتهم. هيرودس كان مضطرباً هو أيضاً؛ لكنه أغلق قصره على نفسه، كي لا يبصره أحد .
أكثر من مائة شخص من الذين ماتوا في عهود مختلف عادوا ودخلوا الأجساد التى شغلوها عندما كانوا على الأرض، ظهروا في مختلف أجزاء أورشليم، وملئت ساّكنيها بذّعر متعذر وصفه. تلك النفوس التي أُطلقت من قبل يسوع من عالم النسيان كشّفت وجوهها وتجوّلت ذهابا وإيابا في الشّوارع، ومع أن أجسادهم كانت نفس الأجساد التي عاشوا فيها عندما كانوا على الأرض، إلا أن هذه الأجساد ما ظهرت تمسّ الأرض بينما كانت تسير. دخلوا بيوت ذويهم وأعلنوا براءة يسوع، ووبّخوا الذين شاركوا في موته بشدة. لقد رأيتهم يعبرون الشّوارع الرّئيسية؛ وكانوا يسيرون أزواجاً، وظهروا لي وكأنهم ينزلقون على الهواء بدون أن يحركوا أقدامهم. وجوه البعض كانت شاحبة؛ الآخرون كانوا بصبغة صفراء؛ لحاهم كانت طويلة، وأصواتهم كانت غريبة وكئيبة. أكفانهم كانت الأكفان التى كانت قيد الاستعمال في زمن موتهم. عندما وصلوا المكان الذى أُعلن فيه حكم الموت ضد يسوع قبل أن يبدأ الموكب نحو الجلجثة، توقّفوا للحظة، وصاحوا في صوت عالي : " المجد ليسوع إلي الأبد، والإبادة لأعدائه! ". فى نحو الساعة الرابعة عاد كل الموتى إلى قبورهم. الذبائح في الهيكل كانت قد قوطعت، والفوضى التى سببتها الأعاجيب المختلفة كانت عظيمة جدا، حتى أن بضع أشخاص أكلوا حمل الفصح فى ذلك المساء.

Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:03 PM

الفصل الثاني والخمسون

طلب يوسف الرامى لجسد يسوع


ما أن بدأ الاضطراب الذي ساد المدينة أن ينحسر، حتى أرسل اليهود الذين من المجلس إلى بيلاطس يطلبون أنّ تُكسر سيقان المصلوبين، لكى تنتهي حياتهم قبل فجر السبت. أرسل بيلاطس جنود فى الحال إلى الجلجثة لينفّذوا رغباتهم.

سمع يوسف الرامى عن موت يسوع، وقرر هو ونيقوديموس أن يدفناه فى قبر جديد شيده يوسف في نهاية حديقته التى لم تكن بعيدة عن الجلجثة. كان بيلاطس ما زال قلقاً ومهموماً، وتعجب كثيراً برؤية شخص ذو مكانة عالية مثل يوسف يحرص على أن يُعطى إذن بدفن مجرم بكرامة بالرغم من أدانته بأن يصلب بشكل مخزي. طلب بيلاطس ابن ادار القائد الروماني، الذي عاد إلى أورشليم بعد أن تشاور مع التّلاميذ الذين اختبئوا في المغائر، وسأله إن كان ملك اليهود قد مات حقا. قدم ابن ادار تقريراً مُفصلاً لبيلاطس عن موت يسوع وكلماته الأخيرة وصرخته العالية التى نطقها قبل الموت، والزّلزال التي أنتجت الهوّة العظيمة في الصّخور. الشيء الوحيد الذي فاجأ بيلاطس كان الموت السريع ليسوع، حيث أن الذين صلبوا من قبل كانوا يعيشون لفترة أطول فى المعتاد؛ لكن مع أنه قال كلمات قليلة جدا، إلا أن كل كلمة نطقها يوسف الرامى زادت من فزعه وندمه. أعطى بيلاطس ليوسف مطلبه على الفور، والذي من قبله قد خوّل له أن يُنزل جسد ملك اليهود من على الصّليب، وأن يؤدّي طقوس الدفن حالا. بدا بيلاطس أنه يسعى بمنحه هذا الطّلب، أن يُعوض ولو بدرجه عن تصرفه السابق القاسي والظّالم، وكان سعيداً جداً أيضاً بأن يفعل ما هو متأكد أنه يغيظ الكهنة بشدة، لأنه يعرف أن رغبتهم كانت أن يُدفن يسوع بشكل مخزي بين اللّصين. فبعث رسول إلى الجلجثة ليتحقق من تنفيذ أوامره. أنى أعتقد أن الرّسول كان ابن ادار، لأنى رأيته يساعد في إنزال يسوع من على الصّليب.
عندما غادر يوسف الرامي قصر بيلاطس، انضمّ إليه فوراً نيقوديموس، الذي كان ينتظره في دار امرأة تقية، غير بعيدة من ذلك الممر الذى كان يسوع يُساء فيه معاملته على نحو مُهين عندما شرع فى حمل صليبه. كانت المرأة بائعة أعشاب عطرية، واشتري نيقوديموس منها عديد من العطور الضرورية لتطييب جسد يسوع. لقد دبّرت بمشقّة‏ أنفس الأنواع من أماكن عديدة، وخرج يوسف الرامى ليبتاع لفائف كتانية ناعمة. أحضر خدامه السلالم والمطارق وكلابات وأواني ماء وإسفنج من مبنى مجاور, ووضعوهم على عربة يد تشبه تلك التى حمل عليها تلاميذ يوحنا المعمدان جثمانه عندما حملوه من القلعة .

Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:03 PM

الفصل الثالث والخمسون
طعن جنب يسوع
موت اللّصين



ساد الصمت حول الجلجثة بينما كانت تحدث هذه الأحداث في أورشليم. تفرّقت الجماهير التي كانت منذ وقت قصير صاخبة وهائجة؛ الكل كان مذعوراً؛ مشهد ذلك الرّعب قد انتج توبة صادقة فى البعض, لكن البعض الآخر لم يُحدث تأثير ذو قيمة.
كل من العذراء مريم ويوحنا والمجدلية ومريم التى لكلوبا وسالومه ظلوا أمام الصليب أمّا واقفين أو جالسين أمام الصّليب يبكون بصمت. كان هناك بضع جنود يتكئون على مِصْطَبَة‏ بقرب الربوة؛ كاسيوس كان يروح ويجئ؛ السّماء كانت مكفهر‏ة، واكتست كل الطّبيعة بالحداد. ظهر ستة جنود جالبين معهم سلالم وجواريف وحبال وهراوات حديدية كبيرة لأجل كسر سيقان المصلوبين، ليعجّلوا بموتهم. عندما اقتربوا من صليب يسوع، تراجع رفاقه بضع خطوات للخلف وغشي العذراء المباركة الخوف خشية أن يُطلِقون العِنان لكراهيتهم ليسوع بإهانة حتى جسده الميت. لم يكن خوفها بلا أساس، لأنهم عندما وضعوا سلالمهم على الصّليب أعلنوا أنّه فقط يدعى الموت؛ في بضع لحظات رأوا أنّه كان بارداً ومتصلباً، تركوه، وأزالوا سلالمهم إلى الصّليبين اللذين كان لا يزال اللّصين معلّقين عليهما أحياء. رفعوا هراواتهم الحديدية وكسروا أذرع اللّصين من أعلى وأسفل المرفق؛ بينما كسر جندي آخر في نفس اللحظة سيقانهما، من أعلى وأسفل الرّكبة. أطلق جيماس صرخات مخيفة، لهذا قتلوه بثلاث ضربات من هراوة ثقيلة على صدره. أطلق ديماس آهة عميقة ومات: لقد كان الأول بين الهالكين الذي كان لديه الفرح بالانضمام ثانية إلى فاديه. ثم حلوا الحبال وسقط الجسدان على الأرض، وجرهما الجنود إلى مستنقع عميق، بين الجلجثة وأسوار المدينة، ودفنوهما هناك.
كان الجنود ما زالوا مرتابين من موت يسوع، والوحشية التى أظهروها في كسر سيقان اللّصين جعلت النّساء القدّيسات يرتعدن لما يمكن أن يرتكبونه ضد جسد يسوع. لكن كاسيوس، الضّابط الشاب الذى كان فى حوالي الخامسة والعشرون من العمر، قد أنير فجأة بالنّعمة، وتأثر تماما من التّصرف القاسي للجنود ومن الحزن العميق للنّساء القدّيسات، فقرر أن يهدأ قلق الجنود بإثبات أن يسوع قد مات حقاً. شفقة قلبه حثّته، لكن بشكل غَيْر مقصود‏ منه, لتتحقق النبوءة, أخذ رمحه في كلتا يديه ودفعه بالكامل في الجانب الأيمن ليسوع إلى درجة أنه اخترق القلب وظهر من الجانب الأيسر. عندما أخرج كاسيوس رمحه من الجرح تدفق منه دّما وماء على وجهه وجسده. هذه النوع من الاغتسال انتج تأثيرات مشابهة لتأثير مياه المعمودية: النعمة والخلاص دخلا نفسه فى الحال. قفز من على حصانه وألقى بنفسه على ركبتيه وقرع صدره، واعترف بصوت عالي أمام الجميع بإيمانه الراسخ بألوهية يسوع.
العذراء المباركة ورفيقاتها كن لا يزلن واقفات قريبا وأعينهم مثبّتة على الصّليب، لكن عندما دفع كاسيوس الرمح في جانب يسوع كن مذهولات، وأسرعن عائدين له. بدت مريم وكأن الرّمح قد طعن قلبها هى وليس قلب ابنها الإلهي، وبالكاد استطاعت أن تسند نفسها. كاسيوس ظل ساجداً أثناء ذلك وشكر الرب، ليس فقط عن النّعم التى نالها بل أيضاً على شفاء عينيه، التي كانت مصابة بالضّعف والحول. هذا العلاج اثّر في نفس اللّحظة على الظّلمة التي كانت تملأ نفسه سابقا وقد أزيلت الآن.
تعمّد كاسيوس باسم لونجينوس وصار برتبة شمّاس، وبَشَّر بالإيمان. وحفظ دائما البعض من دماء السيد المسيح، ووجدوها داخل تابوته بإيطاليا.
تأثر كل قلب من منظر الدماء التى تدفقت من يسوع والتي سالت إلي تجويف‏ فى الصّخر عند موطئ الصّليب. جمّعت العذراء مريم ويوحنا والنّساء القديّسات وكاسيوس الدّماء والماء في قوارير، ومسحوا من تبقى بقطع من الكتان.
كاسيوس، الذي أستعاد قوة أبصاره, انفتحت تماما عيني نفسه في نفس اللّحظة، لقد تأثر بعمق، واستمرّ فى صلاته لشّكر الرب. أصيب الجنود بالدّهشة من المعجزة الذي حدثت، والقوا أنفسهم على ركبهم بجانبه، قارعين في نفس الوقت صدورهم مُعترفين بيسوع. استمر الماء والدّم يتدفّقان من جرح يسوع الكبير الذى في جنبه؛ حتى أنه سال نحو تجويف في الصّخر والنساء القدّيسات يضعنه في آواني، بينما العذراء مريم والمجدلية يمزجنه بدموعهم. تسلم الجنود رسالة من بيلاطس، يأمرهم فيها بألا يمسّوا جسد يسوع.
حدثت كل هذه الأحداث قرب الصّليب، قبل الرابعة بقليل، بينما كان يوسف الرامى ونيقوديموس يجمّعان سوية الأشياء الضرورية لدفن يسوع. لكن خدم يوسف الرامى بعد ما أرسلوا لينظّفوا القبر، أخبرهم رفاق يسوع أن سيدهم نوى أن يأخذ جسد يسوع ويضعه في قبره الجديد. عاد يوحنا فى الحال إلى المدينة مع النّساء القديّسات؛ لكى تستعيد العذراء قوتها قليلا، ولكى يشتري بعض الأشياء التي ستتطلّب للدّفن. كان للعذراء المباركة مسكناً صغيراً قريباً بين البنايات. لم يدخلوا المدينة من خلال البوّابة التي كانت بقرب الجلجثة، لأنها أغلقت، وكانت تحت حراسة الجنود الذين وضعوا هناك من قبل الفريسيون؛ لكنهم ذهبوا خلال تلك البوّابة التي تقود إلى بيت لحم.


Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:04 PM

الفصل الرابع والخمسون
وصف لبعض أجزاء أورشليم العتيقة


البوّابة التي تقع على الجانب الشّرقي من أورشليم، جنوب الركن الجنوبي الشرقي من الهيكل، كانت تقود إلى ضاحية أوفيل. بوّابة الخراف كانت تقع شمال شرق ركن الهيكل. بين هاتين البوّابتين كانت توجد بوابة تقود إلى بعض الشّوارع التى تقع شرق الهيكل، ومعظم سكانها من البناءين وعمّال آخرين. تخص معظم البيوت التى في هذه الشّوارع نيقوديموس، حيث أته هو الذي بناها وكان يشغلها العمّال الذين كانوا يعملون معه. كان نيقوديموس قد شيد منذ وقت ليس بطويل بوّابة جميلة كمدخل إلى هذه الشّوارع، دعاها بوّابة الموريا. كان قد أنتهي للتو من استكمالها، ومنها دخل يسوع المدينة فى أحد السعف. هكذا دخل من البوّابة الجديدة لنيقوديموس. ولم يكن أحد قد عبر منها بعد، ودفن في قبر جديد ليوسف الرامى، لم يكن أحد قد دُفن به بعد. هذه البوّابة قد سُددت الآن بالحجارة، وكان هناك تقليد أن يدخل المسيحيين المدينة من خلالها. حتى في الوقت الحاضر، البوّابة المسدودة تدعى من قبل الأتراك بالبوّابة الذّهبية.
الطّريق الذى يقود إلى الغرب من بوّابة الخراف يوجد بالضبط على الجانب الشمال الغربي لجبل الجلجثة. من هذه البوّابة حتى الجلجثة مسافة حوالي ميلين وربع؛ ومن قصر بيلاطس إلى الجلجثة حوالي ميلين. قلعة انطونيو تقع شمال غرب جبل الهيكل، على صخرة مستقلة. الشخص الذى يذهب نحو الغرب من قصر بيلاطس، كان عليه أن يجعل هذه القلعة على يساره. على أحد أسوارها كانت توجد شرفة تُطِلّ‏ على المحكمة، والتى أعتاد بيلاطس أن يصدر منها بياناته إلى الشعب: لقد فعل هذا، على سبيل المثال، عندما أعلن القوانين الجديدة.
عندما كان المسيح يحمل صليبه داخل المدينة، كان جبل الجلجثة على يمينه. هذا الطّريق، يتجه إلي الناحية الجنوبية الغربية، ويقود إلى بوّابة في سور داخلي للمدينة، فى اتجاه صهيون. خلف هذا السور، إلى اليسار، كانت توجد ضّاحية، تحتوي على حدائق أكثر مما تحتوى على منازل؛ وفى اتجاه السور الخارجي للمدينة توجد بعض القبور لها مداخل من حجارة. على هذا الجانب كانت توجد دار تخص لعازر بحدائق جميلة، تمتدّ قليلاً نحو جزء يتحول فيه السور الخارجي الغربي من أورشليم إلى الجنوب. أنى أعتقد أنّ هذا باب خاصّ صغير، جُعل في سور المدينة، ومن خلاله كان يسوع وتلاميذه يعبرون غالبا بسماح من لعازر ويقود إلى هذه الحدائق.
البوّابة التى توجد فى الركن الشمال الغربي للمدينة تقود إلى بيت صور، التي تقع نحو الشّمال من عمواس ويافا. الجزء الغربي من أورشليم كان منخفض من أي جزء آخر: كانت الأرض تنحدر أولا إلي اتجاه السور المحيط بها، ثم ترتفع ثانية عندما تقترب منه؛ وعلى هذا المنحدر توجد حدائق ومزارع عنب، يوجد خلفها طريق مُتسع يقود إلى الأسوار والأبراج. عند الجانب الآخر، تنحدر الأرض بدون السور نحو الوادي، حتى أن الأسوار التى تحيط بالجزء المنخفض من المدينة تبدو كأنها بنيت على شرفة عالية. توجد هناك حدائق ومزارع عنب على التّل الخارجي حتى في الوقت الحاضر. عندما وصل يسوع إلي نهاية طريق الصّليب، كان على يساره ذلك الجزء من المدينة حيث كان توجد هناك كثير جدا من الحدائق؛ ومن ذلك المكان‏ كان سمعان القيروانى أتياً عندما لاقى الموكب.
البوّابة التى غادر يسوع منها المدينة لم تكن تواجه الغرب بالكامل، بل تواجه الجنوب الغربي. سور المدينة على الجانب الأيسر، بعد المرور من البوّابة، يجرى في اتجاه الجنوب قليلاً، ثم يتجه نحو الغرب، وبعد ذلك إلى الجنوب ثانية، حول جبل صهيون. عند هذا الجانب يوجد برج كبير، مثل القلعة. البوّابة التى ترك يسوع المدينة منها لا تبتعد كثيرا عن بوّابة أخرى نحو الجنوب، تقود لأسفل الوادي وحيث طريق يتجه إلى اليسار في اتجاه بيت لحم. يتجه الطّريق إلى الشّمال نحو جبل الجلجثة بعد قليل من تلك البوّابة التى ترك يسوع منها أورشليم عندما حمل صليبه. جبل الجلجثة كان شديد الانحدار على جانبه الشّرقي مواجهة المدينة، ويهبط تدريجياً فى جانبه الغربي؛ وعلى هذا الجانب، يُري الطّريق إلى عمواس، كان هناك حقل، رأيت لوقا فيه يجمّع بضع نباتات عندما كان هو وكلوبا ذاهبان إلى عمواس، وقابلا يسوع في الطريق. قرب الأسوار، على شّرق وجنوب الجلجثة، كانت هناك حدائق وقبور ومزارع عنب. الصّليب كان قد دفن على الجانب الشمالي الشرقي، في سفح جبل الجلجثة .
يقع بستان يوسف الرامى قرب بوّابة بيت لحم، على مسيرة سبع دقائق من الجلجثة: كان بستانا جميلا جدا، بأشجار طّويلة وجسور وتعاريش، جعلت به ظلال كثيرة، ويقع على أرض صاعدة ممتدّة إلى أسوار المدينة. الشخص الذى يجيء من الجانب الشّمالي للوادي ويدخل البستان كان على يساره ربوه صغيرة تمتد حتى سور المدينة؛ وعلى يمينه، في نهاية البستان، صخرة منفصلة، حيث تقع مغارة القبر. المغارة التي قد جُعل القبر فيها تقع فى اتجاه الشّرق؛ وعلى الجوانب الجنوبية الغربية والشمالية الغربية لنفس الصّخرة كان يوجد قبران آخران أصغر، كانا جديدان أيضا وبواجهة ضيقة.
كان يوجد ممر، يبدأ على الجانب الغربي لهذه الصّخرة ويلتف حولها. الأرض التى أمام القبر كانت أعلى من الأرض التى أمام مدخله، والشخص الذى يرغب أن يدخل المغارة كان عليه أن ينزل بضع درجات. كانت المغارة كبير تسع لأربعة رجال يستطيعوا أن يقفوا قرب الحوائط على كل جانب بدون إعاقة تحرك حاملي الجثمان. مقابل الباب كان يوجد تجويف في الصّخرة، حيث القبر قد جعل؛ كان يعلو حوالي قدمين فوق مستوى الأرض، ويتصل بالصّخرة من جانب واحد فقط، كمذبح: شخصان ممكن أن يقفا، واحد عند الرّأس وواحد عند القدمين؛ وكان هناك أيضاً مكان لثالث في المُقدِّمة‏، حتى لو كان باب التّجويف مُغلق. هذا الباب كان مصنوع من بعض المعادن، ربما من النّحاس، وكان له ضلفتان تطويان. هذه الضلف ممكن أن تغلق بحجر يُدحرج أمامها؛ والحجر المستعمل لهذا الغرض قد حفظ خارج الكهف. ما أن وضع يسوع في القبر حتى دُحرج الحجر أمام الباب. كان كبيراً جدا، ولا يمكّن أن يزال بدون جهود بضع رجال.
مقابل مدخل الكهف كان يوجد مقعد حجري، وبالصعود عليه يمكن للمرء أن يتسلّق الصّخرة المغطاة بالعشب، ومن ذلك المكان تُرى أسوار المدينة والأجزاء العالية من جبل صهيون وبعض الأبراج وأيضا بوّابة بيت لحم ونبع جيحون. الصّخرة بالداخل كان لونها أبيض، بعروق حمراء وزّرقاء


Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:04 PM

الفصل الخامس والخمسون
إنزال يسوع من على الصّليب




في الوقت الذى ترك فيه الجميع الصليب، وقف الحرّاس فقط حوله، رأيت خمسة أشخاص، أعتقد إنهم كانوا من التلاميذ، والذين يأتون من الوادي من بيت عنيا، اقتربوا من الجلجثة، نظروا لبضع لحظات على الصّليب، وبعد ذلك انصرفوا. ثلاث مرات التقيت في المنطقة بالرّجلين اللذان كانّا يتشاوران سوياً. هذان الرّجلان كانا يوسف الرامى ونيقوديموس. أول مرة كانت خلال الصّلب عندما تسبّبوا فى استعادة ملابس يسوع من الجنود، ولم يكونا حينئذ على مسافة كبيرة من الجلجثة. المرة الثّانية كانت عندما وقفا لينّظرا إن كانت الحشود قد تفرّقت أم لا، ثم ذهبا إلى القبر ليعدا بعض التّجهيزات. المرة الثالثة كانت عند عودتهم من القبر إلى الصليب، كانوا ينظران حولهم في كل اتجاه، كما لو أنهم ينتظرون لحظة مواتية، وبعد ذلك قرّرا سوياً أنهما يجب أن يُنزلا جسد يسوع عن الصليب، بعد ذلك عادا إلى المدينة.
اهتمامهم كان منحصر فى عمل الترتيبات لحمل الأشياء الضّرورية لتكفين الجسد، وأخذ خدامهم بعض الأدوات اللازمة لإنزال جسد يسوع من الصّليب، وأيضا سلّمان وجدوهما داخل مخزن قرب منزل نيقوديموس.
المرأة التي اُشترى منها الحنوط كانت قد حزمتها سوياً. أشترى نيقوديموس ما يزن بمائة دينار من الحنوط. حمل الخدم تلك الحنوط في سلال من القش معلّقة حول رقابهم وتستقر على صدورهم. إحدى هذه السلال احتوت على نوع من المساحيق. كان يوجد معهم أيضا حزم من الأعشاب في حقائب مصنوعة من رقّ الكتابة أو الجلد، وحمل يوسف الرامى صندوق به نوع من المراهم. وكان الخدم يحملون آنية وزجاجات جلدية وإسفنج وبعض الأدوات على نقالة، واخذوا أيضاً نار في فانوس مغلق. تركوا المدينة قبل سيدهم ومن بوّابة مختلفة ربما تكون بوابة بيت عنيا، وبعد ذلك اتجهوا نحو جبل الجلجثة. بينما كانوا يسيرون فى المدينة عبروا على دّار كانت توجد بها العذراء المباركة مع القديس يوحنا والنساء القديّسات لإعداد متطلبات تكفين جسد يسوع، وتبع يوحنا والنّساء القديّسات الخدم. النّساء كنّ خمسة، البعض منهن حملن حزم كبيرة من الكتان تحت عبيهم. كان ذلك عُرف‏ يتبعه النّساء عندما يخرجن في المساء، أو إن اعتزموا أن يؤدّون عمل رحمة سراً، يلفون أنفسهم بحذر بملاءة طويلة.
كان يوسف الرامى ونيقوديموس في ثياب الحداد، ولبسوا أكمام سوداء وأوشحة‏ عريضة. عباءتهم جذبوها على رؤوسهم، كانت عريضة وطّويلة، لونها رمادي وتخفي كل شيء يحملونه.
اتجهوا نحوِ بوّابةِ تَقُودُ للجلجثة. الشّوارع كانت مهجوِرةْ وهادئة، لأن الرّعبِ جعل كل شخصَ يلزم بيته. عدد عظيم كَانَ قد بْدأُ يتوب، ولكن قلة كاَنت تستعد للعيد. عندما وَصلَ يوسف ونيقوديموس إلى البوّابة وَجدوها مغَلقةَ، والطّرق والشوارع وكل زاويةِ مكتظة بالجنودِ. هؤلاء كَانوا الجنودَ الذين طلبهم الفريسيون فى حوالي الساعة الثانية، والذين ظلوا بأسلحتهم وعلى أهبة الاستعداد، حيث كانوا لا يزالوا يَخَافونَ الشغب بين الشعب. أظهر يوسف أمر موَقّعَ مِن قِبل بيلاطس، أَنْ يجعلوهم يَعْبرون بحرية، والجنود كَانوا راغبينِ أن يفَعلونَ ذلك، لكن وَضّحَوا له إنهم سعوا عدة مرات أَنْ يَفْتحَوا البوّابة، لكنهم لم يستطيعوا تحريكها؛ أظهر ذلك بجلاء أن البوّابة حدث بها عيب في بعض أجزائها؛ ولذلك أضطر الجنود الذين أرسلَوا ليَكْسرواَ سيقان اللّصوصِ أَنْ يعودوا إِلى المدينةِ من بوّابةِ أخرىِ. لكن عندما أمسك يوسف الرامي ونيقوديموس بمقبض البوابة، انفتحت وكأنها تنفتح من تلقاء نفسها، مما أثار دهشة جميع الحاضرين.
كانت الظلمة قد بدأت والسّماءُ كانت غائمةُ عندما وَصلوا جبل الجلجثةَ، حيث وَجدوا الخدمَ الذين كَانوا قَدْ أُرسلوهم قد وْصُولوا بالفعل، والنِساءِ القدّيسات جالساتِ يَبْكين أمام الصّليب. كاسيوس وبِضْعَة جنود كانوا قد أمنوا ظلوا قريبين، وسلوكهم كَان مُحترمَ ومتحفظ. وَصفَ يوسف ونيقوديموس للعذراءِ المباركة ويوحنا كل ما فعَلوه من أجل أَنْ يُنقذوا يسوع من الموتِ، وعرفا منهم كيف إنهم نَجحوا في مَنْعِ كسر عظامِ يسوع، وهكذا تحققت الّنبوءة . تَكلّموا أيضا عن الجرحِ الذي أحدثه كاسيوس برمحه. ما أن وصل ابن أدار القائد الروماني حتى بدءوا عملهم المحزن والمقدّس لإنْزالِ جسد إلهنا الحبيب من على الصّليبِ وتطييبه .‏
جلست العذراء المبارك والمجدلية أسفل الصّليبِ؛ بينما، على الجهة اليمنىِ، بين صليبِ ديماس وصليب يسوع، انشغلت النِّساء الأخريات في إعْداْدِ الكتانِ والحنوط والماء والإسفنج والأواني. تَقدّمَ كاسيوس أيضا، وروى لأبن ادار الشفاء المعجزى لعينيه. الجميع كان متأثراً بعمق وكانت قلوبهم تَفِيضُ بالحُزنِ والحبِّ؛ لكن، في نفس الوقت، ظلوا صامتين وكل حركةِ كَانت ممتلئة بالمهابة والرزانة‏. لم يكَسرَ هذا السّكونَ سوى كلمة حزن، أو آهة تفلت من هنا أو من هناك من هؤلاء الأشخاص القدّيسين، على الرغم من تلهّفهم الجادّ وانتباههم العميق إلى عملهم. أفَسحت المجدليةَ المجال لأحُزانها، ولم يلهيها حضورُ عديد من الأشخاصِ المختلفين، ولا أي اعتبار آخرِ عن ذلك .
وضع نيقوديموس ويوسف السّلمان خلف الصليب وصَعدا عليهما، ممسكين في أياديهم بمُلاءة‏ كبيره، عبارة عن ثلاث أشرطة طويلة مثبته معا. رَبطا جسدَ يسوع، من تحت الذراعين ومن عند الرُّكَبتين بعمود الصليب، وثَبّتا‏ الذراعين بقِطَعِ من الكتان وَضعتْ أسفل اليدين. ثم اقتلعا المسامير، بدَفْعها من الخلف بأوتاد قويةِ. بينما كانت المسامير تُزالَ عنوة بطرقات المطرقةِ، كانت العذراء المبارك والمجدلية، وكل أولئك الذينِ سَبَقَ أَنْ كَانَ حاضرَين الصّلبِ، يشعرون بكل ضربةِ وكأنها تَطْعنُ قلوبهم. أعاد الصّوتُ لأذهانهم رؤى كل آلامِ يسوع، ولم يتَمَكّنوا من أَنْ يُسيطروا على خوفهم المرتجفِ، خشية أن يَسْمعوا صراخه الحاد من الألمِ ثانية؛ ولو إنهم، في نفس الوقت، حَزنوا من صمتِ شفاهه المباركة، التي بَرهنتْ، بكل أسف، أنه قد ماتَ حقاً.
لم تسقط أيادي يسوع المقدّسة، وخرجت المسامير من الجراحِ؛ لأن تلك الجراح كَانَت قَدْ كبرت بتأثير ثقل الجسدِ، الذي لكونه ممسوك بالقماشِ، لَمْ يَعُدْ مُعلق من المسامير. الجزء الأسفل من الجسد، الذي منذ موت إلهنا قَدْ أنحدر لأسفل على الرُّكَبتينِ، استقر الآن بوضع طبيعيِ، مسنود بالملاءة المرَبوطةَ من أعلى بذراعي الصّليبِ. بينما كان يوسف الرامى يُخرجُ المسمار من اليد يسرىِ، وبعد ذلك يَسْمحُ للذّراع، مدعوما بقماشه، أَنْ تَنزل بهدوء لأسفل على الجسدِ، نيقوديموس كَانَ يَرْبطُ الذّراع الأيمن ليسوع بذراع الصليب، أيضا الرّأسِ المُتَوَّجهِ المقدّسِة، التي مالت على الكتفِ الأيمن. ثم أخرج المسمار، وبعد ما أحاطَ الذّراع بملاءة، تَركها تنزل بهدوء عِلى الجسدِ. في نفس الوقت، أقتلع ابن ادار بصّعوبةِ عظيمةِ، المسمار الكبيرَ الذي أخترق القدمين. تناول كاسيوس المسامير بخشوع ووَضعها عند قدمي العذراءِ المباركةِ.
بعد أن وَضعَ يوسف الرامى ونيقوديموس السلمان أمام الصّليبِ، بوضع قائم جداً، وقرب الجسدِ، حَلاَ الشّريطَ الأعلى، وثبتوه بأحد الخطّافاتِ على السّلّمِ؛ ثم فعَلوا نفس الشيء مع الشريطان الأخريانِ، وَنْقلُوهم جميعا من خطّافِ إلى خطاف، مما جعل الجسدَ المقدّسَ يَنحدرَ بهدوء نحو القائد الروماني، الذي بعد أن صَعدَ على كرسي صغيرِ تناوله بين ذراعيهِ، وأمسكه من أسفل الركبتين؛ بينما يوسف الرامى ونيقوديموس، يسندان الجزء الأعلى من الجسد، ينزلان بهدوء علىِ السلم، متوقفين عند كل درجه، وبغاية الحرص القابل للتخيل، كرجال يَحْملُون جسد صّديقِ محبوبِ قَدْ جُرِحَ بشدة. هكذا نزل جسدَ مُخلصنا الإلهى إلى الأرضِ .
لقد كان من أكثر المناظر المؤثرة. الجميعً قد أظهر نفس الحَذّر، نفس العناية، كما لو إنهم يخشون أَنْ يُسبّبوا ليسوع بعض الألمِ. لقد بدوا أنهم يركزون على الجسدِ المقدّسِ بكل الحبِّ والتّبجيلِ الذي شعروا به نحو مُخلّصهم خلال حياته. أعين الكل قَدْ ثُبّتتْ على الجسدِ الجدير بالحب‏، وتتبع كل ما يحدث له؛ وكَانوا يَرْفعونَ أياديهم نحو السماء بشكل مستمر, ذارفين الدموع، ويعبرون بكل طريقِ ممكنة عن زيادةِ أساهم وآلامهم. ومع ذلك فأنهم ظلوا جميعاً هادئَين تماماً، وحتى أولئك الذين كانَوا مشغولين جداً بأمور الجسدِ المقدّسِ كانوا يؤدون أعمالهم بغاية الهدوء، وعندما كانوا يضطرون أَنْ يتكلموا لإبداء ملاحظةِ ضّروريةِ، كانوا يفعلون هذا همساً .
عندما نزل الجسد لُفَّ في الكتان من الرُّكَبتينِ إِلى الخصرِ، وبعد ذلك وَضعَ في أحضان العذراءِ المباركةِ، التي مدت أياديها لتحتضن بكل الحُزنِ والحبِّ، جسد ابنها وإلهها الحبيب.



Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:05 PM

الفصل السادس والخمسون
تطييب جسد يسوع



جلست العذراء المباركة على قطعة قماشِ كبيرِ فُرشت على الأرضِ، وأسندت ظهرها على بعض العِبيِ الملفوفة معا لتُشكّلَ مسندِ. لم توجد وسيله ما تستطيع بأية طريقة أن تخفف من آلامها ومن مأساة نفسها العميقِة، لأن الواجب المحزن والذي بغاية القداسة والذى كَانتْ عَلى وَشَكِ أَنْ تُنجزَه يتعلق بجسد ابنها الحبيبِ. استقرت رّأس يسوع على ركبةِ العذراء مريم، ووضع جسده على ملاءة. العذراء المباركة قَدْ غُمِرتْ بالحُزنِ والحبِّ. مرة أخرى، وللمرة الأخيرةِ، أخذت بين ذراعيهاِ جسدِ ابنها الحبيب، الذي كَانتْ عاجزةَ عن أَنْ تُقدم له أي شهادةِ حبِّ خلال سّاعات استشهاده الطّويلة. وقد حَدّقتْ فى جراحه واحتضنت خديه الملطّخة بالدمِاء بحنان، بينما ضمت المجدلية قدميه على وجهها.
مضى الرّجال إلي مغارة صغيرة تقع على الجانبِ الجنوبي الغربي من الجلجثةِ، ليَعدوّاَ هناك الأشياء الضرورية للتَكفين؛ ظل كاسيوس بعيدا مع بضع من الجنودِ الذين قَدْ اهتدوا، كل الأشخاصِ النّاقمين قَدْ رُجِعوا إِلى المدينةِ، والجنود الذين كَانوا حاضرينَ خُدِموا بشكل مجرّد ليُشكّلوا حراسة ليَمْنعَوا أي مقاطعةِ للإكرام الأخيرِ الذي كَانَ يُعدَ لجسدِ يسوع. بعض هؤلاء الجنودِ قدموا مساعدة عندما رَغبَوا. حملت النِّساء القديّسات الأواني والإسفنج والكتّان والحنوط حسبما يُطلب؛ لكن عندما كانوا لا يُطالبون بشئ كانوا يظلوا مبتعدين، يحدقون بيقظة على العذراءِ المباركةِ بينما هى ماضية في مهمتها الحزينةِ، لم تترك المجدلية جسد يسوع؛ وقدم يوحنا المساعدةَ للعذراءِ المباركِة، وذَهبَ وعاد بين الرّجالِ والنِّساءِ، مُقدما معونة لكليهما. النِّساء كَانَ معهم بعض الزّجاجاتِ الجلديةِ الكبيرةِ وأناء ممتلئ بالماءِ موضوع على فحمِ مشتعل. أعطوا العذراءَ المباركةَ والمجدلية، حسب ما يَطلّبان، آنية ملآنة بالماءِ النظيف والإسفنج، الذي كانوا يعَصرونه بعد ذلك في الزّجاجاتِ الجلديةِ.
تواصلت شّجاعة وثبات مريم في وسطِ آلامها المتعذر وصفها . بالتأكيد كان من المحال لها أَنْ تَتْركَ جسد ابنها في الحالة المُخيفة التي كَان عليها من قبل آلامه، ولهذا بَدأتْ بنّشاط جاد تَغْسلَ وتَُطهر جسده المقدس من آثارِ الإساءةِ التي ارتكبت ضده. جذبت بعناية فائقة تاجَ الشّوكِ، فْتحته من الخلف، وبعد ذلك نزعت شوكة تلو الأخرى من الأشواك التي انغرست بعمق في رأسِ يسوع، حتى لا تُوسّعَ الجراح. وضِعَت التّاج بجانبِ المساميرِ، وبعد ذلك نزعت الأشّواكَ التي بَقيتْ في الجلدِ بكلاباتِ , وأرتهم بحزن إِلى أصدقائها. هذه الأشّواكِ قَدْ وُضِعتْ مع التّاجِ، لكن بعضها لابد أَنْه حُفَظ منفصلاً.
وجه مُخلصنا الإلهى كَانَ ممكن تميزهً بالكاد، كان بغاية التشَوّهَ بالجراحِ التي غَطته. اللّحية والشّعر قَدْ تغُطّيا بالدّمِاء. غَسلَت العذراء مريم الرّأسَ والوجهَ، ومررت إسفنج مبلل على الشّعرِ لتُزيلَ الدّم المُتجلط، وكلما كانت تمَضى في مهمتها المقدسة، كلما تظهر أكثر مدى القسوةِ المُرعبةِ التي مورستْ ضد يسوع، وكانت مشاعرها تزدِاد حنوا وألما كلما عَبرتْ من جرحِ إِلى آخرِ. لقد غَسلتْ الرّأس والعينان التى كانت ملآنة بالدّم وكذلك الأنف والآذنان بإسفنجةِ وقطعةِ صغيرةِ من الكتان فردتها على أصابعِ يدّها اليمنى؛ وبعد ذلك غسلت بنفس الأسلوب الفم النّصف مَفْتُوح واللّسان والأسنان والشّفاه. ثم قَسّمتْ ما تبَقيْ من شّعرِ يسوع لثلاثة أجزاء , جزء ينسدل على كل خد، والثالث على رأسه من الخلف؛ وعندما حَلّتْ مقدمة الشّعر وصففته وضعته خلف آذانه. عندما أكملت غسل الرّأس، غطتها بمنديل بعد ما قَبّلَت خدي ابنها الحبيبِ. ثم اهتمت بالرّقبةِ والكتفين والصدر والظهر والأيدي المثقوبة. كل عظامِ الكتف والمفاصل قَدْ تخُلِعت ولم يكن من الممكن ثنيها. كَانَ هناك جرحَ مخيفَ على الكتفِ الذي حَملَ الصليبِ، وكل الجزءِ العلوي من الجسدِ قَدْ تغُطّى بالكدماتِ وتأثرت بعمق من ضرباتِ السّياطِ. عند الثدي الأيسر كَانَ هناك جرحَ صغيرَ حيث خَرجتْ منه حربة كاسيوس، وعلى الجانبِ الأيمن كَانَ يوجد الجرحَ الكبيرَ الذى صُنع بنفس الرّمحِ، والذي ثَقبَ القلب من جهتين. غسلت العذراء مريم كل هذه الجراحِ، والمجدلية، على رُكَبتيها، تسَاعدها من وقت لآخر؛ لكن بدون تَرْكَ قدميِ يسوع، التي غسلتها بدّموعِها ومَسحتْهما بشعر رأسها.
رّأس وصدر وأقدام يسوع قَدْ غُسِلت الآن، واستقر الجسد المقدّس على رُكَبتيِ مريم ، هذا الجسد الذي تغُطّى بعلامات سّمراءِ وحمراءِ في الأماكنِ التى كان الجلد فيها قَدْ تمُزّقَ، وبلونِ أبيضِ مزرق، مثل اللّحمِ الذي صُفى من الدّمِ، غَطّت العذراء الأجزاء التي غَسلتْها بمنديل، وبعد ذلك مَضتْ فى تتُطيب كل الجراحِ. النِّساء القديسات سَجدنَ بجانبها، وتباعاً قَدّمنَ لها الصّندوقِ، الذى كانت تأخذ منه بعض الحنوط الثّمينِ، وتملئ وتغَطّيْ الجراح. دَهنتْ الشّعرَ أيضا، وبعد ذلك، أْخذُت أياديَ يسوع في يدها اليسرى، قَبّلتهم ومَلأَت الجراح الكبيرة التى أحدثتها المسامير بهذا الحنوط. مَلأتْ الآذنينَ والأنف وجرح الجنبِ بنفس الخليطِ الثّمينِ. في نفس الوقت مسحت المجدلية أقدام الرب وطيبتهما، وبعد ذلك غَسلتهما ثانية بدموعها، وضمتهما إلى وجهها.
الماء الذي كَانَ يستعملَ لم يكنَ يَرْمي، بل كان يُصَبَّ في زّجاجاتِ جلديةِ بعصر الإسفنج فيها. لقد رَأيتُ كاسيوس وبعض الجندِ الآخرينِ يَذْهبُون عدَة مرات ليَجْلبَوا ماء عذب من نبع جيحون، الذي لم يكن على مسافةُ كبيرة. عندما ملأت العذراء المباركة كل الجراحِ بالحنوطِ، أغَلقتْ العينان النّصفَ مفتوحةَ، وأبقت يدّها فوقها لبعض الوقتِ. أغَلقتْ الفمَ أيضا، وبعد ذلك احتضنت جسد ابنها الحبيبِ، ضمت وجهه بحنان وتبجيل على وجهها ثم لَفّتْ الرّأسَ بالكتان. يوسف الرامى ونيقوديموس كَاناَ يَنتظرُان، عندما اقتربَ يوحنا إِلى العذراءِ المباركِ وتَوسّل إليها أَنْ تسمح لهم بأخذ جسد ابنها منها، لإكمال التطييب لأن السبت كَانَ يلوح. احتضنت مريم جسد يسوع المقدّس مرة أخرى، ونطقت بكلمات وداعها بلهجة بغاية التأثر، وبعد ذلك رَفعوه الرجال من حضنها على ملاءة، وحَملوه على بعد خطوات. حُزن مريم العميق قَدْ خَفَّ بمشاعرِ الحبِّ والوقارِ التي أتمّتْ بها مهمتها المقدّسة؛ لكن حزنها قد غْمرها الآن مرة أخرى، ووقعت بين أيادي النِّساءِ القدّيساتِ. شَعرت المجدلية كما لو أن حبيبها سيؤخذ منها بعيدا قسراً، وجَرت للأمام بضعة خطوات بعجالة، وذراعيهاِ ممدودتان للأمام؛ لكن بعد لحظةِ، رَجعَت إِلى العذراءِ المباركةِ.

Magdy Monir 07 - 11 - 2012 05:05 PM

تأمل العذراء المُباركة مريم


تَكلّم كثير من الأنبياءِ عنيّ: تنبئوا أنهّ كان لابد أَنْ أَعاني لأكون مستحقّة أن أَكُونَ والدة الإله. لقد تَوقّعوا أن يعرفونني على الأرضِ لكن ذلك كَانَ لابد أَنْ يَكُونَ بطريقةِ حذرة جداً. فيما بعد تَحدّث عنى الإنجيليين، خاصة لوقا, طبيبي الحبيب, طبيب النفوس أكثر من كونه طبيب الأجسادِ. بعد ذلك بُدِأتْ تؤخذ بعض الإيماءات كقاعدةِ أساسية للأحُزانِ والآلامِ التى عَانيتُها. وهكذا عُرف بشكل عام بأنّي اختبرت سبعة أحُزانَ رئيسيَة.
أبنائي، لقَدْ كَافأتْ أمكمَ وسَتُكافئُ الجهود والحبّ الذي تكنونه لي. لكن كما فعل يسوع، أُريدُ أَنْ أَتكلّمَ معكم بشكل شامل عن أحُزاني. حينئذ، ستتحدثون إِلى اخوتكَم عنها، وأخيراً سَيُقتاد بى كل شخص. بسبب ما عَانيتُه، أنى أمجد يسوع باستمرار ولا أَطْلبُ شيء سوى أن يَكُونُ مُمَجَّداًَ فيّ.
انظروا يا أبنائي الصغار، إنه لمحزن أَنْ أَتحدّثَ عن هذه الأشياءِ إِلى أبنائي، لأن كل أمِّ تَحْتفظُ بأحُزانها لنفسها. وهذا ما قد أملاه على واجبى خلال حياتي على الأرض ‏؛ لذلك، فأن رغبتي كأمِّ احترمتْ مِن قِبل الرب. الآن بكوني هنا، حيث الابتسامة أبدية ، ومثل كل الأمهات تلاشى الحزن الذى اختبرته بالفعل، أن َتحدّثتَ عن آلامي فهذا كي يعرف أولادي شيئاً ما عن حياتي.
أنى اَعْرفُ الثّمارَ التي سَتَحصلون عليها من ذلك وكيف أن هذه الثمار ستسر أبني الحبيب يسوع. أنا سَأَتحدّثُ عنها طالما أنكم تستطيعوا أَنْ تَفْهموني.
قال يسوعى: " كل من هو أولُ فليجعل نفسه أخراً " وهو فعل هذا حقاً لأنه وهو الأولُ في بيت الرب، لكنه نَزلَ حتى الدرجة الأخيرةِ. الآن، بسبب حبي له، أنا لَنْ آخذَ منه لا الموضع الأولً هذا ولا الأخير اللذان يخصانه. بالأحرى، أُجاهدُ أن أجعلكم تَفْهمَون هذه الحقيقةِ، وبهجتي سَتَكُونِ أعظمَ عندما تَقتنعُوا، لَيس من خلال طريقِ المعرفةِ البسيطةِ بل من خلال اقتناع عميق الجذّورِ. ليَكنُ هو الأولَ ونحن الأخيرينَ.
إن كَانَ هو الأولَ، هناك من يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثّاني في سلّمِ الحبِّ والمجد؛ ولذلك، بتواضع وبانسحاقِ. لابد أنكم فَهمتَم الآن ما يَجِبُ أَنْ أَكُونَ علية. أبنائي الصغار، مجدوا الرب الذي بعد ما خَلقَ مسافة هائلة بين يسوع وبيني، ما زالَ يريد أَنْ يَضعني التالية له مباشَرةً‏.
أبنائي، ما يبدوا مُهماً إِلى العالم,ِ لَيس بالضرورة أن يكون هكذا أمام الرب. اختياري كوالدة الإله انطوى بداهة‏ على تقديم تَضحّيات مُحزنة واستسلام، وأول تلك التضحيات كاُن عندما عُرْفت من خلال جبرائيل الاختيار الذى تم بمحبة الرب. لقَدْ أردت أَنْ أظل فى حالة معرفةِ متواضعةِ ومختفية في الرب. لقد أردت هذا أكثر من أي شئ أخر لأن ذلك كان لذّتي أَنْ أَعْرفَ نفسي كأخيرةِ في كل شيءِ.
بمعُرْفِة اختيارِ الرب لى أجبتُ كما تعرفون، لكنه كان من الصعبَ أَنْ اَرتفعَ إِلى الكرامةِ التي قَدْ دُعِيتُ إليها.
أبنائي الصغار، هَلْ تَفْهمُون حُزني الأولَ الذي أَتكلّمُ عنة؟ تأملوا ملياً فيه، أَعطوا أمكَم البهجة العظيمةِ فى تقييم ذلك الأتضاع الذي أقيمه أنا أكثر من بتوليتى. نعم، أنا كُنْتُ الآمة التى يطلب منها أي شئ، وقد قَبلتُ فقط لأن استسلامي كُان بنفس دّرجةَ محبّتي.
لقد تَمتّعتَ يا إلهي بأن تَرْفعني نحوك، وتَمتّعتُ أنا بقُبُولَي لأن طاعتي كَانتَ تَسرك. لكنكَ تَعْرفُ كم كان هذا حزيناً جداً لي، وأن هذا الحُزنِ نفسهِ أمامك الآن في احتياج إلى النور من أجل هؤلاء الأطفالِ، الذين تَحْبّهمَ والذين اَحْبّهمُ. أنا العبدة، أه يا أطفالي، وكما تحقق لى ذلك، فليتحقق الآن لكم جميعاً بلا ارتياب كل ما يُريدُه الرب لكم!
القبول أعطى الرب الجوابَ الذي سَيَمنح البشر الَدْخولُ إِلى الفداء، وبهذا تحُقّقتْ تلك العبارةِ الرائعة :" هو ذا العذراءُ سَتَحبل وتَلدُ أبناً سَيَدْعى أسمه عمانوئيل. "
أن قبولي أَنْ أُصبحَ أم عمانوئيل، تَضمّنَ هديتي إِلى ابن الرب بكون أنّ أمه تَمْنحُ نفسها إليه، قبل أن تتُشكّلُ بشرية يسوع داخلها. لهذا كانت هديتي نتيجةَ للنّعمةِ، وأيضا سّبباً للنّعمةِ. والأسبقية يَجِبُ أَنْ تَُعرفَ أن الرب هو السّببُ الأوّلُ؛ ومع ذلك، يَجِبُ أَنْ أُؤكّدَ أنّ قبولي تم بخطةِ النّعمةِ كسبب مُرَافَقَِ .
إنهم يَدْعونني شريكة الفداء من أجل الأحُزانِ التى عَانيتُها؛ لكنى كُنْتُ هكذا حتى من قبل، من جراء منحي لذاتي له من خلال جبرائيل. يا أبني الإلهي ! كم أردت كثيراً أَنْ تَعطي الإكرام إلى أمكَ لتعوضها عن الحُزنِ العظيمِ الذى عَانتُه فسموت بكرامةِ أمكَ!
أنتم يا أطفالي الصغار كالعميان في هذا العالم، لكن حين تبصرون الأمور الرائعة فأنها ستصير حوافز لأن تفرحوا من أجلى. ستروا أي تناغم بين المجد والأتضاع هنا حيث يسوعى هو الشّمس التي لن تغيب. ستكتشفون حكمه التدبير الذى تحقق من خلال تضحيتي وفى أتضاع حياتي الخفية المستترة .
لكن أصغوا إلى الآن. بقدر ما كانت أمومتي تتقدّم, كان على أن أتحدّث إلى البعض من أحبائي عن الكرامة التى نلتها, وقد فعلت ذلك فى تكتم بقدر ما أستطيع. لقد زهدت فى إعلان غلبة سر الرب ليتمجد الرب بنفسه فى .
ومع ذلك فسرعان ما غمرني الفرح بمعرفة أنى قد اعتبرت امرأة كسائر الأخريات. ابتهجت روحي لأن آمة الرب, التى أرادت التواضع قدر استطاعتها، قد صارت مداسه من قبل العالم. عندما شك فىّ يوسف، لم أعاني، ابتهجت حقا. لا تقولوا بأنّي عانيت لأن ذلك غير صحيح. لقد كان ذلك ليلبى الرب رغبتي فى الأتضاع. هذه كانت أجرة الرب بكونى صرت أم الرب أن أعتبر امرأة ساقطة. تعلموا يا أولادي معرفة الحبّ، تعلّموا تقييم التواضع المقدس، ولا تخافوا لأنها فضيلة تشرق بنور متألق .
عندما عُقد الزّواج، لم يكن عندي مشاكل. عرفت مجريات الأمور ولم أخاف شيء. حقا أن الرب يعطى من يعطون أنفسهم بالكامل له, يعطيهم مكاناً مثالياً فى أكثر المواقف تناقضاً، كما كان الحال لي: لقد أجبرت من قبل الالتزام البشرى أن أتزوّج رجل، حتى عندما عَرفتُ بأنّي أستطيع أَنْ أنتمي فقط إِلى الرب.
لقد عَانيتُ كثيراً جداً من الأحُزانِ على الأرض! إذ ليس من السهل أن أكون أم العلى، أنى أؤكد لكم. ولا نستطيع أن ندعوها مشكله عويصة ما نقوم به من أجل أنقى غاية ومن أن نكون مُرضيين للرب. تذكّروا هذا !
هل سبق أن فكرتم يوماً ما الذى سبّب لى أعظم حزن فى تلك الليلة المقدسة في بيت لحم؟ أنكم تصرفون انتباهكم فى الإسطبل وفى المزود وفى الفاقة. أنا، من ناحية أخرى، أقول لكم أنني قضيت تلك الليلة في نّشوة كاملة مع ابني. ومع ذلك كان على أن أعمل ما تعمله كل أمّ لطفلها الصّغير، إلا أنى لم أترك نشوتي ولا نعمتي. الشيء الوحيد الذي سبّب حزني فى ليله الحب تلك كان رؤيتي لمأساة يوسف المسكين وهو يبحث عن مأوى, عن أى مكان لي. لقد كان مدركاً لما سيحدث ومن هذا الذى سيجيء إلى الأرض، زوجي الحبيب، برُؤيةِ أننى كنت قلقة أصبحَ حزينُاً وشَعرتُ بعطفَ كثيرَ من أجله. بعد ذلك امتلأنا بالبهجة ونسينا كل قلق .
هَربنَا إِلى مصر وكل ما هو ممكن أن يُقال عن ذلك قد قيِلِ، مع ذلك فالبعض ركزِوا خيالهم على إعياءِ الرّحلةِ أكثر من التركيز على خوف الأمِّ التي تعَرف أنّها تمتلكْ أعظم كنزَ في السّماءِ والأرضِ.
فيما بعد عشنا فى الناصرة، يسوع الصغير كَانَ يَكْبرُ مملوءاً بالحياةِ، وفي ذلك الوقت، سَبّب لنا قلق قليل جداً ومحدود جداً. أن كل أمِّ تَعْرفُ ما تتمناه لصحةِ طفلها، وكيف أن شيء بسيط جداً يعتبر كغيمةِ مظلمةِ عظيمةِ. وقد أُصيب ولدى بكل أوبئةِ وأمراضِ طفولةِ تلك الأوقاتِ. مثل كل أمِّ، لم أستطيع أَنْ أكُونَ محصّنة ضد أي قلقِ ينتاب قلب أى أمِّ .
لكن ذات يومَ أُظَلَّمتِ غيمة مظلمةِ جداً نور فرح أمِ الرب. تلك الغيمةِ تَدْعى فَقْدان يسوع..... لا شاعرُ ولا كاتب ماهر يُستطيع أَنْ يَتخيّل مريم عندما عَرفتْ أنّها فَقدتْ ابنها المُمَجَّد ولَيْسَ عِنْدَهُا أخبارُ عنه لمدة ثلاث أيامِ....يا أطفالي الصغار, لا تندهشوا من كَلِماتي، لقد اختبرت أعظم قلق فى حياتي. أنكمَ لم تتأملوا ملياً بدرجة كافية فى كلماتي:" يا أبني، أبوكَ وأنا كُنا نَبْحثُ عنكَ لثلاث أيامِ. لماذا صنعت بنا هذا ؟ " الهي، فى الوقت الذى أَتكلّمُ فيه الآن إِلى هؤلاء الأطفالِ المحبوبين، لا أستطيع أَنْ أتوَقفَ عن تسبيحك. أنكَ من تختفي كى تَجْعلنا نَشْعرَ بفرحة العثور عليك. أه! كما لو كنت تذوقت أناء ملئ بالعسل ينسكب في نفسك هكذا كان احتضاني لمن هو لى كل شئ .
أنى كما تَرون، أُخبركمَ أيضاً عن فرحتي؛ لكن لَيسَ بلا سببَ أربط وأصل بين الحزن والفرح معاً. اكتسبوا فوائد بأفضل طريقة ممكنة، من كل ما حْدثِ. الرب يختفي كى يُوْجَدُ. البعض يعَرفَون تلك الحقيقةِ، الآخرون يُفكّرونَ بحُزنِ رهيب بعد ما يفَقدونَ يسوع، يفَعَلونُ كل شيءَ كى يَجدونه. أنتمَ لا يَجِبُ أَنْ تَظلوا خامدين ومقهورين .
أن أمكم تودّ أن تنقذكم من التّعامل مع ما لا يزال يقال. أولاً هناك أشياء لم يعلن عنها ولذا لم تقدر بعد حق التقدير. ثانيا بمعرفتها يجب أن تشاركوني معاناتي وهمومي المؤلمة. علاوة على ذلك فأن كل شيء يريده يسوعى قد أعلن بدون أي معارضة على الإطلاق.
هَلْ تظنوا أنّي قضيت حياتناَ العائلية بهدوء في الناصرة ؟ لقد كانت هادئة في فضيلةِ الانتظام فى محبّةِ الرب. لكن مع المخلوقاتِ، كان هناك الكثير من المشاكلَ!
طريقتنا الفريدة فى الحياةِ قَدْ لوحظَت، ولذلك كنا موضع سُخِرية بشكل عامّ. لقَدْ اعتبرتُ مفرطة بسبب أنّه عندما كان يسوع يترك الدّارَ، لم أكن أتَمَكّنُ من كبت دموعي، ويسوع كان يخَرجَ بشكل متكرر. يوسف قَدْ أُرهق وكَانَ كعبدَ ليسوع ولى. ما الذى يستطيع أن يَفْهمَه العالم؟ لقد القينا بكل همومنا على من عاش بيننا، المعبود في كل مظاهره .
يا له من ابن محبوب كان هذا الصبي الصغير؛ أنه أكثر وسامة من البحرِ، أعقل من سليمان، وأقوى من شمشون. كل الأمهاتِ كَنَ يرغبن أن يَأْخذونه منّي؛ بمثل هذا السّحرَ كان مُحَاط. ذو الأفق الضّيّق يغمروني بأحكامهم الصارمة؛ لم يتورعوا عن انتقاد هذا الأبّ الذي لم يكن يكل, الذي ظنوه أنه خاضع ليس لزوجته المخلصة بل الغيورةَ. كان الجميع مطلعين على وفائي, إلا إنهم جميعاً ظنوا أن ذلك عاده متأصلة فى وميلاً أنانياً.
هذا يا أطفالي الصّغار، ما لم يكن يَعْرفُ. هذه الانتقادات جاءت من عالمِ لا يَمَكّنَ أَنْ يَرى ولا أن يَفْهمُ أطهر أم. أحتفظ يسوع بهدوئه دون أن يُشجّعني، لأن أمَ الرب كَانتَ يجبُ أَنْ تُصفى خلال تلك البوتقةِ، وهذا قد كان، كامرأة بين سائر النساء اللاتي آرائهم لا ينبغى أن يعتد بها.
تعجبوا من حكمةَ الرب في هذه الأشياءِ واكتشفوا المعنىَ الإلهي، تلك الحكمة التى تَرْبطُ بين أعظم سّموِّ وبين الاختبارات الأكثرُ ألماً في علاقةِ بمثل هذا السّموِّ.
ودنت سّاعة الافتراق, سّاعة عملِ يسوع. وحان معها، اليوم المُخوف لمغادرةِ الناصرة. لقَدْ تَكلّمَ يسوع معى عن مُهمته على نحو شامل وعن الثّمارِ التى سيجنيها هو وكل البشر؛ لقَدْ جَعلني اَحْبّها مقدماً. هذا الفراق كان حتمي ولو إلى حين .... ودعنا وقَبّلنا وتَقدّمَ نحو مهمته كمعلّمِ للإنسانيةِ. غير أن رحيله لم يكن خفياً في تلك القريةِ الصّغيرةِ حيث كان يسوع محبُوباً جداً.
كانت هناك إيماءات المودةِ والبركاتِ ولأنهم لم يعَرفوا الصلاح الذى كَانَ يسوع سيقوم بهُ، تمثلت لهم مدى الخسارة التي آلمت بهؤلاء الناسِ ذو الفكرِ البسيط ولكن أسخياء في القلبِ.
وأنا، فى غمرة كثير جداً من المشاعرِ، تُرى ماذا كانت مشاعري؟ انتابتنيّ آلاف الهواجس، لكنه لم يُرجئ رحيله دقيقةِ واحدة. يسوعي كان يعَرفِ ما ينتظره بعد مواعظه. لقَدْ اخبرني فى عديد من المرات وبإسراف شديد عن خيانةِ الفريسيون والآخرين. والآن ها هو يرحل، يرحل وحيداً بدوني كى ينفذ مهمته؛ يرحل بدوني أنا من ربيته بدفءِ قلبي؛ بدوني أنا من مَجّدته كما لم يُمجّده أى أحد قط !
بعد ذلك تبعته. وَجدته عندما كان مُحاط مِن قِبل كثير من الجموع حتى أنه لم يكن من الممكن لى أَنْ أَراه. وهو بالحقيقة ابن الرب قد أعطىَ أمه أجابه رائعة نابعة من حكمته، لكنها طعنت هذا القلبِ الأموي واخترقته من جانب لآخرِ. نعم لقد فَهمت أجابته بالكامل، لكن ذلك الفهم لم يحَرّرني من الحُزنِ. بالعلاقةِ الإنسانيةِ، هو خالف الوصية التي كُنْتُ فيها مُتضمّنة، إنه حقيقي؛ وعلى الرغم من هذا، ملاحظات الآخرين جرحتني .
الضّربة الأولي قَدْ تُلِيتْ ببهجةِ رُؤيةِ عظمته، برُؤيتهِ مُكرماً، مُبَجَّلاً، ومحَبَّوباً مِن قِبل الناسِ؛ وسرعان ما ألتئم هذا الجرحِ أيضا. لقد سَافرتُ الطّرقَ معه، مفتونة بمعرفته، مبهورة بتعاليمه، ومَا تعبتُ أبداً لا من حَبّهِ ولا من الإعجاب به .
ثم جاءَ احتكاكه الأول مع السنهدريم. حَدثتْ المعجزةُ: المعجزة التي أحدثت ضجة عظيمة في عقولِ كهنة اليهود المفتخرين. لقد كُرِهوهَ، اضطَهَدوه، راقبوه وجربَوه. وأنا؟ أنا كنت أعَرف كل شيءَ ومن ذلك الحين، بأذرع مفتوحةِ، قدمت محرقة أبني، قدمت استسلامه، وموته المروّع والمخزي في أياديِ الأبِ. لقد كنت أعَرف مسبقا بخيانة يهوذا؛ عَرفتُ الشّجرةَ التي ستؤخذ منها الخشبة التى ستكون صليب أبني.
أنكَم لا يُمكنُ أَنْ تَتخيّلَوا المأساة المروعة التي عشتها سوياً مع يسوعي، من أجل أن يتحقق الفداء .
لقَدْ قُلتُ من قبل: أنني شريكة الفداء. لهذا، فالحُزن العادي لم يكَنَ كافياً. الاتحاد العظيم بآلامه العظيمة كَانَ حتمياً، كي يتحرر كل البشر. لذاً، ولأني ذَهبتُ معه من مدينةِ إِلى مدينةِ، صرت أكثر فأكثر مطلّعَة على النداءات التي كان يسكبها خلال عديد من اللّياليِ بلا نومِ والتى كان يقضيها في الصّلاةِ والتّأملِ بقلب مُنسحق. اتضحت أمامي كل مرحلة من مراحل تفكيره وبالحقيقة جلجثتى وصليبي بدءا منذ ذلك الحين .
عديد من الاعتباراتِ ضاعفت من أحُزاني كل يومِ لأنى كُنْتُ أمه وأمكم! عديد من الآثامِ، بل كل الآثامِ؛ كثير من الحُزن، بل كل الحُزنِ؛ عديد من الأشّواكِ، بل كل الأشّواكِ؛ يسوع لم يكَنَ وحيداً. لقد عَرف ذلك، وشَعر به. لقد رَأىَ أمه في اتحادِ مستمرِ معه. لقَدْ آلمه ذلك، آلمه كثيراً جداً، لأن آلامي كَانتَ بالنسبة له أعظم الآلام.
يا أبني، يا أبني المُمَجَّد، ليت هؤلاء البنين والبناتِ يعرفون فقط ما حَدثَ حينئذ بينك وبيني! وحانت سّاعة المحرقة بعد عذوبة عشاءِ الفصحِ. وبعد ذلك، كَانَ علىّ أَنْ أَنضمَّ مرة أخرى إلى الجموع. أنا، من أحَببتُه ومَجّدته بطريقةِ فريدةِ، كَانَ لِزاماً علىّ أَنْ أَكُونَ بعيدهَ عنه. هل تَفْهمُون ذلك يا أطفالي؟ لقد كنت عالمه بكل خطوه يخطوها يهوذا الغادر, ولم يكن هناك شيء أستطيع أن أفعله؛ وكنت أعلم أنّ يسوع قد عرّق دماً في البستان ولم يكن هناك شيء أستطيع أن أفعله من أجله. ثم اعتقلوه وأهانوه وأُدَانوه بخبث .
أنا لا أستطيع أَنْ أُخبركَم بكل شيء. سأخبركم فقط أنّ قلبي كَانَ في اضطراب وفى قلقِ مستمرِ؛ قلبي كان عرش من المرارةِ المستمرة والقلق، كان موضع خربِ، كان متعب ومغموم. فهل بعد كل ذلك تُفقد كل هذه النفوس ؟ هل بعد كل ذلك تتواجد كل هذه المتاجرة بالمقدسات وهذا التبديل الدنس لها؟ أه يا أطفال أحزاني! إن كنت أعطيكم اليوم نعمة التألم من أجلى، باركوا من أعطاها لكم بكرمه، وضحوا بأنفسكم بلا تردد.
أنكم تُفكّرونُ فى عظمتي يا أطفالي الأحباء. من المفيد لكم أن تفكّروا في ذلك؛ لكن أَصغوا إليّ: لا تُفكّرواُ فيّ، بل فكّروا فيه. كم أوَدُّ أَنْ أكون منسية، إن كَانَ ذلك ممكن! أعطِوا كل حنو له، إِلى يسوعي، إِلى يسوعكَم، إِلى يسوع حبيبكم وحبيبي .
لذا يا أطفالي الصغار، كان حُزن قلبي مثل سيفَ يطعن نفسى وحياتي دوماً. لقد شَعرت به، عندما أراحني يسوع بقيامته، عندما ضمدت فرحتي الهائلة فجأة كل الجراحِ التي نَزفتْ داخلي.
لقد ظللت أكْررَ " يا أبني, لماذا كل هذا الأسى؟ أن أمكَ بقربك. هَلْ حبّي لَيسَ كافي؟ كم كثيراً من المرات أرّحتكَ من بلاياكَ؟ والآن، هَلْ ليس بوسع أمكَ أَنْ تَهبك بعض الراحةِ؟ أه يا أبا يسوعي، أنا لا أُريدُ أي شئ أكثر مما تُريدهُ أنت. أنك تَعْلم ذلك؛ لكن أنظر أن كان ممكن أن تخفف من بلاياه. أن أم أبنكِ تَسْألكُ هذا .
والآن على الجلجثة صرت احتج قائلة :" الهي، أعد النور لتلك الأعينِ التي أُمجّدُها! النور الذي طَبعتهَ فيها منذ اليوم الذى أعطيته لي, أيها الأب الإلهى، أنظر رعبَ ذلك الوجهِ القدّوسِ! هَلْ ليس من المُمكنُ على الأقل أن تَمْسحَ هذه الدماء الكثيرة؟ يا أبا أبني، يا عريس حبّي، يا من أنتَ بنفسك الكلمة التي شاءت أَنْ يَكُونَ لها ناسوتها منّي! ليت صلوات تلك الأيادي المتضرعة نحو السّماءِ من الأرضِ أن تَكُونُ توسلاً لأجله ولأجل استجابتي !
أنّظر يا إلهى، إِلى أى حد أنت قد خُفّضَته! إنها أمه من تَسْألكِ أَنْ تُخفّفَ كثيراً من أحزانه. بعد وقتِ قليلِ، سَأكُونُ بدونه. لذا فالوعد، الذي قطعته على نفسي من قلبي في الهيكلِ، سَيتحقق بالكامل. نعم، أنا سَأَبْقى وحيده، لكن خفف دون أن تلتفت لآلامي .

حُمِلَ الجسد المقدّس إِلى بقعةِ أسفل مستوى قمةِ الجلجثة، حيث كان يوجد سّطح نّاعم لصخرةِ مناسبَة لتطييب الجسد عليها. لقد رأيت أولا قطعة قماش كتّانيةِ، تُشبه كثيراَ شرائط الزينة ورَأيتُ ملاءة كبيرةَ أخرى مفَتوحَة. وُضع جسد مُخلصنا على قطعةِ القماش الكتاني، ووضع بعض الرّجالِ الآخرين الملاءة الأخرى فوقه. ثم سجدا كل من نيقوديموس ويوسف الرامى، وتحت هذه الَغْطاء حلا الكتان الذى كانا قَدْ لفاه حول خصرَ مُخلصنا عندما انزلا جسده من الصّليبِ. ثم مرروا الإسفنج أسفل هذه الملاءة وغَسلوا الأجزاء السفلي من الجسد ؛ بعد ذلك رَفعوه بمساعدةِ قِطَعة كتان جازت أسفل الخصرَ والرُّكَبتينَ، وغَسلاَ الظّهر دون أن الاضطرار لقلب الجسد المبارك. استمرّا يَغْسلانَ حتى صار الماء الذى يُعصر من الإسفنجِ صافىَ. ثم سكبا ماءَ نبات المرِّ على الجسدِ بالكاملِ، وبعد ذلك، أعدا الجسد بوقارِ، مدداه بالطول الطبيعيَ، لأنه كان ما زالَ في الوضعِ الذي مات عليه, الخصر والرُّكَب منحنية. ثم وَضعا أسفل فخذيه ملاءة عرضها ياردةَ وطولها ثلاث ياردات، ووَضعا حزمِ من الأعشابِ ذات الرائحة الحلوةِ، ونثرا على الجسدِ بالكاملِ بودرة كان نيقوديموس قَدْ جَلبَها. بعد ذلك لفوا الجزءَ الأسفل من الجسدِ، ورَبطوا القماش الذي وَضعوا أسفله بقوة. بعد هذا دَهنوا جراحَ الفخذِين، ووَضعَوا حزمَ من الأعشابِ بين السّاقينِ، التي مدوها بطولها الطبيعيِ، ولَفّوها بالكامل بهذا الحنوط .
أخذ يوحنا العذراء المباركة والنِّساء القدّيسات الأخريات مرة أخرى إِلى الجسد. سجدت مريم بجانب رأسِ يسوع، ووَضعَت أسفله قطعة ناعمة جداً من الكتان التي كَانتْ زوجة بيلاطس قَدْ أعطتها لها، بعد ذلك وبمسَاعدَ النِّساءِ القديّساتِ، وَضعتْ حزمِ الأعشابِ والحنوط والمساحيق ذات الرائحة الحلوةِ من الأكتافِ إِلى الخدين، ولفت بقوة قطعةِ الكتان هذه حول الرّأسِ والأكتافِ. سكبت المجدلية أيضا زجاجة صغيرة من البلسمِ علي جرحِ الجنبِ، ووضعت النِساء القديّسات المزيد من الأعشاب على جراح الأياديِ والأقدامِ. ثم وضع الرّجالِ حنوط حول كل بقيّةِ الجسدِ، وضعا الذراعان المقدّسةَ على هيئة صليب على الصّدرِ، ولفا ملاءة بيضاء كبيرة حول الجسد من الرأس حتى الصّدر، أخيراً، وَضعا الرب يسوع على ملاءة كبيرةِ، طولها حوالى ستة ياردات، كان يوسف الرامى قَدْ اشتراها ولَفوّه فيها. كَانَ يَرقد عليها بشكل قطري ، وزاوية من الملاءة قَدْ رُفِعتْ من الأقدامِ إِلى الصّدرِ، الأخرى على الرّأسِ والأكتافِ، بينما الزاويتان الأخريان لفا مرتان حول الجسدَ.
العذراء المباركة، النِّساء القدّيسات، الرّجال, الكل كان سْاجداُ حول جسدَ يسوع ليودعوه، عندما حدثت معجزةِ مؤثرة أمامهم. جسد يسوع المقدّس، بكل جراحه، ظَهرَ مَطْبُوعَ على القماشِ الذي غَطاه، كما لو أنه كَانَ مسرورَ أَنْ يُكافئهم على محبّتهم، ويَتْرك لهم صورة نفسه خلال القماش الذي التف به. بالدّموعِ احتضنوا الجسدَ الجدير بالحبَ، وبعد ذلك قَبّلواَ بتبجيل الرسم الذى طُبع الذي قَدْ تَركَه. زادت دهشتهم عندما رَفْعواِ الملاءة ، رَأوا أنّ كل الأربطة التي تحيط بالجسد قَدْ ظلت بيضاء كما هى، وأن القماشِ الأخير فقط هو الذى قَدْ طُبع بهذا الأسلوب الرّائعِ. أنه لم يكن تأثير الجراحِ النَّازِفةِ، لأن الجسد بالكامل قَدْ لف وتغُطّيْ بالحنوط، لكنها كانت صورة خارقةَ، تحمل شهادة عن القوةِ المبدعةِ الإلهية السَّاكِنةِ دوما في جسدِ يسوع. لقَدْ رَأيتُ عديد من الأشياءِ تختص بتاريخ قطعة الكتان هذه، لكنى لا أستطيع أَنْ أصفها بشكل متماسك. بعد القيامة ظلت الأكفان ملكِ لرفاق يسوع، لكنها وقعت مرّتين في أياديِ اليهودِ، وبعد ذلك كُرّمتَ في بِضْعَ أماكنِ مختلفةِ. لقَدْ رَأيتها في مدينةِ من آسيا، ملكِ لبعض المسيحيين المتأججين. لقَدْ نَسيتُ أسم المدينةِ، التي تَقعُ في ولايةِ قُرْب بلد الملوكِ الثّلاثة.




الساعة الآن 10:15 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025