منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   كلمة الله تتعامل مع مشاعرك (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=45)
-   -   وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=25)

Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:01 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174972173474011.jpg


أدعو باسمك
لذا فأنا اعلم انك خلصتني الآن

Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:13 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174973386086251.jpg

فمن يستعين بي سأكون عكازه
ويجتاز كل الصعوبات بمعونتي

Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:13 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174973386086251.jpg

أبنى الغالى .. بنتي الغالية
حين تجدون أن كل الطرق والابواب مغلقة في وجوهكم
فأنا الوحيد الذي سيستقبلكم بكل الأوقات وسيصغي لكم
وسأطيب جراحاتكم وأضمد قلوبكم ويألملم ارواحكم
فمن يستعين بي سأكون عكازه ويجتاز كل الصعوبات بمعونتي

Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:32 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174895097196541.jpg


أمنون وثامار

أخطأ داود في الخفاء مع بثشبع، وبقى الأمر مخفيًا إلى حين، لتظهر رائحة الفساد القاتلة علانية في بيت داود. لقد سقط أمنون بكامل حريته في الشهوة وأحب أخته التي من أبيه دون أمه، أحبها جدًا لجمالها حتى مرض وإذ تمكن منها أذلها ثم طردها لأنه أبغضها جدًا ولم يطق أن يراها!
تصور ماذا كان حال داود ومركزه بين قواده ورؤساء الشعب حين بلغهم هذا الخبر؟!
هذا التصرف من جانب أمنون أثار سخط أبشالوم من أجل أخته ثامار، وبعد سنتين دبر أمر قتله وهرب ففقد داود الاثنين!



1. سقوط أمنون في حب ثامار:

1 وَجَرَى بَعْدَ ذلِكَ أَنَّهُ كَانَ لأَبْشَالُومَ بْنِ دَاوُدَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ اسْمُهَا ثَامَارُ، فَأَحَبَّهَا أَمْنُونُ بْنُ دَاوُدَ. 2 وَأُحْصِرَ أَمْنُونُ لِلسُّقْمِ مِنْ أَجْلِ ثَامَارَ أُخْتِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ عَذْرَاءَ، وَعَسُرَ فِي عَيْنَيْ أَمْنُونَ أَنْ يَفْعَلَ لَهَا شَيْئًا. 3 وَكَانَ لأَمْنُونَ صَاحِبٌ اسْمُهُ يُونَادَابُ بْنُ شِمْعَى أَخِي دَاوُدَ. وَكَانَ يُونَادَابُ رَجُلًا حَكِيمًا جِدًّا. 4 فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا يَا ابْنَ الْمَلِكِ أَنْتَ ضَعِيفٌ هكَذَا مِنْ صَبَاحٍ إِلَى صَبَاحٍ؟ أَمَا تُخْبِرُنِي؟» فَقَالَ لَهُ أَمْنُونُ: «إِنِّي أُحِبُّ ثَامَارَ أُخْتَ أَبْشَالُومَ أَخِي». 5 فَقَالَ يُونَادَابُ: «اضْطَجعْ عَلَى سَرِيرِكَ وَتَمَارَضْ. وَإِذَا جَاءَ أَبُوكَ لِيَرَاكَ فَقُلْ لَهُ: دَعْ ثَامَارَ أُخْتِي فَتَأْتِيَ وَتُطْعِمَنِي خُبْزًا، وَتَعْمَلَ أَمَامِي الطَّعَامَ لأَرَى فَآكُلَ مِنْ يَدِهَا». 6 فَاضْطَجَعَ أَمْنُونُ وَتَمَارَضَ، فَجَاءَ الْمَلِكُ لِيَرَاهُ. فَقَالَ أَمْنُونُ لِلْمَلِكِ: «دَعْ ثَامَارَ أُخْتِي فَتَأْتِيَ وَتَصْنَعَ أَمَامِي كَعْكَتَيْنِ فَآكُلَ مِنْ يَدِهَا». 7 فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى ثَامَارَ إِلَى الْبَيْتِ قَائِلًا: «اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَمْنُونَ أَخِيكِ وَاعْمَلِي لَهُ طَعَامًا». 8 فَذَهَبَتْ ثَامَارُ إِلَى بَيْتِ أَمْنُونَ أَخِيهَا وَهُوَ مُضْطَجِعٌ. وَأَخَذَتِ الْعَجِينَ وَعَجَنَتْ وَعَمِلَتْ كَعْكًا أَمَامَهُ وَخَبَزَتِ الْكَعْكَ، 9 وَأَخَذَتِ الْمِقْلاَةَ وَسَكَبَتْ أَمَامَهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ. وَقَالَ أَمْنُونُ: «أَخْرِجُوا كُلَّ إِنْسَانٍ عَنِّي». فَخَرَجَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَنْهُ. 10 ثُمَّ قَالَ أَمْنُونُ لِثَامَارَ: «ايتِي بِالطَّعَامِ إِلَى الْمِخْدَعِ فَآكُلَ مِنْ يَدِكِ». فَأَخَذَتْ ثَامَارُ الْكَعْكَ الَّذِي عَمِلَتْهُ وَأَتَتْ بِهِ أَمْنُونَ أَخَاهَا إِلَى الْمِخْدَعِ. 11 وَقَدَّمَتْ لَهُ لِيَأْكُلَ، فَأَمْسَكَهَا وَقَالَ لَهَا: «تَعَالَيِ اضْطَجِعِي مَعِي يَا أُخْتِي».

تبقى قصة أمنون وثامار عبر الأجيال تمثل صورة حيَّة للتمييز بين الحب والشهوة، الحب تحرر من الأنا ليعطي الإنسان ذاته لبنيان نفسه والآخرين، فيتعامل مع الغير - خاصة الجنس الآخر - كأشخاص لهم تقديرهم، أما الشهوة فهي تتقوقع حول الأنا ليطلب الإنسان إشباع لذَّاته أو كرامته إلخ... يتعامل مع الغير كأدوات لتحقيق شبعه. الحب ينمو يومًا فيومًا ويهب القلب اتساعًا للجميع، أما الشهوة فتحطم الإنسان وتضيِّق قلبه وسرعان ما تلهو بالشخص نفسه لينقلب الحب الشهواني إلى كراهية.
أمنون أحب ثامار جدًا وكان يظن أنها - دون سواها - هي سر سعادته، خلال شهوته أسَرة جمالها، وربما أعجب بشخصيتها وحسبها الوحيدة التي تقدر أن تملأ كل فراغ فيه... وإذ نال منها تحقيق شهوته لم يجد في داخله شبعًا كما كان يظن، لذا أبغضها، وكانت بغضته لها أكثر من حبه السابق لها.
تشبه أمنون بامرأة فوطيفار التي حسبت في جسد يوسف مصدر بهجتها وشبعه، وكانت تحبه جدًا، حتى ضربت بمركزها كسيدة أمام عبد عرض الحائط، ولم تبال بحياتها كامرأه فعرضت عليه الشر، بل وأمسكت ثوبه... وعندما رفض سلمته للسجن والفضيحة ظلمًا!! هذه هي الشهوة القاتلة للنفس والمتقوقعة حول اللذة والأنا!
"أمنون" اسم عبري معناه "أمين"، الابن البكر لداود، وولي العهد (2 صم 3: 2)، ولد في حبرون (2 صم 3: 2؛ 1 أي 3: 1) حوالي سنة 1000 ق.م.، والدته أخينوعم اليزرعيلية
أما "ثامار" (اسم معناه "نخلة") فكانت أخت أبشالوم بن داود من معكة بنت تلماي ملك جشور (2 صم 3: 3؛ 1 أي 3: 2).
أحب أمنون ثامار جدًا. بمعنى آخر أحب جمالها وجسدها لا إنسانيتها وشخصها، أو أحب أن يشبع شهواته بجمالها، وإذ كانت أخته لم يستطع أن يتزوجها (لا 18: 9)، لذلك عسر في عينيه أن يفعل لها شيئًا [2] وكانت ثامار عذراء تقيم في جناح النساء.
حطمت الشهوة أمنون فصار يضعف يومًا فيومًا، خار جدًا الأمر الذي أزعج صديقه الحميم وابن عمه يوناداب بن شعمي أو شمه أخو داود (2 صم 13: 9)، وكان الرجل ذكيا جدًا، قادرًا على التفكير للخير كما للشر. سأل يوناداب أمنون عما يفكر فيه، فأجاب: "إني أحب ثامار أخت أبشالوم أخي" [4]. قدم له يوناداب مشورة لاغتصابها: "اضطجع على سريرك وتمارض؛ وإذ جاء أبوك ليراك فقل له: دع ثامار أختي فتأتي وتطعمني خبزًا وتعمل أمامي الطعام لأرى فآكل من يدها" [5].
نفذ أمنون هذه المشورة الشريرة، وجاءت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع. فأخذت العجين وعملت كعكا أمامه وخبزته. وأخذت المقلاة وسكبت أمامه، فأبى أن يأكل. طلب أن يُخرجوا كل إنسان عنه ثم أمسكها ليغتصبها. أما هي ففي عفة قالت له:


"لا يا أخي لا تذلني، لأنه لا يُفعل هكذا في إسرائيل.
لا تعمل هذه القباحة.
أما أنا فأين أذهب بعاري؟!
وأما أنت فتكون كواحد من السفهاء في إسرائيل.
والآن كلم الملك لأنه لا يمنعني عنك" [13] إلخ...
بحكمة تحدثت ثامار مع أخيها:
أ. كشفت له أن هذا العمل لا يليق بأمة مقدسة، إذ يجلب الغضب على الشعب كله ليس بكونهما ابني الملك وإنما بكونهما عضوين في الجماعة. المؤمن عضو في الجماعة، كل نمو في حياته يثمر نموًا في الآخرين، مجتذبًا بحياته الكثيرين نحو السمويات؛ وكل سقوط وانحراف يعثر أيضًا الكثيرين ويهدمهم. المؤمن إما أن يكون سر بركة للجماعة أو سر هدم لها.
ب. الخطية تحطم مرتكبيها، حسبتها ثامار عارًا لها وتحطيمًا لأمنون؛ تصير هي في خزي ويُحسب هو كأحد السفهاء.
ج. سألته أن يطلبها من الملك زوجة، لعلها بهذا أرادت أن تفلت من يديه أو لأنها حسبت الزواج بأخ من أم أخرى أهون من السقوط في الزنا.
لم يستمع أمنون لصوت أخته، إذ أفسدت الشهوة تفكيره ونزعت عنه إنسانيته فاغتصبها عنوة.



2. كراهية أمنون لثامار:

12 فَقَالَتْ لَهُ: «لاَ يَا أَخِي، لاَ تُذِلَّنِي لأَنَّهُ لاَ يُفْعَلُ هكَذَا فِي إِسْرَائِيلَ. لاَ تَعْمَلْ هذِهِ الْقَبَاحَةَ. 13 أَمَّا أَنَا فَأَيْنَ أَذْهَبُ بِعَارِي؟ وَأَمَّا أَنْتَ فَتَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنَ السُّفَهَاءِ فِي إِسْرَائِيلَ! وَالآنَ كَلِّمِ الْمَلِكَ لأَنَّهُ لاَ يَمْنَعُنِي مِنْكَ». 14 فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَسْمَعَ لِصَوْتِهَا، بَلْ تَمَكَّنَ مِنْهَا وَقَهَرَهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا. 15 ثُمَّ أَبْغَضَهَا أَمْنُونُ بُغْضَةً شَدِيدَةً جِدًّا، حَتَّى إِنَّ الْبُغْضَةَ الَّتِي أَبْغَضَهَا إِيَّاهَا كَانَتْ أَشَدَّ مِنَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَحَبَّهَا إِيَّاهَا. وَقَالَ لَهَا أَمْنُونُ: «قُومِي انْطَلِقِي». 16 فَقَالَتْ لَهُ: «لاَ سَبَبَ! هذَا الشَّرُّ بِطَرْدِكَ إِيَّايَ هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ بِي». فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَسْمَعَ لَهَا، 17 بَلْ دَعَا غُلاَمَهُ الَّذِي كَانَ يَخْدِمُهُ وَقَالَ: «اطْرُدْ هذِهِ عَنِّي خَارِجًا وَأَقْفِلِ الْبَابَ وَرَاءَهَا». 18 وَكَانَ عَلَيْهَا ثَوْبٌ مُلوَّنٌ، لأَنَّ بَنَاتِ الْمَلِكِ الْعَذَارَى كُنَّ يَلْبَسْنَ جُبَّاتٍ مِثْلَ هذِهِ. فَأَخْرَجَهَا خَادِمُهُ إِلَى الْخَارِجِ وَأَقْفَلَ الْبَابَ وَرَاءَهَا. 19 فَجَعَلَتْ ثَامَارُ رَمَادًا عَلَى رَأْسِهَا، وَمَزَّقَتِ الثَّوْبَ الْمُلَوَّنَ الَّذِي عَلَيْهَا، وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا وَكَانَتْ تَذْهَبُ صَارِخَةً.

إذ حقق أمنون شهوة جسده أبغض ثامار "بغضة شديدة جدًا حتى إن البغضة التي أبغضها إياها كانت أشد من المحبة التي أحبها إياها" [15]. قام بطردها عوض أن يتزوجها شرعيًا، فتذللت أمامه ليتزوجها ولا يلقيها للعار، أما هو فطلب من الخادم أن يطردها عنوة.
كما سبق فقلت أن الشهوة والعنف صنوان، كلاهما ثمرة انتزاع النعمة الإلهية من الإنسان وحرمانه من الوجود مع الله. الشهوة تعطي الإنسان أحيانًا رقة في الظاهر لكنها تحمل عنفًا في الداخل، والعنف يولد شهوة ولذة حيث يطلب الإنسان ما لِذاته لا ما هو للغير. كانت امرأة فوطيفار رقيقة للغاية أمام يوسف لكنها لم تقدر أن تخفي عنفها حين رفض الاستسلام لها فألقته في السجن. أما هو فكان رقيقًا جدًا معها رغم حزمه في رفض الخطية. لم ينتقم لنفسه ولا شهَّر بها حين تمتع بالمجد وصار صاحب سلطان في قصر فرعون.
يربط سليمان الحكيم بين الزنا والقسوة قائلًا: "لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلًا وحنكها أنعم من الزيت، لكن عاقبتها مُرّة كالأفسنتين حادة كسيف ذي حدين. قدماها تنحدران إلى الموت. خطواتها تتمسك بالهاوية" (أم 5: 3-5).
هكذا وَلَّدت الشهوة عنفًا في حياة أمنون، فأصدر أمره لخادمه أن يطرد سيدته ويغلق الباب وراءها؛ أما هي فوضعت رمادًا على رأسها علامة الحزن الشديد (1 مك 4: 39؛ أس 4: 1) كمن في جنازة، ومزقت الثوب الملون (الجبة الخاصة ببنات الملوك العذارى) علامة فقدها كل مجد والتصاق الخزي بها، ووضعت يدها على رأسها وكانت تسير صارخة.
إنها صورة مُرّة للنفس التي تُحطمها الخطية، فإنها تهيم في الطريق في مذلة كمن هي مطرودة من البيت؛ تفقد النفس سكناها في حضن الله لتهيم كما في عزلة، ليس من يسندها ولا من يشاركها أعماق مشاعرها! تتطلع من خلفها لتجد الكل قد أغلق الباب في وجهها!
تضع رمادًا على رأسها إذ يُحطم اليأس تفكيرها، تفقد رجاءها وسلامها وفرحها الداخلي!
تمزق الثوب الملون الذي يشير إلى الجسد بكل طاقاته؛ الجسد الذي يطلب الشبع لحواسه خلال الشهوة يفقد قدسيته وتتدنس حواسه!


تضع يدها على رأسها علامة عجزها عن العمل والتصرف!
تهيم صارخة في الطريق كمن فقد الطريق الملوكي المفرح!

3. أبشالوم يدبر للانتقام:

20 فَقَالَ لَهَا أَبْشَالُومُ أَخُوهَا: «هَلْ كَانَ أَمْنُونُ أَخُوكِ مَعَكِ؟ فَالآنَ يَا أُخْتِي اسْكُتِي. أَخُوكِ هُوَ. لاَ تَضَعِي قَلْبَكِ عَلَى هذَا الأَمْرِ». فَأَقَامَتْ ثَامَارُ مُسْتَوْحِشَةً فِي بَيْتِ أَبْشَالُومَ أَخِيهَا. 21 وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ دَاوُدُ بِجَمِيعِ هذِهِ الأُمُورِ اغْتَاظَ جِدًّا. 22 وَلَمْ يُكَلِّمْ أَبْشَالُومُ أَمْنُونَ بِشَرّ وَلاَ بِخَيْرٍ، لأَنَّ أَبْشَالُومَ أَبْغَضَ أَمْنُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَذَلَّ ثَامَارَ أُخْتَهُ. 23 وَكَانَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ، أَنَّهُ كَانَ لأَبْشَالُومَ جَزَّازُونَ فِي بَعْلَ حَاصُورَ الَّتِي عِنْدَ أَفْرَايِمَ. فَدَعَا أَبْشَالُومُ جَمِيعَ بَنِي الْمَلِكِ. 24 وَجَاءَ أَبْشَالُومُ إِلَى الْمَلِكِ وَقَالَ: «هُوَذَا لِعَبْدِكَ جَزَّازُونَ. فَلْيَذْهَبِ الْمَلِكُ وَعَبِيدُهُ مَعَ عَبْدِكَ». 25 فَقَالَ الْمَلِكُ لأَبْشَالُومَ: «لاَ يَا ابْنِي. لاَ نَذْهَبْ كُلُّنَا لِئَلاَّ نُثَقِّلَ عَلَيْكَ». فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَذْهَبَ بَلْ بَارَكَهُ. 26 فَقَالَ أَبْشَالُومُ: «إِذًا دَعْ أَخِي أَمْنُونَ يَذْهَبْ مَعَنَا». فَقَالَ الْمَلِكُ: «لِمَاذَا يَذْهَبُ مَعَكَ؟» 27 فَأَلَحَّ عَلَيْهِ أَبْشَالُومُ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ أَمْنُونَ وَجَمِيعَ بَنِي الْمَلِكِ.

طلب أبشالوم من أخته أن تلتزم الصمت، وكان يُريد بذلك أن يهدئ الجو ليخطط للانتقام؛ فقد قال لها: "فالآن يا أختي اسكتي. أخوك هو. لا تضعي قلبك على هذا الأمر" [20].
طالبها بالصمت، لكنه ليس صمتًا يحمل هدوءًا وسلامًا وإنما الصمت الذي يخفي دهاءً وانتقامًا من أخيه أمنون.
حقًا ما أعذب الصمت والسكون إن حملا هدوءًا داخليًا، أما متى كان ستارًا لمرارة داخلية فغالبًا ما يكون أكثر عنفًا وقسوة من الكلام الجارح. لذا يميز الآباء بين الصمت المقدس البنّاء والصمت الشرير المهلك، كما يميزون بأن الكلام الصالح والكلام المهلك.
أقامت ثامار في بيت أبشالوم أخيها محطمة النفس، إذ كانت في عار غير قادرة على الزواج دون ذنب من جانبها.
أما داود فسمع بالأمر واغتاظ دون أن يُعاقب أمنون، إذ كان يدلل أولاده، أو لأنه رأى جريمته مع بثشبع متجلية بوضوح في حياة ابنه البكر.
انتظر أبشالوم سنتين دون أن يتحرك للانتقام حتى يظن أمنون وداود أن الأمر قد نسى، ولما جاء وقت جزّ الغنم، وهو وقت فرح (1 صم 25: 7، 36)، وذلك في بعل حاصور، دبر أبشالوم أمر اغتيال أخيه.
"بعل حصور" معناه "بعل التسييج أو الانحباس أو التطويق أو حظيرة مسيّجة"، بالقرب من قرية أفرايم. مكانه الأصلي ربما الآن "جبل القصور" يبعد حوالي أربعة أميال ونصف شمال شرقي بيت إيل وخمسة عشر ميلًا شمال شرقي أورشليم.
دعا أبشالوم أباه وإخوته جميعًا لكي يخفي ما في قلبه، وإذ استعفى الملك طلب إليه بإلحاح أن يرسل أمنون كولي العهد ونائب عنه، أخيرًا وافق داود، ربما بعد تخوف من نية أبشالوم.



4. قتل أمنون :

28 فَأَوْصَى أَبْشَالُومُ غِلْمَانَهُ قَائِلًا: «انْظُرُوا. مَتَى طَابَ قَلْبُ أَمْنُونَ بِالْخَمْرِ وَقُلْتُ لَكُمُ اضْرِبُوا أَمْنُونَ فَاقْتُلُوهُ. لاَ تَخَافُوا. أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا أَمَرْتُكُمْ؟ فَتَشَدَّدُوا وَكُونُوا ذَوِي بَأْسٍ». 29 فَفَعَلَ غِلْمَانُ أَبْشَالُومَ بِأَمْنُونَ كَمَا أَمَرَ أَبْشَالُومُ. فَقَامَ جَمِيعُ بَنِي الْمَلِكِ وَرَكِبُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى بَغْلِهِ وَهَرَبُوا. 30 وَفِيمَا هُمْ فِي الطَّرِيقِ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى دَاوُدَ وَقِيلَ لَهُ: «قَدْ قَتَلَ أَبْشَالُومُ جَمِيعَ بَنِي الْمَلِكِ، وَلَمْ يَتَبَقَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ». 31 فَقَامَ الْمَلِكُ وَمَزَّقَ ثِيَابَهُ وَاضْطَجَعَ عَلَى الأَرْضِ وَجَمِيعُ عَبِيدِهِ وَاقِفُونَ وَثِيَابُهُمْ مُمَزَّقَةٌ. 32 فَأَجَابَ يُونَادَابُ بْنُ شِمْعَى أَخِي دَاوُدَ وَقَالَ: «لاَ يَظُنَّ سَيِّدِي أَنَّهُمْ قَتَلُوا جَمِيعَ الْفِتْيَانِ بَنِي الْمَلِكِ. إِنَّمَا أَمْنُونُ وَحْدَهُ مَاتَ، لأَنَّ ذلِكَ قَدْ وُضِعَ عِنْدَ أَبْشَالُومَ مُنْذُ يَوْمَ أَذَلَّ ثَامَارَ أُخْتَهُ. 33 وَالآنَ لاَ يَضَعَنَّ سَيِّدِي الْمَلِكُ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا قَائِلًا: إِنَّ جَمِيعَ بَنِي الْمَلِكِ قَدْ مَاتُوا. إِنَّمَا أَمْنُونُ وَحْدَهُ مَاتَ».

أعد أبشالوم الخطة، ولما طاب قلب أخيه أمنون بالخمر والسكر قتله غلمان أبشالوم كطلب سيدهم. عندئذ ركب بنو الملك بغالهم وهربوا. وفيما هم في الطريق بلغ داود أن أبشالوم قتل جميع بنيه. قام الملك ومزق ثيابه واضطجع على الأرض وكان جميع عبيده واقفين بثياب ممزقة. لكن يوناداب أدرك الأمر فأخبر داود أن أبشالوم انتقم لأخته من أمنون وحده...
لقد جنى أمنون ثمر نجاسته، وأيضًا استسلامه للسكر؛ يقول سليمان الحكيم: "لمن الويل؟ لمن الشقاوة؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب؟ لمن الجروح بلا سبب؟ لمن ازمهرار العينين؟ للذين يدمنون الخمر، الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج. لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة، في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان" (أم 23: 29-32).
قدم أبشالوم لأمنون خمرًا يحمل سم الموت، أما مسيحنا فيقدم نفسه الكرمة الحقيقية التي تثمر خمر الحياة، حيث يسكر القلب بالحب الإلهي، متهللًا بالحياة معه في السمويات. لذا قيل: "خمر تفرح قلب الإنسان" (مز 104: 15).
يقول العلامة أوريجانوس: [إن كان القلب هو الجزء العقلي (في الإنسان)، وما يفرحه هو "الكلمة" الذي يبهج أفضل من كل شرب، حيث ينزع عنا الأمور البشرية ويهبنا الإحساس بالوحي ويسكرنا بمسكر إلهي وليس مسكرًا غير عاقل، فإنني أدرك ما فعله يوسف حين روى إخوته بالخمر (تك 43: 34)... (المسيح) هو الكرمة الحقيقية، عناقيده التي يحملها هي الحق، والتلاميذ هم أغصانه، هؤلاء أيضًا يثمرون الحق كثمر لهم].

5. هروب أبشالوم:

34 وَهَرَبَ أَبْشَالُومُ. وَرَفَعَ الْغُلاَمُ الرَّقِيبُ طَرْفَهُ وَنَظَرَ وَإِذَا بِشَعْبٍ كَثِيرٍ يَسِيرُونَ عَلَى الطَّرِيقِ وَرَاءَهُ بِجَانِبِ الْجَبَلِ. 35 فَقَالَ يُونَادَابُ لِلْمَلِكِ: «هُوَذَا بَنُو الْمَلِكِ قَدْ جَاءُوا. كَمَا قَالَ عَبْدُكَ كَذلِكَ صَارَ». 36 وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ إِذَا بِبَنِي الْمَلِكِ قَدْ جَاءُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَبَكَوْا، وَكَذلِكَ بَكَى الْمَلِكُ وَعَبِيدُهُ بُكَاءً عَظِيمًا جِدًّا. 37 فَهَرَبَ أَبْشَالُومُ وَذَهَبَ إِلَى تِلْمَايَ بْنِ عَمِّيهُودَ مَلِكِ جَشُورَ. وَنَاحَ دَاوُدُ عَلَى ابْنِهِ الأَيَّامَ كُلَّهَا. 38 وَهَرَبَ أَبْشَالُومُ وَذَهَبَ إِلَى جَشُورَ، وَكَانَ هُنَاكَ ثَلاَثَ سِنِينَ. 39 وَكَانَ دَاوُدُ يَتُوقُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى أَبْشَالُومَ، لأَنَّهُ تَعَزَّى عَنْ أَمْنُونَ حَيْثُ إِنَّهُ مَاتَ.

هرب أبشالوم إلى جده تلماي بن عميهود ملك جشور. كلمة "جشور" معناها "جسر"، وهي مقاطعة تقع بين حرمون وباشان تتاخم أرجوب، تقع شرقي الأردن. على حدودها جسر على نهر الأردن بين طبرية والحولة يعرف بجسر بنات يعقوب.
إذ هدأ داود اشتاق أن يرى أبشالوم، إذ كان يحبه حبًا شديدًا (2 صم 18: 5، 33)، لكن خشى نقد الناس له لأنه قاتل أمنون ولي العهد.


العفو عن أبشالوم



لأسباب كثيرة أراد يوآب أن يقوم بمصالحة داود على ابنه المحبوب لديه جدًا أبشالوم، لذا دبر خطة يكسب بها كل الأطراف؛ الملك وابنه والشعب ليحضر أبشالوم من جشور إلى أورشليم. لكن الملك صمم ألا يرى ابنه لمدة عامين حتى اضطر أبشالوم أن يستخدم العنف للضغط على يوآب ليصالحه مع أبيه.

1. إرسال امرأة حكيمة إلى داود:

1 وَعَلِمَ يُوآبُ ابْنُ صَرُويَةَ أَنَّ قَلْبَ الْمَلِكِ عَلَى أَبْشَالُومَ، 2 فَأَرْسَلَ يُوآبُ إِلَى تَقُوعَ وَأَخَذَ مِنْ هُنَاكَ امْرَأَةً حَكِيمَةً وَقَالَ لَهَا: «تَظَاهَرِي بِالْحُزْنِ، وَالْبَسِي ثِيَابَ الْحُزْنِ، وَلاَ تَدَّهِنِي بِزَيْتٍ، بَلْ كُونِي كَامْرَأَةٍ لَهَا أَيَّامٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ تَنُوحُ عَلَى مَيْتٍ. 3 وَادْخُلِي إِلَى الْمَلِكِ وَكَلِّمِيهِ بِهذَا الْكَلاَمِ». وَجَعَلَ يُوآبُ الْكَلاَمَ فِي فَمِهَا. 4 وَكَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ التَّقُوعِيَّةُ الْمَلِكَ، وَخَرَّتْ عَلَى وَجْهِهَا إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَتْ وَقَالَتْ: «أَعِنْ أَيُّهَا الْمَلِكُ». 5 فَقَالَ لَهَا الْمَلِكُ: «مَا بَالُكِ؟» فَقَالَتْ: «إِنِّي امْرَأَةٌ أَرْمَلَةٌ. قَدْ مَاتَ رَجُلِي. 6 وَلِجَارِيَتِكَ ابْنَانِ، فَتَخَاصَمَا فِي الْحَقْلِ وَلَيْسَ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ وَقَتَلَهُ. 7 وَهُوَذَا الْعَشِيرَةُ كُلُّهَا قَدْ قَامَتْ عَلَى جَارِيَتِكَ وَقَالُوا: سَلِّمِي ضَارِبَ أَخِيهِ لِنَقْتُلَهُ بِنَفْسِ أَخِيهِ الَّذِي قَتَلَهُ، فَنُهْلِكَ الْوَارِثَ أَيْضًا. فَيُطْفِئُونَ جَمْرَتِي الَّتِي بَقِيَتْ، وَلاَ يَتْرُكُونَ لِرَجُلِي اسْمًا وَلاَ بَقِيَّةً عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ». 8 فَقَالَ الْمَلِكُ لِلْمَرْأَةِ: «اذْهَبِي إِلَى بَيْتِكِ وَأَنَا أُوصِي فِيكِ». 9 فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ التَّقُوعِيَّةُ لِلْمَلِكِ: «عَلَيَّ الإِثْمُ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ وَعَلَى بَيْتِ أَبِي، وَالْمَلِكُ وَكُرْسِيُّهُ نَقِيَّانِ». 10 فَقَالَ الْمَلِكُ: «إِذَا كَلَّمَكِ أَحَدٌ فَأْتِي بِهِ إِلَيَّ فَلاَ يَعُودَ يَمَسُّكِ بَعْدُ». 11 فَقَالَتِ: «اذْكُرْ أَيُّهَا الْمَلِكُ الرَّبَّ إِلهَكَ حَتَّى لاَ يُكَثِّرَ وَلِيُّ الدَّمِ الْقَتْلَ، لِئَلاَّ يُهْلِكُوا ابْنِي». فَقَالَ: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، إِنَّهُ لاَ تَسْقُطُ شَعْرَةٌ مِنْ شَعْرِ ابْنِكِ إِلَى الأَرْضِ».



أراد يوآب أن يكون هو الواسطة لمصالحة داود على ابنه أبشالوم، وكان دافعه في ذلك الأمر هو:
أ. كان يعلم إن داود يحب أبشالوم جدًا، مشتاقًا أن يرده إلى أورشليم، لكنه يخشى نقد الشعب له، لهذا أوجد مجالًا للمصالحة أو على الأقل لرده إلى أورشليم. الأمر الذي يفرح قلب داود داخليًا حتى إن تظاهر بغير ذلك.

ب. أدرك أنه وإن طال الزمن لا بُد أن يتصالح داود مع ابنه، فبقيامه هو بهذا الدور يكسب صداقة الطرفين.

ج. يعلم أن لأبشالوم شعبية كبيرة، فإن مات داود ينقسم الشعب على نفسه، كثيرون يطلبونه ملكًا، وآخرون يتشككون بسبب غضب والده عليه لقتله أمنون أخيه البكر... هنا يحدث انشقاق لا تُعرف عاقبته.

د. رجوع أبشالوم قاتل أخيه، وصفح داود عنه، ينزع مشاعر الضيق من داود تجاه يوآب بكونه قاتل منافسه أبنير.

هذه الأسباب جميعها دفعت يوآب أن يلجأ إلى امرأة حكيمة من تقوع، وهي قرية في يهوذا قرب بيت لحم، جنوب شرقي أورشليم، تُدعى تقوعة، وهي قرية عاموس النبي. وكان يوآب من بيت لحم سمع عن هذه المرأة وتعرف عليها، لذا لجأ إليها، ودبر لها الخطة حتى لا يكتشفها داود الملك.
يعرف يوآب قلب داود النبي المتسع جدًا والمملوء رحمة خاصة تجاه الحزانى والمتألمين، وبالأكثر إن كانوا يتامَى أو أرامل. لهذا طلب من المرأة أن تقوم بدور أرملة حزينة للغاية وفي ضيق شديد، فجاءت إليه كمن تنوح على ميت. لبست ثياب الحزن ولم تُدهن بزيت علامة عدم اعتنائها بجسدها. وأخذت تروي للملك قصتها المزعومة لتطابق حالة أبشالوم من جوانب متعددة حتى تسحب من فمه وعدًا بل وقسمًا بالعفو عن ابنه أبشالوم.
خرت المرأة التقوعية أمام الملك على وجهها إلى الأرض وسجدت ثم طلبت منه أن يُعينها. عرضت قضيتها أنها أرملة مات رجلها، ولها ابنان تخاصما في الحقل وليس من يفصل بينهما فضرب أحدهما الآخر وقتله. قامت العشيرة كلها عليها لتسلم ضارب أخيه فيقتلوه بنفس أخيه. بهذا تُهلك الوارث أيضًا.


إنها تطلب رحمة لها والعفو عن ابنها، ليس من أجله هو، وإنما من أجل ترملها. ابنها يمثل جمرة تضطرم منها النار، ولغاية في نفوس العشيرة تود أن تطفئ الجمرة لكي تستولي على الميراث. هذا من جانب ومن جانب آخر فانه الوارث الوحيد الذي يحمل اسم رجلها ويقيم اسم الميت.
ترآف داود جدًا عليها ووعدها أن يوصي بها كي لا يموت ابنها [8].
لم تكتفِ المرأة بتوصية داود من أجلها ومن أجل ابنها، بل أرادت تأكيدًا بالعفو عن أن تتحمل هي إثم إلغاء حكم الشريعة الموسوية الخاص بقتل القاتِل، وكان ذلك جائزًا من أجل الرحمة (تث 19: 3؛ يش 20: 1-9)؛ إذ قالت له: "عليّ الإثم يا سيدي الملك وعلى بيت أبي، والملك وكرسيه نقيان" [9]. عندئذ وعدها الملك بالعفو قائلًا لها: "إذا كلمك أحد فأتِ به إليّ فلا يعود يُمسك بعد" [10].
لم تكتف بتوصية الملك وبوعده إذ تظاهرت بالخوف من ولي الدم لئلا يهلكوا ابنها، عندئذ قدم لها قسمًا: "حيّ هو الرب إنه لا تسقط شعرة من شعر ابنك إلى الأرض" [11]. بهذا القسم صدر الحكم من فم داود الملك بالعفو على ابنه أبشالوم قاتل أخيه أمنون!
نجحت المرأة المتظاهرة بالحزن أن تغتصب من داود تدريجيًا الآتي:
أ. وعدًا أن يوصي بأمرها ويترفقوا بها .
ب. أن تنال حكمًا فوريًا لصالحها من فمه.
ج. ألا يتعرض لها أحد بأذية، ويقوم بحمايتها.
د. أن ينال ابنها العفو ويقوم الملك بحمايته.
ه. قسمًا بالعفو الشامل لابنها.



2. المرأة تصارح داود:

12 فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «لِتَتَكَلَّمْ جَارِيَتُكَ كَلِمَةً إِلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ». فَقَالَ: «تَكَلَّمِي» 13 فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «وَلِمَاذَا افْتَكَرْتَ بِمِثْلِ هذَا الأَمْرِ عَلَى شَعْبِ اللهِ؟ وَيَتَكَلَّمُ الْمَلِكُ بِهذَا الْكَلاَمِ كَمُذْنِبٍ بِمَا أَنَّ الْمَلِكَ لاَ يَرُدُّ مَنْفِيَّهُ. 14 لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ نَمُوتَ وَنَكُونَ كَالْمَاءِ الْمُهْرَاقِ عَلَى الأَرْضِ الَّذِي لاَ يُجْمَعُ أَيْضًا. وَلاَ يَنْزِعُ اللهُ نَفْسًا بَلْ يُفَكِّرُ أَفْكَارًا حَتَّى لاَ يُطْرَدَ عَنْهُ مَنْفِيُّهُ. 15 وَالآنَ حَيْثُ إِنِّي جِئْتُ لأُكَلِّمَ الْمَلِكَ سَيِّدِي بِهذَا الأَمْرِ، لأَنَّ الشَّعْبَ أَخَافَنِي، فَقَالَتْ جَارِيَتُكَ: أُكَلِّمُ الْمَلِكَ لَعَلَّ الْمَلِكَ يَفْعَلُ كَقَوْلِ أَمَتِهِ. 16 لأَنَّ الْمَلِكَ يَسْمَعُ لِيُنْقِذَ أَمَتَهُ مِنْ يَدِ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُهْلِكَنِي أَنَا وَابْنِي مَعًا مِنْ نَصِيبِ اللهِ. 17 فَقَالَتْ جَارِيَتُكَ: لِيَكُنْ كَلاَمُ سَيِّدِي الْمَلِكِ عَزَاءً، لأَنَّهُ سَيِّدِي الْمَلِكُ إِنَّمَا هُوَ كَمَلاَكِ اللهِ لِفَهْمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالرَّبُّ إِلهُكَ يَكُونُ مَعَكَ». 18 فَأَجَابَ الْمَلِكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «لاَ تَكْتُمِي عَنِّي أَمْرًا أَسْأَلُكِ عَنْهُ». فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «لِيَتَكَلَّمْ سَيِّدِي الْمَلِكُ». 19 فَقَالَ الْمَلِكُ: «هَلْ يَدُ يُوآبَ مَعَكِ فِي هذَا كُلِّهِ؟» فَأَجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ: «حَيَّةٌ هِيَ نَفْسُكَ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ، لاَ يُحَادُ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا عَنْ كُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ سَيِّدِي الْمَلِكُ، لأَنَّ عَبْدَكَ يُوآبَ هُوَ أَوْصَانِي، وَهُوَ وَضَعَ فِي فَمِ جَارِيَتِكَ كُلَّ هذَا الْكَلاَمِ. 20 لأَجْلِ تَحْوِيلِ وَجْهِ الْكَلاَمِ فَعَلَ عَبْدُكَ يُوآبُ هذَا الأَمْرَ، وَسَيِّدِي حَكِيمٌ كَحِكْمَةِ مَلاَكِ اللهِ لِيَعْلَمَ كُلَّ مَا فِي الأَرْضِ».

نجحت المرأة التقوعية في تمثيل الفصل الأول من المسرحية، حيث انتزعت كل ما تُريده من فم الملك، وهو القسم بالعفو الشامل عن قاتل أخيه. عندئذ نزعت المرأة قناعها لتصارح الملك في الفصل الثاني من المسرحية أنه إن كان الملك يحكم هكذا بالنسبة لشعب الله فلماذا لا يرد منفيه، أي ابنه أبشالوم.
دُهش الملك لما فعلته المرأة، وقد وجد هذا العمل نوعًا من الاستطابة في قلبه من أجل محبته لابنه أبشالوم. شبهت المرأة الشعب بالأم المحبة لابنها أبشالوم دون تجاهل للقتيل ابنها أمنون. والملك هو ولي الدم من حقه أن يطالب بالدم. لكنه يلزم أن يترفق بالشعب المحب والذي يطلب العفو عن أبشالوم بالنسبة لقتل أمنون.
كان يمكن لداود أن يحاور المرأة مظهرًا أن حالتها غير مطابقة لحالة أبشالوم في أمور كثيرة، منها أن أبشالوم لم يقتل أمنون نتيجة ثورة مفاجئة وغضب سريع وانفعال وقتي إنما خلال خطة أحكمها ودبر لها زمانًا، وكان يمكنه أن يراجع نفسه أو يستشير أحدًا.
وأيضًا أبشالوم ليس وحيدًا إذ له أخوة آخرون يمكنهم أن يرثوا ويحملوا اسم ابيهم. عدم محاورة داود لها يكشف عن رغبة خفية في قلبه لرجوع ابنه إلى أورشليم.
أرادت المرأة تأكيد ضرورة رجوع أبشالوم، إذ قدمت لداود حججًا وبراهين منها:
أ. قولها: "لماذا افتكرت بمثل هذا الأمر على شعب الله؟" [13]. كأنها تقول له إن كنت تترآف على أرملة فتعفو عن ابنها القاتل، كم بالأكثر يليق بك أن تُراعي مشاعر شعب الله بأسره وقد تعلق قلبه بأبشالوم؛ أما تستحق مشاعر هذا الشعب أن يكون لها اعتبار لديك؟
ب. قولها: "لا بُد أن نموت" [14]. ربما قصدت أن أيامنا جميعًا قليلة للغاية، فلنحتمل بعضنا بعضًا وليسامح أحدنا الآخر، لنقضي أيامًا مملوءة سلامًا وفرحًا لبنيان الجماعة. أو لعلها أرادت القول إن الجميع يموتون، وكان لا بُد لأمنون أن يموت. لقد مات مقتولًا، لكنه حتى ولو لم يقتله أبشالوم فهو يموت أيضًا، فاصفح لأن أمنون لا يعود إلى الحياة في هذا العالم ثانية، ونفي أبشالوم لا يحل المشكلة.
ج. قولها: "لا ينزع الله نفسًا" [14]؛ أي لا بُد من الموت الطبيعي في وقته المجهول، لذا فإن الله يريد الرحمة ولا يطلب أن ننتزع حياة إخوتنا. ربما أشارت ضمنًا إلى داود نفسه الذي استوجب الموت ومع ذلك لم ينزع الله نفسه بل غفر له، لذا لاق به أن يغفر للغير.


د. قولها: "لأن الشعب أخافني" [15]. فإن الشعب وهو يمثل الأم التي فقدت ابنها المحبوب أمنون ها هي تفقد أبشالوم، لذا يطلبون رجوع الأخير، وأنهم أخافوها لئلا تفشل في مسعاها لدى داود.
بحكمة ختمت المرأة حديثها بمدحها له: "ليكن كلام سيدي الملك عزاء، لأن سيدي الملك إنما هو كملاك الله لفهم الخير والشر، والرب إلهك يكون معك" [17].
أدرك داود النبي أن يوآب وراء المرأة، وإذ سألها أجابته بالحق في اتضاع وحكمة حتى لا يثور الملك عليه: "هو وضع في فم جاريتك كل هذا الكلام، لأجل تحويل وجه الكلام فعل عبدك يوآب هذا الأمر، وسيدي حكيم كحكمة ملاك الله ليعلم كل ما في الأرض" (2 صم 14: 19-20).
بلا شك تستحق هذه المرأة كل مديح من أجل حكمتها الملتحمة باتضاعها؛ عرفت كيف تنال طلبتها ليس لنفع خاص بها شخصيًا وإنما من أجل سلام الجماعة، ولرد أبشالوم إلى أورشليم.
يحدثنا مار إسحق السرياني عن ضرورة ارتباط الحكمة أو التمييز بالاتضاع فيقول:
[الاتضاع بتمييز هو معرفة حقيقية.
المعرفة الحقيقية هي ينبوع الاتضاع.
المتضع في القلب متضع في الجسد].

3. يوآب يتشفع في أبشالوم:

21 فَقَالَ الْمَلِكُ لِيُوآبَ: «هأَنَذَا قَدْ فَعَلْتُ هذَا الأَمْرَ، فَاذْهَبْ رُدَّ الْفَتَى أَبْشَالُومَ». 22 فَسَقَطَ يُوآبُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ وَبَارَكَ الْمَلِكَ، وَقَالَ يُوآبُ: «الْيَوْمَ عَلِمَ عَبْدُكَ أَنِّي قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ، إِذْ فَعَلَ الْمَلِكُ قَوْلَ عَبْدِهِ». 23 ثُمَّ قَامَ يُوآبُ وَذَهَبَ إِلَى جَشُورَ وَأَتَى بِأَبْشَالُومَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. 24 فَقَالَ الْمَلِكُ: «لِيَنْصَرِفْ إِلَى بَيْتِهِ وَلاَ يَرَ وَجْهِي». فَانْصَرَفَ أَبْشَالُومُ إِلَى بَيْتِهِ وَلَمْ يَرَ وَجْهَ الْمَلِكِ.

طلب الملك من يوآب أن يتمم هذه المهمة التي من أجلها أرسل المرأة إليه؛ عبر يوآب عن شكره للملك بالسجود أمامه إلى الأرض على وجهه، إذ حسب ذلك كرمًا من الملك أن يستجيب لطلبة عبده وأن يطلب منه أن يتمم هذه المهمة بنفسه.


رأينا في حديثنا السابق (في نفس الأصحاح) الأسباب التي لأجلها طلب يوآب رد أبشالوم إلى أورشليم؛ لم يكن من بينها ما يظهر أن يوآب محبًا لأبشالوم، إذ كان العمل سياسيًا بحتًا، لكسب صداقة الملك وابنه وتقدير الشعب له. لهذا لا نعجب إن رأيناه يقوم بقتل أبشالوم (2 صم 14: 7-8) وبتوبيخ الملك على حزنه المفرط عليه (2 صم 19: 5-7).
طلب الملك رده إلى أورشليم على ألا يرى وجهه [24] للأسباب التالية:
أ. لا يظهر أمام الشعب أنه متهاون في حق دم أمنون.
ب. لكي يعرف أبشالوم أن يتضع مقدمًا التوبة عما ارتكبه.
ج. لأنه خشى أن يخرج ويدخل فيكسب شعبية تسنده في تولي الحكم بعده، إذ كانت بثشبع تطلب أن يتولى ابنها سليمان العرش.

4. جمال أبشالوم وجاذبيته:

25 وَلَمْ يَكُنْ فِي كُلِّ إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ جَمِيلٌ وَمَمْدُوحٌ جِدًّا كَأَبْشَالُومَ، مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ حَتَّى هَامَتِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَيْبٌ. 26 وَعِنْدَ حَلْقِهِ رَأْسَهُ، إِذْ كَانَ يَحْلِقُهُ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ، لأَنَّهُ كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَيَحْلِقُهُ، كَانَ يَزِنُ شَعْرَ رَأْسِهِ مِئَتَيْ شَاقِل بِوَزْنِ الْمَلِكِ. 27 وَوُلِدَ لأَبْشَالُومَ ثَلاَثَةُ بَنِينَ وَبِنْتٌ وَاحِدَةٌ اسْمُهَا ثَامَارُ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ.

لم يمدح أبشالوم إلا في جمال جسده الذي جذب قلوب الشعب. قيل: "ولم يكن في إسرائيل رجل جميل وممدوح جدًا كأبشالوم من باطن قدمه حتى هامته لم يكن فيه عيب" [25]. كان شعره غزيرًا جدًا وجميلًا، يدهنه بالأطياب، وربما كان يُزينه ببرادة ذهب مما زاد في جماله وفي وزنه. كان يحلق شعره سنويًا ويزنه كعادة الفلسطينيين في ذلك الوقت بكونها ممارسة دينية.
اكتسب أبشالوم شعبيته خلال جمال جسده وليس خلال قدسية نفسه ونقاوة قلبه. لهذا لم تدم هذه الشعبية ولا انتفع بمديح الناس له، وإنما على العكس هذا سبب هلاكه كما سنرى.
يحدثنا مار إسحق السرياني عن ضرورة الاهتمام بجمال النفس لا الجسد قائلًا: [تتطلع (النفس) إلى الجمال السماوي في داخلها كما في مرآة كاملة، خلال نقاوتها المطلقة تعكس جمال وجوه الناس. لقد قيل: "القداسة تليق بالقديسين"].
سجل لنا القديس إكليمنضس الإسكندري فصلًا كاملًا عن "الجمال الحقيقي" في كتابه "المعلم" ، جاء فيه:
[الإنسان الذي يسكنه الكلمة لا يغير ذاته (بالحلي والزينة الخارجية) ولا يبتكر لنفسه شيئًا، إذ له شكل الكلمة، إنه مخلوق على مثال الله، إنه جميل فلا يزين نفسه، له الله الجمال الحقيقي...].
[يوجد أيضًا جمال آخر للإنسان: المحبة].
[ليس من شأن الإنسان الخارجي (الجسد) أن يتزين بحلي الصلاح بل من شأن النفس].



5. أبشالوم يضغط على يوآب:

28 وَأَقَامَ أَبْشَالُومُ فِي أُورُشَلِيمَ سَنَتَيْنِ وَلَمْ يَرَ وَجْهَ الْمَلِكِ. 29 فَأَرْسَلَ أَبْشَالُومُ إِلَى يُوآبَ لِيُرْسِلَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا ثَانِيَةً، فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَأْتِيَ. 30 فَقَالَ لِعَبِيدِهِ: «انْظُرُوا. حَقْلَةَ يُوآبَ بِجَانِبِي، وَلَهُ هُنَاكَ شَعِيرٌ. اذْهَبُوا وَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ». فَأَحْرَقَ عَبِيدُ أَبْشَالُومَ الْحَقْلَةَ بِالنَّارِ. 31 فَقَامَ يُوآبُ وَجَاءَ إِلَى أَبْشَالُومَ إِلَى الْبَيْتِ وَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا أَحْرَقَ عَبِيدُكَ حَقْلَتِي بِالنَّارِ؟» 32 فَقَالَ أَبْشَالُومُ لِيُوآبَ: «هأَنَذَا قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ قَائِلًا: تَعَالَ إِلَى هُنَا فَأُرْسِلَكَ إِلَى الْمَلِكِ تَقُولُ: لِمَاذَا جِئْتُ مِنْ جَشُورَ؟ خَيْرٌ لِي لَوْ كُنْتُ بَاقِيًا هُنَاكَ. فَالآنَ إِنِّي أَرَى وَجْهَ الْمَلِكِ، وَإِنْ وُجِدَ فِيَّ إِثْمٌ فَلْيَقْتُلْنِي». 33 فَجَاءَ يُوآبُ إِلَى الْمَلِكِ وَأَخْبَرَهُ. وَدَعَا أَبْشَالُومَ، فَأَتَى إِلَى الْمَلِكِ وَسَجَدَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ قُدَّامَ الْمَلِكِ، فَقَبَّلَ الْمَلِكُ أَبْشَالُومَ.

بقى أبشالوم عامين في أورشليم لم يستطع خلالها أن يرى وجه الملك، لكنه لم يتعلم خلالها كيف يقتني العفو بالاتضاع إنما بقى عنيفًا في أعماقه.
يبدو أن يوآب خشى أن يأتي إلى أبشالوم لئلا يغضب داود عليه؛ كرر أبشالوم الطلب لكن يوآب لم يتحرك لمصالحة أبشالوم على داود أبيه. عندئذ أرسل أبشالوم عبيده وأحرقوا حقل يوآب بالنار، فخاف يوآب وجاء إليه. طلب منه أن يتدخل لدى الملك لينظر في دعواه، إما أن يحكم ببراءته فيلتقي به أو يقتله. عرف أبشالوم نقطة ضعف أبيه، إنه لن يقبل قتل ابنه، ولعله خشى إن حكم على ابنه يُشهر ابنه به بسبب قتله أوريا الحثي.
جاء يوآب إلى الملك وأخبره بكلمات أبشالوم، فَدَعَى الملك ابنه وأعلن العفو عنه بتقبيله.
لقد نجح أبشالوم في العودة إلى القصر، ربما بهدف التخطيط لاغتصاب العرش من أبيه.


عقوق أبشالوم



عاد أبشالوم إلى أورشليم ليس من أجل شوقه لصفح أبيه عن قتله لأخيه أمنون، ولا حبًا في والده، وإنما ليهيئ الطريق لنفسه كي يغتصب المُلك من والده مهما كلفه الأمر.


1. أبشالوم يعد الطريق لنفسه:

"وَكَانَ بَعْدَ ذلِكَ أَنَّ أَبْشَالُومَ اتَّخَذَ مَرْكَبَةً وَخَيْلًا وَخَمْسِينَ رَجُلًا يَجْرُونَ قُدَّامَهُ" [1].

يكشف هذا التصرف عن هدف أبشالوم من العودة إلى أورشليم، فقد حمل في داخله لهيب نار محبة المجد الباطل، تصالح مع والده لا لينال رضاه، ولا ليُقابل حبه الأبوي بالحب البنوي الخالص، وإنما ليخطط كي يغتصب منه العرش بروح العجرفة والعقوق، مظهرًا نفسه كرجل عظيم يستخدم مركبة ملوكية وخيلًا ويجري أمامه خمسون رجلًا.


لقد أعد الله لداود المُلك خلال الضيق والتعب لسنوات طويلة، أما أبشالوم فهيأ نفسه للمُلك خلال المظاهر الخارجية والمجد الباطل. فقد تَعَلَّم من جده تلماي بن عميهود ملك جشور (2 صم 13: 37) استخدام المركبة الملوكية والخيل وجَري الرجال أمامه الأمر الذي سبق فحذر صموئيل النبي منه الشعب حينما طلبوا لأنفسهم ملكًا كسائر الأمم قائلًا لهم: "يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه فيركضون أمام مراكبه" (1 صم 8: 11).
هكذا اقتدى أبشالوم بملوك الأمم في العظمة بينما كان والده يمتطي بغلًا في بساطة مظهر واتضاع، وقد وجدت المظاهر الخارجية مع جمال أبشالوم الجسدي هوى لدى الكثيرين فزادت شعبيته، وحسبه البعض أولى بهذا المركز القيادي.
كان أبشالوم يجري وراء المجد الباطل ليستلم العرش ولم يدري أنه إنما يجري وراء هلاكه الروحي والجسدي أيضًا، ليفقد أبديته كما حياته الزمنية.
يحدثنا الآباء عن أهمية الاتضاع كطريق للمجد وخطورة المجد الباطل:
*كن وضيعًا في عيني نفسك فترى مجد الله في داخلك.
حيث ينبت الاتضاع هناك يتفجر مجد الله.
إن جاهدت لكي يستهين بك كل بشر، فالله يمجدك.
إن كان لك اتضاع في قلبك، فسيظهر الله لك مجده في قلبك.
كن مزدري في عظمتك ولا تكن عظيمًا في تفاهتك...
لا تطلب أن تكون مكرمًا بينما داخلك مملوء جراحات.
أرفض الكرامة فتصير مكرمًا ولا تحبها فلا تُهان.
من يطلب الكرامة تهرب منه، ومن يهرب من الكرامة تطارده، ويعلن كل بشر عن اتضاعه.
*اهرب من المجد الباطل فتتمجد، خف من الكبرياء فتتعظم.
مار إسحق السرياني
*إنني أثق أن العمل الروحي البسيط حين نمارسه باتضاع، فإنه يبلغ بنا أن نكون مع القديسين الذين جاهدوا كثيرًا وصاروا خدامًا حقيقيين لله.
*يوجد طريق حقيقي للنمو: بالنمو في الاتضاع يبلغ الإنسان المجد الإلهي الحقيقي.
الأب دوروثيوس



2. أبشالوم يمالئ الشعب:

2 وَكَانَ أَبْشَالُومُ يُبَكِّرُ وَيَقِفُ بِجَانِبِ طَرِيقِ الْبَابِ، وَكُلُّ صَاحِبِ دَعْوَى آتٍ إِلَى الْمَلِكِ لأَجْلِ الْحُكْمِ، كَانَ أَبْشَالُومُ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «مِنْ أَيَّةِ مَدِينَةٍ أَنْتَ؟» فَيَقُولُ: «مِنْ أَحَدِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ عَبْدُكَ». 3 فَيَقُولُ أَبْشَالُومُ لَهُ: «انْظُرْ. أُمُورُكَ صَالِحَةٌ وَمُسْتَقِيمَةٌ، وَلكِنْ لَيْسَ مَنْ يَسْمَعُ لَكَ مِنْ قِبَلِ الْمَلِكِ». 4 ثُمَّ يَقُولُ أَبْشَالُومُ: «مَنْ يَجْعَلُنِي قَاضِيًا فِي الأَرْضِ فَيَأْتِيَ إِلَيَّ كُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ خُصُومَةٌ وَدَعْوَى فَأُنْصِفَهُ؟». 5 وَكَانَ إِذَا تَقَدَّمَ أَحَدٌ لِيَسْجُدَ لَهُ، يَمُدُّ يَدَهُ وَيُمْسِكُهُ وَيُقَبِّلُهُ. 6 وَكَانَ أَبْشَالُومُ يَفْعَلُ مِثْلَ هذَا الأَمْرِ لِجَمِيعِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يَأْتُونَ لأَجْلِ الْحُكْمِ إِلَى الْمَلِكِ، فَاسْتَرَقَّ أَبْشَالُومُ قُلُوبَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ.

لكي يسحب أبشالوم الكرسي من تحت والده لم يقف عند اهتمامه بجماله الجسدي ومظاهر الأبهة والعظمة وإنما في خداع صار يمالئ الشعب. كان يبكر ويقف بجانب طريق باب المدينة ليمنع المتقاضين من الوصول إلى موضع اجتماع أبيه؛ يُعطي اهتمامًا لكل شخص فيسأله عن مدينته وسبطه، ليقول له في خداع دون فحصه لقضيته: "انظر أمورك صالحة ومستقيمة، ولكن ليس من يسمع لك من قبل الملك" [3]. هكذا يتحدث أبشالوم بذات القول للطرفين المتخاصمين لا ليقضي وإنما ليثير الكل على والده ويحثهم على إقامته هو ملكًا وقاضيًا، إذ كان يردد القول: "من يجعلني قاضيًا في الأرض فيأتي إليّ كل إنسان له خصومة ودعوى فأنصفه؟!" [4].
في اتضاع مزيف متى أراد أحد أن يسجد له كابن ملك وولي عهد، يمد يده ويمسكه ويقبله، كأنه صديق شخصي له... بهذا استرق أبشالوم قلوب الكثيرين، أمالهم إليه ليكسب ودّهم واحترامهم وطاعتهم له حتى يقيموه ملكًا عوضًا عن أبيه.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان أبشالوم مخادعًا، يسرق كل قلوب الناس. لاحظ كيف كان عظيمًا في خداعه! قيل إنه كان يذهب ويقول: أليس من يقضي لك؟! راغبًا في أن يصالح كل أحد معه؛ أما داود فكان بلا عيب. ماذا إذن؟ أنظر إلى نهاية كل منهما. أنظر كيف كان الأول في جنون مطبق! إذ كان يتطلع فقط إلى أذية أبيه صار أعمى في كل الأمور الأخرى، أما داود فلم يكن كذلك، لأن "من يسلك بالاستقامة يسلك بأمان" (أم 10: 9)، وبتعقل].

3. المناداة به ملكًا:

7 وَفِي نِهَايَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ أَبْشَالُومُ لِلْمَلِكِ: «دَعْنِي فَأَذْهَبَ وَأُوفِيَ نَذْرِي الَّذِي نَذَرْتُهُ لِلرَّبِّ فِي حَبْرُونَ، 8 لأَنَّ عَبْدَكَ نَذَرَ نَذْرًا عِنْدَ سُكْنَايَ فِي جَشُورَ فِي أَرَامَ قَائِلًا: إِنْ أَرْجَعَنِي الرَّبُّ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَإِنِّي أَعْبُدُ الرَّبَّ». 9 فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «اذْهَبْ بِسَلاَمٍ». فَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى حَبْرُونَ. 10 وَأَرْسَلَ أَبْشَالُومُ جَوَاسِيسَ فِي جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ قَائِلًا: «إِذَا سَمِعْتُمْ صَوْتَ الْبُوقِ، فَقُولُوا: قَدْ مَلَكَ أَبْشَالُومُ فِي حَبْرُونَ». 11 وَانْطَلَقَ مَعَ أَبْشَالُومَ مِئَتَا رَجُل مِنْ أُورُشَلِيمَ قَدْ دُعُوا وَذَهَبُوا بِبَسَاطَةٍ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ شَيْئًا. 12 وَأَرْسَلَ أَبْشَالُومُ إِلَى أَخِيتُوفَلَ الْجِيلُونِيِّ مُشِيرِ دَاوُدَ مِنْ مَدِينَتِهِ جِيلُوهَ إِذْ كَانَ يَذْبَحُ ذَبَائِحَ. وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ شَدِيدَةً وَكَانَ الشَّعْبُ لاَ يَزَالُ يَتَزَايَدُ مَعَ أَبْشَالُومَ.

تم ذلك في نهاية أربعين سنة من مسح داود ملكًا على يدي صموئيل (1 صم 16: 1). يرى البعض أنه في نهاية أربعين عامًا من مصالحة أبشالوم لأبيه أعد الطريق لنفسه لكي يَمْلُك.
طلب من أبيه السماح له بالذهاب إلى حبرون ليفي نذرًا تعهد به وهو في جشور قائلا: "إن أرجعني الرب إلى أورشليم فإني أعبد الرب" (2 صم 15: 8). وكان ذلك على الأرجح خداعًا، لكن أباه الذي يطلب استقامة ابنه فرح جدًا أن يسمع منه أنه يريد أن يعبد الرب في حبرون بلد مولده، لذا سمح له بالذهاب بكامل حريته.
وضع أبشالوم الخطة ربما مع بعض المشيرين، وقد أحكمها تمامًا، إذ احتوت الخطوط العريضة التالية:
أ. أن يعلن توليه الحكم في حبرون -أحدى مدن يهوذا- التي عاش فيها داود زمانًا كملك لسبط يهوذا، وأقامها عاصمة لمملكته. في حبرون -بعيدًا عن أورشليم- يستطيع أبشالوم أن يجمع حوله كل الطاقات والشخصيات التي تسنده ضد والده، خاصة أن رجال يهوذا كانوا قد غضبوا لانتقال داود من حبرون إلى أورشليم.
ب. بعث أبشالوم إلى جميع الأسباط رُسلًا دعوا جواسيس لأن عملهم كان سريًا، حتى ينادي الكل به ملكًا في وقت واحد، فلا يجد داود أمامه ملجأ للهروب.
ج. أخذ أبشالوم معه مائتين من عظماء الرجال، دعاهم لأجل الذبيحة وهم لا يدرون ما ينوي عليه أبشالوم. وجودهم معه في حبرون يوحي للأسباط بأن عظماء المملكة تركوا داود لتعضيد أبشالوم، وأنهم جاءوا معه لتحقيق هذا الهدف؛ بهذا يشعر الكل أن أبشالوم يستحق المُلك عن أبيه. هذا وسحبهم إلى حبرون يغلق الباب أمام العظماء عن التشاور مع داود في أمر عقوق ابنه وفتنته، فيصيرون أمام الأمر الواقع أن يقبلوا الملك الجديد.
د. استعان أبشالوم بأخيتوفل الجيلوني [12]، إذ تَوَسَّم فيه الرغبة مع القدرة على خيانة داود، وهو في هذا يشبه يهوذا في خيانته لسيده كما يشبهه في طريقة موته (مز 41: 9؛ أع 1: 18).


"جيلوه" قرية في جبال يهوذا (يش 15: 51)، يحتمل أن تكون هي "خربة جعلا" الحالية، التي تبعد حوالي خمسة أميال شمال غربي حبرون.
هكذا أحكم أبشالوم الخطة بطريقة بشرية ولم يكن أمام داود طريق إلا الهروب أو الاستسلام فيتعرض للقتل على يدي ابنه.

4. هروب داود ورجاله:

13 فَأَتَى مُخَبِّرٌ إِلَى دَاوُدَ قَائِلًا: «إِنَّ قُلُوبَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ صَارَتْ وَرَاءَ أَبْشَالُومَ». 14 فَقَالَ دَاوُدُ لِجَمِيعِ عَبِيدِهِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي أُورُشَلِيمَ: «قُومُوا بِنَا نَهْرُبُ، لأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا نَجَاةٌ مِنْ وَجْهِ أَبْشَالُومَ. أَسْرِعُوا لِلذَّهَابِ لِئَلاَّ يُبَادِرَ وَيُدْرِكَنَا وَيُنْزِلَ بِنَا الشَّرَّ وَيَضْرِبَ الْمَدِينَةَ بِحَدِّ السَّيْفِ». 15 فَقَالَ عَبِيدُ الْمَلِكِ لِلْمَلِكِ: «حَسَبَ كُلِّ مَا يَخْتَارُهُ سَيِّدُنَا الْمَلِكُ نَحْنُ عَبِيدُهُ». 16 فَخَرَجَ الْمَلِكُ وَجَمِيعُ بَيْتِهِ وَرَاءَهُ. وَتَرَكَ الْمَلِكُ عَشَرَ نِسَاءٍ سَرَارِيَّ لِحِفْظِ الْبَيْتِ. 17 وَخَرَجَ الْمَلِكُ وَكُلُّ الشَّعْبِ فِي أَثَرِهِ وَوَقَفُوا عِنْدَ الْبَيْتِ الأَبْعَدِ.

أدرك داود الخطر مبكرًا، ولعله تذكر خطيته وقول الرب له: "والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد لأنك احتقرتني... هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك" (2 صم 12: 10-11).
أشفق داود على المدينة، وخشى أن يضربها أبشالوم بالسيف بسببه، لذا قال لجميع عبيده: "قوموا بنا نهرب، لأنه ليس نجاة من وجه أبشالوم. أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا وينزل بنا الشر ويضرب المدينة بحد السيف" [14].
خرج الملك وكل رجاله في اثره ووقفوا عند آخر بيت من بيوت المدينة من جهة الشرق على طريق وادي قدرون ليعبروا بين يديه...
تمررت نفس داود لخيانة ابنه له وثورته ضده، لكن قلبه امتلأ رجاء في الرب مخلصه. بروح النبوة أدرك داود أن ما حل به من خيانة أبشالوم وأخيتوفل له إنما يرمز لخيانة يهوذا للسيد المسيح.
عندما هرب داود ترنم بالمزمور الثالث:
"يا رب لماذا كثر الذين يحزنونني؟!
كثيرون قاموا عليّ.
كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه.
أنت يا رب، أنت هو ناصري، مجدي، ورافع رأسي.


أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت...".
يعلق القديس أغسطينوس على هذا المزمور قائلًا:
[الكلمات "أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب يعضدني" تقودنا إلى الاعتقاد بأن هذا المزمور يُفهم في شخص المسيح، فإنها تنطبق على آلام ربنا وقيامته أكثر منها على تاريخ هروب داود من وجه ابنه العاق... إذ كُتب عن تلاميذ المسيح [بنو العريس لا يصومون ما دام العريس معهم] (راجع مت 9: 15)، فلا نعجب إن كان ابنه العاق هنا قصد به التلميذ الذي خانه. يُفهم هروبه من أمام وجهه تاريخيًا عندما سحب السيد بقية التلاميذ إلى الجبل عند خروج الخائن، ويُفهم روحيًا عندما ترك ابن الله الذي هو قوة الله وحكمته ذهن يهوذا إذ ملأ الشيطان قلبه، يُفهم بهذا أن المسيح هرب من وجهه. لا يعني هذا أن المسيح أعطى مكانًا للشيطان، وإنما إذ تركه المسيح ملك الشيطان فيه...
هرب الحق من ذهن يهوذا عندما توقف الحق عن إنارته.
أما "أبشالوم" فكما يفسرها البعض معناها باللاتينية Patrs pax أي سلام أبيه.
يبدو من الصعب أن يُفهم "سلام أبيه" سواء في تاريخ الملوك حيث أثار أبشالوم الحرب ضد أبيه، وفي تاريخ العهد الجديد حين خان يهوذا ربنا. لكن من يقرأ بتروٍّ يرى أن داود كان في سلام مع ابنه أثناء الحرب، إذ يقول "يا ابني أبشالوم، يا ليتني متُّ عوضًا عنك" (2 صم 18: 33). وفي تاريخ العهد الجديد فإنه بطول أناة ربنا العجيبة والمدهشة احتمله كثيرًا جدًا كما لو كان إنسانًا صالحًا مع أنه لم يكن يجهل أفكاره. لقد ضمه إلى العشاء... وأخيرًا تقبل قبلته في ذات لحظات خيانته. إنه من السهل أن نفهم كيف أظهر المسيح سلامًا نحو خائنه...].

5. هروب إتاي الجتي:

18 وَجَمِيعُ عَبِيدِهِ كَانُوا يَعْبُرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ جَمِيعِ الْجَلاَّدِينَ وَالسُّعَاةِ وَجَمِيعُ الْجَتِّيِّينَ، سِتُّ مِئَةِ رَجُل أَتَوْا وَرَاءَهُ مِنْ جَتَّ، وَكَانُوا يَعْبُرُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ. 19 فَقَالَ الْمَلِكُ لإِتَّايَ الْجَتِّيِّ: «لِمَاذَا تَذْهَبُ أَنْتَ أَيْضًا مَعَنَا؟ اِرْجعْ وَأَقِمْ مَعَ الْمَلِكِ لأَنَّكَ غَرِيبٌ وَمَنْفِيٌّ أَيْضًا مِنْ وَطَنِكَ. 20 أَمْسًا جِئْتَ وَالْيَوْمَ أُتِيهُكَ بِالذَّهَابِ مَعَنَا وَأَنَا أَنْطَلِقُ إِلَى حَيْثُ أَنْطَلِقُ؟ اِرْجعْ وَرَجِّعْ إِخْوَتَكَ. الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ مَعَكَ». 21 فَأَجَابَ إِتَّايُ الْمَلِكَ وَقَالَ: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ وَحَيٌّ سَيِّدِي الْمَلِكُ، إِنَّهُ حَيْثُمَا كَانَ سَيِّدِي الْمَلِكُ، إِنْ كَانَ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلْحَيَاةِ، فَهُنَاكَ يَكُونُ عَبْدُكَ أَيْضًا». 22 فَقَالَ دَاوُدُ لإِتَّايَ: «اذْهَبْ وَاعْبُرْ». فَعَبَرَ إِتَّايُ الْجَتِّيُّ وَجَمِيعُ رِجَالِهِ وَجَمِيعُ الأَطْفَالِ الَّذِينَ مَعَهُ. 23 وَكَانَتْ جَمِيعُ الأَرْضِ تَبْكِي بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ يَعْبُرُونَ. وَعَبَرَ الْمَلِكُ فِي وَادِي قَدْرُونَ، وَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ نَحْوَ طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ.

عندما هرب داود من وجه شاول أقام في جت ونظم جيشًا قوامه ستمائة جندي وأقام إتاي الجتي قائدًا لهم. دام هذا الجيش معه حين صار ملكًا في حبرون وأيضًا في أورشليم، وكانوا إسرائيليين لكن دخل بينهم بعض الجتيين.
لعل من أجمل السمات التي اتصف بها داود هي عدم تفكيره في صالحه الخاص حتى في لحظات الضيق المُرّة، إذ لم يطلب تسخير الغير لحسابه. لهذا طلب من إتاي أن يبقى مع أبشالوم كملك جديد، إذ لا يُريد أن يُحمل إتاي فوق طاقته، لأنه غريب الجنس.
لقد قال له: "ارجع وأقم مع الملك. لأنك غريب ومنفي أيضًا من وطنك. أمسًا جئت واليوم أتيهك بالذهاب معنا، وأنا أنطلق حيث أنطلق. ارجع ورجع إخوتك، الرحمة والحق معك" [19، 20] إلخ. لكن إتاي غريب الجنس رفض أن يترك داود وقت ضيقه، إنما تحدث معه بروح الحب والإخلاص والوفاء، متشبها في ذلك براعوث الموآبية في حديثها مع حماتها نعمي (را 1: 16).


أراد الله أن يُعزي قلب داود، بينما كان ابنه يخونه ويسلب ملكه طالبًا قتله، إذا بغريب الجنس يتعلق به في ضيقته ويشاركه متاعبه.
كان أبشالوم بن داود يمثل جماعة اليهود الذين من خاصة السيد المسيح وقد صمموا على جحده بعد تقديمه الخلاص على الصليب، أما إتاي فيشير إلى جماعة الأمم الذين تعلقوا بابن داود وقبلوا التغرب معه، يخرجون معه خارج المحلة ويشاركونه عاره (عب 13: 13).
إتاي المذكور هنا غير إتاي المذكور في (2 صم 23: 29؛ 1 أي 11: 31) الذي من جبعة بني بنيامين، وكان أحد أبطال داود.
عبر الملك ورجاله الوادي الذي بين أورشليم وجبل الزيتون، حيث لا يكون فيه ماء إلا في فصل الشتاء. وقد عبر المسيح ذات الوادي في ليلة آلامه ليدخل بستان جثسيماني (يو 18: 1).

6. بقاء التابوت في أورشليم:

24 وَإِذَا بِصَادُوقَ أَيْضًا وَجَمِيعُ اللاَّوِيِّينَ مَعَهُ يَحْمِلُونَ تَابُوتَ عَهْدِ اللهِ. فَوَضَعُوا تَابُوتَ اللهِ، وَصَعِدَ أَبِيَاثَارُ حَتَّى انْتَهَى جَمِيعُ الشَّعْبِ مِنَ الْعُبُورِ مِنَ الْمَدِينَةِ. 25 فَقَالَ الْمَلِكُ لِصَادُوقَ: «أَرْجعْ تَابُوتَ اللهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُرْجِعُنِي وَيُرِينِي إِيَّاهُ وَمَسْكَنَهُ. 26 وَإِنْ قَالَ هكَذَا: إِنِّي لَمْ أُسَرَّ بِكَ. فَهأَنَذَا، فَلْيَفْعَلْ بِي حَسَبَمَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ». 27 ثُمَّ قَالَ الْمَلِكُ لِصَادُوقَ الْكَاهِنِ: «أَأَنْتَ رَاءٍ؟ فَارْجعْ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَلاَمٍ أَنْتَ وَأَخِيمَعَصُ ابْنُكَ وَيُونَاثَانُ بْنُ أَبِيَاثَارَ. ابْنَاكُمَا كِلاَهُمَا مَعَكُمَا. 28 انْظُرُوا. أَنِّي أَتَوَانَى فِي سُهُولِ الْبَرِّيَّةِ حَتَّى تَأْتِيَ كَلِمَةٌ مِنْكُمْ لِتَخْبِيرِي». 29 فَأَرْجَعَ صَادُوقُ وَأَبِيَاثَارُ تَابُوتَ اللهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَأَقَامَا هُنَاكَ.

أراد داود النبي أن تكون كل تحركاته تحت ظل الرب نفسه كمخلص له لذا طلب من صادوق الكاهن واللاويين أن يأتوا بالتابوت حتى يعبر الشعب، وإذ تم العبور لم يقبل أن يأخذه معه خارج أورشليم بل طلب إرجاعه مؤمنًا بأن الله يسمح له بالعودة إلى حيث التابوت رمز الحضرة الإلهية - إن أراد الرب.
أظهر داود تسليمًا كاملًا لحياته بين يدي الله مع شعوره بخطاياه وعدم استحقاقه، لذا رد التابوت ومعه صادوق الكاهن ومعه ابنه أخيمعص، وأبيأثار الكاهن وابنه يوناثان، حاسبًا ذلك سندًا له في أورشليم، وخشية أن يحل بالتابوت شيئًا!
أدرك أنه يمر بفترة تأديب إلهي لكنها إلى حين، أما قلبه فكان مرتبطًا بالله وبشعب الله وتابوت العهد والمدينة المقدسة أورشليم...
لقد طلب من الكاهنين أن يُرسلا إليه ابنيهما وهو متباطئ في البرية ليعرف أخبار أبشالوم ورجاله عند دخولهم المدينة.



7. رجوع حوشاي الأركي:

30 وَأَمَّا دَاوُدُ فَصَعِدَ فِي مَصْعَدِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ. كَانَ يَصْعَدُ بَاكِيًا وَرَأْسُهُ مُغَطَّى وَيَمْشِي حَافِيًا، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ مَعَهُ غَطَّوْا كُلُّ وَاحِدٍ رَأْسَهُ، وَكَانُوا يَصْعَدُونَ وَهُمْ يَبْكُونَ. 31 وَأُخْبِرَ دَاوُدُ وَقِيلَ لَهُ: «إِنَّ أَخِيتُوفَلَ بَيْنَ الْفَاتِنِينَ مَعَ أَبْشَالُومَ» فَقَالَ دَاوُدُ: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ». 32 وَلَمَّا وَصَلَ دَاوُدُ إِلَى الْقِمَّةِ حَيْثُ سَجَدَ للهِ، إِذَا بِحُوشَايَ الأَرْكِيِّ قَدْ لَقِيَهُ مُمَزَّقَ الثَّوْبِ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ. 33 فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: «إِذَا عَبَرْتَ مَعِي تَكُونُ عَلَيَّ حِمْلًا. 34 وَلكِنْ إِذَا رَجَعْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقُلْتَ لأَبْشَالُومَ: أَنَا أَكُونُ عَبْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. أَنَا عَبْدُ أَبِيكَ مُنْذُ زَمَانٍ وَالآنَ أَنَا عَبْدُكَ. فَإِنَّكَ تُبْطِلُ لِي مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ. 35 أَلَيْسَ مَعَكَ هُنَاكَ صَادُوقُ وَأَبِيَاثَارُ الْكَاهِنَانِ. فَكُلُّ مَا تَسْمَعُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَأَخْبِرْ بِهِ صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ. 36 هُوَذَا هُنَاكَ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا أَخِيمَعَصُ لِصَادُوقَ وَيُونَاثَانُ لأَبِيَاثَارَ. فَتُرْسِلُونَ عَلَى أَيْدِيهِمَا إِلَيَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَسْمَعُونَهَا». 37 فَأَتَى حُوشَايُ صَاحِبُ دَاوُدَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَبْشَالُومُ يَدْخُلُ أُورُشَلِيمَ.

صعد داود جبل الزيتون شرق مدينة أورشليم، قمته على بعد ميل منها، وكان يصعد باكيًا ورأسه مغطى ويمشي حافيًا، وجميع الشعب يتمثلون به. وإذ بلغ القمة "سجد لله" [32]، فقد اعتاد أن يسجد لله ويشكره في وسط الضيقات.
يقول مار إسحق السرياني: [القلب الذي يتحرك دائمًا بالشكر هو مرشد يقود لعطايا الله للإنسان].
على ذات الجبل وقف رب المجد يسوع يتطلع نحو أورشليم باكيًا بسبب رفض أولادها أبوة الله ورعايته (مت 23: 37؛ لو 13: 34).
مما زاد حزن داود الملك جدًا سماعه أن أخيتوفل أفضل أصدقائه يخونه، إذ هو بين الفاتنين مع أبشالوم، لذا صرخ إلى الرب أن يبدد مشورته، لأنه معروف بحكمته وتدابيره.
طلب داود من حوشاي الأركي أن يرجع لأنه شيخ لا يحتمل المشقات فيصير عبئًا على داود في تحركاته، ومن جانب آخر فإنه رجل أمين ووفي يقدر أن يبطل مشورة أخيتوفل خلال صداقته مع أبشالوم.
يبدو أن حوشاي كان غائبًا عندما هرب داود، وإذ سمع بالخبر أسرع إليه لكن داود فضل بقاءه في أورشليم، فكانت محبة حوشاي وأمانته بلسمًا لنفس داود المتمررة بسبب خيانة أخيتوفل.
عبّر داود النبي عن مرارة نفسه من جهة خيانة أخيتوفل وعن تهلله في نفس الوقت من أجل إخلاص حوشاي الأركي في المزمور 41.
"طوبى للرجل الذي ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب...
الرب يعضده وهو على فراش الضعف. مهدت مضجعه كله في مرضه...
أيضًا رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع عليّ عقبه" (مز 41).


لعله عَنَى بالمسكين نفسه إذ صار طريدًا، فقد تطلع إليه حوشاي بالرغم من شيخوخته وضعف جسده لذا يسنده الرب ويعينه بقية أيام حياته. أما رجل سلامته فهو أخيتوفل الذي أنعم عليه بالحب والصداقة مع نعم وعطايا وها هو يحطم الثقة ويرفع عليه عقبه لأذيته فيصير رمزًا ليهوذا الخائن.


داود الهارب

كانت نفس داود مُرّة للغاية في هذه المرة فإنه ليس هاربًا من أمام وجه شاول الملك الذي يخشى داود لئلا يغتصب ملكه وإنما إمام ابنه العاق الذي اغتصب كرسيه وأثار الشعب ضده. ومما يزيد نفسيته مرارة أن البعض وجد فرصتهم لإهانته وسبه. هذا بجانب شعوره الخفي أن ما حل به هو ثمرة ما ارتكبه في حق الله وضد أوريا الحثي.
على أية الأحوال تكشف المزامير التي أنشدها داود أثناء هروبه أنه لم يفقد رجاءه في الرب، مدركًا أن ما حل به تأديب أبوي من قبل الرب مخلصه.

1. لقاؤه مع صيبا:

1 وَلَمَّا عَبَرَ دَاوُدُ قَلِيلًا عَنِ الْقِمَّةِ، إِذَا بِصِيبَا غُلاَمِ مَفِيبُوشَثَ قَدْ لَقِيَهُ بِحِمَارَيْنِ مَشْدُودَيْنِ، عَلَيْهِمَا مِئَتَا رَغِيفِ خُبْزٍ وَمِئَةُ عُنْقُودِ زَبِيبٍ وَمِئَةُ قُرْصِ تِينٍ وَزِقُّ خَمْرٍ. 2 فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: «مَا لَكَ وَهذِهِ؟» فَقَالَ صِيبَا: «الْحِمَارَانِ لِبَيْتِ الْمَلِكِ لِلرُّكُوبِ، وَالْخُبْزُ وَالتِّينُ لِلْغِلْمَانِ لِيَأْكُلُوا، وَالْخَمْرُ لِيَشْرَبَهُ مَنْ أَعْيَا فِي الْبَرِّيَّةِ». 3 فَقَالَ الْمَلِكُ: «وَأَيْنَ ابْنُ سَيِّدِكَ؟» فَقَالَ صِيبَا لِلْمَلِكِ: «هُوَذَا هُوَ مُقِيمٌ فِي أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَرُدُّ لِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ مَمْلَكَةَ أَبِي». 4 فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: «هُوَذَا لَكَ كُلُّ مَا لِمَفِيبُوشَثَ». فَقَالَ صِيبَا: «سَجَدْتُ! لَيْتَنِي أَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ». 5 وَلَمَّا جَاءَ الْمَلِكُ دَاوُدُ إِلَى بَحُورِيمَ إِذَا بِرَجُل خَارِجٍ مِنْ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَةِ بَيْتِ شَاوُلَ، اسْمُهُ شِمْعِي بْنُ جِيرَا، يَسُبُّ وَهُوَ يَخْرُجُ،

كان صيبا يطمع في اغتصاب أملاك مفيبوشث بن يوناثان غير مكتف بأن يقوم هو وبنوه وعبيده بإدارتها، وقد وجد الفرصة سانحة لإثارة داود ضد مفيبوشث حتى يصدر داود أمره بنقل الملكية إليه عوض مفيبوشث.
لقد أدرك صيبا أن داود رجل حكيم وقوي، وأن الضيقة التي يجتازها عابرة، وأن الانتصار حليفه في النهاية، لذا أسرع إلى اللقاء معه وسط الضيقة حينما كان داود على قمة جبل الزيتون حيث قدم له حمارين مشدودين عليهما مائتا رغيف خبز ومئة عنقود زبيب ومئة قرص تين وزق خمر. قال له أن الحمارين لبيت الملك كما أن الأكل والشرب لمن يصاب بإعياء في البرية...
سأل داود عن مفيبوشث وفي مكر أجاب صيبا: "هوذا هو مقيم في أورشليم، لأنه قال: اليوم يرد لي بيت إسرائيل مملكة أبي" [3]. هكذا شوه صيبا صورة سيده أمام داود الذي قدم كل إحسان وحب وتكريم لمفيبوشث. كلمات صيبا غير مقبولة، لأنه لم يكن ممكنًا لمفيبوشث الأعرج أن يستلم الحكم من أبشالوم بكل جماله وقوته وسلطانه الذي عرف كيف يغتصب الحكم من داود الملك. لكن داود كان مهتمًا بأمور كثيرة وعاجلة، مدركًا أن مفيبوشث لن يمثل خطرًا عليه أو على ابنه، وإنما في عجلة وبغير تدقيق اغتاظ وحسب مفيبوشثخائنًا وناكرًا للجميل، وأصدر قراره لصيبا: "هوذا لك كل ما لمفيبوشث" [4]. سجد له صيبا وقال: "ليتني أجد نعمة في عينيك يا سيدي الملك" [4].
لقد سمح الله لداود أن يجتاز هذه التجربة القاسية، وهو شعوره بخيانة مفيبوشث ضده، الأمر الذي لم يكن يتوقعه قط، وكان ذلك لخيره وبنيانه من جوانب كثيرة، منها:
أ. كان لا بُد لداود أن يشرب من ذات الكأس التي ملأها بيده، فقد خان رجله الأمين أوريا الحثي ونام ضميره زمانًا، لذا أراد الله أن يذوق داود مرارة الخيانة، وها هو يذوقها بخيانة ابنه له، وأيضًا أخيتوفل، وهوذا مفيبوشث وغيرهم كثيرون. الذين أحسن إليهم يسيئون إليه أكثر مما أساء إليه الأعداء!


ب. استخدم الله هذه التجربة لخيره، فقد كان داود ومن معه في حاجة إلى هذه الهدية، التي قدمها صيبا له. الله يعولنا بكل الطرق، عال إيليا بغراب، وعال داود ورجاله خلال خبث صيبا وخداعه!
ج. اكتشف داود فيما بعد خداع صيبا له، وتعلم ألا يصدر أحكامه بعجلة. لقد أدان مفيبوشث وغضب عليه وحرمه من ممتلكات جده ظلمًا.

2. شمعي يسب داود:

6 وَيَرْشُقُ بِالْحِجَارَةِ دَاوُدَ وَجَمِيعَ عَبِيدِ الْمَلِكِ دَاوُدَ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ وَجَمِيعُ الْجَبَابِرَةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ. 7 وَهكَذَا كَانَ شِمْعِي يَقُولُ فِي سَبِّهِ: «اخْرُجِ! اخْرُجْ يَا رَجُلَ الدِّمَاءِ وَرَجُلَ بَلِيَّعَالَ! 8 قَدْ رَدَّ الرَّبُّ عَلَيْكَ كُلَّ دِمَاءِ بَيْتِ شَاوُلَ الَّذِي مَلَكْتَ عِوَضًا عَنْهُ، وَقَدْ دَفَعَ الرَّبُّ الْمَمْلَكَةَ لِيَدِ أَبْشَالُومَ ابْنِكَ، وَهَا أَنْتَ وَاقِعٌ بِشَرِّكَ لأَنَّكَ رَجُلُ دِمَاءٍ». 9 فَقَالَ أَبِيشَايُ ابْنُ صَرُويَةَ؟ لِلْمَلِكِ: «لِمَاذَا يَسُبُّ هذَا الْكَلْبُ الْمَيْتُ سَيِّدِي الْمَلِكَ؟ دَعْنِي أَعْبُرْ فَأَقْطَعَ رَأْسَهُ». 10 فَقَالَ الْمَلِكُ: «مَا لِي وَلَكُمْ يَا بَنِي صَرُويَةَ! دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ: سُبَّ دَاوُدَ. وَمَنْ يَقُولُ: لِمَاذَا تَفْعَلُ هكَذَا؟» 11 وَقَالَ دَاوُدُ لأَبِيشَايَ وَلِجَمِيعِ عَبِيدِهِ: «هُوَذَا ابْنِي الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَحْشَائِي يَطْلُبُ نَفْسِي، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآنَ بَنْيَامِينِيٌّ؟ دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ. 12 لَعَلَّ الرَّبَّ يَنْظُرُ إِلَى مَذَلَّتِي وَيُكَافِئُنِي الرَّبُّ خَيْرًا عِوَضَ مَسَبَّتِهِ بِهذَا الْيَوْمِ». 13 وَإِذْ كَانَ دَاوُدُ وَرِجَالُهُ يَسِيرُونَ فِي الطَّرِيقِ، كَانَ شِمْعِي يَسِيرُ فِي جَانِبِ الْجَبَلِ مُقَابِلَهُ وَيَسُبُّ وَهُوَ سَائِرٌ وَيَرْشُقُ بِالْحِجَارَةِ مُقَابِلَهُ وَيَذْرِي التُّرَابَ. 14 وَجَاءَ الْمَلِكُ وَكُلُّ الشَّعْبِ الَّذِينَ مَعَهُ وَقَدْ أَعْيَوْا فَاسْتَرَاحُوا هُنَاكَ.

خرج من بحوريم شمعي بن جبرا من بيت شاول، وكان بينه بين داود ورجاله وادٍ، فكان يرشقهم بالحجارة، غالبًا لم تكن تصلهم إنما هي علامة على غيظه واحتقاره لهم، أما كلماته فكانت مسموعة.
كان يسب داود قائلًا:
"اخرج، اخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال.
قد ردّ الرب عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضًا عنه،
وقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك،
وها أنت واقعٌ بِشَرَّك لأنك رجل دماء" [7-8].
كان شمعي يقذف داود بالحجارة كأنه كلب، أما كلماته فكانت كالسهام القاتلة، تحمل كراهية وضغينة مع كذب. فإن داود لم يقاتل شاول ليغتصب منه الملك. على النقيض من هذا قابل مطاردة شاول بالسماحة. لم يمد يده على شاول قط ولا على بنيه أو أحفاده وإنما كان يسعى ليصنع معهم معروفًا.
في غيرة أراد أبيشاي أن يعبر ليقتل هذا الرجل حاسبًاإياه كلبًا ميتًا، أما داود فمنعه حاسبًا هذه الإهانة تأديبًا من قبل الرب بسبب خطيته، إذ قال:


"ما لي ولكم يا بني صروية.
دعوه يسب، لأن الرب قال له: سب داود.
ومن يقول: لماذا تفعل هكذا؟
هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي، فكم بالحري الآن بنياميني؟! دعوه يسب لأن الرب قال له...
لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم" [10-12].
يُكرر الملك داود العبارة "لأن الرب قال له" أن يسبه، ليس لأن أمرًا صدر من قبل الرب لشمعي كي يسب داود، وإنما الله سمح لإرادة شمعي الشريرة أن تتمم ذلك فيتحقق العدل الإلهي


يقول القديس أغسطينوس: [إن الله يستخدم الأشرار حتى الشيطان نفسه لأجل امتحان الصالحين وتزكية إيمانهم وتقواهم].
لم يكن ممكنًا لهذه الشتائم أن تؤذي داود بل هي بالنسبة له دواء يتقبله برضى وشكر كي يغتصب المراحم الإلهية. كلمات التملق التي نطق بها صيبا أضرت داود فأصدر حكمًا خاطئًا ومتعجلًا في غضب ضد مفيبوشث أما كلمات شمعي المملوءة إهانة فأعطته فرصة ليصدر حكمًا صادقًا على نفسه.
حقًا إن كلمات الإطراء أكثر خطرًا على حياة المؤمن -خاصة القائد- من كلمات الذم. وكما يقول أحد آباء البرية: من لا يحتمل كلمة الذم كيف يقدر أن يحتمل كلمة المديح؟!
تقبل داود كلمات السب بفرح كدواء لأعماقه الداخلية، لكنه غضب وتحدث بحزم مع أبيشاي لأنه أراد الانتقام له ممن يسبه.
* تحرك داود بغضب تقوي ضد اقتراح (أبيشاي) المهلك، وحفظ المقياس اللائق للاتضاع والصبر بحزم.
القديس يوحنا كاسيان
* أنصت إلى داود الذي صار مشهورًا على وجه الخصوص بسبب انسحاق نفسه. كيف بعدما صنع كثيرًا من الأعمال الصالحة، وعندما كان مطرودًا من بلده وبيته بل ومن الحياة عينها، في وقت كارثته رأى جنديًا سخيفًا منبوذًا يمتهن كرامته ويسبه، لم يرد له السب بل ومنع أحد قواده من قتله قائلًا: "دعوه يسب لأن الرب قال له سب داود" .
القديس يوحنا الذهبي الفم
ما أعجب قلب داود المتسع حبًا حتى تجاه مضايقيه، فإننا نجده دائمًا لا يطلب النقمه لنفسه، بل يُقابل الإساءة الشخصية باتساع قلب.
ربما ثارت مشاعره الداخلية في البداية لكن الله ملأ قلبه بتعزيات فائقة أساسها:


أ. شعر أن هذا السب هو بسماح من الله لتأديبه فقد كان رجل دماء لا بقتل شاول أو أحد رجاله كما قال شمعي وإنما بقتله أوريا الحثي... لذا لاق به أن يتقبل السب بفرح كما من قبل الله،
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه متى شتمك إنسان بقوله لك: "يا زانٍ"، لماذا تغضب؟ ألم يمر عليك قط فكر زنا أو شهوة رديئة في شبابك؟ احسب ذلك تأديبا عن أفكار شبابك.
ب. إن كان ابنه أبشالوم قد ثار ضده واغتصب منه العرش، وهو لا يضمر الانتقام منه، فلماذا ينتقم من بنياميني سبه دون أن يغتصب منه شيئًا؟!
ج. حسب داود النبي هذا السب فرصة للتذلل كطريق لاغتصاب مراحم الله.

3. المناداة بأبشالوم ملكًا:

15 وَأَمَّا أَبْشَالُومُ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ، فَأَتَوْا إِلَى أُورُشَلِيمَ وَأَخِيتُوفَلُ مَعَهُمْ. 16 وَلَمَّا جَاءَ حُوشَايُ الأَرْكِيُّ صَاحِبُ دَاوُدَ إِلَى أَبْشَالُومَ، قَالَ حُوشَايُ لأَبْشَالُومَ: «لِيَحْيَ الْمَلِكُ! لِيَحْيَ الْمَلِكُ!» 17 فَقَالَ أَبْشَالُومُ لِحُوشَايَ: «أَهذَا مَعْرُوفُكَ مَعَ صَاحِبِكَ؟ لِمَاذَا لَمْ تَذْهَبْ مَعَ صَاحِبِكَ؟» 18 فَقَالَ حُوشَايُ لأَبْشَالُومَ: «كَلاَّ، وَلكِنِ الَّذِي اخْتَارَهُ الرَّبُّ وَهذَا الشَّعْبُ وَكُلُّ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ فَلَهُ أَكُونُ وَمَعَهُ أُقِيمُ. 19 وَثَانِيًا: مَنْ أَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِهِ؟ كَمَا خَدَمْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيكَ كَذلِكَ أَكُونُ بَيْنَ يَدَيْكَ».

جاء أبشالوم ومعه الرجال من كل الأسباط -خاصة يهوذا- وأخيتوفل، جاء ليملك دون أن يسفك دمًا، فقد هرب داود ورجاله حتى لا يهلك أحد بسببه.
فوجئ أبشالوم بتقدم حوشاي الأركي صديق داود إليه وهو يقول: [ليحيا الملك، ليحيا الملك]. إذ لاحظ حوشاي الأركي تعجب أبشالوم قال بحكمة: "الذي اختاره الرب وهذا الشعب وكل رجال إسرائيل فله أكون ومعه أقيم. وثانيًا: من أخدم؟ أليس بين يدي ابنه؟! كما خدمت بين يدي أبيك كذلك أكون بين يديك" [18-19].
هكذا قدم حوشاي مبررات لعدم هروبه، حتى يثق به أبشالوم فيكون سندًا لداود في داخل القصر.

4. أبشالوم وسراري أبيه:

20 وَقَالَ أَبْشَالُومُ لأَخِيتُوفَلَ: «أَعْطُوا مَشُورَةً، مَاذَا نَفْعَلُ؟». 21 فَقَالَ أَخِيتُوفَلُ لأَبْشَالُومَ: «ادْخُلْ إِلَى سَرَارِيِّ أَبِيكَ اللَّوَاتِي تَرَكَهُنَّ لِحِفْظِ الْبَيْتِ، فَيَسْمَعَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ أَنَّكَ قَدْ صِرْتَ مَكْرُوهًا مِنْ أَبِيكَ، فَتَتَشَدَّدَ أَيْدِي جَمِيعِ الَّذِينَ مَعَكَ». 22 فَنَصَبُوا لأَبْشَالُومَ الْخَيْمَةَ عَلَى السَّطْحِ، وَدَخَلَ أَبْشَالُومُ إِلَى سَرَارِيِّ أَبِيهِ أَمَامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ. 23 وَكَانَتْ مَشُورَةُ أَخِيتُوفَلَ الَّتِي كَانَ يُشِيرُ بِهَا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ كَمَنْ يَسْأَلُ بِكَلاَمِ اللهِ. هكَذَا كُلُّ مَشُورَةِ أَخِيتُوفَلَ عَلَى دَاوُدَ وَعَلَى أَبْشَالُومَ جَمِيعًا.

كان أخيتوفل مشيرًا لأبشالوم، يسمع له الملك الجديد كما لله، حاسبًا مشورته كمن يسأل كلام الله [23]، مع أنها كانت مشورات شريرة من قبل إبليس، تحمل حكمة أرضية شهوانية (1 كو 5: 1).


أول مشورة قدمها له أخيتوفل هي أن يدخل على سراري أبيه اللواتي تركهن داود لحفظ البيت. صنع أبشالوم ذلك على السطح لكي يتأكد الكل أن الكراهية ضد داود قد بلغت أشدها وأنه لا مصالحة بينه وبين أبيه.
لعل أخيتوفل أشار بذلك على أبشالوم خشية أن يحن الابن يومًا ما لأبيه فيصالحه، وبهذا يصير موقف أخيتوفل حرجًا أمام صديقه القديم داود. إنه خائن لا يقدر أن يواجه داود!
تم ذلك على السطح الذي سبق فتمشى عليه داود ليختلس نظرة شريرة لامرأة غريبة، هوذا ابنه يضطجع مع سراريه علانية في ذات الموقع!


إحباط مشورة أخيتوفل



بقى داود حوالي سبع سنوات ونصف في حبرون ملكًا على سبط يهوذا (2 صم 2: 4) حتى جاء إليه رجال الأسباط مع أبنير يطلبون إليه أن يملك عليهم، عندئذ انتقل إلى أورشليم كعاصمة لكل إسرائيل، أما أبشالوم فعلى النقيض من والده بعث رسلًا إلى رجال الأسباط لمبايعته ملكًا، وبسرعة تحرك من حبرون إلى أورشليم (2 صم 16: 15)، لكنه لم يسترح بالرغم من استلامه المملكة في عجلة دون صراع من والده ورجاله... لقد وضع في قلبه قتل أبيه لعله يطمئن ويستريح. تقدم أخيتوفل بمشورة شريرة لكنها تحسب مُحكمة في تحقيق هدف أبشالوم، غير أن الله بدد هذه المشورة بمشورة أخرى أشار بها حوشاي الأركي.


1. مشورة أخيتوفل:

1 وَقَالَ أَخِيتُوفَلُ لأَبْشَالُومَ: «دَعْنِي أَنْتَخِبُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُل وَأَقُومُ وَأَسْعَى وَرَاءَ دَاوُدَ هذِهِ اللَّيْلَةَ، 2 فَآتِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتْعَبٌ وَمُرْتَخِي الْيَدَيْنِ فَأُزْعِجُهُ، فَيَهْرُبَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ، وَأَضْرِبُ الْمَلِكَ وَحْدَهُ. 3 وَأَرُدَّ جَمِيعَ الشَّعْبِ إِلَيْكَ. كَرُجُوعِ الْجَمِيعِ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي تَطْلُبُهُ، فَيَكُونُ كُلُّ الشَّعْبِ فِي سَلاَمٍ». 4 فَحَسُنَ الأَمْرُ فِي عَيْنَيْ أَبْشَالُومَ وَأَعْيُنِ جَمِيعِ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ.

تقدم أخيتوفل كمشير للملك إلى أبشالوم بخطة لتحقيق أهدافه، وهي سرعة اللحاق بداود وهو متعب مع الشعب الذي معه، فبسبب الإرهاق الشديد وخلال عنصر المفاجأة وقبل أن يستقر داود لينظم جيشه ويدبر أموره يضطرب الكل ويتركونه، فيبقى داود وحده، يقتلونه ويرجع الشعب إلى أبشالوم دون مجهود يُذكر. في رأيه أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من اثني عشر ألف رجل منتخبين يتحركون في ذات الليلة ليرجعوا فورًا بنصرة أكيدة.


هذه المشورة حسبها الكتاب صالحة [14] لا بمعنى أنها تحمل صلاحًا وإنما لأنها قادرة على تحقيق هدف أبشالوم، يلاحظ فيها الآتي:
أ. جاءت رمزًا لمشورة رئيس الكهنة قيافا ضد ابن داود إذ قال: "أنتم لستم تعرفون شيئًا، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" ويعلق الإنجيل قائلًا: "ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد" (يو 11: 49-52).
إن كان اسم "أخيتوفل" يعني "أخ الحماقة"، فإن الله في صلاحه يستخدم حتى هذا الأحمق الشرير أداة ليتنبأ به، كما فعل قبلًا مع بلعام العراف (عد 23-24)، وها هو يستخدم أخيتوفل ليعلن أن الحاجة أن يموت داود فلا تهلك الجماعة كلها بل "يكون كل الشعب في سلام" [3]. وقد تحقق ذلك في المسيح يسوع الذي قدم نفسه بإرادته كفارة عن العالم كله (1 يو 2: 2)، لذلك سلمنا جسده المبذول سر خلاص للكل.
يقول القديس جيروم: [لنأكل جسد الحمل الذي بلا عيب، هذا الذي ينزع خطايا العالم، لنأكله في بيت واحد، أي في الكنيسة الجامعة المرشوشة بالحب والحاملة سلاح الفضيلة].
ب. صوّر أخيتوفل داود ومن معه كخارجين عن طاعة الملك أبشالوم... هكذا بعينه الشريرة كرجل خائن رأى في داود عصيانًا وخروجًا عن القانون!

2. حوشاي يبطل المشورة:

5 فَقَالَ أَبْشَالُومُ: «ادْعُ أَيْضًا حُوشَايَ الأَرْكِيَّ فَنَسْمَعَ مَا يَقُولُ هُوَ أَيْضًا». 6 فَلَمَّا جَاءَ حُوشَايُ إِلَى أَبْشَالُومَ، كَلَّمَهُ أَبْشَالُومُ قَائِلًا: «بِمِثْلِ هذَا الْكَلاَمِ تَكَلَّمَ أَخِيتُوفَلُ. أَنَعْمَلُ حَسَبَ كَلاَمِهِ أَمْ لاَ؟ تَكَلَّمْ أَنْتَ». 7 فَقَالَ حُوشَايُ لأَبْشَالُومَ: «لَيْسَتْ حَسَنَةً الْمَشُورَةُ الَّتِي أَشَارَ بِهَا أَخِيتُوفَلُ هذِهِ الْمَرَّةً». 8 ثُمَ قَالَ حُوشَاي: «أَنْتَ تَعْلَمُ أَبَاكَ وَرِجَالَهُ أَنَّهُمْ جَبَابِرَةٌ، وَأَنَّ أَنْفُسَهُمْ مُرَّةٌ كَدُبَّةٍ مُثْكِل فِي الْحَقْلِ. وَأَبُوكَ رَجُلُ قِتَال وَلاَ يَبِيتُ مَعَ الشَّعْبِ. 9 هَا هُوَ الآنَ مُخْتَبِئٌ فِي إِحْدَى الْحُفَرِ أَوْ أَحَدِ الأَمَاكِنِ. وَيَكُونُ إِذَا سَقَطَ بَعْضُهُمْ فِي الابْتِدَاءِ أَنَّ السَّامِعَ يَسْمَعُ فَيَقُولُ: قَدْ صَارَتْ كَسْرَةٌ فِي الشَّعْبِ الَّذِي وَرَاءَ أَبْشَالُومَ. 10 أَيْضًا ذُو الْبَأْسِ الَّذِي قَلْبُهُ كَقَلْبِ الأَسَدِ يَذُوبُ ذَوَبَانًا، لأَنَّ جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَبَاكَ جَبَّارٌ، وَالَّذِينَ مَعَهُ ذَوُو بَأْسٍ. 11 لِذلِكَ أُشِيرُ بِأَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْكَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ مِنْ دَانَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ، كَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى الْبَحْرِ فِي الْكَثْرَةِ، وَحَضْرَتُكَ سَائِرٌ فِي الْوَسَطِ. 12 وَنَأْتِيَ إِلَيْهِ إِلَى أَحَدِ الأَمَاكِنِ حَيْثُ هُوَ، وَنَنْزِلَ عَلَيْهِ نُزُولَ الطَّلِّ عَلَى الأَرْضِ، وَلاَ يَبْقَى مِنْهُ وَلاَ مِنْ جَمِيعِ الرِّجَالِ الَّذِينَ مَعَهُ وَاحِدٌ. 13 وَإِذَا انْحَازَ إِلَى مَدِينَةٍ، يَحْمِلُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ حِبَالًا، فَنَجُرُّهَا إِلَى الْوَادِي حَتَّى لاَ تَبْقَى هُنَاكَ وَلاَ حَصَاةٌ». 14 فَقَالَ أَبْشَالُومُ وَكُلُّ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ: «إِنَّ مَشُورَةَ حُوشَايَ الأَرْكِيِّ أَحْسَنُ مِنْ مَشُورَةِ أَخِيتُوفَلَ». فَإِنَّ الرَّبَّ أَمَرَ بِإِبْطَالِ مَشُورَةِ أَخِيتُوفَلَ الصَّالِحَةِ، لِكَيْ يُنْزِلَ الرَّبُّ الشَّرَّ بِأَبْشَالُومَ.

يرسل الله مع التجربة المنفذ؛ في كل عصر وُجد المقاومون للحق كما أقام الله من يحطمون مقاومتهم أو يحولونها للبنيان. إذ قام فرعون قاسيًا أرسل الله موسى قائدًا قويًا، وإذ بعث عدو الخير أخيتوفل أقام الله حوشاي، وإذ يأتي ضد المسيح في نهاية الأزمنة يرسل الله نبيين يحطمان أضاليله.
مع استصواب أبشالوم مشورة أخيتوفل استدعى حوشاي الأركي يطلب أيضًا مشورته ليأخذ قراره النهائي. بحكمة تظاهر بأن أخيتوفل لم يصب في هذه المرة، مقدمًا مشورة أخرى تبدو أكثر صلاحًا، غايتها في الواقع إنقاذ داود وخطوطها العريضة هي الآتي:
أ. أن داود رجل حرب وأنه يتوقع ما أشار به أخيتوفل لهذا فهو لن يبيت الليلة مع الشعب وإنما يختفي في مكان مجهول، في مغارة أو شق، ولن يبلغ إليه رجال أبشالوم، لذا تقوم حرب طاحنة يُقتل فيها الكثيرون من الطرفين ويبقى داود على قيد الحياة ينغض حياة أبشالوم.
ب. أن أبشالوم يواجه رجل حرب، صاحب خبرة، حكيم، يعرف أن يُخطط، رجاله قلة لكنهم أقوياء وجبابرة، لهذا فالتسرع ليس في صالح أبشالوم، وإنما يحتاج الأمر إلى تروٍ ودراسة وتحرك جاد على نطاق أوسع حتى لا ينهزم جيش أبشالوم فيفقد الشعب الثقة فيه.
ج. أن أبشالوم له إمكانيات جبارة، شعبه ممتد من دان إلى بئر سبع بلا عدد، فلماذا لا ينتفع بهذه الإمكانيات مكتفيًا باثني عشر ألف رجل؟! إنه قادر أن ينزل على داود كالطل على الأرض في كل موضع، وإن انحاز إلى مدينة يجرها رجاله بالحبال إلى الوادي حتى لا تبقى في المدينة هناك ولا حصاة. هكذا بعدما أرعبه من داود ورجاله عاد يطنب في قدرة أبشالوم برجال إسرائيل حتى لا يظن أبشالوم أن حوشاي يحتقره أو يستهين به. إنه يقف بجواره لكنه يطلب منه التروي وعدم التسرع... كان لا بُد من المديح حتى يتقبل رجل كأبشالوم المتعجرف مشورته.


د. أن الأمر لا يحتاج إلى قتل داود وحده وإنما الخلاص من كل رجاله حتى لا يسببون لأبشالوم كدرًا، وإذ قال له: "لا يبقى منه ولا من جميع الرجال الذين معه واحد" [12]. هذا الرأي يجد استطابة في قلب أبشالوم إذ لا يُريد أيضًا رجال داود.
ه. هذه هي الحرب الأولى التي يقوم بها أبشالوم كملك فكيف لا يخرج مع رجاله، لذا أشار عليه حوشاي: "وحضرتك سائر في الوسط" [11]. لعله هدف بهذا أن يموت أبشالوم في الحرب فلا توجد فرصة أخرى للمقاومة.
هذه النقاط أرعبت أبشالوم من ناحية إن تسرع، وطمأنته من ناحية أخرى بل وأشبعت كبرياءه إن تأنى ليجمع الكل تحت قيادته ويثير حربًا جادة وعنيفة قادرة على وضع نهاية لداود ورجاله.
لم يدرك أبشالوم إنه وإن وُجد كثيرون يمدحونه ويمالقونه لكن يوجد أيضًا بين الشعب كثيرون لازالوا يحبون داود أباه، وأن جمع كل بني إسرائيل حوله قلبيًا أمر يحتاج إلى وقت طويل.
على أية الأحوال هذا ما قدمه حوشاي، لكن السر الخفي وراء ذلك هو الله العامل الحقيقي لإنقاذ داود، فقد أعطى لمشورة حوشاي نعمة في عيني أبشالوم، إذ قيل: "فإن الرب أمر بإبطال مشورة أخيتوفل الصالحة لكي ينزل الرب الشر بأبشالوم" [14].
الله الذي سمح بتقديم مشورة أخيتوفل هو بنفسه أبطلها خلال مشورة حوشاي ليعطي داود ورجاله نصرة على أبشالوم. هذه يد الله العاملة عبرالأجيال لحساب مؤمنيه، خاصة حينما نزل ابن داود - كلمة الله المتجسد - إلى عالمنا ليحطم كل خطية شيطانية.
يقول القديس جيروم: ["في البحر طريقك" (مز 77: 19)، أي خلال الأمواج، خلال المياه المُرّة حيث يسكن التنين... أنت في السماء وقد نزلت إلى الأرض... جاء ينبوع الحياة ليحوّل البحر المُرّ والميت إلى مياه حلوة].
"حوشاي" اسم معناه "مسرع". فقد أسرع إلى داود ليخرج معه وقد ضيقته بالرغم من شيخوخته لكن داود طلب منه البقاء في أورشليم ليكون سندًا له، وها هو يسرع إلى نجدته بتقديم مشورة تبطل مشورة أخيتوفل مع إبلاغ داود بكل ما جرى.



3. بعث رسولين إلى داود:

15 وَقَالَ حُوشَايُ لِصَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ: «كَذَا وَكَذَا أَشَارَ أَخِيتُوفَلُ عَلَى أَبْشَالُومَ وَعَلَى شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ، وَكَذَا وَكَذَا أَشَرْتُ أَنَا. 16 فَالآنَ أَرْسِلُوا عَاجِلًا وَأَخْبِرُوا دَاوُدَ قَائِلِينَ: لاَ تَبِتْ هذِهِ اللَّيْلَةَ فِي سُهُولِ الْبَرِّيَّةِ، بَلِ اعْبُرْ لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ الْمَلِكُ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ». 17 وَكَانَ يُونَاثَانُ وَأَخِيمَعَصُ وَاقِفَيْنِ عِنْدَ عَيْنِ رُوجَلَ، فَانْطَلَقَتِ الْجَارِيَةُ وَأَخْبَرَتْهُمَا، وَهُمَا ذَهَبَا وَأَخْبَرَا الْمَلِكَ دَاوُدَ، لأَنَّهُمَا لَمْ يَقْدِرَا أَنْ يُرَيَا دَاخِلَيْنِ الْمَدِينَةَ. 18 فَرَآهُمَا غُلاَمٌ وَأَخْبَرَ أَبْشَالُومَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا عَاجِلًا وَدَخَلاَ بَيْتَ رَجُل فِي بَحُورِيمَ وَلَهُ بِئْرٌ فِي دَارِهِ، فَنَزَلاَ إِلَيْهَا. 19 فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ وَفَرَشَتْ سَجْفًا عَلَى فَمِ الْبِئْرِ وَسَطَحَتْ عَلَيْهِ سَمِيذًا فَلَمْ يُعْلَمِ الأَمْرُ. 20 فَجَاءَ عَبِيدُ أَبْشَالُومَ إِلَى الْمَرْأَةِ إِلَى الْبَيْتِ وَقَالُوا: «أَيْنَ أَخِيمَعَصُ وَيُونَاثَانُ؟» فَقَالَتْ لَهُمُ الْمَرْأَةُ: «قَدْ عَبَرَا قَنَاةَ الْمَاءِ». وَلَمَّا فَتَّشُوا وَلَمْ يَجِدُوهُمَا رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. 21 وَبَعْدَ ذِهَابِهِمْ خَرَجَا مِنَ الْبِئْرِ وَذَهَبَا وَأَخْبَرَا الْمَلِكَ دَاوُدَ، وَقَالاَ لِدَاوُدَ: «قُومُوا وَاعْبُرُوا سَرِيعًا الْمَاءَ، لأَنَّ هكَذَا أَشَارَ عَلَيْكُمْ أَخِيتُوفَلُ». 22 فَقَامَ دَاوُدُ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ وَعَبَرُوا الأُرْدُنَّ. وَعِنْدَ ضَوْءِ الصَّبَاحِ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ لَمْ يَعْبُرِ الأُرْدُنَّ.

كان لا بُد لحوشاي أن يخبر داود بما حدث خلال الكهنة؛ وقد استخدم الله الشعب والكهنة، الرجال والنساء، الشيوخ والشبان لتحقيق هذا الهدف، ليعلن أن الكنيسة جسد واحد يتحرك كل أعضائها بروح واحدة، كل عضو له دوره الفعّال.
أ. أرسل حوشاي إلى الكاهنين صادوق وأبيأثار يخبرهما بما حدث من جهة أخيتوفل ومن جانبه، حتى يتحركا للعمل، وطلب منهما أن يبعثا إلى داود في سهول البرية أي في الضفة الغربية من الأردن (2 صم 15: 28). لئلا يُبتلع هو وجميع الشعب الذي معه، إذ خشى أن يعود أبشالوم فيقبل مشورة أخيتوفل ويهاجم داود في ذات الليلة.
إن كان حوشاي يمثل القيادات الشعبية، فإنها تلتزم بالعمل مع القيادات الكنيسة، بروح الوحدة والتعاون كأعضاء لجسد واحد، يتبادلان الحب ويتممان العمل الكنسي الواحد، مقدمين بعضهم بعضًا في الكرامة.
كل مغالاة من الجانبين يُحطم الكنيسة، فالأسقف كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هو أسقف بشعبه، والشعب يعمل بأسقفه في انسجام وتناغم معًا، فتحل البركة ويعمل الله في الجميع].
من الجانب الرمزي فإن حوشاي (تعني "مسرعًا") قد أسرع إلى صادوق (تعني "صديقًا أو بارًا") وأبيأثار (تعني "أب الثراء") الكاهنين ليتدبرا الأمر. فإن الكاهنين يمثلان دور الكاهن في الخدمة متعاونًا مع الشعب، ألا وهو العمل خلال الحياة البارة أو المقدسة في الرب، والأبوة الثرية بفيض الحب. بمعنى آخر إن كان الشعب يسرع نحو الكهنة إنما لأنهم يتوقعون فيهم أولًا وقبل كل شيء قدسية الحياة والأبوة الصادقة المملوءة حنانًا ولطفًا.
أ. انطلقت جارية من قبل الكاهنين الشيخين صادوق وأبيأثار إلى ابنيهما الكاهنين الشابين: يوناثان (كلمة عبرية تعني "عطية يهوه") وأخيمعص (تعني "أخ الغضب")، اللذين كانا واقفين عند عين روجيل (أي "عين مسافر") ينتظران الرسالة. الكنيسة في حاجة إلى جميع أفراد شعبها وكهنتها، فإنه ما كان يمكن لحوشاي أن يحقق رسالته دون الجارية الفقيرة، ولا كان يمكن للكاهنين الشيخين أن يعملا بدون الشابين. ليت الغني يشعر بعوزه إلى الفقير، والكاهن الشيخ لا يستخف بالكاهن الشاب!


اسما الشابين يحملان معنى رمزيًا، فإنه يليق بالشيوخ أو البالغين أن يتطلعوا إلى الشباب من زاويتين: الأولى أنهم عطية الله (يوناثان). فالشاب ليس أداة في يد الشخص البالغ إنما هو إنسان الله له كيانه وشخصيته ومواهبه وفكره، أمور تحتاج من البالغين أن يقدروها فيهم لا أن يطلبوا صَبَّ الشباب في قوالب حسب أهوائهم الشخصية. أما الثانية فهي أن الشباب يُعرف بسرعة الانفعال والغضب... لنقبلهم كإخوة (أخيمعص = أخ الغضب) لتتحول عواطفهم الثائرة للبنيان بتقديسها وليس بتحطيمها.
كان الشابان واقفين عند "عين روجيل" أي "عين المسافر" إذ يميل الشباب إلى الحركة المستمرة، إنهم لا يقبلون الحياة الخاملة الجامدة. عمل الشيوخ ليس مهاجمة الشباب في تحركهم وإنما مساندتهم بالحب والرعاية مع الحكمة فيتحرك الكل معًا في نمو للبنيان.
ب. لم يكن الشابان قادرين على الظهور في أورشليم [17] لأنهما معروفان أنهما من تابعي داود. ومع ذلك فقد رآهما غلام وأخبر أبشالوم بما حدث. وكأن مع كل عمل نتوقع مقاومة من عدو الخير من حيث لا ندري، لذا لن تنجح أية خطة بشرية مهما أُحكمت ما لم تتدخل عناية الله ونعمته.
ج. انطلق الشابان إلى بيت رجل في بحوريم (تعني "شبابًا")، وهي ذات المدينة التي خرج منها شمعي بن جيرا البنياميني ليسب داود ويرشقه بالحجارة ويذري التراب مقابله (2 صم 16: 5-6، 17). المدينة التي أخرجت رجلًا يقاوم داود وجد فيها امرأة مؤمنة تعمل لحسابه، إذ أخفت الرجلين في بئر جافة وغطتها بسجف (ستائر) الباب وسطحت عليها سميذا. يمكننا القول إن المدينة التي أخرجت إنسانًا يهين داود فيحتمله باتساع قلب وجدت فيها امرأة متسعة القلب نحو داود ورجاله. لقد سمع الرب لكلمات داود التي نطق بها هناك: "لعل الرب ينظر مذلتي ويكافئني خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم" (2 صم 16: 12).
حيث يوجد احتمال الإهانة والسب برضى يقوم الخلاص!
الرجل سبّ داود والمرأة عملت على إنقاذ حياته... ليت كلا الجنسين يدركان دورهما الإيجابي في العمل لحساب ملكوت الله.
لعل الرجل الذي سب داود يشير إلى اليهود الذي جحدوا المخلص ورفضوه، أما المرأة فتُشير إلى جماعة الأمم التي قبلت بالإيمان بئر المعمودية المقدس وقد غطته ستائر الحب الإلهي خلال الدم المبذول على الصليب.


د. فَتَّش عبيد أبشالوم عن الكاهنين الشابين فلم يجدوهما، فقالت لهم: "قد عبرا قناة الماء" [20]. ربما أشارت بذلك إلى مجرى صغير من الماء بالقرب من البيت. في هذا كذبت المرأة كما فعلت راحاب (يش 2: 1-7) وميكال (1 صم 19: 12) وحوشاي (2 صم 15: 32-34). هذا الكذب هو ضعف بشري لا يمكن تبريره!
ه. خرجا من البئر وانطلقا إلى داود يخبرانه أن يعبر هو وشعبه الماء (نهر الأردن) سريعًا بالرغم من صعوبة الأمر. وبالفعل تم العبور طوال الليل متجهين نحو المشرق، حتى لم يبق في الصباح أحد لم يعبر الأردن [22].

4. انتحار أخيتوفل:

23 وَأَمَّا أَخِيتُوفَلُ فَلَمَّا رَأَى أَنَّ مَشُورَتَهُ لَمْ يُعْمَلْ بِهَا، شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ وَقَامَ وَانْطَلَقَ إِلَى بَيْتِهِ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَأَوْصَى لِبَيْتِهِ، وَخَنَقَ نَفْسَهُ وَمَاتَ وَدُفِنَ فِي قَبْرِ أَبِيهِ.

لم يعمل أبشالوم بمشورة أخيتوفل المتعجرف، لهذا انطلق إلى بيته حيث خنق نفسه ومات بعدما أوصى لبيته أي رتب أمور أسرته [23].
صنع هذا لسببين رئيسيين: الأول من أجل كرامته الذاتية، إذ استصعب أن تُقبل مشورة آخر غيره. والثاني أنه أدرك أن مشورة حوشاي ستُحطم أبشالوم فيعود داود إلى كرسيه وينتقم منه كخائن.
أما خنقه في بيته فيُشير إلى أن ما حلّ به هو ثمرة طبيعية للأنا أو البيت الداخلي المتقوقع بغير انفتاح قلب أو محبة للغير. لذا يؤكد القديس مقاريوس الكبير في العظات المنسوبة إليه أنه لا خلاص خارج الآخرين،
ويقول مار إسحق السرياني: [من يقرض ذراعه لمساندة أخيه يتقبل ذراع الرب عونًا له].
صار أخيتوفل رمزًا ليهوذا الخائن الذي خنق نفسه أيضًا.

5. استعداد أبشالوم للحرب:

24 وَجَاءَ دَاوُدُ إِلَى مَحَنَايِمَ. وَعَبَرَ أَبْشَالُومُ الأُرْدُنَّ هُوَ وَجَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ مَعَهُ. 25 وَأَقَامَ أَبْشَالُومُ عَمَاسَا بَدَلَ يُوآبَ عَلَى الْجَيْشِ. وَكَانَ عَمَاسَا ابْنَ رَجُل اسْمُهُ يِثْرَا الإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي دَخَلَ إِلَى أَبِيجَايِلَ بِنْتِ نَاحَاشَ أُخْتِ صَرُويَةَ أُمِّ يُوآبَ. 26 وَنَزَلَ إِسْرَائِيلُ وَأَبْشَالُومُ فِي أَرْضِ جِلْعَادَ.

عبر داود ورجاله نهر الأردن إلى محنايم، وهي مدينة للاويين عند تخم جاد الشمالي (2 صم 2: 8)، وكانت مدينة مناسبة لداود بسبب حصونها.


عبر أبشالوم الأردن ومعه رجال إسرائيل تحت قيادة عماسا (معناها "ثقل") الذي يحمل ذات القرابة لأبشالوم مثل يوآب ابن خالته، وقد صار عماسا ثقلًا على أبشالوم وليس معينًا له، إذ قُتل أبشالوم في المعركة الوحيدة التي قادها مع عماسا ضد أبيه.

6. داود في محنايم:

27 وَكَانَ لَمَّا جَاءَ دَاوُدُ إِلَى مَحَنَايِمَ أَنَّ شُوبِيَ بْنَ نَاحَاشَ مِنْ رَبَّةِ بَنِي عَمُّونَ، وَمَاكِيرَ بْنُ عَمِّيئِيلَ مِنْ لُودَبَارَ، وَبَرْزَلاَّيَ الْجِلْعَادِيَّ مِنْ رُوجَلِيمَ، 28 قَدَّمُوا فَرْشًا وَطُسُوسًا وَآنِيَةَ خَزَفٍ وَحِنْطَةً وَشَعِيرًا وَدَقِيقًا وَفَرِيكًا وَفُولًا وَعَدَسًا وَحِمِّصًا مَشْوِيًّا 29 وَعَسَلًا وَزُبْدَةً وَضَأْنًا وَجُبْنَ بَقَرٍ، لِدَاوُدَ وَلِلشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ لِيَأْكُلُوا، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «الشَّعْبُ جَوْعَانُ وَمُتْعَبٌ وَعَطْشَانُ فِي الْبَرِّيَّةِ».

جاء داود ورجاله إلى محنايم حيث قدم لهم شوبي بن ناحاش وماكير بن عميئيل من لودبار وبرزلاي الجلعادي أثاثات وطعامًا ليأكلوا، تقدمة محبة تقبلها داود وسط ضيقه ومتاعبه، لذا ترنم بالمزمور 23 قائلًا: "ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقي".
تلقى محبة عملية في محنايم البعيدة عن عاصمة ملكه في وقت قام فيها كثيرون من أصدقائه بمقاومته وخيانته.
إن كانت "محنايم" تعني "معسكرين"، فالتجاء داود إليهما إنما يشير إلى تجلي السيد المسيح في كنيسته في العهدين القديم والجديد. في محنايم وُجد شوبى (يعني "الآسر" أو "المُعتقل")، وماكير (تعني "البائع") بن عميئيل (يعني "شعب الله")، وبرزلاي (يعني "قلبًا حديديًا")، هؤلاء قاموا بخدمة داود بتقديم أثاثات وأطعمة متنوعة ليأكل هو ومن معه وسط الضيق والتعب. كأنه يليق بالمؤمنين من العهدين أن تكون لهم السمات الثلاث التالية:
أ. أن يكونوا آسرين لا أسرى، يعرفون كيف يقودون حياتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم بقوة الروح غير مستعبدين لشهوات الجسد؛ في أيديهم عجلة القيادة الداخلية بالروح القدس الساكن فيهم.
ب. أن يكونوا بائعين، أي لهم العمل الإيجابي في الكنيسة، يشعرون بنوع من الحرية كأعضاء حقيقيين في شعب الله.
ج. أن يكون لهم القلب الحديدي، لا يخنعون للخوف والقلق ولا للذة والشهوة، إنما يحملون روح النصرة والغلبة بالمسيح يسوع قائد الموكب الروحي.


نهاية أبشالوم

مُسح أبشالوم العاق والمتعجرف ملكًا على كل إسرائيل، ولم تمض سوى أسابيع قليلة حتى جمع جيشه الضخم ليقتل داود... دخل في معركة كانت ظلًا لمعركة الصليب، فيها خرج داود ورجاله منتصرين بينما تحطم أبشالوم ورجاله. كان داود رمزًا للمسيح الحيّ الغالب، وكان أبشالوم رمزًا لإبليس الذي قتله الرب بالصليب وحطم سلطانه.

1. تنظيم رجال داود:

1 وَأَحْصَى دَاوُدُ الشَّعْبَ الَّذِي مَعَهُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ وَرُؤَسَاءَ مِئَاتٍ. 2 وَأَرْسَلَ دَاوُدُ الشَّعْبَ ثُلْثًا بِيَدِ يُوآبَ، وَثُلْثًا بِيَدِ أَبِيشَايَ ابْنِ صَرُويَةَ أَخِي يُوآبَ، وَثُلْثًا بِيَدِ إِتَّايَ الْجَتِّيِّ. وَقَالَ الْمَلِكُ لِلشَّعْبِ: «إِنِّي أَنَا أَيْضًا أَخْرُجُ مَعَكُمْ». 3 فَقَالَ الشَّعْبُ: «لاَ تَخْرُجْ، لأَنَّنَا إِذَا هَرَبْنَا لاَ يُبَالُونَ بِنَا، وَإِذَا مَاتَ نِصْفُنَا لاَ يُبَالُونَ بِنَا. وَالآنَ أَنْتَ كَعَشَرَةِ آلاَفٍ مِنَّا. وَالآنَ الأَصْلَحُ أَنْ تَكُونَ لَنَا نَجْدَةً مِنَ الْمَدِينَةِ». 4 فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: «مَا يَحْسُنُ فِي أَعْيُنِكُمْ أَفْعَلُهُ». فَوَقَفَ الْمَلِكُ بِجَانِبِ الْبَابِ وَخَرَجَ جَمِيعُ الشَّعْبِ مِئَاتٍ وَأُلُوفًا. 5 وَأَوْصَى الْمَلِكُ يُوآبَ وَأَبِيشَايَ وَإِتَّايَ قَائِلًا: «تَرَفَّقُوا لِي بِالْفَتَى أَبْشَالُومَ». وَسَمِعَ جَمِيعُ الشَّعْبِ حِينَ أَوْصَى الْمَلِكُ جَمِيعَ الرُّؤَسَاءِ بِأَبْشَالُومَ.



مُسح أبشالوم العاق ملكًا، وجمع جيشه الضخم وعبر الأردن لمحاربة داود ورجاله، طالبًا قتل داود بالذات، وكان في هذا يرمز لإبليس الذي بخداعه وكبريائه مع عصيانه لله صار رئيس هذا العالم (يو 14: 30). وقد جمع كل رجاله الخاضعين له للخلاص من المسّيا.
في ذات الوقت كان داود يحصى رجاله لا لمعرفة عددهم وإنما لتنظيم جيشه في محنايم، ويقدر المؤرخ اليهودي يوسيفوس عددهم بحوالي 4000 نسمة، وهو عدد قليل جدًا بالنسبة لجيش أبشالوم. أقام داود رؤساء ألوف ورؤساء مئات كنظام موسى النبي (خر 18: 25) ونظام شاول (1 صم 22: 7). كما قام بتوزيع الجيش على ثلاث فرق: الثلث تحت قيادة إتاي الجتي الذي أظهر إخلاصه وقت الضيق رافضًا البقاء في أورشليم مع أبشالوم ليشارك داود آلامه وتغربه (2 صم 15: 18-23)؛ والثلث تحت قيادة يوآب رئيس جيش داود، والثلث تحت قيادة أبيشاي أخي يوآب. ويبدو أنه أراد أن يكون القائد العام للثلاث فرق يقودهم بنفسه، لكن الشعب الذي سمع عن مشورة أخيتوفل وأدرك نية أبشالوم ألا وهي التركيز على قتل داود، طلبوا منه ألا يخرج، لأنه بقتله يسقط الجيش كله (2 صم 21: 17)؛ وإن بقى في المدينة يرسل لهم نجدة ويسندهم بمشورته وتدبيره.
داود بتنظيمه للجيش يمثل السيد المسيح الذي يقيم من مؤمنيه جنودًا روحيين يصارعون حتى النهاية لتحطيم الشر وإبادة عدو الخير... لتحطيم الخطية لا الخطاة، الفساد لا البشر المخدوعين بالفساد. يقول القديس بولس: "البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست من دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 11-12). وأيضًا: "فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح. ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي مَن جَنَّدَهُ" (2 تي 2: 3-4).
يرى الآباء أن السيد المسيح هو نفسه سلاحنا في المعركة.
يقول القديس أمبروسيوس: [يوجد دفاع لخلاصنا ما دام يوجد المسيح].
ويقول القديس أغسطينوس: [عُدة أسلحتنا هي المسيح].
أطاع داود أمرهم وبقى في المدينة، وفي حنان طلب من القادة الثلاثة: "ترفقوا لي بالفتى أبشالوم" [5]. لم تكن هذه وصية ملك ولا قائد حرب بل وصية أب حنون يتطلع إلى ابنه العاق كصبي يحتاج إلى حنان الأبوة. هذه نظرة كثير من آباء الكنيسة تجاه كل إنسان غضوب، إنه شُبِّه بصبي صغير يحتاج إلى حب لعلاجه لا إلى مقاومته.
هذه هي مشاعر الأب البشري تجاه ابنه العاق، والأسقف أو الكاهن تجاه أحد أفراد شعبه الغَضْبَى، فكم تكون مشاعر أبينا السماوي ربنا يسوع المسيح نحو الخطاة؟! إنه يبحث عنا جميعًا ويترفق بنا منتظرًا إشارة منا ليستلم حياتنا ويستريح في أحشائنا ويسكن في قلوبنا. لقد أعد الوليمة وأمسك بالحلة الأولى وخاتم البنوة، منتظرًا كل ابن عاق يرجع إليه.
ليس هناك وجه للمقارنة بين داود وأبشالوم، فداود المحب لكل الشعب لم يوصِ إلا بابنه العاق، بينما جاء أبشالوم بنفسه إلى المعركة هدفه الأول قتل أبيه!

2. انكسار أبشالوم:

6 وَخَرَجَ الشَّعْبُ إِلَى الْحَقْلِ لِلِقَاءِ إِسْرَائِيلَ. وَكَانَ الْقِتَالُ فِي وَعْرِ أَفْرَايِمَ، 7 فَانْكَسَرَ هُنَاكَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ أَمَامَ عَبِيدِ دَاوُدَ، وَكَانَتْ هُنَاكَ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ. قُتِلَ عِشْرُونَ أَلْفًا. 8 وَكَانَ الْقِتَالُ هُنَاكَ مُنْتَشِرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَزَادَ الَّذِينَ أَكَلَهُمُ الْوَعْرُ مِنَ الشَّعْبِ عَلَى الَّذِينَ أَكَلَهُمُ السَّيْفُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ.



إذ تحرك أبشالوم للقتال اضطر داود أن يطلب من رجاله أن يتحركوا خارج محنايم، إذ لم يرد أن يسبب لشعبها اضطرابًا، وقد استضافوه هو ورجاله. هكذا كان داود عجيبًا في رقة مشاعره وحرصه ألا يتأذى أحد بسببه.
تم اللقاء في وعر أفرايم شرقي الأردن وذلك بخلاف الوعر الذي في غربة (يش 17: 18)، الذي فيه انكسر الأفراميون حينما حاربوا يفتاح وأهل جلعاد (قض 12: 6). انهزم أبشالوم مع رجاله أمام عبيد داود الذين يحسبون قلة قليلة أمام جيش أبشالوم. تشتت إسرائيل في الوعر فتبعهم رجال داود وقتلوا 20000 نسمة، أما الذين أهلكهم الوعر فكانوا أكثر من الذين قتلهم السيف، وكأن الطبيعة ذاتها ثارت ضد هذا الشرير كما حدث أثناء الصلب.
كان سقوطهم رمزًا لسقوط جاحدي الإيمان الذين رفضوا ابن داود السماوي ليعيشوا حسب فكرهم الأرضي وشهواتهم الجسدية وراء أبشالوم (رمز إبليس) المتعجرف. يقول القديس أغسطينوس: [[قدامه سيسقط كل المنحدرين إلى التراب] (مز 22: 29). هو (ربنا يسوع) وحده يرى كيف يسقط كل من يتركون السيرة السماوية، ويجعلون اختيارهم أرضيًا، ليظهروا أنهم سعداء أمام الناس الذين لا يرون سقوطهم (هلاكهم)].

3. نهاية أبشالوم:

9 وَصَادَفَ أَبْشَالُومُ عَبِيدَ دَاوُدَ، وَكَانَ أَبْشَالُومُ رَاكِبًا عَلَى بَغْل، فَدَخَلَ الْبَغْلُ تَحْتَ أَغْصَانِ الْبُطْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُلْتَفَّةِ، فَتَعَلَّقَ رَأْسُهُ بِالْبُطْمَةِ وَعُلِّقَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالْبَغْلُ الَّذِي تَحْتَهُ مَرَّ. 10 فَرَآهُ رَجُلٌ وَأَخْبَرَ يُوآبَ وَقَالَ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَبْشَالُومَ مُعَلَّقًا بِالْبُطْمَةِ». 11 فَقَالَ يُوآبُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَخْبَرَهُ: «إِنَّكَ قَدْ رَأَيْتَهُ، فَلِمَاذَا لَمْ تَضْرِبْهُ هُنَاكَ إِلَى الأَرْضِ؟ وَعَلَيَّ أَنْ أُعْطِيَكَ عَشَرَةً مِنَ الْفِضَّةِ وَمِنْطَقَةً» 12 فَقَالَ الرَّجُلُ لِيُوآبَ: «فَلَوْ وُزِنَ فِي يَدِي أَلْفٌ مِنَ الْفِضَّةِ لَمَا كُنْتُ أَمُدُّ يَدِي إِلَى ابْنِ الْمَلِكِ، لأَنَّ الْمَلِكَ أَوْصَاكَ فِي آذَانِنَا أَنْتَ وَأَبِيشَايَ وَإِتَّايَ قَائِلًا: احْتَرِزُوا أَيًّا كَانَ مِنْكُمْ عَلَى الْفَتَى أَبْشَالُومَ. 13 وَإِّلا فَكُنْتُ فَعَلْتُ بِنَفْسِي زُورًا، إِذْ لاَ يَخْفَى عَنِ الْمَلِكِ شَيْءٌ، وأَنْتَ كُنْتَ وَقَفْتَ ضِدِّي». 14 فَقَالَ يُوآبُ: «إِنِّي لاَ أَصْبِرُ هكَذَا أَمَامَكَ». فَأَخَذَ ثَلاَثَةَ سِهَامٍ بِيَدِهِ وَنَشَّبَهَا فِي قَلْبِ أَبْشَالُومَ، وَهُوَ بَعْدُ حَيٌّ فِي قَلْبِ الْبُطْمَةِ. 15 وَأَحَاطَ بِهَا عَشَرَةُ غِلْمَانٍ حَامِلُو سِلاَحِ يُوآبَ، وَضَرَبُوا أَبْشَالُومَ وَأَمَاتُوهُ.

كان أبشالوم راكبًا على بغل، مع أنه اعتاد في أورشليم أن يركب مركبة وخيلًا؛ وفي وسط الأحراش تعلقت رأسه، أو كما يقول يوسيفوس المؤرخ تشابك شعره بأغصان بطمة عظيمة، وذلك بسبب طول شعره وغزارته، وإذ سار البغل بقى معلقًا بين السماء والأرض. أسرع رجل يخبر يوآب بما رآه فانتهره لأنه لم يضربه إذ كان مستعدًا أن يعطيه عشرة شواقل فضه ومنطقة مطرزة. أجابه الرجل: "فلو وُزن في يدي ألف من الفضة لما كنت أمد يدي إلى ابن الملك. لأن الملك أوصاك في آذاننا أنت وأبيشاي وإتاي قائلًا: احترزوا أيا كان منكم على الفتى أبشالوم" [12]. لم يصبر يوآب رئيس الجيش على ذلك فنشب 3 سهام في قلب أبشالوم وهو بعد حيّ في قلب البطمة، وأحاط به عشرة غلمان حاملوا سلاح يوآب وضربوا أبشالوم حتى مات. لقد خالف يوآب وصية داود لأنه شعر أن حياة أبشالوم تمثل خطرًا على داود نفسه كما على المملكة.


وقد سبقت الإشارة إلى أن نهاية أبشالوم ترمز إلى معركة الصليب التي فيها تحطمت قوى عدو الخير إبليس تمامًا بالنسبة للمؤمنين بالمخلص المصلوب، وذلك في الجوانب التالية:
أ. خرج رجال داود خارج المدينة "محنايم" ليدخلوا إلى معركة عنيفه مع أبشالوم ورجاله، مع رجال حرب أقوياء وكثيرين. هكذا إذ رفع مسيحنا على الصليب خارج أورشليم، يدعونا الرسول بولس أن نخرج خارج المحلة لنحمل عاره (عب 13: 13). ندخل معركة مع عدو الخير العنيف للغاية، قواته بلا حصر، لا يعرفون سوى العنف والشراسة... لكننا في المسيح يسوع ننال الغلبة والنصرة، محطمين كل خداعاته وحيله وكل قوته وجبروته. إنه يضعف جدًا هو وكل أعماله الشريرة إن اختفينا في مسيحنا الغالب.
ب. استخدم أبشالوم البغل الذي لأبيه عوض الخيل الذي كان يركبه... غالبًا ما كان داود الملك يخرج بهذا البغل في الحروب فيغلب، أما أبشالوم ففلت البغل من تحته ليتركه معلقًا بين السماء والأرض.
يمكننا أن نقول مع العلامة أوريجانوس: [إن السيد المسيح رُفع على الصليب علانية، أما الذي فقد سلطانه وصُلبت إمكانياته فهو إبليس. على ذات الصليب ملك المسيح وتحطم إبليس، إذ يقول الرسول عنه إنه بالصليب قط أشهر إبليس وكل سلاطينه (كو 2: 15).
* لقد غلب العالم كله كما نرى أيها الأحباء... لقد قهر... لا بقوة عسكرية بل بجهالة الصليب...!
القديس أغسطينوس
* سلب (الرب) الرؤساء والسلاطين وظفر بهم بصليبه. هذا كان سبب مجيء ربنا: أن يطرحهم خارجًا ويسترد الإنسان الذي هو بيته وهيكله.
القديس مكاريوس الكبير
* بالشجرة التي قتلنا بها (الشيطان) أنقذنا الرب...
مبارك هو هذا الذي كحمل حقيقي خلصنا، وأهلك مهلكنا كما حدث مع داجون.


مار أفرايم السرياني
ج. الشعر الذي بجماله وغزارته جذب أبشالوم الكثيرين ليقيموه ملكًا (2 صم 14: 25-27)، هو الذي تشابك مع أغصان البطمة ليبقى معلقًا غير قادر على الإفلات من الموت. هكذا الجسد بكل أعضائه الصالحة وأحاسيسه ومشاعره التي أوجدها الله فينا إن انحرف عن غايته يصير سبب هلاك لنا. ليس العيب في الجسد ولا في طاقاته فإنه من عمل خالق صالح إنما العيب فينا نحن الذين نحول ما هو صالح لهلاكنا.
د. بقى أبشالوم بين السماء والأرض معلقًا على الخشبة، يشير إلى عدو الخير الذي يُحطمه الصليب فلا يجد راحة في السماء إذ ليس له موضع فيه، ولا الأرض باقية له... إنه يهوى إلى حيث لا يتمتع بالسماء ولا بالأرض.
ه. ضُرب أبشالوم بالسهام وهو حي بيد يوآب في قلبه، كما ضربه الغلمان العشرة حاملوا السلاح. يوآب يمثل جماعه القديسين الجبابرة في الإيمان يُحطمون إبليس، يضربونه كما في قلبه. أما الغلمان العشرة فيشيرون إلى المؤمنين البسطاء كغلمان صغار لا يتوقفون عن محاربة عدو الخير الذي فقد قدرته على التحرك بالنسبة لهم. يشبهه القديس يوحنا الذهبي الفمبالكلب الذي ينبح كثيرًا أمام بيته لكنه جبان أمام طفل بريء.

4. رجوع عبيد داود:

16 وَضَرَبَ يُوآبُ بِالْبُوقِ فَرَجَعَ الشَّعْبُ عَنِ اتِّبَاعِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ يُوآبَ مَنَعَ الشَّعْبَ. 17 وَأَخَذُوا أَبْشَالُومَ وَطَرَحُوهُ فِي الْوَعْرِ فِي الْجُبِّ الْعَظِيمِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِ رُجْمَةً عَظِيمَةً جِدًّا مِنَ الْحِجَارَةِ. وَهَرَبَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَيْمَتِهِ. 18 وَكَانَ أَبْشَالُومُ قَدْ أَخَذَ وَأَقَامَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ حَيٌّ النَّصَبَ الَّذِي فِي وَادِي الْمَلِكِ، لأَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِيَ ابْنٌ لأَجْلِ تَذْكِيرِ اسْمِي». وَدَعَا النَّصَبَ بِاسْمِهِ، وَهُوَ يُدْعَى «يَدَ أَبْشَالُومَ» إِلَى هذَا الْيَوْمِ.

ضرب يوآب بالبوق لينهي القتال بموت أبشالوم؛ أنه بوق كلمة الله التي ينطق بها المؤمنون كما ببوق ليعلنوا خلال الكلمة حياة الغلبة ونهاية عدو الخير.
طرح أبشالوم في أقرب جب وُجد هناك فاقدًا كرامته كابن للملك. طلب الكرامة الزمنيه وسعى إليها بكل طاقاته ففقدها في موته وحتى بعد موته، فصار عبرة لكل نفس في عقوق نحو الله أبيها. كانوا يرمونه بالحجارة وكأنهم يرجمونه بسبب عقوقه كحكم الشريعة (تث 21: 20-21). لا تزال توجد في بعض بلاد الشرق عادة أن يُلقي العابرون حجارة على مقبرة المجرمين.
مات أبشالوم بعد أسابيع من مُلكه، وقد سبق أن مات أولاده الثلاثة (2 صم 14: 27) في حياة أبيهم.. وأقيم نصب تذكاري دُعي "يد أبشالوم"، ربما لأنهم كانوا يصورون يدًا على النصب لأن اليد آلة للعمل. هذا النصب تذكار وعبرة لكل من تسول نفسه ممارسة العقوق.



5. داود يحزن على ابنه:

19 وَقَالَ أَخِيمَعَصُ بْنُ صَادُوقَ: «دَعْنِي أَجْرِ فَأُبَشِّرَ الْمَلِكَ، لأَنَّ اللهَ قَدِ انْتَقَمَ لَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ». 20 فَقَالَ لَهُ يُوآبُ: «مَا أَنْتَ صَاحِبُ بِشَارَةٍ فِي هذَا الْيَوْمِ. فِي يَوْمٍ آخَرَ تُبَشِّرُ، وَهذَا الْيَوْمَ لاَ تُبَشِّرُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ابْنَ الْمَلِكِ قَدْ مَاتَ». 21 وَقَالَ يُوآبُ لِكُوشِي: «اذْهَبْ وَأَخْبِرِ الْمَلِكَ بِمَا رَأَيْتَ». فَسَجَدَ كُوشِي لِيُوآبَ وَرَكَضَ. 22 وَعَادَ أَيْضًا أَخِيمَعَصُ بْنُ صَادُوقَ فَقَالَ لِيُوآبَ: «مَهْمَا كَانَ، فَدَعْنِي أَجْرِ أَنَا أَيْضًا وَرَاءَ كُوشِي». فَقَالَ يُوآبُ: «لِمَاذَا تَجْرِي أَنْتَ يَا ابْنِي، وَلَيْسَ لَكَ بِشَارَةٌ تُجَازَى؟» 23 قَالَ: «مَهْمَا كَانَ أَجْرِي». فَقَالَ لَهُ: «اجْرِ». فَجَرَى أَخِيمَعَصُ فِي طَرِيقِ الْغَوْرِ وَسَبَقَ كُوشِيَ. 24 وَكَانَ دَاوُدُ جَالِسًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَطَلَعَ الرَّقِيبُ إِلَى سَطْحِ الْبَابِ إِلَى السُّورِ وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا بِرَجُل يَجْرِي وَحْدَهُ. 25 فَنَادَى الرَّقِيبُ وَأَخْبَرَ الْمَلِكَ. فَقَالَ الْمَلِكُ: «إِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَفِي فَمِهِ بِشَارَةٌ». وَكَانَ يَسْعَى وَيَقْرُبُ. 26 ثُمَّ رَأَى الرَّقِيبُ رَجُلًا آخَرَ يَجْرِي، فَنَادَى الرَّقِيبُ الْبَوَّابَ وَقَالَ: «هُوَذَا رَجُلٌ يَجْرِي وَحْدَهُ». فَقَالَ الْمَلِكُ: «وَهذَا أَيْضًا مُبَشِّرٌ». 27 وَقَالَ الرَّقِيبُ: «إِنِّي أَرَى جَرْيَ الأَوَّلِ كَجَرْيِ أَخِيمَعَصَ بْنِ صَادُوقَ». فَقَالَ الْمَلِكُ: «هذَا رَجُلٌ صَالِحٌ وَيَأْتِي بِبِشَارَةٍ صَالِحَةٍ». 28 فَنَادَى أَخِيمَعَصُ وَقَالَ لِلْمَلِكِ: «السَّلاَمُ». وَسَجَدَ لِلْمَلِكِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ. وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي دَفَعَ الْقَوْمَ الَّذِينَ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ». 29 فَقَالَ الْمَلِكُ: «أَسَلاَمٌ لِلْفَتَى أَبْشَالُومَ؟» فَقَالَ أَخِيمَعَصُ: «قَدْ رَأَيْتُ جُمْهُورًا عَظِيمًا عِنْدَ إِرْسَالِ يُوآبَ عَبْدَ الْمَلِكِ وَعَبْدَكَ، وَلَمْ أَعْلَمْ مَاذَا». 30 فَقَالَ الْمَلِكُ: «دُرْ وَقِفْ ههُنَا». فَدَارَ وَوَقَفَ. 31 وَإِذَا بِكُوشِي قَدْ أَتَى، وَقَالَ كُوشِي: « لِيُبَشَّرْ سَيِّدِي الْمَلِكُ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ انْتَقَمَ لَكَ الْيَوْمَ مِنْ جَمِيعِ الْقَائِمِينَ عَلَيْكَ». 32 فَقَالَ الْمَلِكُ لِكُوشِي: «أَسَلاَمٌ لِلْفَتَى أَبْشَالُومَ؟» فَقَالَ كُوشِي: «لِيَكُنْ كَالْفَتَى أَعْدَاءُ سَيِّدِي الْمَلِكِ وَجَمِيعُ الَّذِينَ قَامُوا عَلَيْكَ لِلشَّرِّ». 33 فَانْزَعَجَ الْمَلِكُ وَصَعِدَ إِلَى عِلِّيَّةِ الْبَابِ وَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ وَهُوَ يَتَمَشَّى: «يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ، يَا ابْنِي، يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ! يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضًا عَنْكَ! يَا أَبْشَالُومُ ابْنِي، يَا ابْنِي».

أدرك يوآب أن الملك المتعلق بابنه أبشالوم لن يتقبل خبر النصرة بفرح بسبب موت ابنه لذلك لم يرد أن يقوم أخيمعص بن صادوق الكاهن بإبلاغ الخبر للملك، فبعث برسول آخر كوشي، ربما كان عبدًا ليوآب من بلاد كوش. نزل أخيمعص إلى الغور أي إلى وادي الأردن وسار فيه ثم صعد إلى محنايم ليبشر داود بالنصرة، أما الكوشي فأخذ طريقًا أسهل لكنه أطول.
وصل أخيمعص أولًا حيث كان داود جالسًا بين البابين: أي على السطح يربط بين باب خارجي تجاه البرية وآخر تجاه المدينة، وقد صعد الرقيب على سطح السور فوق الباب ليخبر داود بما يراه.
بشر أخيمعص داود بالنصرة، دون أن ينطق بكلمة بخصوص أبشالوم حتى جاء الكوشي، وفهم داود من حديثه أن ابنه مات فحزن جدًا، وكان يبكيه بمرارة، ولعل سر بكائه هو:
أ. مشاعر الأبوة الحانية الطبيعية. خاصة وأن داود يحمل مشاعر رقيقة للكل.
ب. كان يكِنّ لأبشالوم معزة خاصة، متوقعًا أن تنضج شخصيته مع الزمن وخلال الخبرات المستمرة.
ج. لم يكن أبشالوم مستعدًا للموت بالتوبة.
د. شعوره بخطئه في تربيته لابنه.
ه. شعر أن ما حل به هو ثمرة خطأه هو.






Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:33 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
أخطأ داود في الخفاء مع بثشبع، وبقى الأمر مخفيًا إلى حين،
لتظهر رائحة الفساد القاتلة علانية في بيت داود.
لقد سقط أمنون بكامل حريته في الشهوة وأحب أخته
التي من أبيه دون أمه، أحبها جدًا لجمالها حتى مرض
وإذ تمكن منها أذلها ثم طردها لأنه أبغضها جدًا ولم يطق أن يراها!
تصور ماذا كان حال داود ومركزه بين قواده
ورؤساء الشعب حين بلغهم هذا الخبر؟!
هذا التصرف من جانب أمنون أثار سخط أبشالوم من أجل أخته
ثامار، وبعد سنتين دبر أمر قتله وهرب ففقد داود الاثنين!

Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:34 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174895097196541.jpg


سقوط أمنون في حب ثامار:

1 وَجَرَى بَعْدَ ذلِكَ أَنَّهُ كَانَ لأَبْشَالُومَ بْنِ دَاوُدَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ اسْمُهَا ثَامَارُ، فَأَحَبَّهَا أَمْنُونُ بْنُ دَاوُدَ. 2 وَأُحْصِرَ أَمْنُونُ لِلسُّقْمِ مِنْ أَجْلِ ثَامَارَ أُخْتِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ عَذْرَاءَ، وَعَسُرَ فِي عَيْنَيْ أَمْنُونَ أَنْ يَفْعَلَ لَهَا شَيْئًا. 3 وَكَانَ لأَمْنُونَ صَاحِبٌ اسْمُهُ يُونَادَابُ بْنُ شِمْعَى أَخِي دَاوُدَ. وَكَانَ يُونَادَابُ رَجُلًا حَكِيمًا جِدًّا. 4 فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا يَا ابْنَ الْمَلِكِ أَنْتَ ضَعِيفٌ هكَذَا مِنْ صَبَاحٍ إِلَى صَبَاحٍ؟ أَمَا تُخْبِرُنِي؟» فَقَالَ لَهُ أَمْنُونُ: «إِنِّي أُحِبُّ ثَامَارَ أُخْتَ أَبْشَالُومَ أَخِي». 5 فَقَالَ يُونَادَابُ: «اضْطَجعْ عَلَى سَرِيرِكَ وَتَمَارَضْ. وَإِذَا جَاءَ أَبُوكَ لِيَرَاكَ فَقُلْ لَهُ: دَعْ ثَامَارَ أُخْتِي فَتَأْتِيَ وَتُطْعِمَنِي خُبْزًا، وَتَعْمَلَ أَمَامِي الطَّعَامَ لأَرَى فَآكُلَ مِنْ يَدِهَا». 6 فَاضْطَجَعَ أَمْنُونُ وَتَمَارَضَ، فَجَاءَ الْمَلِكُ لِيَرَاهُ. فَقَالَ أَمْنُونُ لِلْمَلِكِ: «دَعْ ثَامَارَ أُخْتِي فَتَأْتِيَ وَتَصْنَعَ أَمَامِي كَعْكَتَيْنِ فَآكُلَ مِنْ يَدِهَا». 7 فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى ثَامَارَ إِلَى الْبَيْتِ قَائِلًا: «اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَمْنُونَ أَخِيكِ وَاعْمَلِي لَهُ طَعَامًا». 8 فَذَهَبَتْ ثَامَارُ إِلَى بَيْتِ أَمْنُونَ أَخِيهَا وَهُوَ مُضْطَجِعٌ. وَأَخَذَتِ الْعَجِينَ وَعَجَنَتْ وَعَمِلَتْ كَعْكًا أَمَامَهُ وَخَبَزَتِ الْكَعْكَ، 9 وَأَخَذَتِ الْمِقْلاَةَ وَسَكَبَتْ أَمَامَهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ. وَقَالَ أَمْنُونُ: «أَخْرِجُوا كُلَّ إِنْسَانٍ عَنِّي». فَخَرَجَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَنْهُ. 10 ثُمَّ قَالَ أَمْنُونُ لِثَامَارَ: «ايتِي بِالطَّعَامِ إِلَى الْمِخْدَعِ فَآكُلَ مِنْ يَدِكِ». فَأَخَذَتْ ثَامَارُ الْكَعْكَ الَّذِي عَمِلَتْهُ وَأَتَتْ بِهِ أَمْنُونَ أَخَاهَا إِلَى الْمِخْدَعِ. 11 وَقَدَّمَتْ لَهُ لِيَأْكُلَ، فَأَمْسَكَهَا وَقَالَ لَهَا: «تَعَالَيِ اضْطَجِعِي مَعِي يَا أُخْتِي».

تبقى قصة أمنون وثامار عبر الأجيال تمثل صورة حيَّة للتمييز بين الحب والشهوة، الحب تحرر من الأنا ليعطي الإنسان ذاته لبنيان نفسه والآخرين، فيتعامل مع الغير - خاصة الجنس الآخر - كأشخاص لهم تقديرهم، أما الشهوة فهي تتقوقع حول الأنا ليطلب الإنسان إشباع لذَّاته أو كرامته إلخ... يتعامل مع الغير كأدوات لتحقيق شبعه. الحب ينمو يومًا فيومًا ويهب القلب اتساعًا للجميع، أما الشهوة فتحطم الإنسان وتضيِّق قلبه وسرعان ما تلهو بالشخص نفسه لينقلب الحب الشهواني إلى كراهية.
أمنون أحب ثامار جدًا وكان يظن أنها - دون سواها - هي سر سعادته، خلال شهوته أسَرة جمالها، وربما أعجب بشخصيتها وحسبها الوحيدة التي تقدر أن تملأ كل فراغ فيه... وإذ نال منها تحقيق شهوته لم يجد في داخله شبعًا كما كان يظن، لذا أبغضها، وكانت بغضته لها أكثر من حبه السابق لها.
تشبه أمنون بامرأة فوطيفار التي حسبت في جسد يوسف مصدر بهجتها وشبعه، وكانت تحبه جدًا، حتى ضربت بمركزها كسيدة أمام عبد عرض الحائط، ولم تبال بحياتها كامرأه فعرضت عليه الشر، بل وأمسكت ثوبه... وعندما رفض سلمته للسجن والفضيحة ظلمًا!! هذه هي الشهوة القاتلة للنفس والمتقوقعة حول اللذة والأنا!

Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:36 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174895097196541.jpg



1 وَجَرَى بَعْدَ ذلِكَ أَنَّهُ كَانَ لأَبْشَالُومَ
بْنِ دَاوُدَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ اسْمُهَا ثَامَارُ، فَأَحَبَّهَا أَمْنُونُ بْنُ دَاوُدَ.
"أمنون" اسم عبري معناه "أمين"

الابن البكر لداود، وولي العهد (2 صم 3: 2)،
ولد في حبرون (2 صم 3: 2؛ 1 أي 3: 1)
حوالي سنة 1000 ق.م.، والدته أخينوعم اليزرعيلية

Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:37 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174895097196541.jpg

1 وَجَرَى بَعْدَ ذلِكَ أَنَّهُ كَانَ لأَبْشَالُومَ
بْنِ دَاوُدَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ اسْمُهَا ثَامَارُ، فَأَحَبَّهَا أَمْنُونُ بْنُ دَاوُدَ.
"ثامار" (اسم معناه "نخلة")
فكانت أخت أبشالوم
بن داود من معكة بنت تلماي ملك جشور
(2 صم 3: 3؛ 1 أي 3: 2).

Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:38 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174895097196541.jpg



1 وَجَرَى بَعْدَ ذلِكَ أَنَّهُ كَانَ لأَبْشَالُومَ
بْنِ دَاوُدَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ اسْمُهَا ثَامَارُ، فَأَحَبَّهَا أَمْنُونُ بْنُ دَاوُدَ.
أحب أمنون ثامار جدًا بمعنى آخر أحب جمالها وجسدها لا إنسانيتها وشخصها، أو أحب أن يشبع شهواته بجمالها، وإذ كانت أخته لم يستطع أن يتزوجها (لا 18: 9)، لذلك عسر في عينيه أن يفعل لها شيئًا [2] وكانت ثامار عذراء تقيم في جناح النساء.
حطمت الشهوة أمنون فصار يضعف يومًا فيومًا، خار جدًا الأمر الذي أزعج صديقه الحميم وابن عمه يوناداب بن شعمي أو شمه أخو داود (2 صم 13: 9)، وكان الرجل ذكيا جدًا، قادرًا على التفكير للخير كما للشر. سأل يوناداب أمنون عما يفكر فيه، فأجاب: "إني أحب ثامار أخت أبشالوم أخي" [4]. قدم له يوناداب مشورة لاغتصابها: "اضطجع على سريرك وتمارض؛ وإذ جاء أبوك ليراك فقل له: دع ثامار أختي فتأتي وتطعمني خبزًا وتعمل أمامي الطعام لأرى فآكل من يدها" [5].
نفذ أمنون هذه المشورة الشريرة، وجاءت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع. فأخذت العجين وعملت كعكا أمامه وخبزته. وأخذت المقلاة وسكبت أمامه، فأبى أن يأكل. طلب أن يُخرجوا كل إنسان عنه ثم أمسكها ليغتصبها. أما هي ففي عفة قالت له:


"لا يا أخي لا تذلني، لأنه لا يُفعل هكذا في إسرائيل.
لا تعمل هذه القباحة.
أما أنا فأين أذهب بعاري؟!
وأما أنت فتكون كواحد من السفهاء في إسرائيل.
والآن كلم الملك لأنه لا يمنعني عنك" [13] إلخ...
بحكمة تحدثت ثامار مع أخيها:
أ. كشفت له أن هذا العمل لا يليق بأمة مقدسة، إذ يجلب الغضب على الشعب كله ليس بكونهما ابني الملك وإنما بكونهما عضوين في الجماعة. المؤمن عضو في الجماعة، كل نمو في حياته يثمر نموًا في الآخرين، مجتذبًا بحياته الكثيرين نحو السمويات؛ وكل سقوط وانحراف يعثر أيضًا الكثيرين ويهدمهم. المؤمن إما أن يكون سر بركة للجماعة أو سر هدم لها.
ب. الخطية تحطم مرتكبيها، حسبتها ثامار عارًا لها وتحطيمًا لأمنون؛ تصير هي في خزي ويُحسب هو كأحد السفهاء.
ج. سألته أن يطلبها من الملك زوجة، لعلها بهذا أرادت أن تفلت من يديه أو لأنها حسبت الزواج بأخ من أم أخرى أهون من السقوط في الزنا.
لم يستمع أمنون لصوت أخته، إذ أفسدت الشهوة تفكيره ونزعت عنه إنسانيته فاغتصبها عنوة.


Mary Naeem 12 - 06 - 2025 01:39 PM

رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
https://upload.chjoy.com/uploads/174895097196541.jpg


كراهية أمنون لثامار:

12 فَقَالَتْ لَهُ: «لاَ يَا أَخِي، لاَ تُذِلَّنِي لأَنَّهُ لاَ يُفْعَلُ هكَذَا فِي إِسْرَائِيلَ. لاَ تَعْمَلْ هذِهِ الْقَبَاحَةَ. 13 أَمَّا أَنَا فَأَيْنَ أَذْهَبُ بِعَارِي؟ وَأَمَّا أَنْتَ فَتَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنَ السُّفَهَاءِ فِي إِسْرَائِيلَ! وَالآنَ كَلِّمِ الْمَلِكَ لأَنَّهُ لاَ يَمْنَعُنِي مِنْكَ». 14 فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَسْمَعَ لِصَوْتِهَا، بَلْ تَمَكَّنَ مِنْهَا وَقَهَرَهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا. 15 ثُمَّ أَبْغَضَهَا أَمْنُونُ بُغْضَةً شَدِيدَةً جِدًّا، حَتَّى إِنَّ الْبُغْضَةَ الَّتِي أَبْغَضَهَا إِيَّاهَا كَانَتْ أَشَدَّ مِنَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَحَبَّهَا إِيَّاهَا. وَقَالَ لَهَا أَمْنُونُ: «قُومِي انْطَلِقِي». 16 فَقَالَتْ لَهُ: «لاَ سَبَبَ! هذَا الشَّرُّ بِطَرْدِكَ إِيَّايَ هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ بِي». فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَسْمَعَ لَهَا، 17 بَلْ دَعَا غُلاَمَهُ الَّذِي كَانَ يَخْدِمُهُ وَقَالَ: «اطْرُدْ هذِهِ عَنِّي خَارِجًا وَأَقْفِلِ الْبَابَ وَرَاءَهَا». 18 وَكَانَ عَلَيْهَا ثَوْبٌ مُلوَّنٌ، لأَنَّ بَنَاتِ الْمَلِكِ الْعَذَارَى كُنَّ يَلْبَسْنَ جُبَّاتٍ مِثْلَ هذِهِ. فَأَخْرَجَهَا خَادِمُهُ إِلَى الْخَارِجِ وَأَقْفَلَ الْبَابَ وَرَاءَهَا. 19 فَجَعَلَتْ ثَامَارُ رَمَادًا عَلَى رَأْسِهَا، وَمَزَّقَتِ الثَّوْبَ الْمُلَوَّنَ الَّذِي عَلَيْهَا، وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا وَكَانَتْ تَذْهَبُ صَارِخَةً.

إذ حقق أمنون شهوة جسده أبغض ثامار "بغضة شديدة جدًا حتى إن البغضة التي أبغضها إياها كانت أشد من المحبة التي أحبها إياها" [15]. قام بطردها عوض أن يتزوجها شرعيًا، فتذللت أمامه ليتزوجها ولا يلقيها للعار، أما هو فطلب من الخادم أن يطردها عنوة.
كما سبق فقلت أن الشهوة والعنف صنوان، كلاهما ثمرة انتزاع النعمة الإلهية من الإنسان وحرمانه من الوجود مع الله. الشهوة تعطي الإنسان أحيانًا رقة في الظاهر لكنها تحمل عنفًا في الداخل، والعنف يولد شهوة ولذة حيث يطلب الإنسان ما لِذاته لا ما هو للغير. كانت امرأة فوطيفار رقيقة للغاية أمام يوسف لكنها لم تقدر أن تخفي عنفها حين رفض الاستسلام لها فألقته في السجن. أما هو فكان رقيقًا جدًا معها رغم حزمه في رفض الخطية. لم ينتقم لنفسه ولا شهَّر بها حين تمتع بالمجد وصار صاحب سلطان في قصر فرعون.
يربط سليمان الحكيم بين الزنا والقسوة قائلًا: "لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلًا وحنكها أنعم من الزيت، لكن عاقبتها مُرّة كالأفسنتين حادة كسيف ذي حدين. قدماها تنحدران إلى الموت. خطواتها تتمسك بالهاوية" (أم 5: 3-5).
هكذا وَلَّدت الشهوة عنفًا في حياة أمنون، فأصدر أمره لخادمه أن يطرد سيدته ويغلق الباب وراءها؛ أما هي فوضعت رمادًا على رأسها علامة الحزن الشديد (1 مك 4: 39؛ أس 4: 1) كمن في جنازة، ومزقت الثوب الملون (الجبة الخاصة ببنات الملوك العذارى) علامة فقدها كل مجد والتصاق الخزي بها، ووضعت يدها على رأسها وكانت تسير صارخة.
إنها صورة مُرّة للنفس التي تُحطمها الخطية، فإنها تهيم في الطريق في مذلة كمن هي مطرودة من البيت؛ تفقد النفس سكناها في حضن الله لتهيم كما في عزلة، ليس من يسندها ولا من يشاركها أعماق مشاعرها! تتطلع من خلفها لتجد الكل قد أغلق الباب في وجهها!
تضع رمادًا على رأسها إذ يُحطم اليأس تفكيرها، تفقد رجاءها وسلامها وفرحها الداخلي!
تمزق الثوب الملون الذي يشير إلى الجسد بكل طاقاته؛ الجسد الذي يطلب الشبع لحواسه خلال الشهوة يفقد قدسيته وتتدنس حواسه!
تضع يدها على رأسها علامة عجزها عن العمل والتصرف!
تهيم صارخة في الطريق كمن فقد الطريق الملوكي المفرح!


الساعة الآن 03:06 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025